كتاب رسالة في التحسين والتقبيح العقليين للأستاذ جعفر السبحاني ص 75 - ص 105
( 75 )
الدوافع من وراء إنكار التحسين والتقبيح العقليين
إنّ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الواضحة لدى العقل والعقلاء والتي لا تحتاج إلى مزيد بيان، ومن أنكرهما فإنّما ينكرهما بلسانه دون قلبه، وعلى الرغم من ذلك نرى وجود فئة كبيرة من المتكلمين ـ كالاَشاعرة ـ غلب عليهم إنكار هذا الاَصل، فما هو الدافع الذي جرّهم إلى إنكاره؟
أقول: إنّ الدافع من وراء إنكار الحسن والقبح في أفعاله سبحانه غير الدافع الذي جرّهم إلى إنكارهما في أفعال الاِنسان.
فالدافع في الاَوّل هو زعمهم المنافاة بين القول بهما و بين وصفه سبحانه بالمالك المطلق والسلطان بلا منازع الذي له أن يتصرف في ملكه كيف ما شاء حتى لو جازى الاِحسان بالسوء.
وأمّا الثاني فلاَنّ الدافع إلى إنكارهما في أفعال الاِنسان هو قولهم بالجبر في أفعاله وانّ الاِنسان مضطر في فعله لا محيص له عن ارتكابه، ومع ذلك كيف يمكن أن يوصف فعله بالحسن و القبح؟!
يقول المحقّق الخراساني (المتوفّى1329هـ) في هذا الصدد:
وإنّما أنكر الاَشاعرة الحسن والقبح العقليين مطلقاً، أو في أفعاله تعالى فلبنائهم انّه تعالى كلّما فعل صدر منه في محله، لاَنّه مالك الخلق كلّه، فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح، لاَنّه تصرّف في فلكه وهو لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.
وأمّا في أفعال العباد، فلبنائهم على عدم صدور الاَفعال منهم بالاختيار، بل بالجبر والاضطرار، ولا شيء من أفعال المجبور بحسن ولا قبيح.

( 76 )
وكلا البناءين باطلان، لاَنّ علمه واستغناءه تعالى يمنع عن صدور ما لا يكون جهات كماله وخيره غالباً على جهات نقصه وشره، وصدورها معها على سبيل الوجوب لا ينافي الاختيار وإلاّلم يكن بالاختيار أصلاً ولو منه تعالى كما لا يخفى. (1)
الدليل السادس: جواز التكليف بما لا يطاق شرعاً
اعتمد الرازي في إنكاره للحسن والقبح العقليين على أنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلاً عند العدلية مع أنّ الشرع أمر به، قال: إنّمن صور النزاع قبح تكليف مالا يطاق، فنقول:
1. لو كان قبيحاً لما فعله اللّه تعالى، وقد فعله بدليل أنّه كلف الكافر بالاِيمان، مع علمه بأنّه لا يوَمن وعلمه بأنّه متى كان كذلك كان الاِيمان منه محالاً.
2. لاَنّه كلّف أبا لهب بالاِيمان، ومن الاِيمان تصديق اللّه تعالى في كلّ ما أخبر عنه، وممّا أخبر عنه أنّه لا يوَمن، فقد كلّفه بأن يوَمن بأنّه لا يوَمن، وهو تكليف الجمع بين الضدين. (2)
يلاحظ عليه: أنّ الرازي تصور انّه قد وقف على دليل حاسم في المقام، فاستدل بما ذكرته المجبرة قبله بقرون وأجابت عنه العدلية بوجوه، وقال الرازي في بعض كلماته: لو اجتمعت جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا الوجه حرفاً إلاّ بالتزام مذهب هشام وهو انّه تعالى لا يعلم الاَشياء قبل وقوعها. (3)
أقول: إنّ ما نسبه إلى هشام بن الحكم فرية عليه كما أوضحناه في محله (4)، وأمّا الاِجابة عن الدليلين الاَوّلين فلاَنّ علمه الاَزلي لم يتعلّق بصدور كلّ فعل من

____________
(1) درر الفوائد في شرح الفرائد: 339.
(2)المحصل: 153، ط دارالفكر؛ نقد المحصل: 339، ط طهران.
(3)شرح المواقف: 8|155.
(4)لب الاَثر في الجبر والقدر:150.

( 77 )
فاعله على وجه الاِطلاق، بل تعلّق علمه بصدور كل فعل عن فاعله حسب الخصوصيات المتوفرة فيه.
وعلى ضوء ذلك تعلّق علمه الاَزلي بصدور الحرارة من النار على وجه الجبر، بلا شعور، كما تعلّق علمه الاَزلي بصدور الرعشة من المرتعش، عالماً بلا اختيار، ولكن تعلّق علمه سبحانه بصدور فعل الاِنسان عن اختيار منه، فتعلّق علمه بوجود الاِنسان وصدور فعله عنه اختياراً ـ فمثل هذا العلم ـ يوَكِّد الاختيار ويدفع الجبر عن ساحة الاِنسان.
وإن شئت قلت: إنّ العلة إذا كانت عالمة شاعرة، ومريدة ومختارة كالاِنسان، فقد تعلّق علمه بصدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية، فلو صدر فعل الاِنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقاً للواقع غير متخلّف عنه، وأمّا لو صدر فعله منه عن جبر واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة، فعند ذلك يتخلّف علمه عن الواقع.
وأمّا الجواب على الدليل الثالث فحاصله: انّ أبا لهب مكلّف بالاِيمان لكونه أمراً اختيارياً له، وأمّا الاِخبار بعدم إيمانه فقد نزل به الوحي بعدما ختم اللّه على قلبه، وبالتالي لا يكون مكلّفاً بما جاء في القرآن من أنّه لا يوَمن.
الدليل السابع: تصور الصدق لا يلازم تصور الحُسن
ربما يتصور انّه لو كان الحسن والقبح ذاتيين لزم تصورهما عند تصور موضوعهما، كالصدق والكذب مع أنّا ربما نتصور الصدق والكذب ونحقّق ماهيتهما ولا يخطر ببالنا حسن الاَوّل وقبح الثاني، وهذا هو الذي جعله الشهرستاني أساساً لاِنكار الحسن والقبح العقليين، قال: والذي يوضحه انّ الصدق والكذب على حقيقة ذاتية لا تتحقق ذاتهما إلاّ بأن كانت تلك الحقيقة مثلاً، كما يقال انّ الصدق إخبار عن أمر على ما هو به، والكذب إخبار عن أمر على خلاف ما

