• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

أحداث مروّعة

أحداث مروّعة

وقطعت عقيلة بني هاشم شوطاً من حياة الصبا في كنف جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) وفي ذرى عطفه، وهي ناعمة البال قريرة العين، يتلقاها بمزيدٍ من الحفاوة والتكريم، وترى أبويها وقد غمرتهما المودة والاُلفة والتعاون، فكانت حياتهما أسمى مثل للحياة الزوجية في الإسلام، وقد نشأت في ذلك البيت الذي سادت فيه تلاوة كتاب الله العزيز، وآداب الإسلام وأحكامه وتعاليمه، فكان مركزاً للتقوى ومعهداً لمعارف الإسلام، كما شاهدت الانتصارات الرائعة التي أحرزها الإسلام في الميادين العسكرية، واندحار القبائل القرشية التي ناهضت الإسلام وناجزته بجميع ما تملك من قوة، فقد اندحرت وأذلّها الله، فقد فتحت مكة وطُهِّر بيتها الحرام من الأصنام والأوثان التي كانت تعبدُ من دون الله تعالى.

ولعلّ من أهمّ ما شاهدته العقيلة في أدوار طفولتها هو احتفاء جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) بأبيها واُمّها وأخويها، فقد كانوا موضع اهتمامه وعنايته، وقد أثرت عنه كوكبة من الروايات أجمع المسلمون على صحتها، وهذه بعضها:

1 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعليّ وفاطمة والحسن والحسين عليه السّلام: (أنا حربٌ لمن حاربتهم، وسلم لمن سالمتم)(1).

2 - روى أحمد بن حنبل بسنده: أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، وقال: (من أحبني وأحبّ هذين وأباهما واُمهما كان معي في درجتي اليوم القيامة)(2).

3 - روى أبو بكر، قال: رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خيّم خيمة، وهو متكئ على قوس عربية، وفي الخيمة عليّ وفاطمة والحسن والحسين، فقال: (معاشر المسلمين، أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة، وحربٌ لمن حاربهم، ووليّ لمن والاهم، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ، ولا يبغضهم إلاّ شقي الجدّ ردئ الولادة)(3).

4 - روى ابن عباس: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قال: (النجوم أمانٌ لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لاُمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)(4).

5 - روى زيد بن أرقم: أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: (إني تاركٌ فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)(5).

6 - روى أبو سعيد الخدري، قال: سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: (إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، وإنّما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطّة في بني إسرائيل من دخله غفر له)(6).

7 - روى أبو برزة، قال: صلّيت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سبعة أشهر، فإذا خرج من بيته، أتى باب فاطمة (عليها السّلام)، فقال: (السلام عليكم، إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً)(7).

رأت العقيلة هذا الاحتفاء البالغ من جدّها الرسول (صلّى الله عليه وآله) لأبيها واُمّها وأخويها، ووعت الغاية من صنوف هذا التكريم والتعظيم، وأنّه ليس مجرد عاطفة وولاء لهذه الاُسرة الكريمة، وإنّما هو للإشادة بما تتمتّع به من الصفات الفاضلة، والقابليات الفذّة التي ترشحهم لقيادة الاُمّة، وتطويرها فكرياً واجتماعياً، وأنّه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تحتلّ اُمّته مركزاً كريماً تحت الشمس، وتكون رائدة لاُمم العالم وشعوب الأرض إلاّ بقيادة السادة من عترته الذين وعوا الإسلام، والتزموا بحرفية الرسول (صلّى الله عليه وآله).
 
خطوب مروّعة
 
 
ولم تدم الحالة الهانئة للاُسرة النبوية فقد دهمتهم كارثة مروّعة فقد بدت على الرسول (صلّى الله عليه وآله) طلائع الرحيل عن هذه الدنيا تلوح أمامه، فكان القرآن الكريم قد نزل عليه مرتين فاستشعر بدنّو الأجل المحتوم منه(8). وأخبر بضعته الزهراء (عليها السّلام)، فقال لها:(إن جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وأنّه عارضني بهذا العام مرتين، وما أرى ذلك إلاّ اقتراب أجلي)(9).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً، وشاعت الكآبة والحزن عند أهل البيت وذوت عقيلة بني هاشم من هذا النبأ المريع، وطافت بها في فجر الصبا تيارات من الأسى.

ونزلت على النبي (صلّى الله عليه وآله) سورة النصر فكان يسكت بين التكبير والقراءة ويقول: سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه).

وذُهل المسلمون، وفزعوا إليه يسألونه عن هذه الحالة الراهنة، فأجابهم: (إن نفسي قد نعيت إليّ)(10).

وكادت نفوس المسلمين أن تزهق من هذا النبأ المريع، فقد وقع عليهم كالصاعقة، فلا يدرون ماذا سيجري عليهم لو خلت الدنيا من منقذهم ومعلّمهم وقائدهم.
 
