• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الشك واليقين عند الإمام الصادق (عليه السلام)

الشك واليقين عند الإمام الصادق (عليه السلام)

منذ أن عني فلاسفة الإغريق في أقدم العصور بمسائل الفلسفة، وإلى يومنا هذا، وهناك قضية شاغلة لاهتمام الفلاسفة والمفكرين هي قضية الشك واليقين وماهيتها، وهل ثمة أمل في أن يرتقي الإنسان إلى مرتبة تنفي منه الشك، وهل الفرق بين الشك واليقين هو مجرد خلاف ظاهري؟
يقول الإمام جعفر الصدق (عليه السلام) وقوله صحيح، أن الشك مصدره الجهل، فإن كنا على يقين من نتيجة معادلة رياضية ما، لم يخامرنا الشك من حولها، أما إن افتقرنا إلى هذا اليقين بالنسبة لقاعدة في علم النفس مثلا، لم يكن هناك من مفر من الشك فيها، فمسائل النفس شئ، والقواعد الرياضية مثل 2×2=4 شئ آخر. فالأولى تفتح الباب أمام الاستثناءات والحالات الشاذة والقوانين غير الثابتة فيرتاب المرء في نتائجها، أما الثانية فلا خلاف عليها ولا هي تحتمل شكا، ومعروف أن الأفراد يتباينون ويختلفون، ويستقل كل منهم بصفات وخصائص خلقية ونفسية تغاير ما لدى الغير منها، فيؤدي هذا الوضع إلى استحالة التوصل إلى قواعد نفسية عامة تنطبق على الناس جميعا مهما اختلفت مشاربهم وأمزجتهم ونشأتهم وصفاتهم.
والمتأمل لأوضاع الجنس البشري، يرى أن الناس من حيث اللون والعنصر والأصل والمنبت والقومية، وتختلف إلى جانب ذلك من حيث الاتجاهات الفكرية والسياسية والخصائص النفسية، فإن تحقق الوفاق والوئام في المجتمع ما بين جميع أفراده برغم اختلافهم، فما ذلك إلا لأن أفراد المجتمع، ولا سيما الضعاف منهم، قد أحسوا بضرورة التكيف في سلوكهم وتصرفاتهم مع السلطة القائمة التي تملك القدرة على الوفاء بمطالب هؤلاء والمحافظة على حقوقهم.
ولو نظرنا إلى الأسرة الواحدة باعتبارها وحدة المجتمع، لوجدناها تفتقر إلى التطابق التام في الآراء والسلوك بين أفرادها، وهم أقرب الأقرباء، لأن لكل من الأب والابن، والأم والبنت، والزوج والزوجة شخصيته الخاصة التي تستقل بميولها وآرائها ومزاجها وما إلى ذلك.
وقد سب لنا أن أشرنا إلى العالم النفسي الفرنسي (هنري برجسون) الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، واكتسب شهرة عالمية بسبب تجاربه العلمية، وفي رأي هذا العالم أن نظريات علم النفس تصدق على القبائل التي تعيش على الفطرة والبداوة أو التي في طريقها إلى التمدن، أكثر من انطباقها على غيرها من الأقوام.
يقول برجسون إن تفكير أفراد القبيلة البدائية في أي موضوع يتشابه بل يتطابق، لأن معلوماتها محدودة وحاجاتها محدودة أيضا. ومتى ارتقى الإنسان واتسعت دائرة ثقافته ومعلوماته، اتسعت أيضا دائرة احتياجاته ومطالبه.
وقواعد علم النفس الموضوعة على أساس المقومات النفسية لقبيلة بدائية يمكن باطمئنان تطبيقها على كل فرد من أفراد هذه القبيلة، ولكن هذه القواعد لا تصلح لأفراد القبائل الأخرى.
ومع ذلك، فلا سبيل إلى إنكار القواعد العامة لعلم النفس، ولا إلى القول بانطباق هذه القواعد انطباقا عاما على كل حالة وفي كل موقف.
