إنّ مذهب اللّذة من المذاهب الاَخلاقية المهمة والذي ظهر في العهد
اليوناني القديم، وقد تطور ذلك المذهب عبر الزمان خصوصاً في العصور الاَخيرة
في الغرب ، ولذلك ظهرت مذاهب أخلاقية أُخرى كلّها من فروع هذا المذهب،
فكأنّها تعود إلى أصل واحد.
وهذه المذاهب عبارة عن:
أ. مذهب اللّذة الشخصية المنسوب إلى «أرسطيفوس».
ب. مذهب اللّذة الشخصية المحددة المنسوب إلى «أبيقور».
ج. مذهب المنفعة المنسوب إلى «جيريمي بنتام».
د. مذهب العاطفة المنسوب إلى «آدم اسميت»
هـ. مذهب القانون المنسوب إلى «راسل». 1. مذهب اللّذة الشخصية
هذا المذهب منسوب إلى «ارسطيفوس» الذي ولد حوالي 435 ق.م وجاء
إلى أثينا سنة 416ق. م وإلى إيجينا سنة 399 ق. م، وكان رفيقاً لاَفلاطون وتوفي
سنة 350 ق. م.
وخلاصة مذهبه في الاَخلاق إنّ كلّ إحساس عبارة عن حركة فيمن يحسّ،
فإن كانت هذه الحركة ناعمة نشأ الشعور باللّذة، وإن كانت خشنة نشأ الشعور
بالاَلم، وإذا أصبحنا في حالة سكون لم نشعر بلذة ولا بألم. ومن بين هذه الاَحوال
الثلاثة : اللّذة، الاَلم، الخلو من كليهما، الاَفضل هو اللّذة قطعاً. تشهد على ذلك
الطبيعة نفسها، لاَنّالجميع يطلبون اللّذة ويتجنبون الاَلم. والخلو من الاَلم لا يمكن
أن يكون أفضل من اللّذة، لاَنّ عدم الحركة هو عدم شعور، كما في النوم، فالخير
إذن هو اللّذة، والشرّ إذن هو الاَلم، و ما ليس لذة ولا ألماً فليس بشر ولا بخير.
ولهذا كانت الغاية من الاَفعال جلب اللّذات ولا يمكن الخلو من الاَلم ان
يكون غاية، ولهذا أيضاً جعلوا واجب الاِنسان هو تحصيل أكبر قدر من اللّذات،
ولكن في اللحظة الحاضرة، لاَنّاللّذة المقبلة، واللّذة الماضية كلتيهما غير موجودة،
انّ الحاضر هو ملكنا، أمّا الماضي والمستقبل فليسا لنا، ولهذا ينبغي أن لا نحفل
بهما.
وكلّلذة خير ولا تفاضل بين اللّذات، ولا بين الاَُمور المولِّدة للّذات، فليكن
الجالب للّذة ما يكون، المهم انّه يجلب لذة فقط.
إنّاللّذات كلّها سواء ولهذا لا يفرِّقون بين لذّات تسمح بها العادات
والقوانين، وأُخرى لا تسمح بها.انّ كلّ لذة مطلوبة حتى لو انتجها فعل قبيح.(1)
وصفوة القول: إنّ كلّ عمل يلائم الغريزة الاِنسانية ويلتذ من ورائه حاضراً
فهو حسن، وكلّ عمل يوجب ألماً حاضراً فهو قبيح، وأمّا ما لا يوجب واحداً منها
فهو خارج عن موضوع الاَخلاق. ____________
(1)عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة: 2|241.
يلاحظ عليه بأُمور:
أوّلاً: أنّ موَسس هذا المذهب نظر إلى الاِنسان من زاوية ضيّقة، وهي أنّ
تلبية الغرائز الحيوانية تستتبع لذة، وكبح جماحها تستتبع ألماً، ولكنّه غفل في
الوقت نفسه عن أنّ للاِنسان وراء بُعْده المادي، بعداً روحانياً ملكوتياً لا صلة له
بالغرائز المادية، ولا باللذائذ الحسية.
فالعارف باللّه سبحانه المستغرق في جلاله وجماله، يلتذّ بعبادته وخضوعه
أمام اللّه سبحانه أكثر مما يلتذُّ به الاِنسان المادي من أعمال غريزة من الغرائز
السفلية.
كما أنّ الاِنسان المثالي الذي يحب للغير ما يحبه لنفسه إذا قام بإجراء
العدالة ونبذ الظلم، واجتثاث جذورها يلتذّ بعمله هذا أكثر مما يلتذ به الاِنسان
الغارق في الشهوات والرغبات النفسية، فعلى صاحب هذا المذهب أن يفسر اللّذة
بالاَعم من المادية والمعنوية،وموافقة الطبع ومنافرته،وبالطبع السفلي والعلوي،
وعندئذٍ يخرج عن كونه رجلاً مادياً حسياً لا يوَمن بما وراء الحس، كما هو
المعروف من صاحب هذا المذهب.
ثانياً: لو افترضنا انّ الاَخلاق تتلخص في اللّذائذ الشخصية والفردية غير انّ
اعمال الغرائز دون تعديل من قِبل العقل والقوانين الوضعية، يوجب الفوضى في
المجتمع، ويقلب اللّذة ألماً، فلابدّ أن تحدّد مشروعية اللّذة بما يحدّده القانون
والرأي العام، فعندئذ لا تكون كلُّ لذّةٍ مقرونة بالسعادة، كما هو المعروف من أنّه
فسر السعادة التي هي مذهب استاذه سقراط، باللّذة.
ثالثاً: لماذا خصّص اللّذة باللّذة الحالية وألغى الماضي والمستقبل مدّعياً بأنّ
كلاً من اللّذة المقبلة أو اللّذة الماضية كلتيهما غير موجودة، مع أنّه إذا كانت اللّذة
مورثة للاَلم في المستقبل، فلا تصحّ تسميتها أخلاقاً وسعادة بحجة انّ السعادة
عبارة عن اللّذة الفعلية أو أنّاللّذة المقبلة غير موجودة.
رابعاً: هذا المذهب ـ لم يأخذ بنظر الاعتبار ـ اللّذات المعنوية، فلو أخذت
بنظر الاعتبار لعمَّت اللّذة الدنيوية والاَُخروية ، وبما ان موَسّس هذا المذهب كان
مادياً حسياً لم يوَمن إلاّباللّذة الدنيوية، كما عرفت في الاَمر الاَوّل.