( 78 )
هو به، ونحن نعلم أنّ من أدرك هذه الحقيقة عرف التحقّق ولم يخطر بباله كونه حسناً أو قبيحاً، فلم يدخل الحسن والقبيح إذاً في صفاتهما الذاتية التي تحقّقت حقيقتهما ولا لزمتهما في الوهم بالبديهة. (1)
يلاحظ عليه: بما مرّ من أنّ المراد من الذاتي ليس هو الذاتي المصطلح عليه في باب الاِيساغوجي الذي يكون فيه إمّا جنساً للشيء أو فصلاً كالحيوان أو الناطق بالنسبة إلى الاِنسان، وإنّما المراد من الذاتي هنا ما يُشبه الذاتي بباب البرهان، وإن كان يفارقه من جهة كما أشرنا إليه سابقاً، والمراد انّ الاِنسان إذا عرض العدل والظلم على البعد الروحاني والبعد الملكوتي من نفسه يجد فيه تمايلاً ورغبة في العدل و تنفراً من الكذب على وجه يستحسن ذوقه العدل ويقبح الظلم.
نعم تسمية هذا بالذاتي بباب البرهان لاَجل الاِيضاح.
الدليل الثامن: الاستدلال بالدليل النقلي
ما اعتمد عليه العضدي في مواقفه والجرجاني في شرحه، قال الاَوّل: من السمع قوله تعالى: "وَما كُنّا مُعَذّبينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً" .
وقال الثاني في شرحه: لو حسن الفعل أو قبح عقلاً لزم تعذيب تارك الواجب ومرتكب الحرام سواء ورد في الشرع أو لا، بناء على أصلهم من وجوب تعذيب من استحق إذا مات غير تائب، واللازم باطل لقوله تعالى: "وَما كُنّا مُعَذّبينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً" . (2)
وحاصل الاستدلال: انّه لو كان العقل كافياً للتحسين والتقبيح، وفي التالي في التثويب والتعذيب، لزم أن يقول في قوله سبحانه :"رُسُلاً مُبَشِّرينَ وَمُنْذِرِينَ

____________
(1)نهاية الاقدام:372.
(2)شرح المقاصد: 4|284.

( 79 )
لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِعَلى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل" . (1)
أن يقول: بعد العقل مع أنّه قال بعد الرسل.
نعلّق عليه: انّ المستدل تصور انّ العقل دواء كلّ داء، وانّه له القابلية على تحديد الواجبات والمحرمات بشرائطها وخصوصياتها، فعند ذلك يكفي حكم العقل بالحسن والقبح، ولكنّه غفل عن أنّ العقل حجّة فيما يستقل به من الواجبات والمحرمات، وهذا كوجوب شكر المنعم ولزوم النظر في معجزة المدعي.
وأمّا ما وراء ذلك الذي أوصد في وجه العقل بابها فالمرجع هو الشرع، والآية ناظرة إلى الاَحكام والموضوعات التي بيد الشارع حكمها وبيانها، وأمّا ماوراء ذلك فالعقل هو المحكم.
الدليل التاسع:
انّ للآمدي ـ الذي هو من وجوه الاَشاعرة ـ بحثاً ضافياً حول الحسن والقبح العقليين أو الشرعيين يدور على محاور ثلاثة:
المحور الاَوّل: تفسير الحسن والقبح بمعانيه الثلاثة.
المحور الثاني:إقامة الاَدلة على مذهبه من أنّهما شرعيين.
المحور الثالث: نقد أدلة العدلية القائلين بكونهما عقليين.
وإليك نصّ كلامه حيث يقول: إنّ الحسن والقبح عندهم باعتبارات ثلاثة إضافية غير حقيقية:
أوّلها: إطلاق اسم الحسن على ما وافق الغرض، والقبح على ما خالفه، وليس ذلك ذاتياً، لاختلافه وتبدّله بالنسبة إلى اختلاف الاَغراض.
ثانيها: إطلاق اسم الحسن على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله، ويدخل فيه أفعال اللّه والواجبات والمندوبات دون المباحات؛ وإطلاق اسم القبح على ما أمر

____________
(1)النساء:165.

( 80 )
الشارع بذم فاعله، ويدخل فيه الحرام دون المكروه والمباح، وذلك أيضاً ممّا يختلف باختلاف ورود أمر الشارع في الاَفعال.
ثالثها: إطلاق اسم الحسن على ما لفاعله مع العلم به والقدرة عليه أن يفعله. بمعنى نفي الحرج عنه في فعله. وهو أعمّ من الاعتبار الثاني لدخول المباح فيه. والقبيح في مقابلته، ولا يخفى انّ ذلك أيضاً ممّا يختلف باختلاف الاَحوال فلا يكون ذاتياً؛ وعلى هذا فما كان من أفعال اللّه تعالى بعد ورود الشرع فحسن بالاعتبار الثاني والثالث وقبله بالاعتبار الثالث، وما كان من أفعال العقلاء قبل ورود الشرع فحسنه وقبحه بالاعتبار الاَوّل والثالث وبعده بالاعتبارات الثلاثة. (1)
يلاحظ عليه: ممّا يوَسف له انّ المتكلم الشهير الذاب عن منهج الاَشاعرة ضلّ في الطريق، وجعل موضع النزاع أُموراً واعتبارات ليس لها مساس بمصب النزاع.
إنّ هذه المعاني أو هذه الاعتبارات ـ حسب تعبيره ـ خارجة عن محل النزاع، لاَنّ مصبه هو تجرد الفعل عن جميع الاَغراض والدواعي، ومع قطع النظر عن كون فاعله ممكناً أو واجباً ممدوحاً أو مذموماً عند العقل، وعلى ذلك فما ذكره من الاعتبارات الثلاثة لا صلة لها بالبحث.
أضف إلى ذلك انّ تبدل الحسن والقبح حسب اختلاف الاَغراض ـ سواء أكان الغرض فردياً أم اجتماعياً ـ خارج عن محلّالنزاع؛ فإنّ قتل المظلوم من قبل أعدائه باعتبار موافقته لغرضهم حسن وعند أخلائه قبيح، وكذلك قتل المجرم عند العقلاء ممدوح وعند أوليائه مذموم.
كلّ ذلك خروج عن طور البحث ومغالطة كبيرة، بل انّ محلّ النزاع عبارة

____________
(1)الاِحكام في أُصول الاحكام: 1|119ـ 120.

( 81 )
عن النظر إلى نفس الفعل ـ لا باعتبار كونه محصلاً للغرض أو مقيماً للنظام الاجتماعي ـ هل هو موصوف بالحسن أو القبح أو لا ؟
فما ربما يقال انّ العدل الموَمِّن لبقاء النظام حسن والظلم لاَجل سيادة الفوضى قبيح، خلط بين الحسن والقبح العقليين والعقلائيين أو الاجتماعيين، فتعليل الحسن والقبح بالغرض الفردي أو الاَغراض الاجتماعية كلّها خارجة عن دائرة البحث، وقد ذكرنا غير مرّة انّ البحث في الحسن والقبح العقليين مقدمة للتعرف على أفعاله سبحانه من حيث الحسن والقبح، وأفعاله فوق أن يكون لها غرض خاص أو يكون لها غرض في المجتمع.
هذا كلّه حول المحور الاَوّل.
أمّا المحور الثاني: فقد نقل دلائل امام مذهبه وأتباعه على كون الحسن والقبح شرعيين، ثمّ ردّها بحماس واعتمد هو على دليل خاص، وقال:
والمعتمد في ذلك أن يقال لو كان فعل من الاَفعال حسناً أو قبيحاً لذاته، فالمفهوم من كونه قبيحاً وحسناً، ليس هو نفس ذات الفعل، وإلاّ كان منْ عَلِمَ حقيقةَ الفعل، عالماً بحسنه وقبحه. وليس كذلك لجواز أن يعلم حقيقة الفعل ويتوقف العلم بحسنه وقبحه على النظر، كحسن الصدق الضارّ ، وقبح الكذب النافع، وإن كان مفهومه زائداً على مفهوم الفعل الموصوف به، فهو صفة وجودية لاَن نقيضه، وهو لا حسن ولا قبح، صفة للعدم المحض، فكان عدمياً. ويلزم من ذلك كون الحسن والقبح وجودياً وهو قائم بالفعل لكونه صفة له. ويلزم من ذلك قيام العرض بالعرض بالجوهر [و] لا معنى له غير وجوده في حيث الجوهر، تبعاً له فيه و قيام أحد العرضين بالآخر لا معنى له سوى أنّه في حيث العرض الذي قيل انّه قائم به. وحيث ذلك العرض هو حيث الجوهر. فهما في حيث الجوهر

