• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

إلى مكة

إلى مكة

وبعدما أعلن الإمام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب والتوجّه إلى مكة المشّرفة ليبثّ دعوته فيها، وقد دعا العقيلة أخته السيّدة زينب (عليها السّلام) وعرّفها بعزمه وما سيجري عليه من الأحداث، وطلب منها أن تشاركه في محنته، فاستجابت له، وصمّمت على مساعدته في نهضته وثورته التي يقيم فيها الحقّ ويدحر الباطل، كما دعا أولاده وزوجاته وأخوته وبني عمومته إلى مصاحبته فلبّوا جميعاً ولم يتخلّف منهم أحد إلاّ لعذر قاهر.

ولمّا أصبحوا جاء الموالي بالإبل فحملوا عليها الخيام وأدوات المياه والأرزاق وغيرها وأعدّوها للسفر، وخرجت حفيدة الرسول السيّدة زينب تجرّ أذيالها ونفسها مترعة بالهموم والآلام، وقد أحاطت بها جواريها، وكان إلى جانبها أخوها أبو الفضل العباس قمر بني هاشم، فكان هو الذي يتولّى رعايتها وخدماتها، وقد ملئت نفسه إجلالاً وإكباراً وولاءً لها، واستقلّت الإبل بعترة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحدا بهم الحادي إلى مكّة المكرمة، وقد خيّم الحزن والأسى على المدنيّين حينما رأوا أل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) قد نزحوا عنهم إلى غير مئاب.

وكان سيّد الشهداء(عليه السّلام) يتلو في طريقه قوله تعالى: (رب نجني من القوم الظالمين)(1).

لقد شبّه خروجه بخروج نبي الله موسى بن عمران على فرعون زمانه، وكذلك هو خرج على طاغية عصره حفيد أبي سفيان ليقيم الحقّ وينشر العدل بين الناس، وسلك(عليه السّلام) في سفره الطريق العام من دون أن يتجنّب عنه كما فعل ابن الزبير مخافة أن يدركه الطلب من قبل السلطة في يثرب، فامتنع وأجاب: (لا والله لا فارقت هذا الطريق أبداً أو أنظر إلى أبيات مكة، أو يقضي الله في ذلك ما يحبّ ويرضي).

لقد رضي بما كتب الله وقدّر له، لم تضعف همّته، ولم توهن عزيمته، ولم يبال بالأحداث المروعة التي سيواجهها، وكان يتمثّل في أثناء مسيرته بشعر يزيد ابن المفرغ:

لا ذعـــــرت الســـــوام في فلق الصبح          مغــــــيراً ولا دعـــــــيــــت يــــــــزيدا

يـــــوم أعـــــــطى مخافة الموت ضيما          والمنـــــايا تــــــــرصدنــــني أن أحيدا(2)

لقد كان على ثقة أنّ المنايا ترصده لا تحيد عنه ما دام مصمّماً على عزمه الجبار في أن يعيش عزيزاً ولا يخضع لحكم يزيد.
 
احتفاف الحجاج والمعتمرين بالإمام
 
 
وانتهى الإمام (عليه السّلام) إلى مكة المكرمة ليلة الجمعة لثلاث ليال مضين من شعبان(3).وقد حطّ رحله في دار العباس بن عبد المطلب(4)، وقد استقبله المكّيون استقبالاً حافلاً، وجعلوا يختلفون إليه بكرةً وعشيةً وهم يسألونه عن أحكام دينهم، كما يسألونه عن موقفه تجاه الحكم القائم.

وأخذ القادمون إلى بيت الله الحرام من الحجاج والمعتمرين يختلفون إليه ويطوفون حوله، ويتبرّكون بتقبيل يده، ويلتمسون منه العلم والحديث، ولم يترك الإمام لحظة واحدة من الوقت تمرّ دون أن يبثّ الوعي الاجتماعي والسياسي في نفوس القادمين إلى بيت الله الحرام ويدعوهم إلى اليقظة والحذر من الحكم الاُموي الهادف إلى استعباد المسلمين وإذلالهم.
 
فزع السلطة المحلية
 
 
وفزعت السلطة المحلية في مكة من قدوم الإمام، وخافت أن يتّخذها مقرّاً سياسياً لدعوته ومنطلقاً لإعلان الثورة على حكومة يزيد، فقد خفّ حاكم مكة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام، وقال له:

ما أقدمك؟.

(عائذاً بالله وبهذا البيت..)(5).

لقد جاء الإمام إلى مكة عائذاً ببيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً من كل ظلم واعتداء.

ولم يحفل الأشدق بكلام الإمام، وإنّما رفع رسالة إلى يزيد أحاطه بها علماً بمجيء الإمام إلى مكة، واختلاف الناس إليه، وازدحامهم على مجلسه، وإجماعهم على تعظيمه، وأنّ ذلك يشكّل خطراً على الدولة الاُموية، واضطرب يزيد حينما وافته رسالة عامله الأشدق، فرفع إلى ابن عباس رسالة يمنّي فيها الإمام الحسين بالسلامة إن استجاب لبيعته، ويتهدّده إن لم يستجب لذلك، وقد أجابه ابن عباس: أنّ الحسين إنّما نزح عن يثرب لمضايقة السلطة المحلية له، كما وعده أن يلقى الإمام ويعرض عليه ما طلبه منه، وقد ذكرنا ذلك في حياة الإمام الحسين - نص رسالة يزيد وجواب ابن عباس).
 
إعلان التمرّد في العراق
 
 
وبعدما هلك معاوية أعلن العراقيون رفضهم لبيعة يزيد وخلعهم لطاعته، فكانت أندية الكوفة تعجّ بمساوئ معاوية وابنه الخليع يزيد، وذهب المستشرق (كريمر) إلى أنّ الأخيار والصلحاء من الشيعة ينظرون إلى يزيد نظرتهم إلى ورثة أعداء الإسلام(6).

