الحمد للّه حمداً يستوجب المزيد من إحسانه وفضله، والصلاة والسلام
على نبيّه، محمّد الذي فتح اللّه له من كنوز غيبه، فارتوت أُمّته من فيضه، وعلى آله
كنوز أسراره، وحملة شرعه، ومكارم أخلاقه.
أمّا بعد: فهذه رسالة موجزة في فلسفة الاَخلاق نتطرق فيها إلى أهم
المذاهب الاَخلاقية، وقبل الخوض في الموضوع ، لابدّ من تعريف علم الاَخلاق
أوّلاً ، ثمّ نعرّج إلى تعريف فلسفة الاَخلاق ثانياً، فنقول:
علم الاَخلاق: هو العلم الباحث عن الفضائل والرذائل الروحية التي
يكتسبها الاِنسان بإرادة واختيار، فهذه الصفات هي موضوع علم الاَخلاق، والغاية
منها هي تحلية النفس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل.
وأمّا السلوك العملي، فهو من آثار تلك الصفات من حسن وقبيح.
نعم ربما يطلق علم الاَخلاق ويراد منه مجموع ما يصدر من الاِنسان في
حياته الفردية أو الاجتماعية من الاَفعال، الذي يعرب عن فضيلة أو رذيلة نفسانية. ما هي فلسفة الاَخلاق؟
يمكن تعريف فلسفة الاَخلاق بأحد أمرين على وجه مانعة الخلو:
1. هو العلم الباحث عن المبادىَ التصورية والتصديقية لهذا العلم، بمعنى
انّها توضح المفاهيم الواردة في ذلك العلم كما تسهل التصديق بالقضايا الاَخلاقية
المبحوثة في علم الاَخلاق.
2. هو العلم الباحث عن مباني علم الاَخلاق، وتبيين الا َُسس التي يبتني
عليها ذلك العلم، فهل الاَخلاق مبنية على الحسن والقبح العقليين، أو على مذهب
الجمال، أو الاعتدال، أو اللذة، أو غير ذلك؟ فما لم يكن للعالم الاَخلاقي موقف
حاسم حيال تلك المباني، لا يتيسر له عرض مذهب أخلاقي جامع.
1. المذهب الاَخلاقي في الاِسلام
أنّ الاِنسان بفطرته يميّز بين الفضائل والرذائل، وأنّمنشأ الاَخلاق عبارة عن
الانصياع لقضاء الفطرة بالتحلّي أو بالتخلّي، وأنّهناك أُموراً يدرك العقل العملي
حسنها وجمالها فيبعث إلى تحصيلها، كما أنّ ثمة أُموراً يدرك قبحها فيزجر عن
فعلها، وهذا ما يعبّر عنه بمذهب الفطرة.
وثمّة مذاهب تبنت أُسساً أُخرى للاَخلاق.
2. مذهب الجمال.
3. مذهب الاعتدال.
4. مذهب اللذة.
5. المذهب الكلبي (العزوف عن لذائذ الدنيا).
6. مذهب الحس الاَخلاقي.
7. مذهب القوة.
قد احتدم النقاش في تمييز الفعل الاَخلاقي عن غيره، وأسفر عن تأسيس
مذاهب أخلاقية، سيأتي شرحها تباعاً.
والذي نحن بصدد بيانه حالياً هو تبيين موقف الاِسلام في هذا المقام
وانّالفعل الاَخلاقي يندرج تحت أي مقولة من المقولات، وما هو سماته
وخصوصياته؟ فيقع البحث في مقامين: المقام الاَوّل: في بيان المقولة التي تندرج تحتها الاَخلاق
وتوضيحه رهن بيان أُمور:
أ. الاَخلاق سلوك نابع من ذات الاِنسان
الاَخلاق جمع الخلق، وهو يحكي عن أنّالفعل الاَخلاقي عبارة عن سلوك
نابع من صميم الاِنسان وذاته.
وعلى ذلك فالفعل الاَخلاقي مظهر من مظاهر ما يكمن في وجود الاِنسان،
ويحكي عن حس باطني. فلو قام إنسان بمشاريع خيرية نتيجة ضغوط خارجية
فلا يعد عمله هذا عملاً أخلاقياً، لاَنّه لم ينبع من صميم ذاته أو من حس
باطني،ولذلك تكون الاَخلاق نحو سلوك حاكٍ عما يجيش في ضميره وكيانه.
نعم هذا القيد، قيد لازم دون أن ينحصر به.
ب. أنواع قضايا الحكمة العملية
قسّم الحكماء الاِدراكات العقلية إلى نظرية وعملية، فالمراد من الاَُولى ما
من شأنه أن يُعلم، والمراد من الثانية ما من شأنه أن يُعمل، ولكن الغاية من الاَُولى
هي العلم، والغاية من الثانية هي العمل، فثمة قوة واحدة تدعى «العقل» وإنّما
الاختلاف في مدركاته.
ثمّ إنّهم قسّموا قضايا الحكمة النظرية إلى بديهية ونظرية، لاَنّه لو كانت عامة
القضايا غير بديهية لما استطاع الاِنسان أن يحل مجاهيله ومشاكله، فالقضايا
البديهية مفاتيح لحل مبهمات القضايا النظرية.
وطبيعة الحال تقتضي أن تكون الحكمة العملية على ذلك الغرار، فقضاياها
بين بديهية تقف على صحتها أو سقمها عقول الناس قاطبة من دون إمعان نظر،
كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح. وغير بديهية تفك عُقدها من خلال البديهيات،
والدليل على ذلك التقسيم في قضايا الحكمة العملية هو نفس الدليل في تقسيم
قضايا الحكمة النظرية. ج. حسن الفعل وقبحه عند العقل
إنّ العقل العملي يقسّم الاَفعال إلى قسمين: بين حسن وجميل يطلب
إيجاده، وقبيح ودميم يطلب تركه واجتنابه، هذا النمط من التقسيم نابع من صميم
ذاته، فيميل إلى الاَوّل لاِحساس جمال في الفعل وحسن فيه، كما أنّه ينفر عن
الثاني لاِحساس قبحه ودمامة طبعه.
