منهج المقال الجزء الاول ::: 76 ـ 90
(76)
الحسن أو التقوية أو المرجوحيّة (1) ، واعتنوا بها وبحثوا عنها ، كما اعتنوا وبحثوا عن الجرح والتعديل.
    ونقل المحقّق ( رحمه الله ) عن الشيخ ( رحمه الله ) أنّه قال : يكفي في الراوي أنْ يكون ثقة متحرّزاً عن الكذب في الحديث وإنْ كان فاسقاً بجوارحه ، وإنّ الطائفة المحقّة عملت بأحاديث جماعة هذه حالتهم (2).
    وسنذكر عن عُدّة الشيخ في الفائدة الثانية ما يدلّ على عملهم برواية غير العدول مع أنّه ادّعى فيها الوفاق على اشتراط العدالة لأجل العمل (3) ، فتأمّل.
    وعن المحقّق في المعتبر أنّه قال : افرط الحشويّة (4) في العمل بخبر الواحد حتّى انقادوا لكلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ، فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « ستكثر بعدي القالة عليّ » (5) وقول الصادق ( عليه السلام ) : « إنّ لكلّ رجل منّا رجلاً يكذب عليه » (6).
1 ـ في « ق » بدل أو التقوية أو المرجوحية : والتقوية والمرجوحية.
2 ـ معارج الاُصول : 149.
3 ـ عُدّة الاُصول 1 : 129.
4 ـ الحشْوية ـ بسكون الشين ـ قوم تمسّكوا بالظواهر فذهبوا إلى التجسيم وغيره ، ومنهم أصناف المجسّمة والمشبّهة ، وهؤلاء وُجِدُوا في حلقات الحسن البصري فسمعهم يتكلّمون بالحشو والسقط فأمر أصحابه أن يردّوهم إلى حشا الحلقة ، فلذلك سُمّوا بالحَشْويّة ; وقيل : سبب تسميتهم بذلك أنّهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المرويّة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
    اُنظر تبيين كَذِبِ المفتري لابن عساكر : 11 ، الحور العين لأبي سعيد الحميري : 204.
5 ـ لم نعثر على هذا النص فيما بأيدينا من مصادر ، نعم في الكافي 1 : 50/1 باب اختلاف الحديث عنه ( صلى الله عليه وآله ) : ... قد كثرت عليَّ الكذابة ... إلى آخره.
6 ـ ذكره في المعتبر مرسلاً ، وكذا ذكر في الرواشح السماوية : 193 والحدائق الناضرة 3 : 199 و7 : 391 وفرائد الاُصول 1 : 143 ، 159. ولم نعثر عليه في كتب الحديث.


(77)
    واقتصر بعض عن هذا الافراط فقال : كلّ سليم السند يعمل به. وما علم أنّ الكاذب قد يصدق (1) والفاسق قد يصدق ، ولم يتنبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ لا مصنّف إلاّ وهو قد يعمل بخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل (2).
    وأفرط آخرون في طرق (3) ردّ الخبر ... إلى أن قال : كلّ هذه الأقوال منحرفة عن السنن ... إلى آخر ما قال (4).
    فإنْ قلت : مقتضى دليلهم التثبّت في خبر غير العدل إلى أن يحصل العلم.
    قلت : على تقدير التسليم معلوم أنّهم يكتفون بالظنّ عند العجز عن العلم في مثل ما نحن فيه لدليلهم الآخر ، مع أنّ أمارات الرجال ربما يكون لها دخل في حصول العلم ، فتأمّل.
    وحقّ التحقيق يظهر من الرسالة (5) ، وسيجيء بعض ما نشير إليه في الفائدة الثانية ، وترجمة إبراهيم بن صالح ، وابن عمر (6) ، وغير ذلك.
    ثمّ ما ذكرت من أنّ ذلك يقتضي عدم اعتبارهم غير العدالة ، ففيه أنّه ربما يحتاج إليه للترجيح ، على أنّا نقول : لا بدّ من ملاحظة الرجال بتمامه ،
1 ـ في المصدر : يلصق.
2 ـ في المصدر بدل العدل : الواحد المعدل.
3 ـ في المصدر : طرف.
4 ـ المعتبر في شرح المختصر 1 : 29 مقدمة المصنِّف.
