كتاب رسالة في التحسين والتقبيح العقليين للأستاذ جعفر السبحاني ص 27 - ص 47
( 27 )
الفصل الخامس

ملاكات التحسين والتقبيح

إنّ الحسن والقبح من الاَلفاظ الواضحة التي يعرفها كلّعربي صميم، غير أنّ بعض الاَشاعرة كالفاضل القوشجي ذهب إلى أنّ للحسن والقبح معاني مختلفة، مع أنّما ذكره ـ كما سيوافيك ـ ليس من قبيلها، بل من قبيل الملاكات للقضاء بالحسن أو القبح، فلذلك يجب أن نستعمل ملاكات الحسن والقبح مكان معانيهما.
وإليك دراسة الملاكات المطروحة في الكتب الكلامية:
الاَوّل: موافقة الطبع
إنّ من ملاكات الحسن والقبح موافقة الفعل للطبع وعدمها. وهذا أمر مبهم بحاجة إلى المزيد من الاِيضاح، فثمة احتمالان:
أ. أن يراد من الطبع، الطبعُ الحيواني المشترك بين جميع أنواعه. ولكن هذا الاحتمال ضعيف، بل باطل، إذ ليس للحيوان طبع واحد بل طبائع مختلفة حسب اختلاف الاَنواع، ولذلك ربما يكون شيء لذيذاً في ذائقة وغير لذيذ في ذائقة أُخرى، أو رائحة، طيبة في شامّة حيوان، ورائحة، كريهة في شامّة حيوان آخر.

( 28 )
أضف إلى ذلك أنّ الغرض من طرح مسألة الحسن والقبح هو الوقوف على كيفية فعل الاِنسان ولا يمكن أن يكون الطبع الحيواني ملاكاً لاستكشاف كيفية فعل الاِنسان من الحسن والقبح.
ب. أن يراد من الطبع هو البعد العلوي والجانب الملكوتي من الاِنسان الذي تناط به إنسانية الاِنسان.
وبعبارة أُخرى: البعد الروحاني من الاِنسان الذي يميل بطبعه إلى أُمور وينفر كذلك عن أُمور أُخرى، فما وافق الاَوّل فهو الحسن وما خالفه فهو القبيح، وحيث إنّ هذا الجانب من البعد الروحي هو مناط الاِنسانية وواقعها فيشترك فيها جميع أفراد الاِنسان، كما أنّجميعهم يشترك في البعد السفلي الحيواني من الغضب والشهوة إلى غير ذلك من الاَبعاد، ولذلك نرى أنّ جميع الاَفراد يرغبون في العدل وحفظ الاَمانة والعمل بالميثاق وشكران النعمة ويفرّون من ضدّها.
فلو أُريد من الطبع هو هذا المعنى فهو معنى معقول، بل هو المتعيّن في تعيين ملاك الحسن والقبح، ومن قال بأنّ موافقة الطبع ومخالفته ملاك التحسين والتقبيح، وأراد منه الطبع بهذا المعنى فقد أصاب الواقع .
الثاني: موافقة الاَغراض والمصالح
هذا هو الملاك الثاني لتمييز الحسن عن القبيح، ولا شكّ انّ العاقل إنّما يفعل لاَغراض ومصالح، فكلّ فعل يوَمِّن مصلحته فهو حسن، وما ليس كذلك فهو قبيح.
وهذا الملاك كالملاك الاَوّل يتصور على وجهين:
أ. أن يكون المراد من الاَغراض والمصالح، الاَغراضَ والمصالح الشخصية،

( 29 )
فالملاك بهذا المعنى يوجب الهرج والمرج في باب وصف الاَفعال بأحدهما، لاَنّالاَفعال الكفيلة بتحقيق تلك الاَغراض، تختلف باختلاف الاَشخاص، فعندئذٍ تكون حسنة عند شخص وقبيحة عند آخر، وليس مثل هذا البحث لائقاً بالبحث الكلامي.
ب. أن يكون المراد منها المصالحَ والاَغراضَ النوعية التي يدور عليها بقاء النظام، وهذا كالعدل الذي يقيم النظام، والظلم الذي يهدمه.
إنّ اتخاذ المصالح والاَغراض النوعية ملاكاً للقضاء بأحد الوصفين وإن كانت تصلح أن تكون ملاكاً للحسن والقبح في أفعال الاِنسان ولكنّها لا تصلح لوصف أفعاله سبحانه بالحسن والقبح، وقد سبق منا القول إنّ السبب من وراء طرح هذه المسألة في المسائل الكلامية هو الوقوف على أفعاله سبحانه وما يجوز عليه أو ما لا يجوز، ومن الواضح أنّفعله سبحانه فوق المصالح والاَغراض التي لا تكون ملاكاً لوصف فعله بالحسن والقبح، مثلاً أخذ البريء بذنب المجرم فعل قبيح ولا صلة له بالمصالح والمفاسد، ولاَجل ذلك يجب أن يكون الملاك شاملاً لاَفعال الواجب والممكن.
وبعبارة أُخرى: انّ البحث عن الحسن والقبح العقليّين هو فوق مستوى البحث عن الحسن والقبح العقلائيين، فالملاك في الثاني هو ما مرّ آنفاً من موافقة الفعل للمصالح النوعية ومخالفتها، وهذا النوع من البحث بحث أخلاقي ويصلح أن تكون المصالح والاَغراض رصيداً للحكم بالحسن والقبح في ذلك الاِطار .
وأمّا الملاك في الاَوّل الذي يعم الممكن والواجب، فهو ملاك أوسع من سابقه، لما عرفت من أنّ فعل البارىَ هو فوق مستوى المصالح والمفاسد النوعية.