فإذا اتضحت تلك الاَُمور، فنقول:
إنّ القيم الاَخلاقية من مقولة الجمال، فالفعل الجميل نابع عن الاِحساس
اللطيف، والروح الجميلة غير انّه ينبغي الوقوف على حقيقة الجمال.
قد صرح القدماء ان الجمال يدرك ولا يوصف، كما أنّ الملاحة كذلك،
ولكن يمكن لنا الوقوف على واقع الجمال من خلال إمعان النظر في الاَُمور
الحسية الجميلة.
فالجمال الحسي رهن التوازن والتعادل بين أجزاء الموجود سواء أكان
موجوداً عنصرياً أو نباتياً أو حيوانياً أو إنسانياً.
فإذا كانت الاَجزاء متناسبة ومتناسقة، كل جزء يحتلُّ مكانه الخاص فهو
جميل، هذا هوحال الجمال الحسي.
وأمّاالجمال المعنوي: فهو عبارة عن حسن الفعل النابع عن تعادل القوى
وتوازن الاستعدادات.فإذا كان الاِنسان متعادلاً في قواه، ومجتنباً عن الاِفراط
والتفريط في إعمالها، حينها تكون الروح مبدأً لصدور الاَعمال الحسنة مثلاً:
انّالشهوة والغضب وحب الجاه والمال من أركان الحياة ولولاها لما قام صرحها،
شريطة أن يستغلّها الاِنسان بأسلوب معتدل. وعلى ضوء ذلك يُصبح الفعل
الاَخلاقي من مقولة الجمال.
ومما يوَيد انّ الاَخلاق من مقولة الجمال هو انّ الاِسلام يأمر بالمعروف
وينهى عن المنكر، والمعروف ما عرفه الناس و المنكر ما أنكره الناس، وليس
لعرفانهم وإنكارهم سبب سوى أنّ بعض الاَفعال تتجلى في نظر الاِنسان بصورة
الحسن والبعض الآخر بصورة القبيح.
نعم هناك فرق بين الجمال الحسي والروحي.
فالجمال الحسي أمر خارج عن الاختيار، دون الجمال الروحي فانّه داخل
في اختياره،فله أن يقوم بإقامة التوازن والانسجام في الميول النفسانية العلوية
والسفلية، حينها تصبح الروح جميلة، والسلوك المنعكس منها مثلها، كما أنّ له أن
يقوم بعكس ذلك،حينها تصبح الروح شريرة، والسلوك الصادر منها كذلك.
ومع ذلك يمكن أن يقال انّ الفعل الاَخلاقي من مقولة العدالة بشرط أن
تفسر العدالة بالتوازن والانسجام.
إذا عرفت ذلك وانّ الاَخلاق تندرج في مقولة الجمال أو الاعتدال،
فلنتناول المقام الثاني بالبحث. المقام الثاني:سمات المذهب الاَخلاقي في الاِسلام
وخصوصياته
لقد ظهرت أنظمة أخلاقية متنوعة منذ العهد اليوناني القديم إلى عصرنا
الراهن، ويرجع تاريخ تأسيسها في الغرب إلى عهد الثورة الصناعية والنهضة
الثقافية التي حلَّت فيها التجربة مكانَ البرهان في الاستدلال على العلوم الطبيعية،
وآل الاَمر إلى ظهور فكرة تفكيك الدين عن السلطة، وبالتالي تفكيك الاَخلاق
عن الدين.
ففي ظلِّ هذه الظروف سادت أنظمة أخلاقية جديدة غير مبتنية على الدين
معتمدة على ملاكات مختلفة، وسيوافيك بيانها في الفصل القادم بإذن اللّه.
والمهم هنا، هو بيان دعائم المذهب الاَخلاقي في الاِسلام وخصوصياته
وسماته، وقبل الخوض في البحث لابدّ من طرح مسألة لها بالغ الاَهمية في هذا
الموضوع، وهو انّ الاطروحات التي يقدمها أي نظام أخلاقي رهن الوقوف على
حقيقة الاِنسان، لاَنّ القضايا الاَخلاقية التي يتبنّاها فإنّما يطرحها لغاية جلب
السعادة إلى الاِنسان والمجتمع، وتلك الاَُمنية فرع معرفة ما يُسعد الاِنسان عمّا
يشقيه، فلولا تلك المعرفة لما نال المذهب الاَخلاقي بغيته .
ثمّ إنّ الاختلاف الجوهري بين المذاهب الاَخلاقية يرجع إلى اختلاف
الروَى حيال الاِنسان، فكان من المهم الاِشارة إلى وجهة نظر الاِسلام حول
الاِنسان. وقد قامت على عدة أُسس نجملها بما يلي: 1. الاِنسان مركب من جسم و روح
إنّ العالم المادي ينظر إلى الاِنسان من خلال منظار ضيق، وانّه موجود
مادي منذ أن تشكلت نطفته في رحم أُمّه حتى خروجه إلى هذاالعالم الفسيح،
وتكامله بالتدريج من الصبا إلى البلوغ والكمال ثمّ الشيخوخة والهرم إلى أن توافيه
المنيَّة وينطفىَ مصباح حياته، فهذه النظرة إلى الاِنسان نظرة مادية صرفة، فلا يعلم
من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين ينتهي؟ فتجول تلك الاَسئلة في ذهنه باطراد
دون أن يجد لها حلولاً عند المادي.
