• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الإمام الحسن (عليه السلام) ومصلحة الإسلام العليا (3)

ثم قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة التيمي، فأنّبوا الناس ولاموهم على تخاذلهم وحرضوهم على الخروج، وكلموا الحسن (عليه السلام) بمثل كلام عدي بن حاتم، فقال لهم: (صدقتم رحمكم اللّه. مازلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودّة والنصيحة، فجزاكم اللّه خيراً).
وخرج الناس إلى النخيلة، فلما تكامل عددهم لحق بهم الحسن، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن عبد المطلب، وأمره بأن يحرك الناس ويحثهم على الخروج والالتحاق بالجيش.
ويروي المؤرخون أنه لما تكامل الجيش خرج به الحسن (عليه السلام)، وقد حدده بعضهم بأربعين ألفاً، وبعضهم بستين وبأكثر من ذلك، ولمّا نزل دير عبد الرحمن أقام به ثلاثة أيام، ودعا عبيد اللّه بن العباس وقال له: (يا بن العم، إني باعث معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرأ مضر، الرجل منهم يريد الكتيبة، فسر بهم على الشاطئ حتى تقطع الفرات وتنتهي إلى مسكن، وامض منها حتى تستقبل معاوية، فألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك، فإنهم من ثقات أمير المؤمنين، فإن أنت لقيت معاوية فاحبسه حتى آتيك، فإني على إثرك وشيكاً. وليكن خبرك عندي كل يوم).
وأرسل معه قائدين من خيرة المسلمين إخلاصاً وجهاداً ونصيحة في سبيل اللّه، وهما قيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس الهمداني، وأمره ألاّ يقطع أمراً دونهما، وأن يستشيرهما في جميع الأمور، وقال له: (إذا أنت لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يكون هو البادئ في القتال، فإن أُصبت فقيس بن سعد على الناس، وإن أُصيب فالقيادة من بعده لسعيد بن قيس).
وسار عبيد اللّه بالناس يقطع الصحاري حتى انتهى إلى الفلّوجة، ومنها إلى مسكن، وكان معاوية قد نزل فيها، فنزل عبيد اللّه بن العباس بازائه، وفي اليوم الثاني وجه معاوية بخيل أغارت على جيش عبيد اللّه فوقفوا لها وردّوها على أعقابها، وأيقين معاوية تصميم الحسن (عليه السلام) على مواصلة القتال بعد أن رفض العروض المغرية التي قدمها إليه في رسائله(16).
ب ـ رأى الإمام (عليه السلام) أن مدار مصلحة الإسلام العليا بعد خذلان جيشه له وتفرقه عنه، يقوم بعقد معاهدة الصلح مع معاوية بن أبي سفيان; وفي هذا السياق ينقل لنا المؤرخون أن معاوية لمّا أرسل خيله لقتال الجيش الذي يقوده عبيد اللّه، ردّها أهل العراق على أعقابها، وبمجيء الليل أرسل معاوية رسالة إلى عبيد اللّه جاء فيها أن الحسن قد أرسلني في الصلح وسلم الأمر لي فإن دخلت في طاعتي الآن تكن متبوعاً خير لك من أن تكون تابعاً بعد غد، ولك أن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم أعجل لك في هذا الوقت نصفها، وعندما أدخل الكوفة ادفع لك النصف الثاني.
ويدعي اكثر المؤرخين أن عبيد اللّه انسلّ من قاعدته، ودخل عسكر معاوية ومعه بضعة آلاف ممن كانوا معه، فوفى له بما وعده، وانتبه الناس بدخول النهار، فانتظروا عبيد اللّه ليصلي بهم فلم يجدوه، فصلى بهم قيس بن سعد، ولمّا تأكدوا من خبره خطبهم قيس، وذكر عبيد اللّه فنال منه، وأمرهم بالصبر والثبات، وعرض عليهم الحرب ومناهضة معاوية مهما كان الحال، فأجابوه لذلك، فنزل عن المنبر ومضى بهم لقتال معاوية، فقابلهم جيشه بقيادة بسر بن ارطاة، وبثّ دعاتة بين أصحاب قيس يذيعون أن أميرهم عبيد اللّه مع معاوية في خبائه، والحسن بن علي قد وافق على الصلح فعَلام تقتلون أنفسكم. وهنا يدّعي المؤرخون أن قيساً قال لأهل العراق: (اختاروا أحدى اثنتين: إما القتال بدون إمام، وإمّا أن تبايعوا بيعة ضلال) فقالوا بأجمعهم: (بل نقاتل بدون إمام) ثم اتجهوا نحوهم واشتبك الفريقان في معركة ضارية كانت نتائجها لصالحهم، وتراجع بسر بمن معه إلى معسكراتهم مخذولين مقهورين.