( 30 )
الثالث: موافقة الكمال النفسي
لا شكّ أنّ صفات الاِنسان تنقسم إلى صفات كمال يرغب إليها، وصفات نقص ينفر عنها. فالشجاعة مثلاً كمال نفساني مطلوب للاِنسان كما أنّالجبن هو نقص نفساني مبغوض له، والاِنسان بطبعه ميّال للكمال فارّ عن النقص، هذا حال الوصف، وأمّا الفعل فلو كان محصِّلاً للكمال فهو موصوف بالحسن، وأمّا ما كان على غير هذا السبيل فهو موصوف بالقبح.
أقول: لعلّ هذا الملاك ليس جديداً، بل يعود إلى القسم الثاني من الملاك الاَوّل، أي موافقة الفعل للبعد العلوي من الاِنسان ومخالفته، لاَنّ الميل إلى الكمال والهرب من النقص أمر فطري وطبيعي، فلو كان الفعل محصِّلاً للكمال فهو أمر يوافق الطبع العلوي للاِنسان وإلاّفلا.
الرابع: موافقة العادات والتقاليد
إنّ لكلّ قوم عادات وتقاليد تخصّهم، فملاك الحسن والقبح موافقة الفعل للعادات والتقاليد ويقابله القبيح.
ولكن موافقة العادات والتقاليد أو مخالفتها لا تصلح أن تكون ملاكاً للحسن والقبح، إذ عندئذٍ يكون الحسن والقبح أمرين نسبيين أوّلاً، وغير ثابتين ثانياً، ولا يكون معياراً لوصف فعله سبحانه بالحسن والقبح، لاَنّهما فيه فوق العادات و التقاليد.
هذه هي الملاكات المذكورة في المقام، والصالح للبحث هو موافقة الفعل للطبع لكن بالمعنى الذي عرفت، أي كون الفعل ملائماً للبعد العلوي من شخصية الاِنسان أو منافراً له.

( 31 )
وبعبارة أُخرى: تميل إليه النفس بالذات أو تنفَّر عنه كذلك، من دون ملاحظة كون الفعل ذا مصلحة أو مفسدة، أو كونه محصلاً لهما، وعلى هذا الملاك يكون الموضوع للبحث عاماً شاملاً لفعل الفاعل المختار، واجباً كان أو ممكناً.
ثمّ إنّ الاَشاعرة لما ضاق عليهم الخناق واتسع عليهم سبيل الانتقاد عمدوا إلى تكثير الملاكات واعترفوا بالحسن والقبح في بعضها وأنكروا في البعض الآخر، وحاصل كلامهم: أنّ للحسن والقبح معاني ثلاثة:
الاَوّل: صفة الكمال والنقص، يقال العلم حسن، والجهل قبيح، ولا نزاع في أنّ هذا الاَمر ثابت للصفات في أنفسها وأنّ مدركه العقل ولا تعلّق له بالشرع.
الثاني: ملائمة الغرض ومنافرته، فما وافق الغرض كان حسناً وما خالفه كان قبيحاً، وما ليس كذلك لم يكن حسناً ولا قبيحاً، وقد يعبَّـر عنهما بالمصلحة والمفسدة.
الثالث: ما تعلّق به مدحه تعالى وثوابه و ذمُّه و عقابه، فما تعلّق به مدحه تعالى في العاجل وثوابه في الآجل يسمّى حسناً، وما تعلّق به ذمه تعالى في العاجل وعقابه في الآجل يسمّى قبيحاً، وما لا يتعلّق به شيء منهما فهو خارج عنهما، هذا في أفعال العباد، وإن أُريد ما يشمل أفعال اللّه تعالى اكتفي بتعلّق المدح والذم فقط وترك الكلام في الثواب والعقاب، وهذا المعنى هو محل النزاع فهو عندنا شرعي، وذلك لاَنّ الاَفعال كلّها ليس منها شيء في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذم فاعله وعقابه، وإنّما صارت كذلك بسبب أمر الشارع بها ونهيه عنها. (1)
يلاحظ عليه: أنّ الكلام في الاَفعال دون الصفات، فإقحام صفة الكمال

