• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

السبيل الى اكتشاف الذات

السبيل الى اكتشاف الذات

من أعظم الأهداف التي سعت الى تحقيقها رسالات السماء، أن تقدّم العون للإنسان من أجل أن يكتشف ذاته؛ لأنه عندما يولد؛ يولد وكل جوارحه وأحاسيسه عبارة عن نوافذ تطل على العالم الخارجيّ، وتسعى من أجل اكتشافه؛ وعلى سبيل المثال فان عين الإنسان موجّهة الى الخارج، وهكذا الحال بالنسبة الى أذنه، وحاسة اللمس، والذوق، والشم عنده.

وفي خلال مسيرته التي قد تطول سيكتشف الكثير من حقائق، وظواهر هذه الدنيا المحيطة به، ولكنه مع ذلك قد يبقى في النهاية غير مكتشف لنفسه التي هي أقرب الأشياء إليه. وهنا يبدأ التناقض الكبير بين إنسان يعرف كلّ شيء عن العالم، ولكنه لا يعرف في ذات الوقت أيّ شيء عن بيته الذي هو أقرب الأشياء إليه من بين العالم المحيط به.

وهذا التناقض من شأنه أن يحمل الإنسان الى مالا تحمد عقباه؛ فمشكلة الغالبية العظمى من الناس تكمن في هذا الجانب، وهو أنّهم لم يكتشفوا أنفسهم، ومثل هؤلاء يقتلون الطموح في داخلهم، ويولدون بشراً ولكنّهم يموتون كما تموت الأنعام إن لم يكونوا أضلّ سبيلاً؛ فالواحد منهم يحلم في البدء أن يكون عبد الله تبارك وتعالى، وإذا به يتحوّل الى عبد للطاغوت؛ وفي البدء تراه يسعى من أجل الحصول على الجنة، ثم إذا بك تراه يسعى من أجل دار صغيرة ينتقل منها الى قبر ضيّق؛ وفي البدء قد تراه يحلم بأن يكون مصلحاً في هذا العالم، ثمّ إذا به يتحوّل الى جزءٍ وأداة من جهاز الإفساد.

أين المهرب من الضمير؟

والإنسان في هذه الحالة إذا تحاكم الى ضميره أصابه الندم، ولكنك ترى أنّ البعض يهرب من ضميره كالذي يهرب من ظلّه؛ وعلى سبيل المثال فان أولئك الذين يتّجهون الى المخدّرات، وعالم الجريمة، والمشروبات الكحولية.. فانّ أهم هدف من أهدافهم الهروب من الضمير، ولكن أين يهربون يا ترى مما يلازمهم؟

والقرآن الكريم يصف مثل هؤلاء في قوله: «يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَاَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمآءِ» (الانعام/125) فترى الواحد منهم يعيش دائماً الحرج، والقلق الداخلي. وهذه الظاهرة تعود أولاً الى عدم اكتشاف الذات، ذلك لأن الإنسان خُلق سويّاً، وخلق طموحاً ومتطلعاً، ولكنّه انتهى الى هذه السبل بسبب عدم محاولته اكتشاف ذاته ومعرفتها. فمن المستحيل لإنسان يعرف نفسه، ويتحسّس بكرامتها، أن يقع في مثل تلك المطبّات؛ فهو عندما يرتكب الفاحشة، وعندما يختار الطريق المنحرف يكون قد انسلخ عن ثقته بنفسه واستقلاله واحساسه بذاتيّته وعزّته، فتراه يركض وراء السراب...

السعادة في الذات

ومن المشاكل الأخرى التي يبتلي بها هذا الإنسان، هي مشكلة فقدان السعادة. ففي كثير من الأحيان نرى الإنسان يركض سنين طويلة من عمره وراء السراب، في حين أنّ الماء قريب منه. فنحن نبحث عن السعادة في غير ذواتنا، في حين أنّها أي السعادة موجودة فيها.

وفي الحقيقة؛ فانّ جهد الحكماء، وعلماء الأخلاق، والأنبياء العظــام من قبلهم كان يتلخّص في لفت نظر الإنسان الى أنّ السعادة في ذاته. فمـن الضلال المبين، والضياع الدائم أن نبحث عن السعادة خارج إطار أنفسنا.

ولإيضاح هذه الفكرة أضرب المثال التالي؛ لنفترض أنّ هناك أشخاصاً يتوفّر كل شيء لديهم من الناحية المادية، ولكنّ شيئاً واحداً غير متوفّر لديهم وهو أنفسهم. فهم لا يمتلكون شيئاً اسمه (الذات)، وبالنتيجة فانّهم لا يمتلكون السعادة؛ وعلى سبيل المثال مرّة أخرى- فانّ باستطاعة الواحد منهم أن يركب طائرته، ويذهب الى أيّ مكان، ولكنّه لا يمتلك الهدف الذي من أجله يذهب إلى هذا المكان أو ذاك. فالإنسان الذي يرغب في رؤية العالم فانّ الطائرة تنفعه، فهو يركب هذه الطائرة لرؤية العالم، ولكنّ أولئك الذين لا يملكون رغبة في رؤية العالم، لا فائدة ركوبهم الطائرة، أو تحرّكهم من مكان إلى آخر؟!

