كتاب رسالة في التحسين والتقبيح العقليين للأستاذ جعفر السبحاني ص 48 - ص 74
( 48 )
الفصل التاسع
أدلّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين
أقام القائلون بالتحسين والتقبيح العقليين أدلّة ساطعة على أنّ العقل يدرك حسن بعض الاَفعال وقبحها، فيبعث إلى الاَوّل، ويزجر عن الثاني. ونحن نقتصر في هذا المقام على دلائل ثلاثة:
الاَوّل: بداهة العقل
إنّالحكم المزبور من الاَحكام البديهية للعقل العملي، وكلّ إنسان يجد من نفسه حسن العدل وقبح الظلم، وإذا عرض الاَمرين على وجدانه وعقله يجد في نفسه نزوعاً إلى العدل وتنفُّراً عن الظلم، وهكذا سائر الاَفعال التي تعد من مشتقات الاَمرين.
وربما يقال: إنّ الحكم بالتحسين والتقبيح ليس ناتجاً من صميم العقل، وإنّما هو وليد التعاليم الدينية الراسخة، التي يعتمد عليها المصلحون في دعواتهم، فصار ذلك سبباً لرسوخ تلك الفكرة في أذهان الناس.
ولنا مع هذا الكلام وقفة قصيرة، ذلك أنّه لو كانت تلك الفكرة ناتجة من دعوة المصلحين الذين حازوا على سهم وافر فيها، لاختصت بهم، ولكن نجد أنّتلك الفكرة عامة تشمل كافة الاَُمم والطوائف البشرية حتى الذين لا يمتلكون خلفيات إيمانية، وقد أشار المحقّق الطوسي إلى ذلك الدليل، بقوله:
وهما عقليان للعلم بحسن الاِحسان وقبح الظلم من غير شرع.

( 49 )
وأوضحه تلميذه بقوله: إنّا نعلم بالضرورة حسن بعض الاَشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع، فانّكلّعاقل يجزم بحسن الاِحسان ويمدح عليه، وبقبح الاِساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشكّ، وليس مستفاداً من الشرع، لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. (1)
ويقول الشارح ـ العلاّمة الحلّي ـ في كتاب آخر: ذهبت الاِمامية، ومن تابعهم من المعتزلة، إلى أنّ من الاَفعال ما هو معلوم الحسن والقبح بضرورة العقل، كعلمنا بحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، فكلّ عاقل لا يشك في ذلك، وليس جزمه بهذا الحكم بأدون من الجزم بافتقار الممكن إلى السبب، وأنّ الاَشياء المساوية لشيء واحد، متساوية، ومنها ما هو معلوم بالاكتساب أنّه حسن، أو قبيح، كحسن الصدق الضار، وقبح الكذب النافع.
ومنها ما يعجز العقل عن العلم بحسنه أو قبحه فيكشف الشرع عنه كالعبادات.
وقال الاَشاعرة: إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها، ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، و ما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح. (2)
ولما كان هذا الدليل رصيناً بمكان لم يجد المنكرون للقاعدة بداً من أن يعترفوا بما في بعض معانيها دون بعض، وهذا هو الفاضل القوشجي، يقول: إنّ للحسن والقبح معاني ثلاثة:
الاَوّل: صفة الكمال والنقص، والحسن كون الصفة صفة كمال، والقبح كون

____________
(1)كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد:59.
(2)نهج الحقّ وكشف الصدق:83.

( 50 )
الصفة صفة نقصان، يقال العلم حسن أي ان اتصف به كمال، والجهل قبيح أي لمن اتصف به نقصان، وهذا المعنى من الحسن والقبح عقليان، أي العقل يدرك ملاك الكمال والنقص، وبالتالي يدرك الحسن والقبح بهذا المعنى.
الثاني: ملائمة الغرض ومنافرته، فما وافق الغرض كان حسناً و ما خالفه كان قبيحاً، وما ليس كذلك لم يكن حسناً ولا قبيحاً، وقد يعبر عنهما بالمصلحة والمفسدة، فيقال: الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح ما فيه مفسدة، وما خلا عنهما لا يكون شيئاً منهما، وذلك أيضاً يدركه العقل كالمعنى الاَوّل. ويختلف بالاعتبار فانّ قتل زيد مصلحة لاَعدائه وموافق لغرضهم، وفي الوقت نفسه مفسدة لاَوليائه ومخالفة لغرضهم.
الثالث: ما تعلّق به المدح والثواب أو الذم والعقاب هذا في أفعال العباد، وأمّا أفعال اللّه فالحسن فيه بمعنى تعلّق المدح والذم وترك الثواب والعقاب.
فقال هذا هو محل النزاع فهو عندنا شرعي، وذلك لاَنّ الاَفعال كلّها سواء ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه، وإنّما صارت كذلك بسبب أمر الشارع ونهيه. (1)
يلاحظ عليه: أوّلاً: أنّالقول بأنّ للحسن والقبح ثلاثة معان، وانّ التحسين والتقبيح العقليين صحيح في الاَوّلين دون الثالث، يعرب عن تراجع القائل عن الاِنكار المطلق، وإظهار شيء من المرونة للمثبتين لهما، ولكن الحقّ انّه ليس للحسن والقبح إلاّ معنى واحد، وهو الذي ذكره في المعنى الثالث، وإلاّ فدرك الكمال و النقص أو الملائمة والمنافرة خارجان عن محط البحث، كما أنّإقحام الثواب والعقاب في المعنى الثالث أيضاً نوع مغالطة تفوّه بها القائل، فالبحث مكرّس على حسن الفعل وقبحه على وجه يبعث الآخرين على تحسين الفعل