____________
(1)شرح التجريد للفاضل القوشجي: 441؛ دلائل الصدق:1|215.

( 32 )
والنقص في المقام خارج عن إطار البحث، ولاَجل ذلك لما طرحنا ذلك المثال صححناه بقولنا: فكلّفعل يقع في طريق تحصيل ذلك الكمال أو يقع في طريق هذه فهو حسن أو قبيح، كما أنّ طرح ملائمة الغرض ومنافرته أو المصلحة والمفسدة إطالة في البحث، لما عرفت من أنّالغرض الباعث لطرح هذه المسألة هو التعرّف على أفعاله سبحانه دون أفعال الاِنسان، ولو دخل الثاني فإنّما دخل استطراداً، ومن الواضح بمكان أنّفعله سبحانه خارج عن إطار المصلحة والمفسدة. وإن كان تشريعه للعباد غير خال عنهما لكنّ الكلام في فعله التكويني كتعذيب البريء.
ومنه يظهر ضعف الملاك الثالث وهو تفسيرهما بما يقتضي المدح والذم والثواب والعقاب؛ ولما رأى أنّفعله سبحانه فوق إطار الثواب والعقاب حذفهما في فعله وأثبتهما في فعل الاِنسان، وهذا ممّا يعرب عن أنّالقوم لما ضاق عليهم الخناق مالوا يميناً وشمالاً لتكثير ملاكات الحسن والقبح والاعتراف ببعض الصور وإنكار بعضها الآخر، مع أنّه ليس للبحث إلاّملاك واحد وهو الذي عرفت. أعني: موافقة الفعل للطبع العِلْويّ أو مناقرته معه التي ربما يستعقب المدح أو الذمّ عند العقلاء ولكن ليس المدح أو الذمّ ملاكاً لهما. وسيوافيك نقد كلامه تفصيلاً في المستقبل (1).

____________
(1)لاحظ: ص 50 ـ 51.

( 33 )
الفصل السادس

العقل العملي من مقولة الاِدراك

تنقسم الحكمة لدى الحكماء منذ عهد مبكر إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، وهذا التقسيم بمعنى تقسيم إدراك الاِنسان باعتبار متعلّقه، فلو تعلّق الاِدراك بما من شأنه أن يُعلم كقولنا: اللّه موجود، فهو حكمة نظرية، ولو تعلّق بما من شأنه أن يعمل فهو حكمة عملية، فالحكمتان: النظرية و العملية كلاهما من مقولة الاِدراك وإنّما الاختلاف في المتعلّق، هذا هو المعروف عند الفلاسفة، وهذا هو الظاهر من المعلم الاَوّل حيث يقول:
النظرية هي التي بها يحوز الاِنسان علمَ ما من شأنه أن يعلمه إنسان، والعملية هي التي يعرف ما شأنه أن يعمله الاِنسان بإرادته. (1)
والعبارة صريحة في أنّ الحكمة العملية من مقولة الاِدراك.
وقد تبعه الشيخ الرئيس في «الاِشارات» وجعل الحكمة العملية من مقولة الاِدراك لا مبدأً للتحريك والعمل، وقال:
فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي، وهي التي تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل من الاَُمور الاِنسانية، جزئية ليتوصل به إلى أغراض اختيارية من مقدمات أوّلية وذائعة وتجربية، وباستعانة بالعقل النظري في الرأي الكلي إلى أن ينتقل به إلى الجزئي.(2)
____________
(1) شرح منظومة السبزواري: 310.
(2)شرح الاِشارات:2|352.

( 34 )
وأمّا كلام المحقّق الطوسي في شرحه على الاِشارات فلا يخلو عن إجمال، فصدر العبارة يوافق نظرية الشيخ، وأمّا ذيلها فكأنّه يشير إلى أنّ الحكمة العملية مبدأ للتحريك لا للاِدراك، يقول:
قوى النفس تنقسم بالقسمة الاَُولى، إلى ما يكون باعتبار تأثيرها في البدن، الموضوع لتصرفاتها، مكمّلة إيّاه تأثيراً اختيارياً، وإلى ما يكون باعتبار تأثيرها عما هو فوقها، مستكملة في جوهرها بحسب استعداداتها وتسمّي الا َُولى عقلاً عملياً، والثانية عقلاً نظرياً، والشيخ بدأ بالاَُولى لاَنّها أظهر، فالشروع في العمل الاختياري الذي يختص بالاِنسان لا يتأتى إلاّ بإدراك ما ينبغي أن يعمل في كلّ باب وهو إدراك رأي كلي مستنبط من مقدمات كلية: أوّلية أو تجربية أو ذائعة أو ظنية يحكم بها العقل النظري، ويستعملها العقل العملي في تحصيل ذلك الرأي الكلي من غير أن يختص بجزئي دون غيره، والعقل العملي يستعين بالنظري في ذلك.
ثمّ إنّه ينتقل من ذلك باستعمال مقدمات جزئية أو محسوسة إلى الرأي الجزئي الحاصل فيعمل بحسبه ويحصل بعمله مقاصده في معاشه ومعاده. (1)
وأنت ترى أنّالعبارة يكتنفها الكثير من الغموض ولكن الظاهر من عبارته في «الجوهر النضيد» هو انّها من مقولة الاِدراك حيث يقول: ومبادىَ الجدل عند السائل هي ما يتسلمه عن المجيب، وهي المشهورات الحقيقية إمّا مطلقة يراها الجمهور ويحمدها حسب العقل العملي كقولنا : العدل حسن ويسمّى آراء محمودة .... (2)
هذا وقد تبعه الحكيم السبزواري في شرح منظومته، فنقل عبارة المعلم الاَوّل وشرحها على الرغم من أنّه ذكر في آخر كلامه عبارة صاحب «المحاكمات» التي تخالف تلك النظرية.

