• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

المأساة الخالدة

المأساة الخالدة

ولم تبق كارثة من كوارث الدنيا ولا رزية من رزايا الدنيا إلاّ جرت على حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وعقيلة بني هاشم في كربلاء، فقد أحاطت بها المصائب يتبع بعضها بعضاً، فقد شاهدت أعداء الله وجيوش آل أبي سفيان قد اجتمعت على إبادة أهلها، وقد احتلّوا ماء الفرات ومنعوا ذرّية الرسول (صلّى الله عليه وآله) من الانتهال منه، وقد عجّت أطفال أهل البيت ونساؤهم بالصراخ والعويل من شدّة الظمأ وقد أحاطوا بالعقيلة يطلبون منها الماء، وهي حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، كيف الصبر والعطش قد مزّق قلوبهم.

وقد زحفت جيوش الاُمويّين نحو الإمام الحسين في ليلة التاسع من المحرم، كان سيّد الشهداء جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه إذ خفق برأسه، فسمعت اُخته العقيلة أصوات الجيش قد تدانت نحو أخيها فانبرت إليه وهي مذهولة مرعوبة فأيقظته، وقالت له: (إنّ العدو قد دنا منّا)، فقال لها:

(إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في المنام فقال: إنّك تروح إلينا..).

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس العقيلة فقد خرقت قلبها الرقيق المعذب، فلطمت وجهها وقالت: (يا وليتاه..).

وكان أبو الفضل العباس إلى جانب أخيه لا يفارقه، فقال له: (يا أخي أتاك القوم..).

وطلب منه الإمام أن يتعرّف على خبرهم فقال له: (اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لكم، وما تريدون..).

وبادر قمر بني هاشم ومعه عشرون فارساً نحو القوم، وفيهم حبيب بن مظاهر وزهير بن القين، فسألهم العباس عن زحفهم، فقالوا له: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم(1).

وقفل أبو الفضل إلى أخيه فعرّفه ما عرضوه عليهم، فقال(عليه السّلام) له:

(ارجع إليهم فإن استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي لربّنا هذه الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي اُحبّ الصلاة وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار).

وكان ذكر الله والدعاء والصلاة من أهمّ ما يصبو إليه الإمام في هذه الحياة(2).

وقفل قمر بني هاشم راجعاً إلى تلك الوحوش الكاسرة فعرض عليهم مقالة أخيه، وتردّد القوم في إجابته، فأنكر عليهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي إحجامهم، وقال:

سبحان الله! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان ينبغي أن تجيبوه!

ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك، ولم يقل إنّه ابن رسول الله خوفاً أن يُنقل كلامه إلى ابن مرجانة فينال العقاب والحرمان، وأيّد ابن الأشعث مقالة ابن الحجّاج فقال له ابن سعد:

أجبهم إلى ما سألوا فلعمري ليصحبنك بالقتال غداً.

واستجاب ابن سعد إلى تأجيل الحرب بعد أن رضيت به الأكثرية من قادة جيشه، وأوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك أمام معسكر الحسين فدنا منه وقال رافعاً صوته: يا أصحاب الحسين بن عليّ، قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فإن استسلمتم ونزلتم على حكم الأمير وجّهنا بكم إليه، وإن أبيتم ناجزناكم.

وأرجئ القتال إلى اليوم الثاني المصادف يوم العشر من المحرم.
 
الإمام يأذن لأصحابه بالتفرّق
 
 
وجمع سيّد الشهداء أصحابه وأهل بيته في غلس الليل وطلب منهم أن يتفرّقوا في سواده ليلقى مصيره المحتوم وحده، فقال لهم:

(اُثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السرّاء والضرّاء.. اللّهم إنّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلّمتنا القرآن، وفهّمتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأفئدة، ولم تجعلنا من المشركين.

أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً، ألا وإنّي لأظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً، وإنّي قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا في حلّ ليس عليكم منّي ذمام، وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرّج الله، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولو أصابوني للهوا عن طلب غيري)(3).

لقد جعل الإمام أصحابه وأهل بيته أمام الأمر الواقع وهي الشهادة التي لابدّ منها في مصاحبته، وليس شيء آخر غيرها، قد سمح لهم بالتفرّق عنه في سواد الليل فيتخذونه ستاراً لهم دون كل عين، كما عرفهم أنه هو المطلوب للحكم الاُموي دون غيره فإذا قتلوه فلا إرب لهم في غيره.

وعلى أي حال، فإنّ الإمام لم يكد ينتهي من خطابه حتى هبّت الصفوة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه وهي تعلن ولاءها الكامل له، وأنّهم جميعاً يلاقون المصير الذي يلقاه، وقد بدأهم بالكلام قمر بني هاشم وفخر عدنان أبو الفضل العباس قائلاً:

(لِم نفعل ذلك لنبقى بعدك، لا أرانا الله ذلك أبداً..)(4).

وتتابعت أصوات أصحابه والفتية من بني هاشم، وهم يرحّبون بالموت والشهادة في سبيله، حقّاً لقد كانوا من خيرة بني آدم صدقاً ووفاءً وشهامةً ونبلاً.
 
