الصلة بين الروَية الكونية والآيديولوجية من المباحث التي لها جذور
تاريخية، ولكن أوّل من طرحها بصورة مسهبة وأفاض فيها الكلام هو الفيلسوف
«ديفيد هيوم» (1711ـ 1776م) ومن هنا أخذت هذه المسألة مكانتها في الفلسفة
الغربية وألفتت نظر الفلاسفة إليها.
والمراد من الروَية الكونية، أو ما يسمّى بالحكمة النظرية، هو: إدراك العقل
شيئاً من شأنه أن يعلم، ويعد نفس العلم به كمالاً للنفس، كقولنا: «اللّه موجود» أو
«النفس موجودة» وغير ذلك من العلم بالموجودات المادية والمجردة.
والمراد من الآيديولوجية أو ما يعبّر عنه بالحكمة العملية، هو: إدراك العقل
شيئاً من شأنه أن يعمل ويعد نفس العمل به كمالاً للنفس كقولنا: «الظلم قبيح»
و«العدل حسن» فانّه بمعنى يجب القيام بالعدل والاجتناب عن الظلم.
ومن هنا يعلم أنّه ليس لنا عقلان أحدهما يدرك ما من شأنه أن يعلم،
والثاني يدرك ما من شأنه أن يعمل، وإنّما هي قوة مدركة واحدة تارة تدرك ما من
شأنه العلم، وأُخرى ما من شأنه العمل، وعندئذٍ يقع الكلام في أنّه كيف يجوز لنا
أن نستنبط ما من شأنه أن يعمل ممّا شأنه أن يعلم مع أنّ بينهما بوناً شاسعاً؟ فانّ
مآل الحكمة النظرية هو الاِخبار عن وجود شيء كالنفس موجودة، وأمّا مآل
الحكمة العملية هو الاِنشاء أي فليعدل، أو ليجتنب عن الظلم، إلى غير ذلك من المسائل
التي يجب على الاِنسان القيام بها في حياته العملية كالاَخلاق. واستنباط الاِنشاء
من الاخبار أمر غير ميسور، وهذا هو الذي رفع به عقيرته «ديفيد هيوم» وآثار
ضجة صاخبة في المحافل العلمية في أُروبا، وقد ذكرنا في صدر البحث أنّ
للمسألة جذوراً في تاريخ الفلسفة الاِسلامية، فهذا هو الشيخ الرئيس، يقول:
فمن قواها مالها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي القوة التي تختص
باسم العقل العملي، وهي التي تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل من الاَُمور
الاِنسانية جزئية ليتوصل به إلى أغراض اختيارية من مقدمات أوّلية وذائعة
وتجريبية، باستعانة بالعقل النظري في الرأي الكلي إلى أن ينتقل به إلى الجزئي. (1)
إنّ عبارة الشيخ صريحة في أنّ العقل العملي يستعين بالعقل النظري في
الرأي الكلي إلى أن ينتقل إلى الجزئي، وهذا دليل على أنّهم كانوا غير غافلين عن
تبيين الصلة بين الحكمتين.
إذا عرفت ذلك فلنطرح روَوس الآراء التي تتبنى بيان وجود الصلة وعدمها
بين الحكمتين، وهي تدور على محاور أربعة:
أ. الحكمة العملية تنبثق من الحكمة النظرية.
ب. انقطاع الصلة بين الحكمتين .
ج. يجب أن لا يكون بين الحكمتين أيُّ تصادم.
د. وجود الصلة بين الحكمتين لا على نحو العلة التامة.
وسيوافيك الفرق بين المحور الثالث والاَوّل، وإليك شرح تلك المحاور: ____________
(1)شرح الاِشارات: 2|352.
أ. انبثاق الحكمة العملية من الحكمة النظرية
إنّ أصحاب تلك النظرية يتبنّون أنّ كلّ ما في الكون من قوانين وسنن هي
القدوة والاَُسوة لحياة الاِنسان الفردية والاجتماعية، وأنّ على الاِنسان تطبيق ما
يدركه في الكون، على الشوَون الحياتية، وما هذا إلاّ لاَنّ الاِنسان جزء من الطبيعة،
فيجب أن يسود في حياته ما يسود في الطبيعة بأسرها.
ولعلّ التعبير الواضح لبيان هذا النمط من التفكير هو أنّ عالم الطبيعة أُسوة
للاِنسان فيجب تطبيق العمل على وفق ما جاء في الطبيعة، وقد تبنّى هذه النظرية
كارل ماركس (1817ـ 1883م) وزميله فردريك انجلز(1820ـ 1895م) متأثرين
بالاَُصول التي أسّسها فردريك هيجل (1770ـ 1831م) فيما يعرف بـ«المفهوم
الفلسفي للعالم» وهذه الاَُصول عبارة عن:
1. حركة التطور: ويراد بها: أنّ المادة وكلّ ما في الكون، من أصغر أجزائه إلى
أعظمها في حالة تبدّل وتغيّر مستمرين.
2. تناقضات التطور: ويراد به: أنّ جميع ما يحصل في الكون من تبدل
وتغير وتكامل، ينشأ نتيجة لصراع داخلي في جوهر الاَشياء بين جانب السلب
وجانب الاِثبات، ثمّ يتمخض عن هذا الصراع شيء ثالث، هو الصورة المتكاملة
للشيء.
3. قفزات التطور: أو انتقال التبدلات الكمية إلى النوعية، ويراد بها أنّ
التغيرات التدريجية في الكم، ستوَول إلى تبدل فجائي آني تحصل على إثره كيفية
جديدة للمادة.
4. الارتباط العام: أو العلاقات المتبادلة بين الظواهر الطبيعية، ويراد به انّ
الطبيعة شيء واحد متماسك، ترتبط فيه الاَشياء فيما بينها ارتباطاً عضوياً وثيقاً،
بحيث يكون بعضها شرطاً لبعض.
هذه هي الاَُصول التي تبناها «ماركس» و «انجلز» ، وبنيا عليها نظريتهما
القائلة بانطلاق العمل من الفكر ، والحكمة العملية من النظريّة.
يقول ماركس: ليست حركة الفكر إلاّ انعكاساً لحركة الواقع منقولة ومحولة
في مخ الاِنسان. (1)
أقول: إنّ ما ذكروه من الاَُصول الاَربعة في الفلسفة الماركسية هو المورد
الذي تبنّى أصحابها تطبيقها على الحياة الاِنسانية بمعنى أنّ الاِنسان إذا أدرك
بالفلسفة النظرية وجود قانون سائد في الطبيعة يجب عليه أن يطبقه على حياته
الفردية والاجتماعية، لاَنّ الاِنسان جزء من الطبيعة، يحكم عليه بمثل ما يحكم
على الطبيعة.
ويترتب على تلك النظرية الملاحظات التالية:
1. انّ الماركسية تتبنى ماوراء طرح الاَصل الثالث وهو: انّ قفزات التطور
وانتقال التبدّلات الكمية دفعة إلى النوعية ، دعوةَ العمّـال والموظفين إلى الثورة
العارمة بغية الاِطاحة بالنظام السابق الذي كان تهدر فيه حقوق العمال.
إنّما رتبه ماركس و زملاوَه على هذا الاَصل أمر بعيد عن الصحّة، إذ لا دليل
على صياغة وصفة واحدة لجميع المجتمعات الاِنسانية التي تختلف من حيث
احتضانها لعوامل الشر والفساد.
فالمجتمع الغارق في الفساد الذي دبّ فيه الشر وتأصل فيه، لا يمكن
إصلاحه إلاّ بثورة عارمة تطيح بالنظام وتوَسس نظاماً آخر مكانه، وفي هذه
المرحلة يكون ما يجري في الطبيعة من قفزات التطوّر أُسوة لاِصلاح المجتمع. ____________
(1)المادية والمثالية في الفلسفة:83.
وأمّا المجتمع الذي لم يتجذّر الفساد فيه، وكان له دور هامشي ففي مثل هذا
النوع من المجتمعات لا داعي إلى نشوب الثورات بغية إصلاح المجتمع، لاَنّ
الاِصلاح رهن التحقق دونها ،وهذا خير شاهد على أنّ القوانين الطبيعية ليست
أُسوة للاِنسان على نحو مطلق، بل الاِنسان بما هو موجود مختار، له أن ينتخب
أيسر السبل لاِصلاح المجتمع، سواء وافق مايجري في الطبيعة أم خالف.