وعلى أي حال فإن أهل الكوفة لم يرضوا بحكم يزيد وأجمعوا على خلع بيعته، وقد عقدت الشيعة مؤتمراً عاماً في بيت سليمان بن صرد الخزاعي، وهو من أكابر زعمائهم، وألقوا الخطب الحماسية التي أظهرت مساوئ الاُمويّين وما اقترفوه من الظلم والجور ضدّ شيعة أهل البيت، ودعوا إلى البيعة للإمام الحسين عليه السّلام، وكان من جملة الخطباء سليمان بن صرد، وقد جاء في خطابه:

إنّ معاوية قد هلك، وأنّ حسيناً قد قبض على القوم بيعته، وقد خرج إلى مكة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهن والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه.

وتعالت أصواتهم من كل جانب، وهم يقولون بحماس بالغ:

نقتل أنفسنا دونه.. نقاتل عدوّه.

وأظهروا بالإجماع دعمهم الكامل للحسين، ورغبتهم الملحّة في نصرته والدفاع عنه، وأجمعوا على إرسال وفد إليه يدعونه للقدوم إليهم.
 
وفود أهل الكوفة للإمام
 
 
وأرسلت الكوفة وفوداً متعدّدة إلى الإمام يدعونه إلى القدوم إلى مصرهم لينقذهم من ظلم الاُمويين وجورهم، ويعلنون دعمهم الكامل له، وكان من بين الوافدين عبد الله الجدلي(7).
 
رسائل أهل الكوفة
 
 
وعمد أهل الكوفة إلى كتابة جمهرة من الرسائل إلى الإمام يحثّونه على القدوم إليهم لينقذ الاُمّة من شرّ الاُمويّين، وكان من بين تلك الرسائل رسالة بعثها جماعة من شيعة الإمام وجاء فيها بعد البسملة:

من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر وشيعته والمسلمين من أهل الكوفة:

أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبار العنيد - يعني معاوية- الذي انتزا على هذه الاُمّة فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضىً منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.

إنّه ليس علينا إمام فاقبل لعلّ الله يجمعنا بك على الحقّ، واعلم أنّ النعمان ابن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعه ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(8).

كما وردت إليه رسائل من الانتهازيين وشيوخ الكوفة، كان منها ما أرسله شبث بن ربعي اليربوعي، ومحمّد بن عمر التميمي، وحجار بن أبجر العجلي، ويزيد بن الحارث الشيباني، وعزرة بن قيس الأحمسي، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، وهذا نصّها:

أمّا بعد، فقد إخضرّ الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الجمام(9)، فأقدم على جند لك مجنّدة والسلام عليك(10).

وأعربت هذه الرسالة عن شيوع الأمل وازدهار الحياة، وتهيئة البلاد عسكرياً للأخذ بحقّ الإمام ومناجزة خصومه، وقد وقّعها اُولئك الأشخاص الذين لا يؤمنون بالله، وكانوا في طليعة القوى العسكرية التي زجّها ابن مرجانة لحرب الإمام.

وعلى أي حال فقد توافدت الرسائل يتبع بعضها بعضاً على الإمام، حتى اجتمع عنده في نوب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب، ووردت عليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف اسم، يعربون فيها عن نصرتهم واستعدادهم الكامل لطاعته حال ما يصل إلى مقرهم.ولكن بمزيد الأسف لقد انطوت تلك الصحيفة، وتبدّلت الأوضاع إلى ضدّها، وإذا بالكوفة تنتظر الحسين لتثب عليه فتريق دمه ودماء أهل بيته وأصحابه وتسبي عياله، وهكذا شاءت المقادير، ولا رادّ لأمر الله تعالى وقضائه.
 
إيفاد مسلم إلى العراق
 
 
وعزم الإمام على أن يلبّي طلب أهل الكوفة ويستجيب لدعوتهم، فأوفد إليهم ممثّله العظيم ابن عمّه مسلم بن عقيل ليعرّفه باتجاهاتهم وصدق نيّاتهم، فإن رأى منهم عزيمة مصمّمة فيأخذ منهم البيعة، وزوّده بهذه الرسالة.

(من الحسين بن على إلى من بلغه كتابي هذا من أوليائه وشيعته بالكوفة سلام عليكم

أمّا بعد، فقد أتتني كتبكم، وفهمت ما ذكرتم من محبّتكم لقدومي عليكم، وأنا باعث إليكم بأخي وابن عمّي وثقتي من أهلي مسلم بن عقيل ليعلم لي كُنه أمركم، ويكتب إلي بما يتبيّن له من اجتماعكم فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم إليكم إن شاء الله، والسلام)(11).
 
مسلم في بيت المختار
 
 
وسار مسلم يطوي البيداء حتى انتهى إلى الكوفة فنزل في بيت المختار الثقفي(12)، وهو من أشهر أعلام الشيعة، ومن أحبّ الناس وأنصحهم وأخلصهم للإمام الحسين عليه السّلام،وفتح المختار أبواب داره لمسلم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ودعا الشيعة لمقابلته، فهرعوا إليه من كل حدب وصوب، وهم يظهرون له الولاء والطاعة، وكان مسلم يقرأ عليهم رسالة الإمام الحسين(عليه السّلام) وهم يبكون، ويبدون تعطّشهم لقدومه والتفاني في نصرتهم له ليعيد في مصرهم حكم الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وينقذهم من جور الاُمويّين وظلمهم.
 
البيعة للحسين
 
 
وانهالت الشيعة على مسلـــم تبايع للإمام الحــــسين عليه السّـــــلام، وكان حبيب بن مظاهر هو الذي يأخذ منهم البيعة للحسين(13). وكان عدد المبايعين ألفاً، وقيل: أقل من ذلك(14).
 
رسالة مسلم للحسين
 
 
وازداد مسلم إيماناً ووثوقاً بنجاح الدعوة، وبهر من العدد الهائل الذين بايعوا الحسين فكتب له:

(أمّا بعد، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر الفاً(15)، فعجّل حين يأتيك كتابي هذا فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى..).

