• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الروح الإيجابية أساس تزكية النفس

الروح الإيجابية أساس تزكية النفس

من الحقائق التي أكدها القرآن الكريم، وأكّد عليها علم التربية الحديث؛ أنّ نفسيّة الإنسان هي التي تهيمن على مسيرته، كما يشير إلى ذلك ربنا عـز وجل بقولـه: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَيَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً» (الاعراف/58). فعندما تكون نفسيّة الإنسان الفرد، والأمـة، والمجتمع نفسيّة طيّبة، فانّ كلّ ما ينبت من فوق هذه النفسية من سلوكيّات وأفكار ومواقف وإفرازات أخرى سوف تصبّ جميعاً في الاتجاه الصحيـح؛ في حين إذا كانت النفسية خاطئة منحرفة، فانّ كلّ ما يصدر منها سيكون نكداً.

تكريس الحالة الإيجابية في النفس

إن الله سبحانه وتعالى يأمر عبر القرآن الكريم بأن نصلح أنفسنا ونزكّيها، لأنّ كل صلاح في النفس سينتهي بالتالي الى صلاح في المجتمع. وأهم ما في النفس الصالحة، الحالة الإيجابية التي يصطلح عليها علماء الأخلاق باسم الشكر، والرضا، والتوكّل، والصبر وما إلى ذلك من مصطلحات تشترك جميعها في أنّ الروح التي تقف وراء هذه الخلقيّات الفاضلة هي الروح الإيجابية.

وللأسف؛ فانّ هناك قسماً من الناس تعيش أرواحهم ونفسياتهم في ظلمات، فهم ينظرون الى كلّ شيء في الحياة بمنظار أسود قاتم، ومثل هؤلاء لا يمكنهم أن يقوموا بدور، ولذلك جاء في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة، وأبى الله لصـاحب الخُـلق السيء بالتوبة. فقيل: يا رسول الله؛ وكيف ذلك؟ قال: أمّا صاحب البدعة فقد اُشرب قلبه حبّها، وأمّا صاحب الخُـلق السيء فانّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم من الذنب الذي تاب منه".([34])

السلبيّة مصدر الذنوب

والسبب في ذلك أنّ الإنسان السيّء الأخلاق لا يخرج من ذنب إلاّ ليدخل في ذنب آخر. فالإنسان القلق، المضطرب، المتشائم، السلبيّ، الحقود.. هذا الإنسان تفيض من جوانبه الأفعال السيّئة؛ فتراه يغتاب، فإن سكت عن الغيبة بادر الى الاتهام، وإذا ما كفّ عن التهمة قام بتوجيه السباب والشتائم، وهو فيما عدا ذلك متشائم، يركّز على الجوانب السلبيّة في الحياة.

هذا في حين أنّ الإنسان الذي يتمتّع بنفسيّة إيجابية متفائلة، تراه لا يخرج من عمل صالح إلاّ ليدخل في عمل صالح آخر. وفي هذا المضمار يقول الله تعالى: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ» (الاسراء/84) فكما إنّ صورة الإنسان تختلف من شخص لآخر؛ فهناك اُناس صورهم الظاهريّة جميلة جذّابة أنيقة، في حين أن هناك أشخاصاً آخرين يحملون صوراً قبيحة ذميمة، فانّ نفوس البشر هي الأخرى ذات أشكال ونوعيات مختلفة؛ فهناك نفوس جميلة وهناك نفوس قبيحة، وإذا كانت النفس جميلة فانّ جميع الأفعال التي تصدر من هذه النفس ستكون جميلة حتّى وإن صدر خطأً عملٌ غير جميل من هذه النفس، لأنّ الله تعالى سيغفر للإنسان هذا العمل.

خلفيّات الظلم

فلنفكّر في خضم العمل السياسي والاجتماعي في خلفيّات الحياة، ولنفكّر كيف ينبت من أرض معيّنة الحكام الطغاة المستبدّون المتمرسّون في الجريمة.. إنّ الكلمات والتعابير تعجز في بعض الأحيان عن وصف حقيقة هؤلاء الأشخاص الذين تسبّبوا في قتل الملايين من الأبرياء، إنّنا في بعض الأحيان لا نفكّر في هؤلاء الأشخاص وإنّما في تلك الأرضية الخبيثة التي أنبتتهم. فهم يمثّلون خطأً وتياراً فاسدين؛ أي إنّ هناك رجالاً فاسدين ومجرمين، وهناك طبقة معيّنة فسدت فخرّجت مثل هؤلاء الأشخاص.

