• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مشاهد من عمق التاريخ والإنسان (المشهد الرابع)

المدينة المنورة وقد ضرب الجفاف أطنابه في الحجاز للعام الثاني على التوالي»
انصرم الشتاء وأخذ معه بركات الربيع، وماتزال الغيوم تعبر السماء كسفن تائهة، وتهامس الناس في المساجد والأسواق، وهم يتأملون السحب تتجمع ثم تتبدد، تمزقها رياح غاضبة قبل أن تجود بالمطر فتروي الأرض الحرّى، وترى الناس حيارى; ينظر بعضهم في عيون البعض:
ـ إنه القحط
ـ أجل القحط
وفي مواسم القحط تتغير الحياة.. وتنبعث في أعماق النفوس الآدمية صفات لا عهد للمرء بها; يخرج الخوف رأسه فيطلّ من عينين حزينتين، تستيقظ كوامن القلق من المستقبل، يسرع الأثرياء خطاهم الى الأسواق ليشتروا ما يحتاجون وما لا يحتاجون، ترتفع الأسعار، ويتأوّه الفقراء يضربون كفّاً بكف، وتتزلزل الثوابت، وتغادر البسمات الشفاه; ليضرب الوجوم أطنابه وربما غامر بعضهم بالصيد في الفيافي البعيدة بحثاً عن شيء يشبع صغاره الجياع.
وترى بعضهم ينظر الى الطيور نظرات تطفح بالمرارة والأسى، يتمنون الظفر ببعضها لتنقذهم من عضّة الجوع، إن للمدن أعراسها وأحزانها، ويبقى القحط جرحاً غائراً في أعماقها تتذكره دائماً بشيء من المرارة والأسف. وأصعب ما في القحط أن يغيّر طبائع الناس. يوقظ في أعماقهم غرائز مدفونة في ظلمات ثلاث، واذا بالإنسان يتحول الى كائن جديد; حيث تخلع المدن الزراعية أثوابها ويتهامس أبناؤها في شؤون الصيد والتجارة.
وفي كل ذلك تستيقظ الأنا مدمّرة; كوحش كاسر لا يعرف غير نفسه.
وفي هذه المدينة كان هناك قلب ينبض بالطمأنينة في زمن الرعب، وينبض بالسلام والرحمة، قلب يكاد يستوعب الوجود بأسره. وفي ذلك المساء الحزين، وقد آبت الكائنات الى أوكارها، وغمر الظلام الأزقة، سأل الإمام غلامه:
ـ ألدينا قمح؟
وشعر الغلام بالغبطة; لأن لديه الوفير فقال:
ـ لدينا ما يكفي حاجتنا ستة شهور.
وتألم الإمام... الناس يعصرها الجوع وحبوب القمح مكدّسة في أكياس القلق والخوف من المستقبل، قال بحزم:
ـ إعرضه غداً في السوق ليشتريه الناس.
ـ ونحن يا سيدي!
ـ اشتر لنا شعيراً واخلط به طعامنا، فإني أكره أن نأكل جيداً ويأكل الناس رديئاً.
والتفت الإمام الى غلامه قائلاً بعد لحظات صمت:
ـ الاحتكار في الخصب أربعون يوماً، وفي الشدّة والبداء ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوماً في الرخاء فصاحبه ملعون، ومازاد على ثلاثة أيام في العسر فصاحبه ملعون.
    


أضف تعليق

كود امني
تحديث

Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page