لوعة السيدة زينب
 
 
وفزعت عقيلة بني هاشم كأشدّ ما يكون الفزع وأقساه حينما سمعت أخاها وبقية أهلها يعالج سيفه ويصلحه وهو ينشد هذه الأبيات التي ينعى فيها نفسه:

يَـــــا دَهْـــــرُ أُفٍّ مِـــــنْ خَــلِيلِ          كَمْ لـَــــكَ بـِــالإشْرَاقِ وَالأصِيلِ

مِـــــنْ طـَـــالِبٍ وَصَـــــاحِـــــبٍ          وَالدَّهْــــرُ لاَ يَقْــــنَعُ بـــالْبَدِيــلِ

وَكُــــلُّ حَــــيٍّ سَـــــالِكُ سَبـــِيلِ          مَــــا أَقْــربَ الْوَعْدَ إلى الرَّحِيلِ

وَإِنَّـــــمَا الأَمـــــرُ إِلـــَى الْجَلِيلِ

وكان مع الإمام في خيمته الإمام زين العابدين(عليه السّلام) والعقيلة. أمّا الإمام زين العابدين فإنّه لمّا سمع هذه الأبيات خنقته العبرة ولزم السكوات، وعلم أنّ البلاء قد نزل، وأمّا العقيلة فقد أيقنت أنّ أخاها عازم على الموت، فأمسكت قلبها الرقيق المعذّب ووثبت وهي تجرّ ذيلها وقد غامت عيناها بالدموع فقالت لأخيها:

(واثكلاَهُ، وَاحُزْنَاهُ، لَيْتَ الْمَوْتَ أَعْدِ مَني الْحَيَاةَ، يَا حُسَيْنَاهُ، يَا سَيِّدَاهُ، يَا بَقِيَّةَ أَهْلَ بَيْتَاهُ، اسْتَسْلَمْتَ لِلْمَوتِ وَيَئِسْتَ مِنَ الحَيَاةِ، الْيَوْمَ مَاتَ جَدِّي رَسُولُ اللهِ، الْيَوْمَ مَاتتْ أُمِّي فَاطمَةُ الزَّهْراءِ، وَأَبِي عَليُّ الْمُرْتَضى، وَأَخي الْحَسَنُ الزَّكِيُّ، يَا بَقِيَّةَ الْمَاضِينَ وَثِمالَ الباقينَ)(5).

وذاب قلب الإمام أسى وحزناً، والتفت إلى شقيقته فقال لها الإمام بحنان:

(يَا اُخَّيةُ، لاَ يَذْهَبَنَّ بِحِلْمَكِ الشَّيْطَانُ..).

وسرت الرعدة والفزع بقلب الصدِّيقة وطافت بها آلام مبرحة فخاطبت أخاها بأسى والتياع قائلة:

(أَتَغْتَصِبُ نَفْسَكَ إِغْتِصَلباً، فّذاكَ أَطْوَلُ لِحُزْنِي وَأَشْجى لِقَلْبِي..).

ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن أخاها وبقيّة أهلها سيستشهدون لا محالة، فعمدت إلى جيبها فشقّته، ولطمت وجهها، وخرّت إلى الأرض فاقدة لوعيها(6)، وأثّر منظرها الرهيب في نفس الإمام فالتاع كأشدّ ما تكون اللوعة، ورفع يديه بالدعاء أن يلهم شقيقته الصبر والسلوان، وأن يعينها على تحمّل المحن الشاقّة التي أحاطت بها.
 
إحياء الليل بالعبادة
 
 
وأقبل الإمام مع أهل بيته وأصحابه على العبادة، فقد علموا أنّ تلك الليلة هي آخر ليالي حياتهم، ولم يذق أي واحد منهم طعم الرقاد، فقد اتّجهوا بقلوبهم وعواطفهم نحو الله وهم يمجّدونه ويتلون كتابه ويقيمون الصلاة، ويسألونه العفو والغفران.

وكانوا يترقّبون بشوق لا حدّ له طلوع الفجر ليكونوا قرابيناً للإسلام وفداءً لابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان حبيب بن مظاهر، وهو من ألمع أصحاب الحسين، وقد خرج إلى أصحابه وهو يضحك، فأنكر عليه بعض أصحابه وقال له:

يا حبيب، ما هذه ساعة ضحك.

فأجابه حبيب عن إيمانه العميق قائلاً: أيّ موضع أحقّ من هذا بالسرور، والله ما هو إلاّ أن تميل علينا هذه الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور العين(7).

وداعب برير عبد الرحمن الأنصاري فاستغرب من مداعبته قائلاً: ما هذه ساعة باطل.

انظروا إلى جواب برير فقد قال:

لقد علم قومي أنّى ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لاقون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، وددت أنّهم مالوا علينا الساعة(8).

أيّ إيمان هذا الذي تسلّح به أصحاب الحسين، فقد فاقوا جميع شهداء الحقّ والفضيلة في جميع الأعصار والآباد.
 