لقد حكت مسلم هذه الرسالة إنّ هناك إجماعاً عاماً على بيعة الإمام وتلهفاً حارّاً لقدومه، وقد حمل الرسالة جماعة من أهل الكوفة وعليهم البطل عابس الشاكري، وعند ذلك تهيّأ الإمام الحسين للخروج من مكة إلى العراق.
 
فزع يزيد
 
 
وفزع يزيد حينما وافته الأنباء من عملائه بمجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة وأخذه البيعة للإمام الحسين عليه السّلام، واستجابة الجماهير لبيعة الإمام، وشعر يزيد بالخطر الذي يهدّد ملكه، فاستدعى سرجون الرومي، وكان مستودع أسرار أبيه ومن أدهى الناس، وعرض عليه الأمر قائلاً:

ما رأيك أنّ حسيناً قد توجّه إلى الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان - وهو والي الكوفة - ضعف وقول سيء، فما ترى من استعمل على الكوفة؟.

وأخذ سرجون يطيل التأمّل، حتى توصّل إلى نتيجة حاسمة فقال له:

أرأيت أنّ معاوية لو نُشر أكنت آخذاً رأيه.

نعم.

فأخرج سرجون عهد معاوية لعبيد الله بن زياد على الكوفة وقال له: هذا رأي معاوية، وقد مات، وقد أمر بهذا الكتاب(16).

واستجاب يزيد لرأي مستشار أبيه، فعهد بولاية الكوفة إلى ابن زياد.
 
ولاية ابن زياد على الكوفة
 
 
وكان يزيد ناقماً على ابن زياد وأراد عزله عن ولاية البصرة(17) وذلك لموقف أبيه زياد من يزيد، فقد عذل أباه معاوية عن ترشيحه للخلافة من بعده.

وعلى أي حال فقد عهد يزيد بولاية البصرة والكوفة إلى ابن زياد، وبذلك فقد خضع العراق بأسره لحكمه، وكتب إليه مايلي: أمّا بعد: فقد كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام(18).

وبعث إليه برسالة اُخرى يطلب فيها الإسراع منه إلى الكوفة، وقد جاء فيها: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة..(19).

وحمل رسالة يزيد مسلم بن عمرو الباهلي إلى ابن زياد، وأخذ يجدّ في السير حتى انتهى إلى البصرة فسلّم الرسالة إلى ابن زياد، وقد طار فرحاً فقد تمّ له الحكم على جميع العراق بعدما كان مهدّداً بالعزل عن ولاية البصرة.
 
ابن زياد في الكوفة
 
 
وسار ابن زياد إلى الكوفة وقد قطع الطريق بسرعة خاطفة فكان يسير ليلاً ونهاراً مخافة أن يسبقه الحسين إليها، وقد صحب معه خمسمائة رجل من أهل البصرة كان فيهم شريك بن الأعـــــور الحارثي وهـــو من خلص أصـــحاب الإمام الحسين(20). وقد لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء ليوهم من رآه أنّه الحسين، ودخل الكوفة ممّا يلي النجف، وأسرع نحو قصر الإمارة وهو فزع مذعور مخافة أن يعرفه الناس، وساءه كأشدّ ما يكون الاستياء من تباشير الناس بقدومه ظانّين أنّه الحسين.

وانتهى ابن مرجانة إلى باب القصر فوجده مغلقاً، والنعمان بن بشير حاكم الكوفة قد أشرف من أعلى القصر، وقد توهّم أن القادم هو الحسين لأنّ أصوات الجماهير قد تعالت بالترحيب به والهتاف بحياته فانبرى مخاطباً له:

ما أنا بمؤدّ إليك أمانتي يا بن رسول الله، وما لي في قتالك من إرب.

ولمس ابن مرجانة الضعف والانهيار في كلام النعمان فصاح به:

افتح لا فتحت فقد طال ليلك.

ولمّا تكلّم عرفه الناس فصاحوا إنّه ابن مرجانة وربّ الكعبة، وجفل الناس وخافوا وهربوا مسرعين إلى دورهم. وبادر ابن زياد في ليلته فاستولى على المال والسلاح، وأنفق ليله ساهراً قد جمع حوله عملاء الحكم الاُموي وهم يحدّثونه عن الثورة، ويعرّفونه بأعضائها البارزين، ويضعون أمامه المخططات الرهيبة للقضاء عليها.

وقام ابن زياد في الصباح الباكر فأمر عملاءه بجمع الناس في المسجد الأعظم، فاجتمعت الجماهير الحاشدة وقد خيّم عليها الذعر والخوف، وخرج ابن زياد متقلداً سيفه ومعتماً بعمامة، فاعتلى المنبر وخطب الناس، وكان من جملة خطابه: أمّا بعد: فإنّ أمير المؤمنين يزيد - أصلحه الله - ولآّني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم، فإنا لمطيعكم كالوالد البارّ الشفيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليتّق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ عنك لا الوعيد..(21). وقام بنشر الإرهاب وإشاعة الخوف بين الناس، ويقول بعض المؤرخين: إنّه لمّا أصبح ابن زياد - بعد قدومه إلى الكوفة- صال وجال وأرعد وأبرق، وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في الساعة..(22).

وفي اليوم الثاني أمر بجمع الناس، وخرج إليهم بزيّ غير ما كان يخرج به، فخطب خطاباً عنيفاً تهدّد فيه وتوعد، وقال:

أمّا بعد: فإنّه لا يصلح هذا الأمر إلاّ في شدّة من غير عنف ولين من غير ضعف، وأن آخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، والولي بالولي..

فردّ عليه رجل من أهل الكوفة يقال له أسد بن عبد الله المري قائلاً:

أيّها الأمير، إن الله تبارك وتعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) إنّما المرء بجده، والفرس بشده، وعليك أن تقول علينا أن نسمع، فلا تقدم فينا السيّئة قبل الحسنة.

وأفحم ابن زياد فنزل عن المنبر ودخل قصر الإمارة(23).
 