وفي هذا المجال يقول الله تعالـى: «وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً »(الانعام/129). فالإنسان الظالم لا يكون حاكماً إلاّ على ظالم مثله.

وهنا علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: أين تكمن المشكلة، وهل هي متمثّلة في شخص، أم خطّ، أم أنّها تمثّـل حالـة ثقافيـة متردّية علينـا أن نعالجها؟ وعلى سبيل المثال فانّ مشكلة النازيّة لم تكنّ تتمثّل في شخص هتلر، فقد كان يؤيّده في حربه النازية عشرة ملايين إنسان، فالمشكلة إذن لم تكن تتمثّل في الحزب النازي فحسب، بل في تلك الأرضية التي أنبتت مثل هذا الحزب، ألا وهي أرضية العنصريّة المقيتة التــي تشبّعت بها نفسيّة الشعب الألماني في تلك الفترة. فهذه العنصرية هي التي ولدت هذا الحزب، وهذا الحزب هو الذي خرّج هتلر، وهتلــر - بدوره - هو الذي أفرز تلك الحرب المدمّرة.

وهكذا الحال بالنسبة الى طغاة التأريخ الآخرين أمثال يزيد، فمن الخطأ أن نتصوّر أنه كان شخصاً واحداً، فقد كانت هناك طبقة فاسدة تأمّر عليها رجل فاسد مثل يزيد.

وقد حاول الأنبياء عليهم السلام وكبار المصلحين الذين اتّبعوهم أن يعالجوا هذه الأرضية، وهذا هو في الحقيقة الحلّ المنطقي والسليم لمشكلة الطغيان والفساد؛ فأنت حينما ترى شجرة غير سليمة فانّك لا تعمد الى قطع أغصانها لتعرف علة فسادها، بل إنّ عملك من المفروض أن يبتدئ من التربة لتحلّلها وتكتشف الفساد والنقص اللذين تعاني منهما. وبعد أن تستيطع معالجة هذا الفساد والنقص، سرعان ما تتحوّل تلك الشجرة الفاسدة الى شجرة يانعة. وهكذا الحالة بالنسبة الى الاشجار الأخرى النابتة في هذه الأرض، فانّها هي الأخرى سوف تصلح.

سوء الخلق فيروس الفساد

وهذه القاعدة تنطبق علينا أيضاً نحن البشر، فنحن يجب علينا أن نقضي على فيروس الجريمة، وهذا الفيروس هو في الحقيقة (الخُلق السيّء) كما أشرنا إلى ذلك فيما مضى؛ وعلى سبيل المثال فانّ ظاهرة توجيه السباب والشتائم هي من الظواهر الشائعة في مجتمعاتنا، وهذا السباب يمثّل الوجه القبيح لثقافة الإنسان. وقد نهت الشريعة الإسلامية عن هذه الصفة نهياً شديداً، وطالبت الإنسان المؤمن أن يترفّع، وينـزّه نفسه عن مثل هذه الممارسات. فقد نهته حتّى عن توجيه السباب الى أعداء الدين، فما بالك بسبّ بعضنا البعض، وما بالك بتوجيه الشتائم الى الزمن والأشياء الجامدة التي لا تمتلك خطأً من العقل والتفكير؟!.

إنّ هذه الظاهرة أدّت إلى ظهور حالة نفسية سلبيّة، وهذه الحالة النفسيّة هي التي ولّدت الحكام الدكتاتوريّين.

وربّما نتساءل في هذا المجال متعجّبين: ترى كيف تؤدّي ظاهرة السباب الى حدوث الجرائم؟!

والجواب على هذا السؤال بحاجة إلى خبير في علم الأخلاق والاجتماع والسياسة لكي يفصل لنا كيف أنّ هذا الفيروس الصغير يتوالد ويتكاثر حتّى يؤدّي إلى انهيار المجتمع برمّته. فالفيروس المادّي الذي لا نستطيع أن نراه بالعين المجرّدة بإمكانه أن يقضي على حياة الناس الأقوياء الأشدّاء من الناحية الجسميّة، وهكذا الحال بالنسبة إلى السباب.