رؤيا الإمام الحسين (عليه السلام)
 
 
وخفق الإمام الحسين خفقة ثم انتبه، والتفت إلى أصحابه وأهل بيته فقال لهم:

(أتعلمون ما رأيت في منامي؟).

ما رأيت يا بن رسول الله…

(رأيت كأن كلاباً قد شدّت عليَّ تنهشني وفيها كلب أبقع أشدّها عليَّ، وأظنّ الذي يتولّى قتلي رجل أبرص من هؤلاء القوم، ثمّ إنّي رأيت جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول لي: أنت شهيد آل محمّد، وقد استبشرت بك أهل السماوات وأهل الصفيح الأعلى، فليكن إفطارك عندي الليلة، عجّل ولا تؤخر، هذا ما رأيت، وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا)(9).

وخيّم على أهل البيت حزن عميق، وأيقنوا بنزول الرزء القاصم والاقتراب من دار الآخرة.
 
فزع عقائل الوحي
 
 
وفزعت عقائل الوحي، وخيّم عليهن الذعر والخوف، ولم يهدأن في تلك الليلة، فقد طافت بهن موجات من الهواجس وتمثّ أمامهن المستقبل الملئ بالخطوب والكوارث، وقد خلدن إلى الدعاء والبكاء، وكان من أشدّهن عقيلة النبوة السيّدة زينب، فقد كانت تراقب الأحداث، وهي على علم لا يخامره شكّ أنّ المسؤولية الكبرى سوف تنتقل عن كاهل الحسين إليها لو قُتل، كما علمت أنّه لا يبقى من أهلها أحد، لقد فزعت وذهلت من الأحداث الجسام التي أحاطت بها.
 
العقيلة مع الهاشميّين والأصحاب
 
 
ولم تهدأ عقيلة الرسالة، فقد هامت في تيارات مذهلة من الأسى والشجون، فكانت على علم أنّ ليلة العاشر من المحرم هي آخر ليلة لأهلها، وهم على قيد الحياة، وقد وجلت على أخيها فمضت تراقب خيم الهاشميّين والأصحاب، لتسمع ما يدور عندهم من حديث، فانبرت إلى خيمة أخيها قمر بني هاشم وقد اجتمع فيها فتيان بني هاشم، وقد أحاطوا بسيّدهم أبي الفضل، فسمعته يخاطب الهاشميّين قائلاً:

(إخوتي وبني اخوتي وأبناء عمومتي، إذا كان الصباح فما تصنعون؟).

فهبّوا جميعاً قائلين:

الأمر إليك.

(إن أصحابنا وأنصارنا قوم غرباء، والحمل ثقيل لا يقوم إلاّ بأهله، فإذا كان الصباح كنتم أوّل من يبرز للقتال، فنسبق أنصارنا إلى الموت لئلاّ يقول الناس قدَّموا أصحابهم..).

ولم ينتهِ من مقالته حتى هبّوا قائلين:

نحن على ما أنت عليه.

ثمّ مضت العقيلة إلى خيمة حبيب بن مظاهر عميد أصحاب الإمام، وقد أحاط به الأصحاب، فسمعته يحدّثهم قائلاً: يا أصحابي، إذا كان الصباح ماذا تفعلون؟

الأمر إليك.

إذا صار الصباح كنّا أول من يبرز إلى القتال، نسبق بني هاشم إلى الموت فلا نرى هاشمياً مضرّجاً بدمه، لئلا يقول الناس قد بدأوهم إلى القتال، وبخلنا عليهم بأنفسنا.

واستجابت الصفوة الطاهرة لمقالة زعيمهم حبيب، وراحوا يقولون: نحن على ما أنت عليه.

وسرّت زينب بوفاء الأنصار وتصميمهم على نصرة أخيها، والذبّ عنه حتى النفس الأخير من حياته، وانطلقت العقيلة إلى أخيها فأخبرته بما سمعت من الهاشميّين والأنصار من الذود عنه، وحمايته من كل سوء ومكروه، وأخبرها الإمام أنّهم من أنبل الناس، ومن أكثرهم شهامة وإيماناً، وأنّ الله تعالى قد اختارهم من بين عباده لنصرته، والوقوف معه لمناجزة القوى المنحرفة والمعادية للإسلام.
 
يوم عاشوراء
 
 
ويوم عاشوراء من أفجع الأيام وأقساها وأشدّها محنة على العقيلة زينب وعلى أهل البيت، فلم تبق رزية من رزايا الدهر إلاّ جرت عليهم، ونتحدّث - بإيجاز- عن فصول هذه المأساة الخالدة في دنيا الأحزان.
 