مسلم في بيت هانئ
 
 
وبعدما كان مسلم في بيت المختار اضطر إلى تغيير مقرّه، فقد شعر بالخطر الذي داهمه بقدوم الطاغية ابن مرجانة، فهو يعلم أنّ هذا الوغد لا يتحرّج من اقتراف أي جريمة في سبيل الوصول إلى أهدافه.

والتجأ مسلم إلى دار الزعيم الكبير زعيم الكوفة هانئ بن عروة فهو سيّد مراد، وعنده من القوة ما يضمن حماية مسلم، فاتّخذ داره معقلاً للثورة ومركزاً للدعوة، وقد قابله هانئ بمزيد زائد من الحفاوة والتكريم، وأخذ الكوفيون يتوافدون على مسلم زرافات ووحداناً، وهم يلحّون عليه أن يكتب إلى الإمام الحسين(عليه السّلام) بالمجيء إليهم.
 
التجسّس على مسلم
 
 
وأوّل بادرة وأخطرها قام بها ابن زياد هي التجسّس على مسلم، ومعرفة نشاطاته السياسية، والوقوف على نقاط القوة والضعف عنده، وقد اختار للقيام بهذه المهمة معقلاً مولاه، وكان فطناً ذكياً، فأعطاه ثلاثة آلاف درهم وأمره أن يتّصل بالشيعة، ويعرّفهم أنّه من أهل الشام وأنّه من موالي ذي الكلاع الحميري، وإنّما أمره بالانتساب للموالي لأنّ الصبغة السائدة لهم هي الولاء لأهل البيت(عليهم السّلام)، وقال له: إذا التقيت بأحد من الشيعة فقل له: إنّه ممّن أنعم الله عليه بحبّ أهل البيت، وقد سمع أنّه قدم رجل منهم إلى الكوفة يدعو للإمام الحسين، وعنده مال يريد أن يلقاه ليوصله إليه حتى يستعين به على حرب عدوّه، ومضى معقل مهمّته، فدخل الجامع الأعظم، وجعل يسأل عمّن له معرفة بمسلم فأرشدوه إلى مسلم بن عوسجة، وهو من ألمع شخصيات الشيعة في الكوفة، فانبرى إليه يظهر الإخلاص والولاء لأهل البيت(عليهم السّلام) قائلاً:

إنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدلّني على صاحبك لاُبايعه، وإن شئت أخذت بيعتي قبل لقائي إيّاه.

وخدع مسلم بقوله، فقال له: لقد سرّني لقاؤك إيّاي لتنال الذي تنال والذي تحبّ، وينصر الله بك أهل نبيّه، وقد ساءني معرفة الناس إيّاي من قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته، ثمّ أخــــذ منه البيعـــة والمواثيق المغلظة على الـــنصيحة وكتمان الأمر(24).

وفي اليوم الثاني أدخله على مسلم فبايعه وأخذ منه المال وأعطاه إلى أبي ثمامة الصائدي، وكان موكّلاً بقبض المال ليشتري به السلاح والكلاع، وكان هذا الجاسوس الخطير معقل أوّل داخل على مسلم وآخر خارج منه، وقد أحاط بجميع أسرار الثورة ونقلها إلى ابن زياد، حتى وقف على جميع مخططات الثورة وأعضائها.
 
اعتقال هانئ
 
 
وعرف ابن زياد أنّ أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعيم الكبير، وفي بيته مسلم ابن عقيل، فأرسل وفداً خلفه كان منهم حسان بن أسماء بن خارجة زعيم فزارة، ومحمّد بن الأشعث زعيم كندة، وعمرو بن الحجاج وهو من زعماء مذحج، ولمّا التقوا به قالوا له:

ما يمنعك من لقاء الأمير فإنّه ذكرك وقال: لو علم أنّه شاك لعدته..

فاعتذر لهم، وقال: الشكوى تمنعني، فلم يقنعوا بذلك، وأخذوا يلحّون عليه في زيارته، فاستجاب لهم على كره وسار ومعهم، فلمّا كان قريباً من القصر أحسّت نفسه بالشرّ، فقال لحسان بن أسماء: يا بن الأخ، إنّي والله لخائف من هذا الرجل فما ترى؟ فقال له حسان: يا عمّ، والله ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلاً، وأخذ القوم يلحّون عليه بمقابلة ابن مرجانة، فاستجاب لهم، ولمّا مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، وقال له:

أتتك بخائن رجلاه.

وذعر هانئ فقال له: ما ذاك أيّها الأمير؟.

فصاح به الطاغية:

إيه يا هانئ ما هذه الأمور التي تتربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين، جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك، وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليَّ.

فأنكر هانئ وقال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

بلى، قد فعلت.

وطال النزاع واحتدم الجدال بينهما، فرأى ابن زياد أن يحسم النزاع فدعا الجاسوس معقلاً، فلمّا مثل أمامه قال لهانئ:

أتعرف هذا؟

نعم.

وأسقط ما في يدي هانئ، وأطرق برأسه إلى الأرض، ولكن سرعان ما سيطر على الموقف، فقال لابن مرجانة: قد كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي(25) تشخص لأهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم فإنّه جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك(26).

وثار ابن زياد فرفع صوته: والله لا تفارقني حتى تأتيني به - أي بمسلم-.

وسخر منه هانئ، وردّ عليه:

لا آتيك بضيفي أبداً.

وطال الجدال بين هانئ وبين ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلي وهو من خدام السلطة إلى ابن زياد طالباً منه أن يختلي بهانئ ليقنعه، فسمح له بذلك فاختلى به، وقال له: يا هانئ، اُنشدك الله أن لا تقتل نفسك، وتدخل البلاء على قومك، وإنّ هذا الرجل - يعني مسلماً- ابن عمّ القوم، وليسوا بقاتليه، ولا ضائريه، فادفعه إليه، فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان.