نعم لما كانت الماركسية بصدد بيان فلسفة ماتتبناه من الاَُصول في حياتها
السياسية لم تجد بداً من جعل ناموس الطبيعة وقوانينها مقياساً للحياة، ولم يتبنّ
ذلك الاَصل إلاّ لتبرر به ثورتها على الرأسمالية والامبريالية.
2. لو وجب أن تكون الآيديولوجية انعكاساً لما يجري في الطبيعة لكان
اللازم اتخاذ ناموس تنازع البقاء وناموس الانتخاب الطبيعي ـ اللّذين هما من
الاَركان الاَربعة لنظرية النشوء والارتقاء في نظرية دارون ـ عماداً في الحياة ، وإبقاء
فتيل الفتن والحروب مشتعلاً بين الضعفاء والاَقوياء، بشكل دائم ومستمرّ حتى
يتغلب الاَقوياء على الضعفاء، ولا لوم على أيِّ مجرم يشعل حرباً ضروساً،
ويهلك الحرث والنسل ويعذب البشرية ويدمّر الحضارة، لاَنّها سنة عملية محاكية
للسنة النظرية. هذا ما لا يقبله عاقل، ولا يرضاه ضمير حي.
و من هنا يعلم أنّ الماركسية لم تتشبث بهذا الاَصل إلاّ لتدعم آيديولوجيتها
وأفكارها الحزبية، فهي تتبنّى فوق كلّ شيء وقبل الروَية الكونية لزوم الاِطاحة
بالرأسماليين والاِقطاعيين ومن يدعمهم من النظام السياسي، فوجدت بغيتها في
نظام القفزات في الطبيعة، ثم التغييرات الكمية تتبدل فجأة إلى تبدلاّت كيفية أو
نوعية، فاستخدمتها لدعم نظريتها الحزبية، ولولا هذا الدعم لاَسدل على نظام
القفزات ستار النسيان.
ولو تجرد «ماركس» عن برامجه الحزبية لوقف على أنّ الحكم على
الاِنسانية وفق ما يجري في الطبيعة الصماء إسراء قانون من موضوع إلى موضوع
آخر بينهما غاية البعد، إذ أين الاِنسان الشاعر المختار العاقل الذي يستطيع أن
يقف على مصالحه ومفاسده بالعقل والتجربة والمشورة، من الطبيعة الصماء؟!
كلّذلك دلائل قاطعة على أنّ نظرية الانبثاق نظرية خاطئة، وليس من
واجب الاِنسان أن ينظر إلى ما في الكون من قوانين ثمّ يطبقها بحذافيرها على
حياته وسلوكه، فلو قلنا بعدم الصلة بهذا المعنى بين الحكمتين فلم نبتعد عن
جادة الصواب.
وحصيلة البحث: أنّ الاَخلاق والقوانين الحاكمة على المجتمعات الصغيرة
والكبيرة، لا يمكن أن تُمليها الطبيعة الصماء بل يمليها عقل الاِنسان وتجربته، فما
كان مفيداً لحاله وحال مجتمعه، يأخذ به،و ما كان ضاراً له يرفضه. ب. انفصام الصلة بين الحكمتين
أنكر الفيلسوف الانكليزي «ديفيد هيوم» الصلة ـ بين الحكمتين، واستند
إلى أمرين:
1. انّ طريقة البحث في الحكمة النظرية تغاير طريقته في الحكمة العملية؛
فالباحثون في القسم الاَوّل يبحثون في الوجود واللاوجود، مثلاً يقول: (الخالق
موجود)، (الملك موجود)، وفي الوقت نفسه يبحث في الحكمة العملية عن
الوظائف الفردية والاجتماعية، وعندئذٍ يتبدل كلامه من الاِخبار إلى الاِنشاء، يقول:
اعبدوا اللّه تبارك وتعالى؛ فبين الحكمتين بون شاسع، فأين الوجود والعدم ـ الذي
يدور حولهما رحى الحكمة النظرية ـ من الاِيجاب والحظر الذي يدور حولهما
رحى الحكمة العملية ؟
2. انّهم يستدلون بقضايا الحكمة النظرية على قضايا الحكمة العملية،
بمعنى أنّهم يستندون بالقضية الخبريّة على لزوم ترك الشيء وعدمه.
وإن شئت قلت: يستدلون بضرورة الوجود على ضرورة الاِتيان، فأي رابطة
منطقية بين النسبتين والاستنتاجين.
والحقيقة أنّ ما ذكره في الاَمر الاَوّل ـ من أنّطريقة البحث في الحكمة
النظرية تختلف عما عليه في الحكمة العملية ـ ليس أمراً غريباً، بل يوجد نظيره في
حياة كلّ إنسان حتى هيوم نفسه، فإذا مرض وأراد الاِخبار عن مزاجه، يقول:
مزاجي متعكّر ، فيجب أن أذهب إلى الطبيب؛ فعامة الناس يخبرون عما يرتبط
بوجودهم بجمل إخبارية، كما أنّهم إذا صاروا لبيان الوظائف غبَّها يذكرونها بصيغ
الاِنشاء.
والذي يوَخذ عليه: ما ذكره من أنّهم يستدلّون بالقضايا النظرية، على
القضايا العمليّة، فإنّه أمر باطل، لاَنّ القضايا العملية إمّا واضحة بالذات، أو منتهية
إلى ما هو واضح بالذات ولا يُستدلّ أبداً بالنظرية، على العمليّة، وسيوافيك
تفصيله في القول الرابع. ج. يجب أن لا يكون بين الحكمتين أيّ تصادم
يتبنّى أصحاب تلك النظرية لزوم الانسجام بين الحكمتين،والاّ يكون
بينهما أيّ تصادم وتناقض، كما إذا كان الاِنسان يحمل وجهة نظر ماديةحيال
الكون، ويرى أنّالوجود يعادل المادة وليس ورائها شيء «ليس وراء عبادان قرية»
ومع ذلك ينتهي في الحكمة العملية إلى وجوب عبادة الخالق.
إنّ هذه النظرية ليست نظرية مستقلة بإزاء سائر النظريات، وإنّما هي شرط
على الحكيم أن لا يناقض فعله عقيدته وبالعكس، فلا يمكن أن يكون مادياً في
العقيدة، وموَمناً في العمل أو بالعكس.
وبعبارة أُخرى: يجب التوفيق بين العقيدة والعمل؛ ولا نطيل الكلام في
ذلك، ولنذكر النظرية الرابعة ولعلها أظهر النظريات. د. وجود الصلة بين الحكمتين على نحو المقتضي
وهي النظرية المتوسطة بين النفي التام والاِثبات التام، فليس الحكمة
النظرية في منأى ومعزل عن الحكمة العملية ، كما أنّـها ليست علة لها (للحكمة)،
بل هناك صلة بينهما لا تعدو عن حد المقتضي، ويعلم ذلك ممّا قدمنا في هذا
الكتاب غير مرّة، وهو كما أنّ قضايا الحكمة النظريةمختلفة من حيث الوضوح
والخفاء ـ فهناك قضايا بديهية وقضايا نظرية ـ وهكذا الحال في الحكمة العملية،
فهي بين واضحةكحسن العدل وقبح الظلم، وخفية يتضح حالها بالنظر إلى غيرها،
ولنضرب مثالاً :
إعمل لتعيش.
أحسن لمن أساء إليك.
تجد الاَُولى واضحة لا تحتاج إلى عناء لتصديقها، بينما نجد الثانية بحاجة
إلى الاستدلال حتى يُذعن بصدقها ، قال سبحانه: "ادْفَعْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذا
الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنهُ عداوةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميم". (1)
مثال آخر: يقول الاِلهيون في مجال الحكمة العملية:
1. يجب معرفة اللّه.
2. يجب إطاعته.
3. يجب عبادته. ____________
(1)فصلت:34.