رؤيا العقيلة
 
 
ورأت العقيلة في منامها رؤيا أفزعتها، وأذهلتها فأسرعت إلى جدها الرسول (صلّى الله عليه وآله) تقصّها عليه، ولما مثلت عنده أجلسها في حجره وجعله يوسعها تقبيلاً، فقالت له:

(يا جدّاه، رأيت رؤيا البارحة..).

(قصّيها عليّ).

رأيت ريحاً عاصفاً اسودّت الدنيا منه وأظلمت، ففزعتُ إلى شجرة عظيمة فتعلقت بها من شدّة العاصفة، فقلعتها الرياح وألقتها على الأرض، فتعلقت بغصنٍ قويّ من تلك الشجرة فقطعتها الرياح، فتعلقت بفرع آخر فكسرته الرياح أيضاً، وسارعت فتعلّقت بأحد فرعين من فروعهما فكسرته العاصفة أيضاً، ثم استيقظت من نومي).

فأجهش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بالبكاء، وفسّر لها رؤياها قائلاً: (أما الشجرة: فجدّك، وأمّا الفرع الأول: فأمّك فاطمة، والثاني: أبوك عليّ، والفرعان الآخران هما: أخواك الحسنان، تسودّ الدنيا لفقدهم وتلبسين لباس الحداد في رزيتهم)(11).

وساد الحزن والأسى في البيت النبوي، وصدقت رؤيا العقيلة فلم تمض أيام حتى رزئت بجدّها واُمّها، تتابعت عليها بعد ذلك الرزايا، فقد استشهد أبوها وأخواها، ولبست عليهم لباس الحزن والحداد.
 
حجة الوداع
 
 
ولمّا علم النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ لقاءه بربّه قريب، رأى أن يحجّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بالمسلمين، ويضع لهم الخطوط السليمة لنجاتهم، ويقيم فيهم القادة والمراجع الذين يقيمون فيهم الحق والعدل.

وحجّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لهذا الغرض، وهي حجّته الأخيرة الشهيرة بـ(حجة الوداع)، وقد أشاع بين حجاج بيت الله أنّ التقاءه بهم في هذا العام هو آخر التقاء بهم، وأنه سيسافر إلى الفردوس الأعلى، وجعل يطوف بين الجماهير، ويعرّفهم سبل النجـــاة، ويرشدهم إلــــى ولاة اُمورهم من بــــعده قائلاً: (أيّها الناس، إني تركت فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي)(12).

ثم وقف النبيّ (صلّى الله عليه وآله) عند بئر زمزم وخطب خطاباً رائعاً وحافلاً بما تحتاج إليه الاُمّة في مجالاتها الاجتماعية والسياسية، وقال فيما يخصّ القيادة الروحية والزمنية للاُمّة: (إني خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي ألا هل بلّغت).

فانبرت الجماهير بصوتٍ واحدٍ قائلين: اللّهمّ نعم(13).

لقد عيّن الرسول (صلّى الله عليه وآله) القيادة العامة لاُمّته وجعلها مختصة بأهل بيته، فهم ورثة علومه، وخزنة حكمته، الذين يعنون بالإصلاح الاجتماعي، ويؤثرن مصلحة الاُمّة على كل شيء.
 
مؤتمر غدير خم
 
 
وقفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد أداء مراسيم الحج إلى يثرب وحينما انتهى موكبه إلى (غدير خم) نزل عليه الوحي برسالةٍ من السماء أن يُنصب الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) خليفةً من بعده، ومرجعاً عاماً للاُمّة، لقد نزل عليه الوحي بهذه الآية: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين)(14).

ففي هذه الآية إنذار خطير إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ أنّه إن لم يقم بهذه المهمة فما بلّغ رسالة ربّه، وضاعت جميع جهوده وأتعابه في سبيل هذا الدين، فانبرى (صلّى الله عليه وآله) فحطّ أعباء المسير، ووضع رحله في رمضاء الهجير، وأمر قوافل الحجّ أن تفعل مثل ذلك، وكان الوقت قاسياً في حرارته فكان الرجل يضع طرف ردائه تحت قدميه ليتقي به من حرارة الأرض، وقام النبي (صلّى الله عليه وآله) فصلّى بالناس، وبعد أداء فريضة الصلاة أمر بأن يوضع له منبر من حدائج الإبل، فصُنع له ذلك، فاعتلى عليه، واتّجهت الجماهير بعواطفها وقلوبها نحو النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فخطب خطاباً مهماً، أعلن فيه ما لاقاه من عناء شاق في سبيل هدايتهم، وتحرير إرادتهم، وإنقاذهم من خرافات الجاهلية وعاداتها، ثم ذكر طائفة من أحكام الإسلام وتعاليمه، وألزمهم بتطبيقها على واقع حياتهم، ثم التفت إليهم فقال: (انظروا كيف تخلفوني في الثقلين..).

