من هو المثقف ؟
2 ـ الانسانية (هيومانيزم) :
كانت السلطة السياسية في الغرب تكتسب شرعيتها من الدين ، حيث كانت تتعاضد الانظمة الملكية والكنيسة لتجعل من السياسة والدين امراً واحداً ، كما كان الميدان الثقافي حكراً على الدين والجهاز الكنسي المسيحي، وتجد التاريخ الغربي مليئاً بالحروب والدماء التي اريقت بدوافع دينية ومذهبية.
وكانت الصلة بين الكنيسة والسلطة من القوة ، بحيث كان الملك يكتسب شرعيته وجزءاً من قدرته من الكنيسة والبابا بالذات ; إذ كان يضع التاج بنفسه على رأس السلطان ، ويتستر على جميع مظالم الحكومات الاستبدادية الظالمة . ولم يكن بوسع الشعوب أن تعترض على تلك الحالة البائسة ، بل كان عليها أن تطيع الحاكم الظالم وجوباً دينياً ; لان الكتاب المقدس يأمرها بطاعة الاب الذي يمثله هنا الملك .
فالدين المسيحي يعتبر الانسان كائناً عاصياً بذاته(12) ، ينطلق من وجوده الشر والسوء ; بحيث لا يستطيع أن يتوسل بنفسه إلى اللّه تعالى ليسأله الصفح والعفو ; بل يفترض له أن يبادر إلى طلب الصفح عن طريق توسله بآباء الكنيسة .
وبعد مجيء عصر النهضة ، وإزالة بعض القيود الكنسية التي كانت تثقل عاتق الشعوب ، حصل بعض التطور في العلم والصناعة ، وتذوق الانسان الاوربي طعم الحرية وشعر بحلو مذاقها ، فطمع في المزيد منها ، واصبح كالنابض الذي انطلق فجأة بعد ضغط شديد ، وقفز إلى مسافة اكثر مما كان مفروضاً ، فأخذ جانب التطرف والافراط في الحصول على حقوقه الفطرية والطبيعية ، وأعرض عن خالقه واعتنق فكرة حرية الفكر(13) ، ووقف وجهاً لوجه امام الكنيسة وكل تعاليمها حتى العبادية منها ، لاسترجاع حرمته المنتهكة . وقد ظهر جراء ذلك المذهب النفعي الذي اسسه جيريمي بنتام(14).
حيث اعتقد أنه لابد من تأمين اقصى الراحة والاستقرار لاكبر عدد من الناس(15) كما ظهرت فلسفة الفردانية(16) إفرازاً فكرياً لمرحلة التنوير ، وسعت إلى ازالة أي نوع من انواع السلطة على الانسان ، واعتمدت مبدأ عدم ولاية الانسان على الاخر ، واستطاعت المرأة في ظل هذا التطور الحصول على المزيد من الحرية ، وخرجت من بيتها إلى الشارع ، وشاعت في تلك البرهة ظاهرة الانحلال دون وازع من دين أو اخلاق ، كما انتشرت العلمانية (اسكولاريسم)(17) في صفوف الشعوب ، واعتبر النفع الفردي في الاقتصاد العامل المحرك للمجتمع ، وأسس آدم سميث(18) الاقتصاد الليبرالي الكلاسيكي بعد اصدار كتابه (ثروة الامم)(19) ، وجعل العرض والطلب واقتصاد السوق هي الاساس ، واعتبر الطبيعة هي المدبّر الاجدر والافضل ، واعتمد «سياسة دَعْه»(20) أو «سياسة عدم التدخل» ، ولاحظ أن خير المجتمع يكمن في خير اعضائه فرداً فرداً .
أدت هذه التطورات إلى ايجاد روح التساهل والتسامح ، واحترام آراء الاخرين ومذاهبهم بعيداً عن التعصب ، الامر الذي يدخل ضمن السمات الخاصة بعصر التنوير . بحيث نجد فولتير(21) يكتب لجان جاك روسو(22): «إنني على استعداد للموت من اجل أن تتفوه بكلامك ، رغم أن أفكارك تقف في الجهة المعاكسة لافكاري»(23) .
_______________________________________
(12) المعصية الذاتية . «Onginal Sin»
(13)Free Thinker: وهي فكرة تقوم على اساس عدم الاعتناء باقوال الاخرين، والتحرر من أية عقيدة، وبخاصة في مجال الفكر الديني.
(14) Jeremy Bentham.
(15) لابد من القول هنا: إن مذاهب غائبة أخرى وجدت منذ القدم، كان كل مذهب من تلك المذاهب يحدد غاية معينة للافعال الاخلاقية البشرية، منها السعادة Happiness(لارسطو)، أو المعرفة Knowlede(لكثير من المتكلمين المسيحيين).
(16) اصالة الفرد Individualism: فلسفة سياسية واجتماعية تقول بأن مصالح الفرد هي (أو يجب أن تكون) فوق كل اعتبار، وبأن المبادرة الفردية يجب ألاّ تُخضع لسيطرة الحكومة أو المجتمع أو رقابتهما. وقد تجسدت الفردانية دستورياً في اعتبار الديمقراطية الحرة نظام الحكم الامثل. ويمكن القول: إن الفردانية نشأت في انكلترا خلال القرن السابع عشر مع جون لوك بخاصة .
(17) Secularism العلمانية والعلمنة: نزع الصفة الدينية، أو سلطان رجال الدين عن نشاط من النشاطات، أو مؤسسة من المؤسسات.
(18) Adam Smith فيلسوف اجتماعي وعالم اقتصادي اسكتلندي (1723م ـ 1790م).
(19) واسمه الاصلي :
An Inguiry in to the Neture and Causes of the Wealth of netions.
(20) Laissez Faireوهو مبدأ يقاوم التدخل الحكومي في الشؤون الاقتصادية، إلاّ بمقدار ما يكون هذا التدخل ضرورياً لصيانة الامن، وحقوق الملكية الشخصية. (المترجم).
(21) فولتير Voltaire: كاتب وفيلسوف فرنسي. اسمه الاصلي فرانسوا ماري آروويه (1694 ـ 1778م) . عرف نقده الساخر، ودعوته إلى الاصلاح، ودفاعه عن الحرية والمساواة وكرامة الانسان. من اشهر اثاره راديغ أو صادق (1747) وقد نقلها إلى العربية طه حسين تحت عنوان اسمه (القدر)، وكانديد (أو الساذج) (1759)، والمعجم الفلسفي (1764).
Jean . Jacques(22) Rousseaue :
كاتب وفيلسوف فرنسي (1712 ـ 1778). اعتبره بعض النقاد الوجه الابعد نفوذاً في الادب الفرنسي الحديث والفلسفة الفرنسية الحديثة. عرف بتمجيده للطبيعة عامة وللطبيعة البشرية خاصة. اشهر آثاره في العقد الاجتماعي (1762)، واميل (1762) ايضاً.
(23) نقلاً عن فسلفة التنوير.