____________
(1)شرح التجريد:441.

( 51 )
ومدحه أو تقبيح الفعل وذمه.
وأعجب من ذلك هو إنكاره إدراك العقل لحسن الاَفعال وقبحها بالمعنى الثالث، ولعمري انّه خالف وجدانه، وأنكر بلسانه ما ليس في قلبه، فلا ينكره إلاّ سوفسطائي يشك في أبده البديهيات.
وقد نقل عن النظام هذه الحكاية الطريفة:
قيل اجتمع النظام والنجار للمناظرة، فقال له النجار: لم تدفع أن يكلِّف اللّه عباده ما لا يطيقون، فسكت النظام، فقيل له: لِمَ سَكتّ؟ قال: كنت أريد بمناظرته أن ألزمه القول بتكليف مالا يطاق، فإذا التزمه ولم يستح، فبم أُلزمه. (1)
وثانياً: أنّ المجيب يسلم بأنّ العقل يدرك حسن الاَفعال وقبحها ببعض الملاكات، وهو ملاك الكمال والنقص أو ملاك المصلحة والمفسدة، وعندئذٍ فالعقل يستقل بحسن بعض الاَفعال بأحد هذين الملاكين أو يستقل بقبحها كذلك، وهذا نوع اعتراف من المنكر باستقلال العقل بدرك الحسن والقبح.
إلاّ أن يقول بحصر الكمال والنقص بالاَوصاف دون الاَفعال، فلا يعدّ فعل كمالاً ولا نقصاً وهو كما ترى.
وثالثاً: أنّ موضوع البحث هو مطلق الاَفعال الصادرة من الفاعل المختار، سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً، وليس هناك إلاّ ملاك واحد يعم جميع المصاديق، وهو استقلال العقل بالحسن أو القبح الذي ربّما يستعقب المدح والذم، دون الثواب والعقاب لعدم توفرهما في أفعاله سبحانه.
الثاني: انتفاوَهما مطلقاً لو ثبتا شرعاً
هذا هو الدليل الثاني الذي أشار إليه المحقق الطوسي، وقال: ولانتفائهما

____________
(1)دلائل الصدق:192.

( 52 )
مطلقاً لو ثبتا شرعاً. وقد أوضحه العلامة في شرحه بقوله: وتقريره: انّهما لو ثبتا شرعاً لم يثبتا لا شرعاً ولا عقلاً.
توضيحه: أنّا لو لم نعلم حسن بعض الاَشياء وقبحها عقلاً لم نحكم بقبح الكذب، فجاز وقوعه من اللّه ـ تعالى عن ذلك علواً كبيراً ـ فإذا أخبرنا عن شيء انّه قبيح لم نجزم بقبحه، وإذا أخبرنا عن شيء انّه حسن لم نجزم بحسنه، لتجويز الكذب، ولجوّزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن، لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقرير. (1)
وخلاصة الدليل: أنّه لو لم نعرف حسن الاَفعال وقبحها شرعاً إلاّ عن طريق إخبار الاَنبياء، فإذا قالوا: الصدق حسن والكذب قبيح، لا يحصل لنا العلم بصدق القضية، إذ نحتمل أن يكون المخبر كاذباً.
ولو قيل إنّه سبحانه شهد على صدق مقالة أنبيائه، فنقول: إنّ شهادته سبحانه لم تصل إلينا إلاّ عن طريقهم، فمن أين نعلم صدقهم في كلامهم هذا ؟
أضف إلى ذلك من أين نعلم أنّه سبحانه ـ و العياذ باللّه ـ لا يكذب؟
فهذه الاحتمالات لا تندفع إلاّ باستقلال العقل ـ قبل كلّ شيء ـ بحسن الصدق وقبح الكذب، وانّه سبحانه منزه عن القبح.
غير انّالفاضل القوشجي شرح كلام المحقق الطوسي بنحو آخر وقال: لو لم يثبت الحسن والقبح إلاّ بالشرع لم يثبت أصلاً، لاَنّ العلم بحسن ما أمر به الشارع، أو أخبر به عن حسنه، و بقبح ما نهى عنه، أو أخبر عن قبحه، يتوقف على أنّ الكذب قبيح لا يصدر عنه، وأنّ الاَمر بالقبيح والنهي عن الحسن سفه وعبث لا يليق به. (2)

____________
(1)كشف المراد: 59.
(2)شرح التجريد: 442.

( 53 )
أقول: ثمة احتمال آخر، وهو: انّه من الممكن أن يأمر الشارع بالقبيح ويأمر بالمنكر، أو أن يكذب في إخباره عن الحسن والقبيح، فلا ينتفي ذلك الاحتمال إلاّ بطرح قضية أُخرى وهي:
إنّ الاَمر بالقبيح، والنهي عن المعروف، أو صدور الكذب أمر قبيح، يمتنع صدوره من اللّه سبحانه. لكنّ هذه القضية التي هي المكملة لعلمنا بحسن الاَفعال وقبحها شرعاً، موقوفة على ثبوت أحد أمرين:
أ. أن يحكم العقل بامتناع صدور القبيح من اللّه سبحانه؛ والمفروض أنّ هذا الباب موصد أمام المنكرين للحسن والقبح.
ب. أن يحكم الشرع بامتناع الاَمر بالمنكر والنهي عن المعروف، أو صدور الكذب من اللّه سبحانه؛ ومن الواضح انّ هذه الاَخبار لا ترفع الاحتمال السابق، لاحتمال أن يكون كلامه هذا أيضاً كذباً، أو من قبيل الاَمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وبذلك يظهر معنى الدور الذي أشار إليه الفاضل القوشجي بوضوح.
ثمّ إنّه أشكل على محذور الدور بما هذه عبارته:
انّا لا نجعل الاَمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكرتم، بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلّق الاَمر والمدح، والقبح عن كونه متعلّق النهي والذم. (1)
ل
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره مغالطة محضة لا تزيل الاِشكال، لاَنّا نفترض أنّ الاَمر والنهي ليسا دليلي الحسن والقبح، بل دليلهما عبارة عن كون الفعل متعلق الاَمر والنهي، ولكن هناك احتمالات لا يمكن رفعها إلاّ بحكم العقل.

____________
(1)شرح التجريد: 442.

( 54 )
الاَوّل: انّه جعل المنكر متعلّق الاَمر، والمعروف متعلّق النهي، وهذا لا يمكن رفعه بإخبار الشارع، لاحتمال الكذب في جميع إخباراته، بل الطريق منحصر بالاِذعان لحكم العقل.
الثاني: نحتمل انّه أمر بلا إرادة.
الثالث: انّه أراد إرادة استعمالية دون الجدية.
الرابع: انّه استعمل الاَلفاظ على غير الطريقة المألوفة.
ومع هذه الاحتمالات ونظائرها، كيف يمكن لنا أن نستكشف الحسن والقبح عن طريق الشرع مهما صدع به، ولا ترتفع هذه الاحتمالات إلاّ بحكم العقل.
إلاّ أن يُفسِّـر الحسنَ بمجرد وقوع الشيء متعلقاً للاَمر وإنْ احْتُمِل ما احْتُمِل، وهو كما ترى.
الثالث: إنكارهما يلازم امتناع إثبات الشرائع السماوية
الاعتقاد بالنبوة العامة عبارة عن كونه سبحانه بعث أنبياءه بالشريعة إلى كافة البشر، فمن ادّعى السفارة من اللّه سبحانه فلا يمكن لنا تصديقه إلاّ في ظل القول بالحسن والقبح العقليين، لاَنّ المفروض أنّ ذلك المدّعي يكون مبعوثاً بالمعاجز والبيّنات، فإن كان صادقاً فهو، وإلاّيلزم تزويد الكاذب بقدرة خارقة ليضلّ الناس عن طريق الحقّ، وهو أمر قبيح لا يصدر منه سبحانه وأمّا على القول بالحسن والقبح الشرعيين فلا يمكن لنا الاِذعان بصدق دعواه لعدم ثبوت قبح تسليط الكاذب على المعاجز.
ولو صدع الشارع انّي لا أُسلط الكاذب على القوة الخارقة، فلا يمكن الاِيمان بصدق قوله لعدم ثبوت قبح الكذب على الشارع.