____________
(1)شرح الاِشارات:2| 353.
(2)الجوهر النضيد: 199.

( 35 )
العقل العملي مبدأ العمل والحركة
قد عرفت أنّ العقل العمليّ عند الفارابي ومن تبعه مبدأ إدراك كالعقل النظري، وإنّما الاختلاف في المتعلّق لكن خالف تلك النظرية جمع من الفلاسفة منهم الشيخ في الشفاء والنجاة، حيث قال في الشفاء:
وأمّا النفس الناطقة الاِنسانية فينقسم قواها إلى قوة عاملة وقوة عالمة، وكلّ واحدة من القوَّتين تسمّى عقلاً باشتراك الاسم أو تشابهه، فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الاِنسان إلى الاَفاعيل الجزئية ـ إلى أن قال ـ وإنّما كانت الاَخلاق التي فينا منسوبة إلى هذه القوة، لاَنّ النفس الاِنسانية جوهر واحد وله نسبة وقياس إلى جنبتين، جنبة هي تحته وجنبة هي فوقه، وله بحسب كلّ جنبة، قوة بها ينتظم العلاقة بينه، وبين تلك الجنبة فهذه القوة العملية هي القوة التي لها لاَجل العلاقة إلى الجنبة التي دونها وهو البدن وسياسته ـ إلى أن قال ـ فمن الجهة السفلية يتولد الاَخلاق ومن الجهة الفوقانية يتولد العلوم. (1)
وعلى ذلك درج الشيخ أيضاً في النجاة وقال:
وأمّا النفس الناطقة الاِنسانية فتنقسم قواها أيضاً إلى قوة عاملة وقوة عالمة، وكلّ واحدة من القوتين تسمّى عقلاً باشتراك الاسم، فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الاِنسان إلى الاَفاعيل الجزئية الخاصة بالرويّة على مقتضى آراء تخصها إصطلاحية.... (2)

____________
(1)الطبيعيات من الشفاء: 293، طبع إيران .
(2)النجاة: 164، ط مصر ؛ و 202، ط بيروت .

( 36 )
وممن سار على هدي الشيخ الرئيس في الشفاء والنجاة، هو قطب الدين صاحب المحاكمات، فقد شرح هذا المقال، وقال:
لا شكّ أنّ للنفس الاِنسانية إدراكاً للاَشياء وتصرفاً في البدن وهو فعل منه، فأثبتوا للنفس قوتين: مبدأ إدراك ومبدأ فعل، من جهتي الاِدراك من الملاَ الاَعلى، والفعل في العالم الاَدنى وفي بدنه.
فبالجهة الاَُولى متأثرة، وبالجهة الثانية موَثرة، والقوة التي يدرك بها النفس الاَشياء يسمى العقل النظري، وبالقوة التي بها صارت مصدراً للاَفعال يسمّى عقلاً عملياً، وإطلاق العقل على القوتين بالاشتراك اللفظي لاختلافهما من حيث إنّ الاَُولى منها نظير الانفعال، والثاني مصدر الفعل (الاِدراك) أو بطريق التشابه لاشتراكهما في كونهما قوتي النفس. (1)
وقد تبع صاحب المحاكمات الحكيم النراقي حيث نقل عن الشيخ الرئيس انّه قال: إنّ إدراك فضائل الاَعمال ورذائلها من شأن العقل العملي، ثمّ أعرض عنه، وقال: والحقّ أنّ مطلق الاِدراك والاِرشاد إنّما هو من العقل النظري، فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفِّذ الممضي لاِشاراته، وما ينفذ فيه الاِشارة فهو قوة الغضب والشهوة. (2)
وعلى هذا فالعقل العملي ليس من مقولة الاِدراك المتعلّق بأعمال الاِنسان في مجالات السياسة والتدبير أو الاَخلاق أو تدبير المنزل، بل يكون ـ حسب تعبير النراقي ـ منفذاً لما يحكم به العقل النظري.
ثمّإنّ الشيخ المظفر ـ لما لم يكن واقفاً على وجود المصطلح الثاني ـ

____________
(1)المحاكمات في ذيل شرح الاِشارات:2|352. وفي ذيل كلامه ما ربما يغاير ما اختاره هنا، فلاحظ.
(2)جامع السعادات: 1|57، طبع عام 1383هـ.

