طباعة

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة

موجز براهينه على الوجود والوحدانيّة

تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضل وغيره إِذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد، وذلك حين يُسأل عن الدليل على الخالق فيقول عليه السلام: ما بالناس من حاجة(1).
أقول: ما أوجزها كلمة، واكبرها حجّة، فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شؤون الحياة، وهذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته، وأن ذلك المآل واحد، إِلا لاختلف السير والنظام.
ويسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله: ما الدليل على أن اللّه تعالى واحد ؟ فيقول عليه السّلام: اتّصال التدبير، وتمام الصنع(2).
أقول: إِن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلاً برأسه، وذلك لأن اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبّر، إِذ لو كان اثنين أو اكثر لكان الخلاف بينهما سبباً لحدوث فترة أو تضارب، فلا يكون التدبير متّصلاً، والتقدير دائماً، كما أن تمام الصنعة في الخلقة دائماً شاهد آخر على الوحدانيّة، لأن استمرار الإتفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبداً، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد، فإن حصل اختلاف ولو برهة فسد المخلوق، فأين تمام الصنع ؟ فالتمام دليل الوحدة أيضاً.
ويسأله أبو شاكر الديصاني بقوله: ما الدليل على أن لك صانعاً ؟ فيقول عليه السّلام: وجدت نفسي لا تخلو من إِحدى جهتين إِمّا اكون صنعتها أنا أو صنعها غيري، فإن كنت صنعتها فلا أخلو من إِحدى جهتين إِمّا أنّ اكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنت بوجودها عن صنعتها، وإِن كانت معدومة فإنك تعلم أن المعدوم لا يحدث شيئاً، فقد ثبت المعنى الثالث أن لي صانعاً وهو ربّ العالمين، فقام وما أحار جواباً(3).
وسأل الصادق مرّة ابن أبي العوجاء فقال له: أمصنوع انت أم غير مصنوع ؟
فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له الصادق عليه السلام: فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟ فبقي مليّاً لا يحير جواباً وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن، كلّ ذلك من صفة خلقه، فقال له الصادق عليه السّلام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الاُمور، فقال ابن أبي العوجاء: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها(4).
أقول: إِن إِثبات هذه العوارض على الانسان لكونه مصنوعاً ظاهر، لأن طوله بعد القصر واختلافه في العمق والعرض آناً بعد آخر، وسكونه مرّة وحركته اُخرى أحداث دلّت على وجوده بعد العدم ومصنوعيّته بعد أن لم يكن، ولا بدّ للمصنوع من صانع وللمخلوق من خالق.
______________________________
(1) تحف العقول.
(2) توحيد الصدوق: باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ص 243.
(3) التوحيد: باب أنه عزّ وجل لا يُعرف إِلا به.
(4) توحيد الصدوق: باب إثبات حدوث العالم.