واليقين عند الإمام الصادق (عليه السلام) هو علم ما لا يتطرق إليه الشك أو الريبة، وهو أصل من أصول الدين الإسلامي لأن مصدره هو الله جل وعلا. يقول الإمام (عليه السلام) إن الله واحد، وهو خالق كل شئ، وهو مدبر العالم ومسيره وفقا لإرادته. ومن ينكر وجود الله، برهن على جهله المركب، وكان كالأصم الأبكم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يستطيع استخدام قدراته الفكرية للوصول إلى معرفة الله، ولا هو بقادر على أن ينتفع بتجارب الغير في معرفة الخالق، وحياته لا تخرج عن حدود الأكل والشرب والنوم وإشباع الغرائز دون التطلع إلى أي هدف سام وهؤلاء لا يسعون لفهم شئ، وينطبق عليهم حكم القرآن الكريم (إن هم إلا كالأنعام، بل هم أضل سبيلا)(1).
فقد خلق الله الكائنات الحية ومنها الإنسان وخص كلا منهما بما يختلف فيه عن سواه، وهيأ له أسباب البقاء والتناسل إبقاء عليه من الانقراض، وخلق بعلمه وقدرته حيوانات تطيق الحر الشديد في البراري والصحاري، وأخرى تتحمل البرد القارص مهما اشتد، ومن الحيوانات ما ينام بقدرة الله وحكمته طوال أشهر الصيف في المناطق المتجمدة دون أن يحس جوعا أو عطشا ودون أن يتأثر وزنها أو صحتها بهذا البيات، والغريب في أمر هذه الحيوانات أن قلبها ينبض عادة خمسة آلاف مرة في الساعة، ولكنه ينبض في فترة البيات التي تمتد إلى ستة أشهر أو سبعة ستين أو سبعين نبضة في الساعة، نراه ينخفض عدد أنفاسه في فترة البيات الشتوي إلى 25مرة في الساعة.
فإن أنت دنوت من هذه الحيوانات في نومها ولمست أجسامها، لوجدتها باردة كالثلج، في حين أن الحياة سارية فيها، وأنها لن تلبث أن تستيقظ من بياتها عند مجيء الربيع.
أما الإنسان، فلو هبطت درجة حرارته إلى نصف درجة الجرارة الطبيعية لأدركه الموت، ولكن من حكم الله في خلقه أنه يبقي الحيوانات على قيد الحياة ستة أشهر أو سبع وأجسامها باردة في فترة البيات(2).
ولكن الجاهل الذي عميت بصيرته وبصره لا يرى هذه الآيات الماثلة أمامه من صنع ربه.
وكما خلق الله حيوانات تعيش في الأجواء الباردة، خلق حيوانات أخرى تعيش في الأجواء الحارة كالجمل مثلا الذي يقطع الصحراء والفيافي آكلا العشب اليابس والشوك، متحملا العطش وقلة الماء، ويحمل راكبه ليلا ونهارا إلى أن يقع على مورد ماء، وهناك من الأنعام ما لو أكل العشب الجاف لاحتاج إلى شرب كميات كبيرة من الماء، وإن لم تجد الماء لهلكت.
هذه هي قدرة الله الذي منح الجمل طبيعة تجعله يتحمل الحر والعطش في جو لا يطيقه لا إنسان ولا غيره من الحيوانات.
ولو ضل الإنسان في طريقه في الصحراء وترك لناقته اللجام، لقادته إلى نقطة الماء، لأن الناقة تحس برطوبة الماء من مسافات بعيدة، وتهتدي إليه بهذه الحاسة الرهيفة التي هي من تدبير الله لكي يكفل ل (سفينة الصحراء) العيش في القفار. وفي استطاعة الجمل ادخار الماء ثلاثة أيام وأكثر، وخاصة إذا أدرك أنه سيجتاز الصحراء المقفرة.
فالإمام الصادق (عليه السلام) كان على حق عندما قال إن وجود الله لا ينكره إلا من كان ذا جهل مركب. أما من تسلح بسلاح العقل والفهم، ولو في حدود معينة، فلا يشك في وجود الله.
وللإمام (عليه السلام) نظرية حول العالم ونظامه لا تختلف عن نظريات علماء الفيزياء في هذا العصر، مع أنه قال بها قبل اثني عشر قرنا ونصف قرن.
يقول الصادق (عليه السلام) في عرض نظريته إنك إذا شاهدت حوادث طارئة كالطوفان والسيل والزلازل وما إلى ذلك من الظواهر الطبيعية في العالم، فاعرف أنها ليست دليلا على أن العالم فقد نظامه، لأن هذه الحوادث تتبع قواعد ثابتة، ولا تقع حادثة صغيرة أو كبيرة إلا وهي في حساب عند الله.