( 37 )
استغرب كلام جامع السعادات، وقال: ومن العجيب ما جاء في جامع السعادات إذ يقول رداً على الشيخ الرئيس خرّيت هذه الصناعة «انّ مطلق الاِدراك والاِرشاد إنّما هو من العقل النظري، فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفذ لاِشارته».
وهذا منه خروج عن الاصطلاح. وما ندري ما يقصد من العقل العملي إذا كان الاِرشاد والنصح للعقل النظري؟ وليس هناك عقلان في الحقيقة بل هو عقل واحد، ولكن الاختلاف في مدركاته ومتعلّقاته، وللتمييز بين الموارد يسمّى تارة عملياً وأُخرى نظرياً، وكأنّه يريد من العقل العملي نفس التصميم والاِرادة للعمل، وتسمية الاِرادة عقلاً وضع جديد في اللغة». (1)
وقد عرفت أنّ الفكرة لم يبتدعها صاحب جامع السعادات بل هو تبع الشيخ في الشفاء والنجاة.
كما أنّ بعض المحقّقين من المعاصرين، نقل كلام قطب الدين ووافق بعضه وخالف في البعض الآخر، وأسماه اشتباهاً كبيراً ثمّ حاول تصحيحه.
والحق انّها نظرية قابلة للنقاش طرحها الشيخ الرئيس في كتابيه المذكورين خلافاً لما قاله في الاِشارات وتبعه بعض المتأخرين كما عرفت.

____________
(1)أُصول الفقه: 1|223.

( 38 )
الفصل السابع

التحسين والتقبيح العقليان من اليقينيات

هل القضايا ـ التي يحكم بها العقل العملي حكماً باتاً، كحسن العدالة وقبح الظلم وما شاكلهماـ من القضايا اليقينية القطعية؟ أو هي من القضايا المشهورة التي ليس لها رصيد سوى الشهرة وتطابق العقلاء عليها ؟
قد اشتهر على ألسن كثير من الفلاسفة أنّ التحسين والتقبيح المذكورين ليسا من قبيل القضايا اليقينية وليس لهما رصيد، سوى تطابق العقلاء على وجه لو أعرض عنهما العقلاء لما نالا هذا المقدار من القيمة العلمية.
ذهب الشيخ الرئيس، والمحقق الطوسي، وقطب الدين الرازي، وعمر بن سهلان الساوي صاحب «البصائر النصيرية» والمحقّق الاِصفهاني، وتلميذه الشيخ المظفر، إلى أنّهما من القضايا المشهورة لا اليقينية.وقبل أن نستعرض كلماتهم لابد من ذكر شيء كالمقدمة.
إنّ مادة القياس تنقسم إلى أقسام خمسة: فالقياس إمّا برهاني أوجدلي أو خطابي أو شعري أو مغالطي.
فالقياس البرهاني يتألف من يقينيات،وأُصولها ستة:
1. الاَوّليات، 2. المشاهدات، 3. التجربيات، 4. الحدسيات، 5. المتواترات، 6. الفطريات.

( 39 )
وليعلم انّ المراد من المشاهدات إمّا المشاهدات الظاهرة أعني الحسيات، أو الباطنة، كالوجدانيات.
كما أنّ المراد من الفطريات هو ما يكفي ملاحظة نفس القضية في الجزم بها، كقولنا الاَربعة زوج.
وإنّما فسرنا هذين الاصطلاحين لاَجل انّ المشاهدات في مصطلح العرف مختصة بالحسيات، وأمّا في المصطلح المنطقي فهي أعم من الظاهر والباطن، كما أنّالفطريات في المصطلح المنطقي هي غيرها في المصطلح القرآني فانّها في المصطلح الثاني هي الوجدانيات التي عدت قسماً من المشاهدات، هذا كلّه حول القياس البرهاني.
وأمّا القياس الجدلي فيتألف من المسلّمات والمشهورات، والمراد من المسلّمات هي القضايا التي قبلها الخصم المجادل وإن لم تكن صحيحة في نظر الآخر.
والمراد من القضايا المشهورة هي القضايا المقبولة عند الناس، وهي على أقسام:
1. واجب القبول إذا كان يقينياً من الاَوّليات كقولنا: الكلّ أكثر من الجزء.
2. الآراء المحمودة، والمراد ما يستحسنه أو يستقبحه طوائف الناس، كقولنا: العدل حسن، والظلم قبيح.
3. الانفعاليات.
4. الخلقيات.
5. العاديات.
6. الاستقرائيات.