( 82 )
وقائمان به، ولا معنى لقيام أحدهما بالآخر. وإن كان قيام أحدهما بالآخر مشروطاً بقيام العرض الآخر به. (1)
يلاحظ عليه: أنّالآمدي اشتبه عليه المراد من ذاتية الحسن والقبح للعدل والظلم أو لما مثله من حسن الصدق وقبح الكذب، وزعم انّه ذاتي إمّا بمعنى كون الحسن أو القبح جنساً أو فصلاً للموصوف، فقال: (بأنّ الاِنسان ربما يتصور الفعل ولا يتصور الحسن والقبح، وهذا دليل على خروجهما عن حقيقتهما) مع أنّ القائل بالذاتي لا يعني هذا القسم منه حتى يرد عليه بما ذكر.
كما لا يعني كونه ذاتياً بالمعنى المعروف في باب البرهان حتى يأتي حديث قيام العرض بالعرض، بل المراد من الذاتي هو انّ الاِنسان إذا عرض الموصوف على فطرته لوجد ميلاً إليه من صميم ذاته أو تنفراً عنه، فينتزع منهما الحسن أو القبح. وعلى ذلك فليس الحسن أو القبح عرضاً قائماً بالعدل والظلم كقيام البياض بالعاج ،والسواد بالفحم.
ولعمري، إنّ الاستدلال على نفي كون الحسن أو القبح من الاَُمور الذاتية بهذا النوع الاستدلالي المعقَّد ممّا يوَسف له، فانّ لكلّمسألة مبادىَ ودلائل مسانخة لها، فأين مسألة استطاعة العقل على درك حسن الاَفعال وقبحها من مسألة قيام العرض بالعرض؟!
وأمّا المحور الثالث: فيتلخص ضمن أُمور ثلاثة:
أ. نقل أدلّة القائلين بذاتية الحسن والقبح.
ب. إلزامات القائلين على المنكرين.
ج. جواب الآمدي عن الاستدلال والاِلزام، وإليك نقل استدلالاتهم، فقد

____________
(1) الاِحكام في أُصول الاحكام: 1|119ـ 123.

( 83 )
ذكر عنهم وجهين:
الاَوّل: اتّفاق العقلاء على حسن الصدق النافع وقبح الكذب المضرّ.
وكذلك حسن الاِيمان وقبح الكفران، وغير ذلك، مع قطع النظر عن كلّحالة تقدر من عرف أو شريعة أو غير ذلك، فكان ذاتياً والعلم به ضروري.
الثاني: انّا نعلم انّه من استوى في تحصيل غرضه الصدق والكذب وقطع النظر في حقّه عن الاعتقادات والشرائع وغير ذلك من الاَحوال، فانّه يميل إلى الصدق، ويُوَثره وليس ذلك إلاّ لحسنه في نفسه.
وكذلك نعلم أنّ من رأى شخصاً مشرفاً على الهلاك وهو قادر على إنقاذه، فانّه يميل إليه، وإن كان بحيث لا يتوقع في مقابل ذلك حصولَ غرض دنيوي ولا أُخروي، بل ربما كان يتضرر بالتعب والتعني وليس ذلك إلاّلحسنه في ذاته.
ثمّ ذكر إلزامات العدلية، وقال:
وأمّا من جهة الاِلزام، فهو انّه لو كان السمع، وورود الاَمر والنهي، هو مدرك الحسن والقبح، لما فرّق العاقل بين من أحسن إليه وأساء، ولما كان فعل اللّه حسناً قبل ورود السمع، ولجاز من اللّه الاَمر بالمعصية، والنهي عن الطاعة، ولجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب، ولامتنع الحكم بقبح الكذب على اللّه تعالى قبل ورود السمع، ولكان الوجوب أيضاً متوقفاً على السمع، ويلزم من ذلك إفحام الرسل من حيث إنّ النبي إذا بعث وادّعى الرسالة، ودعا إلى النظر في معجزته، فللمدعو أن يقول: لا أنظر في معجزتك، ما لم يجب عليّ النظر، ووجوب النظر متوقف على استقرار الشرع بالنظر في معجزتك وهو دور. (1)
إلى هنا تمّ كلامه في بيان استدلالات العدلية وإلزاماتهم، ثمّ شرع هو بنقد

____________
(1) الاِحكام في أُصول الاحكام: 1|124.

( 84 )
الاَدلّة والاِلزامات.
أمّا الاَدلة فقد كرّر ما سبق منه، من أنّه لو كان الحسن ذاتياً يلزم قيام العرض بالعرض؛ وقد سمعت جوابه وانّه اشتبه عليه المراد من الذاتي إنّما المهم نقل ردّه على إلزامات العدلية.
فقال: أمّا عن المعارضة الاَُولى بمنع إجماع العقلاء على الحسن والقبح فيما ذكروه، فانّ من العقلاء من لا يعتقد ذلك، كبعض الملاحدة، ونحن أيضاً لا نوافق على قبح إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض، وهو من صور النزاع وإن كان ذلك متفقاً عليه بين العقلاء. فلا يلزم أن يكون العلم به ضرورياً، وإلاّلما خالف فيه أكثر العقلاء عادة ، وإن كان ذلك معلوماً ضرورة فلا يلزم من أن يكون ذاتياً، إلاّ أن يكون مجرداً عن أمر خارج منه، وهو غير مسلم على ما يأتي. (1)
يلاحظ عليه: أنّ منع إجماع العقلاء على الحسن والقبح مكابرة واضحة، وما نقل عن بعض الملاحدة فإنّما يرجع إنكارهم إلى حسن الاِيمان وقبح الكفر لا إلى حسن العدل، كما أنّ استشهاده بعقيدة الاَشاعرة بأنّهم لا يقبحون إيلام البهائم من غير جرم ولا غرض أشبه بالمصادرة على المطلوب.
واختلاف بعض الناس في بداهة الموضوع لا يضر ببداهة المسألة، فانّ بين الناس من يكابر في أوضح الاَُمور وأبدهها، فلا تنفع موافقته كما لا تضر مخالفته.
ثمّ إنّه أجاب عن المعارضة الثانية، بقوله: إنّه لا يخلو إمّا أن يقال بالتفاوت بين الصدق والكذب ولو بوجه أو لا يقال به، والاَوّل يلزمه إبطال الاستدلال والثاني يمنع معه إيثار أحد الاَمرين دون الآخر. (2)
____________
(1)الاِحكام في أُصول الاحكام:1|125.
(2) الاِحكام في أُصول الاحكام: 1|125.

( 85 )
أقول: نختار الشقّ الاَوّل وهو انّه يوَثر الصدق على الكذب بمرجح، غير انّ ذلك المرجح لا يوجب خروج الموضوع عن محط البحث، لاَنّ هذا المرجح هو مطابقة للفطرة واستجابته لنداء الوجدان، فهذا هو الذي يدفعه إلى إيثار الصدق على الكذب. لا انّالمرجح هو تأمين الصدق للغرض حتى يقال انّ حسن الفعل الموَمن للغرض خارج عن محط البحث.
إلى هنا تمّت أدلة القائلين والمنكرين، فتبيّن الحقّ بأجلى مظاهره، والحقّ أحق أن يتبع.