5 ـ يشير إلى رسالته في الاجتهاد والأخبار والتي تقدم التعريف بها في أول الفائدة.
6 ـ أي : إبراهيم بن عمر اليماني.


(78)
إذْ لعلّه يكون تعديل أو جرح (1) يظهران من التأمّل فيه.
    وما ذكرت من أنّ تعديلهم من باب الشهادة فغير مسلّم ، بل الظاهر أنّه من (2) اجتهادهم أو من باب الرواية كما هو المشهور ، ولا محذور (3).
    أمّا على الثاني فلأنّ الخبر من الأدلّة الشرعيّة المقررة.
    وأمّا على الأوّل فلأنّ اعتماد المجتهد على الظنّ الحاصل منه من قبيل اعتماده على سائر الظنون الاجتهادية ، وما دلّ على ذلك يدلّ على هذا أيضاً ، مضافاً إلى أنّ المقتضي للعدالة لعلّه لا يقتضي أزيد من مظنونها وراجحها ، سيما عند سدّ باب العلم ، لأنّه الاجماع والآية (4).
1 ـ في « أ » و « م » زيادة : أو. 2 ـ في « م » زيادة : باب.
3 ـ للشيخ الخاقاني ههنا كلام في شرحه لفوائد الوحيد لا بأس بنقله ، قال ما لفظه : لا يخفى ان ههنا أمرين :
    الأول : في التزكية السمعية.
    الثاني : في التزكية الكتبية أعني الحاصلة والمستفادة من كتب الرجال.
    أمّا السمعية فليست هي من باب الإجتهاد جزماً ، بل هي منحصرة في أحد أمرين :
    إما الشهادة ، أو كونها من باب الرواية كما هو المشهور وهو الظاهر ، فانها من الرواية والخبر المحض ، لعدم الفرق بينهما وبين سائر الإخبارات المتعلقة بالموضوعات أو الأحكام.
    وأمّا الكتبية فليست هي من باب الشهادة ولا من باب الرواية على الظاهر ، إذ هما من مقولات الألفاظ والأقوال ، بل هي منحصرة في باب الإجتهاد والظنون ، وحينئذ فقول المصنف ـ أعلى الله مقامه ـ : بل الظاهر أنّه من اجتهادهم أو من باب الرواية كما هو المشهور ، في غير محله ، إذ هو لا يستقيم لا على السمعية ولا على الكتبية كما عرفت ، والله أعلم.
    رجال الخاقاني : 241.
4 ـ أي : آية النبأ ، وهي قوله تعالى : « يَا أيُّها الَّذينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُم نَادِمينَ » الحجرات ـ 6.


(79)
    ولا يخفى على المطّلع بأحوال القدماء أنّهم كانوا يكتفون بالظنّ ولا يلزمون تحصيل العلم ، وأيضاً كلّ واحد منهم يوثّق لأجل اعتماد غيره كما هو ظاهر ، على أنّه لا يثبت من إجماعهم أزيد مما ذكر.
    وأمّا الآية فلعدم كون مظنون الوثاقة وظاهر العدالة من الأفراد المتبادرة للفاسق ، بل ربما يكون الظاهر خلافه ، فتأمّل.
    وأيضاً القصر على التثبّت لعلّه يستلزم سدّ باب أكثر التكاليف ، فتأمّل.
    ومع ملاحظة الأمر به في خبر الفاسق واشتراط العدالة والتمكّن من الظنّ بها لعلّه لا يحصل العلم بحجّية خبر الفاسق وغير مظنون العدالة من دون تثبّت ، فتأمّل.
    وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ذكرت من أنّه كثيراً ما يتحقّق التعارض ، إذ لا شبهة في حصول الظنّ من الأمارات المرجّحة والمعيّنة ولو لم توجد نادراً ، فلا قدح ، وبناؤهم على هذا أيضاً ، وكذا لا شبهة في كون المظنون عدم السقوط.
    ولعلّ الروايات عمّن (1) لم يكن مؤمناً ثمّ آمن اُخذت حال إيمانه ، وببالي أنّ هذا عن المحقّق الأردبيلي ( رحمه الله ) وعن غيره أيضاً ، ويشير إليه ما في أخبار كثيرة : عن فلان في حال استقامته (2).