خطاب الإمام الحسين (عليه السلام)
 
 
ولمّا تهيّأت عساكر ابن سعد لحرب الإمام(عليه السّلام) رأى من الواجب أن يعظهم، ويرشدهم حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم، فخطب فيهم خطاباً مؤثراً، وقد نشر كتاب الله العظيم، واعتمّ بعمامة جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولبس لامته، فقال لهم:

(تَبّاً لَكُمُ أَيَّتُهَا الجمَاعَةُ وَتَرْحاً حِينَ إِستَصْرَ خُتُمُونَا وَالِهِينَ فَأَصْرَ خْنَاكُمْ مُوجِفِينَ(10)، سَلَلْتُمْ عَلَيْنَا سَيْفاً لَنا فِي ايمَانِكُمْ، وَحَشَشْتُمْ(11) عَلَينَا نَاراً إِقْتَدَحْنَاهَا عَلىَ عَدُوِّنَا وَعَدُوِّكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ أُلبّاً(12) لأَعْدَائِكمْ عَلى أَوْلِيَائِكُمْ بِغَيْرِ عَدْلٍ أَفْشَوْهُ فِيكُمُ وَ لاَ أَملٍ أَصْبَحَ لَكُمْ فِيهِمْ.

مَهلاً - لَكُمُ الْوَيْلاَتُ - تَرَكْتُمُونَا وَالسَّيْفُ مِشيَمُ(13). وَالْجأشُ طَامِنُ وَالرَّأي لَمَّا يَسَتَحْصـــِفُ، وَلَـــكنْ أَسرَعْـــتُم إِلَيهـــَا كَطَيْرَةِ الدِّبَا(14)، وَتَدَاعَيْتُمْ إِلَيْهَا كَتَهَافَتِ الْفَرَاِش.

فَسُحْقاً لَكُمْ يَا عَبِيدَ الأُمَّةِ، وَشِذَاذ الأَحزَابِ، وَنَبذَةَ الكِتَابِ، ومُحَرِّفِي الْكَلِمَ، وَعَصَبَةَ الآثَامِ، وَنفَثَةَ الشَّيطَانِ، وَمُطْفِئِ السُّنَنِ.

أَهَؤُلاءِ تَعضُدُونَ، وَعَنَّا تتَخَاذلُونَ؟! أَجَلْ وَاللهِ غَدرُ فِيكُمُ قَدِيمُ وَشجَتْ إِليْهِ أُصُولُكُم وَتأَزَّرَتْ(15).عَلَيهِ فُروعُكمْ، فَكُنْتُمْ أَخبَثَ شَجِرٍ شَجاً للِنَّاظرِ وَأُكلَةُ للْغَاصِبِ.

أَلا وَأنَّ الدَّعِيْ ابْنَ الَّدعي قَد رَكَزَ بَيْنَ اثنتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ(16) وَالذِّلةِ، وَهيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّةُ، يَأبَى اللهُ لَنَا ذَلِكَ وَرَسولُهُ وَالمُؤمِنُونَ وَحُجًورُ طَابتْ وَطَهُرتْ وَأُنُوفُ حِمِيَّةُ وَنُفُوسُ أَبيَّةَ: مِنْ أنْ تُؤْثِرَ طَاعَةَ اللِّئامِ عَلىَ مَصَارِعِ الْكِرامِ.

أَلاَ وَإِنِّى زّاحِفُ بِهذِهِ الأُسْرَةِ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَخَذْلَةِ النَّاصِرِ).

ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي:

(فَـــــإِنْ نَـــهْزِكْ فَهَزَّامُونَ قِدْماً          وَإِنْ ُنــــغْلَبْ فَــــغَيْرُ مُــــغَلِّبِينَا

وَمَـــــا إِنْ طِــــــبُّنَا جُبنٌ وَلـَكِنْ          مَنَــــايَانَـــــا وَدَوْلـَـــــة آخَرِينـَا

إِذا مَــــاالمَوتُ رَفَّــعَ عَنْ أُنَاسٍ          كَلاَكِلَهُ أَنَــــــاخَ بِـــــآخـِرِيــــنـَا

فَــــأَفْنىَ ذَلِكُمْ سَـــرَوَاتِ قَوْمـِي          كَمَا أَفْنـــــىَ الْقُرُون الأَوَّلِيـــــنَا

فَـــلَوْ خِــــــلْدَ الْمُلُوكُ إِذاً خُلِدْنـَا          وَلَوْ بَقـِـــــي الكِــــرَامُ إذاً بَقِينَا

فَـقُلْ لِـــــلشَّامِتِينَ بـــِنَا: أَفِيقُـوا          سَيَلْقىَ الشَّــــامِتُونَ كَـمَا لَقِينَا)

أَمَا واللهِ لاَ تَلْبَثُونَ بَعْدَهَا إلاَّ كَرَيْثِ مَا يُركَبُ الْفرَسُ حَتّىَ يَدورَ بِكُمْ دَوْرَ الرَّحىَ وَتَقْلَقَ بِكُمْ قَلَقَ الْمِحْورِ، عَهْدُ عَهْدَهُ إِلَيَّ أَبِي عَنْ جَدِّي، فَأجْمَعُوا أَمْركُم وَشُرَكَاءَكُم، ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيكُمْ غُمَّةُ، ثُمَّ اقْضُو إِلَيَّ وَلاَ تُنْظرُونَ. إِني تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبّي وَرَبِّكُمْ، ما مِنْ دابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذُ بِناصِيَتها، إِنَّ رَبّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ.

