ميراث الشهادة
انطبعت ملحمة كربلاء في فؤاد فاطمة بنت الحسين سلام الله عليه ، التي شاركت في كل فصول ملحمة الشهادة . وكانت منذ خروجهـا من المدينة المنـورة الى ان دخلـت مكة المكرمة برفقة أبيها ، ثم الى أن وردت أرض الملاحم البطولية ، ارض كربلاء المطهرة ، كانت رقيبة ومساهمة في كل الحوادث . كانت الى جنب عمتها زينب عليها السلام عندما وقعت الواقعة في يوم عاشــوراء ، وكانت تراقب وتلاحــق وكذلك تتعاون في ختلف مجالات الصراع .
كانت تتفـاعل نفسياً مع كل الحوادث ؛ شهادة اصحاب أبيها وبتـلك الصـورة الفجيعة ، ثم شهادة سبعـة عشـرة من اخوتها واعمامها وبني اعمامها ، ثم واخيراً شهادة أبي عبد الله الحسين ومعه الطفل الرضيع وبتلك الصورة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً . كل ذلك انطبع في ضمير هذه العلوية التي ورثت ايمان وصبر واستقامة الذرية الطيبة ، ذرية الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله ، ثم أضحـت كربلاء بالنسبة إليهـا رسالة لا بد أن تحملها إلى الاجيال الصاعدة .
فكيف حملت هذه الرسالة ؟
اننا نعرف ان زينب الكبرى عمة فاطمة حملت الرسالة بطريقتها الخاصة ، حيث نشرت ظلامة أبي عبد الله الحسين في كل افق ، في كل عصر وفي كل مصر ، ولكن فاطمة أدت هذه الرسالة بطريقة اخرى . لكي نعرف ذلك دعنا نتحدث قليلاً عن الجانب الاخر من الصورة ، حيث نجد الشاب الرشيد العلوي الهاشمي الحسن ابن الحسن والذي يلقب بالحسن المثنى يقبل على عمه الحسين عليه السلام ذات يوم ويخطب منه احدى ابنتيه . لعل الحسن كان يعلم في قرارة نفسه ان فاطمة هي الفتاة التي يجدر به ان يخطبها من عمه ، ولكنه استحى ان يحددها بالذات . بينما الامام الحسين سلام الله عليه كان يعرف ماذا يجري في نفس ابـن اخيـه ، لذا اختار له فاطمة ابنته . وهكذا اقترن الحسن المثنى أي ابن الحسن المجتبى سلام الله عليه ، اقترن بعقد قران مع ابنة عمه فاطمة بنت الحسين عليه السلام . وكان الحسن كسائر الهاشمين والعلويين وابناء فاطمة الزهراء قد خرج من المدينة المنورة برفقة عمه الحسين سلام الله عليه الى كربلاء المطهرة ، حيث شارك في ملحمة كربلاء وابلى بلاءاً حسناً وسقط على الارض جريحاً . لعل الحسن المثنى كان من اواخر من شارك في المعركة ، بعد ان استشهد أبو عبد الله وكل أصحابه وفتيان بني هاشم ، وظل الحسن المثنى في جانب من المعركة ينزف دماً ويئن من جراحاته . ولما انتشر جيش يزيد لقطع رؤوس اولاد رسول الله ، ووصلوا إلى مطرح الحسن المثنى وجدوا به رمقاً من الحياة ، فأراد أحدهم ان يجهـز عليه ، الا ان ابناء أخواله كانوا حاضرين فطلبـوا من القائد أن يسمح لهم بأخذ الحسن المثنى لتضميد جراحاته . وهكذا أُخذ الحسن اسيراً ، ثم أعيد الى المدينـة المنـورة ، حيث عادت إليه زوجته فاطمة بنت الحسين .