ثمّ إنّ أتباع هذا المذهب المعروفون بـ«القورينائيين» تصرفوا في هذا
المذهب ووقعوا في حرج من قبوله بأكمله، وقالوا:
إذا كانت كل لذّة خيراً فلا شكّ أيضاً في أنّ في بعضها مزيداً من الخير عن
الاَُخرى، فبطل قوله فلا تفاضل بين اللّذات.
كما أنّه لا سبيل إلى إنكار أنّ بعض اللّذات تشترى بآلام كبيرة، ولهذا
اضطروا إلى الاِقرار بأنّ بلوغ سعادة خالية من الاَحزان أمر عسير المنال، ولهذا قالوا
فيما بعد، انّ العمل السيء هو الذي ينشأ عنه ألم أكثر مما تنشأ لذة، ولهذا ينبغي
على العاقل أن يمتنع عن الاَعمال التي تحرمها القوانين المدنيةوالرأي العام. (1) 2. مذهب اللذة الشخصية المحددة
موَسس هذا المذهب هو «ابيقور» وهو نفس مذهب« ارسطيفوس»، غير انّه
أدخل فيه عنصراً خاصاً وهومدخلية العقل في تحديد تسمية اللذة بالاَخلاق.
ولد «ابيقور» عام 341ق.م. في مدينة «شامِس» ثم انتقل إلى «اثينا» فأقام
مدرسة في حديقته المشهورة باسم «حديقة ابيقور». وظل يدرِّس بها حوالي ست
وثلاثين سنة، وتوفي سنة 270 ق.م. ____________
(1)موسوعة الفلسفة:2|241؛ تاريخ فلسفة اليونان والروم، فردريك كابلستون: 1|145.
وهو في الفلسفة تلميذ «ذيمقراطيس» الذي يقول: إنّ الاَصل في كلّ معرفة
هو الحس، وعن طريقه وحده تتمّ المعرفة، وإنّالاَجسام موَلفةمن أجزاء لا تتجزأ.
واللازم هنا دراسة الاَخلاق الابيقورية، وخلاصتها انّ «ابيقور » يفرّق بين
أنواع عدة من اللذة والاَلم، فهو لا ينظر إلى اللذة بحسبانها اللذة الحسية الصرفة،
التي يجدها الاِنسان في الاِحساس المباشر بما هو ملائم في اللحظة والزمن
المعينين بل يفاضل بين اللّذات بعضها وبعض، وبين الآلام بعضها وبعض،
فيجعل بعض الآلام أفضل من بعض اللّذات، لاَنّ في احتمال هذه الآلام ما يوَدي
إلى لذة أكبر، ولاَنّ في تجنب هذه اللّذات ما يوَدي إلى تجنب آلام أكبر. (1)
إنّما يجب أن نحسب حساباً إلى جانب الآلام واللّذات في ذاتها، للّذات
والآلام المترتبة عليها، فإذا كنا نجد لذة تنتج ألماً تأثُرنا به أشد بكثير من تنعُّمنا
وتملينا باللّذة الاَُولى، كان علينا أن نتجنب هذه اللّذة حرصاً على تجنب ألم أكبر،
وإذا كان بعض الآلام من شأنه أن ينقضي إلى لذة درجتها أكبر من درجة الاَلم
المنتج لها، كان علينا أن نعاني هذا الاَلم حرصاً على تحصيل هذه اللّذة الكبرى.
إنّ المذهب اللذِّي عند أبيقور يختلف كل الاختلاف عن المذهب اللذِّي
عند القورينائيّين (2) فهوَلاء كانوا يطلبون اللّذة كائناً ما كان نوعها، أو درجتها، أو
النتائج المترتبة عليها، ولم يكونوا ينظرون إلى اللّذات بوصفها تكون كلاًّ واحداً
متصلاً بلذات الاِنسان، بل كانوا ينظرون إلى هذه اللّذات كأشياء مفردة مستقلة
بعضها عن بعض، وكأنّ لحظات الحياة الاِنسانية المتتابعة مستقلة بعضها عن
بعض، حتى ليعطي الاِنسان أو ليجب عليه أن يعطي كلّلحظة استقلالها وقيامها
بذاتها. ولا داعي إذاً للنظر إلى مايترتب عليها مما يجري في لحظات تالية. ____________
(1)موسوعة الفلسفة: 1|86.
(2)لاحظ ص 172.
أمّا الاَبيقوريون، فعلى العكس من ذلك ينظرون إلى لحظات الحياة
الاِنسانية المتتابعة بحسبانها تكوِّن وحدة، فيضطرون بالتالي إلى جعل اللحظات
المكونة للحياة تعتمد الواحدة منها على الاَُخرى.
وبالتالي يجب أن نراعي اللحظة التالية، ونحن ننظر إلى اللحظة السابقة،
فإذا كانت الحال على هذا النحو، فقد يكون ما تتصف به لحظة مستقلة عن غيرها
ومنظوراً إليها بوصفها وحدة مستقلة، مخالفاً كل المخالفة لما يجب أن ننظر به إلى
هذه اللحظة بوصفها جزءاً من كل. (1)
انّ هذا المذهب يفارق المذهب الاَوّل في أمرين بعد اشتراكهما في أنَّ
مناط السعادة هو اللّذة:
الاَول: إدخال عنصر العقل في وصف الشيء باللّذة، فاللّذة المستتبعة ألماً
كثيراً ليس بلذة.
الثاني: انّه يجب أن يأخذ بنظر الاعتبار معدَّل المجموع الكلي للّذات التي
يصادفها الاِنسان، فلو كان شيء لذيذاً حالياً وموَلماً في المستقبل فهذا ليس بلذّة.
يلاحظ على ذلك أوّلاً: أنّ المذهب وإن كان أسلم من المذهب الاَوّل ولكنّه
يشاركه في أنّه جعل محور الاَخلاق هو الاِنانية واللذة الشخصية، لكن محدّدة
بقضاء العقل باعمالها، مع أنّ هناك أُموراً معنوية يلتذ بها الآخرون كإغاثة
الملهوفين وإعانة المنكوبين.