( 55 )
وإلى ذلك يشير العلاّمة الحلّي في كتابه، ويقول: لو كان الحسن والقبح باعتبار السمع لا غير ، لما قبح من اللّه تعالى شيء، ولو كان كذلك لما قبح منه تعالى إظهار المعجزات على يد الكاذبين، وتجويز ذلك يسد باب معرفة النبوة، فانّ أيّ شيء أظهر المعجزة عقيب ادّعاء النبوة لا يمكن تصديقه مع تجويز إظهار المعجزة على يد الكاذب في دعوى النبوة. (1)
و بما ذكرنا من التوضيح ، يظهر عدم صحّة ما ذكره الفضل بن روزبهان (المتوفّى919هـ) حيث قال: عدم إظهار المعجزة على يد الكذابين ليس لكونه قبيحاً عقلاً، بل لعدم جريان عادة اللّه الجاري مجرى المحال العادي بذلك وقوله (العلامة): تجويز هذا يسد باب معرفة النبوة، قلنا : لا يلزم هذا لاَنّ العلم العادي حاكم باستحالة هذا الاِظهار فلا ينسد ذلك الباب. (2)
إنّ العلم بجريان عادة اللّه على عدم إظهار المعجزة على يد الكذّابين، يتم بأحد طريقين:
أ. أن يحكم العقل بأنّاللّه حكيم، ولا يجعل الحكيم المعجزةَ على يد الكذّابين، والمفروض انّه غير ثابت لدى المستشكل.
ب. دراسة سيرة الاَنبياء والظروف التي حاطت بهم والقرائن الحافة بدعوتهم حتى يقطع الاِنسان بقضية كلية، وهي: انّه سبحانه لا يجعل المعجزة على غير يد الصادق؛ وهذا العلم الكلّي لا يحصل إلاّ بدراسة سيرة طائفة كبيرة من الاَنبياء على نحو يحصل له هذا العلم الكلي، ومن الواضح بمكان أنّه أمر غير ممكن عادة.
ثمّإنّ للفضل بن روزبهان كلاماً في آخر هذا الفصل نأتي به ليعلم مدى تأخّر القوم عن المسائل العقلية وانكبابهم على التقليد من مشايخ مذهبهم، حيث يقول:

____________
(1)نهج الحقّ وكشف الصدق:84.
(2)دلائل الصدق: 219.

( 56 )
اتّفقت كلمة الفريقين من الاَشاعرة والمعتزلة على أنّ من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد، وما يشتمل على الصفات الكمالية، والنقصانية، وهذا ممّا لا نزاع فيه، ويبقى النزاع في أنّ الاَفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب، هل في ذواتها جهة محسنة، صارت تلك الجهةُ سببَ المدح والثواب، أو جهة مقبحة، صارت سبباً للذم والعقاب أو لا ؟
فمن نفى وجود هاتين الجهتين في الفعل، ماذا يريد من هذا النفي؟
إن أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الاَفعال، فيرد عليه أنّك سلمت وجود الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة في الاَفعال، وهذا عين التسليم بأنّالاَفعال في ذواتها جهة الحسن والقبح، لاَنّ المصلحة والكمال حسن والمفسدة والنقص قبح.
وإن أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتين للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما لاَنّ تعيين الثواب والعقاب للشارع، والمصالح والمفاسد التي يدركهما العقل، لا يقتضي تعيين الثواب والعقاب بحسب العقل، لاَنّالعقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الاَفعال، ومزج بعضها ببعض حتى يعرف الترجيح ويحكم بأنّ هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة، أو قبيح لاشتماله على المفسدة، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل فتعين تعينه للشرع.
فهذا (1) كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يرده المعتزلي.
مثلاً: شرب الخمر كان مباحاً في بعض الشرائع، فلو كان شربه حسناً في ذاته بالحسن العقلي، كيف صار حراماً في بعض الشرائع الاَُخر؟
هل انقلب حسنه الذاتي قبحاً؟

____________
(1)«فهذا» جواب لقوله: «إن أراد نفي ... ».

( 57 )
وهذا ممّا لا يجوز، فبقي أنّه كان مشتملاً على مصلحة ومفسدة كلّ واحد منهما بوجه، والعقل كان عاجزاً عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة، فالشرع صار حاكماً بترجيح جهة المصلحة في زمان، وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر، فصار حلالاً في بعض الاَزمنة وحراماً في البعض الآخر.
فعلى الاَشعري أن يوافق المعتزلة، لاشتمال ذوات الاَفعال على جهة المصالح والمفاسد، وهذا يدركه العقل ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع، وهذا في الحقيقة هو الجهة المحسنة والمقبحة في ذوات الاَفعال.
وعلى المعتزلي أن يوافق الاَشعري أنّ هاتين الجهتين في العقل لا تقتضي حكم الثواب والعقاب والمدح والذم باستقلال العقل، لعجزه عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الاَفعال.
وقد سلّم المعتزلي هذا فيما لا يستقل العقل به، فليسلم في جميع الاَفعال، فانّ العقل في الواقع لا يستقل في شيء من الاَشياء بإدراك تعلق الثواب، فإذن كان النزاع بين الفريقين مرتفعاً، تحفظ بهذا التحقيق، وباللّه التوفيق. (1)
لقد سعى القائل جاهداً إلى التوفيق بين المذهبين لما رأى من البراهين الساطعة على بطلان مذهبه، فتارة يتخذموقفاً يوافق فيه المعتزلة، ويدعو الاَشاعرة إلى الانصياع وأُخرى يتخذموقفاً يوافق فيه الاَشاعرة ويدعو المعتزلة إليه، وما هذا الموقف المضطرب إلاّنتيجة وقوفه على عدم صحّة نفي الحسن والقبح العقليين، فلذلك نعود ونقول:
أ. ما ذكره من أنّ أفعال العباد تشتمل على المصالح والمفاسد، ويكون هذا سبباً لتحسين الفعل أو تقبيحه، غير تام، لما عرفت من أنّ الحسن والقبح العقلي لا