فناداه منادٍ من القوم:ما الثقلان يا رسول الله؟.

فأجابه: (الثقل الأكبر: كتاب الله، طرف بيد الله عزّ وجلّ وطرف بأيديكم، فتمسكوا به لا تضلوا، والآخر الأصغر: عترتي، وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فسألت ذلك لهما ربّي، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا..).

ثم أخذ بيد وصيّه وباب مدينة علمه وناصر دعوته الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) ليفرض ولايته على جميع المسلمين فرفعها حتى بان بياض ابطيهما، ونظر إليهما القوم، ورفع النبي صوته قائلاً:

(أيها الناس، من أوْلىبالمؤمنين من أنفسهم؟).

فانبرت قوافل الحجاج رافعة عقيرتها: الله ورسوله أعلم..

ووضع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) القاعدة الأصلية التي تصون المسلمين من الانحراف قائلاً:

(إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أوْلى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعليِّ مولاه).

وكرّر هذا القول ثلاث مرات، أو أربع: ثم قال: (اللهمّ والِِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار، ألا فليبلغ الشاهد الغائب...).

لقد أدّى النبي (صلّى الله عليه وآله) رسالة ربّه، فنصب الإمام أمير المؤمنين خليفةً من بعده، وقلّده منصب الإمامة والمرجعية العامة، وأقبل المسلمون يهرعون صوب الإمام وهم يبايعونه بالخلافة ويهنئونه بإمرة المسلمين وقيادتهم، وأمر النبيّ اُمّهات المؤمنين أن يهنئن الإمام بهذا المنصب العظيم، ففعلن، وأقبل عمر بن الخطاب نحو الإمام فصافحه وهنّأه، وقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(15).

وفي ذلك اليوم الخالد نزلت الآية الكريمة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)(16).

لقد تمّت نعمة الله الكبرى على المسلمين بولاية بطل الإسلام ورائد العدالة الاجتماعية في الأرض الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وقد خطا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) الخطوة الأخيرة في أداء رسالته، فصان اُمّته من الزيغ والانحراف، فنصب لها القائد والموجّه ولم يتركها فوضى - كما يزعمون- تتلاعب بها الفتن والأهواء وتتقاذفها أمواج من الضلال، إنّ وثيقة الغدير من أروع الأدلة وأوثقها على اختصاص الخلافة والإمامة بباب مدينة علم النبيّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي جزء من رسالة الإسلام وبند من أهم بنوده؛ لأنّها تبنّت القضايا المصيرية للعالم الإسلامي على امتداد التأريخ.

لقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وهي في فجر الصبا هذه البيعة لأبيها، وأنّ جدها قد قلّدها بهذا المنصب الخطير لسلامة الاُمّة وتطورها، والبلوغ بها إلى أعلى المستويات من التقدّم، والقيادة العامة لشعوب العالم واُمم الأرض، ولكن القوم قد سلبوا أباها هذا المنصب، وجعلوه في معزل عن الحياة الاجتماعية والسياسية، وقد أخلدوا بذلك للاُمّة المحن والخطوب، وتجرعت حفيدة النبي (صلّى الله عليه وآله) بالذات أهوالاً من المصائب والكوارث كانت ناجمة - من دون شك- عن هذه المؤامرة التي حيكت ضد أبيها، فانّا لله وإنا إليه راحعون.
 
مرض النبي (صلّى الله عليه وآله)
 
 
ولما قفل النبي (صلّى الله عليه وآله) بعد حجة الوداع راجعاً إلى يثرب بدأت صحّته تنهار يوماً بعد يوم، فقد ألمّ به المرض، وأصابته حمى مبرحة، حتى كأن به لهباً منها، وكانت عليه قطيفة فإذا وضع أزواجـــه وعوّاده عليها أيــــديهم شعــــروا بحرّها(17). وقد وضعوا إلى جواره إناءً فيه ماء بارد فكان يضع يده فيه ويمسح به وجهه الشريف، وكان (صلّى الله عليه وآله) يقول: (ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بـ(خيبر)، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)(18). فقد قدمت له امرأة يهودية في خيبر ذلك الطعام الذي سمّته فأثّر فيه.

ولما اُشيع مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله) هرع المسلمون إلى عيادته، وقد خيّم عليهم الأسى والذهول، فنعى (صلّى الله عليه وآله) إليهم نفسه، وأوصاهم بما يسعدون ويفلحون به قائلاً:

(أيها الناس، يوشك أن اُقبض قبضاً سريعاً فينطلق بي، وقدمت إليكم القول معذرة إليكم، ألاّ إنّي مخلّفٌ فيكم كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي..).