وعلماء اليوم الذين يخضعون للقواعد الرياضية والفيزيائية دون سواها من الغيبيات، يقولون بهذه النظرية عينها. أفلا يستحق الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) إكبارا لعلمه وفضله، وهو قد نادى بهذه النظرية قبل اثني عشر قرنا ونصف قرن؟
فالزلازل والطوفانات وهياج البراكين وما إليها هي في رأي علماء الفيزياء والجيولوجيا ظواهر تخضع لوانين الكون، ومن يعتبر الزلازل حادثا غير عادي يجهل قوانين الجيولوجيا التي تحدد أسباب حدوث الزلازل.
وقبل وقوف العلماء على القوانين الفيزيائية والجيولوجية التي تتحكم في الظواهر الطبيعية، كان الاعتقاد السائد طوال آلاف من السنين أن التغيير المفاجئ في الجو أو وقوع هذه الظواهر دليل على أن خللا قد أصاب نظام الكون، إذ ليس من المعقول مثلا أن تهبط درجة الحرارة في الصيف بصورة مفاجئة أم أن ترتفع في الشتاء بغتة.
أما اليوم، فقد أصبح في وسع العلماء أن يتغلبوا على عامل المفاجأة في الظواهر الطبيعية، لقدرتهم على التكهن بالأحوال الجوية قبل أسابيع وشهور.
ولا تختلف الزلازل في طبيعتها عن سائر التغييرات الجوية المفاجئة، ولو عرف الإنسان القانون الذي يحكم حدوث الزلازل، عليه التكهن بوقوعها زمانا ومكانا.
وكان الصادق (عليه السلام) يقول لتلاميذه إن الذي يراه الناس ويحسبون أنه دليل على خلل في نظام الكون، إنما يخضع لقوانين ثابتة لا تقبل التغيير.
ويؤكد جميع الفلاسفة أن للكون قواعد وأوضاعا لا تقبل التغيير، وأن ما يحسبه الإنسان تغييرا أدى إلى زلزال أو طوفان هو ناموس طبيعي من وضع الله، فالله قد خلق الكون بجميع أوضاعه ونظمه وحركاته وحوادثه، ووضع نواميس ضابطة لذلك، فكل حركات الكون خاضعة لهذه النواميس التي هي في سابق علم الله.
ويقول هؤلاء الفلاسفة إن التغييرات التي تطرأ على القوانين البشرية ناتجة عن جهل الإنسان وضعفه، وما دام الإنسان عاجزا عن التكهن بما ستكون عليه أوضاعه الاجتماعية أو الفردية، فهو يضع القانون ليومه، ويغيره متى قضت مصلحته بذلك.
ولئن كان الله قد وضع للكون في لحظة واحدة، فهي بفضل علم الله وقدرته قوانين أبدية سرمدية، وهذا ينطبق أيضا على القوانين التي أتى بها الأنبياء والمرسلون من عند الله بوحي من الله من عنده تعالى.
وجميع الفلاسفة، من كانوا يؤمنون بالله منهم ومن كانوا ماديين، يقولون بثبات القوانين التي تتحكم في الكون وعدم قابليتها للتغيير.
فهناك الفيلسوف الملحد (مترلينك) الذي يؤكد بدوره ثبات هذه القوانين، فيقول: لو انهدم العالم فجأة، وسقطت الشمس والنجوم وآلاف المجرات والنيازك والمجموعات الضوئية وغيرها، فهذا الخراب ليس حادثا مفاجئا أو غير متوقع، وإنما قد حدث طبقا لنظام كوني معين، ومن وقف على هذا القانون استطاع أن يحدد زمان وقوع هذا الخراب.
والوحيد بين المفكرين في القديم الذي تنبه إلى ثبات قواعد الكون ونظمه هو الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، بل إن الاعتقاد السائد عند القدامى هو أنكل قاعدة في الكون قابلة للتغيير، وأرسطو نفسه اعتبر الاعتقاد بتغيير الكون ونظمه وقواعده جزءا من أساس تفكيره الفلسفي، مما أكسب هذا الاعتقاد تقبلا وشيوعا باعتباره أمرا لا يقبل المناقشة أو الجدل.