____________
(1)دلائل الصدق:374ـ 376.

( 58 )
يدور مدار الاَغراض والمصالح الشخصية، ولا المصالح والمفاسد النوعية، لاَنّ إطار البحث وسيع يشمل فعله سبحانه الذي هو فوق المصالح والمفاسد، كما في أخذ البريء بذنب المجرم، فجعل هذا مصباً للنزاع ومورداً للاتفاق وبالتالي دعوة الاَشعري إلى المصافقة مع المعتزلي خروج عن محل النزاع.
ب. انّ ما ذكره من أنّ المصالح والمفاسد غير مقتضيين للمدح أو الثواب بأحدهما، وانّه ليس للعقل أن يستقل بأحدهما من دون حكم الشارع، غير تام.
لاَنّ المدح والذم لا يستند إلى وجود المصالح والمفاسد، بل يستقل بهما العقل مع قطع النظر عن هذا الملاك، فكون المصالح والمفاسد مقتضية لا علة تامة للمدح أو الذم كأنَّه خروج عن مصب البحث.
وحصيلة القول: إنّ مصب البحث هو نفس الفعل بما هوهو بغضِّ النظر عن الاَُمور الجانبية من موافقته للغرض أو مخالفته له، وتضمنه للمصلحة أو المفسدة، إلى غير ذلك.
فمحاولة الفضل لتقريب المنهجين وتصديق المعتزلة تارة، والاَشاعرة تارة أُخرى، ناشىَ عن الغفلة عن مصب النزاع.
الحسن والقبح في الذكر الحكيم
يحتج الذكر الحكيم في موارد بقضاء الفطرة على حسن بعض الاَفعال وقبحها، على وجه يسلِّم أنّ الفطرة صالحة لدرك حسن الشيء وقبحه، ولذلك يتخذ وجدان الاِنسان قاضياً صادقاً في قضائه، ويقول:
1."أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ كَالْمُفْسِدينَ فِي الاََرْضِ أَمْ

( 59 )
نَجْعَلُ المُتَّقينَ كَالْفُجّار
" . (1)
2. "أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمينَ كَالْمُجْرِمين" . (2)
3. "هَلْ جَزاءُ الاِِحْسانِ إِلاّ الاِِحْسان" . (3)
ففي هذه الطائفة من الآيات يوكِّل الذكر الحكيم القضاء إلى وجدان الاِنسان، وانّه هل يصحّ التسوية بين المفسدين والمتّقين، والمسلمين والمجرمين، كما يتخذ من الوجدان قاضياً، في قوله: "هَلْ جَزاءُ الاِِحْسان إِلاّ الاِِحْسان" .
وهناك آيات أُخرى تأمر بالمعروف كالعدل والاِحسان، وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي على نحو تسلِّم انّ المخاطب يعرفهما معرفة ذاتية ولا يحتاج إلى الشرع بغية التعرف على الموضوع، وكأنّ الشرع يوَكد ما يجده الاِنسان بفطرته، يقول سبحانه:
1."إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالاِِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي القُربى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَر وَالبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون" . (4)
2. "قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنْ" . (5)
3. "يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَر " . (6)
وكيفية دلالة هذه الآيات على قابلية العقل على درك الحسن والقبح علم ممّا سبق.

____________
(1)ص:28.
(2)القلم: 35.
(3)الرحمن:60.
(4)النحل:90.
(5)الاَعراف:33.
(6)الاَعراف:157.

( 60 )
وثمة آية أُخرى تندِّد بعمل المشركين حينما ينسبون بعض أعمالهم المنكرة إلى أمره سبحانه، وهو يردُّ عليهم بأنّ عملهم فحشاء واللّه لا يأمر بها، وبذلك سلم قضاء الوجدان على أنّ اللّه منزّه عن ارتكاب القبائح والمنكرات، ويقول:
"وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءنا وَاللّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاء" . (1)
إلى هنا تمت أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، وإليك دراسة أدلّة المنكرين.

____________
(1)الاَعراف:28.

( 61 )
الفصل العاشر

أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين

ذهبت الاَشاعرة من المتكلمين إلى أنّ العقل عاجز عن درك حسن الاَفعال وقبحها، وفي كلامهم هذا تداع لكلام السوفسطائيين حيث كانوا ينكرون الحقائق العينية حتى وجودهم أنفسهم في ظل شبهات واهية.
والذي يسهِّل الخطب أنّ الاَشاعرة أكثر تعقّلاً من السوفسطائيين، ولذلك لما واجهوا أدلة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين، وأدركوا بوجدانهم أنّ الاِنكار المطلق أشبه بإنكار البديهيات، حاولوا أن يبتكروا معاني متعددة للحسن والقبح أو ملاكات لهما، فسلّموا التحسين والتقبيح في بعض المعاني و الملاكات دون بعض، وقد جعلوا من بعض معانيه إدراك العقل استحقاق الفاعل الثواب والعقاب فأنكروه مع أنّه لا صلة له بالبحث أبداً.
وهوَلاء وإن رفعوا راية الاِنكار ولكنّهم تراجعوا عنها، وقد سبق منّا نقل كلام الفاضل القوشجي: انّ الحسن والقبح بمعنى كون فعل كمالاً كالعلم، وكون فعل آخر نقصاً كالجهل مما يدركه العقل، كما أنّ اشتمال الفعل على المصلحة كالعدل، أو المفسدة كالظلم ممّا يدركه العقل أيضاً، ثمّ أضاف معنى ثالثاً، وقال:
ملائمة الفعل لغرض الفاعل ومنافرته غرضه كما في قتل زيد، فانّه يوَمّن