وهذا يعرب عن أنّه نظر إلى الاِنسان كارسطيفوس من زاوية ضيقة وهي
الالتذاذ بالغرائز الحيوانية، غير انّ ارسطيفوس جعل مطلق اللّذة ملاك السعادة،
ولكن أبيقور جعل اللّذة محددة بحدين كما عرفت. ____________
(1)موسوعة الفلسفة:1|86 ـ 87.
وثانياً: أنّ موَسس هذا المذهب إذا كان إلهياً يجب أن يفكر في اللذائذ
والآلام الاَُخروية، فالملاك الذي أدخله في المذهب يلزم أن يعمّ اللذائذ والآلام الا
َُخرويّة.
لكن أكثر الباحثين في المسائل الاَخلاقية ـ وللاَسف الشديد ـ قد غفلوا عن
هذا الجانب. 3. مذهب المنفعة (1)
هذا المذهب منقول عن «جيريمي بنتام» (1748ـ 1832) زعيم القائلين
بمذهب المنفعة ولد في «لندن» ودرس القانون مهنة أبيه ، واعتنق المذهب النفعي
وطبّقه في أهم كتبه «مدخل إلى مبادىَ الاَخلاق والتشريع».
ويدعو «بنتام» إلى الاَخذ، بالقانون وإخضاعه لاختبار حساب المنفعة
بهدف زيادة سعادة الناس، وإنقاص ما يعانونه، ويقيم مذهبه في المنفعة على مبدأ
نفسي: ان الطبيعة أخضعت الاِنسان لحكم سيّدين مطاعين ، هما: الاَلم واللّذة،
وانّهما يتحكمان في كل ما يفعله أو يقوله أو يفكر فيه، وانّه يستوي في ذلك مع
بقية المخلوقات لكن الاِنسان يتميز بتطبيقه لمبدأ المنفعة، بمعنى انّ ما يعود عليه
باللّذة المستمرة أو تزيد به لذته على الاَلم الذي يستحدثه فهو خير، وإنّ ما يترتب
عليه ألم مستمر أو ما زاد فيه الاَلم على اللّذة فهو شر.
لكن كيف نوفّق بين ما يحقّق للفرد السعادة وبين الصالح العام؟ وكيف نقنع
الناس بالتصرف بما يوَدي إلى السعادة العامة؟ والاِدراك السليم يقضي بأنّ منفعة ____________
(1)كان ذكر هذا المذهب في هذا المقام لاَجل صلته بمذهب اللّذة، وإلاّ كان موضعُ ذكره حسب
التسلسل الزمني غيرَ هذا المقام.
المجتمع شاملة لمنفعة الفرد و من ثَمَّ مقدمة عليها، ولهذا ينبغي أن يكون شعارنا
في المقارنة بين اللّذات والمفاضلة بين ما تحقّقه للفرد، وما تحقّقه للجماعة،
تحقيق أكبر قدر من السعادة لاَكبر عدد من الناس، وحينئذٍ يكون لزاماً على القانون
أن يتدخل لاستحداث نوع من الانسجام المصطنع بين صالح الفرد والصالح
العام.(1)
وحاصل هذا المذهب يتلخّص في أُمور:
الاَوّل: انّ الخير يتلخّص في اللّذة المستمرة أو ما يزيد لذته على الاَلم الذي
يحدثه، كما أنّالشر يتلخّص فيما يترتب عليه ألم مستمر أو ما زاد فيه الاَلم على
اللّذة.
الثاني: انّالخير بهذا المعنى لا يتحقّق إلاّإذا تم للصالح العام وأدّى إلى
السعادة العامة، فإذا دار الاَمر بين صالح الفرد، و بين التصرف لصالح المجتمع
يقدم الثاني على الاَوّل، لاَنّمنفعة الفرد تنطوي في منفعة المجتمع.
الثالث: انّ شعار المذهب بين ما تحقّقه للفرد وما تحقّقه للجماعة هو تحقّق
أكبر قدر من السعادة لاَكبر عدد من الناس، وحينئذٍيكون لزاماً على القانون أن
يتدخل لاستحداث نوع من الانسجام بين المصلحتين. نقد وتحليل
إنّ هذا المذهب هو نفس مذهب اللّذة الذي شيّد أركانه «ارسطيفوس» ثم
أعقبه «أبيقور»، بيد انّالفارق بين هذين المذهبين هو انّمذهب اللّذة ركز على
اللّذة الفردية وغضّ النظر عن اللذة الجماعية، مما شكل ثغرة واضحة في كيان ____________
(1)عبد المنعم الحفني: الموسوعة الفلسفية: 111؛عبد الرحمان بدوي: موسوعة الفلسفة : 1|364.
مذهب اللّذة الذي كان يدور على الاَنانية والغفلة عن مصالح المجتمع.
أمّا مذهب المنفعة، فقد تمكن من ملء هذه الثغرة من خلال تقرير حقيقة
وهي أنّ منفعة المجتمع شاملة لمنفعة الفرد ومقدمة عليها.
ولكن هناك سوَالاً: وهو انّتقديم النفع الجماعي، هل هو وسيلة للنفع
الفردي الذي ينطوي في نفع الجمع، أو هو غاية هدف؟ فعلى الاَوّل تعود الاَنانية
بأجلى مظاهرها، وحينها يتحد هذا المذهب مع مذهب اللّذة، غير انّالمذهب
السابق لم ينبس عن النفع الجماعي ببنت شفة، ولكنّه تمخّض عن ذلك غير انّه
أخذه واجهة للّذة الفردية.
وعلى الثاني يكون نزيهاًعمّا ذكرنا من الاِشكال.
هذه هي حصيلة مذهب المنفعة إلاّ أنّها لا تخلو من مناقشات.
الاَُولى: انّ تخصيص إطار الفعل الاَخلاقي بما يرجع نفعه إلى المجتمع
تخصيص بلا وجه، بل ثمة صفات محمودة تعد من أفضل الاَفعال الاَخلاقية مع
أنّها لا صلة لها بالمجتمع، كالاَُمور التالية:
أ. عدم الخضوع للظلم الذي يعبر عنه بإباء الضيم
ب. عزّة النفس وكرامتها، أعني: من لا يخضع لسفلة الناس من أجل كسب
حطام الدنيا.