يقول أرسطو إن العالم مركب من جزأين، هما المادة والصورة، وهما غير قابلتين للتجزئة أو الحل، ولا بد لكي تنطبق الصورة مع المادة من وجود حركة وتغيير، ولولا الحركة لما اتخذت المادة شكلها الحقيقي، فالحركة تلازم التغيير وتستلزمه، والتغيير يلازم قوانين الكون.
وظلت هذه النظرية إلى النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي أساسا من أسس التفكير الفلسفي الأرسطي، ولم يحاول أحد من الفلاسفة التشكيك فيها، إلى أن جاء الفيلسوف ديكارت (1650م) فأقام الدلائل على بطلان جوانب منها.
كان أرسطو تلميذا لأفلاطون، ولكننا لا نعرف على وجه اليقين آراء أستاذه أفلاطون في إمكان تغيير قوانين الكون، والمعروف أن أفلاطون بث آراءه على هيئة محاورات بقيت للأجيال المتعاقبة، ولكننا لم نعثر فيها على شئ عن إمكان تغير قوانين الكون، وهذا طبعا لا يقلل من أهمية آرائه وسيظل هو على الدوام من أعظم مفكري العالم القديم، وسيظل أسلبه الخطابي الفني الرائع مستأثرا بإعجاب الدارسين جيلاً بعد جيل.
وإلى عصر ديكارت، كان الفلاسفة يعتقدون أن قوانين الكون غير ثابتة وأنها عرضة للتغيير.
ومنذ مطلع القرن الثامن عشر الميلادي، وعلماء الفيزياء والفلك عاكفون على اكتشاف كل مجهول من أمر هذا الكون، وقد برز في طليعة العلماء والباحثين في هذه الفترة (كوبرنيكوس) و(كبلر) و(غاليلو) و(نيوتن). وباتساع نطاق الحركة العلمية وأبحاث هؤلاء العلماء، أدرك الجميع أن الكون أكبر بكثير مما يتوهمه القدماء في القرون السابقة.
وفي القرن التاسع عشر، اكتشفت مجرات أخرى خارجة عن نطاق المنظومات والكتل الضوئية في عالمنا هذا، وتبين أن كلا من هذه المجرات يحتوي على منظومات شمسية أخرى. ورصد العلماء حركات الشهب والنجوم، واعترفوا بأن العالم يخضع لنظام علمي دقيق لا تتأثر حركته بانفجار يقع في شمس، أو شهاب يسقط من أطراف هذا الكون العظيم، أي أن حدوث انفجار أو تلاش في بعض الشموس إنما يخضع بدوره لقوانين الكون الثابتة، ولا يؤدي بالتالي إلى إحداث اضطراب أو خلل في حركة المنظومات الكونية الأخرى.
واعتباراً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر وإلى النصف الأول من القرن العشرين، أفضت البحوث العلمية المتصلة إلى اهتداء الإنسان إلى العالم الأصغر وهو عالم الذرة فعرف إن هناك قوانين أخرى ثابتة تخضع لها الذرة، وهي قوانين لا تتعطل ولا تتوقف ولو للحظة واحدة، ففي الذرة نواة، ولها إلكترون يدور حول فلكها ثلاثة كاتربليون مرة كل ثانية(3)، ولا يحول حادث أو طارئ دون استمرار هذه الحركة.
ففي ذرة الحديد مثلا، يدور الإلكترون ثلاثة كاتربليون مرة في كل ثانية حول نواتها المركزية، وإذا وضع الحديد في بوتقة حامية لصهره، لم تتوقف حركة الإلكترون في الدوران حول نواة الذرة حتى ولو ارتفعت درجة الحرارة إلى درجة يتحول معها الحديد إلى غاز سائل. والسبيل الوحيد للحيلولة دون دوران الإلكترون حول نواة الذرة هو السعي لتفجير نواة الذرة وطرد الإلكترون منها، فيبحث عن نواة مركزية أخرى يدور في فلكها.