( 62 )
غرض الاَعداء ولا ينافي غرض أوليائه. (1)
فالحسن والقبح بهذه المعاني أو الملاكات اعترف به الاَشاعرة.
وهذه الاَُمور الثلاثة التي اعترفت بها الاَشاعرة خارجة عن مصب البحث، لكنّهم اخترعوا للحسن والقبح معنى رابعاً وهو تعلّق مدحه تعالى وثوابه، أو ذمّه وعقابه، فما تعلّق به مدحه في العاجل وثوابه في الآجل يسمّى حسناً، وما تعلّق به ذمّه تعالى في العاجل وعقابه في الآجل يسمّى قبيحاً، وما لا يتعلّق به شيء منهما فهو خارج عنهما، فقالوا: هو عندنا شرعي، لاَنّ الاَفعال كلّها سواء، ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه ولا ذم فاعله وعقابه، وإنّما صارت كذلك بسبب أمر الشارع بها ونهيه عنها. (2)
وهذه المحاولة منهم نوع رجوع عن الاِنكار المطلق، ومغالطة في تحرير محل النزاع، وليس هو إلاّ نفس الفعل بما هو هو سواء أكان صادراً من الواجب أم من الممكن، فالنزاع في أنّ العقل هل يدرك حسنه أو قبحه، سواء أتعلَّق به مدح في العاجل وثواب في الآجل أو لا ، وسواء كان هناك ثواب أو عقاب.
إذا عرفت ذلك فنقول: ظهر ممّا ذكرنا أنّ للحسن والقبح معنى وملاكاً واحداً، وهو كون نفس الشيء مدركاً للعقل حسنه أو قبحه، والملاك كونه ملائماً لفطرته ووجدانه، أو منافياً.
وبعبارة أُخرى: إذا كان ملائماً للبعد العلوي منه أو منافراً معه، وعلى ذلك فلو لم يكن هناك إنسان، ولم يكن له بعد علوي أو ملكوتي لما صحّ الحكم بحسن الاَفعال وقبحها، فالمصحح هو ملائمته ومنافرته معه، فعند المقايسة والمطابقة يوصف بأحد الشيئين.

____________
(1)شرح التجريد للفاضل القوشجي: 441، نقل بتوضيح منّا.
(2)المصدر نفسه:441.

( 63 )
وبذلك يعلم أنّ ما ربّما يقال من أنّ الحسن والقبح واقعيتان يدركهما العقل، كلام مجمل، فإن أرادوا بذلك أنّ العقل بنفسه يكشف عن واقعية وراء واقعيتهما في الخارج، مع قطع النظر عن الاِنسان ودركه ومطابقته للبعد العلوي منه، فهو أمر مقطوع البطلان، إذ ليس للحسن والقبح مطابَق ومصداق خارجي.
وإن أرادوا أنّ الاِنسان عند تطبيق الاَفعال على البعد العلوي و الواقعية الاِنسانية يجد في صميم ذاته الملائمة والمنافرة، فهذا أمر صحيح كما ذكرناه غير مرة.
إذا علمت ذلك فلنتناول أدلة المنكرين للتحسين والتقبيح العقليين.
الدليل الاَوّل: لو كانا بديهيين لما اختلف فيه اثنان
لوكان العلم بحسن بعض الاَفعال وقبحها ضرورياً لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بزيادة الكل على الجزء، والتالي باطل بالوجدان، لوقوع الاختلاف بين العلمين، وانّ العلم بزيادة الكل على الجزء أوضح وأبين من التحسين والتقبيح، فالمقدّم مثله، لاَنّ العلوم الضرورية لا تتفاوت.
وأجاب عنه المحقّق الطوسي، بجواز التفاوت في العلوم لا سيما في تصوراتها، وأوضحه العلاّمة الحلي، بأنّ العلوم الضرورية قد تختلف تبعاً لاختلاف التصوّرات.
أقول: إنّ دليلهم هذا ردّ الدليل الاَوّل للمثبتين، حيث قالوا: إنّ الحسن والقبح من البديهيات العقلية، فردّت الاَشاعرة عليهم بوجود فوارق بين سائر البديهيات وهذا النوع من الاِدراك.
والجواب ما ذكره المحقّق الطوسي بإيضاح منّا، وهو: انّ القضايا اليقينية في القياس تتمتَّع بالبداهة وهي ستة: الاَوّليات، المشاهدات،التجربيات، الحدسيات،

( 64 )
المتواترات، الفطريات. ومن الواضح وجود التفاوت بين أقسامها، فأين قولنا: الكلّ أعظم من الجزء، من قولنا: نور القمر مستفاد من الشمس؟! فالاَوّل من الاَوّليات، والثاني من الحدسيات، وبذلك يظهر انّ وجود التفاوت لا يضر بالبداهة.
وأمّا سبب التفاوت فيرجع غالباً إلى وجود الاختلاف بين تصور مفرداتها، مثلاً كلّ ممكن يحتاج إلى علة، حكم بديهي، ومع ذلك فقولنا: الكل أعظم من الجزء، أيضاً بديهي، وسبب الاختلاف يرجع إلى ظهور مفردات الثاني دون الاَوّل، فأين الاِمكان والحاجة والعلّة من الظهور إلى الكلّ والجزء والعظم، فاختلاف المفردات من حيث الظهور والخفاء يورث ظهوراً وخفاءً في المركب أيضاً.
أضف إلى ذلك، أنّ قصارى ما يثبته الدليل انّها ليست من الاَُمور البديهية لا أنّها ليست من الاَُمور العقلية.
ثمّ إنّ الشيخ المظفر أجاب عن الاِشكال بوجه آخر بقوله:
إنّ قضية الحسن والقبح ـ كما قلنا ـ من المشهورات، وقضية أنّ الكلّ أعظم من الجزء، من الاَوّليات اليقينيات، فلا ملازمة بينهما، وليس هما من باب واحد حتى يلزم من كون القضية الاَُولى ممّا يحكم به العقل ألاّ يكون فرق بينها و بين القضية الثانية، وينبغي أن نذكر جميع الفروق بين المشهورات هذه وبين الاَوّليات، فيكون أكثر وضوحاً بطلان قياس إحداهما على الاَُخرى وذكر فروقاً، نذكر منها اثنين:
أ. انّ الحاكم في قضايا التأديبات، العقل العملي، والحاكم في الاَوّليات العقل النظري.
ب. انّ القضية التأديبية لا واقع لها إلاّ تطابق آراء العقلاء، و الاَوّليات لها