وفي المقابل، فانّالاِلهي ينظر إلى الاِنسان بما انّه موجود مركب من مادة
ومعنى، وجسم وروح، وبدن ونفس إلى غير ذلك من التعابير المكررة التي تشير
كلّ منها إلى زاوية من زوايا وجوده.
بل الحقّأن يقال انّالاِنسان واحد متكامل، بدل القول بالتركيب، فواقع
الاِنسان هو الروح التي تستخدم البدن لقضاء حاجاتها، حيث ترى بالعين، وتسمع
بالاذن، ولكن الرائي والسامع الحقيقي هي الروح التي تستخدم هذه الاَعضاء بغية
إدراك الواقع الموضوعي.
و قد أقام فلاسفة الاِسلام براهين دامغة على تجرد النفس وليس في الوسع
طرحها في هذا المختصر، وإنّما نشير في هذه العجالة إلى آيتين كريمتين، تشيران
إلى تجرد الروح عن المادة.
أ: انّه تبارك و تعالى يبين كيفية خلق الاِنسان على الوجه التالي :
ويقول: "وَلَقَدْخَلَقْنَا الاِِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍمِنْ طِين* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في
قَرارٍمَكين* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا الْمُضْغَةَ عِظاماً
فَكَسَونَا الْعِظامَ لَحْماً" وبعد ما ينتهي إلى تلك النقطة من خلق الاِنسان، يغيِّر لحن
الكلام، ويقول: "ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَباركَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخالِقين" . (1)
نرى أنّه سبحانه يصف هذه المرحلة من خلقة الاِنسان بخلق آخر، وكأنّه
يختلف عما سبق من مراتب الخلقة، وما هذا إلاّلاَجل وجود اختلاف جوهري
بين تلك المرحلة، وما سبقتها من المراحل، وهو انّالمراحل الاَُخر تصوّر الاِنسان
بأنّه موجود مادي أشبه بموجود حيٍّ له حركة طبيعية، ولكنّه بعد طيّه لتلك
المراحل يصل إلى مرحلة تعلّق الروح به وفي هذه المرحلة تتبدّل المادة إلى خلق
آخر ، وهذا إن دل على شيء فإنّما يدل على امتياز تلك المرحلة عن سائر
المراحل وليس هوإلاّ تجرد روحه ونفسه.
ب: انّه سبحانه يذكر في سورة السجدة شبهة منكري المعاد، وحاصل
الشبهة:
انّ الموت سبب لتفسخ أعضاء البدن واندثار رميمه في أطراف العالم
وأكنافه، وهو يلازم انحلال شخصيته، ومعه كيف يمكن إعادته ولو بجمع أجزاء
بدنه المبعثرة في أصقاع العالم، فانّ اجتماع الاَجزاء المتفرقة لا يعيد شخصيته
الاَُولى، بل يُضفي عليه شخصية ثانية مع أنّها ليست المسوَولة عن أعمال الاِنسان
الذي انحلت شخصيته. ____________
(1)الموَمنون: 12 ـ 14.
وهذه الشبهة هي التي نقلها الذكر الحكيم عن المشركين، قال: "وَقالُوا أَئِذا
ظَلَلْنا في الاََرْضِ أَئِنّا لَفي خَلْقٍ جَديدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِرَبِّهِمْ كافِرُون" . (1)
فهذه الآية تتضمن الشبهة والاِجابة الاِجمالية عنها، ولكن الجواب
التفصيلي ورد في الآية التالية: "قُلْيَتَوفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوت الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى
رَبِّكُمْ تُرجَعُون" . (2)
وهذه الآية تزيل الشبهة بالبيان التالي، وهو:
إنّواقع الاِنسان ليس هو البدن المتفرقة أجزاوَه، بل واقعه أمر محفوظ، وهو
الذي يأخذه ملك الموت ويُرجعه إلى ربه، وهو شيء لا يمسَّه الانحلال ولا
التغيير ولا التبدُّل، فما يتبدل أو يتغير ليس هو واقع الاِنسان، و ما هو واقع الاِنسان
فهو في معزل عن التفرق والانحلال، ويتضح ذلك إذا كان معنى التوفي هو الاَخذ،
يقول سبحانه: "اللّهُ يَتَوَفّى الاََنْفُسَ حين مَوتِها". (3)
أي أنّاللّه يأخذ الاَنفس حين موتها، وفيما نحن فيه من الآية ينسب التوفي
وأخذ الروح إلى ملك الموت، ولا تنافي بين النسبتين، لاَنّ ملك الموت جند من
جنود اللّه سبحانه،ومأمور من قبله، والآية بصراحتها تكشف عن أنّموت البدن
ليس موت الاِنسان، بل الاِنسان باقٍ بعد الموت يتوفّاه ملك الموت ويحتفظ به
إلى قيام الساعة.
إلى هنا تبيّن انّ الروَية الاِسلامية حيال خلقة الاِنسان هو انّه كائن علوي
روحي باق بعد الموت عبر القرون إلى يوم القيامة، وانّالحياة لا تنقطع بالموت، ____________
(1)السجدة:10.
(2)السجدة:11.
(3)الزمر: 42.
وإنّما تمتد بنشأة أُخرى وهي الحياة البرزخية، ثمّالحياة الاَُخروية، فكما أنّ هناك
عوامل تسعد الاِنسان أو تشقيه في الدنيا، فهكذا الحال في الآخرة.