ورفع يديه بالدعاء على اُولئك السفكة المجرمين قائلاً:

أَللَّهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطَرَ السَّمَاءِ، وَابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنَيْ يُوسُفَ، وَسَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلاَمَ ثَقِيفٍ يَسُومُهُم كَأُساً مُصْبَرَةً، فَإِنَّهُمْ كَذَّبُونَا وَخَذَلُونَا، وَأَنْتَ رَبُّنَاعَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِليْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيكَ الْمَصِيرُ)(17).

لقد انفجر أبو الأحرار في خطابه كالبركان، وأبدى من صلابة العزم وعزّة النفس ما لم يشاهد مثله، فقد استهان بالموت، ولا يخضع لاُولئك الأقزام الذين سوّدوا وجه التأريخ، وكانوا سؤة عار لمجتمعهم.
 
استجابة الحرّ
 
 
واستيقظ ضمير الحرّ حينما سمع خطاب الإمام، وجعل يتأمّل ويفكّر في مصيره، وأنّه لا محالة يصير إلى النار خالداً فيها، واختار الدار الآخرة والالتحاق بآل النبيّ، وقبل أن يتوجّه إلى الإمام الحسين أسرع نحو ابن سعد فقال له:

أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه بلا تردد ليظهر أمام قادة الفرق إخلاصه لسيّده ابن مرجانة قائلاً:

إي والله قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي.

فقال له الحرّ برنّة المستريب:

أفما لكم في واحدة من الخصال التي عرضها عليكم رضاً؟

فأجابه ابن سعد:

لو كان الأمر لي لفعلت، ولكن أميرك أبى ذلك.

وأيقن الحرّ أنّ القوم مصمّمون على حرب ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فمضى يشقّ الصفوف، وقد سرت الرعدة بأوصاله، فأنكر عليه ذلك المهاجرين أوس، وهو من شرطة ابن زياد فقال له:

والله إنّ أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل ما أراه الآن، ولو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك.

وكشف له الحرّ عن عزمه فقال له:

إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار على الجنة شيئاً ولو قطّعت واُحرقت.

ولوى بعنان فرسه صوب الإمام(18)، وهو مطرق برأسه إلى الأرض حياءً وندماً على ما فرّط في حقّ الإمام، ولمّا دنا منه رفع صوته قائلاً:

اللّهم إليك اُنيب، فقد أرعبت قلوب اُوليائك وأولاد نبيّك.. يا أبا عبد الله، إنّي تائب فهل لي من توبة؟

ونزل عن فرسه، ووقف قبال الإمام، ودموعه تتبلور على سحنات وجهه قائلاً:

جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وجعجعت بك في هذا المكان، ووالله الذي لا إله إلاّ هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضت عليهم أبداً، ولا يبلغون منك هذه المنزلة أبداً، فقلت في نفسي: لا اُبالي أن اُطيع القوم في بعض أمرهم، ولا يرون أنّي خرجت من طاعتهم، وأمّا هم فيقبلون بعض ما تدعوهم إليه، ووالله لو ظننت أنّهم لا يقبلونها منك ما ركبتها منك، وإنّي قد جئتك تائباً ممّا كان منّي إلى ربّي، مواسياّ لك بنفسي حتى أموت بين يديك، أفترى لي توبة؟

واستبشر به الإمام، ومنحه الرضا والعفو، وقال له:

(نعم يتوب الله عليك ويغفر..)(19).

وانطلق الحرّ بعد أن منحه الإمام العفو وقبل توبته، فخطب في أهل الكوفة ودعاهم إلى التوبة، ونُغّب عليهم حصارهم للإمام، ومنعه مع أهل بيته وأصحابه عن ماء الفرات الذي هو حق مشاع للجميع، ولم يستجيبوا له، ورموه بالنبال.
 
الحرب
 
 
وارتبك ابن سعد من التحاق الحر بالإمام، وخاف أن يحصل التمرّد في جيشه، فزحف الباغي الأثيم نحو معسكر الحسين، وأخذ سهماً فأطلقه صوب الإمام، وقد رفع صوته قائلاً:

اشهدوا لي عند الأمير أنّي أول من رمى الحسين.

وفتح ابن سعد من السهم الذي اطلقه باب الحرب، وطلب من الجيش أن يشهدوا له عند سيّده ابن مرجانة بأنّه أوّل من رمى معسكر ابن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتتابعت السهام كأنّها المطر على معسكر الإمام الحسين، فلم يبق أحد منهم إلاَ أصابة سهم، فالتفت الإمام إلى أصحابه قائلاً:

(قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم..).

وتقدّمت طلائع الحق من أصحاب أبي الأحرار إلى ساحة الشرف والمجد وهي تعلن ولاءها للإسلام، وتفانيها في الذبّ عن إمام المسلمين وسيّد شباب أهل الجنة، وبذلك بدأت المعركة واحتدم القتال كأشدّه وأعنفه.