فهذه الواجبات الثلاثة عند الاِلهي، ليست في وضوح «العدل حسن» أو
«اعمل لتعيش»، ولذلك يستدل عليها الاِلهيون ويوضحونها بالبراهين.
ومن هنا يظهر أنّالفرائض الاَخلاقية والاجتماعية والسياسية إمّا واضحة
بالذات، يحكم العقل فيها بالوجوب والتحريم استقلالاً، وإمّا قضايا نظرية تنتهي
إلى البديهية.
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى ما نحن فيه من تأثير القضايا النظرية في العملية
على وجه المقتضي.
إنّ الحكمة النظرية لها دور في تعيين الصغرى، وأمّا الحكمة العملية التي
تكون بمنزلة الكبرى فهي امّا واضحة بالذات أو منتهية إليها، ولنوضح ذلك بمثال:
اللّه هو المنعم.
وكلّمنعم يجب شكره.
فنستنتج : اللّه يجب شكره.
فالنتيجة حكمة عملية، متوقفة على صغرى وكبرى، ولا يمكن الاستنتاج
بواحدة منهما.
لكن الصغرى تُعيِّن الموضوع وتثبت بأنّ ما سوى اللّه فيض من فيوضه
سبحانه، إذ هو معطي الوجود ومفيضه، ومعلوم أنّ الصغرى لا تتضمن حكماً
عملياً، وإنّما توحي إلى أنّما في الكون ينتهي إلى اللّه وهو المنعم.
وأمّا الكبرى فهي التي تفرض الشكر على الاِنسان، فهي ليست مستنتجة من
نفس الصغرى، بل مستنتجة من براهين سابقة عليها واضحة للعقل، فإذا ضمت
إلى الصغرى نستنتج حكماً عملياً جزئياً.
وبذلك يتضح أنّالصلة بين الحكمتين صلة الاقتضاء، فليس بإمكاننا أن
نغض النظر عن تلك الصلة، لاَنّ الكبرى لوحدها لا تنتج ما لم تنضم إليها
الصغرى، كما أنّه ليس لنا أن نقول بأنّ الكبرى و النتيجة مترشحتان من الصغرى،
فتكون الصلة بين الحكمتين بنحو الاقتضاء لا العلية التامة.
ولمزيد من التوضيح نعطف نظر القارىَ الكريم إلى هذين المثالين:
أ. هجوم العدو بلاء.
وكلّ بلاء يجب الصبر عنده.
فنستنتج: انّهجوم العدو يجب الصبر عنده.
ترى أنّ النتيجة صادقة، وللصغرى دور تعيين الموضوع، والكبرى صادقة
تدعمه سائر القضايا العملية والصلة بين الكبرى والنتيجة وبين الصغرى صلة
الاقتضاء.
ب. الاِنسان مختلف الاَعراق.
وكلّ مختلف الاَعراق يجب أن يكون مختلف الحقوق.
فالاِنسان يجب أن يكون مختلف الحقوق.
فالنتيجة باطلة، وما هذا إلاّ لاَنّ الكبرى غير واضحة بالذات ولا مدعمة
بسائر القضايا، ولو كانت الكبرى وليدة الصغرى كما يزعمه «ديفيد هيوم» يجب
أن تكون النتيجة صادقة، لاَنّ الصغرى صادقة بالذات. سوَال وإجابة
ربما يتبادر في بدء النظر عن بعض الآيات انّ كلامه سبحانه على نحو
يشعر بانتقال الاِنسان إلى الحكمة العملية عن طريق الحكمة النظرية على وجه
يكون الاِقرار بالصغرى ملازماً للاِقرار بالكبرى، وعندئذٍ يتجه الاِشكال كيف
يصحّ لنا استنتاج الاِنشاء من قضية إخبارية، وإليك بعض الآيات التي ربما تكون
ذريعة للتشبّث بها.
1. قوله تعالى: "أَلَمْ تَرَ أنَّ اللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الاََرض
وَالشَّمْسُ والقَمَرُ وَالنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ وَكَثِيرٌ مِنَ النّاس وَكثيرٌ حقَّ عَلَيْهِ
العَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللّهُ فَما لَهُ مِن مُكرِم". (1)
فإنّ الآية تندد بالاِنسان على عدم سجوده للّه سبحانه، وما ذلك إلاّلاَنّ من
في السماوات والاَرض كلّها ساجدة للّه تبارك وتعالى.
فمجموع الآية حكمة نظرية تخبر عن سجود ما سوى اللّه له، ولكن
الغرض من بيان سجود الموجودات للّه، هو دعوة الاِنسان إلى السجود وفرضه
عليه.
2. ونظير تلك الآية قوله سبحانه: "أَفَغَيرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالاََرْضِ طَوْعاً وَكَرهاً وَإِلَيْهِ يرجعُون" (2)، ففي هذه الآية كالآية
السابقة تستدل بمعرفة نظرية وهي متابعة ما في الكون واستسلامه للّه سبحانه،
على معرفة عملية، وهي لزوم عبادة اللّه سبحانه لا غيره.
والجواب: أنّ المذكور في الآية هو الصغرى، والكبرى العملية مقدرة كما
هو واضح، غير أنّ هنا قضية عقلية تتوسط بين الصغرى والكبرى، وهي عبارة عن:
انّ خضوع الموجودات في الآية الاَُولى وتسليمها في الآية الثانية ناشىَ من
أنّه سبحانه مبدأ الوجود الاِمكاني ومفيض النعم، وانّ كلّ شيء فقير إليه، وواجب
كلّ فقير بالذات الخضوع لموجده ومفيض نعمه وليس الاِنسان مستثنى من هذه ____________
(1)الحج:18.
(2)آل عمران:83.
القاعدة.
فيجب عليه السجود كسجود الموجودات، والتسليم كتسليمها.
وكأنّ القياس بالشكل التالي:
إنّ من في السماوات والاَرض ساجد وخاضع له، وهذا هو المفهوم من
الآية، والحدّ الوسط بينها و بين الكبرى العملية هو انّ سبب السجود والخضوع
والتسليم هو الفقر، وهو أمر مشترك بينه وبين الاِنسان، فعند ذلك يستقل العقل
بوجوب التسليم، وإلاّ فلو أغمض النظر عن هذا الحدّ الاَوسط غير المذكور فيها لا
يمكن لنا الانتقال إلى بيان ما هو الواجب على الاِنسان وهو السجود للّه، وهذا هو
معنى انّ الحكمة النظرية إمّا واضحة بالذات أو منتهية إلى ما هو واضح بالذات.
3. قال سبحانه:"وَعَلَّمَ آدَمَ الاََسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ
أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هوَُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ". (1)
والآية تتضمن حكمة عملية وهي الاخبار عن تعليمه سبحانه آدم الاَسماء،
ولكنّه في الآية 35 رتب عليها حكمة عملية وهي قوله: "وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَة
فَتَكُونا مِنَ الظّالِمين" وكأنّ تعليم الاَسباب صار سبباً لحكمة عملية.
والجواب يتضح من خلال ما سبق وهو أنّ الآية تخبر عن وقوف آدم على
حقائق الاَشياء، ومنها انّالاَكل من شجرة معلومة يورث الشقاء.
وبداهة العقل عندئذٍ قاضية بوجوب الاجتناب عنها، وعلى ضوء ذلك
فالآية الاَُولى تتبنى الصغرى ومفادها حكمة نظرية. ____________
(1)البقرة:31.
والآية الثانية تتضمن حكماً عملياً جزئياً.
وليست الثانية مترشحة من الاَُولى، بل يتوسط بينهما حكم العقل، وهو
وجوب الاجتناب عن كلّ عامل للشقاء. ومن خلال هذا البيان يتضح حال
الجواب عن الآيات التالية.
4. قوله سبحانه: "إِنَّ في خَلْقِ السَّماواتِ وَالاََرْضِ وَاخْتِلافِ اللِّيلِ وَالنَّهارِ
لآياتٍ لاَُولي الاََلْباب" . (1)
فهذه الآية تتبنى معرفة نظرية، وربما يتصور أنّها صارت ذريعة لحكم
عملي مذكور في الآية التالية، أعني قوله:
"الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتفَكَّرُونَ في خَلْقِ
السَّماواتِ وَالاََرْضِ رَبَّنا ما خَلْقتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ" . (2)
وهذه الآية وإن كانت جملة خبرية لكن الغاية هي الانشاء، وفرض الذكر،
أي ليذكروا اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم.