وهكـذا اشتـرك الحسن المثنى في ملحمة كربلاء وابلى بلاءاً حسناً ، وكان قد شاهد كل فصول المعركة ، وانطبعت ملحمة الرسالة بكل ما فيها من قيم البطولة والشهامـة والشهـادة ، انطبعت فـي قلبه الشريف وصاغته شخصيـة جديـدة .
تلك فاطمة وهذا الحسن اشتركا في المعركة ، اشتركا في الملحمة وساهما فيها ، ووجدا ما وجدا فيها . الآن عليهما ان ينقلا إلى العصور القادمة ، الى الاجيال الصاعدة قيم الملحمة ، ماذا فعلا ؟ انما انجبا ذرية طيبة حملت كربلاء في عمقها ، حملت القيم التي ناضل من اجلها اولئك الابطال في ضمائرها .. فكانت هذه الذرية الطيبة منشأ العديد من الحركات الثورية الجهادية الملتزمة بالخط الرسالي ، والمتمسكة باهداف القيم الايمانية . واليك بعض التفصيل عن ذرية هذين الزوجين الكريمين :
جاء في مقاتل الطالبين ؛ ان الحسن ابن الحسن خطب الى عمه الحسين ، وسأله ان يزوجه احدى ابنتيه . فقال له الحسين : اختر يا بني احبهم إليك . فاستحى الحسن ولم يحر جواباً . فقال له الحسين : فاني قد اخترت لك ابنتي فاطمـة ، فهي الاكثر شبهاً بامي فاطـمة بنت رسول
الله ( صلى الله عليه وآلـه ) .
وجاء فيه ايضاً : كان اهل الشرف وذووا القدر لا ينوطون [1] بعبد الله ابن الحسن احداً . وكان عبد الله ابن الحسن قد استشهد في محبسه في الهاشمية ، وهو ابن خمس وسبعين ، وذلك عام 145 بعد الهجرة النبوية الشريفة . وكان عبد الله هذا هو الذي حرَّض ابنيه محمد وابراهيم الذين خرجا على الحكم العباسي واستشهدا ، وسمى ابنه محمد ذو النفس الزكية . واما الابن الاخر لهذه الذرية الطيبة فهو الحسن ابن الحسن ابن الحسن السبط الامام ( عليه السلام ) ، وكان متألها فاضلاً ورعاً يذهب بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر الى مذهب الزيدية - كما يدعيه كتاب مقاتل الطالبين - . وينقل عن الحرث قال : كان الحسن ابن الحسن ابن الحسن ينزل منزلاً بذي الاثل فحضر المدينة وعبد الله ابن الحسن محبوس فلم يبرحها ، ولبس خشن الثياب وغليظ الكرابيس . وكان ابو جعفر يسميه الحاد ، وكان عبد الله ربما استبطأ رسل اخيه الحسن فيرسل إليه ؛ انك وولدك آمنون فـي بيوتكم ، وانا وولدي بين اسير وهارب . لقد مللت معونتـي فآنسني برسلك . وكان ذلك اذ أتى حسن بكى ، وقال : بنفس ابو محمد ؛ انه لم يزل يحشد الناس بالائمة . [2]
وأما الأخو الاخر لهذين الشبلين ، فهو ابراهيم ابن الحسن ابن الحسن . وكان ابراهيم اشبه الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد توفي في الحبس في الهاشمية في شهر ربيع الاول سنة 145 ، وهو اول من توفي منهم في الحبس عن عمر يناهز السبعة وستين . توفي هو وابنه محمد وكان هؤلاء الاخوة الثلاثة الذين اعتبروا رموز الثورة الرسالية في عصرهم هم اولاد السبطين الشهيدين . فهم أحفاد الامام الحسن المجتبى من ابنه الحسن المثنى وأحفاد الامام الحسين من ابنته فاطمة سلام الله عليهم جميعاً .