وكان موقف عبيد اللّه من جملة العوامل التي تسببت في تفكك جيش الإمام وتخاذله، وفتح أبواب الغدر والخيانة والتسلّل الجماعي، وتذرع ذوي النفوس الضعيفة والقلوب المريضة أن عبيد اللّه ابن عمه وأولاهم بمناصرته والتضحية في سبيله.
كما كان لغدر عبيد اللّه بن العباس في نفس الإمام (عليه السلام) حزن بالغ وأسى مرير، لأنه فتح الباب لغيره، وتستّر بغدره وخيانته جميع الطامعين والخونة من أهل العراق، ونشط أنصار معاوية في نشر الترهيب والترغيب في صفوف الجيش، ولم يتركوا وسيلة لصالح معاوية إلاّ واستعملوها، واستمالوا إليهم حتى رؤساء ربيعة الذين كانوا حصناً لأمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين وغيرها من المواقف، فلقد راسله خالد بن معمر أحد زعمائها البارزين وبايعه عن ربيعة كلّها.
كما راسله وبايعه عثمان بن شرحبيل أحد زعماء بني تميم، وشاعت الخيانة بين جميع كتائب الجيش وقبائل الكوفة، وأدرك الإمام أبو محمد الحسن (عليه السلام) كل ذلك، وصارحهم بالواقع الذي لم يعد يجوز السكوت عنه، فقال: (يا أهل الكوفة، أنتم الذين أكرهتم أبي على القتال والحكومة ثم اختلفتم عليه، وقد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية وبايعوه، فحسبي منكم لا تغروني في ديني ونفسي).
وهنا اطمأن معاوية بأن المعركة لو وقعت بين أهل الشام وأهل العراق ستكون لصالحه، وسيكون الحسن بن علي (عليه السلام) والمخلصون له من جنده خلال أيام معدودات بين قتيل وأسير تحت رحمته، وأن السلطة صائرة إليه لا محالة، ولكن استيلاءه عليها بقوة السلاح لا يعطيها الصبغة الشرعية التي كان يحاول التمويه بها على الناس، هذا بالإضافة إلى ما قد يحدث من المضاعفات الخطرة التي ستجعله في ضيق من نتائجها، وذلك لو أُصيب الحسن والحسين خلال المعارك وهما سيدا شباب أهل الجنة، وريحانتا جدهما وأحبّ الخلق إليه بالنصوص المتواترة التي لا يجهلها أحد من المسلمين.
لذلك ولغيره كان معاوية على ما يبدو حريصاً على ألا يتورط مع الحسن بن علي (عليه السلام) في الحرب، وإن كان مطمئنّاً لنتائجها، فعرض عليه فكرة الصلح في أولى رسائله، وترك له أن يشترط ويطلب ما يريد، وراح يردد حديث الصلح في مجالسه وبين أنصاره في جيش العراق ويأمرهم بإشاعته، وكاتب القادة والرؤساء به ليصرف أنظارهم عن الحرب، ويبثّ بينهم روح التخاذل والاستسلام للأمر الواقع.
وكانت فكرة الصلح كما ذكرنا مغلفة بلون ينخدع له الكثيرون من الناس، ويفضلونه على الحرب والقتال، فلقد عرضها في رسالته الأولى على الحسن (عليه السلام) وأشاعها بين أهل العراق، على ألا يقضي أمراً من الأمور بدون رأيه، ولا يعصيه في أمر أُريد به طاعة اللّه ورسوله، وترك له مع ذلك أن يقترح ما يريد، كل ذلك لعلمه بأنها ستلقى بهذه الصياغة قبولاً من الكثيرين، وسيتبع ذلك انقسام في صفوف الجيش يضطره إلى الصلح لأنه أهون الشرّين، كما التجأ والده من قبل للتحكيم والرضا بالاشعري حكماً لأهل العراق في مقابل ابن العاص، لأنه اقل خطراً وضرراً من المضي في الحرب، مع انحياز القسم الأكبر من الجيش إلى جانب فكرة التحكيم التي وضعها معاوية، بعد أن ضاق عليه أمره وكاد أن يقع أسيراً بيد الاشتر ومن معه من الجنود البواسل.