ومن المقطوع به أنّه لم تكن مثل تلك المعركة في جميع الحروب التي جرت في الأرض، فقد تقابل اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً مع عشرات الألوف، وقد أبدى أصحاب الإمام من الشجاعة والبسالة ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.
 
مصارع أصحاب الإمام
 
 
وشنّت قوات ابن سعد هجوماً عاماً وعنيفاً على أصحاب الإمام وخاضوا معهم معركة رهيبة، وقد ثبت لهم أصحاب الإمام، فهزموا جموعهم بقلوب أقوى من الحديد، وأنزلوا بهم أفدح الخسائر، وقد استشهد في هذه الحملة نصف اصحاب الإمام، ثم بدأت بعد ذلك المبارزة بين العسكرين، فكان الرجل من أصحاب الإمام يبرز ويقاتل ثمّ يُقتل، وهكذا حتى فنوا عن آخرهم، وقد أبلوا في المعركة بلاءً يقصر عنه كل وصف وإطراء، فقد خاضوا تلك المعركة الرهيبة، ولم تضعف لأي رجل منهم عزيمة ولم تلن لهم قناة، وقد سمت أرواحهم الطاهرة إلى الرفيق الأعلى وهي أنضر ما تكون تفانياً في مرضاة الله تعالى وطاعته، وأنّ أعطر ما نقدّمه لهم من تحية كلمات الإمام الصادق عملاق الفكر الإسلامي، في حقّهم قال مخاطباً لهم:

(بأبي أنتم واُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم، وفزتم فوزاً عظيماً).
 
مصارع أهل البيت
 
 
وبعدما نالت الشهادة الصفوة الطاهرة من أصحاب الإمام هبّ أبناء الاُسرة النبوية شباباً وأطفالاً إلى التضحية والفداء، فكانوا كالليوث وكالصاعقة على جيوش الكفر والضلال، وأخذ بعضهم يودّع البعض الآخر، وهم يذرفون الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار حيث يرونه وحيداً قد أحاطت به من كل جانب جيوش الاُمويّين ليتقرّبوا بقتله إلى ابن مرجانة، وفي طليعة الذين استشهدوا من آل البيت(عليهم السّلام):
 
عليّ الأكبر
 
 
وكان عليّ الأكبر شبيه جدّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في ملامحه وفي أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، وكانت الاُسرة النبوية والصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نظروا إلى وجه عليّ الأكبر، وكان دنيا من الفضائل والمواهب والعبقريات، فقد تسلّح بكل فضيلة وأدب، وكان أعزّ أبناء الإمام الحسين لعمّته العقيلة وسائر بني عمومته وأعمامه، وهو أوّل هاشمي اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، وكان عمره الشريف ثماني عشر سنة(20)، وقد وقف أمام أبيه طالباً منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلمّا رآه الإمام ذابت نفسه أسى وحسرات، وأشرف على الاحتضار فقد رأي فلذة كبده قد ساق نفسه إلى الموت، فرفع الإمام شيبته الكريمة نحو السماء، وهو يقول بنبرات قد لفظ فيها شظايا قلبه:

(اللَّهُمَّ اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم غلام أشْبَهُ الناس برسولك محمَّد (صلّى الله عليه وآله) خَلقاً وَخُلقاً ومنطقاً، وكنَّا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيِّك نظرنا إليه.. أللَّهُمَّ امنعهم بركات الأرض، وفرّقهم تفريقاً، ومزّقهم تمزيقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً، وفإنّهم دعونا لينصرونا ثمّ عدوا علينا يقاتلوننا..).

والتفت الإمام إلى المجرم الأثيم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:

(ما لك قطع الله رحمك، ولا بارك لك في أمرك، وسلّط عليك من يذبحك بعدي على فراشك، كما قطعت رحمي، ولم تحفظ قرابتي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتلا قوله تعالى: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَىَ آدمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِين ذرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍِ وَاللهُ سَميعُ عَلِيمُ) ).

وشيّع الإمام ولده بدموع مشفوعة بالأسى والحزن، وخلفه عمّته العقيلة وسائر عقائل الوحي، وقد علا منهن الصراخ والعويل على شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وانطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب، وقد امتلئ قلبه حزماً وعزماً، ووجهه الشريف يتألق نوراً، فقد حكى بهيبته هيبة جدّه رسوله الله (صلّى الله عليه وآله)، وبشجاعته شجاعة جدّه الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، وتوسط حراب الأعداء وسيوفهم وهو يرتجز قائلاً:

أنـــــا عـــــلي بن الحسين بن علي          نحـــــن وربّ البيـــت أولى بالنبي

تـــالله لا يحــــــكم فيــنا ابن الدعي

‌‌‌أنت يا شرف هذه الاُمة أوْلى بالنبيّ وأحق بمقامه من هؤلاء الأدعياء الذين سلّطتهم عليكم الطغمة الحاكمة من قريش التي أبت أن تجتمع الخلافة والنبوة فيكم.