والقانون الذي ينظم دوران الإلكترون حول الذرة هو نفس القانون الذي يجعل الأرض تدور حول الشمس، حول المجموعة التي تعرف علميا باسم (الجاثي على ركبتيه)(4)، والتي تدور بدورها حول المجرة، وتدور المجرة حول مركز آخر غبر معروف لنا، ولكن حركتها مؤكدة، وإن كان عمر الشمس كله لا يكفي لحساب حركة هذه الأجرام والمدة التي تستغرقها مجموعة (الجاثي على ركبتيه) في الدوران حول المجرة.
وفي هذا يقال إنه ليست هناك أدلة على وجود الله أقوى من الأدلة المستمدة من علم الفلك بكل أرقامه اللانهائية وقواه اللامحدودة، ومن شأن إدراك القوانين الحقيقية الثابتة أن يتحدث العلماء بقدرة الخالق وعظمة وجوده وصنيعه.
ولا يسع المرء إلا أن يدهش لما يقوله العلماء تخمينا من أن عمر الأرض هو خمسة مليارات من السنين، ومع ذلك فالمدة التي يقدرها العلماء لدوران المجرة حول مركزها مرة واحدة هي25 ألف مليار سنة.
بل أين هذه الأرقام من الذين يقولون إن عمر العالم عشرة آلاف سنة، وإن عمر الإنسان على الأرض ستة آلاف سنة؟ لا ريب في أن الحقيقة التي تتضح من طول المدة التي تستغرقها المجرة في الدوران حول مركزها هي أن عمر المنظومة الشمسية والكرة الأرضية أكبر بكثير مما كان العلماء يتصورونه حتى مطلع هذا القرن ذلك لأن التفكير الذي كان سائدا إلى مطلع القرن العشرين هو أن المجرات المتناثرة في الفضاء هي أجرام ثابتة لا تتحرك، في حين أنه قد ثبت من الناحية العلمية أنها تتحرك وتدور، وأن لها حركة وضعية كذلك (الحركة الانتقالية مع الحركة الوضعية).
والرقم الذي ذكر لدوران المجرة حول مركزها هو رقم افتراضي لا علمي، ولا بد لاحتساب مدة دوران المجرة حول مركزها من معرفة مسيرة المجرة وحدود الدائرة التي تدور حولها.
ولقياس مدى هذه الدائرة، لا بد من معرفة طول قوس الدائرة لإمكان الاستعانة بالقواعد الهندسية في استخراج محيط الدائرة، ولو عاش المرء خمسمائة مليون سنة أخرى لعجز عن أن يحدد مدى امتداد القوس الواحد من أقواس محيط الدائرة التي تدور حولها المجرة، ليستطيع بعد ذلك احتساب الدائرة كلها.
وحتى الآن لم تستطع الأجهزة الحديثة للرصد تعيين عدد المجموعات الضوئية ومجرات الكون، ولكن يقال بالتخمين إن عددها مائة مجرة، وهو رقم لا يثق فيه أحد من علماء الفلك.
والسبب الرئيسي في إيراد أرقام غير مؤكدة هو ضعف أجهزة الرصد الكهرضوئية المستخدمة في رصد جميع السيارات والمجرات في الكون، فإن أعظم أجهزة التلسكوب الموجودة في العالم لا تستطيع رصد الأجرام السماوية إلى مسافة 9 ملايين سنة ضوئية، ولكن أغلب الظن أن يتمكن الإنسان من رصدها هي وأجرام ومجرات مجهولة أخرى إذا ما وفق لصنع جهاز للرصد أقوى منه وأدق مئات المرات.
والسبب الآخر هو أن المجرات التي اكتشفها الإنسان حتى الآن إنما تقف في طريق المجرات الواقعة وراءها، فتحول دون رؤيتها ورصدها.
ومنذ أن اكتشف الإنسان مضاد المادة ظهرت نظرية تقول بوجود كون آخر له من السعة مثل كوننا هذا، أو لعله أوسع منه، وهو كون لا يحس الإنسان بوجوده وقد ذهب القدماء كذلك إلى أن لكل إنسان توأما ولكنه لا يراه.