5. قال سبحانه: "إِنَّني أَنَا اللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا" . (3)
وهذه الآية تتضمن معرفة نظرية، رتبت عليها حكمة عملية، وهي قوله:
"فَاعْبُدْني وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري" . (4)
6. قال سبحانه نقلاً عن قوم قارون، انّهم قالوا له: "وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللّهُ
إِلَيْكَ وَلا تَبغِ الْفَسادَ فِي الاََرضِ إِنَّ اللّهَ لا يُحِبُّالْمُفْسِدِينَ" . (5) ____________
(1)آل عمران:190.
(2)آل عمران:191.
(3)طه:14.
(4)طه:14.
(5)القصص:77.
فالآية تتضمن حكمة نظرية وهي كما أحسن اللّه إليك، ورتب عليها حكمة
عملية، وهي قوله: «أحسن».
7. قال سبحانه: "وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" (1)وهي حكمة نظرية، ثمّ
رتب عليها حكمة عملية، وقال: "أَلاّتَطْغَوا فِي الْمِيزَانِ" . (2)
والجواب عن الجميع كالجواب عن الآيات السابقة، وهو تخلّل قضية
واضحة بين الكبرى والصغرى وهذه القضيّة تجعل الكبرى بعمومها دليلاً على
النتيجة لا أنّها مستخرجة من الصغرى. ____________
(1)الرحمن:7.
(2)الرحمن: 8.
قد ثبت ممّا سبق استقلال العقل بدرك حسن بعض الاَفعال أو قبحها،
وحكمه بإتيان الاَوّل والانتهاء عن الثاني، وعندئذٍ يقع الكلام في أنّه هل يمكن أن
يكون حكم العقل مصدراً لحكم الشرع؟
فالعدلية ـ أعني: الشيعة والمعتزلة ـ على الملازمة فهو عندهم طريق
للوصول إلى الحكم الشرعي، وأمّا الاَشاعرة من أهل السنة والاَخبارية من الشيعة
على عدم الملازمة؛ والمهم هو تبيين محلّ النزاع، فانّه غير منقَّح في كلامهم، كما
كان الاَمر كذلك في مسألة التحسين والتقبيح.
إنّهنا مسألتين:
الاَُولى: إذا استقل العقل بالتحسين والتقبيح، كمدح المحسن وذم المسيء،
فهل يستقل بأنّ الاَمر كذلك عند الشرع وانّه أيضاً باعث إلى الاِحسان، وزاجر عن
الظلم ومادح المحسن وذام للمسيء؟
الثانية: إذا استقل العقل بوجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه، واستقل
بلزوم فعل الاَُولى والاجتناب عن الثانية، فهل يكشف ذلك عن كونه حراماً، أو
واجباً عند الشرع، بحيث يكون العلم بالمصالح والمفساد من مصادر التشريع
الاِسلامي أو لا ؟
ويكمن محل النزاع في المسألة الاَُولى، وهو أنّ حسن الاَفعال وقبحها عند
العقل ـ مع قطع النظر عن حيازتها للمصلحة أو المفسدة ـ يلازم كونها كذلك عند
الشرع، فما هو حسن عند العقل، حسن عند الشرع، وهكذا القبيح، وما يأمر به
العقل لاَجل حسنه أو ينهى عنه لاَجل قبحه، كذلك عند الشرع أيضاً.
وأمّا المسألة الثانية فهي خارجة عن محط البحث، لاَنّ العقل عاجز عن أن
يحيط بالمصالح والمفاسد حتى يصبح من مصادر التشريع بهذا المعنى.
ومن هنا يُعْلم أنّ الباحث عن الملازمة إنّما يبحث بالمعنى الاَوّل، وهو أنّ
الحسن عند العقل هل يستلزم كونه كذلك عند الشرع، وامّا أنّ الفعل ذات
المصلحة أو المفسدة، طريق إلى الحكم الشرعي، فهذا ممّا لا يمكن الاعتماد عليه،
لقصور العقل عن الاِحاطة بالملاكات بالمعنى المتقدّم، فربما يدرك المصلحة
ويغفل عن موانعها، أو يقف على المفسدة ويغفل عن موانعها، فإدراك العقل
بالمصالح والمفاسد، لا يكون دليلاً على أنّها ملاكات تامّة لتشريع الحكم على
وفقها.
فلو قلنا بأنّ العقل من مصادر التشريع فإنّما هو بالمعنى الاَوّل، لاَنّ المدرَك
أمر عام غير خاص بمدرِك معين، وهوحسن الفعل بما هو، وقبحه كذلك إذا
صدرا من فاعل مختار.
وبذلك يعلم أنّالقول بالملازمة لا يمت بصلة إلى القول بفتح الذرائع أو
القياس والاستحسان، فإنّ ذلك التوهم إنّما يصحّ لو فسِّرت الملازمة بالمعنى
الثاني لا بالمعنى الاَوّل.
وقد صرّح بعض المحقّقين من علمائنا بما ذكرنا، ولنذكر هنا كلام المحقّق
الاصفهاني في تعليقته على الكفاية: «امّا استتباع حكم العقل النظري للحكم
الشرعي المولوي فمجمل القول فيه انّمصالح الاَحكام الشرعية المولوية التي هي
ملاكات تلك الاَحكام ومناطاتها لا تندرج تحت ضابط ولا تجب أن تكون هي
بعينها المصالح العمومية المبني عليها حفظ النظام وإبقاء النوع، وعليه فلا سبيل
للعقل بما هو إليها، نعم لو اتّفق إدراك مصلحة حاصلة لبعض الاَحكام بحيث
كانت في نظر العقل تامة الاقتضاء فهل يحكم العقل بحكم الشارع على طبقها أم
لا. (1)
قال الشيخ المظفرـ بعد تقرير بحث أُستاذه ـ: وعلى هذا فلا سبيل للعقل بما
هو عقل إلى إدراك جميع ملاكات الاَحكام الشرعية، فإذا أدرك العقل المصلحة
في شيء أو المفسدة في آخر، ولم يكن إدراكه مستنداً إلى المصلحة أو المفسدة
العامتين اللتين يتساوى في إدراكهما جميع العقلاء، فانّه ـ أعني: العقل ـ لا سبيل له
إلى الحكم بأنّ هذا المدرَك، يجب أن يحكم به الشارع على طبق حكم العقل، إذ
يحتمل انّ هناك ما هو مناط لحكم الشارع، غير ما أدرك العقل أو أنّ هناك مانعاً
يمنع من حكم الشارع على طبق ما أدركه العقل، وإن كان ما أدرك مقتضياً لحكم
الشارع.
ولاَجل هذا نقول: إنّه ليس كلّ ما حكم به الشرع يجب أن يحكم به العقل،
وإلى هذا يشير إمامنا الصادق (عليه السلام) : «إنّ دين اللّه لا يصاب بالعقل»
ولاَجل هذا نحن لا نعتبر القياس والاستحسان من الاَدلة الشرعية على
الاَحكام.(2) المنهج الوسيط:
قد تقدم ممّا ذكرنا أنّ ثمة اتجاهات ثلاثة: ____________
(1)نهاية الدراية:2|130.
(2)أُصول الفقه:1|239ـ 240.
الاَوّل: من يضفي على العقل قوة التشريع وإمكان إدراكه ملاكات الاَحكام
ومصالحها ومفاسدها.
الثاني: من يعزل العقل عن مقام التشريع مطلقاً.
الثالث: من اتخذ اتجاهاً وسطاً فلا يعترف باستطاعة العقل على درك
ملاكات الاَحكام التي لا يقف عليها إلاّ علاّم الغيوب، وانّ ما يدركه من المصالح
والمفساد ليست ملاكات تامة لتشريع الحكم على وفقها، وفي الوقت نفسه
يعترف باستطاعة العقل لدرك حسن الاَفعال وقبحها.