ثم أخذ بيد وصيّه وخليفته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال لهم: (هذا علي مع القرآن، والقرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا عليَّ الحوض..)(19).

لقد قرّر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أهم القضايا المصيرية لاُمته، فعيّن لها القائد العظيم الذي يحقّق لها جميع أهدافها وما تصبو إليه في حياتها.
 
سرية اُسامة
 
 
ورأى النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو المرحلة الأخيرة من حياته التيارات الحزبية التي صممت على إقصاء عترته عن قيادة الاُمّة، فرأى أن خير وسيلة يتدارك بها الموقف أن يزج بجميع أصحابه في بعثة عسكرية حتى إذا وافاه الأجل المحتوم تكون عاصمته خالية من العناصر المضادة لوليّ عهده، فأسند قيادة البعثة إلى اُسامة بن زيد، وهو شاب في مقتبل العمر، وكان من بين الجنود أبو بكر وعمر وأبو عبيدة الجراح، وبشير بن سعد(20). وقال النبي لاُسامة:

(سِر إلى موضع قتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد ولّيتك هذا الجيش فاغزِ صباحاً على أهل أبنى(21) وحرق عليهم، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن أظفرك الله عليهم فاقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاّء وقدّم العيون والطلائع معك..).

ومُني الجيش بالتمرّد وعدم الطاعة، فلم يلتحق أعلام الصحابة بوحداتهم العسكرية،ولمّا علم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك تألّم، فخرج مع ما به من المرض، فحثّ الجند على المسير، وعقد بنفسه اللواء لاُسامة، وقال له: (اغز بسم الله، وفي سبيل الله، وقاتل من كفر بالله..).

فخرج اُسامة بلوائه معقوداً، ودفعه إلى بريدة، وعسكر بـ(الجرف)، وتثاقل جمعٌ من الصحابة عن الالتحاق بالمعسكر، وأظهروا الطعن والاستخفاف باُسامة القائد العام للجيش، يقول له عمر:

مات رسول الله وأنت عليَّ أمير...

وانتهت كلماته إلى النبيّ، وقد أخذت منه الحمّى مأخذاً عظيماَ، فخرج وهو معصّب الرأس قد برح به المرض، فصعد المنبر والتأثّر بادٍ عليه، فقال: (أيّها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري اُسامة، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله، إنّه كان خليقاً بالإمارة وأنّ ابنه من بعده لخليقٌ بها..).

ثم نزل عن المنبر ودخل بيته والتأثّر بادٍ عليه(22). وجعل يوصي أصحابه بالالتحاق بالجيش قائلاً:

(جهزوا جيش اُسامة..).

(نفذوا جيش اُسامة..).

(لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة..).

ولم ترهف عزائم القوم هذه الأوامر المشدّدة، فقد تثاقلوا عن الالتحاق بالجيش، واعتذروا للرسول بشتّى المعاذير، وهو (صلّى الله عليه وآله) لم يمنحهم العذر، وإنّما أظهر لهم السخط وعدم الرضا، فقد استبانت له بصورة جلية نيّاتهم وتآمرهم، كما عرفوا قصده بهذا الاهتمام البالغ من إخراجهم من يثرب.
 
رزية يوم الخميس
 
 
وأحاط النبي (صلّى الله عليه وآله) علماً بالتحركات السياسية من بعض أصحابه وأنّهم عازمون ومصرون على صرف الخلافة عن أهل بيته، وإفساد ما أعلنه غير مرة من أن عترته الأزكياء هم ولاة أمر المسلمين من بعده، فرأى (صلّى الله عليه وآله) أن يحكم الأمر، ويحمي اُمّته من الفتن والزيغ، فقال لمن حضر في مجلسه: (إئتوني بالكتف والدواة، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)(23).

حقّاً إنّها فرصة من أثمن الفرص وأندرها في تأريخ الإسلام، إنّه التزام واضح وصريح من سيّد الكائنات أن اُمّته لا تصاب بنكسة وانحراف بعد هذا الكتاب.

ما أعظم هذه النعمة على المسلمين، إنه ضمان من سيد الأنبياء أن لا تضل اُمّته في مسيرتها وتهتدي إلى سواء السبيل في جميع مراحل تأريخها، واستبان لبعض القوم ماذا يكتب رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إنه سينصّ على خلافة عليّ من بعده، ويعزّز بيعة يوم الغدير، وتضيع بذلك أطماعهم ومصالحهم، فردّ عليه أحدهم قائلاً بعنف: حسبنا كتاب الله…

ولو كان هذا القائل يحتمل أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يوصي بحماية الثغور أو بالمحافظة على الشؤون الدينية ما ردّ عليه بهذه الجرأة، ولكنه علم قصده أنّه سيوصي بأهل بيته وينصّ على خلافة عليّ من بعده.