1 ـ في « ك » : ممن.
2 ـ وردت هذه العبارة في حقّ عدّة من الرواة ، منهم طاهر بن حاتم كما في الكافي 1 : 67/2 باب أدنى المعرفة ، حيث ورد في سند الحديث : عليّ بن محمّد عن سهل بن زياد عن طاهر بن حاتم في حال استقامته ... إلى آخره ، ومنهم الحسين بن عبيد الله بن سهل كما في رجال النجاشي : 61 / 141 ترجمة الحسن بن أبي عثمان.


(80)
    وممّا ينبّه أنّ قولهم : ( فلان ثقة في (1) الثقات ) مطلقاً وكذا مدحهم في الممدوحين كذلك إنّما هو بالنسبة إلى زمان صدور الروايات لا مطلقاً وفي جميع أوقاتهم ، لعدم الظهور ، بل ظهور العدم ، فكما (2) أنّه ذكر لهم لأن يعتمد عليهم ـ كما لا يخفى ـ فكذا فيما نحن فيه ، لعدم التفاوت ، فتأمّل.
    على أنّه لو لم يحصل الظنّ بالنسبة إلى كلّهم فالظاهر حصوله بالنسبة إلى مثل البزنطي (3) ومَن ماثله ، على أنّه يمكن (4) حصوله من نفس رواياتهم أو قرينة اُخرى ، وسيجيء زيادة على ما ذكر في الفائدة الثانية عند ذكر الواقفة (5) ، وفي ترجمة البزنطي ، وأحمد بن داود بن سعيد ، ويونس بن يعقوب ، وسالم بن مكرم.
    على أنّ سوء العقيدة لا ينافي العدالة بالمعنى الأعم ، وهي معتبرة عند الجلّ ونافعة عند الكلّ كما سنشير ، فانتظر.
    هذا ، مع أنّ معرفة هؤلاء من غيرهم من الرجال ، فلا بدّ من الإطّلاع على كلامهم.
    على أنّا نقول : لعلّ عدم منعهم في حال عدالتهم من رواياتهم المأخوذة في حال عدمها أخرجها من (6) خبر الفاسق الذي لا بدّ من التثبّت فيه ، بل وأدخلها في رواية العادل ، فتأمّل.
1 ـ في « ق » : من.
2 ـ في « م » : كما.
3 ـ هو أحمد بن محمّد بن عمرو بن أبي نصر أبو جعفر المعروف بالبزنطي ، رجال النجاشي : 75/180 ، الفهرست : 61/1.
4 ـ في « ح » : لا يمكن.
5 ـ في « ق » و « ن » : الواقفية.
6 ـ في « ح » و « ق » و « ن » : عن.


(81)
    وما ذكرت من أنّ شهادة فرع الفرع ... إلى آخره. فيه : إنّهم لم يشهدوا على الشهادة بل على نفس الوثاقة ، وعدم الملاقات لا ينافي القطع بها ، والقائل بكون تعديلهم شهادة لعلّه يكتفي به في المقام كما يكتفي هو وغيره فيه ، وفي غيره أيضاً ، فإنّ العدالة بأيّ معنى تكون ليست محسوسة ، مع أنّ الكلّ متّفقون على ثبوتها بها فيما هي معتبرة فيه ، وتحقيق الحال ليس هنا موضعه.
    فظهر عدم ضرر ما ذكرت بالنسبة إلى هذا القائل من المجتهدين أيضاً ، فتأمّل.
    وما ذكرت من أنّ العدالة بمعنى الملكة ... إلى آخره. ظهر الجواب عنه على التقديرين.
    فإنْ قلت : وقع الاختلاف في العدالة هل هي الملكة أم حسن الظاهر أم ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وكذا في أسباب الجرح وعدد الكبائر ، فمن أين يُطّلع على رأي المعدِّل ؟ ومع عدم الإطّلاع كيف ينفع التعديل ؟
    قلنا : إرادة الأخير من قولهم : ( ثقة ) وكذا من العدالة التي جعلت شرطاً لقبول الخبر لاخفاء في فساده ، مضافاً إلى ما سيجيء في أحمد بن إسماعيل بن سمكة. وأمّا الأوّلان فأيّهما يكون مراداً ينفع القائل بحسن الظاهر ولا يحتاج إلى التعيين كما هو ظاهر.