( 65 )
واقع خارجي. (1)
يلاحظ عليه أوّلاً: بما ذكرنا في الفصل السابع من أنّ حسن العدل وقبح الظلم ليسا من القضايا التي لا واقعية لها إلاّ الشهرة كما زعم، بل لها واقعية، لكن بالمعنى الذي عرفت من أنّ الاِنسان إذا عرض القضيتين على البعد الملكوتي يجد بينهما كمال الملائمة والمنافرة فيرغب إلى إحداهما وينزجر عن الاَُخرى.
كما وقفت أيضاً على أنّالعقل النظري والعملي ليسا إلاّ مظاهر لقوة واحدة، وإنّما الاختلاف فيما يدرك كما أوضحناه سابقاً.
وثانياً: أنّ كلام المستدل ناظر إلى ردّ الدليل الاَوّل للمثبتين، وانّه لو كان الحسن والقبح من الاَُمور البديهية يجب أن يقعا في عداد سائر البديهيات دون أي اختلاف.
فالاِجابة عنه من خلال بيان الفوارق بين القضايا ـ كما عرفت ـ نوع تسليم للاِشكال و ترسيخ له .
الدليل الثاني: الكذب النافع ليس بقبيح
لو كان الكذب قبيحاً، لكان الكذب المفضي إلى تخليص النبي من يد ظالم قبيحاً أيضاً، والتالي باطل، لاَنّه يحسن تخليص النبي من يد أعدائه، فالمقدم مثله.
هذا حسب تقرير العلاّمة الحلّي، وقرّره الفاضل القوشجي بنحو آخر، وهو: لو كانا عقليين لما حسن القبيح و لما قبح الحسن، والتالي باطل، فانّ الكذب قد يحسن والصدق قد يقبح إذا تضمن الكذب انقاذ نبي من الهلاك،والصدق إهلاكه.(2)

____________
(1)أُصول الفقه :1|231.
(2)شرح التجريد: 442.

( 66 )
والجواب: انّ في المقام أمرين قبيحين:
1. تعريض النبي للهلاك، وهو قبيح.
2. الكذب والاِغراء بالجهل، وهو أيضاً قبيح.
ولكن يختار الثاني، لاَنّه أقل قبحاً من الاَوّل، لما فيه من نجاة النبي وإنقاذه، فالكذب في جميع الحالات قبيح، لكن عند التعارض مع ما هو أقبح، يأخذ الاِنسان بأقلّ القبيحين بحكم العقل.
يقول الفاضل القوشجي: إنّ الكذب في الصورة الاَُولى باق على قبحه، إلاّ أنّ ترك إنقاذ النبي أقبح منه فيلزم ارتكاب أقل القبيحين تخلصاً من ارتكاب الاَقبح، على أنّه لا ضرورة للكذب، إذ يمكن التخلص من الكذب بالتعريض (التورية) ولهذا قيل إنّ في التعاريض لمندوحة. (1)
إجابة أُخرى
ويمكن الجواب عن الاستدلال بشكل آخر، وهو انّ الاَفعال على أقسام:
الاَوّل: أن يكون الفعل علة تامة للحسن أو القبح، بحيث لا ينفكان عن الفعل في زمان من الاَزمنة، وهذا كحسن العدل وقبح الظلم.
الثاني: ما يكون مقتضياً للحسن والقبح، أي أن يكون فيه أرضية صالحة لواحد منهما لا علة تامة، على وجه لو لم يكن هناك مانع عن التأثير لاَثر المقتضي، وهذا كتكريم الصديق، فانّه بما هوهو، مقتض للحسن، ولكن ليس علة تامة له، كما إذا كان تكريمه سبباً لاِهانة الغير.

____________
(1)شرح التجريد:442.

( 67 )
الثالث: ما لا يكون علة ولا مقتضياً للحسن والقبح، وإنّما يوصف بأحدهما لاَجل طروء عناوين مختلفة عليه، وهذا كضرب اليتيم، فهو ليس بحسن ولا قبيح، إلاّ أنّه حسن إذا كان بعنوان التأديب وقبيح إذا كان بعنوان الانتقام والتشفّي.
وعلى ذلك فيظهر الجواب على الكذب النافع والصدق الضار، إذ ليس الصدق والكذب بالنسبة إليهما إلاّ مقتضياً على وجه لولا المانع لاَثَّرا. والمفروض اقترانه بالمانع، بل يمكن عدّهما من القسم الثالث فلا يوصفان بأحدهما مع طروء عنوان القبيح على الصدق، وطروء عنوان الحسن على الكذب.
يلاحظ عليه: أنّ الصدق وإن كان ربّما يوصف بالقبح إذا كان متضمناً لهلاك النبي، أو الكذب يوصف بالحسن إذا كان متضمناً لاِنقاذه، لكن هذا ليس بمعنى تبدل حسن الصدق إلى القبح، وقبح الكذب إلى الحسن، بل معناه أنّ هناك عناوين تطرأ على فعل الاِنسان، كإنقاذ النبي عند الكذب، وهلاكه عند الصدق، فتنبثق مسألة أُخرى وهي تقديم الاَصلح والاَهم من الاَمرين على غيرهما. فالاِنسان مكلف بحكمين:
أ. صيانة النبي وإنقاذه، وهو أمر حسن.
ب. حرمة الكذب، وهو أمر قبيح.
ولا يمكن التوفيق بينهما، لاَنّ العقل يحكم بانتخاب الاَهم منها، وليس هو إلاّإنقاذ النبي وإن استلزم الكذب.
فعلى ضوء هذا الجواب فحسن الاَفعال وقبحها ثابتان غير زائلين، غير أنّ التزاحم دفع العقل إلى انتخاب الاَهم والاَصلح وتقديمها على الراجح والمهم، ونفس هذا التقديم عين العدل، لاَنّه من قبيل وضع الشيء، في محله.