وفي هذه النقطة بالذات يختلف المذهب الاَخلاقي في الاِسلام عن سائر
المذاهب التي تحدِّد الحياة في إطار مادي محدود، لا تتصور للسعادة معنى
إلاّالسعادة الدنيوية،فتجعل محور الاَخلاق هو الالتذاذ الفردي أو الانتفاع
الجماعي، وأمّا المذهب الاَخلاقي في الاِسلام والذي يرى أنّ وراء الحياة الدنيا
حياة أُخروية، وهناك سعادة وشقاء ، ينظر إلى الحياتين على حد سواء، ويبعث
إلى مايسعده في كلتا النشأتين، ويزجره عما يشقيه فيهما، وسيوافيك توضيحه في
بعض الاَُصول الآتية: 2. الاِنسان موجود مختار
على الرغم من أنّ هناك فئة قليلة تصوِّر الاِنسان انّه فاعل بالجبر وانّه فاقد
للحرية والاختيار، إلاّ أنّ الاَكثرية الساحقة تصوّره فاعلاً عالماً بفعله، ومختاراً بين
الفعل والترك، وهذا غني عن اقامة برهان بعد شهادة الوجدان عليه.
وعلى ذلك نزل الذكر الحكيم: "مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها
وَما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبيد" (1)ويقول في آية أُخرى مبيّناً حريته واختياره: "وَقُلِ
الحَقُّ مِنْ رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَلْيُوَْمِنْ وَمَنْ شاءَف(2)لْيَكْفُر " .
ولقد صبّ العالم الكبير زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني
(قدّس سرّه)مضمون الآية في قالب الشعر، وقال: ____________
(1)فصلت: 46.
(2)الكهف:29
فقد جاء في القرآن آيةُ حكمة * تدمِّرُ آياتِ الضلال ومن يُجبر
وتُخبر انّ الاختيار بأيدينا * فمن شاء فليوَمن ومن شاء فليكفر
نعم ربما يقع موضوع الحرية في إطار المغالطة، ويقال انّ حرية الاِنسان يحيط بها
الغموض، لاَنّه من جانب، خُلِقَ بلا مشية منه، كما أنّه خرج من رحم الاَُمإلى هذا
العالم بلا ارادة منه، مضافاً إلى ذلك فإنّ شخصيته رهن مثلث الوراثة والثقافة
والبيئة التي لكلّ منها تأثير في مصيره وتفكيره ومايختار من الاَفعال.
ومن جانب آخر، يشهد الوجدان انّه موجود حرّ يمكن أن يهشم إطار
المثلث المذكور ويفعل على خلاف مقتضاه
ولكن الحقّ هو الثاني، إذ ليس معنى حرية الاِنسان انّه موجود مختار في
عامة ما يرجع إليه من نواحي حياته، فخلقته وخروجه إلى الدنيا وتأثره بالاَضلاع
الثلاثة، أُمور خارجة عن اختياره دون أن تُخلّ بحريته إذا كان تعيين المصير في
المستقبل بيده.
وعلى هذا، فالاِنسان موجود مسوَول عن أفعاله، لما رزق من إرادة واختيار
في جوهر ذاته، ولاَجل هذه النعمة عرض الاِسلام نظاماً أخلاقياً ينسجم معهما. 3. تعديل الغرائز
خلق الاِنسان مقروناً بغرائز علوية وسفلية، وفيه ميول متضادة، يطلب كل
غير ما يطلبه الآخر، فهو موجود إلهي مثالي يميل إلى ماوراء الطبيعة والاتصال
بمبدأ الوجود، كما يميل إلى العدل والصدق والوفاء وغير ذلك من الصفات
العلوية التي تحكي عن فطرته، كما أنّه له ـ في الوقت نفسه ـ ميول حيوانية جامحة
كالشهوة والغضب وحب المال والثروة والاَنانية، إلى غير ذلك من الاَفعال الناشئة
من الغرائز السفلية، وكل واحد من هذه الغرائز تشكّل دعامة وجود الاِنسان
ومحور حقيقته، فلو فُقد واحد منها لسقط النوع الاِنساني في الهاوية، فالشهوة
دعامة بقاء النوع، و الغضب آلة دفاع الشر، إلى غير ذلك من الميول.
وقد قام الاِسلام بتعديل الغرائز فلم يحصر اهتمامه بالغرائز العلوية دون
السفلية، أو بالعكس، وإنّما عدَّل بينهما، فالنكاح أمر حسن لكن في قالب العفة،
والعبادة أمر حسن شريطة التجرد عن الرهبانية، و للاِمام أمير الموَمنين (عليه
السلام) كلام في خلق الاِنسان من مواد مختلفة ، ننقل منه هذه الشذرات:
«ثمّ نفخ فيها من روحه فَمثُلَتْ إنساناً ذا أذهان يُجيلُها، وفكر يتصرّفُ بها،
وجوارح يختدِمُها، وأدوات يُقلّبها، ومعرفة يفرق بهابين الحقّ والباطل والاَذواق
والمشامّ، والاَلوان والاَجناس، معجوناً بطينة الاَلوان المختلفة، والاَشباه الموَتلفة،
والاَضداد المتعادية، والاَخلاط المتباينة، من الحرّ والبرد، والبلَّة والجمود». (1) 4. ما هو ملاك القيم الاَخلاقية؟
إنّ الوقوف على ملاك القيم الاَخلاقية رهن أمرين: الاَمر الاَوّل: معرفة الميول الباطنية في الاِنسان
إنّ كلّ إنسان يجد في صميم ذاته انّ له ميولاً خاصة نحو أُمور، كالميل إلى
إقامة العدل، و الوفاءبالمواثيق، وإجابة الاِحسان بالاِحسان، وإغاثة الملهوفين، إلى ____________
(1)نهج البلاغة، الخطبة 1، صفة خلق آدم (عليه السلام) .
غير ذلك من الميول النابعة من البعد الملكوتي للاِنسان.
كما أنّه يحس من صميم ذاته الانزجار من الظلم، ونقض المواثيق إلى غير
ذلك من المنكرات العقلية.