    وأمّا القائل بالملكة ، فقد قال في المنتقى : تحصيل العلم برأي جماعة من المزكّين أمر ممكن بغير شك من جهة القرائن الحاليّة أو المقاليّة ، إلاّ أنّها خفيّة المواقع متفرّقة المواضع ، فلا يهتدي إلى جهاتها ولا يقدر على جمع أشتاتها إلاّ من عظم في طلب الإصابة جهده وكثر في التصفّح في


(82)
الآثار كدّه (1) ، انتهى.
    قلت : إنْ لم يحصل العلم فالظنّ كاف لهم كما هو دأبهم ورويّتهم ، نعم بالنسبة إلى طريقته (2) لعلّه يحتاج إلى العلم ، فتأمّل.
    ويمكن الجواب أيضاً بأنّ تعديلهم لأنْ ينتفع به الكلّ ، وهم انتفعوا به وتلقّوه بالقبول ، ولم نَرَ من قدمائهم ولا متأخريهم ما يشير إلى تأمّل من جهة ما ذكرت ، بل ولا نرى المضايقة التي ذكرت في تعديل من التعديلات مع جريانها فيها.
    وأيضاً لو اراد العدالة المعتبرة عنده كان يقول : ( ثقة عندي ) حذراً من التدليس ـ والعادل لا يدلّس ـ مع أنّ رويّتهم كذلك ، فتأمّل.
    ( وأيضاً العادل إذا (3) أخبر بأنّ فلاناً متّصف بالعدالة المعتبرة شرعاً فيقبلون ولا يتثبّتون ، فتأمّل ) (4).
    وأيضاً لم يتأمّل واحد من علماء الرجال والمعدّلين فيه في تعديل الآخر من تلك الجهة أصلاً ولاتشمّ (5) رائحته مطلقاً مع إكثارهم من التأمّل من جهات اُخر ، وهم يتلقّون تعديل الآخر بالقبول ، حتّى أنّهم يوثّقون بتوثيقه ويجرحون بجرحه ، فتأمّل.
    على أنّ المعتبر عند الجلّ في خصوص المقام العدالة بالمعنى الأعم
1 ـ منتقى الجمان في الأحاديث الصحاح والحسان 1 : 21 ، لجمال الدين الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني المتوفّى 1011 هـ.
2 ـ الضمير يعود الي صاحب المنتقي والمراد بطريقته اما اعتبار التعدد في تزكية الراوي او عدم اعتبار الظن اصلا فيما يتعلق بالرجال.
3 ـ إذا ، لم ترد في « أ » و « ح » و « ك » و « م ».
4 ـ ما بين القوسين لم يرد في « أ ».
5 ـ في « ك » : ولم يشم.


(83)
كما سنشير ، فلا مانع من عدم احتياج القائل (1) بالملكة أيضاً إلى التعيين (2).
    فإنْ قلت : قد كثر الاختلاف بينهم في الجرح والتعديل ووقوع الغفلة والخطأ منهم فكيف يُوثَق بتعديلهم ؟
    قلت : ذلك لا يمنع حصول الظنّ كما هوالحال في كثير من الأمارات والأدلّة ; مثل ( أحاديث كتبنا ، وقول الفقهاء (3) ومشايخنا; ومثل الشهرة ) ، مع أنّه ربّ مشهور لا أصل له ؛ والعام ، مع أنّه ما من عام إلاّ وقد خص; ولفظ « إفعل » وغير ذلك.
    نعم ربما يحصل وهن ( لا أنّه يرتفع ) (4) الظن (5) بالمرّة ، والوجدان حاكم.
    على أنّا نقول : أكثر ما ذكرت وارد عليكم في عملكم بالأخبار ، بل منافاتها لحصول العلم أزيد وأشد ، بل ربما لا يلائم طريقتكم ويلائم طريقة الاجتهاد ، بل أساسها على أمثال ما ذكرت ومنشؤها منها ، وأثبتناه في الرسالة مشروحاً.
    فإنْ قلت : جمع من المزكّين لم تثبت عدالتهم بل وظهر عدم إيمانهم ، مثل : ابن عقدة (6) ، وعليّ بن الحسن بن فضّال (7).