ولم يحفل هانئ بهذا المنطق الرخيص فهو على علم لا يخامره شكّ أنّ ابن زياد لو ظفر بمسلم لقطّعه إرباً، ومن الطبيعي أنّ ذلك يعود بالعار والخزي على هانئ، فكيف يسلّم وافد آل محمّد إلى هذا الإنسان الممسوخ، وقال هانئ:

بلى والله عليَّ في ذلك أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي وهو رسول ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنا حيّ صحيح الساعدين، كثير الأعوان، والله لو لم أكن إلاّ وحدي لمّا سلّمته أبداً.

وحفل كلام هانئ بمنطق الأحرار الذين وهبوا حياتهم للمُثل العليا والقيم الكريمة.. ولمّا يئس الباهلي من هانئ قال لابن زياد:

أيّها الأمير، قد أبى أن يسلّم مسلماً أو يقتل(27).

والتفت الطاغية إلى هانئ فصاح به:

أتأتيني به أو لأضربنّ عنقك.

فلم يعبأ به هانئ، وقال: إذن تكثر البارقة حولك(28).

فثار ابن مرجانة وقال:

والهفا عليك أبالبارقة تخوّفني.

وصاح بغلامه مهران وقال له: خذه، فأخذ بضفيرتي هانئ، وأخذ ابن زياد القضيب فاستعرض به وجهه، وضربه ضرباً قاسياً حتى كسر أنفه، ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى تحطّم القضيب، وسالت الدماء على ثيابه، وعمد هانئ إلى قائم سيف شرطي محاولاً اختطافه ليدافع به عن نفسه فمنعه منه، فصاح به ابن زياد:

احروري أحللت بنفسك، وحلّ لنا قتلك.

ثمّ أمر ابن زياد باعتقاله في أحد بيوت القصر(29)، وانتهى خبره إلى اُسرته من مذحج، وهي من أكثر قبائل الكوفة عدداً، إلّا أنّها لم تكن متماسكة، وقد شاعت الانتهازية في جميع أفرادها.

وعلى أي حال، فقد سارعت مذحج بقيادة العميل الخائن عمرو بن الحجاج وقد رفع عقيرته لتسمعه السلطة قائلاً:

أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة.

ولم يعن به ابن زياد ولا بقومه، فالتفت إلى شريح القاضي فقال له:

ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنّه حيّ.

وخرج شريح فدخل على هانئ فلمّا نظر إليه صاح مستجيراً:

يا للمسلمين، أهلكت عشيرتي، أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟

والتفت هانئ إلى شريح فقال له:

يا شريح، إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليّ عشرة أنفر أنقذوني.

ولم يحفل شريح بكلام هانئ، وإنّما مضى منفذاً لأمر سيّده ابن مرجانة فخاطب مذحج قائلاً:

قد نظرت إلى صاحبكم وإنّه حيّ لم يُقتل.

وبادر عمرو بن الحجّاج قائلاً:

إذاً لم يُقتل فالحمد لله(30).

وولّوا منهزمين كأنّما اُتيح لهم الخلاص من سجن، وقد صحبوا معهم الخزي والعار، وانطلقت الألسنة بذمّهم، وقد ذمّهم شاعر أخفى اسمه حذراً من بطش الاُمويّين ونقمتهم وقال:

إِلــــى بَـــــــطَلٍ قَدْ هَشَّمَ السَّيْفُ وَجْهَهُ          وَخَرُ يُهْوى مِـــنْ طَـــــمَارٍ قَـــتِيلِ(31)

أَصَــــــابَهُمَا فَــــــرْخُ الْبَغِيِّ فَـــأَصْبـَحَا          أَحَادِيثَ مَــــــنْ يَـــــسْرِيَ بِــــكُلِّ سَبِيلِ

تَـــــرى جَــــــــسَداً قَدْ غَيَّرَالْمَوْتُ لَوْنَهُ          وَنَضِــــــحُ دَمٍ قَــــــدْ سَــــالَ كُلُّ مَسِيلِ

فَـــــتىً كَــــــــــانَ أَحْيى مِنْ فـَتَاةٍ حَيِيَّةٍ          وَأَقْطَـــــع مِـــــــنْ ذِي شّفْرَتَيْنَ صَقِيلِ

أَيَـــرْكَبُ أَســــْمَاءُ الْهَــــــمَالِيجَ آمِــــناً          وَقـَدْ طَـــــلِبْتَهُ مِـــذْحِجُ بِـــــذُحُولِ(32)

تَــــــطُوفُ حَــــــوَالِيــــــهِ مُرَادٌ وَكُلُّهُم          عَلى رَقْبَـــــةٍ مِـــــــنْ سَــــائِلٍ وَمَسُولِ

فَــــإِنْ أَنْتُمْ لَــــــمْ تَــــــثَأرُوا بـــــِأَخِيكُم           فَكُونُوا بَغـــايِا أُرْضِــــيَتْ بِــقَلِيلِ(33)

فَـــإِنْ كُنْتِ لاَ تَدْرِينَ مَا الْمَوتُ فَانْظُرِي          إِلـــــى هَــــانِي فِي السُّوقِ وَابْنِ عَقِيلِ

لقد تنكّرت مذحج لزعيمها الكبير فلم تفِ له حقوقه ومعروفه الذي أسداه عليها، وتركته أسيراً بيد ابن مرجانة يمعن في إرهاقه والتنكيل به حتى أعدمه في وضح النهار بمرأى ومسمع منهم.
 
ثورة مسلم
 
 
ولمّا علم مسلم بما جرى على هانئ بادر لإعلان الثورة على ابن زياد، فأوعز إلى عبد الله بن حازم أن ينادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور، فاجتمع إليه أربعة آلاف(34)، وقيل: أربعون ألفاً(35)، وكانوا ينادون بشعار المسلمين يوم بدر: (يا منصور أمت)، وأسند القيادات العامة في جيشه إلى أحبّ الناس لأهل البيت(عليهم السّلام) وهم:

1 - عبد الله بن عزيز الكندي: جعله على ربع كندة.

2 - مسلم بن عوسجة: جعله على ربع مذحج.

3 - أبو ثمامة الصائدي: جعله على ربع قبائل بني تميم وهمدان.