( 40 )
وعلى ضوء ذلك فقضية الحسن والقبـح العقليين ـ عند هوَلاء الذين أسميناهم ـ من القضايا المشهورة التي قبلها الناس وليست من اليقينيات، ولذلك تستخدم في باب الجدل دون البرهان.
وهذا هو الظاهر من كلمات علماء الاِسلام، ودونك نصوصهم:
1. قال الشيخ الرئيس في كتاب النجاة: وأمّا الذائعات فهي مقدمات وآراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها إمّا شهادة الكلّ، مثل: انّ العدل جميل. وإمّا شهادة الاَكثر، وإمّا شهادة العلماء، أو شهادة أكثرهم أو الاَفاضل منهم، فيما لا يخالف فيه الجمهور؛ وليست الذائعات من جهة ما هي هي ممّا يقع التصديق بها في الفطرة، فانّ ما كان من الذائعات ليس بأولى عقلي ولا وهمي، فانّها غير فطرية، ولكنّها متقررة عند الاَنفس، لاَنّ العادة تستمر منذ الصبا، وفي الموضوعات الاتفاقية.
وربّما دعا إليها محبة التسالم والاِصلاح المضطر إليهما الاِنسان، أو شيء من الاَخلاق الاِنسانية، مثل الحياء والاستئناس، أو سنن قديمة بقيت ولم تنسخ، أو الاستقراء الكثير، أو كون القول في نفسه ذا شرط دقيق بين أن يكون حقّاً صرفاً، أو باطلاً صرفاً، فلا يُفطَن لذلك الشرط ويوَخذ على الاِطلاق، وإذا أردت أن تعرف الفرق بين الذائع والفطري، فأعرض قولك:«العدل جميل» و«الكذب قبيح» على الفطرة التي عرفنا حالها وتكلف الشكّ فيها تجد الشك متأتياً فيهما وغير متأت في أنّالكل أعظم من الجزء وهو حقّ أولى. (1)
وكلامه هذا صريح في أنّ المشهورات والذائعات ليست من الاَُمور اليقينية، ولذلك قال: إنّ الشكّ يتطرق إلى قولنا: العدل جميل، والكذب قبيح، ولا يتطرق إلى قولنا: الكلّأعظم من الجزء.

____________
(1)النجاة: 63.

( 41 )
2. وقال أيضاً في الاِشارات: ومن المشهورات الآراء المسماة بالمحمودة، وربما خصصناها باسم المشهورة إذ لا عمدة لها إلاّ الشهرة، وهي آراء لو خلّي الاِنسان وعقله المجرد ووهمه وحسّه، ولم يوَدب بقبول قضاياها والاعتراف بها، ولم يُمْلِ الاستقراء بظنه القوي إلى حكم لكثرة الجزئيات، ولم يستدع إليها ما في طبيعة الاِنسان من الرحمة والخجل والاَنفة والحمية وغير ذلك، لم يقض بها الاِنسان طاعة لعقله أو وهمه أو حسه، مثل حكمنا انّ سلب مال الاِنسان قبيح، وانّ الكذب قبيح، لا ينبغي أن يقدم عليه. (1)
3. وقال المحقّق الطوسي عند شرحه لعبارة الشيخ الرئيس: إنّ المعتبر في الواجب قبولها، كونها مطابقة لما عليه الوجود، فالمعتبر في المشهورات كون الآراء عليها مطابقة، فبعض القضايا أولى باعتبار ، ومشهور باعتبار (2) والفرق بينها وبين الاَوّليات ما ذكره الشيخ.
وعبارته صريحة في أنّ ما يجب قبولها، عبارة عمّا إذا كان له مصداق في الخارج، والقضايا المشهورة كقولنا: العدل حسن، ليس لها مطابق في الخارج.
هذه كلمات الاَقدمين، وقد وافقهم في ذلك بعض المتأخرين، كالمحقّق الاصفهاني في شرحه على الكفاية والشيخ المظفر في أُصول الفقه فزعما أنّ الحسن والقبح من القضايا المشهورة التي تطابق عليها العقلاء، لا من القضايا اليقينية.
قال المحقّق الاِصفهاني: إنّ المعتبر عند أهل الميزان في المواد الاَوّلية للقضايا البرهانية المنحصرة تلك المواد في الضروريات الست، مطابقتها للواقع ونفس الاَمر، والمعتبر في القضايا المشهورة، والآراء المحمودة، مطابقتها لما عليه آراء العقلاء حيث لا واقع لها غير توافق الآراء عليها. (3)
____________
(1)شرح الاِشارات: 1|220ـ 221.
(2)شرح الاِشارات: 1|220ـ 221.
(3)نهاية الدراية:2|125.

( 42 )
وقد اعتمد في نظره هذا على كلام الشيخ من التفريق بين البرهانيات التي يكون لها مطابق في الخارج، والمشهورات التي ليست لها مطابق في الخارج، ولا واقع لها غير توافق الآراء عليها.
وقال الشيخ المظفر ـ عند كلامه في الفرق بين الاَوّليات التي يدركها العقل النظري، والمشهورات التي يدركها العقل العملي ـ: إنّ الفارق وجوه ثلاثة:
1. انّ الحاكم في قضايا التأديبات العقل العملي، والحاكم في الاَوّليات العقل النظري.
2. انّ القضية التأديبية لا واقع لها إلاّ تطابق آراء العقلاء، والاَوّليات لها واقع خارجي.
3. انّ القضية التأديبية لا يجب أن يحكم بها كلّ عاقل لو خلي وطبعه ونفسه ولم يتأدب بقبولها والاعتراف بها، وليس كذلك القضية الاَوّلية التي يكفي تصور طرفيها في الحكم، فانّه لابدّ أن لا يشذ عاقل في الحكم بها لاَوّل وهلة. (1)
وهذه الكلمات تعرب عن أنّ المشهورات ليست من الاَوّليات، وبالتالي ليست من اليقينيات، وإنّما رصيدها تطابق العقلاء عليها.
نعم انّ بين المتأخرين من ذهب إلى أنّ التحسين والتقبيح من اليقينيات، وفي مقدمهم المحقّق اللاهيجي في كتابه: «سرمايه ايمان» و بما أنّ لكلامه من القيمة بمكان آثرنا تعريبه إلى العربية قال:
«اعلم أنّ الحقّ مذهب العدلية، فانّ حسن بعض الاَفعال كالعدل والصدق أو قبحها كالظلم والكذب أمر ضروري، والعقل في قضائه هذا غنيّ عن الشرع.