1 ـ في « م » زيادة : فتأمّل.
2 ـ في « م » زيادة : فتامل. انظر رسالة العدالة للشيخ الاعظم : 6 المطبوعة ضمن رسائله الفقهية.
3 ـ في « ق » بدل ما بين القوسين : كتب أحاديثنا وقول فقهائنا ومشايخنا ومثل الشهرة. وفي « ك » : كتب أحاديثنا وقول فقهائنا ومشايخهم مثل الشهرة.
4 ـ في « ب » بدل ما بين القوسين : إلاّ أنّه لا يرتفع.
5 ـ في « ق » بدل الظنّ : الوثوق والظنّ.
6 ـ هو أحمد بن محمّد بن سعيد المعروف بابن عقدة ، كان زيديّاً جاروديّاً وعلى ذلك مات. انظر رجال النجاشي : 94/233 ، رجال الشيخ : 409/30 ، الخلاصة : 321/13.
7 ـ رجال النجاشي : 257/676 والخلاصة : 177/15 ، ذكرا أنّه كان فطحياً.


(84)
    قلت : من لم يعتمد على توثيق أمثالهم فلا اعتراض عليه ، ومن اعتمد فلأجل الظنّ الحاصل منه ، وغير خفي على المطّلع حصوله ، بل وقوّته ، وسنشير في عليّ بن الحسن إليه في الجملة. وأيضاً ربما كان اعتماده عليه بناءً على عمله بالروايات الموثّقة ، فتأمّل.
    وسيجيء زيادة على ذلك في الحكم بن عبد الرحمن.
    ويمكن أنْ يكون اعتماده ليس من جهة ثبوت العدالة بل من باب رجحان قبول الرواية وحصول الاعتماد والقوّة كما مرّ إليه الإشارة ، وسيجيء أيضاً في إبراهيم بن صالح (1) وغيره ، ومن هذا اعتمد على توثيق ابن نمير (2) ومَن ماثله.
    واعلم أنّ من اعتبر في الرواية ثبوت العدالة بالشهادة لعلّه يشكل عليه الأمر في بعض الإيرادات ، إلاّ أنْ يكتفي بالظنّ عند سدّ باب العلم ، فتأمّل.
    فإن قلت : إذا كانوا يكتفون بالظنّ فغير خفي حصوله من قول المشايخ : « إنّ الأخبار التي رويت صحاح » (3) أو : « مأخوذة من الكتب
1 ـ يأتي برقم ( 31 ) عن التعليقة.
2 ـ هو عبدالله بن نمير أبو هشام الخارفي ، من رجال العامّة ، وقع في طريق الصدوق في كتابه ( من لا يحضره الفقيه ) باب ميراث الأجداد والجدّات ، ترجم له ابن حجر في تهذيب التهذيب. اُنظر الفقيه 4 : 207/703 وتهذيب التهذيب 6 : 52/110.
3 ـ إشارة إلى ما ذكره الكليني ( قدس سره ) في ديباجة كتاب الكافي في جواب السائل الذي سأله عن تأليف كتاب نافع له ، قال : ـ اما بعد ، فقد فهمت يا أخي ما شكوت ... وقلت إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل


(85)
المعتمدة » (1) وغير ذلك ، فَلِمَ لم يعتبروه ؟
    قلت : ما اعتبروه (2) لعدم حصول ظنّ بالعدالة المعتبرة لقبول الخبر عندهم ، مع أنّي قد بيّنت في الرسالة أنّ هذه الأقوال منهم ليست على ما يقتضي ظاهرها ولم (3) تبقَ عليه.
    نعم يتوجّه عليهم أنّ شمول نبأ في قوله تعالى : « إِنْ جآءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ » ... الآية (4) لما نحن فيه لعلّه يحتاج إلى التأمّل بملاحظة شأن نزول الآية والعلّة المذكورة فيها ، وأنّ البناء في الفقه جار على الظنون والاكتفاء بها والإعتماد عليها ، وأنّ العدول أخبرونا بالتثبّت ، وظهر لنا ذلك ، والاجماع منقول بخبر الواحد ، ولعلّ من ملاحظة أحوال القدماء لا يحصل العلم بإجماعهم بحيث يكون حجّة ، فتأمّل.