والمعيار في تمييز الاَخلاق عن اللاأخلاق هو مطابقة العمل لهذا النوع من
الميول على نحو يصدر تلبية لهذه الميول الباطنية. الاَمر الثاني: السير على هدي الوحي
إنّ نور الفطرة والحس الباطني بحاجة إلى دعمهما بنور الوحي، إذ ربما
تكون الفطرة والعقل الباطني عاجزين عن درك الحسن والقبح، فبما انّ نور
الوحي نور لا ظلمة فيه، صواب لا خطأ فيه، فلا محيص عن اقتفائه فيما إذا لم يكن
للعقل هناك حكم خاص.
وقد أمر الاِسلام بالمعروف ونهى عن المنكر، وربما يعجز عن تشخيص
المعروف من المنكر، فلا محيص له عن التمسك بأذيال الوحي، فالواجبات
والمحرمات الشرعية من القيم الاَخلاقية، التي قد يعرفها الاِنسان بفطرته ونور
عقله، وإلاّ فيكون الوحي هو المتبع.
وعلى ذلك فالضابطة التي طرحها الاِسلام في مجال تمييز الاَخلاق عن اللا
أخلاق، أمران:
أ: الميول الباطنية، ب: السير على نور الوحي وما يأمر به الشرع أوينهى. 5. العمل الصالح المقرون بنية خالصة
إنّالمذهب الاَخلاقي في الاِسلام يثمّن العمل الحسن الناجم من نية
صادقة، كما إذا صلّى وصام تقرّباً من اللّه سبحانه، أو قام بمشاريع خيرية قربة إلى
اللّه وتلبية للعاطفة الاِنسانية، فهذا النوع من العمل يعد من القيم الاَخلاقية،
فالعمل الحسن، هو النابع من نية صادقة لا يشوبها أي رياء.
وأمّا المذاهب الاَخلاقية الاَُخرى فإنّما هي تنظر إلى ظاهر العمل فحسب
دون أن تولي أهمية إلى الحوافز التي دفعت الاِنسان نحو القيام به، فلو قام شخص
بمشاريع خيرية لغاية كسب رصيد أكبر من آراء الناس في الانتخابات مثلاً أو في
مجالات أُخرى فهذا النوع من العمل بما انّه لم ينبع من نية صادقة، بل من أنانية
استحوذت عليه للوصول إلى مآربه المادية، ليس له قيمة في الاِسلام، وما ذلك إلاّ
لاَنّ العمل ثمرة النيّة، فلو كانت النية خالصة فالعمل حسن مهما كان ضئيلاً، وأمّا إذا
كانت النية مشوبة بالرياء والسمعة فيحطّ من قيمة العمل مهما كان عظيماً، والآيات
القرآنية تثبت هذا المدّعى بوضوح نكتفي بآيتين: وردتا في عمارة المسجد
الحرام.
كان المشركون في عصر الرسالة قائمين بتعمير المسجد الحرام لا للّه
سبحانه، بل لاَجل كسب الوجاهة عند القبائل العربية التي كانت تحج كلّ عام و
تزور المسجد الحرام، فنزل الوحي الاِلهي على قلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغه
بأنّه ليس لهم أي حقّفي تعمير المسجد الحرام مع شركهم وكفرهم، وما ذلك إلاّ
لاَجل انّ نيتهم كانت يعوزها الاِخلاص في العمل.
قال سبحانه: "ما كانَ لِلْمُشْرِكينَ أَنْ يعَمُرُوا مَساجِدَ اللّهِ شاهِدينَ عَلى
أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النّارِ هُمْ خالِدُونَ" . (1)وفي الوقت
نفسه يرى سبحانه ذلك الحق للمخلصين من عباده الذين يوَمنون باللّه واليوم
الآخر، قال سبحانه: "إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأقامَ
الصَّلاةَ ____________
(1)التوبة:17.
وَآتى الزَّكاةَ ولَمْ يَخْشَ إِلاّ اللّه" . (1)
وهذا العنصر له أهمية بالغة في المذهب الاَخلاقي في الاِسلام دون أن تجد
له أثراً يذكر في المذاهب الاَخلاقية المادية الاَُخرى، ولم يكتف الاِسلام بذلك،
بل جعل النية الخالصة مكان العمل إذا لم يكن الناوي قادراً على القيام به.
روي أنّعليّاً لمّا أظفره اللّه بأصحاب الجمل، قال له بعض أصحابه: وددت
أنّ أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك اللّه به على أعدائك.
فقال له (عليه السلام) : «أهوى أخيك (2)معنا؟»
فقال: نعم.
قال: «فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال
وأرحام النساء سيرعف (3)بهم الزمان، ويقوى بهم الاِيمان». (4)
إنّ اهتمام الاِسلام بتصفية الباطن من خلال الترغيب إلى النية الخالصة
والابتعاد عن النية المشوبة، يعرب عن عناية الاِسلام بموضوع النية، وما ذلك إلاّ
لاَنّها مصدر العمل وروحه، فالنيات الصالحة مصادر الخيرات كما أنّ النيات
الطالحة منابع الشرور.
قال أمير الموَمنين (عليه السلام) : «أيّها الناس، إنّمايجمع الناس الرضا والسخط،
وإنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لما عمّوه بالرضا، فقال
سبحانه: "فَعَقَروها فَأَصْبَحُوا نادِمين"(5). (6)
وقال (عليه السلام) : «الرّاضي بفعل قوم كالدّاخل فيه معهم،وعلى كلِّ داخل في ____________
(1)التوبة:18.
(2)هوى أخيك أي ميله ومحبته.
(3)يرعف بهم: يجود بهم.
(4)نهج البلاغة: الخطبة 12.
(5)الشعراء:157.