وكثر الخلاف بين القوم، فطائفة حاولت تنفيذ ما أمر به النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وطائفة اُخرى أصرّت على معارضتها والحيلولة بين ما أراده النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وانطلقت بعض السيّدات فأنكرن على القوم هذا الموقف المتّسم بالجرأة على النبيّ وهو في الساعات الأخيرة من حياته، فقلن لهم: ألا تسمعون ما يقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله)..

فثار عمر وصاح فيهنّ، خوفاً أن يفلت الأمر منه ومن حزبه، فقال للسيدات:

إنكنّ صويحبات يوسف إذا مرض عصرتن أعينكن، وإذا صحّ ركبتن عنقه…

فنظر إليه النبي (صلّى الله عليه وآله)، بغضبٍ وغيظٍ، وقال له: (دعوهنّ فإنّهنّ خير منكم..).

وبدا صراع رهيب بين القوم، وكادت أن تفوز الجهة التي أرادت تنفيذ أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فانبرى أحدهم فأفشل ما أراده النبيّ وحال بينه وبين ما أراد من إسعاد اُمّته، فقال ويا لهول ما قال: إنّ النبيّ ليهجر..(24).

ألم يسمع هذا القائل كلام الله تعالى الذي يتلى في آناء الليل وأطراف النهار وهو يعلن تكامل النبي في جميع مراحل حياته، فقد زكّاه وعصمه من الهجر وغيره من ألوان الزيغ والانحراف، وإنه أسمى شخصية في تكامله وسموّ ذاته، قال تعالى: (ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)(25)، وقال تعالى: (إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون)(26).

إنّ القوم لم يخامرهم أدنى شك في عصمة النبيّ وتكامل ذاته، ولكن حبّ الدنيا، والتهالك على السلطة دفعهم للجرأة على النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، ومقابلتهم له بمرّ القول والطعن بشخصيته.

وكان ابن عباس إذا ذكر هذا الحادث الرهيب يبكي حتى تسيل دموعه على خديه كأنّها نظام اللؤلؤ، وهو يصعد آهاته، ويقول: يوم الخميس وما يوم الخميس!! قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً)، فقالوا: إن رسول الله يهجر..(27).

حقّاً إنّها رزية الإسلام الكبرى، فقد حيل بين المسلمين وسعادتهم ونجاتهم من الزيغ والضلال. لقد وعت السيّدة زينب هذا الحادث الخطير، ووقفت على أهداف القوم من إبعاد أبيها عن المركز الذي نصبه جدّها فيه، فقد جرّ هذا الحادث وغيره ممّا صدر من القوى المعارضة لأهل البيت الكوارث والخطوب لهم، وما كارثة كربلاء إلاّ من نتائج هذه الأحداث.
 
لوعة الزهراء
 
 
ونخب الحزن قلب بضعة الرسول، وبرح بها الألم القاسي وذهبت نفسها شعاعاً حينماً علمت أن أباها مفارق لهذه الحياة، فقد جلست إلى جانبه وهي مذهولة كأنها تعاني آلام الاحتضار وسمعته يقول:

(وا كرباه..).

فأسرعت وهي تجهش بالبكاء قائلة:

(وا كربي لكربك يا أبتي..).

وأشفق الرسول (صلّى الله عليه وآله) على بضعته، فقال لها مسلّياً: (لا كرب على أبيك بعد اليوم..)(28).

وهامت زهراء الرسول في تيارات مروعة من الأسى والحزن فقد أيقنت أنّ أباها سيفارقها، وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أن يسلّبها ويخفّف لوعة مصابها فأسرّ إليها بحديثٍ، فلم تملك نفسها أن غامت عيناها بالدموع، ثم أسرّ إليها ثانياً، فقابلته ببسمات فيّاضة بالبشر والسرور، فعجبت عائشة من ذلك وراحت تقول:

ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن..

وأسرعت عائشة فسألت زهراء الرسول عما أسرّ إليها أبوها، فأشاحت بوجهها الكريم عنها وأبت أن تخبرها، ولكنها أخبرت بعض السيّدات بذلك، فقالت: (أخبرني أنّ جبرئيل كان يعارضني بالقرآن في كلّ سنة مرّة, وأنّه عارضني في هذا العام به مرتين، ولا أراه إلّا قد حضر أجلي..).

وكان هذا هو السبب في لوعتها وبكائها، أمّا سبب سرورها وابتهاجها، فقالت: (أخبرني أنّكِ أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونِعْمَ السلف أنا لك، ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الاُمّة..)(29).

ونظر إليها النبي (صلّى الله عليه وآله) وهي خائرة القوى، منهدة الركن، فأخذ يخفّف عنها لوعة المصاب، قائلاً: (يا بنية لا تبكي، وإذا متّ فقولي: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإنّ فيها من كل ميّت معوضة..).