الثانية: إذا كان معيار الفعل الاَخلاقي هو «جلب قدر أكبر من السعادة لاَكثر
عدد من الناس» فهو أمر مبهم وبحاجة إلى المزيد من البيان، فما هو المراد من أكثر
عدد الناس؟ فهل المراد هو الكثرة العددية أو الكثرة النوعية؟ ولو كانت كثرة
عددية فما حدها، فلو كان هناك عمل يتم لصالح 51 وينتهي بضرر 49، فهل هو
عمل أخلاقي؟ وعلى الثاني فما هي الكيفية المعتبرة التي يتم على ضوئها عدُّ
العمل أخلاقياً، مثلاً إذا كان عمل يتم لصالح 10% من أساطين العلم والمعرفة و
ضرر 90% من سائر أبناء المجتمع.
الثالثة: انّثمة أعمال لا تظهر نتائجها بهذه السرعة إلاّ بعد طي سنوات
عديدة، فلا يمكن لهذا المذهب أن يجيب على أنّ هذه الاَعمال، هل هي أخلاقية
أو غير أخلاقية مالم تظهر نتائجها لصالح العام أو لضرره. 4. مذهب العاطفة
إنّ المذهب العاطفي جاء كتعديل لمذهب المنفعة العامة، حيث كان
الاَساس فيه هو انّ نفع الفرد ومصالحه مندرجة في المنفعة العامة، وهذا النوع من
التفكير مبني على إشباع رغبة الاَنانية، وكلّفعل يصدر عن ذلك المبدأ فلا يكون
فعلاً أخلاقياً، ولذلك صار روّاد المذهب العاطفي إلى تعديل تلك النظرية، وهم:
«آدم اسميت» (1723ـ 1790 م) صاحـب النظـرية الاقتصادية و «آرثـر شوبنهاور»
(1788ـ 1860م) الفيلسـوف الاَلماني،و «اغوسـت كونت» (1798 ـ 1857م)
الفيلسوف الفرنسي.
هوَلاء زعماء ذلك المشرب وروّاده وحاصل نظريتهم كالتالي:
إنّ كلّفعل يصدر من الاِنسان وليس هناك غاية إلاّ الفاعل فهو خارج عن
إطار الفعل الاَخلاقي بل لا يوصف بالحسن والقبح، وإنّما الفعل الاَخلاقي ما
يكون له صلة بالجمع، فلو كان الفعل صادراً عن أحاسيس إنسانية، أو كانت الغاية
من الفعل هو انتفاع الغير فهو فعل أخلاقي.
وعلى ذلك فيشترط في الفعل الاَخلاقي أحد أمرين:
الاَوّل: أن يكون الهدف من الفعل هو الغير لا الفاعل نفسه.
الثاني: أن يكون المبدأ لصدور هذه الاَفعال هي الاَحاسيس الاِنسانية التي
جُبِّل عليها الاِنسان.
وباختصار انّالفعل الاَخلاقي ما يكون الغاية فيه هو انتفاع الغير، أو يكون
المبدأ لصدوره الاِحساسات الاِنسانية نحو الغير، والفرق بين التعبيرين، هو انّ
الغير تارة يلاحظ باعتباره علة غائية وأُخرى باعتباره علة فاعلية. نقد وتحليل
وربما يوَخذ على ذلك المذهب بأنّه ليس كل عمل صادر عن العواطف
الاِنسانية عملاً أخلاقياً، ولذلك لا يعد فعل الاَُم بالنسبة إلى رضيعها فعلاً أخلاقياً،
أو فعل الوالد بالنسبة إلى حفظ ولده إلى غير ذلك، فانّ هذا النوع من العاطفة
مشترك بين الاِنسان والحيوان.
وأظن انّ المذهب العاطفي يخص الفعل الاَخلاقي بالصادر عن عاطفة
عامة فلا يعم عاطفة الاَُم بالنسبة إلى ولدها،وذلك لاَنّ تلك العاطفة تختص بولدها
ولا تعم ولد الغير ، وهكذا الوالد بالنسبة إلى المحافظة على أبنائه.
نعم العواطف العامة التي لا تختص بفرد دون فرد، إذاكانت مبدأ لصدور
الفعل أو كان الغير هو الغاية من فعل الفاعل، فهذا النوع من الفعل يوصف
بالاَخلاقية.
والذي يمكن أن يوَخذ على ذلك المذهب هو انّه فسر الفعل الاَخلاقي
بالفعل الصادر عن العواطف الاِنسانية مع أنّ هناك أفعالاً أخلاقية لا يصحّ
لفيلسوف إنكار كونها كذلك، مع أنّها لا صلة لها بالمجتمع، وهي إمّا من فضائل
الاَخلاق أو رذائلها، كالصبر والاستقامة في طريق الطاعة، أو في مقابل النوائب،
وترك المعاصي.
فالاِنسان الذي يمسك زمام الغرائز الجامحة ويصمد أمام الضغوط التي
تجابهه فهوإنسان أخلاقي وفعله فعل أخلاقي من دون أن يكون له صلة بالمجتمع.
ونظيره البخل للمال والضن بالعلم والاِرشاد، فانّه من مساوىَ الاَخلاق مع
أنّه لا صلة له بالمجتمع حيث لايريد الاِضرار به وإنّما لا يوصل نفعه إلى الغير.
وعلى كلّ حال فهذه المعايير للاَخلاق ناقصة وليست لها شمول لجميع
الاَفعال. 5. مذهب القانون
لقد اشتهر الفيلسوف الانكليزي «برتراند راسل» (1872ـ 1970م) بآرائه
ونظرياته الفلسفية ولا سيما في حقل الاَخلاق، وعلى الرغم من ذلك فهو
فيلسوف مادي لا يعترف بعالم الغيب ،وله منهج خاص في تفسير القيم والاَخلاق
ذكره في كتبه ورسائله، ومن أشهرها كتابه المعروف بـ «العالم الذي أراه».
وحاصل منهجه في الاَخلاق: أنّ الاِنسان موجود أناني يطلب كلّ شيء
لنفسه ويدور سعيه وجهده حول هذا المحور، فالنفع الشخصي هو كعبة آمال كلّ
إنسان يعيش على هذا الكوكب، وهذا أمر لا يمكن تجريد الاِنسان عنه.
ومن جانب آخر ليس له في الحياة الاجتماعية مناص عن رعاية الاَُصول
والقوانين التي تسمى بالوظائف والتكاليف. فيجب على كلّ إنسان رعاية حقوق
الآخرين واحترام شخصيتهم إلى غير ذلك ممّا يعد وظيفة اجتماعية.