الشكر يساوي الإيجابية

وفي هذا المضمار يقول ربنا عز وجل: «وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلآءِ مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِاَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ» (الانعام/53) والقرآن الكريم يريد أن يقول لنا هنا إنّ هناك رجالاً يتفوّقون على رجال آخرين، وأنّ هناك أشخاصاً يسبقون أشخاصاً آخرين، والسبب في هذا التفضيل هو أنّ الطبقة التي فُصِّلت تتمتّع بخصلة الشكر.

والشكر يعني نفسيّة إيجابية مبادرة تتمتّع بصفة الاستباق الى الخيرات، والمسارعة نحو العمل الصالح؛ وعلى سبيل المثال نفترض أنّ هناك شخصين كلاهما يؤدّيان الصلاة، ولكنّ الأول بمجرّد أن يسمع هتاف (الله أكبر) ترى قلبه ينتفض ويهتزّ، وجوارحه تخشع، فيسارع للتوجّه الى القبلـة لينهمـك فـي أداء الصلاة. أمّـا الثانـي فـانّـه يــؤدي الصــلاة هـو الآخـر ولكنـه يماطل، ويسوّف في أدائها، فتراه مثلاً يؤخّر صلاة الظهـر والعصــر الى قبيـل غروب الشمس فيصلّيها بأسرع ما يمكن لئلاّ تفوتـه هذه الصـلاة، فتتحول كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله: "نـقر كنقر الغراب".([35])

وفـي هذا المجـال يقـول الله عـز وجــل: «فَوَيْـلٌ لِلْمُصَلِّيـنَ* الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُـرَآءُونَ * وَيَمْنَعُـونَ الْمَاعُونَ» (الماعون/4-7) فالله عندما أمرنا بالمسارعة إلى أداء الصلاة في ندائه "حي على الصلاة" فانّ من المفترض فينا أن نقوم مسرعين لأدائها.

وفي مجال حياتنا اليوميّة نرى مثلاً أنّ هناك موظّفاً قابعاًً وراء طاولته، ولكن القلق والضجر يسيطران عليه في جميع أوقات دوامه، فعندما يأتيه مراجع فانّه ينظر إلى وجهه وكأنّه ينظر إلى ملك الموت. في حين إنّنا قد نصادف موظّفاً لطيفاً، حسن الأخلاق ذات نفسيّة منشرحة وإيجابية، ويتمتّع بصفة المبادرة والمسارعة الى خدمة الآخرين، فتراه ما أن يفرغ من أعماله حتّى يبادر إلى إنجاز أعمال زميله.

مجتمع سلبيّ

وللأسف فلأنّ مجتمعنا هو مجتمع سلبيّ تراكمت عليه الأغلال النفسية والثقافية، فانّنا نكره العمل أساساً، ولا نعرف الواجب، ولذلك ترانا في حالة تقهقر وتراجع؛ في حين أنّ الشعوب الأخرى تتقدّم لأنّها تعشـق العمل، ففي بعض البلدان عندما تشير الساعة الى الثانية بعد الظهــر حيـث من المفترض في الجميع أن يغادروا أماكن عملهم، ترى الموظّف في بعض الأحيان يعمل حتّى الساعة الثالثة أو الرابعة الى أن ينبّههه صاحب العمـل.

وبالطبع فانّ العمل يعتبر من الأمور اللطيفة في الحياة، وقد ربّانا الإسلام على أساس حب الحياة، وحبّ العمل، والكدح في سبيل التقدم، ولكنّ الروحيات السلبيّة السائدة في أوساطنا جعلت كلّ واحد في مجتمعنا يتكاسل، ويتقاعس في أداء عمله؛ فترى العالم لا يؤدّي دوره بالكامل، وكذلك الحال بالنسبة إلى الطبيب والمهندس والعسكري... وهذا ما يؤدّي الى تخلّف المجتمع وبالتالي إلى ابتلائه بأشخاص طغاة، وبأوضاع متدهورة كهذه الأوضاع التي نلمسها الآن.