( 86 )
الفصل الحادي عشر

النتائج المترتبة
على مسألة التحسين والتقبيح العقليّين

قد عرفت في صدر الكتاب انّ التحسين والتقبيح العقليين من المسائل الاَساسية التي تترتب عليها ثمرات كثيرة لا سيما في علمي الكلام والاَُصول، وإليك نزراً يسيراً من تلك الثمرات:
1. معرفة اللّه عقلاً
اتّفق المتكلّمون على لزوم معرفة المنعم لكن اختلفوا في وجه لزومه، فقالت العدلية تجب معرفته عقلاً لبعض الوجوه التي نذكرها خلافاً للاَشاعرة حيث قالوا بلزوم معرفة اللّه شرعاً مع أنّه أمر غير معقول إذ كيف تجب معرفته شرعاً مع أنّ الشريعة بعدُ لم تثبت، حتى يثبت وجوب معرفة اللّه، ولذلك ذهبت العدلية إلى أنّ معرفة اللّه واجب عقلاً.
واستدلّوا على ذلك بوجهين:
أ. لزوم شكر المنعم.
لا شكّ انّ حياة الاِنسان رهن النعم التي يعيش فيها، فليس مصدر النعم هو نفسه بل شخص آخر، والعقل يدفع الاِنسانَ إلى شكر من أحسن إليه، ولا يصدر الشكر إلاّ بمعرفته، فينتج وجوب معرفته عقلاً.

( 87 )
ب. دفع الضرر المحتمل.
إنّاختلاف الناس في مبدأ العالم، وانّه هل هو موجود بنفسه أو موجود قائم بالغير؟
وبعبارة أُخرى: فهل هناك صانع وخالق للكون والاِنسان أو لا ؟هذا من جانب.
ومن جانب آخر يحتمل الاِنسان صدق القائلين بمخلوقية العالم والاِنسان لموجود أعلى ربما تخوّل إليه وظائف من واجبات ومحرمات ويكون في مخالفته مضاعفات، فالعقل يدفع به إلى معرفة الخالق ومعرفة تكاليفه وإلزاماته.
وبهذين الدليلين أثبتوا انّ معرفة اللّه سبحانه عقلي ولولا القول بالحسن والقبح العقليين لما كان ثمة سبيل إلى إثبات وجوب معرفته، لاَنّالمفروض عزل العقل عن درك المعارف وبالاَخص ما يرجع إلى الحسن والقبح.
وقد أشار العلاّمة الحلي ببعض ما ذكرنا، وقال: إنّ معرفة اللّه تعالى واجبة بالعقل، والحقّ انّ وجوب معرفة اللّه تعالى مستفاد من العقل وإن كان السمع قد دلّ عليه، بقوله: فاعلم أنّه لاإله إلاّ اللّه، لاَنّ شكر المنعم واجب بالضرورة، وآثار النعمة علينا ظاهرة، فيجب أن نشكر فاعلها، وإنّما يحصل بمعرفته.
ولاَنّ معرفة اللّه تعالى واقعة للخوف الحاصل من الاختلاف، ودفع الخوف واجب بالضرورة. (1)
2. وصفه بالعدل والحكمة
إنّ وصفه سبحانه بالعدل والحكمة فرع ثبوت التحسين والتقبيح العقليين،

____________
(1)نهج الحقّ وكشف الصدق:51.

( 88 )
ولولا استقلال العقل بحسن العدل وقبح الظلم لما صحّ وصفه سبحانه بالعدل أو تنزيهه عن الظلم، ونظير ذلك وصفه بكونه حكيماً لا يعبث، لاَنّ الفعل العبث قبيح عقلاً، ومن عزل العقل عن درك التحسين والتقبيح العقليين لما صحّ له إثبات هذين الوصفين، قال العلاّمة الحلي:
والاَصل الذي يتفرّع عليه مسائل العدل معرفة كونه تعالى حكيماً لا يفعل القبيح، ولا يخلُّ بالواجب، فإذا أثبتوه بنوا عليه مسائل العدل من حسن التكليف ووجوب اللطف وغيرهما من المسائل الآتية.
ولما كان هذا الاَصل يتوقف على معرفة الحسن والقبح وانّهما عقليان ابتدأ المصنف بالبحث عن ذلك. (1)
وقال المحقّق اللاهيجي : العدل عبارة عن وصفه سبحانه بالفعل الحسن الجميل وتنزيهه عن الظلم القبيح، فإذا كان التوحيد عبارة عن كمال الواجب ذاتاً وصفة فالعدل كماله في الفعل. (2)
وعلى ذلك فالاَفعال الجميلة آية كماله سبحانه في مقام الفعل، والاَفعال القبيحة آية نقصه في ذلك المجال، فلو كان فعله موصوفاً بالحسن ومنزهاً عن القبح، يوصف بالعدل ويمتنع وصفه بالظلم.
ولاَجل هذه الاَهمية ترى أنّهم يقدمون مسألة التحسين والتقبيح العقليين على البحث عن سائر صفاته.

____________
(1)أنوار الملكوت في شرح الياقوت: 105.
(2)سرمايهَ ايمان: 57.

( 89 )
دليل العدلية على نفي صدور القبيح من الواجب
اعتمد المتكلمون على نفي صدور القبيح منه سبحانه على وصفين:
أ. علمه بالحسن والقبح.
ب. غناه وعدم حاجته إلى شيء.
ونحن في حياتنا اليومية نشاهد ذلك بالعيان، فانّ من يرتكب القبيح فإنّما يرتكب لاِحدى جهتين:إمّا لجهله بقبح الفعل، أو لاِحساس الحاجة إليه (وإن كان ربما لا يكون محتاجاً إليه في الواقع) ومن فقد هذين الاَمرين فلا يصدر منه القبيح.
فإذا كان هذا هو السبب الاَساسي لصدور القبيح من الاِنسان، فهذا هو السبب أيضاً في صدوره عن اللّه سبحانه، فإذا كان سبحانه نفس العلم والغنى يمتنع صدور فعل القبيح منه.
ربما يعترض على هذا الاستدلال بأنّ البرهان مبني على قياس أفعاله سبحانه بالاِنسان، وهو انّ فعل الاِنسان رهن وجود غاية عقلية أو خيالية تدفع به إلى القيام بالفعل، مع أنّ فعله سبحانه مجرد عن تلك الغاية الداعية إلى الفعل، لاَنّ تعليل فعله بالغاية يعود إلى كونه محتاجاً والاحتياج آية الاِمكان واللّه هو المنزه عنه.
وقد نقل العلاّمة الحلّي ذلك الاِشكال، وقال: ربما يقال انّا كما لا نفعل القبيح إلاّ عند الجهل أو الحاجة، كذلك لا نفعل الحسن إلاّ عند النفع أو دفع الضرر، ولما استحال ذلك في حقّ اللّه تعالى، بطل قياس الغائب على الشاهد في انتفاء القبيح عنه.
ثمّ أجاب عنه بما هذا لفظه: لا نسلّم انّا إنّما نفعل الحسن للنفع أو دفع