(6)نهج البلاغة: الخطبة 201.
باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرِّضا به». (1)
فالواجب على علماء التربية أن يولوا أهمية كبرى لهذا العنصر، وهو إصلاح
الباطن وغرس بذور الاِيمان في قلوب الاَجيال الذي من ثمراته النية الخالصة
والعمل الصالح بغية إقامة مجتمع صالح وفاضل. يقول سبحانه: "وإنْ تُبدُوا ما فِي
أَنفُسِكُمْ أو تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللّه" . (2)
6. القيم الشمولية المطلقة
إنّ المطلق والنسبي اصطلاحان رائجان في العلوم والفلسفة الاِسلامية، فلو
كانت القضية صادقة في جميع الاَزمنة والاَمكنة وفي جميع الشرائط والظروف،
فهي قضية مطلقة، كما هو الحال في القضايا الرياضية، فقضية 1+1=2، قضية
مطلقة لا ترى أمامها أي رادع ومانع، والنسبي على العكس، فإذا كانت القضية
صادقة في ظروف خاصة، فالقضية صادقة صدقاً نسبياً، مثلاً إذا شاهدنا قاعة
واسعة في مدينة فيمكن وصفها بالكبر والصغر معاً، فإذا قيست القاعة إلى قاعة
أُخرى، وكانت الثانية أوسع منها بمراتب، توصف القاعةالاَُولى بالصغر، وأمّا إذا
قيست إلى قاعة ثانية هي أقل مساحة، فتوصف القاعة الاَُولى بالكبر، وما هذا إلاّ
لاَنّ الصغر والكبر من الاَوصاف النسبية.
إذا وقفت على ما نرمي إليه، فنقول:
إنّالقضايا الاَخلاقية التي يتبنّاها الاِسلام هي قضايا كلية مطلقة صادقة في
جميع الاَزمنة والاَمكنة، وما ذلك إلاّ لاَنّ الاِسلام يعتمد في استنتاج القيم على ____________
(1)نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 154.
(2)البقرة:284.
محورين مطلقين عامين شاملين هما:
1. الفطرة الاِنسانية التي تتحد في جميع الاَفراد.
2. بلاغات الوحي ونوره الذي نزل لاِنقاذ البشر من الضلالة إلى الهداية،
وقال: "يا أَيُّهَا النّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً" . (1)
وقال سبحانه: "تَبارَكَ الَّذي نزَّلَ الفُرقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمينَ
نَذيراً".(2)
وقال سبحانه: "الر كِتابٌ أنزلناهُ إِلَيْكَ لتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ
بِإِذنِ رَبِّهِم". (3)
فالآيات تركز على أنّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بُعث إلى الناس كافة ، إذ انّ
الفرقان الذي هو تعبير آخر عن القرآن، نذير للعالمين، وبالتالي جاء الرسول
ليخرج عامة الناس من الظلمات إلى النور، فيكون تشريعه عالمياً.
وثمة سوَال يثار وهو كيف يقال انّ القضايا الاَخلاقية قضايا مطلقةمع أنّها
تعد من القيم في ظرف دون ظرف. مثلاً: الصدق حسن، ولكنّه لا في كلّ زمن، فلو
كان الصدق سبباً لهلاك الاَبرياء فليس بحسن، بل الكذب ينقلب هناك من القبيح
إلى الحسن، فهذا يدل على أنّ القضايا الاَخلاقية في الاِسلام قيم نسبية لا مطلقة؟
والجواب: إنّ الصدق حسن في جميع الاَزمنة والاَمكنة، غير انّه لما كان
الصدق في ذلك المورد يقع ذريعة لقتل الاَبرياء، فلا يجيزه العقل لا لقبحه بل
لاَجل دفع الظلم عنهم، وأمّا قبح الكذب فهو باق على قبحه حتى في ذلك الظرف ____________
(1)الاَعراف:158.
(2)الفرقان: 1.
(3)إبراهيم:1.
الحرج، ولكنّه لما دار الاَمر بين ارتكاب أحد القبيحين الاَصغر وهو الكذب،
والاَكبر وهو قتل الاَبرياء، فيقدِّم العقل، الاَقلَّ قبحاً على الاَكثر منه، كما هو الحال
في باب التزاحم في باب الاَغراض والمقاصد حيث يقدم الاَهم على المهم، أو
الاَقل مفسدة على الاَكثر مفسدة.
والحاصل: انّ الصدق في هذه الظروف أيضاً حسن،كما أنّ الكذب فيها
أيضاً قبيح، غير انّالعقل لا يرخص العمل الحسن للحيلولة دون قتل الاَبرياء،
أويجوّز الكذب لدفع القبيح الاَكبر. 7. القيم الاَخلاقية والحرص على إجرائها
إنّ أكثر المذاهب الاَخلاقية تنطوي على التزامات، وتوصي باتّباعها، فمثلاً:
تأمر بالصدق في الكلام،و الوفاء بالمواثيق،والنهي عن الكذب إلى غير ذلك من
القضايا. ولكنّها لا تخرج عن إطار الاِيصاء ولكن المنبع الاَخلاقي في الاِسلام،
يتجلّى ـ وراء كونه منهجاً منسجماً مسايراً للحياة ضامناً للسعادة ـ في ضرورة
العمل وفق تلك القضاياوالوصايا، وذلك بوضع ضمانات ووعد ووعيد في ذلك
المجال.
فأغلب المناهج الاَخلاقية لا تتجاوز عن كونها وصايا مجردة، لا تدعمها أي
جنبة إجراء، إلاّالحس الاَخلاقي أو ما يعبر عنه بالوجدان ، ولكنّه لا يشكل دعامة
قوية أمام إجراء القوانين بصورة صحيحة بل ينهار أمام التيارات النفسانية الجارفة
التي تزيل كل رادع أمامها. مما يشكل ثغرة واضحة في كيان المذاهب الاَخلاقية
الوضعية.