وفي المقابل؛ فانّ النفسيّة الشاكرة هي على العكس من ذلك تماماً، وإذا ما تتبعنا تأريخ القرآن الكريم فانّنا سنرى أنّه قد نزل فـي بيئـة الجزيــرة العربية حيث كانت الروح السلبيّة قد بلغت الحضيض؛ فقد كان الأب يقتل ابنته، بل كان يقتل حتّى الأولاد الذكور، وعندما يسأل عن سبب سلوكه هذا يجيب بأنّه لا يمتلك امكانيّات يؤمّن مـن خلالهـا معيشتهم، وقد نهى القرآن الكريم عن هذه الممارسة المغلوطة المنحرفـة قائلاً: «وَلاتَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِنْ إِمْلاقٍ» (الانعام/151).

وفي مثل هذه البيئة السلبيّة نزل القرآن الكريم، فبثّ الروح الإيجابية، وبعث الأمل، وأمر بالشكر، وبثّ روح الصبر والاستقامة والتحدّي والحيويّة، فترى هذا الكتاب العظيم قطعة من الحياة والنور.

لماذا اليأس والقنوط؟

إنّ علينا أن نعرف أنّ وراء الليل وظلامه ووحشته، نهاراً وفجراً، وأنّ الدنيا لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحدّ، فلماذا اليأس والقنوط؟

إنّ الحكام الظلمة الجائرين سينتهون، لأن سنّة الله تعالى في الظالمين أن لا يبقوا كما يشير إلى ذلك قوله الكريـم: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ» (الشعراء/227).

وللاسف فإنّ هناك البعض يعيشون في هذه الحياة وكأنهم ينتظرون موتهم؛ فلا يتحرّكون، ولا يعملون، ولا يفكّرون.. في حين أنّ الحالة النفسيّة التي نعتقد على أساسها أنّ الدنيا منتهية هي حالة سيئة. وفي هذا المجال يروى أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على رجل يعوده وهو شاك فتمنّى الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تتمنّ الموت فإنّك إن تك محسناً تزدد إحساناً إلى إحسانك وإن كنت مسيئاً فتؤخّر لتستعتب فلا تمنّوا الموت".([36])

الحضارة في القرآن

إنّ من جملة ما نقرؤه في القرآن الكريم سورة المائدة، وإنّ كلمة (المائدة) هي رمز الى الحضارة. فهي لا تعني مجرّد الأكل، بل هي رمز الى مجموعة من الظواهر والأمور؛ أي إنّ هناك تجمّعاً بشريّاً حول الطعام، ومن المعلوم أنّ كلمة الحضارة مشتقّة من (الحضور)؛ أي حضـور بعض الناس عند البعض الآخر، والمائدة فيها أيضاً معنى (الحضارة) ولكن ليس حضوراً عبثياً بدون معنىً، بل حضور أعلى من الطعام، وعلى مصلحة مشتركة، فبالاضافة الى الحضور المجرّد هناك أيضاً حضور، وتمحور حول مصلحة.

ثم إنّ القرآن الكريم عندما يتحدّث حول (المائدة) فانّه يضرب لنا مثلاً حول أهدافها فيقول وقوله الحق-: «إِذْ قَالَ الْحَوارِيُّونَ يَـا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمآءِ» (المائدة/112) وبذلك يتّضح لنا أن المائدة على نوعين هنا؛ مائدة من الأرض، ومائدة من السماء؛ أي حضارة أرضية، وحضارة إلهيّة سماويّة، وعلينا أن نسعى من أجل أن نبعث الحضارة الإلهيّة في الأرض.

التقوى مبدأ كلّ حضارة

والحضارة الإلهية يفسّرهـا القرآن الكريم في قولـه أولاً: «اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ» (المائدة/112)؛ أي إن التقـوى هي بداية كلّ حضارة. فنحن عندما نلتزم بحدود الله تبارك وتعالى، فانّه بدوره سـوف ينـزّل علينا مائدة من السماء، كما يستفاد من قوله تعالى: «وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» (الطلاق/2-3). وعلى هذا فانّ التقوى هي طريق الرزق، والخيرات، ونـزول الموائد السماويّة.