فمن اختار الاتجاه الاَوّل فقد ذهب إلى حجّية القياس التي تبتني على درك
ملاكات الاَحكام بالحدس والتخمين، مع أنّ دين اللّه لا يصاب بالعقول.
كما أنّ أصحاب الاتجاه الثاني عزلوا العقل عن درك أبسط الاَُمور
وأوضحها.
والاتجاه الثالث هو الوسط بينها.
وبالوقوف على محلّالنزاع تعرف أنّ أدلة الكثير من المثبتين والنافين
متداخلة، وما ذلك إلاّلاَنّهم لم يحرّروا محل النزاع.
ولنقدم دليل المختار ثمّ نعرج إلى أدلة نفاة القول بالملازمة.
دليل الملازمة يكمن في الوقوف على حدود ما أدركه العقل في مجال
الحسن والقبح، فهناك احتمالات:
أ. أن يكون المدرَك للعقل هو حسن الفعل أو قبحه إذا صدر من الاِنسان.
ب. أن يكون المدرَك للعقل هوحسن الفعل أو قبحه من حيث صدوره عن
الفاعل المختار سواء أكان ممكناً كالاِنسان أو واجباً كاللّه سبحانه.
فلو كان المدرك للعقل هو الاَوّل لم يكن لكشف الملازمة هناك طريق، لاَنّ
المفروض عدم سعة مدركه، واختصاص درك الحسن والقبح لفاعل مختار خاصّ
كالاِنسان.
وأمّا إذا كان المدرك بنحو ما ذكر في القسم الثاني، فالفاعل المختار يصدق
على الممكن والواجب، وعليه فيكون الفعل الموصوف بالحسن والقبح عند
الاِنسان هو أيضاً كذلك عند الواجب عزّ اسمه.
والدليل على أنّ ما يدركه العقل أمر واسع يعم كلا الفاعلين هو ما أقمنا
برهانه من أنّ الموضوع للحسن والقبح هو نفس الفعل، بغضِّ النظر عن فاعل
خاص، بل مع غض النظر عمّا يترتب عليه من المصالح والمفساد، فإذا كان هذا
هو الموضوع فما وقف عليه العقل بفطرته، أمر واقعي يكون الواجب والممكن
أمامه سواء.
وهذا نظير إدراكات العقل في مجال الحكمة النظرية، فلو أدرك العقل
بفضل البداهة أو التجربة بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، فقد أدرك أمراً واقعياً
من دون مدخلية للمدرك في حقيقتها، فإذا كانت زوايا المثلث محكومة بهذا
الحكم فإنّما هو لاَجل طبيعة المثلث، فإذا كان كذلك، فالمعلوم عند الاِنسان هو
نفس المعلوم عند اللّه، والفرق بين العقل النظري والعملي أنّ مدركاته في الاَوّل
إخبار عن الواقع، كما أنّ مدركاته في الثاني إنشاء وبعث وزجر.
ثمّ إنّ للمحقّق القمي بياناً وافياً في هذا الموضوع نقتبس منه ما يلي، يقول:
إنّالعقل يدرك الحسن والقبح بمعنى أنّ بعض الاَفعال على وجه يستحق
فاعله من حيث هو فاعله، المدحَ، وبعضها على وجه يستحق فاعله من حيث
فاعله، الذمَّ، سواء أكان فيه من الشرع خطاب أم لم يكن، فانّه يدرك في شيء
حسناً لا يرضى بتركه، ويحكم بلزوم الاِتيان به، وفي بعضها قبحاً يحكم بلزوم
تركه، وقد يجوز الترك في بعضها والفعل في بعضها الآخر، ومن الواضح أنّه
يدرك أنّ بعض هذه الاَفعال ممّا لا يرضى اللّه بتركه ويريده من عباده بعنوان
اللزوم، وبعضها ممّا لا يرضى بفعله ويريد تركه بعنوان اللزوم، ولازم ذلك أنّه
تعالى طلب منّا الفعل والترك بلسان العقل.
فكما أنّ الرسول الظاهر يبيِّن أحكام اللّه وأوامره ونواهيه فكذلك العقل
يبيِّن بعضها، فَمَنْ حكَم عقلُه بوجود المبدع الحكيم القادر، العدل الصانع، العالم،
يحكم بأنّه يجازي العبد القوي بسبب ظلمه على العبد الضعيف بالعقاب، وكذلك
الودعي الذي أئتمنه عبد من عباده لا سيما إذا كان ذلك العبد محتاجاً غاية
الاحتياج بسبب ترك ردها إليه، ويجازي العبد القوي الرفيع برأفته على العبد
الضعيف العاجز المحتاج، بالثواب، فلو لم يكن نهانا عن الظلم وأمرنا برد الوديعة،
ولم يكن الظلم وترك الرد مخالفة له، لما حكم العقل بموَاخذة اللّه وعقابه، فانّ
القبح الذاتي يكفي فيه محض استحقاق الذم، فيثبت من ذلك أنّ الظلم حرام شرعاً
وردّ الوديعة واجب شرعي.
ثمّ أورد على نفسه إشكالاً وقال: إنّالثواب والعقاب إنّما يترتبان على
الاِطاعة والمخالفة لا غير، والاِطاعة والمخالفة لا تتحقق إلاّ بموافقة الاَوامر
والنواهي من الكتاب والسنة ومخالفتهما، وحيث لا أمر ولا نهي ولا خطاب فلا
إطاعة ولا ثواب ولا عقاب.
ثمّأجاب عنه: بأنّ انحصار الطاعة والمخالفة في موافقة الخطاب اللفظي
ومخالفته، دعوى بلا دليل، بل هما موافقة طلب الشارع ومخالفته وإن كان ذلك
الطلب بلسان العقل، ونظير ذلك أنّ اللّه تعالى إذا كلّف نبيّه بواسطة إلهام من دون
نزول وحي من جبرئيل (عليه السلام) وإتيان كلام، وامتثله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيقال إنّه أطاع اللّه جزماً والعقل فينا نظير الاِلهام فيه.
ثمّ يقول: إنّمن يدّعي حكم العقل بوجوب ردّالوديعة وحرمة الظلم يدّعي
القطع بأنّ اللّه تعالى خاطبه بذلك بلسان العقل، فكيف يجوز العمل بالظن
بخطاب اللّه تعالى وتكليفه ولا يجوز العمل مع اليقين به؟ فإن كان ولابدّ من
المناقشة فليكتف في منع حصول هذا القطع من جهة العقل وانّه لا يمكن
ذلك.(1)
وكلامه هذا كلام رصين وكان في وسعه الاقتصار على استكشاف العقل
حكم الشارع بالوجوب والحرمة دون الجزاء بالثواب والعقاب، لاَنّ الامتثال لا
يلازم الثواب لما قرر في محله من أنّ الثواب تفضل من اللّه سبحانه وليس
استحقاقاً.
وبذلك ثبت أنّما يدركه العقل في مجال العقل العملي من الحسن والقبح
قضية شمولية تعم كلّفاعل مختار من غير فرق بين الممكن والواجب. ____________
(1)القوانين:2|2 ـ 3.
الفصل الخامس عشر
أدلّة نفاة الملازمة
إنّ لنفاة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع أدلة مختلفة لا تنصبُّ على
أمر واحد، وهذا يعرب عن أنّ محلّ النزاع لم يكن منقَّحاً بين المثبتين أنفسهم
فضلاً عن النافين.
وقد مرّ ـ فيما سبـق ـ أنّمحط النزاع ينصبُّ على الملازمة بين درك حسن
الشيء وبعث الشارع إليه، وقبح الشيء وزجر الشارع عنه، فمن قائل بالملازمة،
ومن قائل بعدمها.
وامّا أنّ إدراك العقل للمصالح والمفاسد هل يلازم تشريع الوجوب من قبل
الشارع على وفق المصالح، والحرمة على وفق المفاسد أو لا ؟ فهذا غير مطروح
بالمرة، لاَنّ القائلين بالملازمة ـ كأكثر الاَُصوليين من الشيعة الاِمامية ـ ينفون هذا
النوع من الملازمة، بادّعاء أنّالعقل عاجز عن إدراك مناطات الاَحكام وملاكاتها،
والمصالح التامّة والمفاسد كذلك، فليس العلم بهما ملازماً للتشريع.