    فإن قلت : النكرة في سياق الإثبات وإنْ لم تفد العموم إلاّ أنّها مطلقة ترجع إلى العموم في أمثال المقامات ، والعبرة بعموم اللفظ ، والعلّة وإن كانت مخصوصة إلاّ أنّها لا توجب التخصيص ولا ترفع الوثوق في العموم ، لأنّ الظاهر عدم مدخلية الخصوصية ، وكون البناء في الفقه على الظنّ لا يقتضي رفع اليد عمّا ثبت من العموم والإجماع من اشتراط العدالة في
به ، بالآثار الصحيحة عن الصادقين ( عليهما السلام ) ، والسنن القائمة التي عليها العمل ... إلى أن قال : وقد يسّر الله وله الحمد تأليف ما سألت ، وارجو أن يكون بحيث توخّيت ... إلى آخر كلامه أعلى الله في مقامه.
1 ـ كما صرّح به الشيخ الصدوق ( قدس سره ) في مقدّمة من لا يحضره الفقيه ، حيث قال : ... وجميع ما فيه ( الفقيه ) مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل وإليها المرجع.
2 ـ في « ق » بدل « يعتبروه قلت : ما اعتبروه ) : ( يعتبروها قلت : ما اعتبروها ).
3 ـ كذا فى « ك » ، وفي سائر النسخ : أو لم.
4 ـ الحجرات : 6.


(86)
الراوي ، وإخبار العدول بالتثبّت لا ينفع لجواز الخطأ فيحصل الندم ، وناقل الإجماع عادل فيقبل قوله من دون تثبّت.
    قلنا : في رجوع مثل هذا الاطلاق إلى العموم بحيث ينفع المقام بملاحظة (1) شأن النزول تأمّل ، سيما بعد ملاحظة ما علّل به رجوعه إليه ـ فتدبّر ـ ، وخصوصاً بعد كون تخصيص العمومات التي لا تأمّل في عمومها من الشيوع بمكان فضلاً عن مثل هذا العموم ، وأنّ ظواهر القرآن (2) ليست على حدّ غيرها في القوّة والظهور كما حُقّق في محلّه ، وأنّ كثيراً من المواضع يقبل فيه (3) خبر الفاسق من دون تثبّت ، وأنّ التبيّن في الآية معلّل بعلّة مخصوصة وهو يقتضى قصره فيها ، ولا أقل من أنّه يرفع الوثوق في التعميم ، والتعدّي وظهور عدم مدخليّة الخصوصية محلّ نظر ، فإنّ قتل جمع كثير من المؤمنين وسبي نسائهم وأولادهم ونهب أموالهم بخبر واحد ـ سيما أنْ يكون فاسقاً وخصوصاً أنْ يكون متّهماً ـ لعلّه قبيح ـ خصوصاً مع إمكان التثبّت ـ وإنْ حصل منه ظنّ كما هو (4) بالنسبة إلى المسلمين في خبر الوليد (5).
1 - في « م » : بعد ملاحظة.
2 ـ في « ق » : القرائن.
3 ـ فيه ، لم ترد في « أ » و « ح » و « ك » و « م ».
4 ـ في « م » زيادة : الحال.
5 ـ إشارة إلى سبب نزول الآية المشار إليها ، ذلك أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أرسل الوليد بن عُقبة بن أبي مُعَيط لجمع صدقات بني المصطلق ، فلما سمعوا به خرجوا لاستقباله تعظيماً لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وعندما رآهم الوليد هابهم وظنّ أنّهم يريدون قتله لوجود عداوة بينهم في الجاهلية ، فرجع وأخبر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) أنّهم منعوا صدقاتهم ، فغضب الرسول ( صلى الله عليه وآله ) وهمّ أنْ يغزوهم ، فنزلت الآية المباركة. اُنظر اسباب النزول للواحدي : 406/392 ، مجمع البيان للطبرسي 5 : 132 ، الدر المنثور للسيوطي 7 : 555.