وبالإضافة إلى أن فكرة الصلح بتلك الشروط ستكون سلاحاً بيد الخونة من أهل العراق، ستكون أيضاً عذراً مقبولاً لمعاوية لو كانت الحرب وأُصيب الحسنان وخيار الصحابة عند السواد الأعظم من الناس.
وكان الأمر كما قدر معاوية، فقد أدّت فكرة الصلح بتلك الصيغة إلى التشويش والاضطراب في صفوف الجيش، وإلى تسلّل عبيد اللّه بن العباس وعدد من القادة وزعماء العشائر إلى معاوية واتّصال بعضهم به عن طريق المراسلة، وكان هو بدوره بما لديه من وسائل الإعلام يرسل إلى الحسن بجميع أخبارهم وتصرفاتهم ليقطع أمله من نتائج الحرب، ولا يبقى له خيار في الصلح، وكان الأمر كذلك.
وقال الشيخ المفيد في إرشاده والطبرسي في أعلام الورى: إن أهل العراق كتبوا إلى معاوية بالسمع والطاعة، واستحثّوه على السير نحوهم، وضمنوا له تسليم الحسن إليه إذا شاء عند دنوّه من معسكرهم أو الفتك به(17).
وجاء في علل الشرائع أن معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والاشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي ووعد من يقتل الحسن بمئة ألف وقيادة جند من أجناد الشام وبنت من بناته، ولمّا بلغ الحسن ذلك كان لا يخرج بدون لامة حربه، ولا ينزعها حتى في الصلاة، وقد رماه أحدهم بسهم وهو يصلي فلم يثبت فيه.
ولا شك أن معاوية أراد من اغتيال الإمام الحسن (عليه السلام) على يد العراقيين أن يسلم له الأمر، ويخلو له الجو بدون قتال إذا تعذر الصلح، حتى لا يتحمل مسؤولية قتله وقتل آله وأنصاره تجاه الرأي العام الإسلامي، الذي لا يغفر له عملاً من هذا القبيل مهما كانت الظروف.
ولم يكن الإمام أبو محمد الحسن (عليه السلام) يفكر بصلح معاوية ولا بمهادنته، غير أنه بعد أن تكدّست لديه الأخبار عن تفكّك جيشه، وانحياز اكثر القادة لجانب معاوية، أراد أن يختبر نواياهم ويمتحن عزيمتهم، فوقف بمن كان معه في ساباط، ولوّح لهم من بعيد بالصلح وجمع الكلمة فقال: ( فو اللّه إني لأرجو أن أكون انصح خلق اللّه لخلقه، وما أصبحت محتملاً على أحد ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة. ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبون في الفرقة. ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي. غفر اللّه لي ولكم وأرشدني وإيّاكم لما فيه محبته ورضاه)(18).
وهنا تنقّح لدى الإمام (عليه السلام) موضوع مصلحة الإسلام العليا بدفع اعظم الضررين، أولهما: الاستمرار بحرب خاسرة لا محالة فيها فناؤه وفناء أهل بيته وبقية الصفوة الصالحة من أصحاب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وأصحابه هو (عليه السلام)، وهم حفظة القرآن وسنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، والذابون عن العترة الطاهرة، والدعاة الأمناء إلى ولايتهم وقيادتهم، والثانية: القبول بالصلح وحقن دماء أهل بيت النبوة والعصمة وبقية الصفوة الصالحة من شيعتهم، ليحملوا لواء الدعوة لآل محمد (صلى الله عليه وآله)، ويصدعوا بالحق أمام محاولات تضييعه وتحريف وتزوير دين اللّه وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، ليتّصل حبلهم بحبل الأجيال اللاحقة، ولتصل إليها معالم الدين الحق، ولتدرك حق أهل البيت (عليهم السلام) وباطل أعدائهم.

---------------------------------------------------------------
16- الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر 1:511 ـ 513.
17- المفيد، الإرشاد :190.
18- الحسني، سيرة الأئمة الاثني عشر 1:514 ـ 518. 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page