4 - العباس بن جعدة الجدلي: جعله على ربع المدينة.

واتّجه مسلم بجيشه نحو قصر الإمارة فأحاطوا به(36).

وكان ابن مرجانة قد خرج من القصر ليخطب في الناس على أثر اعتقاله لهانئ، ولمّا دخل الجامع الأعظم قام خطيباً فقال:

أمّا بعد يا أهل الكوفة، فاعتصموا بطاعة الله ورسوله، وطاعة أئمّتكم ولا تختلفوا ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتندموا وتقهروا، فلا يجعلن أحد على نفسه سبيلاً وقد أعذر من أنذر.

وما أتمّ الطاغية خطابه حتى سمع الصيحة وأصوات الناس قد علت فسأل عن ذلك فقيل له: الحذر الحذر، هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه،واختطف الرعب لونه فأسرع الجبان يلهث كالكلب من شدّة الخوف فدخل القصر وأغلق عليه أبوابه(37).

وامتلأ المسجد والسوق من أصحاب مسلم، وضاقت الدنيا على ابن زياد، وأيقن بالهلاك؛ إذ لم تكن عنده قوة تحميه سوى ثلاثين رجلاً من الشرطة وعشرين رجلاً من الأشراف والوجوه الذين هم عملاء السلطة(38).
 
حرب الأعصاب
 
 
ولم يجد الطاغية وسيلة يلجأ إليها لإنقاذه سوى حرب الأعصاب، فأوعز إلى عملائه بإشاعة الخوف والرعب بين أصحاب مسلم، وانبرى للقيام بهذه المهمة من يلي من عملائه وهم:

1 - كثير بن شهاب الحارثي.

2 - القعقاع بن شور الذهلي.

3 - شبث بن ربعي التميمي.

4 - حجار بن أبجر.

5 - شمر بن ذي الجوشن الضبابي(39).

وأسرع هؤلاء العملاء إلى صفوف جيش مسلم فأخذوا ينشرون الخوف والأراجيف، ويظهرون لهم الحرص والولاء لهم، وكان ممّا قاله كثير بن شهاب:

أيّها الناس، إلحقوا بأهاليكم، ولا تعجّلوا بالشرّ، ولا تعرّضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين - يعني يزيد - قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير - يعني ابن زياد - العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلكم في مغازي أهل الشام من غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب، حتى لا تبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت ايديها..(40).

وكان هذا الكلام كالصاعقة على رؤوس أهل الكوفة، فقد سرت فيهم أوبئة الخوف وانهارت معنوياتهم، وجعل بعضهم يقول لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة وغداً تأتينا جموع أهل الشام ينبغي لنا أن نقيم في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم(41).

وكانت المرأة تأتي ابنها أو أخاها أو زوجها وهي مصفرّة الوجه من الخوف فتخذّله وتقول له: الناس يكفونك(42).

وقد نجح ابن زياد في هذه الخطّة إلى حدّ بعيد.
 
هزيمة جيش مسلم
 
 
ومُني جيش مسلم بهزيمة ساحقة بعد حرب الأعصاب والدعايات المضلّلة، لقد انهزم جيشه من دون أن يكون قباله أيّة قوة عسكرية، ويقول المؤرخون: إنّ مسلماً كلّما انتهى إلى زقاق انهزم جماعة من أصحابه، وهم يقولون: (ما لنا والدخول بين السلاطين..)(43).

ولم يمض قليل من الوقت حتى انهزم معظمهم يصحبون الخزي والعار، وصلّى ابن عقيل صلاة العشاء في الجامع الأعظم، فكان من بقي من جيشه يفرّون في أثناء الصلاة، وما أنهى مسلم صلاة العشاء حتى انهزموا جميعاً قادةّ وجنوداً، ولم يبق منهم أحد يدلّه على الطريق، وبقي حيراناً لا يدري إلى أين مسراه ومولجه، فقد أمسى طريداً مشرّداً لا مأوى يأوي إليه، ولا قلب يعطف عليه.
 
في ضيافة طوعة
 
 
وسار مسلم في أزقة الكوفة وشوارعها، ومضي هائماً على وجهه في جهة كندة يلتمس داراً ليبقى فيها بقية الليل، وقد خلت المدينة من المارة، فقد أسرع جنده إلى دورهم، وأغلقوا عليهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن وعيون ابن زياد فتخبر السلطة بأنّه كان مع ابن عقيل فتلقي عليه القبض.

وسار مسلم وهو خائر القوى قد أحاطت به تيارات مذهلة من الهموم والأفكار، وقد انتهى في مسيرته إلى باب سيّده يقال لها (طوعة) وهي سيدة مَن في المصر رجالاً ونساءً وذلك بما تملكه من شرف ونبل، وكانت اُم ولد للأشعث بن قيس أعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له ولداً يقال له بلال، وكانت طوعة تنتظره خوفاً عليه من الأحداث الرهيبة، ولمّا رآها مسلم بادر إليها فسلّم عليها فردّت عليه السلام، وقالت له: ما حاجتك؟

(اسقني ماءً..).

فبادرت المرأة إلى دارها وجاءته بالماء فشرب منه، ثمّ جلس، فارتابت منه، وقالت له:

ألم تشرب الماء؟

(بلى).

اذهب إلى أهلك إنّ مجلسك مجلس ريبة..(44).

وسكت مسلم فأعادت عليه القول وهو ساكت فلم يجبها، فذعرت منه وقالت له:

سبحان الله: إنّي لا اُحلّ لك الجلوس على باب داري.

ولمّا حرّمت عليه الجلوس لم يجد بُدّاً من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزين النبرات:

(ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة، فهل لك في أجر ومعروف، ولعلّي مكافئك بعد هذا اليوم..).

وشعرت المرأة بأنّ الرجل غريب وأنّه على شأن كبير يستطيع أن يجازيها على معروفها وإحسانها فقالت له: وما ذاك؟

(أنا مسلم بن عقيل كذّبني القوم وغرّوني..).