من لا معاش له لا معاد له

ومـن ثم يقول ربنـا عز وجــل: «اتَّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ * قَالُوا

نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا» (المائدة/112-113) فالحواريّون الذين كانوا يمثّلون نخبة واعية، طاهرة، لا تشوب حياتهم شائبة من الذنوب والخطايا، وكانوا متفرّغين لله سبحانه وتعالى، وللعمل الرساليّ، أقول: إنّ هؤلاء الحواريّين أظهروا رغبتهم في أن يأكلوا من تلك المائدة وكأنّهم يريدون أن يقولوا لنا إنّ الذي لا يأكل الخبز لا يمكن أن يؤدّي الصلاة، وإنّ من لا معاش له لا معاد له. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "اللهم بارك لنا في الخبز، ولا تفرق بيننا وبينه؛ فلولا الخبز ما صمنا ولا صلّينا ولا أدينا فرايض ربنا".([37]) أي إنّ الخبز يمثّل الحاجة الأولى التي يفتّش عنها الإنسان، فتوفير الحاجات المادّية هو بداية بناء الحضارة.

توفير الأمن من أهداف الحضارة

ثم يذكر الحواريّون هدفاً آخر من أهداف طلبهم لإنـزال المائدة في قولهم: «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا» (المائدة/113). فالقلب المهتزّ المضطرب لا يمكن لصاحبه أن يبني حضارة، بينما القلب المطمئن هو وحده الذي يستطيع أن يشيّد صرح الحضارة، وهكذا فانّ أحد أهداف بناء الحضارة هو توفير الأمن، وأبعد مدىً للأمن هو حصول الاطمئنان القلبي.

ثم يقول الله تعالى بعد ذلك على لسان الحواريّين: «وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا» (المائدة/113) فبعد الأمـن والاحسـاس بالطمأنينة يأتــي دور العلم والتكامل المعنوي الذي يمثّل أحد أهداف الحضارة.

التطلّع نحو القيادي

ثم يذكر الحواريّون هدفاً آخر من أهداف الحضارة، ألا وهو التطلّع نحو قيادة الشعوب المستضعفة، وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه: «وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ» (المائدة/113).

إن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربّه قائلاً: «اللّهُمَّ رَبَّنَآ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِنَ السَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وءَاخِرِنَا» (المائدة/114). فلننظر الى هذه الروح الإيجابية المتفائلة، فهناك فكرة أن تكون هذه المائدة عيــداً، ومناسبة للفرح والسـرور على عكس البعض من الناس الـذي يتوهّمون أنّ الحياة كلّها حزن وغم.

التكامل المعنويّ

وبالإضافة الى العيد كحالة مادّية نستبشر بها فانّنا بحاجة الى تكامل معنويّ يشير إليه النبي عيسى عليه السلام في قوله وهو يدعو ربّه: «... وءَايَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي اُعَذِّبُهُ عَذَاباً لآ اُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ» (المائدة/114-115) فاذا ما نزلت النعمة ثم كفر الإنسان بها فانّها ستتحوّل الى نقمة وعذاب.

تزكية النفس ؛ المرحلة الأولى للتغيير

وباختصار! فانّنا بالاضافة إلى تعاملنا، وتفاعلنا مع الأحداث السياسيّة، ووقائع حياتنا اليوميّة، لابدّ أن لا نغفل في نفس الوقت عن تربية أنفسنا، وتزكيتها بالدرجة الأولى، لأنّ الله تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيروا ما بأنفسهم، ولأنّ المبادرة الى تزكية النفس وتطهيرها من أدران الذنوب والشوائب الدنيوية تمثّل المرحلة الضرورية الأولى في عملية الاصلاح والتغيير.

وبعد أن نتجاوز هذه المرحلة بنجاح علينا أن نتّجه بعد ذلك الى تربية الأمّة واقتلاع جذور الفساد منها، وانتشالها من مستنقع التشاؤم والسلبيّة والانطواء على النفس.. وإذا ما استطعنا أن نتجاوز هذه الحالة السلبيّة، ونبعث في أنفسنا روح التفاؤل والمبادرة وروح الاستقامة والصبر والتحدّي والاقتحام، والهمّة والعزم الذي لا يلين.. فانّنا سنستطيع آنذاك أن نصلح حياتنا، ونصلح حياة الأمم الأخرى في جميع المجالات، ذلك لأنّ الروح الإيجابية هي الأساس في عمليّة الإصلاح والتغيير.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page