( 90 )
الضرر بل نفعله لحسنه كما سنرشد الضال وننجي الغريق مع انتفاء كلّغرض سوى الحسن واللّه تعالى إنّما يفعل الحسن لحسنه فانّه لا غرض له في حقّ العالم، والتكليف لهم سوى كونه حسناً. (1)
ومع قطع النظر عمّا ذكره الاَعلام نقول:
إنّ قضاء العقل بحسن الفعل وقبحه إنّما هو بالنظر إلى ذات الفعل بما هوهو مجرّداً عن كلّ شيء سواء أكان الفاعل واجباً أم ممكناً، فاعلاً بالغرض أم غير فاعل بالغرض، محتاجاً إلى الغرض أم غنياً، فهو يدرك نفس الفعل قابلاً للتحسين والتقبيح، ومع ذلك لا يختص قضاوَه بفعل الممكن أو بفعل الواجب، وهذا كإدراك العقل النظري امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما أو امتناع ارتفاع الدور والتسلسل، فكما أنّقضاء العقل غير محدد بزمان أو مكان بفاعل دون فاعل، وإنّما المحكوم بالامتناع نفس الفعل بما هوهو ، فكذلك حكمه بالحسن والقبح، والملاك ذات الفعل إذا قيسا على الفطرة أو الوجدان أو البعد الملكوتي منه، فيجده إمّا ملائماً أو منافراً.
وممّن تنبه إلى الاِشكال والاِجابة على النحو المذكور هو القاضي عبد الجبار المعتزلي (المتوفّى415هـ) حيث أجاب عن الاِشكال بقوله:
إنّ القبيح إنّما يقبح لوقوعه على وجه، فمتى وقع على ذلك الوجه، وجب قبحه سواء وقع من اللّه تعالى أو من واحد منّا، وهذه مسألة كبيرة اختلف الناس فيها.
فعندنا انّ القبيح إنّما يقبح لوقوعه على وجه نحو كونه ظلماً، وعند أبي

____________
(1)أنوار الملكوت: 180.

( 91 )
قاسم البلخي انّ القبيح إنّما يقبح لوقوعه بصفته وعينه، وإلى هذا ذهب بعض المجبرة. (1)

3.لزوم اللطف على اللّه
اللطف عبارة عمّا يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد عن فعل المعصية، وقد قسّموا اللطف إلى المقرِّب نحو الطاعة وإلى المحصِّل لها، فلو كان موجباً لقرب المكلّف إلى فعل الطاعة والبعد عن فعل المعصية فهو لطف مقرب، ولو ترتبت عليه الطاعة فهو لطف محصل.
وليعلم أنّه ليس هنا لطفان مختلفان بل كلاهما في الحقيقة أمر واحد، بيد انّ ترتّب الطاعة عليه يكون محصِّلاً، وعلى ضوء ذلك فوصف الفعل بأنّه مقرب من الطاعة، أو وصفه بالمحصل لها، أمر انتزاعي ينتزع منه بعد حصول الغاية أو قربها.
وحاصل اللطف عبارة عن فسح المجال أمام المكلّف بغية حصول الطاعة والابتعاد عن المعصية، وهو أمر غير إعطاء القابلية للمكلّف، فانّ القدرة شرط عقلي ولولاها لقبح التكليف، والمراد انّه سبحانه يتلطف على العبد ـ وراء إعطائه القابلية والقدرة ـ بفعل أُمور يُرغَّب معها إلى الطاعة وترك المعصية، فلو توقف تحصيل الغرض وراء إعطاء القدرة على فعل المرغِّبات إلى الطاعة وترك المعصية، كان على المكلِّف القيام به لئلاّ ينتفي الغرض، وإلى هذا الدليل يشير المحقّق الطوسي، ويقول: واللطف واجب لتحصيل الغرض به.
ويقول العلاّمة الحلّي في شرحه: إنّ المكلِّف إذا علم أنّ المكلَّف لا يطيع إلاّ باللطف، فلو كلّفه مِنْ دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم

____________
(1)شرح الاَُصول الخمسة: 309 ـ 310.

( 92 )
أنّه لا يجيبه إلاّ إذا فعل معه نوعاً من التأدب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه،فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض. (1)
ولتوضيح القاعدة نمثّل مثالاً آخر وهو انّ العبد يحكم بقبح قتل الاَولاد ووأد البنات،ولكن ربما لا يوَثر حكم العقل في ردع البعض إلاّ إذا تزامن مع حكم الشرع وإيعاده بالعذاب الدائم، فحكم الشارع هنا لطف يقرب العبد من الطاعة، وهكذا الاَمر في أكثر المحرّمات التي يستقل العقل بقبحها، فالاَحكام الشرعية ألطاف في الاَحكام العقلية، وتوجب تقرب العبد من الطاعة والانزجار عن المعصية، ولولا هذه التكاليف والوعود لما كان هنا تأثير للتحسين والتقبيح العقليين، وإلى ما ذكرنا تشير القاعدة المعروفة «الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية».
إنّ قاعدة اللطف قاعدة كلامية لها دور فعّال في تحليل المسائل الكلامية، وهي مبنية على التحسين والتقبيح العقليين، ولولا القول بهما لما قام لها عمود ولا اخضرّ لها عود، ويتضح دوره من خلال بيان الثمرة التالية.
4. بعثة الاَنبياء
إنّ العقل يحكم بلزوم بعث الاَنبياء، وذلك لاَمرين رئيسيين:
الاَوّل: انّ للعقل أحكاماً كلية كلزوم شكر المنعم وعبادته، إلاّ أنّه عاجز عن الخوض في تفاصيلها فوجب من باب اللطف بعث الاَنبياء لغاية إيضاح كيفية أداء الواجب وبيان المزيد من التفاصيل .
الثاني: ما يدرك العقل حسنه وقبحه، ولكن ربما لا يكون إدراكه هذا باعثاً أو

____________
(1)كشف المراد:109.

( 93 )
زاجراً إلاّ إذا اقترن بوعد ووعيد من قبل المولى سبحانه، وبذلك يعلم أنّ دور الاَنبياء بالنسبة إلى ما يدركه العقل أحد أمرين، إمّا دور الاِرشاد إلى التفاصيل التي لا يدركها العقل، وإمّا دور الدعم لحكمه.
وما ذكرناه من فائدة البعثة يرجع إلى ما يدركه العقل من حسنه وقبحه، وأمّا الخارج عن هذا الاِطار فحدث عنه ولا حرج.
5. حسن التكليف
إذا كان فعله سبحانه منزهاً عن العبث، يستقل العقل بالحكم بلزوم إيصال كلّمكلّف إلى الغايات التي خلق لها، وذلك بتكليفهم بما يوصلهم إلى الكمال، وزجرهم عمّا يمنعهم عنه، حتى لا يُتركوا سدىً وتنفتح في ضوء التكليف طاقاتهم الروحية، وعلم الاِنسان بالحسن والقبح لا يكفي في استكماله، إذ هناك أُمور تحول دون بلوغه الغاية المنشودة ، ولا تعلم إلاّ عن طريق الوحي والشرع.
مضافاً إلى أنّ حفظ النظام أمر حسن واختلاله وزعزعته أمر قبيح، ولا يسود النظام المجتمع الاِنساني إلاّ بتقنين قوانين تكفل تحقيق العدل والمساواة بين كافة الشعوب.
إلى غير ذلك من الثمرات المذكورة لحسن التكليف.
6. لزوم تزويد الاَنبياء بالبيّنات والمعاجز
إنّ بداهة العقل قاضية بعدم جواز الخنوع والخضوع لاَي ادّعاء مالم يعضده الدليل والبرهان، فمقتضى الحكمة الاِلهية تزويد الاَنبياء بالمعاجز حتى تتحقّق الغاية المتوخّاة من بعثهم، ولولاها لاَصبح بعثهم سدىً وعملاً بلا غاية وهو قبيح.

