طباعة

الإمام الحسين (ع) في عصر يزيد

الإمام الحسين (ع) في عصر يزيد

 

وبعد وفاة معاوية في النصف من رجب سنة 60 هـ، وتولّي يزيد لمنصب خلافة رسول الله (ص) في ادارة شؤون المسلمين، كتب الى عامله على المدينة الوليد بن عتبة يطلب منه أخذ البيعة من أهل المدينة وخاصة من أربعة من رؤوسهم وهم: الحسين بن علي (ع) وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير، فأرسل إليهم من يدعوهم الى منزله وكانوا مجتمعين عند قبر رسول الله (ص) فقال الحسين (ع): «نفعل ذلك إذا فرغنا من مجلسنا إن شاء الله»· واستفسر عبد الله بن الزبير من الحسين (ع) عن سبب دعوة الوالي لهم في هذه الساعة الى منزله مع أنّه لا يستقبل أحداً في مثلها· فقال الحسين (ع): «إنّ طاغيتهم قد هلك، فبَعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشوا في الناس الخبر»· ثم سأله ماذا سيفعل لو طلب منه البيعة، فقال (ع): «إنّي لا اُبايع لـه أبداً، لأنّ الأمر إنّما كان لي من بعد أخي الحسن (ع) فصنع معاوية ما صنع وحلف لأخي الحسن (ع) أنه لا يجعل الخلافة لأحدٍ من بعده من ولده أن يردّها إليّ إن كنتُ حيّاً، فإن كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يفِ لي ولا لأخي الحسن (ع) بما كان ضمن فقد والله أتانا ما لا قوام لنا به· اُنظر أبابكر أنّي اُبايع ليزيد! ويزيد رجل فاسق معلن الفسق يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والفهود ويبغض بقية آل الرسول! لا والله لا يكون ذلك أبداً»·

وجمع الحسين مجموعة من أهل بيته وأنصاره وأخفوا أسلحتهم تحت ثيابهم وذهبوا الى دار الوالي، وقال لهم: «كونوا بباب هذا الرجل فإنّي ماضٍ إليه ومكلّمه، فإن سمعتم أنّ صوتي قد علا، وسمعتم كلامي وصحتُ بكم فادخلوا ياآل الرسول واقتحموا من غير إذن، ثم اشهروا سيوفكم ولا تعجلوا، فإن رأيتم ما تكرهون فضعوا سيوفكم ثم اقتلوا من يريد قتلي»·

وعند دخولـه على مجلس الوليد وكان عـنده مروان، فطلب البيعة من الحسين (ع) ليزيد، فقال (ع): «إنّ مثلي لا يبايع سرّاً، وإنّما اُحبّ أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة، ولكن إذا كان من الغد ودعوت الناس الى البيعة دعوتنا معهم فيكون أمرنا واحداً»· فطلب مروان من الوليد أخذ البيعة من الحسين الآن أو فليضرب عنقه، فقال لـه الحسين (ع): «ويلي عليك يا بن الزرقاء أتامر بضرب عُنقي؟ كذبت والله، والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك، وان شئت ذلك فَرُم ضرب عُنقي إن كنتَ صادقاً»· ثم التفت الى الوليد فقال لـه: «أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب خمر قاتل النفس المحرَّمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننتظر وتنتظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة»·

وخرج الحسين (ع) في صباح اليوم التالي يتصيّد الأنباء ويرى ردود فعل الناس عن موت معاوية وتولّي يزيد للحكم، فرآه مروان فطلب منه البيعة ليزيد، فقال له الحسين (ع): «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الاُمة براع ٍ مثل يزيد، وهو رجل فاسق، لقد قلت شططاً من القول يا عظيم الزلل، لا ألومك على قولك لأنّك اللعين الذي لعنك رسول الله (ص) وأنت في صلب أبيك الحكـم بن أبي العاص، فإنّ من لعنـه رسول الله (ص) لا يمـكن لـه ولابنه إلاّ أن يدعو الى بيعة يزيد»·