وكان للحسن ابن الحسن المعروف بالمثنى اولاد آخرون من امهات اخريات ، وكان من أحفاده علي ابن الحسن ابن الحسن الذي كان يعتبر من أعبد وأزهد اهل زمانه ، وكان يقال له علي الخير وعلـي الأغر وعلي العابد ، وكان يقال له ولزوجته زينب بنت عبد الله ابن الحسن الزوج الصالح . وقد حدّث بعضهم انه رأى علي ابن الحسن قائماً يصلي في طريق مكة فدخلت افعى في ثيابـه من تحت ذيله حتى خرجـت من ذيقته ، فصاح به الناس : الافعى في ثيابك ، وهو مقبل على صلاته . ثم انسابت فمرت فما قطع صلاته ولا تحرك ولا رأى اثر ذلك في وجهه .
بلــى ؛ ان الرجـل الذي يتربى في حضن الحسن المثنى
ابن كربلاء ، ابن الشهادة ، ابن الملحمة وابن الرسالة ينبغي ان يكون في هذا المستوى من العبادة والتواصل مع رب العباد . ولما وقعت ثورة أولاد الحسن وما سمي بحركة محمد ذي النفس الزكية ، واقدم العباسيون على اعتقال كل اولاد الحسن ، كان قد افلت منهم علي ابن الحسن ، فيقول الرواة :
ان السجان الذي كان يسمى برياح كان اذا صلى الصبح ارسل الى ندمائه ليحدثهم ساعة .. يقول بعض ندمائه وهو عيسى ابن عبد الله ، يقول : وإنا لعنده يوماً فلمـا اسحرنا فاذا برجل ملتقف وشاحاً له ، فقال له ريـاح : مرحباً بك واهلاً ، ماحاجتك ؟
قال : جئتك لتحبسني مع قومي . فاذا هو علي ابن الحسن .
فقال له ريـاح : اما والله ليعرفنها لك امير المؤمنين ، فحبسه معهم .
هكـذا كانوا يتنافسون على المكـرمات ، وكان السجن بالنسبه إليهم قضية طبيعية ، والسجن الذي سجن اولاد الحسن ، سجناً عجيباً .
يقول موسى ابن عبد الله ، وهو احد احفاد هؤلاء الاخـوة الرساليين ، يقول : حبسنا في المطبخ ، فما كنا نعرف اوقات الصلاة الا بأجزاء ( من القرآن ) يقرأها علينا علي ابن الحسن ابن الحسن ، وقد توفي علي ابن الحسن وهو ساجد في سجن ابي جعفر . فقال عبد الله ايقظوا ابن اخي فاني أراه قد نام في سجوده . قال : فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا . فقال : رضي الله عنك .
وكانوا في السجن مقيدين بقيود ، فضجر عبد الله ضجرة ، فقال : يا علي ؛ اما ترى ما نحن فيه من البلاء ، ألا تطلب الى ربك عزوجل انه يخرجنا من هذا الضيق والبلاء . فسكت عنه طويلاً ثـم قال له : يا عم ان لنا في الجنـة درجة لم نكـن نبلغها الا بهذه البلية او بما هو اعظم منها ، وان لأبي جعفر ( يقصد المنصور الدوانيقي الطاغية الذي سجنهم ) في النار موضعاً لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منا هذه البليــة او اعظم منها . فإن تشأ أن تصبر فما أوشك فيما اصبنا ان نموت فنستريح من هذا الغم كأن لم يكن شيء ، وان تشأ ان ندعوا ربنا ان يخرجك من هذا الهم وان يقصر بأبي جعفر نهايته التي له في النار فعلنا . قال : لا ؛ بل أصبر . فما مكثوا إلاّ ثلاثة حتى قبضهم الله إليه ، وهكذا توفي علي ابن الحسن وهو ابن خمسة واربعين سنة لسبع بقين من المحرم سنه 146 هـ .
__________________________
[1] أي لا يستبدلون بعبد الله بن الحسن احداً .
[2] مقاتل الطالبين / ص 126 ( بالائمة : يعني يقلب الناس ضد الحكام ) .