( 94 )
7. لزوم النظر في برهان مدّعي النبوة
إذا كان مقتضى الحكمة الاِلهية دعم الاَنبياء بالبراهين، فيلزم على العباد عقلاً النظر في برهان مدّعي النبوة لاستقلال العقل بذلك، ولدفع الضرر المحتمل.
وأمّا من عزل العقل عن الحكم في ذلك المجال، فليس له أن يثبت لزوم النظر إلاّ عن طريق الشرع، وهو بعد غير ثابت، فتطرح مشكلة الدور.
8. العلم بصدق دعوى الاَنبياء
إذا اقترنت دعوة المتنبىَ بالمعاجز والبيّنات الواضحة ـ فبناء على استقلال العقل بالحسن و القبح العقليين ـ لحكمنا بصدقه لقبح إعطاء البينات للمدّعي الكذّاب لما فيه من إضلال الناس، وأمّا إذا عزلنا العقل عن الحكم المذكور، فلا دليل على صدق نبوته.
9. الخاتمية واستمرار أحكام الاِسلام
إنّ استقلال العقل بالتحسين والتقبيح ـ بالمعنى الذي عرفت من الملاءمة للفطرة أو المنافرة لها ـ أساس الخاتمية وبقاء أحكام الاِسلام وخلودها إلى يوم القيامة، لاَنّ الفطرةمشتركة بين جميع أفراد البشر ولا تتبدّل بتبدّل الحضارات وتطور الثقافات، فانّ تبدّلها لا يمسّ فطرة الاِنسان ولا يغير جبلته، فيصبح ما تستحسنه الفطرة أو تستقبحه خالداً إلى يوم القيامة، دون أن يتطرّق إليه التبدّل والتغيّر .

( 95 )
10. اللّه عادل لا يجور
من أبرز مصاديق حكمته ـ تعالى ـ هو عدله، بمعنى قيامه بالقسط، وأنّه لا يجور ولا يظلم، ويترتب عليه بعض النتائج التي منها:
أ. قبح العقاب بلا بيان.
إذا كان اللّه تعالى عادلاً، فانّه لا يعاقب عباده دون أن يبين لهم تكاليفهم، لحكم العقل بقبح العقاب بلا وصول بيان، أو مع وصوله دون أن يقع في مظانه، ولزوم تنزّه الواجب عنه.
ب. قبح التكليف بما لا يطاق
من نتائج حكم العقل بعدله تعالى، حكمه بلزوم تكليفه بما يطيقه العبد، وأنّ تكليفه وإلزامه بما هو فوق طاقته ظلم وقبيح لا يصدر عن الحكيم.
ج. مدَى تأثير القضاء و القدر في مصير الاِنسان
هذه المسألة على الرغم من أهميتها البالغة في العقيدة الاِسلامية، فقد احتدم الجدل حولها إلى درجه التكفير وإراقة الدماء خاصة في العصور الاَُولى، ويتفرع عليها مسألة البداء أو تغيير المصير بالاَعمال الصالحة أو الطالحة.
د. اختيار الاِنسان.
من جملة المسائل المترتبة على عدله تعالى، اختيار الاِنسان في أفعاله دون أن يكون مجبوراً مسيَّراً فيما يقوم به من ظلم وجور.
11. ثبات الاَخلاق
إنّمسألة ثبات الاَخلاق في جميع العصور و الحضارات أو تبدلها تبعاً لاختلافها، ممّا طرح موَخراً عند الغربيين ودارت حوله نقاشات حادة، فمن قائل

( 96 )
بثبات أُصولها، ومن قائل بتبدلها وتغيّرها حسب تغير الاَنظمة والحضارات، ولكن المسألة لا تنحل إلاّفي ضوء التحسين والتقبيح العقليين الناشئين من قضاء الجبلّة الاِنسانية والفطرة الثابتة، فعند ذاك تتسم أُصول الاَخلاق بسمة الثبات والخلود.
خذ على سبيل المثال «إكرام المحسن» فانّه أمر يستحسنه العقل، ولا يتغير حكم العقل هذا أبداً، وإنّما الذي يتغيّر بمرور الزمان، وسائل الاِكرام وكيفيته.
إنّ الثابت عبارة عن الاَُصول الفطرية التي لها جذور في عمق الاِنسان، وطبيعته، وبما انّ الفطرة الاِنسانية واحدة في جميع الشرائط والظروف لا تتغير بتغيرها، تُصبح الاَُصول المبنية على الفطرة الاِنسانية أُصولاً ثابتة لا تتغير أيضاً، فقوله سبحانه: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِوَالاِِحْسانِ وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْي يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون" . (1)ثابت ولا يتغير عبر القرون، لاَنّالعدل والاِحسان قد جبل الاِنسان عليهما، نعم ثمة تغيّر يطرأ على الاَساليب المقررة لاِجراء تلك الاَُصول الثابتة تبعاً لتغيّر الزمان، فهي لم تزل تتغيّر حسب تغيّر الحضارات وهذا التغيّر ليس جوهرياً يمس ثبات تلك الاَُصول.
إنّ للاِنسان ـ مع غض النظر عن البيئة التي يعيش فيها ـ سلوكاً باطنياً يلازمه ولا ينفك عنه، وفطرة ثابتة ويعد جزءاً مهماً من شخصيته يميزه عن سائر الحيوانات ويلازم وجوده في كلّ زمان ومكان.
فهذا السلوك الباطني الثابت لا يستغني عن قانون ينظم اتجاهاته، ويصونه عن الاِفراط والتفريط، فإذا كان القانون مطابقاً لمقتضى فطرته، وصالحاً لتعديلها، ومقتضياً لصلاحها، ومقاوماً لفسادها، لزم خلوده بخلوده، وثبوته بثبوته، فمن زعم أنّ الاَخلاق تتطور حسب تطور الظروف والشرائط غفل عن أنّللاِنسان سلوكاً

____________
(1)النحل :90.

( 97 )
باطنياً وفطرة ثابتة لا تنفك عنه مادام الاِنسان إنساناً.
نعم إنّالذي يتغير وتتغير بتبعه العادات والتقاليد ، لا صلة له بالاَخلاق وثباتها، وها نحن نذكر من الاَُصول الثابتة في علم الاَخلاق نماذج:
1. لا يشك ذو مسكة أنّبقاء النظام في المجتمع الاِنساني رهن قوانين توَمِّن حقوق جميع شرائح المجتمع بعيداً عن الظلم والجور والتعسف، وهذا أصل ثابت لا يشك فيه أحد، بيد أنّالذي يتغيّر هو الاَساليب التي تتكفل إجراء هذا الاَصل، فلا تجد على أديم الاَرض من ينكر حسن تقنين مبنيّ على العدل وبسطه بين الناس، وقبح الظلم والتعسف.
وهذا الاَصل الثابت لم يتغيّر منذ انوجد الاِنسان على البسيطة وأصبحت له حياة اجتماعية.
2. الاختلاف بين الرجل والمرأة أمر تكويني محسوس، فهما موجودان مختلفان عضوياً وروحياً على الرغم من الاَبواق الاِعلامية التي تبغي كسر الحواجز بينهما، ولذلك اختلفت أحكام كلّ منهما عن الآخر.
فإذا كان التشريع مطابقاً لفطرتهما ومسايراً لطبعهما يظل ثابتاً لا يتغيّر بمرور الزمان، لثبات الموضوع المقتضي لثبات المحمول.
3. الروابط العائلية، كرابطة الابن بأبويه، ورابطة الاَخ بأخيه، وهي روابط طبيعية، تتحد فيها الاَواصر الروحية والنسبية، فالاَحكام التي قنّنت لتنظيم تلك الروابط باتت ثابتة لا تتغيّر بتغير الزمان.
4. انّ التشريع الاِسلامي بالغ في الاهتمام بالاَخلاق للحيلولة دون تفسّخها، كما عالج التفسّخ الخلقي كالخمر والميسر والاِباحة الجنسية بوضع حلول تتناسب معها من خلال تحريمها وإقامة الحدود على مقترفيها، وهذه الحلول ليست