وعالم مضاد المادة عالم لاشك في وجوده، ولكن الإنسان عاجز حتى الآن عن رصده ومشاهدته بالاستعانة بالأجهزة المتاحة، وما دام الإنسان عاجزا عن رؤية هذا العالم، فهو بالتالي عاجز عن توضيح صورته واستخلاص القوانين الفيزيائية أو الكيميائية المتعلقة به (أي بهذا العالم المضاد للمادة)، وما إذا كان يشبه كوننا أو يختلف عنه. إلا أن هناك فروضا لا تعدو أن تكون نظريات وتكهنات تخمينية، وهي في حقيقتها ضرب من الأساطير التي لا تعززها البراهين، كأسطورة حروب السفن الفضائية والحروب التي تشنها الكائنات التي تعيش في الأجرام السماوية على سكان كوكبنا هذا من بني آدم، وأن كنا لا ننكر أن بعضا من هذه الأساطير قد تحقق نظيرها في ما بعد.
وعلى سبيل المثال نذكر أن الكاتب الإنكليزي (روبرت كلارك) (المتخصص في كتابه القصص العلمية) نشر عام 1948م كتابا تحدث فيه عن قمر صناعي استقر في سماء لندن بارتفاع ستة وثلاثين ألف كيلو متر، ولأن دورته حول الأرض كانت تستغرق أربعا وعشرين ساعة، أي نفس المدة التي تستغرقها الأرض في الدوران حول نفسها، فقد استقر في سماء لندن بصورة دائمة.
فإذا عرفنا أن الأقمار الصناعية لم تطلق في الجو إلا في عام 1957م، فمعنى ذلك أن الخيال الروائي لروبرت كلارك قد سبق الواقع العلمي، أي أن أساطير كلارك وخيالاته الرومانتيكية قد تحولت إلى حقيقة علمية بعد ذلك بقليل.
ففي مناسبة احتفال العالم بالسنة الجيوفيزيائية الدولية، قام الاتحاد السوفييتي في الرابع من أكتوبر عام 1957م بإطلاق أول قمر صناعي إلى الفضاء، واسمه (سبوتنيك)، وكان يزن 83.600 كيلو غرام.
ولكن لم يفكر لا الروس ولا سواهم في صنع أقمار وسفن فضائية عملاقة، ولا فكروا في إطلاق قمر صناعي يصل إلى ارتفاع 36 ألف كيلو متر ثم يدور حول الأرض ويستقر في نقطة معينة في الفضاء إلا في عام 1969 عندما أطلق الروس هذا القمر إلى تلك المسافة بعينها واستقر فعلا في نقطةٍ معينة.
واليوم (أي في عام 1972 الذي أعد فيه هذا الكتاب في أصله الفرنسي) توجد ثلاثة من الأقمار الصناعية المستقرة (Sattlite) في مراكز ثابتة في الجو وهي تستقبل البرامج التليفزيونية والمكالمات الهاتفية من جميع أنحاء العالم وتنقلها إلى جميع أنحاء العالم.
ومما يذكر أن الكاتب الإنجليزي روبرت كلارك، الذي هداه تفكيره الروائي إلى حقيقة الأقمار الصناعية، وهي الحقيقة التي تأكدت علميا بعد ذلك بواحد وعشرين عاما، لم يدرس علوم الفضاء في أي جامعة، ولا كانت له دراسات جامعية، لأنه توقف عند المرحلة الثانوية، كما أن من غير المتصور أنه كتب روايته الموسومة (36 ألف كيلو متر) من قبيل التخيل المجرد، وأن هذا الخيال قد تحول بمحض المصادفة إلى حقيقة علمية تتمثل في (تلستار)(5) وهو القمر الصناعي الذي يدور مع دورة الأرض ويستقر في الجو على بعد 36 ألف كيلو متر من الأرض.
ومن هنا اهتم العلماء الروس بما كتبه روبرت كلارك، وأبدوا اهتماما مماثلا بكتابات العلماء في الغرب، وكذلك بالروايات والقصص التي تصدر في العالم الغربي، إذ ثبت من التجربة أن كثيرا من النظريات التي سيقت في قالب روائي خيالي قد تحولت في ما بعد إلى اكتشاف علمي أو اختراع علمي.
وهذا يدعونا إلى شئ من الاطمئنان في كتابات الروائيين التي تدور حول مضاد المادة، فليس من المستبعد أيضا أن تتحول تلك النظريات إلى حقائق علمية إما باكتشاف العالم المسمى بمضاد المادة، وإما باكتشاف عالم مشابه له.