( 68 )
الدليل الثالث: إذا وعد بالكذب
لو قال الاِنسان لاَكذبنّ غداً، فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد، لزم حسن الكذب، وإن قبح كان الصدق قبيحاً فيحسن الكذب.
توضيح الاستدلال: انّه إذا قال الاِنسان: لاَكذبنَّ غداً، يلزم حسن أحد الكذبين، لاَنّه إن حسن العمل بوعده يجب عليه أن يكذب غداً، فيكون هذا الكذب المحقق للعمل بالوعد الحسن، حسناً أيضاً.
وإن قبـح العمل بالوعد، وبالتالي يلـزم عليه ـ إن أخبـر ـ أن يخبر خبراً صادقاً، فما أخبر به و إن كان بذاته صادقاً لكنّه بالقياس إلى ما وعد به، كاذب والمخاطب يتصوّر أنّه خبر كاذب، وإنّما يكون صادقاً لو أخبر بخبر كاذب لا ما إذا أخبر بخبر صادق، ولو أخبر عن صدق يعدّ كاذباً بالنسبة إلى ما وعد.
ومراده من الصدق هو الاِخبار عن كذب، كما أنّمراده من الكذب هو الاِخبار عن صدق، الذي يعُدُّ بالنسبة إلى ما وعد خبراً كاذباً.
وقد أجاب العلاّمة الحلي عن الاستدلال الذي هو أشبه باللغز من الدليل، بقوله: بأنّه يجب عليه ترك الكذب في غد، لاَنّه إذا كذب في الغد فعل شيئاً فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله، ووجهاً واحداً من وجوه الحسن وهو الصدق، وإذا ترك الكذب يكون قد ترك ثمة العزم والكذب وهما وجها حسن، وفَعَل وجهاً واحداً من وجوه القبح وهو الكذب. (1)
هذا والصحيح أن يقال: إنّ هناك أمرين:
الاَوّل: العمل بالوعد وهو حسن.
الثاني: انّ العمل بالوعد الحسن يتحقق في المقام في ضمن الكذب وهو أمر قبيح.

____________
(1)كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 61.

( 69 )
ولكن المغالطة تكمن في الاَمر الاَوّل، إذ لا نسلم حسن العمل بالوفاء على وجه الاِطلاق، وإنّما هو حسن إذا كان المتعلّق أمراً حسناً لا قبيحاً، فلو وعد إنسان أن يقتل آخر فليس الاِيعاد أمراً حسناً يجب تنفيذه بل هو قبيح، فالاستدلال من الوهن بمكان.
والعجب من هوَلاء حيث حاولوا إثبات قاعدة كلية على أمر لا أساس له من الصحة، فبدل أن يكرّسوا جهودهم إلى دراسة نفس القضايا وعلاقاتها وما يحكم به العقل والعقلاء حاولوا إثبات ما اختاروه بهذا المثال الذي لا يعرف كنهه إلاّ بعد بذل عناء كبير . وأعجب منه ما ذكره التفتازاني في نظير المقام، وقال: هذه مغلطة تحيّر في حلها عقول العقلاء، وفحول الاَذكياء، ولهذا أسميتها مغلطة جذر الاَصم، ولقد تصفحت الاَقاويل فلم أظفر بما يروي الغليل. (1)
الدليل الرابع: التحسين والتقبيح العقليان، فرضُ تكليفٍ على اللّه سبحانه
هذا الدليل الذي نذكره هو أكثر تداولاً على ألسنة السُّذَّج من الناس الذين ينكرون قابلية العقل على إدراك الحسن والقبح، حيث يقولون: بأنّ القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين يوجبون على اللّه ما يوجبون على العبد، ويحرِّمون عليه من جنس ما يحرمون على العبد، ويسمون ذلك العدل والحكمة مع قصور عقلهم عن معرفة حكمته. (2)
والجواب: أوّلاً: أنّ المستدل ـ على فرض صحّة استدلاله ـ خلط بين المسألتين:
أ. مسألة قابلية العقل على درك الحسن والقبح.

____________
(1)شرح المقاصد: 2|150، طبع آستانة .
(2)التبصير في الدين: 153؛ ولاحظ مجموعة الرسائل الكبرى:1|333، الرسالة الثامنة.

( 70 )
ب. مسألة الملازمة بين درك العقل حسن الفعل وقبحه، وبين حكم الشرع.
فالكلام إنّما هو في المسألة الاَُولى لا في المسألة الثانية، التي يبحث فيها عن الملازمة بين الحكمين: العقلي والشرعي.
فهناك من يوافق المسألة الاَُولى، وفي الوقت نفسه ينفي الملازمة وإن كان الحقّخلافه
ثانياً: أنّ المستدل خلط بين فرض التكليف على اللّه وكشف ما عنده من الحُكْم من خلال صفاته وكماله، فالقائل بالملازمة لا يفرض التكليف على اللّه، ويقول: أين التراب ورب الاَرباب، لكن هذا لا يمنع من أن نستكشف ما عنده من الاَحكام من خلال دراسة صفاته الكمالية، فهو بما انّه عادل، لا يجور، وحكيم لا يعبث، وعالم، لا يجهل، نستكشف الاَحكام اللائقة به حسب صفاته فالتكاليف المخوَّلة إليه من قبيل التكاليف التي فرضتها عليه حكمته وعدله وعلمه. فلو قلنا لا يجوز على اللّه سبحانه تعذيب البريء أو أخذه بذنب المجرم، لا نعني انّا نفرض هذا التكليف عليه، وانّه يجب أن يقوم به، وإنّما يراد أنّلازم صفاته الكمالية هو أن لا يفعل ذلك.
وهذا نظير ما يقوم به العلماء من كشف أسرار الطبيعة وقوانينها، فلو قال القائل: بأنّ زوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا لا يعني إلاّ أنّه في الواقع كذلك، لا انّه يجب أن يكون كذلك لاَجل حكمه به.
فإذا كان النظام السائد على الكون نظاماً مبنياً على العلم والعدل والحكمة فلازم ذلك أن لا يوَخذ البريء بذنب المجرم، فكشف هذا الحكم نظير كشف القوانين السائدة على الكون في العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية.

( 71 )
وفي كلام بعض الاَشاعرة إلماع لما ذكرنا، يقول النسفي (المتوفّى537هـ): وفي إرسال الرسل، حكمة.
ويقول التفتازاني (المتوفّى791هـ) في شرحه على العقائد: أي مصلحة وعاقبة حميدة. وفي هذا إشارة إلى أنّ الاِرسال واجب لا بمعنى الوجوب على اللّه تعالى، بل بمعنى أنّ قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من الحكم والمصالح وليس بممتنع. (1)
وكلامه هذا نفس ما ذكرناه، وهذا دليل على أنّ الاَشاعرة قد أظهروا نوعاً من المرونة للعدلية عبْـر الزمان.
الدليل الخامس: التحسين والتقبيح لا يجتمعان مع الجبر
إنّ الاَشاعرة لما اختاروا كون الاِنسان مجبوراً في أعماله، وانّفعله ليس فعله، بل فعله سبحانه عند تعلّق إرادة العبد، رتّبوا على هذا الاَصل امتناع القول بالتحسين والتقبيح العقليين وقرّروه بوجوه:
1. قرّره فخر الدين الرازي(المتوفّى680هـ) بقوله: لو قبح الشيء لقبح إمّا من اللّه أو من العبد، والقسمان باطلان، فالقول بالقبح باطل، إمّا انّه لا يقبح من اللّه فمتفق عليه، وإمّا انّه لا يقبح من العبد، فلاَنّ ما صدر عنه [إنّما هو] على سبيل الاضطرار، لما بينا من أنّه يستحيل صدور الفعل عنه إلاّ إذا أحدث اللّه فيه الداعي إلى ذلك الفعل، ومتى أحدث اللّه الداعي فيه إليه كان الفعل واجباً، وبالاتفاق لا يقبح من المضطر شيء. (2)
____________
(1)شرح العقائد النسفية:164.
(2)الاَربعون: 246.