( 98 )
مقطعية تتغيّر بتغير الزمان، بل هي ثابتة لا تتغير، لاَنّ الآثار التي تتركها المفاسد الخلقية أيضاً ثابتة، فالخمر يزيل العقل، والميسر ينبت العداوة في المجتمع، والاِباحة الجنسية تفسد النسل والحرث.
هذا وأمثالها من الاَحكام الثابتة في حياة الاِنسان الاجتماعية ، وهي تنسجم قبل كلّ شيء مع فطرته.
وخلاصة البحث: أنّ تطوّر الحياة الاجتماعية في بعض مجالاتها، أو تغيّر الاَحكام الموضوعة على وفق ملاكات واقعية متغيّرة لا يكون ذريعة لنسخ قبح الظلم وحسن العدل ولزوم أداء الاَمانة، ودفع الغرامات، والوفاء بالعهود والمواثيق.

( 99 )
الفصل الثاني عشر

القيم الخالدة
و
قانون التغيّر والحركة

قد مرّ آنفاً وجود أُصول أخلاقية وقيم إنسانية خالدة بخلود الاِنسان، ثابتة بثبوت غرائزه وميوله الفطرية.
وهناك سوَال يثار، وهو انّ القول بثبات القيم والاَُصول الاَخلاقية يتناقض مع قانون التغير والحركة الذي يشمل عالم الاِمكان بأسره، فليس هناك شيء غير خاضع له، وقد اشتهر بين العلماء القائلين بشمول الحركة للعالم «انّ الاِنسان لا يسبح في ماء واحد مرتين»، لاَنّ الماء في المرّة الثانية غير الماء في المرّة الاَُولى، ومع القول بذلك فكيف يمكن استثناء القيم من هذا الاَصل الثابت الراسخ الذي لا يقبل التخصيص والاستثناء؟
والجواب: أنّه لا منافاة بين ثبات القيم وشمول الحركة لذرّات العالم وأجزائه، طبيعياً كان أو فلكياً، لاَنّ مصب قانون التغيّر هو الموجود المادي، والمادة بجوهرها سيالة لا تقبل الثبات.
وأمّا القيم والاَُصول الاَخلاقية فهي قوانين يكشف عنها العقل النظري، فليست هي في جوهرها أُموراً مادية ولا جزءاً للطبيعة، كما أنّ القوانين السائدة على الموجود الطبيعي أُصول ثابتة، وإن كان المورد متغيّراً ومتحولاً، ونحن نوضح

( 100 )
ذلك بالمثال التالي:
القوانين الرياضية قوانين كلية ثابتة لا تتغير بتغيّر العالم وأجزائه فحاصل الضرب بين 2و2 يساوي 4 فالنتيجة غير خاضعة للتحوّل والتبدّل وإن كان ما ينطبق عليه خاضعاً للتغير.
وصفوة القول: إنّ السائل خلط بين القانون و موارد تطبيقه، فلا ملازمة بين شمول التغيّر لكافة المصاديق وشموله للقانون الكلي، وقد أثبتت البراهين العقلية والتجربية على أنّ العلم بما هو علم لا تناله يد التغيّر و التبدّل.
وأمّا مسألة تكامل العلوم فليست دليلاً على أنّ العلم خاضع للتغيّر والتبدّل، للفرق بين التكامل الموجود في نمو النبات والحبة والبذرة وتكامل العلوم، فانّ التكامل في القسم الاَوّل بمعنى تبدل الصورة النوعية للبذرة مثلاً إلى صورة نوعية أُخرى، فلم تزل الصور تتوارد عليها واحدة تلو الاَُخرى حتى تتحول إلى شجرة مثمرة.
وأمّا التكامل في العلم فهو قائم على انكشاف بعد انكشاف، على نحو توَثر الانكشافات المتعاقبة في سعة علم الاِنسان وعظم رقعته، لا أنّ العلم الاَوّل ينمو ويتكثّر ويتشعّب حقيقة، ولو أطلق عليه التكامل فهو بمعنى آخر، لا مِثْل التكامل الحاصل في الموجود الطبيعي.
والذي يوَيد ذلك أنّ القائلين بأصالة المادة وشمول التغيير للعالم بأسره يستثنون أُصولهم الفلسفية عن هذا الاَصل ويعتبرون القوانين الديالكتيكية من أثبت الاَُصول وأدومها والتي لا تخضع للتغيّر والتحوّل، وكأنّها أُفرغت في قوالب فولاذية ـ على حد تعبير لينين ـ لا تقبل أيّ خدشة.
إنّ القائلين بأصالة المادة وشمول التغيّر ينفون قطعية كلّ قاعدة وإطلاقها

( 101 )
وقداستها، ويرون أنّ القوانين المكتشفة ليست قطعية ولا مطلقة ولا منزهة عن التبدّل والتغيّر، فسواء أكانوا على حقّ في هذا المدّعى أو لا فهم يثبتون وراء كلامهم هذا قضية قطعية مقدسة، وهي قطعية هذه القاعدة بالذات، (لا إطلاق ولا قطعية) وشمولها لجميع الاَزمنة والاَمكنة، فهم في الوقت الذي ينفون قطعية الآراء وإطلاق القوانين، يثبتون قانوناً قطعياً ثابتاً غير خاضع للتغيّر.
وهذا دليل على الفرق الواضح بين العلوم القائمة بالذهن والواقع الذي تنطبق العلوم عليه فالاَُصول الديالكتيكية علوم قائمة بذهن المادي غير خاضعة للتغير، وأمّا موارد تلك الاَُصول من الجوهر والعرض فلم تزل في مهبِّ التغير والتحول.
سرّ ثبات الحسن والقبح العقليين
ما مرّ من البيان الضافي يثبت بجلاء سرّ ثبات الحسن والقبح العقليين، وتعاليهما عن طروء التغيّر والتحوّل عليهما، وإن كان الاِنسان في حياته والعالم الذي يعيش فيه مهبَّاً للتغير، وذلك لاَنّ المعيار في حسن الفعل وقبحه عبارة عن ملائمة الفعل للفطرة ومجاوبته معها، أو منافرته ومجانبته عنها، فهذا هو الملاك لثبات الحسن والقبح، وبالتالي ثبات غرائز الاِنسان وميوله العلوية والسفلية، فمادام الاِنسان إنساناً فقد فُطرت طينته بالرغبة إلى العدل والاِيثار والعمل بالميثاق إلى غير ذلك من الاَُصول، كما عجنت فطرته بالتضجّر من أضدادها ، فالاِنسان الذي كان في غابر القرون يشترك مع الاِنسان في العصر الراهن في الميول والغرائز من دون فرق بينهما ألبتة، وهذه الوحدة هي سرّ ثبات القيم.
فالحكيم يعرِّف الاِنسان بأنّه حيوان ناطق، ولكن العالم الاَخلاقي يرى أنّه تعريف ناقص، وإن كان في نظر الحكيم تعريفاً كاملاً، لتركيزه على التفكير