____________
(1)أُصول الفقه:2|231ـ 232.

( 43 )
ثمّ يطرح الاِشكال التالي ويقول:
قد عدّ الحكماء حسن العدل وقبح الظلم من المقبولات، وذلك لما فيها من المصلحة والمفسدة العامتين، ومن الواضح أنّالمقبولات مادة للقياس الجدلي لا للقياس البرهاني، فعندئذٍكيف يمكن عدّها من الضروريات والاَوّليات التي هي مبدأ للبرهان؟
وأجاب قائلاً: إنّه لا مانع من أن تدخل قضية واحدة من جهة تحت اليقينيات، ومن جهة أُخرى تحت المقبولات، وحيث إنّها من القضايا الضرورية التي لا يشك فيها كلّ من رجع إليها، مع قطع النظر عن المصلحة أو المفسدة، فهي من الاَوّليات، إلاّ أنّ هذا لا يمنع من اندراجها تحت المقبولات لترتب المصالح والمفاسد العامة عليها». (1)
ووافقه الحكيم السبزواري في «شرح الاَسماء الحسنى»، حيث قال:
إنّ منع جزم العقلاء بالحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه مكابرة غير مسموعة، وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأنّ «العدل حسن» و«الظلم قبيح» بأنّ الحكماء جعلوها من المقبولات العامة التي هي مادة الجدل، فجعلهما من الضروريات التي هي مادة البرهان غير مسموعة.
والجواب: انّ ضرورة هذه الاَحكام بمرتبة لا تقبل الاِنكار، بل الحكم ببداهتها أيضاً بديهي، غاية الاَمر أنّ هذه الاَحكام من العقل النظري بإعانة العقل العملي، بناء على أنّ فيها مصالح العامة ومفاسدها، وجعل الحكماء إياها من المقبولات العامة ليس الغرض منه إلاّ التمثيل للمصلحة والمفسدة المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصة، وهذا غير مناف لبداهتها، إذ القضية

____________
(1)سرمايهَ ايمان: 60ـ 62.

( 44 )
الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين، فيمكن اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين. (1)
وحصيلة النزاع : أنّالمنطقيين خصّوا اليقينيات بالاَوّليات والمشاهدات والتجربيات والحدسيات والمتواترات والفطريات، فالبرهان الموَلف من هذه الاَُمور الستة يفيد اليقين، وخصّوا الجدل غير المفيد لليقين بالمشهورات والمسلمات، وأدخلوا حسن العدل وقبح الظلم في المشهورات التي لا تفيد اليقين.
ولو صحّ ما ذكروه لانهارت الاَُصول التي بني عليها الكلام الاِسلامي.
ولكن الحقّمع المحقّق اللاهيجي والحكيم السبزواري، لاَنّ مسألة الحسن والقبح ذات جهتين:
فمن جهة انّها داخلة في الاَوّليات، ومن جهة أُخرى داخلة في المشهورات.
أمّا الاَوّليات: فقد عرّفوها بقولهم: كلّ قضية تتضمن أجزاوَها علّية الحكم فهي أوّلية لا يتوقف العقل فيه إلاّعلى تصور الاَجزاء، ثمّ مثّلوا بقوله: الكلّ أعظم من جزئه. فانّ هذا التصديق معلول لتصور جزئيه لا غير، ولا يتوقف العقل فيه إلاّعلى تصور مفرديه. (2)
وقولنا: العدل حسن، واجد لتلك الخصيصة، فانّ تصور الجزءين كاف في الجزم بالقضية.
فإن قلت: إنّه يعتبر في القضايا اليقينية وجود المطابق لها في الواقع، كقولنا: الكلّأكبر من الجزء وليس لقولنا : العدل حسن أو الظلم قبيح شيء مطابق في الخارج.