وأجهشت بضعة الرسول بالبكاء قائلةً: (ومنك يا رسول الله...).

(نعم ومنّي...)(30).

واشتدّ المرض برسول الله (صلّى الله عليه وآله) والزهراء إلى جانبه وهي تبكي وتقول لأبيها:

(يا أبت، أنت كما قال القائل فيك:

وأبيــــــض يستسقى الغمام بوجهه          ثــــمال اليــتامى، عصمة الأرامل)

فقال لها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (هذا قول عمّك أبي طالب، وتلا قوله تعالى: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئأً وسيجزي الله الشاكرين)(31).

وتقطّع قلب زهراء الرسول ألماً وحزناً على أبيها، فانكبّت عليه ومعها الحسنان، فألصقت صدرها بصدره وهي غارقة في البكاء، فأجهش النبي بالبكاء، وهو يقول:

(اللّهمّ أهل بيتي، وأنا مستودعهم كل مؤمن..).

وجعل يردّد ذلك ثلاث مرات حسبما يرويه أنس بن مالك(32).

أمّا حفيدة الرسول زينب، فقد شاركت اُمّها في لوعتها وأحزانها، وقد ذابت نفسها حزناً وموجدة على اُمّها التي هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون على أبيها الذي هو عندها أعزّ من الحياة.
 
إلى الفردوس الأعلى
 
 
وبعدما أدّى النبيّ العظيم رسالة ربّه إلى المسلمين، وأقام صروح الإسلام، وعيّن القائد العام لاُمّته الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقد اختاره الله تعالى إلى جواره لينعم في الفردوس الأعلى، فقد هبط عليه ملك الموت، فاستأذن بالدخول عليه، فخرجت إليه زهراء الرسول فأخبرته أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مشغول بنفسه عنه، فانصرف ثم عاد بعد قليل يطلب الإذن، فأفاق النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من إغمائه، والتفت إلى بضعته فقال لها:

(يا بنية، أتعرفيه؟).

(لا يا رسول الله…).

(إنّه معمّر القبور، ومخرّب الدور، ومفرّق الجماعات..).

وجمدت بضعة الرسول، وأخرسها الخطب، ولم تملك نفسها أن رفعت صوتها ودموعها تتبلور على وجهها الشريف قائلةً:

(وا أبتاه لخاتم الأنبياء، وا مصيبتاه لممات خير الأتقياء ولانقطاع سيّد الأصفياء، وا حسرتاه لانقطاع الوحي من السماء، فقد حرمت اليوم كلامك..).

وتصدّع قلب النبيّ على بضعتة وأشفق عليها، فقال لها مسلياً: (لا تبكي فإنّك أوّل أهلي لحوقاً بي..)(33).

وسكنت روعتها لمّا أخبرها أنّها لا تبقى بعده إلاّ قليلاً..وأذن النبي (صلّى الله عليه وآله) لملك الموت، فلمّا مثُلَ أمامه، قال له: (يا رسول الله، إنّ الله أرسلني إليك، وأمرني أن اُطيعك في كل ما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها..).

فبهر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال له: (أتفعل يا ملك الموت ذلك..).

بذلك اُمرت أن اًطيعك في كل ما أمرتنا..).

وهبط جبرئيل على النبي (صلّى الله عليه وآله)، فقال له: (يا أحمد، إن الله قد اشتاق إليك..)(34).

واختار النبيّ (صلّى الله عليه وآله) جوار ربّه والرحيل عن هذه الدنيا، فأذن لملك الموت بقبض روحه العظيمة، وفي هذه اللحظات ألقى الحسنان بأنفسهما على جدّهما، وهما يذرفان الدموع، والنبي يوسعهما تقبيلاً، وأراد الإمام أمير المؤمنين أن ينحّيهما عنه فأبى النبيّ، وقال له:

(دعمها يتمتّعان منّي وأتمتّع منهما فسيصيبهما بعدي إثرة..).

والتفت النبيّ إلى عوّاده فأوصاهم بعترته قائلاً:

(قد خلّفت فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فالمضيّع لكتاب الله كالمضيع لسنتّي، والمضيّع لسنّتي كالمضيع لعترتي، إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض..)(35).

والتفت النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى باب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال له: (ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله، فإذا فاضت نفسي فتناولها وامسح بها وجهك، ثم وجّهني إلى القبلة، وتولّ أمري، وصلِّ عليِّ أوّل الناس، ولا تفارقني حتى تواريني في رِمسي، واستعن بالله عزّ وجلّ)(36).

وأخذ الإمام أمير المؤمنين رأس النبيّ فوضعه في حجره، ومدّ يده اليمنى تحت حنكه وشرع ملك الموت بقبض روحه الطاهرة، والرسول يعاني آلام الموت وقسوته حتى فاضت روحه العظيمة فمسح بها الإمام وجهه(37).