( 102 )
والتعقّل، لكنّه من منظار العالم الاَخلاقي تعريف ناقص ولا يكتمل إلاّ بضم كلمة (ذو غرائز) إلى التعريف السابق.
وما هذا إلاّ لاَنّ الميول الباطنية تلازم وجود الاِنسان منذ الاَزل كالتفكير والتعقّل، ولاَجل إيقاف القارىَ على مثل وقيم ثابتة، نسرد بعض الاَمثلة.
أ. الاِنسان موجود اجتماعي ولا محيص له من إقامة العلاقات مع سائر أبناء البشر، وهذا أصل ثابت عبر القرون، والحياة الاِنسانية على الرغم من أنّها تعجُّ بالتغيّرات والمستجدّات ولكن يبقى هذا الاَصل الثابت مهيمناً على حياته.
ب. انّ الحياة العائلية هي نوع من تلك العلاقات الثابتة، فلا محيص له من تشكيل أُسرة وتنظيم العلاقات بين أعضائها، فهذا أصل ثابت لا تمسه يد التغير.
ج. حبّ الاِنسان لاَبويه وأولاده أمر غريزي وطبيعي، وقد يتطلب ذلك الحبّ الثابت، تنظيمَ العلاقات داخل هذا الاِطار من إرث وغيره.
وهناك أفعال لم تزل تدور حول محور المصالح والمفاسد في كلّ زمان ومكان، فالكذب والخيانة والانحلال الخلقي أفعال قبيحةفي كافة الاَعصار، كما أنّ ما يضادها أفعال توَمن مصالحه فتصبح حسنة في كافة الاَعصار. وإن كان هذا النوع من الحسن دون ما طرح في هذه الرسالة.
إنّ الاَُصول الاَخلاقية العامة الثابتة في جميع الاَجيال لا تنحصر بما ذكرنا، فانّ ثمة أُصول لا يتردد في حسنها اثنان كحب الاِنسانية وإقامة العدالة الاجتماعية والعمل بالوظائف الاجتماعية إلى غير ذلك من الاَُصول، فالقوانين التي تحتضن تلك الفضائل هي جديرة بالدوام والثبات دون أن يزعزها التغيّر والتحوّل.

( 103 )
القيم الثابتة وشمولية التكامل
كان البحث السابق منصباً على أنّ شمولية الحركة والتغير على طرف النقيض من ثبات الاَخلاق والقيم، وقد عرفت تحليله وانّ شمولية ظاهرة التغير لا تمس بكرامة ثبات القيم.
وربما ينظر إلى البحث من منظار آخر وهو أنّ شمولية التكامل لعالم الاِمكان لا سيما الاِنسان، تقوّض دعائم ثبات الاَخلاق، وأوّل من طرح هذا الموضوع هو الفيلسوف المعروف هربت اسبنسر (1820ـ 1903م) وإليك خلاصة رأيه:
يقول: إنّ الصلة بين الموجودات الحية والعالم الخارجي صلة مستمرة، وفي ظلها تتكامل أعضاء الموجود الحي بالتدريج، ولا يختص التكامل بأعضائه بل يعم مداركه ومشاعره وأحاسيسه وعواطفه.
وبكلمة جامعة يتطرق التكامل إلى كلّ ما يمت إلى المدنية بصلة من الدين والسياسة والعلم والصناعة.
ثمّيضيف: بأنّ العالم قد خلق وفق التكامل، والمدنية الكاملة هي التي تنسجم تمام الانسجام مع كمال الاَخلاق وحسن الآداب، الذي هو بدوره يرتبط بتكامل المدنية والنظم الاجتماعية، ولا يمكن ادّعاء تكامل الآداب والعادات ما لم تُطبَّق المدنية على حياة الاِنسان.
وبما أنّ كمال المدنية كمال نسبي (وربّ حضارة لها قيمة في ظرفها دون ظرف آخر) فكمال الاَخلاق أيضاً أمر نسبي ليس أمراً مطلقاً.
ويستنتج من ذلك أنّ الاَخلاق والقيم تتكامل كتكامل أجزاء العالم. (1)
____________
(1)سير حكمت در اروپا: 3|170ـ 178.

( 104 )
نقد النظرية
إنّ أصل التكامل أصل أطبق عليه الفلاسفة منذ قرون وليس من مبدعات الفلسفة الغربية ولا من منشآت اسبنسر، بل كل من قال بالحركة الجوهرية رأى أنّالتكامل لازم وجود الجوهر، وعلى ذلك فليس القول بالتكامل شيئاً بديعاً، إنّما المهم تمييز مصبِّه ومركزه.
إنّ التكامل الفكري والعقلي بمعنى كشف الحقائق شيئاً فشيئاً وتسليط الضوء على أسرار الوجود بغية الوصول إلى خفايا الطبيعة وأسرارها أمر لاسترة فيه، إنّما الكلام في أنّه هل التكامل يعم البديهيات والفطريات والاَوّليات، أو انّ الفكر الاِنساني مهما حلّق في سماء الفكر والعلم، ليس بإمكانه إثارة الشكوك حولها، ولذلك تجد انّ امتناع اجتماع النقيضين كارتفاعهما على درجة واحدة من الاِذعان عبر القرون دون أن يحيط به الغموض.
إنّ التحسين والتقبيح العقليين من ضروريات العقل العملي، ومهما بلغ التكامل ذروته لا يوَثِّر في قضاء العقل بحسن العدل وقبح الظلم، فإدراكه بالنسبة إليهما على حدّ سواء لا يزعزعه شيء.
والذي أوقع ذلك الفيلسوف الغربي في تلك الورطة هو خلطه بين العادات والتقاليد من جهة، والقيم والاَخلاق من جهة أُخرى، فالسير التكاملي للعالم يعمّ العادات والتقاليد دون الاَخلاق، وما ادّعاه من أنّ كمال المدنية أمر نسبي فكمال الاَخلاق كذلك إنّما يرجع إلى العادات والتقاليد والمراسم، مثلاً احترام الضيف أصل ثابت بين جميع الاَقوام والملل غير أنّكيفية الاحترام تختلف حسب تقدّم الحضارات.

( 105 )
إنّ القيم التي تبتني على إدراكات بديهية وأوّلية وفطرية لا تتغيّر ولا تتبدّل بتكامل الاِنسان وبيئته.
وآية ذلك أنّ شعوب العالم مهما اختلفت في الحضارات والمدنيات، فكلّها أمام أُصول الاَخلاق على حدّ سواء، فالجميع يدرك حسن العدل وقبح الظلم، والانفراج الحضاري بين هذه الشعوب لم يزعزع تلك الاَُصول فحسب بل بقيت راسخة في أعماق نفوسهم.
نعم، انّ التكامل المدني أثّر كثيراً في التقاليد والعادات، فالمراسم العسكرية ـ مثلاً ـ الدارجة بين شعوب العالم تختلف كثيراً مع ما كان عليه الاِنسان في الماضي السحيق.
فصفوة القول: إنّ ثمّة أُمور لا تحوم حولها الشكوك:
أ. شمول التكامل للاِنسان والعالم.
ب. انّ المدنية أمر نسبي تختلف حسب اختلاف الحضارات.
ج. انّ الآداب والتقاليد تختلف حسب تكامل الحضارات.
د. الاَُصول والقيم الاَخلاقية المستقاة من البديهيات والاَوّليات والفطريات راسخة أمام تلك التحوّلات الحضارية.