(87)
    وأمّا المسائل الفقهيّة فقد ثبت جواز التعبّد بالظنّ وورد به الشرع (1) ؛ أمّا في أمثال زماننا فلا تكاد توجد مسألة تثبت بتمامها من الاجماع من دون (2) ضميمة أصالة العدم أو خبر الواحد أو أمثالهما ، وكذا من الكتاب أو الخبر القطعي لو كان ، مع أنّ المتن ظنّي في الكلّ ، سيما في أمثال زماننا.
    وبالجملة : المدار على الظنّ قطعاً; وأمّا في زمان الشارع فكثير منها كانت مبنية عليه ، مثل : تقليد المفتين (3) ، وخبر الواحد ، وظاهر الكتاب ، وغير ذلك.
    وأيضاً الندم يحصل في قتل المؤمنين وسبيهم ونهبهم ألبتّة لو ظهر عدم صدق الخبر ، وأمّا المسائل الفقهية فالمجتهد بعد مراعاة الشرائط المعتبرة واستنباطها بطريقته المشروطة المقرّرة مكلّف بظنّه مثاب في خطئه. سلّمنا الظهور لكنّه من باب الاستنباط ، والعلّة المستنبطة ليست بحجّة عند الشيعة ، والمنصوصة مخصوصة.
    سلّمنا ، لكنْ نقول : الأمر بالتبيّن في خبر الفاسق إنْ كان علّته عدم الوثوق به ـ كما هو مسلّم عندكم وتقتضيه العلّة المذكورة وظاهر تعليق الحكم بالوصف ـ فغير خفيّ أنّه مع احتمال كون أحد سلسلة السند فاسقاً لا يحصل من مجرّد ظنّ ضعيف بأنّ الكلّ عدول الوثوق ، وقد عرفت أنّ المدار فيه على الظنون الضعيفة. هذا إنْ أردت من الوثوق العلم أو الظنّ القوي.
1 ـ كما حُقّق في محلّه في كتب الاُصول ، اُنظر الفوائد الحائريّة للوحيد : 117 الفائدة السادسة في جواز العمل بالظنّ وعدم جوازه.
2 ـ في « ك » زيادة : ضمّ.
3 ـ في « ك » : المفتي.


(88)
    على أنّه إنْ أردت العلم كما هو مقتضى ظاهر (1) قوله تعالى : « فتبيّنوا » (2) والعلّة المذكورة فلا يحصل من خبر العادل الثابت العدالة أيضاً ، لاحتمال فسقه عند صدوره ، واحتمال خطئه لعدم عصمته ، فتصير الآية من قبيل الآيات الدالّة على منع اتّباع غير العلم ، لأنّ تعليقه على وصف الفسق لا يقتضي قبول قول العادل ، لأنّ المفهوم مفهوم اللقب ، ومع ذلك لا يقاوم العلّة المذكورة ، كيف وأنْ يترجّح عليه ! مع أنّ في جريان التخصيص في العلّة وكونها في الباقي حجّة لا بدّ من تأمّل ، على أنّ قبول قول خصوص العادل يكون تعبّداً ، وستعرف حاله.
    وإنْ أردت الظنّ القوي ، فأوّلاً : نمنع (3) حصوله بالنسبة إلى كثير من العدول على حسب ما ذكرنا ، سيما على القول بأنّ العدالة : حسن الظاهر أو عدم ظهور الفسق.
    والإنصاف أنّه لا يثبت من قول المعدِّلين من القدماء أزيد من حسن الظاهر.
    وأمّا المتأخرون فغالب توثيقاتهم من القدماء كما لا يخفى على المطّلع ، مضافاً إلى بُعد اطّلاعهم على ملكة الرواة.
    وثانياً : إنّه يحصل الظنّ القوي من خبر كثير من الفسّاق ، إلاّ أنْ يقال : الفاسق من حيث إنّه (4) فاسق لا يحصل الظنّ القوي منه.
    ( فعلى هذا نقول : لا معنى لأن يكون العادل لحصول الظنّ القوي
1 ـ ظاهر ، لم ترد في « ق » و « ن ».
2 ـ الحجرات : 6.
3 ـ في « أ » و « ح » و « م » و « ن » : منع.
4 ـ في « ق » : هو.