إذا عرفت ذلك، فنقول: 1. دليل الزركشي على نفي الملازمة:
إنّ بدر الدين الزركشي (745ـ 794هـ) ـ الذي هو من المتحمسين لنفي
الملازمـة ـ تخيل أنّالنزاع بين إدراك المصالح والمفاسد، وبين الوجوب والحرمة
، فجعل يرد ذلك بقوله:
إنّ الحسن والقبح ذاتيان، والوجوب والحرمة شرعيان، وأنّه لا ملازمة
بينهما، والمعتزلة لا ينكرون أنّ اللّه تعالى هو الشارع للاَحكام وإنّما يقولون إنّ
العقل يدرك أنّ اللّه شرّع أحكام الاَفعال بحسب ما يظهر من مصالحها ومفاسدها،
فهو طريق عندهم إلى العلم بالحكم الشرعي، والحكم الشرعي تابع لهما لا
عينهما، فما كان حسناً جوّزه الشارع وما كان قبيحاً منعه، فصار عند المعتزلة
حكمان أحدهما عقلي والآخر شرعي تابع له. (1)
يلاحظ على كلامه، أوّلاً: زعمه أنّ النزاع في الملازمة بين المصلحة
والوجوب، والمفسدة والحرمة، مع أنّك عرفت أنّ النزاع في غيره.
نعم هناك نزاع آخر في أنّ أحكام الشارع تابعة للمصالح والمفاسد أوّلاً، ولا
يمت إلى بحثنا بصلة.
وثانياً: تصوَّر أنّ القول بالملازمة يخرج الشارع عن كونه شارعاً للحكم،
ولذلك قال: إنّ المعتزلة لا ينكرون أنّ اللّه هو الشارع للاَحكام.
أقول: إنّ المعتزلة وعموم المسلمين لا ينكرون أنّاللّه هو الشارع، وليس
القول بالملازمة بمعنى نفي كونه سبحانه شارعاً، بل معناه استكشاف حكمه الذي
هو فعله من ذلك الطريق.
ثمّ إنّه أقام الدليل على نفي الملازمة، وقال: إنّ هنا أمرين:
الاَوّل: إدراك العقل حسن الاَشياء وقبحها.
الثاني: انّذلك كاف في الثواب والعقاب وإن لم يرد في الشرع، ولا تلازم
بين الاَمرين بدليل قوله سبحانه: "ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَالْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها ____________
(1)تشنيف المسامع بجمع الجوامع: 1|133 ـ 139، كما في التعليقة على الوافية : 175 ـ 177 .
غافِلُونَ" (1)والمراد من قوله :"بِظُلم" أي بقبيح فعلهم، فلو كان حكم العقل بقبح
الظلم ملازماً لعقابه سبحانه لما صحّ مضمون الآية الذي يعلق العقاب على بيانه.
يلاحظ عليه: أنّ النزاع ليس بين حسن الاَشياء وترتّب الثواب، ولا قبح
الشيء وترتب العقاب، بل النزاع بين حسن الشيء وبعث الشارع إليه، وقبح
الشيء وزجر الشارع عنه، وأمّا الثواب والعقاب فربما لا يترتبان حتى على الحكم
الشرعي المستفاد من الكتاب والسنّة بناء على أنّ الثواب من باب التفضّل لا
الاستحقاق.
وأمّا عدم عقابه سبحانه لاَهل القرى فإنّما لغفلتهم وإلاّلعمّهم العذاب، فلا
يكون دليلاً على نفي العقاب فيمن خالف حكم العقل، وهو غير غافل.
وبذلك يعلم الجواب عن الاستدلال ببعض الآيات التي تعلّق العذاب على
مجيىَ النذير، بزعم أنّه لو كان حكم العقل كافياً في العقاب لما صحّ هذا التعليق،
وقد عرفت أنّ النزاع ليس بين الحسن وترتب الثواب، والقبح وترتب العقاب
حتى يعد عدم ترتّب العقاب فيما يدرك العقل قبحه دليلاً على عدم الملازمة لما
عرفت من أنّ الثواب والعقاب أمران مستقلان، فمن قال بالاستحقاق يقول
بترتبهما على الحسن والقبح، ومن قال بالتفضّل في الثواب لا يقول بالترتب. وإنّ
محط النزاع بين إدراك الحسن والبعث وإدراك القبح والزجر .
وبالجملة فكلام الزركشي لا يخلو من خلط. 2. دليل صاحب الوافية على نفي الملازمة
إنّ الفاضل التوني (المتوفّى1070هـ) صاحب الوافية ممن قال بالتحسين ____________
(1)الاَنعام:131.
والتقبيح العقليين، ولكنّه لم يلتزم بالملازمة، وقال: والحقّ ثبوت الحسن والقبح
العقليين، ولكن في إثبات الحكم الشرعي ـ كالوجوب والحرمة ـ بهما نظر وتأمّل،
لاَنّ قوله تعالى: "وَما كُنّا مُعَذِّبين حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (1)ظاهر في أنّ العقاب لا
يكون إلاّ بعد بعثة الرسول، فلا وجوب ولا تحريم إلاّ وهو مستفاد من الرسول (صلى
الله عليه وآله وسلم).
وأيضاً انّ العقل يحكم بأنّه يبعد من اللّه توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد
إدراك العقول مع شدة اختلافها في الاِدراكات من غير انضباطه بنص، أو شرع،
فانّه يوجب الاختلاف والنزاع، مع أنّ رفعه من إحدى الفوائد لاِرسال الرسل
ونصب الاَوصياء. (2)
يلاحظ عليه أوّلاً: أنّه إذا وقف العقل على الملازمة بين حسن الشيء
والبعث إليه، وقبحه والزجر عنه، يستكشف بيان الشارع أيضاً عن طريق رسوله
غير أنّ هذا الرسول، رسول باطني لا ظاهري كما في رواية هشام عن الكاظم (عليه
السلام): «يا هشام إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة، وحجّة باطنة. أمّا
الظاهرة فالرسل والاَنبياء والاَئمّة، وأمّا الباطنة فالعقول». (3)
وثانياً: خروج ما ذكره عن محط البحث، إذ ليس البحث في إدراك مناطات
الاَحكام وملاكاتها حتى يستكشف منها حكم الشرع، ليرد عليه بأنّه يبعد من اللّه
توكيل بعض أحكامه إلى مجرّد إدراك العقول مع شدة اختلافها في الاِدراكات من
غير انضباطه بنصّ أو شرع... وإنّما الكلام في الملازمة بين حسن الشيء وقبحه،
وليسا من الاَُمور التي تختلف فيها العقول، لوضوح درك حسن الشيء وقبحه إذا
عرض الفعل على الفطرة. ____________
(1)الاِسراء:15.
(2)الوافية:172ـ 174.
(3)الكافي:1|16.
3. دليل السيد الصدر على نفي التسمية
يرى السيد صدر الدين محمد باقر الرضوي القمي(المتوفّى1160هـ)
الملازمةَ، ولكن يقول بأنّ المكشوف عن طريق الملازمة لا يسمى حكماً شرعياً،
ولا يترتب عليه الثواب والعقاب، قال: إنّا إذا أدركنا العلة التامة لحكم العقل
بوجوب شيء أو حرمته مثلاً، يصح أن يحكم عليه بأنّ الشارع حكم أيضاً مثل
حكم العقل عليه، ولكن لما فرضنا عدم بلوغ التكليف إلينا لا يترتب عليه الثواب
وإن كان يترتب على نفس الفعل شيء من قرب وبعد، فلا يكون واجباً أو حراماً
شرعياً. إلى أن يقول: وجود الاِضافة التي يعبر عنها بالخطاب معتبر في تحقّق
حقيقة الحكم وليس مجرد التصديق من الشارع بأنّشيئاً خاصاً ممّا يحسن فعله أو
قبحه وكذا إرادته من المكلَّف أن يفعل أو يترك، ورضاه من فعل ومقته، حكماً
شرعياً من دون أن يصير المكلّف مخاطباً بالفعل بأن يصل إليه قول النبي : أن صلِّ
وصم.