لقد ارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي أضاء العقول وحرّر الأفكار، وأقام مشاعل النور في جميع بقاع الأرض.

لقد سمت روح النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى بارئها، وهي أقدس روح سمت إلى السماء منذ خلق الله هذه الأرض.

لقد أشرقت الآخرة لقدومه، وأظلمت الدنيا لفقده، وما أصيبت الإنسانية بكارثة أقسى وأعظم من فقد الرسول العظيم.
 
تجهيزه
 
 
وانبرى الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) وهو خائر القوى، منهدّ الركن إلى تجهيز جثمان سيد الأنبياء (صلّى الله عليه وآله) فغسّل الجسد الطاهر، وهو يقول بذوب روحه:

(بأبي أنت واُمي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء، خصصت حتى صرت مسلياً عمّن سواك، وعممت حتى صار الناس فيك سواء. ولولا أنّك أمرت بالصبر، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون، ولكان الداء مماطلاً، والكد مخالفاً)(38).

وكان العباس واُسامة يناولانه الماء من وراء الستر(39).

وكان بدن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تفوح منه روائح الطيب، والإمام(عليه السّلام) يقول:

(بأبي أنت واُمّي يا رسول الله، طبت حيّاً وميّتاً..)(40).

وبعد الفراغ من غسله أدرجه الإمام في أكفانه ووضعه على السرير.

وأوّل من صلّى على الجثمان العظيم هو الله تعالى من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمراً زمراً(41).

وبعد ذلك صلّى عليه الإمام أمير المؤمنين، ثم أقبل المسلمون للصلاة عليه، فقال لهم الإمام: (لا يقوم عليه إمام منكم، هو إمامكم حيّاً وميّتاً)، فكانوا يدخلون رسلاً رسلاً فيصلّون عليه صفاً واحداً ليس لهم إمام، وأمير المؤمنين واقف إلى جانب الجثمان وهو يقول:

(السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته، اللّهم إنّا نشهد أنّه قد بلّغ ما اًنزل إليه لاُمّته، وجاهد في سبيل الله حتى أعزّ الله دينه وتمّت كلمته. اللّهم فاجعلنا ممّن يتّبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه..).

وكانت الجماهير تقول: آمين(42). وقد نخب الحزن قلوبهم فقد مات من دعاهم إلى الحق، وحرّرهم من خرافات الجاهلية وأوثانها، وأقام لهم دولة تدعو إلى أنصاف المظلوم، وردع الظالم، وإشاعة الرفاهية والرخاء والأمن بين الناس.
 
مواراة الجثمان المقدس
 
 
وبعد أن أفرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير، قام الإمام أمير المؤمنين(عليه السّلام) فوارى الجسد الطاهر في مثواه الأخير ووقف على حافة القبر وهو يروي ثراه بدموع عينيه، ويقول:

(إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك، وإن الجزع لقبيح إلاّ عليك، وإنّ المصاب بك لجليل، وإنّه قبلك وبعدك لجلل..)(43).

لقد مادت أركان العدل وانطوت ألوية الحق، فقد غاب عن هذه الحياة سيّد الكائنات الذي غيّر مجرى التأريخ، وأقام صروح الوعي والفكر في دنيا العرب والإسلام.
 
فجيعة الزهراء
 
 
وكان أكثر أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) جزعاً وأشدّهم مصاباً بضعة الرسول (صلّى الله عليه وآله)، وحبيبته فاطمة الزهراء، فقد أشرفت على الموت، وهي تبكي أمرّ البكاء وأقساه، وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله، وا نبيّ الرحمتاه، الآن لا يأتي الوحي، الآن ينقطع عنّا جبرئيل. اللّهم إلحق روحي بروحه، واشفعني بالنظر إلى وجهه، ولا تحرمني أجره وشفاعته يوم القيامة)(44).

وقالت بذوب روحها:

(وا أبتاه إلى جبرئيل أنعاه، وا أبتاه جنة الفردوس مأواه، وا أبتاه وا أبتاه أجاب رباً دعاه..).

وأحاطت بالاُسرة النبوية موجات من الأسى والحزن على هذا المصاب العظيم كما أحاطت بها تيارات من الفزع والخوف؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد وتر الأقربين والأبعدين فخافوا من انقضاض العرب عليهم، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

(لمّا مات النبي (صلّى الله عليه وآله) بات أهل بيته كأنّ لا سماء تظلّهم ولا أرض تقلّهم، لأنّه وتر الأقرب والأبعد..).