فدهشت المرأة وقالت له: أنت مسلم!!

(نعم..)(45).

وانبرت السيّدة بكل خضوع وتقدير فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى دارها وقد حازت الشرف والفخر، وعرضت عليه الطعام فأبى أن يأكل، فقد مزّق الأسى قلبه، وتمثّلت أمامه الأحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أهمّ ما شغل فكره كتابه إلى الإمام الحسين بالقدوم إلى الكوفة.

ولم يمض قليل من الوقت حتى جاء بلال ابن السيّدة طوعة فرأى اُمّه تكثر الدخول والخروج إلى البيت الذي فيه مسلم فاستراب من ذلك، فسألها عنه فلم تجبه، فألحّ عليها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الأمر، وطارت نفس الخبيث فرحاً وسروراً، وقد أنفق ليله ساهراً يترقّب طلوع الشمس ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، وقد تنكر هذا الوغد الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته من كل سوء، ولكن هذا القزم على غرار أهل الكوفة الذين طلّقوا المعروف ثلاثاً، راح مسرعاً وقد ملك الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، وكان بحالة من الارتباك تلفت النظر، فلمّا دخل القصر بادر عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث، وهو من أخبث اُسرة عرفها التأريخ، فأعلمه بمكان مسلم، فأمره بالسكوت لئلا يفشى بالخبر فينقله غيره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته، وأسرع عبد الرحمن إلى أبيه محمّد بن الأشعث فأخبره بالأمر، وفطن ابن زياد إلى خطورة الأمر فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لك عبد الرحمن؟

أصلح الله الأمير البشارة العظمى.

ما ذاك مثلك من بشّر بخير.

إن ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة.

وفرح ابن مرجانة وتمّت بوارق آماله وأحلامه، فراح يمدّ ابن الأشعث بالمال والجاه قائلاً:

قم فآتني به، ولك ما أردت من الجائزة والحظ الأوفى.

لقد تمكّن ابن مرجانة سليل البغايا والأدعياء من الظفر بفخر هاشم ومجد عدنان ليجعله قرباناً إلى اُمويّته اللصيقة.
 
الهجوم على مسلم
 
 
وندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن حريث المخزومي صاحب شرطته ومحمّد بن الأشعث، وضمّ إليهما ثلثماته رجل من صناديد الكوفة وفرسانها، وأقبلت تلك الوحوش الكاسرة مسرعة لحرب القائد العظيم الذي أراد أن يحرّرهم من الذلّ والعبودية ويقيم فيهم عدالة الإسلام وحكم القرآن.

ولمّا سمع مسلم حوافر الخيل وزعقات الرجال علم أنّه قد اُتي إليه، فبادر إلى فرسه فأسرجه وألجمه وصبّ عليه درعه وتقلّد سيفه، وشكر السيّدة طوعة على حسن ضيافتها ورعايتها له.

واقتحم الجيش عليه الدار فشدّ عليهم يضربهم بسيفه ففرّوا منهزمين، ثم عادوا عليه فأخرجهم منها، وانطلق نحوهم في السكة شاهراً سيفه لم يختلج في قلبه خوف ولا رعب، وقد أبدى من البطولات النادرة ما لم يشاهد مثله في جميع فترات التأريخ، وقد قتل منهم واحداً وأربعين رجلاً(46)، وكان من قوّته النادرة أن يأخذ الرجل بيده ويرمي به من فوق البيت(47) وليس في تأريخ الإنسانية مثل هذه البطولة، ولا مثل هذه القوة الخارقة.

وجعل أنذال أهل الكوفة يصعدون فوق بيوتهم ويرمونه بالحجارة وقذائف النار(48).

وفشلت جيوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظيم، فقد أشاع فيهم القتل، وطلب محمّد بن الأشعث من سيّده ابن مرجانة أن يمدّه بالخيل والرجال فلامه الطاغية، وقال:

سبحان الله!! بعثناك إلى رجل واحد تأتينا به، فثلم في أصحابك هذه الثلمة العظيمة(49).

وثقل ذلك على ابن الأشعث، وقال لابن مرجانة:

أتظنّ أنّك أرسلتني إلى بقّال من بقّالي الكوفة، أو إلى جرمقاني من جرامقة الحيرة(50) وإنّما بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام..)(51).

وأمده ابن مرجانة بقوى مكثّفة فجعل البطل العظيم يحصد رؤوسهم بسيفه، وهو يرتجز:

أقـــــسمت أن لا أُقــــــتـل إلاّ حــرّاً          وإن رأيـــــت المــــــوت شيئاً نكرا

أو يـــــخلط البـــــارد ســـــخناً مرّاً          ردّ شعــــــاع الشـــــــمس فاستقرا

كـــــل امـــــرئ يــــوماً يلاقي شرّاً          أخـــــاف أن أكـذب أو أغـــــرا(52)

ولمّا سمع الخائن العميل محمّد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلاً:

إنّك لا تكذب ولا تخدع، إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولا ضاريك.

فلم يحفل به مسلم، ومضى يقاتلهم أعنف القتال وأشده، ففروا منهزمين لايلوون على شيء، واعتلوا فوق منازلهم يرمونه بالحجارة، فأنكر عليهم مسلم قائلاً:

(ويلكم ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى الكفار، وأنا من أهل بيت الأبرار، ويلكم أما ترعون حقّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وذريته..).

وضاق بابن الأشعث أمر مسلم فصاح بالجيش ذروه حتى اُكلّمه فدنا منه، وقال له:

يابن عقيل، لا تقتل نفسك أنت آمن، ودمك في عنقي.

ولم يعن به مسلم، فقد عرفه وعرف قومه أنّهم لا وفاء ولا دين لهم، وأجابه:

(يا بن الأشعث لا اُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال، والله لا كان ذلك أبداً).

وحمل مسلم على ابن الأشعث فولّى منهزماً يطارده الرعب والخوف، واشتدّ العطش بمسلم فجعل يقول: (اللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي..).