أمّا المذهب الاَخلاقي في الاِسلام فهو ليس مجرد وصايا فحسب، ولا
يقتصر في مقام الاِجراء على الحس الاَخلاقي، بل يعتمد أيضاً على قدرة فوق
الطبيعة قاهرة على كلّ شيء، تحاسب عمل الاِنسان حقيره وخطيره، يوم تبلى
السرائر وتكشف الحقائق ويتجسد عمل كل إنسان أمامه .
فهذا النوع من المنهج يعلوه الكمال حيث جمع بين العلم والاِيمان،
والتقنين والتنفيذ.
إلى هنا ظهر مجموع السمات التي يتمتع بها المذهب الاَخلاقي في
الاِسلام، وإليك موجز ما سبق منها:
1. الاِنسان في النظرة الاِسلامية مركب من المادة والمعنى، والبدن والروح،
بل حقيقته تتقوّم بالروح، والبدن ليس إلاّ أداة للروح.
2. الاِنسان فاعل مختار وما يقوم به من الاَعمال إنّما تعد من القيم إذا قام به
عن إرادة واختيار لا عن جبر وقسر، فلو أدّى ما عليه من الضرائب المالية بإجبار
من الجهاز الحاكم فلا يعد عمله عملاً أخلاقياً.
3. المذهب الاَخلاقي قائم على تعديل الغرائز علوها وسفلها، وجعل
الاِنسان على صراط يتمتع بكافة غرائزه لكن بتعديل خاص ويعطي حق كل
غريزة.
4. الملاك في القضايا الاَخلاقية هو تطابقها مع الفطرة و نور الوحي.
5. العمل الحسن إنّما يعد حسناً ومن القيم إذا اقترن بنية خالصة بعيدة عن
الرياء والسمعة.
6. المذهب الاَخلاقي في الاِسلام نظام عام يسود كافة المجتمعات
الاِنسانية دون فرق بين من غبر ومن حضر ومن يأتي في المستقبل.
7. انّالمذهب الاَخلاقي ليس مجرد وصايا وبلاغات فارغة عن أي قوة
تنفيذية.
نظرية الاَخلاق عند أفلاطون (427 ـ 346|ق. م) من فروع سياسة المدن،
فقد انتهى هو من البحث في العدالة الاجتماعية إلى العدالة الفردية التي هي
الاَخلاق، والقيم عند أفلاطون تنحصر في أُمور ثلاثة:
1. العدالة
2. الحسن.
3. الحقيقة.
ومرجع الثلاثة إلى الخير، فالذي له قيمة ذاتية هو الخير، والاَُمور الثلاثة
تبسيط لهذا الاَمر المعياري.
ثمّإنّه ارجع العدالة إلى الحسن (1)من غير فرق بين العدالة الاجتماعية أو
الفردية، لاَنّها توجد التوازن المطلوب الذي هو عبارة أُخرى عن الحسن، وعلى
ذلك فالحسن إمّا محسوس كجمال الورد، أو معقول كحسن الصدق والاَدب
والتقوى والاِيثار وغير ذلك، الذي نعبّر عنه بالخير والاَخلاق الحميدة فهو من
مقولة الجمال.
ذهب أفلاطون إلى أنّ الاَخلاق أمر واقعي، فالاَخلاقي من يدرك هذه الاَُمور
الواقعية ويكفي في التخلّق بها معرفة الخير عن الشر، فلو عرف الاِنسان الخير ____________
(1)لاحظ ص 14 من وجود الصلة بين الجمال وتعادل القوى.
يعمل به ومن لم يعمل فإنّما هو لجهله، فلا محيص لنا من استئصال الفساد
الاَخلاقي بالقضاء على الجهل ومكافحة الاَُمية، وعلى ذلك فرأس الفضيلة هو
الحكمة والمعرفة، فكلّ فضيلة نوع من الحكمة، مثلاً الشجاعة عبارة عن معرفة ما
يجب أن يخاف منه ومالا يخاف، وانّ الفقه عبارة عن العلم بالحد الذي يجب أن
يراعى به اعمال الشهوات، كما أنّ العدالة عبارة عن العلم بالاَُصول والضوابط التي
يجب أن تراعى في تنظيم رابطة الاِنسان مع أخيه الاِنسان.
فإذا كانت الحكمة مبدأ للفضيلة، والمعرفة منشأ للاَخلاق، فكلّ حكيم
أخلاقي ولا ينفك عن الاَخلاق. (1)
وحصيلة الكلام : انّالمذهب الاَخلاقي لاَفلاطون مبني على أمرين:
أ. لو انّ إنساناً وقف على الخير والشر على ما هما عليه،ففعله يكون على
وفق الاَخلاق دائماً ولا يخرج عن إطاره.
ب. انّ القضايا الاَخلاقية ، قضايا كليةعامة شاملة لجميع الظروف
والشرائط، ولذلك ليس لبني آدم إلاّ نوع من الحياة فيه سعادته لا أكثر.
هذه عصارة نظرية أفلاطون في الاَخلاق، وقد يوَاخذ عليها بأُمور أوضحها
بأنّ العلم بالفضيلة أو الرذيلة لا يكفي في التخلّق ولا في الاجتناب عن الشرّ ما لم
تدعمه التربية والتهذيب.
وبعبارة أُخرى: انّ العلم وإن كان موَثراً في سعادة الناس وانّقسماً من
الجرائم نتيجة جهل الاِنسان بمضاعفاتها ونتائجها، ولكن نفس العلم لا يكفي
لكبح جماح النفس، إذ ربَّ عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لم ينفعه. (2) ____________
(1)ويل دورانت: تاريخ الفلسفة: 34ـ 36.