لقد عانت حفيدة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) زينب عليها السلام وهي في سنّها المبكّر هذه المصيبة الكبرى وما تنطوي عليه من أبعاد، وما ستعانيه هي وأهلها من فوادح الرزايا بعد وفاة جدّها كما فقدت بموته العطف والحنان الذي كان يغدقه عليها، وكان عمرها الشريف خمس سنين، وقد غزت قلبها هذه المحنة الشاقة، فقد رأت جدّها يوارى في مثواه الأخير، ورأت أباها بادي الهمّ والحزن على فراق ابن عمّه، وشاهدت أمّها الرؤوم وهي ولهى قد ذابت من الأسى، وهي تندب أباها بأشجى ما تكون الندبة، ومنذ ذلك اليوم لازمها الأسى والحزن حتى لحقت بالرفيق الأعلى.

 ____________________________________________


1 - مسند أحمد 77:1. صحيح الترمذي 301:2. تهذيب التهذيب 430:10، وجاء فيه: أنّ نصر بن عليّ حدّث بهذا الحديث، فأمر المتوكّل بضربه ألف سوط، فكلّمه فيه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول له: إنّه من أهل السنّة، فلم يزل يترجّاه حتى تركه.

2 - الرياض النضرة 252:2.

3 - مستدرك الحاكم 149:3. كنز العمّال 116:6. الصواعق المحرقة: 111. نصّ الحديث: (النجوم أمان لأهل الأرض أهل بيتي أمان لاُمتي).

4 - صحيح الترمذي 308:2. اُسد الغابة 12:2. وما يقرب من هذا الحديث روي في: كنز العمال 48:1. مجمع الهيثمي 163:9.

5 - مجمع الزوائد 168:9. مستدرك الحاكم 43:2. تأريخ بغداد 19:2. ذخائر العقبى: 20.

6 - ذخائر العقبى: 24. روى أنس بن مالك: أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان يمرّ ببيت فاطمة ستّة أشهر إذا خرج إلى الفجر ويقول: (الصلاة يا أهل البيت)، ويتلو الآية الكريمة. جاء ذلك في: مجمع الزوائد 169:9. أنساب الأشراف 157:1، القسم الأوّل.

7 - الخصائص الكبرى 368:2.

8 - تأريخ ابن كثير 223:5.

9 - مناقب ابن شهر آشوب 167:1.

10 - زينب الكبرى:19.

11 - صحيح الترمذي 308:2.

12 - تاريخ اليعقوبي 91:2-92.

13 - الغدير 34:2.

14 - المائدة: 67. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير: الواحدي في أسباب النزول والرازي في تفسيره، وغيرهما.

15 - مسند أحمد 281:4.

16 - المائدة: 3. نصّ على نزول هذه الآية في يوم الغدير: الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 29:8، السيوطي في الدرّ المنثور، وغيرهما من أعلام أهل السنّة.

17 - البداية والنهاية 226:5.

18 ـ حياة الإمام الحسين (عليه السلام) 202:1.

19 - الصواعق المحرقة: 124.

20 - كنز العمّال 312:5. طبقات ابن سعد 46:4. تأريخ الخميس 46:2.

21 - ابنى: ناحية بالبلقان من أرض سوريا، بين عسقلان والرملة، تقع بالقرب من مؤتة، وهي التي استشهد قيها زيد بن حارثة وجعفر الطيّار.

22 - السيرة الحلبية: ج 3 ص 34.

23 - الرواية أخرجها البخاري ومسلم، والطبري في الأوسط، وغيرهم.

24 - نصّ على هذه الحادثة المؤلفة جميع الرواة والمؤرخين في الإسلام، ذكرها: البخاري في صحيحه عدّة مرّات، إلاّ أنّه كتم اسم قائلها، وفي نهاية غريب الحديث، وشرح النهج: ج 3 ص 114 (صُرّح باسم القائل).

25 - النجم: 2-5.

26 - التكوين: 19-22.

27 - مسند أحمد 355:1، وغيره.

28 - حياة الإمام الحسن(عليه السّلام) 112:2.

29 - المصدر السابق 113:1.

30 - أنساب الأشراف 133:1،القسم الأوّل.

31 - أنساب الأشراف 133:1،القسم الأوّل.

32 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 216:1.

33 - درّة الناصحين: 66. 

34 - طبقات ابن سعد 48:2.

35 - مقتل الحسين - الخوارزمي 114:1.

36 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 220:1.

37 - المناقب 29:1. وتضافرت الأخبار بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) توفّي ورأسه الشريف في حِجر الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، جاء ذلك في: كنز العمّال 55:2، طبقات ابن سعد، وغيرهما.

38 - نهج البلاغة - محمد عبده 255:2.

39 - وفاء الوفاء 227:1. البداية والنهاية 63:5.

40 - حلية الأولياء 77:4.

41 - المصدر السابق.

42 - كنز العمّال54:4.

43 - نهج البلاغة - محمّد عبده 224:3.

44 - تاريخ الخميس 192:2. 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page