وبعد ما نُقضت الصحيفة الملعونة ولم تفتَّ في عضد الدعوة ، واضطرت قريش أن تسمح لبني هاشم بالدخول في رباع مكة ، والإختلاط مع الناس ، أصاب المرض عمَّه وكفيله أبا طالب ، كما أصاب زوجته الوفية خديجة عليهما السلام ، لما كانا قد لاقياه في الشعب من العنت ، فماتا في السنة التالية التي سميت بعام الحزن ، وفقد النبي (ص) أكبر معين وأشد ركن يعتمد عليه في الملمَّات وعزم النبي (ص) على الهجرة إلى المدينة المنورة ، وعزم الكفار أن يقتلوه غيلة قبل أن يهاجر إليها ، وانتخبوا من بينهم ثلاثين مقاتلاً مغامراً ، يهجمون على دار النبي (ص) ليلاً فيقتلونه ، وينتمي كل منهم إلى بطن من قريش فيضيع دمه بين قريش جميعاً . وجاء نبأ ذلك إلى النبي (ص) فرسم خطة مسيره إلى المدينة ، وذلك بان يتجه تحت جنح الظلام إلى غار ثور ، ثم يتخذ طريقاً منحرفاً عن الجادة إلى المدينة ، بيد أن الخطة كان يعوزها شيء واحد ، وهو أن هؤلاء الفتية من قريش إذا عرفوا خروج الرسول أول الليل ، فإنهم سوف ينتشرون حول مكة بحثاً عنه ، ولا محالة سوف يجدونه ، وإن وجدوه قتلوه ، فقرر الرسول (ص) أن يموِّه عليهم بأن ينام مكانه شخص ، ليخيَّل إليهم أنه النبي ، وسوف لايكتشفون الحقيقة إلاّ بعد أن يكون النبي مبتعداً عن مكة أميالاً أو يستقر في غار ثور فعلاً . ولكن من هو ذلك الذي يُقدم على الموت على الفراش ؟. وليس في ساحة الحرب ، حيث الثورة والهياج وحيث يُقاتِل فَيَقتل ويُقتل ، بل الموت على الفراش لايدافع عن نفسه ، ولا تثور أعصابه ، ولا يقوم بحركة ! إن لهذه المهمة رجلاً واحداً فقط ، هو ابن أبي طالب !! إنه لا يتهيَّب أبداً وَقَع الموت عليه ، أو وقع هو على الموت .
وجاء إليه النبيُّ (ص) يعرض عليه أمر الهجرة ، ويأمره بالمهمة ، فإذا بعليٍّ (ع) وكأنه قد بُشر بملك الدنيا ، يرحب بها بعد أن يطمئن إلى سلامة الرسول (ص) . وينجو الرسول من أيدي المتآمرين ، ويتقلب الإمام على فراشه ، وتلمع حول البيت سيوف تنتظر الفجر لتهجم على المستلقي على الفراش فتقطعه إرباً إرباً ، وعندما اقترب الصبح ، رمَوا حجراً إليه ، فلم يتحرك ، ثم رمَوا الثاني . وعندما رمَوا الثالث قام من مكانه ، فقال قائلهم من هذا ؟. إنه ابن أبي طالب ، يا عليّ ، اين محمد ؟ فأجال عليٌّ طرفــــه بينهم وقال : وهل أودعتموني محمــــداً ؟.. فأراد بعضهـــم أن يفتك به ، ولكن منعه الآخرون ، وأنجــــاه اللـه من شرّهم . وكان على الإمام (ع) مهمة كبيرة أخرى ، تلك مسؤولية حمل أهل بيت النبي (ص) وضعفاء المسلمين المتخلفين في مكة إلى المدينة . وكانت مهمة شاقة حيث إن أهل مكة حينما عرفوا بغياب النبي تمـيَّزوا غيضاً ، لما علموا بأن تخلص النبي عن أيديهم سوف يكلِّفهم كثيراً . فعزموا على أن يمنعوا بقية أصحابه عن الالتحاق به بكل وسيلة ، وراحوا يراقبونهم ، مراقبة شديدة ، ألاّ يفلتوا من أيديهم ، وعلى رأس هؤلاء أهل النبي (ص) وعياله . وبعد مدة جمع علي (ع) أمره ، وخرج - خفية - بالفواطم : فاطمة بنت ( رسول اللـه ) ، وفاطمة بنت أسد ( والدة الإمام ) وفاطمة بنت الزبير ( عمته ) وبعض الضعفاء من المسلمين يريدون المدينة ، وكانوا قد ابتعدوا عن مكة أميالاً ، عندما علم أهل مكة بالأمر ، فجهزوا سرية سريعة إلى الركب لإعادته قسراً إلى مكة ، وكانت السرية بقيادة جناح ، مولى حارث بن أمية . فجاءت حتى إذا بلغت الركب ، التفت إليهم علي (ع) فحمل عليه جناح بسيفه فأسرع علي (ع) وأخذ السيف من يده ، وضربه ضربة فأرداه قتيلاً ، واستسلم سائر الافراد لما رأوا من شجاعة علي (ع) وقوة بأسه ، فتركهم الإمام ، وحث راحلته إلى المدينة .
الفصل الثاني:حياته في عهد الرسول (ص) (الهجــرة)
- الزيارات: 5234