ولا يخفى أنّهناك تزاحماً بين النفع الشخصي والاحترام لحقوق الآخرين،
إذ كثير ما يصطدم النفع الشخصي بحقوق المجتمع ، فكان لابد من تقديم تنازلات
وترجيح حقوق الآخرين على الانتفاع الشخصي من أجل تسوية النزاع.
إنّما الكلام في وجه التقديم، فهناك مذهبان:
أ. مذهب المثاليين وهو أنّ العقل له قابلية ادراك الحسن والقبح ولذلك
يأمره العقل بأنّ الكرامة في حفظ حقوق الآخرين وغض النظر عن النفع
الشخصي، وهوَلاء يتناولون الاَخلاق على أساس القيم العقلية.
ب. مذهب النفعيين وهو أنّ النفع الشخصي يكمن في احترام حقوق
الآخرين، وانّه لولاه لعمّت الفوضى المجتمع الاِنساني ويحرم الفرد حينها من
منافعه الشخصية.
ثمّ إنّ «راسل» يختار هذا المذهب ويعود ويمثل انّ من وظيفة الجار أن
يحفظ مال جاره ولا يسرقه، لاَنّ النفع الشخصي يدور على هذا إذ لو سرقه لقوبل
بمثله أيضاً، وهكذا سائر الوظائف الاجتماعية فانّ في رعايتها جلب المنفعة
للاِنسان.
ومجمل القول أنّ الانتفاع الشخصي هي أمنية كلّ إنسان ولا ينالها إلاّفي ظل
احترام القوانين الكفيلة بتأمين حقوق المجتمع بأسره والتي فيها يكمن النفع
الفردي.
إنّ «راسل» لما كان فيلسوفاً ذا اتجاه مادي يرجح أن يكون أساس الحياة
مبنياً على ترويض المجتمع على رعاية القوانين واحترامها والانصياع الكامل لها
بغية نيل منافعهم الشخصية، وهو عنده أرجح ممّا عليه المثاليون من علماء
الاَخلاق من توعية الناس بقبائح الاَعمال وحسنها وضرورة الاِتيان بالحسن
والانزجار عن القبيح، وما ذلك إلاّ لفقدان معيار الحسن والقبح ـ عنده ـ حتى
يعرض الاَفعال عليه، لاَنّ الحسن عبارة عمّا يميل إليه الاِنسان والقبيح ما يتنفر
عنه، لكن الكلام في ما هو المعيار للرغبة والانزجار؟ فليس هناك شيء يرغب
إليه كلّالناس أو ينزجروا عنه، إذ ربّشيء يكون فيه نفع شخصي وضرر على
الآخرين فيرغب الاَوّل وينفر الآخرين، فانحصر المعيار في الحب و البغض
الشخصيين أو النفع والضرر الفرديين، فإذا لم يكن هناك معيار كلي مطلق
فلنضرب على ما ذكره المثاليون من الدعوة إلى الحسن والنهي عن القبيح صفحاً
ولنرجع إلى ما قلناه وهو توعية الناس بغية احترام القوانين الاجتماعية، وليس
للاَخلاق معنى سواه. تقييم النظرية
1. انّ تسمية هذا المنهج بالمنهج الاَخلاقي غريب جداً، فانّ الاَخلاق عبارة
عن القيم التي تكون بنفسها مطلوبة للاِنسان سواء جرّت النفع أم لا، وأمّا الاَخلاق
التي تدور على محور النفع الشخصي وتكون مطلوبة لاَجل درّها منافع للاِنسان،
فليست هذه أخلاقاً، وإنّما هي مقتضى غريزة من الغرائز الاِنسانية. ولو صحّ ما
ذكره «راسل» فتصبح كلّ القيم التي يفتخر بها «راسل» وغيره في خطاباته من لزوم
نشر السلام في العالم وتوثيق أواصر الاَخوة أمراً باطلاً وشعارات جوفاء، مع
أنّالمعروف انّ «راسل» كان ممن ينادي بنشر السلام في العالم وتكريس الجهود
لمحو الجوع والاَُميّة والتخلّف عن العالم.
2. انّما ادّعاه من أنّمصالح الفرد تكمن في مصالح المجتمع على صواب،
ولكن إنّما ينفع إذا كان هناك توازن بين القدرات والقوى كما في مثال الجار، وأمّا
إذا اختل التوازن وكان أحد الطرفين ذا قدرة واسعة والطرف الآخر في غاية
الضعف على نحو يعلم القوي بأنّ الضعيف لا يقدر على الاِضرار به، فما هو
المحفِّز للقويّ على رعاية حقوق الضعيف، وليس هناك أي وازع أمامه.
وعلى هذا الاَساس نشاهد اليوم من هضم حقوق الدول الضعيفة من قبل
الدول الكبرى فينهبون ثروات الدول الفقيرة دون اكتراث ودون أيِّ وازع لعلمها
بعدم استطاعة الدول الفقيرة أن تنال حقوقها المهدورة أو أن تقابل بالمثل.
فما سمّاه أخلاقاً يقتصر على نطاق محدود من دون أن يكون معياراً عاماً
لكافة الشرائط والظروف.
3. انّ ما ذكر راسل من إنكار معيار الحسن والقبح حتى يكون هو الاَساس
للقيم والاَخلاق من الضعف بمكان لوجود احتمالات ثلاثة:
أ. الحسن والقبح بمعنى ما يرغب إليه الفرد أو يرغب عنه بملاك انّه يوَمّن
منافعه الشخصية أو لا يوَمّن.
ب. الحسن والقبح ما يوَمّن المنافع النوعية من دون نظر إلى المنافع
الشخصية على وجه يكون الاِنسان محوراً لتمييز الحسن عن القبح مع قطع النظر
عن الفرد ومنافعه أو مضاره.
ج. الحسن والقبح عبارة عن النظر إلى الشيء من زاوية خاصة وهو التجرد
عن كلّ نزعاته، فعندئذٍ يرى في نفسه ميلاً نحو أُمور ورغبة عن أُمور أُخرى
والذي نعبِّـر عنها بالبعد الروحي أو الملكوتي للاِنسان.