وتكاثرت عليه الجموع فصاح بهم ابن الأشعث: إنّ هذا هو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع، احملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة، فحملوا عليه ضرباً بأسيافهم وطعناً برماحهم وضربه الوغد الأثيم بكر بن حمران ضربة منكرة على شفته العليا وأسرع السيف إلى الأسفل، وضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.
 
أسره
 
 
وبعدما أثخن مسلم بالجراح وأعياه نزف الدم، انهارت قواه وضعف عن المقاومة، فوقع أسيراً بأيدي اُولئك الفجرة الكفار، وانتزعوا منه سيفه، وحملوه أسيراً إلى ابن مرجانة، وكان من أعظم ما رزئ به مسلم أن يدخل أسيراً على أقذر إرهابي عرفه التأريخ، ولمّا دخل لم يسلّم عليه بالإمرة، وإنّما سلّم على الجميع، فأنكر عليه بعض خدّام السلطة ذلك، فأجابه أنّه ليس لي بأمير، فتميّز ابن مرجانة غيظاً وغضباً، وقال له: سلّمت أو لم تسلّم فإنّك مقتول، فردّ عليه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، وجرت مناورات كلامية بينهما، وكانت أجوبة مسلم كالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبّه وسبّ العترة الطاهرة والافتراء عليهم، ثمّ أمر أن يُصعد به من أعلى القصر وينفّذ فيه حكم الإعدام، وقد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، وكان يسبّح الله ويستغفره وأشرف به الجلاّد على موضع الحذائيّين فضرب عنقه، ورمى برأسه وجسده إلى الأرض، وانتهت بذلك حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله، واستشهد دفاعاً عن الحقّ ودفاعاّ عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ثم أمر الطاغية السفاك بإعدام الزعيم الكبير هانئ بن عروة، فأخرج من السجن في وضح النهار، وجعل يستنجد باُسرته وكانوا بمرأى ومسمع منه فلم يستجب له أحد منهم، وضربه الجلاّد بالسيف فلم يصنع به شيئاً، فرفع هانئ صوته قائلاً:

اللّهمّ إلى رحمتك ورضوانك، اللّهمّ اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي، فإنّي إنّما تعصّبت لابن بنت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله)، وضربه الجلاّد ضربة اُخرى فهوى إلى الأرض، وجعل يتخبّط بدمه الزاكي، ولم يلبث قليلاً حتى فارق الحياة وقد مضى شهيداً دون مبادئه وعقيدته.

وعهد الطاغية الجلاّد إلى زبانيته بسحل جثة مسلم وهانئ في الشوارع والأسواق، فعمدوا إلى شدّ أرجلهما بالحبال وأخذوا يسحلونهما في الطرق(53) وذلك لنشر الخوف والإرهاب، وليكونا عبرةً لكل من تحدّثه نفسه بالخروج على حكم يزيد.

ثم قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجميع العناصر الموالية لأهل البيت، كما أعدم جماعة منهم، وذكرنا تفصيل ذلك في كتابنا (حياة الإمام الحسين عليه السّلام).

لقد سمعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) السيّدة زينب (عليها السّلام) هذه المآسي المروّعة التي جرت على ابن عمّها مسلم، فكوت قلبها وأضافتها إلى همومها ومصائبها، وأيقنت أنّ شقيقها وبقية أهلها سيواجهون المصير الذي واجهه ابن عمّها.


__________________________________
 
 
1 - القصص:21.

2 - خطط المقريزي 285:2.

3 - تاريخ الطبري 190:6.

4 - تاريخ ابن عساكر 68:13.

5 ـ انظر تذكرة الخواص: 248.

6 - العقيدة والشريعة في الإسلام: 69.

7 - مقاتل الطالبيّين: 95.

8 - أنساب الأشراف: 157.

9 - الجمام: الآبار.

10 - أنساب الأشراف: 158-159.

11 - الأخبار الطوال: 210.

12 - الحدائق الوردية 125:1، (مخطوط).

13 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 347:2.

14 - وفي رواية البلاذري أنّ جميع أهل الكوفة معه.

15 - تاريخ الطبري 224:6.

16 - تاريخ ابن الأثير 268:3.

17 - البداية والنهاية: 152:8.

18 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 354:2.

19 - سير أعلام النبلاء 201:3.

20 - تاريخ الطبري 199:6.

21 - مقاتل الطالبيّين: 97.

22 - الفصول المهمّة: 197.

23 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 160:2.

23 - تاريخ ابن الأثير 269:3.

25 - تاريخ ابن الأثير 271:3.

26 - مروج الذهب 7:3.

27 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 375:2.

28 - البارقة: السيوف.

29 - تاريخ ابن الأثير 271:3.

30 - تاريخ ابن الأثير 271:3.

31 - الطمار: اسم لغرفة شيّدت فوق قصر الإمارة وفي أعلاها قتل مسلم.

32 - الهماليج: جمع هملاج، نوع من البرذون.

33 - مروج الذهب 70:2، والشاعر مجهول.

34 - تاريخ ابن الأثير 271:1.

35 - تهذيب التهذيب 351:2.

36 - تاريخ ابن الأثير 271:3.

37 - البداية والنهاية 154:8.

38 - تاريخ ابن الأثير 271:3.

39 - المصدر السابق 272:3.

40 - تاريخ الطبري 208:6.

41 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 384:2.

42 - تاريخ أبي الفداء 300:1.

43 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 385:2.

44 - تهذيب التهذيب 151:1.

45 - تاريخ أبن الأثير 272:3.

46 - الدرّ النضيد: 164.

47 - المحاسن والمساوئ-البيهقي 43:1.

48 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 394:2.

49 - الفتوح 5: 63.

50 - الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.

51 - الفتوح 5: 93.

52 - حياة الإمام الحسين(عليه السّلام) 2:395، نقلاً عن الطبري: 63، الفتوح 94:1-95.

53 - أنساب الأشراف 155:1، القسم الأوّل.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page