والتحم عليّ الأكبر مع أعداء الله، وقد ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، وأبدى من البسالة والشجاعة ما يقصر عنه كل وصف، فقد ذكّرهم ببطولات جدّه الإمام أمير المؤمنين، ومحطّم أوثان القرشيّين، وقد قتل مائة وعشرين فارساً(21) سوى المجروحين، وألحّ عليه العطش وأضرّ به، فقفل راجعاً إلى أبيه يشكو ظمأه القاتل قائلاً:

(يا أبتِ، العطش قد قتلني، وثقل الحديد قد أجهدني، فهل إليَّ شربه ماء من سبيل أتقوى بها على الأعداء؟).

والتاع الإمام، فقال له بصوت خافت، وعيناه تفيضان دموعاً:

(واغوثاه ما أسرع الملتقى بجدّك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدأ).

وأخذ لسانه فمصّه ليريه شدّة عطشه فكان كشقّة مبرد من شدّة العطش، يقول الحجّة الشيخ عبد الحسين صادق في رائعته:

يشــــكو لخير أب ظمأه وما اشتكى          ظمأ الحشا إلاّ إلى الظامي الصدي

كل حـــشاشتـــــه كصـــالية الغضـا          ولسانه ظــــــمأ كشـــــقة مـــــبـرد

فــــانصاع يــــؤثره علــــيه بريقـه          لــــو كـــــان ثــــمة ريقه لم يجمـد

لقد كان هذا المنظر الرهيب لعليّ الأكبر من أفجع وأقسى ما رزئ به ابو الأحرار، فقد رأى ولده الذي هو من أنبل واشرف ما خلق الله، وهو في غضارة العمر وريعان الشباب قد أشرف على الهلاك من شدة العطش، وهو لم يستطع أن يسعفه بجرعة ماء ليروي عطشه.

وقفل فخر الإسلام عليّ الأكبر راجعاً إلى حومة الحرب، قد فتكت الجراح بجسمه، وفتّت العطش فؤاده، وجعل يقاتل كأشدّ ما يكون القتال وأعنفه حتى ضجّ العسكر من كثرة ما قتل منهم، ولمّا رأى ذلك الوضر الخبيث مرّة بن منقذ العبدي قال: عليَّ آثام العرب إن لم أثكل أباه، وأسرع الخبيث الدنس إلى شبيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فطعنه بالرمح في ظهره وضربه ضربة منكرة على رأسه، ففلق هامته، واعتنق فرسه يظنّ أنّه يرجعه إلى أبيه إلّا أنّ الفرس حمله إلى معسكر الأعداء فأحاطوا به من كل جانب، ومزّقوا جسده الشريف بالسيوف، ونادى فخر هاشم ومجد عدنان رافعاً صوته: (عليك منّي السلام أبا عبد الله، هذا جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها أبداً، وهو يقول: إنً لك كأساً مذخورة..).

وحمل الأثير هذه الكلمات إلى أبيه الثاكل الحزين فقطعت قلبه ومزّقت أحشاءه، ففزع إليه وهو خائر القوى منهدّ الركن، فانكب عليه فوضع خدّه على خدّه، وهو جثة هامدة قد قطعت شلوه السيوف إرباً إرباً، وأخذ الإمام يذرف أحرّ الدموع على ولده الذي لا يشابهه أحد في كمال فضله، وجعل يلفظ شظايا قلبه بهذه الكلمات:

(قتل الله قوماً قتلوك يا بني، ما أجرأهم على الله وعلى انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك العفا..)(22).

وما كاد الخبر يبلغ الخيام حتى هرعت حفيدة الرسول (صلّى الله عليه وآله) زينب من خدرها، وكان ذلك أوّل ما خرجت إلى المعركة فأكبت بنفسها على ابن أخيها الذي كان أعزّ ما عندها من أبنائها وجعلت تضمّخه بدموعها، وقد انهارت قواها، وانبرى إليها الإمام وجعل يعزّيها بمصابها الأليم، وهو يردّد هذه الكلمات: (على الدنيا بعدك العفا).

وأخذ الإمام بيد اُخته وردّها إلى الفسطاط، وأمر فتيانه بحمل ولده إلى الفسطاط.

لقد كان علي بن الحسين الرائد والزعيم لكل حرّ شريف مات أبياً على الضيم في دنيا الإباء، فسلام الله عليه غادية ورائحة ونودعه بالأسى والحزن، ونردّد كلمات ابيه:

(على الدنيا بعدك العفا..).
 
مصارع آل البيت
 
 
وبزرت الفتية من آل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهي تذرف الدموع على وحدة سيّدهم أبي الأحرار، وكان من بينهم القاسم بن الحسن، وكان كالقمر في بهائه وجماله وقد ربّاه عمّه وغذاه بمواهبه وآدابه، وأفرغ عليه أشعة من روحه حتى صار صورة عنه، وكان أحبّ إليه من أبناء إخوته وأعمامه وكان القاسم يتطلّع إلى محنة عمّه، وينظر إلى جيوش الكفر قد أحاطت به وقد ذابت به وقد ذابت نفسه أسىً وحسرات، وجعل يردد:

لا يقتل عمّي وأنا أنظر إليه(23).