فهذا الفيلسوف تصور أنّ المعيار الاَوّل هو الملاك للحسن والقبح وغفل
عن المعيارين الآخرين اللّذين لا يدوران على النفع الشخصي بل الثالث الّذي لا
يدور حول النفع والضرر بل يدور حول النظر إلى القضية مع قطع النظر عن
مضاعفاتها وآثارها.
ثمّ إنّ ما ذكره «راسل» قد سبقه الفيلسوف الالماني «هيجل» (1770ـ
1831م) حيث فسر الاَخلاق بالانقياد للقوانين السائدة، فحدّد النفع الشخصي مع
المصالح الاجتماعية ويترك مصالحه في حدود المقررات والقوانين الموجودة،
ويحترس عن إعمال الميول التي تخالف العدل والقانون.
يقول في هذا الصدد: إذا كانت الاِرادة الشخصية منافية للحقّ الذي هو عبارة
عن إرادة المجتمع فلو قدَّم الثانية وأخَّر الاَُولى وطبّق ميوله على الحقّ والقانون،
فقد عمل بالاَخلاق، فلو خالط الحقّ ـ الذي هو أمر خارج عن ذات الاِنسان ـ نفسه
وذاته فهذا هو الاَخلاق، فليس الاَخلاق مجرّد العمل بل يجب أن ينبع من النية
على احترام القانون ويجعل نفعه الشخصي تابعاً للقانون.
يلاحظ عليه: أنّ ما ذكره بُعدٌ خاص للاَخلاق، وهو تطبيق الميول الشخصية
على القوانين لصالح الاِرادة العامة، وهناك رذائل وفضائل لا تمس بالقانون
كالغرور والكبر والحسد والبخل، وكان من المفروض أن يفسِّر الفضائل والرذائل
الاَخلاقية ومنابعها وآثارها وكيفية تعدّدها.
نعم لو قال« هيجل» بمقولة «كنت» من تقسيم الاَخلاق إلى قسم يعد جزءاً
من علم الاجتماع وقسم آخر يختص بعلم الاَخلاق لكان لكلامه مفهوم تام.
«والاَخلاق إمّا أن تهدف إلى البحث عن قوانين الحوادث الاَخلاقية وتكون
عندئذٍ شطراً من علم الاجتماع، مادام غرضه المعرفة الوضعية بالطبيعة البشرية،
فردية وجمعية، وإمّا أن يهدف علم الاَخلاق إلى تحديد غاية الاِنسان في سلوكه،
وتبيان أفضل سبيل لاستعمال قدرته على تغيير مجرى الحوادث، وهذا هو الفن
الاَخلاقي أو صناعة توجيه السلوك تبع معايير وقواعد عقلية يستقيها هذا الفن
العملي من معطيات علم الاجتماع». (1) ____________
(1)العمدة في فلسفة القيم:190
هذا المذهب على طرف النقيض من كون الاِنسان موجوداً مدنياً اجتماعياً،
له رغبة بالنسبة إلى التنعم مما منحه اللّه سبحانه، ولذا كانوا يرون السعادة أن يعدل
الاِنسان عن خيرات الدنيا، وأن ينزل عن مكانته الاجتماعية،ويعيش عيشة
مرتاض لاصلة له بالدنيا وما فيها
وقد كان لهذا المذهب دعاة قبل الميلاد منهم «ديوجانس»(413ـ 327ق.م)
كان هو حريصاً على الزهد تبعاً لاَُستاذه «انستانس»، وكان الثاني يحتقر العلوم
كأُستاذه ويريد الناس على أن يروّضوا أنفسهم على الفضيلة فيجيدوها.
وخلاصة القول في حقّهم: إنّهم كانوا يعيشون كالمرتاضين، فيلبسون لباس
عامة الشعب، ويرسلون شعر الرأس واللحية، ولمّا تغيّر الزي الشعبي بتأثير
المقدونيين، احتفظوا هم بزيّهم، فكان دلالة عليهـم، وكانــوا يحملــون العصا
بأيديهم والجراب فوق ظهورهم، ويطوفون في التماس قوتهم كالشحاذين
المحترفين أو كرهبان الهنود، وليس لهم من مأوى سوى المعابد وغيرها من
الاَمكنة العامة. وكان فيهم كثير من الشذوذ، مثل أن يقف الواحد منهم عرياناً تحت
المطر في برد الشتاء، أو يمكث في شمس الصيف المحرقة، ليظهر قوة احتماله
وما إلى ذلك، كانوا يغشون المجالس ويتطفّلون على الموائد فيجابهون الحضور
بنقائصهم في قول جريء إلى حد البذاءة، لا يستحيون ولا يفرّقون بين المقامات،
بل يدعون انّهم في كل ذلك يوَدّون مهمة كلّفهم بها الاِله تزوس، هي ملاحظة
العيوب والتشهير بها، ويتخذون من اسمهم تشبيهاً، فيقولون إنّهم حراس الفضيلة
ينبحون على الرذيلة، كما ينبح الكلب الحارس عند الخطر. (1)
إنّ المذهب الكلبي في الاَخلاق ليس مذهباً يلائم طبيعة الاِنسان، بل هو
على جانب الضد مما فطر عليه الاِنسان من الحياة المدنية، فهو بكلمة موجزة
يضاد الفطرة، ولا يستحق تسميته بالمذهب الاَخلاقي، ولعل هذا صار سبباً لظهور
الرهبانية في المسيحية وانزوائها في الاَديرة والصوامع واجتنابها عن لذائذ الدنيا،
يقول سبحانه في ردّ عقيدتهم: "وَرَهْبانيَةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاّ
ابْتِغاءَرِضْوانِ اللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثيرٌ
مِنْهُمْ فاسِقُونَ". (2)
وقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا رهبانية في الاِسلام». (3)
وشعار الاِنسان الموَمن هو ما هتف به القرآن: "ربّنا آتِنا فِي الدُّنيا حسنةً
وفِي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النّار " . (4) ____________
(1)يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية: 212.
(2)الحديد:27.
(3)مستدرك الوسائل: 14|155، الحديث 2 نقلاً عن دعائم الاِسلام: 2|193، الحديث 701.
(4)البقرة: 201.