من موجبات السعادة

وهكذا فانّ العمل الرئيس للرسالات الإلهيّة أن تعطي الإنسان الهـدف، وأن ترسم أمامه شيئاً يتحرّك نحوه، لأنه يمتلك - على الأقل- الذاتية. ولكن البعض من الناس يعيشون للأسف في سجون أنفسهم الضيّقة، رغم أنهم يعيشون في هذا العالم الرحب، فتراهم لا يعيشون مأساة أمتهم.

وعلى هذا الأساس؛ فان اكتشاف الذات هو الهدف، فلابد للإنسان أن يكتشف نفسه، ويغور في داخله، وأن لا يركّز نظره على ما حوله دائماً، بل عليه أن يرى في بعض الأحيان ما في داخل نفسه. فانظر أيّها الإنسان الى نفسك، واكتشف خفاياها، ففيها كنوز عجيبة.

الكذب ؛ العائق الأكبر

والشيء الذي يمنع الإنسان من أن يكتشف ذاته، هو الكذب. فقد قال الإمام الحسن العكسري عليه السلام: "جعلت الخبائث كلها في بيت وجعل مفتاحها الكذب".([26]) فالكذب يفقد الإنسان رؤيته الحقيقية الى العالم، والى نفسه، وهو عين الظلام، وهو يشبه الى حدّ كبير أن يجعل الإنسان نفسه في زنزانة، ويغلق الأبواب لأنه لا يرى الحقائق كما هي. فالإنسان في البداية يكذب على الناس، ولكنّه كما يكذب عليهم فانه يكذب قبل ذلك على نفسه، وفي داخله تتغيّر صفة أساسية هي الاستقامة. ولذلك كانت الكذبة الأولى صعبة على الإنسان، في حين إن الثانية والثالثة تكون أسهل عليه حتى يتعوّد على الكذب تماماً. هذا ما صرحت به رواية أبي بصير، إذ قال: سمعت أبا عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام يقول: "إن العبد ليكذب حتى يكتب من الكذابين، وإذا كذب قال الله: كذب وفجر". ([27])

فعندما يصبح الإنسان كذاباً، لا يمكن إصلاحه، فهو يكذب حتـى فيما يضرّه، لأنه يعيش في الواقع حالة أخرى، لأن كــل حقيقـة خارجية تعكس في داخل الإنسان شيئاً، فعندما يكذب فـان الكذب هــذا ينعكس على نفسه، ولذلك يقول الله تعالى: «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُـمْ» (النساء/142) ويقــول سبحانــه في آية آخــرى: «وَمَـا يَخْدَعُونَ إِلآَّ أَنْفُسَهُـمْ» (البقرة/9).

إنّ هذه الحالة تتحـوّل شيئـاً فشيئـاً الى ختم على القلب، وغشـاوة علــى العين. وهذا ما نقرؤه في سورة البقرة في قول الله تعالـى: «خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» (البقرة/7) فهم يعيشون منذ الآن في العذاب الأليم، لا في الآخرة فحسب.

التبرير مرض خفيّ

وهناك مشكلة أعظم، وأكثر خطورة من الكذب يعاني منها الإنسان، لأنها أكثر خفاءً، فالمرض خفي، كلّما كان أكثر خطورة؛ لأنه يغزو الجسم من حيث لا يشعر الإنسان. وهذه الحالة تنطبق تمام الانطباق على مرض (التبرير)، أو الكذب المغلّف.

ونحن إذا فتّشنا عن الهدف الحق للرسالات الإلهية، سنكتشف أن الهدف لم يكن مقاومة الكذب العلني فحسب، فالناس كانوا يخدعون أنفسهم؛ والكفار، والمشركون كانوا يعتقدون أنهم على حق؛ وكانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله يبرّرون شركهم بقولهم: إنّ الأصنام تقرّبهم الى الله جل وعلا زلفى.

وهكذا فانّ الأنبياء جاؤوا لمقاومة التبرير، لا لمقاومة الكذب الظاهر؛ والدليل على ذلك القرآن الكريم نفسه، فهو ينقل لنا جدل الكفار والمشركين، وكيف أنّهم يضربون الأمثال المضلّة، ويحاولون أن يقلبوا الحقائق، كما يشير ربنا تعالى إلى ذلك في قوله: «انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الاَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً» (الاسراء/48)، وقوله: «وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» (يس/78).

والقرآن الكريم يحدّثنا في بعض الأحيان عن حالة من الجدل تتحكّم في الإنسان، فيقول: «وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً» (الكهف/54)، وفي آية أخرى: «فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ» (يس/77)؛ أي إن هذه النطفة الحقيرة المتواضعة من شأنها أن تتحوّل إلى إنسان يجادل الرسالة الإلهية، ويقف في وجهها.

والهدف من الرسالات الإلهية القضاء على هذه الصفة السلبيّة في نفسه الإنسان، ألا وهي صفة التبرير، والالتفاف على الحقائق.

ونحن نسأله عز وجل أن يجنّبنا داء التبرير العضال، هذا الداء الذي يعيق مسيرة التقدّم والتكامل، والذي يحول دون أن يكتشف الإنسان ذاته ويعرفها؛ هذا الاكتشاف الذي يعتبر نقطة البداية، والمنعطف الحساس والخطير في مسيرة الإنسان؛ إذ من خلال اكتشاف الذات يستطيع الإنسان وبكل مقدرة أن يكتشف العالم المحيط به، والظواهر التي تدور حوله.

 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page