واندفع بلهفة نحو عمّه يطلب منه الإذن ليكون فداءً له، فاعتنقه عمّه وعيناه تفيضان دموعاً، وجعل القاسم يقبّل يديه طالباً منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه وترجّيه، وبرز القاسم إلى حومة الحرب وهو بشوق عارم إلى الشهادة، ولم يضف على جسده لامة الحرب، وإنّما صحب معه سيفه، والتحم مع اُولئك القرود، فجعل يحصد رؤوسهم بسيفه، وبينما هو يقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سليل النبوة أن تكون أحد رجليه بلا نعل فوقف يشدّه متحدّياً تلك الوحوش الكاسرة التي لا تساوي نعله، واغتنم هذه الفرصة الوغد الخبيث عمرو بن سعد الأزدي، فقال: والله لأشدن عليه، فأنكر عليه حميد بن مسلم، وقال له:

سبحان الله! وما تريد بذلك يكفيك هؤلاء القوم الذين ما يبقون على أحد منهم. فلم يعنِ به، وشدّ الخبيث عليه فعلاه بالسيف على رأسه الشريف، فهوى الفتى على الأرض صريعاً كما تهوي النجوم ونادى رافعاً صوته: يا عمّاه.

وذاب قلب الإمام، وأسرع إليه فعمد إلى القاتل الأثيم فضربه بالسيف فاتّقاها بساعده فقطعها من المرفق وطرحه أرضاً، فحملت خيل أهل الكوفة لاستنقاذه إلّا أنّه هلك تحت حوافرها، وانعطف الإمام نحو ابن أخيه فجعل يقبّله، والفتى يفحص بيديه ورجليه، وهو يعاني آلام الاحتضار فخاطبه الإمام:

(بُعداً لقوم قتلوك، ومن خصمهم يوم القيامة فيك جدّك.. عزّ والله على عمّك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك فلا ينفعك صوته، والله هذا يوم كثر واتره، وقلّ ناصره..).

وحمله الإمام والفتى يفحص برجليه كالطير المذبوح(24) وجاء به فألقاه بجوار ولده علي الأكبر وسائر الشهداء من أهل البيت، وأخذ يطيل النظر إليهم، وجعل يدعو على السفكة المجرمين قائلاً:

(اللّهمّ أحصهم عدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ولا تغفر لهم أبداً، صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً..).

وكل هذه المناظر المفجعة التي تميد بالصبر وتعصف كانت بمرأى من عقيلة بني هاشم، فكانت تستقبل في كل لحظة فتى من الاُسرة النبوية، وهو مضرّج بدمائه، لها الله ولأخيها على هذه الرزايا التي تميد من هولها الجبال.
 
مصرع عون
 
 
وبرز إلى حومة الحرب عون بن عبد الله بن جعفر، واُمه الصدِّيقة الطاهرة زينب بنت أمير المؤمنين، فجعل يقاتل على صغر سنه قتال الأبطال وهو يرتجز:

إن تـــــــنكروني فأنا ابن جعفر          شهيد صـــدق في الجنان أزهر

يطـــــير فيـــــها بجناح أخضـر          كــــفى بــهذا شرفاً من معشــر

أنت أيها الشهم حفيد الشهيد الخالد جعفر الطيار الذي قطعت يداه في سبيل الدعوة الإسلامية، فأبدله الله بهما جناحين يطير بهما في الفردوس الأعلى.

وجعل الفتى يقاتل قتال الأبطال فحمل عليه الوغد الأثيم عبد الله بن قطبة الطائي فقتله.

وحمل إلى المخيم فاستقبلته اُمه الصدِّيقة الطاهرة، ونظرت إليه وهو جثة هامدة فاحتسبته عند الله.

وحلّ بعده أبناء الاُسرة الهاشمية فاستشهدوا جميعاً قرابين للإسلام، وفداءً لريحانة رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
 
مصرع أبي الفضل
 
 
وكان أبو الفضل العباس من أحبّ الناس وأخلصهم للإمام الحسين(عليه السّلام) فقد ربّاه وغذّاه بمكارم أخلاقه ومحاسن صفاته، وعلّمه أحكام الدّين حتى صار من أفاضل العلماء، وكان ملازماً لأخيه في حلّه وترحاله، وواساه في أقسى المحن والخطوب، وكانت اخوته لأبي عبد الله مضرب المثل عند جميع الناس، وكانت أسارير النور بادية على وجهه الكريم حتى لقّب بقمر بني هاشم، وكان من الأبطال البارزين في الإسلام، فكان إذا ركب الفرس المطهّم تخطّان رجلاه في الأرض، وقد أسند إليه الإمام الحسين(عليه السّلام) يوم الطفّ قيادة جيشه ودفع إليه رايته.

وكان أبو الفضل هو المتعهّد لرعاية الصدّيقة سيّدة النساء زينب (عليها السّلام)، وقد احتلّ قلبها، فكانت تكنّ له أعمق الودّ والولاء.
 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page