وكذا إخبار الشرع بأنّ هذا الشيء واجب أو حرام أو طلبه قبل بلوغ الخطاب
ليس حكماً فعلياً وإنّما يترتب الثواب والعقاب على التكليف الخطابي، والقاعدة
لا تثبت الخطاب حتى يترتب عليه.(1) وقد أورد عليه الشيخ الاَنصاري إشكالات عديدة ذكرناها في الرسالة
التي ألّفناها حول الملازمة بين العقل والشرع التي نشرتها الاَمانة العامة للموَتمر
العالمي لاِحياء الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الاَعظم، فمن أراد التفصيل
فليرجع إليها . (2)
وثمة نكتة جديرة بالاِشارة وهي: إن أراد من الحكم صدور الخطاب على ____________
(1)مطارح الاَنظار: رسالة في الاَدلة العقلية: 236.
(2)الملازمة بين حكم العقل والشرع عند الشيخ الاَنصاري: 52 ـ 53.
وجه يصدق أنّه حكم تنجيزي صادر من الشارع، فهذا ممّا لا يدّعيه القائل
بالملازمة، وإن أراد من الحكم كونه مطلوباً ومراداً للشارع، فهو أمر ثابت، فانّ
الفعل إذا أدرك حسن الشيء، فقد أدرك انّه كذلك عند كلّ عاقل حكيم فكيف
بمن هو سيد العقلاء.
بل لا يبعد ترتب العقاب والثواب على الحكم المستكشف، فانّ العقل إذا
أدرك حسن الشيء فإنّما يدركه على وجه انّ العامل به ممدوح مثاب وانّ مرتكب
قبيح الشيء مذموم معاقب، فلو كان دركه بهذا النحو يكون الحكم المستكشف
أيضاً على هذا النحو من الوصف .
وهناك مثال نلفت نظر القارىَ إليه: ألا ترى لو علم العبد بعدم إرادة المولى
قتل ولده أو أراد إكرامه، فقتله أو أكرمه فيعد عند العقلاء عاصياً عند القتل ومطيعاً
عند الاِكرام من دون أي شبهة. 4. دليل صاحب الفصول على نفي الملازمة
حرّر صاحب الفصول (المتوفّى1261هـ) محلّ النزاع، وقال: نزاعهم في
المقام يرجع إلى مقامين:
المقام الاَوّل: إذا أدرك العقل جهات الفعل من حسن وقبح، فحكم بوجوبه
أو حرمته أو غير ذلك، فهل يكشف ذلك عن حكمه الشرعي ويستلزم أن يكون
قد حكم الشارع أيضاً على حسبه ومقتضاه من وجوب أو حرمة أو غير ذلك، أو لا
يستلزم ذلك؟ ثمّ إنّ عدم الاستلزام يتصور على وجهين:
1. أن يُجوَّز حكم الشارع على خلافه، وعلى هذا تنفى الملازمة من
الجانبين، فلا يستلزم حكم العقل حكم الشرع ولا حكم الشرع حكم العقل.
2. يجوز أن لا يكون للشارع ـ فيما حكم العقل فيه بوجوب أو حرمة مثلاً ـ
حكم أصلاً ، لا موافقاً ولا مخالفاً. ذلك بأن تخلو الواقعة عن الحكم رأساً، وعلى
هذا تنفى الملازمة من جانب واحد، وأمّا الجانب الآخر فتجوَّز الملازمة.
المقام الثاني: انّ عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي وجزمت به، فهل يجوز
لنا اتّباعها ويثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا ؟ (1)
أما المقام الاَوّل، فقال: الحقّ أنّه لا ملازمة بين حسن الفعل وقبحه، و بين
وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه، ثمّ استدل على ذلك بعدة نقوض مكانَ إقامة
الدليل.
الاَوّل: حسن التكليف الابتدائي، وتكليف العبد لا لاَجل حسن الفعل بل
لاَجل اختباره وانّه هل يمتثل أو لا.
يلاحظ عليه: أنّ المدّعى هو أنَّ حسن الفعل يستدعي التكليف لا أنّ كلّما
يصحّ التكليف فيه، فإنّما هو لاَجل حسن الفعل.
وبعبارة أُخرى: الكلام في أنّ العقل إذا استقل بحسن الشيء أو قبحه يلازم
كونه مطلوباً ومنزجراً عند الشارع، وليس الكلام في أنّ كلّ ما يصحّ فيه التكليف،
فإنّما هو لاَجل حسن الفعل، بل ربما يكون حسن التكليف رهن أمر آخر غير
حسن الفعل وهو اختبار العبد وبيان مقدار إطاعته وامتثاله.
الثاني: التكاليف التي ترد مورد التقية، فانّ تلك التكاليف موصوفة بالحسن
والرجحان لما فيها من صون المكلّف عن مكائد الاَعداء، وانّ تجرد ما كُلف به
عن الحسن الابتدائي.
يلاحظ عليه: بنفس ما أوردناه على الدليل الاَوّل، إذ البحث في أنّ حسن
الفعل وقبحه يلازم بعث المولى أو زجره، وأمّا انّ المصحّح للتكليف فهو منحصر ____________
(1)الفصول: 337.
في حسن الفعل فليس بمطروح، بل ربما يكون المصحّح أمراً آخر غير حسن
الفعل و هو حفظ النفوس والاَعراض والاَموال.
الثالث: أنّكثيراً من علل الشرائع غير موجودة، ومع ذلك يصحّ التكليف
فيما يفقد تلك الحكم كالاعتداد المعلل بعدم اختلاط المياه، مع أنّه يجب الاعتداد
حتى مع القطع بعدم الاختلاط كالغائب عنها زوجها، وكتشريع غسل الجمعة لرفع
رائحة الآباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها، وكراهة الصلاة في الاَودية لكونها
مظنة لمفاجأة السيل مع ثبوتها والقطع بعدمها، وقضية ذلك، حسن التكليف مع
عدم حسن الفعل أو القبح من الفعل.
والجواب نفس الجواب وهو انّ الملازمة بين حسن الفعل وحكم الشرع لا
بين حكم الشرع وحسن الفعل ومثله جانب القبح.
الرابع: الاَخبار الدالة على عدم تعلّق بعض التكاليف رفعاً للكلفة كقوله:
«لولا أشقّ على أُمّتي لاَمرتهم بالسواك» فالفعل الشاق قد يكون حسناً لكن لا
يحصل الاِلزام به لما فيه من التضييق على المكلف فالحسن موجود مع عدم الاَمر
.
يلاحظ عليه: أنّ المثال خارج عن محط البحث وهو انّ حسن الفعل يلازم
البعث وقبحه يلازم الزجر، والسواك ليس ممّا يستقل بحسنه العقل أو يستقل
بقبح تركه، وإنّما وقف العقل على ذلك عن طريق التجارب، حيث إنّ للسواك
دوراً في سلامة المزاج وصحته، فيدخل في باب إحراز المصالح والمفاسد، وقد
قلنا إنّ العلم بالمصالح والمفاسد لا يلازم الوجوب أو الحرمة لعدم إحاطة العقل
بالمناطات والملاكات فربَّ مصلحة تتزاحم بشيء آخر كما في المقام وهي
المشقة.
الخامس: الصبي المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت فيه
الاَحكام العقلية في حقّه كغيره، ومع ذلك لم يكلفه الشارع بوجوب ولا تحريم
لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما من التوسعة عليه.
يلاحظ عليه: نمنع أوّلاً عدم ثبوت جميع الاَحكام الشرعية في حقّه النابعة
من الاَحكام العقلية، كحرمة الظلم ووجوب ردّالاَمانة. وأمّا المرفوع فإنّما هو
سائرها.
وثانياً: انّ عدم تكليفه بسائر الاَحكام فلاَجل أنّ الكلام فيما إذا كان الحسن
علة تامة للتكليف ولم يكن مزاحماً بشيء آخر، والمقام من هذا القبيل فانّ حسن
الفعل وإن كان يقتضي التكليف لكن تعليق التكليف على الصلاحيات الفردية
يوجب الفوضى في عالم التكليف، ولاَجل إيصاد هذا الباب أُلغيت الصلاحيات
الفردية واقتصر على تعيين السن في البنين والبنات، وعلى ضوء ذلك فلا محيص
من عدم الاعتداد بالذكاء الشخصي وإن كان صالحاً للتكليف، ولم يكن الحسن في
المقام علة تامة للتكليف.