ومن مقتضى العقل والمنطق، والعقل نعم الحاكم، أن هذا الكون بكل أبعاده وآماده إنما يخضع لقوانين ثابتة لا تتغير، ولولا ذلك لتغير العالم أو تبدد، ولأنقرض كل ما عليه، فلا بد من التسليم بصحة ما ذهب إليه الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) من أن هذا العالم خاضع لنظام ثابت من لدن عليم حكيم، ونرى أن علمي الفلك والفيزياء يؤكدان هذه النظرية أكثر من أي علم آخر.
ومن أبرز علماء الفيزياء في النصف الأول من القرن العشرين (الأمير دوبروي)(6) الفرنسي الذي ظفر بجائزة نوبل في الفيزياء عام 1929، والذي أخرج طائفة من الأعمال العلمية الرصينة، وهو أول من أثبت أن الإلكترون هو من الأمواج.
إن عالم الفيزياء يختلف عن الفيلسوف، فالأول يدقق في نظرياته ويقيم عليها البراهين بتجاربه العملية، أما الثاني فيسوق ما يتراءى له من آراء وأفكار مجردة.
والطبيعة عند عالم الفيزياء هي الموجودات والكائنات، وفي مذهب (دوبروي) أن في الطبيعة أمرا واحدا لا يتغير ولا يتبدل، هو القانون (الناموس) ولو أتيح للبشر ذات يوم أن يصنعوا أجهزة تلسكوبية أدق من الأجهزة الحالية، لاستطاعوا رصد الأجرام السماوية التي تبعد عنا مسافة مائة مليار سنة ضوئية والتي تعتبر جزءا من هذه الطبيعة.
يقول علماء الطبيعة إن الشيء الذي لا يوجد في الطبيعة لا يوجد أصلا، ولا يقول العقلاء بوجوده، لأن العقل لا يقول بوجود ما لاوجود له، فإن قبل العقل وجود شئ ما، كان دليلا على وجوده وبقائه.
والأمير دوبروي يقول بأن كل من في الطبيعة يتغير إلا القانون، فهو وحده الثابت.
وثمة يعرض للذهن سؤال هو: ماذا لو فني العالم، هل تبقى القوانين والنظم المتحكمة فيه آخذة مجراها؟
وفي الرد على هذا نقول إن من الأصول المقطوع بها في الفيزياء أن المادة لا تزول ولا تفنى، ولكنها تتغير وتتخذ أشكال متباينة وتصير من هيئة إلى أخرى.
فالتساؤل حول إمكان فناء العالم لا يستقيم من ناحية الفيزياء، لاستحالة انعدام المادة وفنائها، فالصحيح أن يقال أن العالم يتغير من صورة إلى أخرى، وهو حتى في هذا التغير يخضع لقوانين ثابتة لا تقبل التغيير.
ومن هنا يمكن القول بأن هذا العالم الفيزيائي الكبير والحاصل على جائزة نوبل الفيزياء قد أكد نظرية الإمام الصادق (عليه السلام) التي ساقها قبل ألف ومائتين وخمسين سنة والتي يقول فيها إن قوانين الكون ونظمه ثابتة لا تتغير.
 
_____________________________________
1 ـ سورة الفرقان الآية44.
2 ـ درجة حرارة الإنسان الطبيعية هي 37 درجة بمقياس سنتيغراد، فإن هبطت إلى 24 أو دون ذلك مات. أما حيوانات المنطقة المتجمدة التي تنام طوال الصيف فتصل درجة حرارتها إلى ثلاث درجات فوق الصفر بمقياس سنتيغراد، وهذا لا يختلف عما قاله الإمام الصادق عليه السلام. (المترجم).
3 - يكتب هذا الرقم الفلكي بوضع خمسة عشر صفرا إلى يمين الرقم3. (المترجم).
4 - تسمى هذه المجموعة الكوكبية في اللغات الأوروبية بكم هيركولبس Hercules (المترجم).
5 - تلستار لفظة ذات مقطعين، يعني مقطعها الأول الاتصال عن بعد Tele ويقصد به الاتصالات التليفونية والتليفزيونية واللاسلكية، ويعني المقطع الثاني القمر. والمقصود بها أنها تمثل قمرا يتوسل به في تحقيق هذه الاتصالات من على مسافات بعيدة.
6 - يكتب اسم هذا العالم باللغة الفرنسية (دوبروكلي) ويحذف حرفا الكاف واللام عند النطق. (المترجم).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page