(2) كلام مروي عن الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) .
فالغرائز السافلة للاِنسان تدفعه إلى الحرص والثروة واللذة والشهوة التي
ربّما تعمي بصيرة الاِنسان، وقد قيل «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى»، و ربما
يكون علم الاِنسان ذريعة لارتكاب جرائم أبشع.
مضافاً إلى أنّالاَُصول الاَخلاقية ليست رهن التعليم الكلاسيكي، بل إذا
تجردت الاِنسانية عن نزعاتها الشخصية والاَنانية ربما تدرك هذه الاَُصول بشكل
أوضح، كما بيناه فيما سبق.
ذهب المعلم الاَوّل أرسطو (384ـ 322ق.م) إلى أنّ كلّ إنسان يطلب بفطرته
السعادة ويفرّ من الشقاء، والمراد من السعادة هو التمتع باللذائذ والابتعاد عن
الآلام ، دون أن يقتصر عليها بل يعم اللّذات والآلام العقلائية والروحانية.
وعلى ذلك فكلّ إنسان يطلب السعادة ويرفض الشقاء، بيد أنّ تحصيل
السعادة لا يتم إلاّ عبْـر علم الاَخلاق.
يعتقد المعلم الاَوّل بأنّ سبيل الوصول إلى السعادة عبارة عن التمسك
بالاعتدال، ثم يمثل بالشجاعة التي هي وسط بين إفراط هو التهور ، وتفريط هو
الجبن، وبالكرم أو السخاء التي هي وسط بين إفراط هو التبذير وتفريط هو التقتير
، والمناعة من الفضائل لوقوعها وسطاً بين التكبّـر والتزلزل، ويمثل أيضاً بالعفة
فانّها من فروع القوة الشهوية وتتوسط بين الخمول والشره، كما أنّ الحكمة ترجع
إلى القوة العاقلة وهي حدّوسط بين الجربزة والبلاهة، كما أنّ السخاوة حدّ وسط
بين البخل والاِسراف، كما أنّ التواضع حدّ وسط بين التكبر والتحقير (1)
فأرسطو على خلاف أُستاذه لا يقول بكفاية العلم والمعرفة في تحصيل
الفضيلة، بل يعتقد بأهمية التربية في التحلّي بالاَخلاق والفضائل. ____________
(1)انظر سير حكمت در اروبا: 1|34.
وقد أورد على مذهبه مناقشات كثيرة أظهرها:
الاَُولى: انّ الفضيلة لا تدور على رحى الاعتدال في جميع الظروف
والشرائط، إذ ربما لا يوجد بين السعادة والشقاء حدّ وسط، فالصدق فضيلة
والكذب رذيلة دون أن يكون بينهما حدّ وسط.
فالعمل بالعهد حسن كما أنّ نقض الميثاق قبيح وليس بينهما حدّ وسط،
ونظير ذلك طلب العلم، ومقابله الجهل.
فالاَوّل حسن بمكان مهما أفرط في تحصيله، وليس الحسن هو الحد
الوسط، وليس المراد من الاِفراط في العلم ترك سائر الوظائف بل تحصيل العلم
مع ما عليه من الوظائف الفردية والعائلية.
الثانية: انّ العلم بالحد الوسط من بين الصفات أمر صعب المنال، لاَنّ
الوقوف على الحد الوسط فرع معرفة قوى الاِنسان الروحية والجسمانية، ثمّ
معرفة الحدّ الوسط منه، وهذا ليس أمراً سهلاً لكل من طلب التخلّق بالاَخلاق
الحسنة.
الثالثة: ربما يطرأ التزاحم بين تحقيق الاعتدال بين الصفات فلم يعط ضابطة
على ضوئها يتم تقديم إحداهما على الا َُخرى.
ثمّ إنّ الحكيم النراقي (1128 ـ 1209 هـ) يوَيد مذهب الاعتدال في كتابه
«جامع السعادات» ويقرّره بصورة واضحة تستغرق صحائف كثيرة، نقتبس منها ما
يلي:
إنّ القوى في الاِنسان أربع: قوة نظرية عقلية، وقوة وهمية خيالية، وقوة
سبعية غضبية، وقوة بهيمية شهوية.
والصورة المعتدلة من اعمال هذه القوى هي الفضيلة، والانحراف عن
الوسط امّا إلى طرف الاِفراط أو إلى طرف التفريط، رذيلة، فيكون بازاء كلّفضيلة
جنسان من الرذيلة، ولما كانت أجناس الفضائل أربعة، فتكون أجناس الرذائل
ثمانية.
فالحكمة هي الحدّ المتوسط، وهي العلم بحقائق الاَشياء على ما هي عليه،
وهو موقوف على اعتدال القوة العاقلة ، فإذاحصلت له حدّة خارجة عن الاعتدال
(كالجربزة) يخرج عن الحد اللائق ويستخرج أُموراً دقيقة غير مطابقة للواقع،
ويكون العلم بهذه الا َُمور ضد الحكمة من طرف الاِفراط، وإذا حصلت له بلادة لا
ينتقل إلى شيء فلا يحصل لها العلم بالحقائق وهذا هو الجهل، وهو ضده من
طرف التفريط.
والشجاعة هي الصورة المعتدلة للقوة الغضبية، والتهور والجبن طرف
الاِفراط والتفريط.
والعفّة هي الصورة المعتدلة من القوة الشهوية، والشره والخمول في طرفي
الاِفراط والتفريط، فانّ الشره عبارة عن الانهماك في اللذات الشهوية على ما لا
يحسن شرعاً وعقلاً. والثاني في طرف سكون النفس عن طلب ما هو ضروري
للبدن. (1) ____________
(1) جامع السعادات:1|75 و 99.