وصفوة البحث انّ ما ذكره ذلك المحقق من النقوض على القاعدة لا يصلح
للاحتجاج بها، لاَنّها على قسمين:
1. ما لاتمس بالقاعدة، حيث إنّ المدّعى هو أنّ حسن الفعل يلازم تكليف
الشرع وليس المدَعى هو أنّ حسن التكليف مطلقاً رهن حسن الفعل، فالملازمة
بين حسن الفعل وحسن التكليف، لا بين حسن التكليف وحسن الفعل، فالموارد
التي نقض بها كلّها من هذا القبيل، ففيها حسن التكليف وليس فيها حسن الفعل،
ولا يضرّنا هذا الانفكاك، وإنّما المدعى ملازمة حسن الفعل مع حسن التكليف لا
العكس.
2. ما يرجع إلى أنّ العلم بالمصالح لا يلازم التكليف وقد عرفنا صحّته كما
في مورد السواك حيث إنّ المصلحة لا تلازم التكليف، ونظيره تكليف المراهق
فانّ هناك علماً بمصلحة التكليف، وقد قلنا انّ العلم بالمصلحة لا يلازم إذ ليس
للعقل إحاطة كاملة بالموانع والعوائق.
وأمّا المقام الثاني، أعني: أنّ عقولنا إذا أدركت الحكم الشرعي وجزمت به،
فهل يجوز لنا اتباعها ويثبت بذلك الحكم في حقّنا أو لا ؟
وقد أذعن بالملازمة في المقام الثاني وانّه لا يتوقف وصول التكليف بطريق
سمعي، وقال: إنّ احتمال كون التكليف أو حسنه مشروطاً ببلوغه بطريق سمعي
مع إمكان دعوى كونه مقطوع العدم في بعض الموارد ممّا لا يعتد به العقل في
إهمال ما أدركه من الجهات القطعية، لظهور أنّ الاحتمال لا يعارض اليقين لا سيما
إذا كان بعيداً أو ليس في السمع ما يدل على هذا الاشتراط لما سنبيّنه من بطلان ما
تمسك به الخصم وعدم قيام دليل صالح له سواه، ويدل عليه قوله تعالى: "يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّلَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ
الْخَبائِث"(1).(2)
ولعل بيانه كاف في لزوم الطاعة ، وقد ذكر الشيخ الاَنصاري في المقام كلاماً
في ردّ الاَخبارية الذين يظنون لزوم السماع من الصادقين في وجوب الطاعة فمن
أراد فلينظر إليه. (3) ____________
(1)الاَعراف:157.
(2)الفصول:340.
(3)الفرائد: مبحث القطع، التنبيه الثاني: 11.
5. دليل المحقّق الخراساني على نفي الملازمة
إنّالمحقّـق الخـراسانـي (1255ـ 1329هـ) وافـق صاحـب الفصول في
نظريته ونفى الملازمة بين الحكمين، وقدَّم لتحقيق مرامه أمرين، والمهم هو الاَمر
الثاني الذي نأتي بخلاصته:
1. انّ مجرد حسن فعل أو قبحه لا يوجب عقلاً إرادة العقلاء إياه بحيث
يبعثون إليه عبيدهم أو يزجرونهم عنه، كما يحسِّنون أو يقبِّحون عليه لو اتفق
صدوره من أحد، بل لابدّ في حصولهما من دواع وأغراض، فربما يكون لهم داع
إلى صدور الحسن من العبد وربما لا يكون.
ثمّ استشهد على ذلك بأنّه كثيراً ما يختار العقلاء فعلاً قبيحاً وترك الحسن،
والسر هو أنّ الداعي الذي هو سبب الاِرادة يختلف باختلاف الاَحوال
والاَشخاص وغلبة الشهوات والتفاوت في الملاكات.
يلاحظ عليه: أنّ ما أفاده من أنّ الاِنسان ربما يحسِّن الشيء ولا يريده، كما لا
يريد الاِحسان من عدوه، وربما يقبح الشيء ولا يكرهه، كما في الظلم على العدو،
إنّما يتم في الاَفراد الغارقة في الاَغراض الشخصية والمصالح المادية، وأمّا الاِنسان
المنسلخ عنها، فالاِيمان فيه يدعو إلى العمل ولا ينفك عنه.
فالقوة العاقلة التي هي رئيس القوى إذا كانت معجبة بالشيء أو مشمئزة منه،
تطلب فعل الاَوّل وترك الثاني، وإنّما ينفك الاِيمان عن العمل، إذا كانت القوة
العاقلة، محكومة بالدواعي النفسانية والاَغراض المادية، وهي خارجة عن البحث.
وبالجملة إذا أدرك العقل المجرد من الرواسب انّ الاِحسان، حسن وانّ
فعله كمال له فيطلبه، وانّ الظلم قبيح وارتكابه نقص له فيزجر عنه أو يشمئز منه.
وبعبارة أُخرى: إذا أدرك انّالفعل كمال، أو هو نقص له، فكيف يتوقف عن
الاَمر بتحصيله مع أنّ الميل إلى الكمال، أمر فطري جُبل عليه الاِنسان، ولاَجل ذلك
لا ينفك ذاك العلم عن الطلب والزجر مادام زمان القضاء بيد القوة العاقلة.
2. ثمّ إنّه (قدّس سرّه)ردّ الملازمة بمثالين:
الاَوّل: الصبي الذي تفتحت قريحته وحسن ذكائه فالعقل يحكم بحسن
التكليف وليس في الشرع كذلك.
الثاني: جواز خلو الواقعة من الحكم الشرعي كما في الصبي وكافة الناس
في صدر الاِسلام في الجملة فهناك حسن الفعل موجود والحكم الشرعي مفقود.
والجواب على المثالين واضح لما عرفت من خروج المثال الاَوّل عن محط
البحث، لما مرّ من أمرين:
1. منع عدم كونه محكوماً بما يستقل العقل بقبحه كالظلم.
2. إنّ عدم تكليفه بسائر الاَحكام الشرعية، فلاَجل أنّ تعليق التكليف على
الصلاحيات الفردية يوجب الفوضى في عالم التكليف بل ربّما يوجب العسر في
تشخيص الموضوع بخلاف ما إذا علق التكليف على البلوغ المحدد بعلائم ثلاثة
لا سيما السن.
وبالجملة كلّمورد يحتمل عدم كون الحسن والقبح علة تامة للطلب
والزجر وابتلائه بمانع فلا يحكم بالملازمة به .
وأمّا ما ذكره من النقض من إمكان خلو الواقعة من الحكم الشرعي فهذا ما لا
تصدقه الروايات المتضافرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام)، وقال:
«ألا ما من شيء يقرّبكم إلى الجنة ويبعّدكم عن النار إلاّوقد أمر اللّه به، ألا ما من
شيء يقرّبكم إلى النار ويبعّدكم عن الجنة إلاّوقد نهاكم عنه». (1)
إلى هنا تمّ بعض ما استدل به على نفي الملازمة بين الحكم العقلي
والشرعي، وهناك كلام للمحقّق الاصفهاني وتلميذه الشيخ المظفر، فقد أوردنا
كلامهما في رسالة خاصة أفردناها لبيان الملازمة بين حكمي العقل والشرع فمن
أراد، فليرجع إليها. (2)
ولما كان لمسألة التحسين والتقبيح العقليين صلة تامة بالاَخلاق أردفنا هذه
الرسالة برسالة أُخرى تبحث في فلسفة الاَخلاق والمذاهب الاَخلاقية على وجه
الاِيجاز.
تم الكلام في التحسين والتقب
الحكمين
ليلة العشرين من ربيع الثاني من شهور عام 1420 هـ
والحمد للّه رب العالمين
____________
(1)البحار:70| 96، ح 3.
(2)الملازمة بين حكمي العقل والشرع عند الشيخ الاَنصاري:68ـ 74.