لقد ابتكر «عمانوئيل كنت» مذهباً خاصاً في الاَخلاق يرجع حصيلته إلى أنّ
سمة الفعل الاَخلاقي عبارة عن العمل بالفعل بنية انّه أداء للتكليف الذي وجهه
ضمير الاِنسان إليه، ولا يكون له حافز ودافع غير أداء التكليف من دون أن يلاحظ
حسن الفعل أو قبحه، أو كونه ذا مصلحة أو مفسدة، أو ذا لذة ومرارة أو دعوة
العاطفة إليه، فقد أبدع ذلك المذهب شاطباً على الملاكات المختلفة التي كان
فلاسفة اليونان والروم عليها.
كان الرأي السائد في عصر «كنت» هو انّ الحس منبع الاِلهام، أو انّه لا يوجد
في الذهن إلاّويوجد في الحس قبله، فكأنّ الذهن مخزن يرد إليه العلوم من
الخارج عن طريق الحواس الخمسة الظاهرية، وقد اشتهر في عصره قولهم:
«لايوجد في الذهن شيء إلاّوقد وجد في الحس قبله».
ولم يرض «كنت» بهذا المذهب وجعل العلوم الاِنسانية على قسمين:
قسم يرجع إلى ما قبل الحس والتجربة.
وقسم آخر يرجع إلى الحس والتجربة، وأحكام العلوم الطبيعية من قبيل
الثاني، وأمّا أحكام الاَخلاق فهي من قبيل الاَوّل التي يوحيها الحس الاَخلاقي
ويبعث الاِنسان إلى الفعل أو الترك، فيأمر بالعدل والصدق وحفظ الميثاق، وجزاء
الاِحسان بالاِحسان، كما يزجر عن الظلم ونقض الميثاق، وجزاء الاِحسان بالسوء.
ثمّ إنّه يشترط في الفعل الاَخلاقي أُموراً ثلاثة:
الاَوّل: أن يكون الفعل اختيارياً، فالفعل الصادر عن إكراه واضطرار لا يعد
فعلاً أخلاقياً وإن كان ربما يوصف بالحسن.
الثاني: أن يكون الفعل مطابقاً للوظيفة والتكليف الذي يوحيه الضمير إلى
الاِنسان.
الثالث: أن يكون الدافع إلى العمل هو الحس الاَخلاقي ونية امتثال الاَمر
الاَخلاقي. مجرداً عن كلّ دافع سواه. وهذا الشرط هو الذي يصرّ عليه «كنت» وكأنّه
دعامة مذهبه الاَخلاقي.
ويوضح ذلك بأنّ الفعل الذي يصدر من الاِنسان لغاية من الغايات ككونه
مقتضى الجمال أو الحكمة أو اللذة أو نتيجة الاستشعار بالعاطفة، ليس فعلاً
أخلاقياً، بل ربما يعد فعلاً عقلانياً، وإنّما يوصف به إذا كان الاِنسان فارغاً عن
كلّداعٍإلى العمل غير الاِتيان به لاَجل امتثال التكليف الذي كلّفه به وجدانه.
فالبائع والمشتري اللّذان يمارسان البيع والشراء لغاية إمرار المعاش فلا
يمس عملهما بالاَخلاق وفاقاً وخلافاً، ولكن لو دفع المشتري للبائع بدل دينار
واحد، عشرة دنانير عن غفلة، فقام البائع بإرشاده إلى خطئه ورد الزائد عليه فهو
عمل أخلاقي نابع من الاِحساس بالتكليف، كما أنّه إذا تغافل عن هذه الزيادة ولم
يخبر المشتري بها، فعمله يعدُّ عملاً لا أخلاقياً.
فالفعل الاَخلاقي هو الفعل النابع عن العمل بالتكليف، وأمّا الفعل الصادر
عن الميول و الغرائز الباطنية التي تطلب عملاً مناسباً لنفسها فلا يكون موصوفاً
بالاَخلاق أو ضدّ الاَخلاق. هذه خلاصة نظرية «كنت» في الاَخلاق.
نقد وتحليل
أوّلاً: إذا كانت سمة الفعل الاَخلاقي هو القيام به بدافع العمل بالتكليف من
دون أن يتأثر الاِنسان بوازع داخلي أو عامل خارجي، فهذا النوع من الفعل لا يقوم
به إلاّالاَمثل فالاَمثل من الناس ، مع أنّ«كنت» بصدد تبيين الاَخلاق لعامة الناس.
انّ الاَكثر لا يقومون بالعمل إلاّ بدافع داخلي أو حافز خارجي، فالفعل إذا
كان إجابة للغريزة أو مطلوباً لمن يخاف مخالفته يقوم الاِنسان به دون ما إذا تجرد
عن كلا الدافعين. اللهم إلاّ إذاكان إنساناً مثالياً متجرّداً عن كل ميل و نزوع.
وثانياً: أنّ الاِتيان بالفعل لاَجل حسنه أو تركه لاَجل قبحه، أوفق بكونه فعلاً
أخلاقياً مما فسره «كنت» فانّ الفاعل في الصورة الاَُولى يكون فاعلاً عالماً واعياً
بوصف الفعل فيشعر بحسنه ويأتي به، وهذا بخلاف الاِتيان به لاَجل تلبية نداء
الباطن، حيث يأتي به لا عن وعي ولا شعور، وأيّهما أفضل وأقرب إلى الاَخلاق.
وثالثاً: أنّ تخصيص الفعل الاَخلاقي بما يوحيه نداء الضمير، تفسير له بوجه
أخص، إذ هناك أعمال كثيرة داخلة في إطار الاَخلاق وليست من تلك المقولة ،
كأعمال الصالحين الموَمنين باللّه ورسوله حيث يقومون برفع عيلة الفقراء ببناء
المستشفيات والمدارس والمرافق العامة، فالداعي لهم هو كسب رضا اللّه سبحانه
أو كون الفعل حسن في ذاته، فهذا النوع من الفعل أخلاقي ولكنّه خارج عن الاِطار
الذي حدّده «كنت».
هذه بعض التأملات في ذلك المذهب، ولعلّه هناك اشكالات أُخرى يعلم
حالها مما ذكرنا.
الاِنسان الكامل في منهج فريدرش نيتشه (1844ـ 1900م) هو الاِنسان
المقتدر القاهر الغالب، ولعلّه تبع في مذهبه ما نقل عن سوفسطائية اليونان حيث
كانوا يفسّـرون الحقّ بالقوة، فالقدرة والغلبة آية الحق، و الضعف والانهزام آية
الباطل، وهوَلاء لم يكونوا يتصورون للعدل والظلم مفهوماً غير هذا، فمنطق القوة
هو العدل، ومنطق الضعف هو منطق الباطل، ولهذا كانوا يدعون الناس إلى
اكتساب القوة والقدرة.