وتوجّه الحسين ليلا ً إلى قبر رسول الله (ص) لزيارته، فقال: «السلامُ عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن فاطمة، أنا فرخك وابن فرختك، وسبطك في الخلف الذي خلـّفت على اُمّتك، فاشهد عليهم يا نبيّ الله أنّهم قد خذلوني وضيّعوني، وأنّهم لم يحفظوني، وهذا شكواي إليك حتى ألقاك»· وقضى الحسين (ع) ليلته تلك عند القبر راكعاً وساجداً، ورجع في صباح اليوم التالي الى داره، وفي العصر أرسل الوليد إليه للحضور، فقال (ع): «اصبحوا ثم تَرَون ونَرى»· ورجع الحسين (ع) في الليلة الثانية الى قبر جدّه رسول الله (ص) مخاطباً إياه: «يا جدّاه لا حاجة لي في الرجوع الى الدنيا أبداً فخذني إليكَ واجعلني معك الى منزلك»· ثم انكبّ على القبر باكياً وهو يقول: «بأبي أنت واُمّي يا رسول الله لقد خرجتُ من جوارك كرهاً، وفرّق بيني وبينك حيث إنّي لم اُبايع ليزيد بن معاوية شارب الخمور وراكب الفجور، وها أنا خارج من جوارك على الكراهة، فعليك منّي السلام»·

وهنا عزم الإمام (ع) على ترك المدينة، وفهم البعض أنّه يريد الخروج الى الكوفة لما سبق من طلب أنصاره هناك بالمجيء اليها، فجاء بعضهم وذكّره غدر أهل العراق بأبيه وأخيه وحذ ّره من الخروج إليهم· وفي صباح اليوم التالي جاءه أخوه محمد بن الحنفية وأظهر محبّته الى أخيه الحسين (ع) بعبارات أخوية حارّة، ونصحه بالخروج الى مكّة أو اليمن والتنقل من مكان إلى آخر الى أن يرى ما يؤول إليه أمر الناس من يزيد· فقال الحسين (ع): «يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبداً»· فبكى محمد، فقال له الحسين (ع): «جزاك الله يا أخي عنّي خيراً، لقد نصحت وأشِرت بالصواب، وأنا أرجو أن يكون إن شاء الله رأيك موفّقاً مسدّداً، وإنّي قد عزمت على الخروج الى مكّة، وقد تهيأتُ لذلك أنا وإخوتي وبنو إخوتي وشيعتي، وأمرهم أمري ورأيهم رأيي، وأمّا أنت يا أخي فلا عليك أن تقوم بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، ولا تخفِ عنّي شيئاً من اُمورهم»·

ثم كتب وصيّة لأخيه محمد، قال فيها: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدي (ص)، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب (ع)، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومَن رَدَّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين»·

ثم جاءته اُم سلمة زوج النبيّ (ص) وطلبت منه عدم الخروج إلى العراق، وأخبرته أنّ رسول الله (ص) قد أعطاها قارورة فيها تراب، وأخبرها إذا تحول التراب إلى دم فاعلمي أن الحسين (ع) قد قُتل· فقال (ع) لها: «يا اُماه قد شاء الله عزوجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولامعيناً»· ثم دفع اليها كتبه وميراث النبوّة الذي سلّمه لـه الإمام الحسن (ع) وقال لها: «إذا أتاك أكبر ولدي فادفعي إليه ما قد دفعت إليك»·

وأما جابر فقد طلب من الحسين (ع) مبايعة القوم كأخيه الحسن (ع) وحقن دمه، فقال له الحسين (ع): «يا جابر قد فعل أخي ذلك بأمر الله تعالى وأمر رسوله (ص)، وأنّي أيضاً أفعل بأمر الله تعالى وأمر رسوله، أتريد أن استَشهِدَ رسول الله (ص) وعلياً وأخي الحسن بذلك الآن؟!» ثم أراه رسول الله (ص) وعلياً والحسن وحمزة وجعفر بعد أن فتحت السماء، فتحدّث مع رسول الله (ص)·

ثم اجتمعت نساء عبد المطلب حول الحسين (ع) وهنّ ينحن ويبكين، وناشدهن الحسين (ع) بالكفّ عن ذلك، ثم جاءت أُم هاني وهي عجوز ضعيفة تجرّ بنفسها لتوديع الركب الحسيني، وهي تقول: سمعت البارحة هاتفاً يقول:

وانّ  قتيل الطف من آل هاشم      أذلّ رقاباً من قريش فذلّت

فقال لها الحسين (ع): «يا عمّة لا تقولي من قريش، ولكن قولي: أذلَ رقاب المسلمين فذلَّتِ، يا عمَّة كلّ الذي مقدَّر فهو كائن لا محالة»· 

ثم كتب الحسين (ع) كتاباً الى بني هاشم عند انفصال الركب عن المودّعين، وهو: «بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أمّا بعد فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومَن تَخلّف لم يبلغ الفتح والسلام»·