( 72 )
2. نقل عن سعد الدين التفتازاني (المتوفّى791هـ) في شرح المقاصد انّه قرّر الدليل بالنحو التالي:
العبد لا يستقل بفعله لما سبق وعندهم لا مدح ولا ذم من اللّه تعالى إلاّعلى ما يستقل العبد به.
3. يقول الفاضل القوشجي(المتوفّى879هـ): لو كان الحسن والقبح بالعقل لماكان شيء من أفعال العباد حسناً ولا قبيحاً عقلاً، واللازم باطل باعترافكم.
وجه اللزوم انّ العبد مجبور في أفعاله ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح عقلاً. (1)
وقبل أن أتناول بالبحث دليل قولهم بالجبر، يحسن أن نشير إلى نكتة مهمة ألْفَتَ إليها القوشجي وهي انّلازم قول الاَشاعـرة ـ بأنّ الاِنسان مجبور في فعله مضطر في عمله، و ليس له إلاّ سلوك الطريق الذي اختـاره ـ هو عبثية إرسال الرسل وإنزال الكتب، بل كافة التعاليم السماوية والوضعية.
إنّ مسألة الجبر وسلب الاختيار عن الاِنسان أكثر غموضاً وإبهاماً من مسألة التحسين والتقبيح العقليين، فكيف أخذوا الاَُولى أساساً للمسألة الثانية، مع أنّ الاَُسلوب الصحيح هو استنتاج الخفي من الواضح لا استنتاج الخفي من الاَخفى؟!
إذا عرفت ذلك فلنذكر ما أقاموه من دليل على جبر الاِنسان في أفعاله، فقد ذكره الفاضل القوشجي بعبارة موجزة نشرحها بعد نقلها:

____________
(1)شرح التجريد:442.

( 73 )
إن ّالعبد إن لم يتمكن من الترك فذاك (الجبر)، وإن تمكن و إن لم يتوقف فعله على مرجح بل صدر عنه تارة ولم يصدر عنه أُخرى بلا تجدد أمر، لزم الترجيح بلا مرجح وانسدَّ باب إثبات الصانع، وإن توقف، فذلك المرجح إن لم يجب معه الفعل بل صحّ الصدور واللا صدور عاد الترديد، وإن وجب فالفعل اضطراري والعبد مجبور. (1)
وحاصل الدليل يتلخص في أُمور:
الاَوّل: انّ الفعل يكون أمراً ضرورياً ويمتنع عليه العدم حينما تتعلق به الاِرادة، وهذا هو القول بالجبر فيترتب عليه امتناع وصف الفعل بالحسن أو القبح.
الثاني: لو قلنا بأنّ تعلّق الاِرادة بالفعل لا يُضفي عليه وصف الضرورة، وتكون نسبة الوجود والعدم إلى الفعل على حد سواء، ومع ذلك يتحقق الفعل ويطرد العدم عن نفسه، فهذا يستلزم إنكاراً لمبدأ العلية، ومع إنكاره ينسد باب إثبات الصانع.
الثالث: انّ الفعل يتحقق في ظل المرجح الذي يضفي عليه وصف الضرورة ويجعل العدم ممتنعاً، فهذا هو عين الجبر.
الرابع: نفس تلك الصورة، ولكن المرجح لا يضفي على الفعل وصف الوجوب وامتناع العدم، وعندئذٍ يعود السوَال إذا كانت النسبتان إلى الشيء على حد سواء، فكيف تحقق، إن هذا إلاّ عبارة أُخرى عن إنكار قانون العلية؟
الخامس: لو كان المرجح الاَوّل غير مفيض وجوبَ الفعل، ولكن علّة

____________
(1)شرح التجريد:443.

( 74 )
ترجُّح الفعل على العدم، وجود مرجح ثان فيتوجه إليه الاِشكال السابق، وهو انّ نسبة الفعل بعد المرجح الثاني لم تتغير فكيف ترجح العلَّةُ جانب الوجود على العدم؟ وإن علل بمرجح ثالث ورابع فذلك هو التسلسل بعينه.
نعلّق على الاستدلال بالقول: نختار الشق الاَوّل، وانّ الفعل بعد تعلّق الاِرادة به يكون ضروري الوجود امتناعي العدم، ولكن ذلك لا يلازم سلب الاختيار عن الاِنسان، فهنا أمران:
أ. انّتعلق الاِرادة بالفعل يضفي عليه وصف الضرورة والوجوب وامتناع العدم.
ب. انّ هذه الضرورة التي يكتسبها الفعل من جانب الفاعل المختار لا يخرج الفعل عن الاختيار.
أمّا الاَوّل فلقاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد. توضيحها:
إنّ وجود الشيء رهن سدّ باب العدم على وجهه بالقطع والبت، حتى يكون وجوده على نحو الوجوب ولكي ينقطع السوَال لماذا وجد ولم ينعدم.
فلنفترض انّ هناك فعلاً له علة ذات أجزاء خمسة، فلا يتحقق ذلك الفعل إلاّ بسدّ جميع أبواب العدم عليه من خلال إيجاد أجزاء علته مجتمعة، فعند ذاك يوصف الفعل بضرورة الوجود، فإن لم يوصف بضرورة الوجود ولم يتحقق المعلول، والحال هذه، يتوجّه السوَال إلى ما هو السبب في عدم تحقّقه مع فرض وجود جميع أجزاء علّته؟
وأمّا الثاني فلاَنّ الفعل وإن اكتسب وصف الضرورة لكنّها لم تكن نابعة من صميم ذاته وجوهره، وإنّما أفاضها عليه الفاعل المختار، فهو باختياره أضفى على الفعل وصف الوجوب وطرد عنه العدم، فالفاعل هنا فاعل موجب (بالكسر) أي معطي الضرورة للفعل من جانب نفسه، لا فاعل موجب (بالفتح) أي من فرض عليه الاِيجاب من جانب آخر.