____________
(1)شرح الاَسماء الحسنى: 107ـ 108.
(2)الجوهر النضيد: 173.

( 45 )
والجواب: أنّه يكفي في أن يكون للقضية مطابقاً في الخارج، تطابقها مع الفطرة الاِنسانية أو البعد الملكوتي، فانّ الاِنسان حينما يتصور القضية، ويعرضها على البعد الملكوتي والفطرة السليمة يراهما متطابقتين،وللفطرة واقعية عينية في الخارج، وقد ذكر الشيخ في كتاب النجاة معنى للفطرة ربما يكون صالحاً لنقض كلامه به، وقال:
ومعنى الفطرة أن يتوهم الاِنسان نفسه، حصل في الدنيا، دفعة وهو بالغ عاقل لكنّه ولم يسمع رأياً ولم يعتقد مذهباً، ولم يعاشر أُمة، ولم يعرف سياسة، لكنّه شاهد المحسوسات، وأخذ منها الخيالات ثمّيعرض منها على ذهنه شيئاً ويتشكك فيه، فإن أمكنه الشك فالفطرة لا تشهد به، وإن لم يمكنه الشك، فهو ما يوجبه الفطرة. (1)
فحسن العدل داخل في الاَُمور الفطرية بهذا المعنى، وقضية (العدل حسن) إذا تصورها الاِنسان وتجرّد عن كلّ شيء لا يساوره الشك فيها.
وأمّا المشهورات فلا شكّ في تطابق العقلاء على «حسن العدل» لما فيه بقاء النظام، و«قبح الظلم» لما فيه من زواله.
فعدّتلك القضية من المشهورات لا ينافي كونها من الاَوّليات، وتخصيص الاَوّليات بالعقل النظري بعدُ لم يثبت، فانّ منها ما يرجع إلى العقل النظري ومنها ما يرجع إلى العقل العملي.

____________
(1)النجاة: 62.

( 46 )
الفصل الثامن

القضايا البديهية في الحكمة العملية

إنّتقسيم الحكمة النظرية إلى ضرورية وغير ضرورية أمر واضح لا سترة فيه، كما أنّ تقسيم البديهيات إلى مراتب ودرجات أمر لا غبار عليه، لذلك نرى أنّ البرهان المفيد للعلم واليقين يتشكل من الاَوّليات والمشاهدات والتجربيات والحدسيات والمتواترات والفطريات، وكلّها من الاَُمور اليقينية البديهية ولكن للبداهة درجات.
هذا هو حال الحكمة النظرية، ومثلها الحكمة العملية ـ أي إدراك العقل ما من شأنه أن يعمل به ـ فهي أيضاً تنقسم إلى ضرورية وغير ضرورية ـ أي ما يدرك العقل العملي لزوم العمل به بضرورة وبداهة ـ كحسن الاِحسان وقبح الظلم، وأُخرى لا يدركه إلاّأن يرجع إلى مثل هذا الاَمر البديهي في العقل العملي.
والسبب وراء تقسيم العقل العملي إلى ضروري وغير ضروري، هو نفس السبب في تقسيم الحكمة النظرية إلى ضرورية ونظرية، لاَنّ القضايا لو كانت جميعها بديهية في الحكمة النظرية لما احتاجت إلى التفكير، ولم يكن هناك أي مشكلة فكرية، ولو كانت بأسرها نظرية لتاه الاِنسان في دوّامة من المشاكل الفكرية دون أن يجد حلولاً لها، لاَنّ المفروض انعقاد القضايا على نمط واحد، فلم يكن بد إلاّأن تكون القضايا في الحكمة النظرية على قسمين: يستمد من البديهي في حل النظري.

( 47 )
وهذا هو السبب في انقسام الحكمة العملية إلى قضايا واضحة قائمة على ساقها، وقضايا غير بديهية تستمِدّ حكمها من خلال الاستعانة بالقضايا الواضحة.
يقول التفتازاني في تقسيم قضايا الحكمة النظرية إلى قسمين:
الضرورة أي الحصول بلا نظر ، والاكتساب أي الحصول بالنظر. (1)
ويقول صاحب البصائر النصيرية: إنّ المقدمات في القياس يجب أن تنتهي إلى أُمور غنية عن البيان، ولو كان الجميع من القضايا النظرية المحتاجة إلى البيان لامتنع تحصيل العلم، لاَنّ كلّ مقدمة تحتاج إلى الاَُخرى ويذهب إمّا إلى غير النهاية، أو يكون الاَخير من المقدمات موقوفة على الاَُولى، وهو الدور.
فللابتعاد عن التسلسل والدور الباطلين لا محيص عن تقسيم الحكمة النظرية إلى بديهي ونظري. (2)
وهذا البيان جار في الحكمة العملية، فانّ القضايا التي يحكم العقل بحسنها وقبحها ومدح الفاعل وذمّه وبإلزام العمل على وفقه أو الاجتناب عنه، لا تخلو عن حالتين:
إمّا أن تكون قضايا تامة يدركها العقل بلا توسيط مقدمة، وهي قضايا ضرورية من العقل العملي.
وإمّا لا يدركها إلاّ بإرجاعها إلى قضايا أُخرى حتى تنتهي إلى أُم القضايا العملية البديهية لتكون مفتاحاً لحلّ سائر القضايا. وهي حسنُ العدلِ وقبحُ الظلمِ .

____________
(1)الحاشية على التهذيب قسم المتن: 22.
(2)البصائر النصيرية: 139 بتوضيح منّا.