وقد كان هذا المذهب مطموسَ الذكر حتى جاء «نيتشه» فأحياه وراح ينكر
الحسن والقبح بتاتاً، إلاّ حسن شيء واحد وهو القوة والقدرة، وكان يدعي أنّ
الدين من مخترعات الضعفاء اخترعوه للحد من نفوذ الاَقوياء، فاخترعوا مفاهيم
الجود والرحمة والمروءة والاِنسانية والعدالة كي يعيشوا تحت ظل هذه المفاهيم
ويرقّقوا قلوب الاَقوياء، وادّعاوَه هذا على طرف النقيض مما يدّعيه «كارل
ماركس» إذ كان يدّعي أنّ الدين من صنع الاَقوياء لاستغلال الضعفاء.
يقول نيتشه: ما الخير؟ كلّ ما يعلو في الاِنسان بشعور القوة، وإرادة القوة،
والقوة نفسها.
ما الشر؟ كلّ ما يصدر عن الضعيف.
ما السعادة؟ الشعور بأنّ القوة تنمو و تزيد ، وبأنّ مقاومة ما، قد قضي عليها.
الضعفاء العجزة يجب أن يُفْنُوا، هذا أوّل مبدأ من مبادىَ حبنا للاِنسانية،
ويجب أيضاً أن يساعدوا على هذا الفناء. (1)
وعلى ضوء ما ذهب إليه نيتشه فالمفاهيم الاِنسانية كالمساواة والعدالة
والاِيثار كلّها مفاهيم تحول دون وصول الاِنسان إلى القوة حتى مساواة المرأة
بالرجل، فكان يعتقد أنّ المرء هو الموجود الاَقوى والمرأة خلقت لخدمة الرجل
فحسب، وقد استلهم منهجه هذا عن «شارل دارون» الذي طرح نظرية تطور
الاَنواع على أُصول أهمها:
نشوء التنازع بين أفراد نوع واحد أوّلاً، والبقاء للاَصلح والاَقوى ثانياً، فزعم
انّ هذا أصل في الحيوان والاِنسان على حدّ سواء، فكأنَّ عالم الطبيعة يغربل ما فيه
من الاَصناف والاَنواع ويزيح الضعيف عن حلبة الوجود ويُبقي القوي المقتدر،
وهكذا الحال في المجتمعات الاِنسانية فهي تحاول دائماً حذف الضعيف وإبقاء
القوي.
يقول نيتشه: إنّ إرادة الحياة أسمى الاِرادة وأقواها، ولا تعبر عن نفسها في
التنازع التعس من أجل البقاء بل في إرادة القتال، إرادة القوة والسيطرة. (2)
ثمّ يضيف بأنّ الحب والاِحسان ونظائرهما التي يبذلها الآباء للاَبناء تحول
بين الاِنسان وتكامله، لاَنّ هذه الاَعمال تحافظ على وجود الضعفاء وعدم حذفهم
من المجتمعات، فما دعا إليه سقراط الحكيم من العفة والعدالة والحب، بل ما دعا
إليه سيدنا المسيح من الحبّ والعشق كلّها تصد عن ظهور الاِنسان الكامل في
المجتمع. (3) ____________
(1)عبد الرحمان البدوي: الاَخلاق النظرية: 239، ط الثانية عام 1976؛ موسوعة الفلسفة:2|514.
(2)العمدة في فلسفة القيم:128.
(3)انظر في الوقوف على مذهبه كتاب «سير حكمت در اروپا»: فقد نقل الشيء الكثير من أقواله
وعباراته.
وهذه النظرية ممّا يأسف لها العقل السليم، كيف وقد هبط الاِنسان من
مقامه السامي وصار حيواناً يتنازع في البقاء ويسعى لمحو الضعيف إبقاءً لنفسه،
فإذا كان الحيوان الكامل هو الباطش الفاتك فالاِنسان الكامل أيضاً هو القوي الذي
لا يرحم الضعيف ويحاول محوه وإفناءه.
أفيرضى إنسان ذومسكة بهذه النظرية، فلو كان الاِنسان الكامل هو الاِنسان
القوي الذي يجعل الدنيا كلقمة سائغة لنفسه، فلازم ذلك إلغاء الاَُصول التربوية
وإبطال القوانين الحقوقية ومجالس التشريع مادام الحقّ يدور مدار القوة والبطش
والحكم لمن غلب.
نعم إنّ القوة إحدى القيم التي يجب على الاِنسان السعي وراءها ليخرجه
من ظل الضعف إلى عزّ القوة. يقول سبحانه: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رباطِالْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بهِ عَدُوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ" (1)ولكنّها إحدى القيم لا القيمة
المنحصرة والخلق المثالي.
فذلك الفيلسوف نظر إلى شجرة الاَخلاق التي لها أغصان كثيرة وأخذ
بغصن واحد وقطع سائر الاَغصان فصار الكمال عنده منحصراً في القوة.
بقيت نكتة جديرة بالاِشارة وهي أنّ القوة وإن كانت من القيم لكنّها لا تعادل
البطش وإجحاف الحقوق والاستئثار بالدنيا، وإنّما يراد منها القوة لاِجراء العدل
وإقامة القسط وحفظ الحقوق وصيانة كرامة الاِنسان من الذلّ، فالحاكم القوي
رصيد للعدالة يأخذ من الاَقوياء حقوق الضعفاء ويبسط نفوذه على الظالمين
ويحيي القيم الاَخلاقية بقوته ومنطقه وسيفه وسنانه.
فالقوة الممدوحة التي هي من القيم ما يكون ملجأ للاِنسانية ومحيياً
للحقوق وسدّاً منيعاً أمام الظلم والظالمين. ____________
(1)الاَنفال:60.
وقد قال الاِمام أمير الموَمنين (عليه السلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهما
السلام) : «وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً» (1)
وقال في كلام آخر له (عليه السلام):
« ... لولا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على
العلماء ألاّ يقارّوا على كِظَّة ظالم ولا سغب مظلوم ... » (2)
والحمد للّه رب العالمين
____________
(1)نهج البلاغة: قسم الكتب، رقم 47.
(2)نهج البلاغة؛ الخطبة: 3.