(89)
لا يحتاج إلى التثبّت والفاسق لعدم حصوله منه ) (1) من حيث إنّه فاسق ـ وإنْ كان يحصل من ملاحظة أمر آخر ـ يحتاج إلى التثبّت إلى أنْ يحصل العلم ، مع أنّ الأحكام الفقهية الثابتة من (2) الأخبار غير الصحاح (3) من الكثرة بمكان من دون أن يكون هناك ما يقتضي العلم ، إلاّ أنْ يوجّه التبيّن بما يكتفى فيه بالظنّ القوي ، لكن هذا لا يكاد يتمشّى في العلّة.
    ومع ذلك جُلّ أحاديثنا المرويّة في الكتب المعتمدة يحصل فيها (4) الظنّ القوي بملاحظة ما ذكرناه في هذه الفوائد الثلاث وفي التراجم وما ذكروه فيها وما ذكره المشايخ رضوان الله عليهم من أنّها صحاح ، وأنّها علميّة ، وأنّها حجّة فيما بينهم وبين الله تعالى ، وأنّها مأخوذة من الكتب التي عليها المعوّل ، وغير ذلك. مضافاً إلى حصول الظنّ من الخارج بأنّها مأخوذة من الاُصول والكتب الدائرة بين الشيعة المعمولة عندهم ، وأنّهم نقلوها في كتبهم التي ألّفوها لهداية الناس ولأن تكون مرجعاً للشيعة ، وعملوا بها وندبوا إلى العمل مع منعهم من العمل بالظنّ مطلقاً ( أو مهما أمكن ) (5) وتمكّنهم من الأحاديث العلميّة غالباً أو مطلقاً ، على حسب قربهم من الشارع وبعدهم ، ورأيهم في عدم العمل بالظنّ مع علمهم وفضلهم وتقواهم وورعهم وغاية احتياطهم ، سيما في الأحكام الشرعيّة (6) وأخذ
1 ـ ما بين القوسين لم يرد في « ك ».
2 ـ في « أ » و « ح » و « ك » و « م » : عن.
3 ـ في « أ » و « ح » و « م » : الغير الصحيحة.
4 ـ في « ك » و « ن » : منها.
5 ـ ما بين القوسين لم يرد في « أ ».
6 ـ الشرعية ، وردت في « ك ».


(90)
الرواية (1) ... إلى غير ذلك ، مضافاً إلى ما يظهر في المواضع بخصوصها من القرائن ، على أنّ عدم إيراث ما ذكر هنا الظنّ القوي وإيراث ما ذكرنا في عدالة جميع سلسلة السند ذلك فيه ما لا يخفى.
    وإن أردت من الوثوق مجرّد الظنّ كما هو المناسب لتعليق الحكم على الوصف ، ولحكم المفهوم على تقدير أن يكون حجّة ، وهو الموافق لغرضكم ، بل تصرّحون بأنّ الفاسق لا يحصل من خبره ظنّ.
    ففيه : إنّه وإن اندفع عنه بعض ما أوردناه سابقاً لكن ورود البعض الآخر (2) عليه أشدّ ، وحمل التبيّن والعلّة على تحصيله أقبح ، وكذا منع حصوله ممّا ذكرنا هنا وترجيح ما ذكر في عدالة سلسلة السند عليه ، على أنّ الفاسق الذي لا يحصل الظنّ من خبره هو الذي لا يبالي في الكذب ، أمّا المتحرّز عنه مطلقاً أو في الروايات فمنع حصوله منه مكابرة ، سيما الفاسق بالقلب لا الجوارح ، وستعرف.
    فإن قلت : جميع ما ذكرت هنا موجود في صحيحهم أيضاً ، والعدول إلى الأقوى متعيّن.
    قلت : وجود الجميع في الجميع غلط ، مع أنّهم لم يعتبروا في الصحيح شيئاً منها فضلاً عن الجميع ، ومع ذلك تكون العدالة حينئذ من المرجّحات ، ولا كلام فيه.
    فإنْ قلت : يلزم ممّا ذكرت جواز الحكم بشهادة الفاسق ومجهول الحال إذا حصل منها (3) ظنّ ، لاعتبار العدالة فيها أيضاً.
1 ـ في « ك » : الروايات.
2 ـ في « ب » و « ك » زيادة : أيضاً.
3 ـ في « ق » : منهما.
منهج المقال الجزء الاول ::: فهرس