• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي شارح «نهج البلاغة» يقول

فأمّا فضائله(عليه السلام) فإنّها قد بلغت من العِظَم والجلال والانتشار والاشتهار مبلغاً يسمج معه التعرّض لذكرها والتصدّي لتفصيلها.
وما أقول في رجل أقرّ له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنّه استولى بنو اُميّة على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريف عليه ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعّدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً. حتى حظروا أن يسمّى أحد باسمه!! فما زاده ذلك إلاّ رفعةً وسموّاً، وكان كالمسك كلّما ستر انتشر عرفه، وكلّما كتم تضوّع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عيناً واحدةً أدركته عيون كثيرة. وما أقول في رجل تُعزى إليه كلّ فضيلة، وتنتهي إليه كلّ فرقة، وتتجاذبه كلّ طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلّي حلبتها، كلّ من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى. وقد عرفت أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهي; لأنّ شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم، ومن كلامه(عليه السلام)اُقتبس، وعنه نُقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ.
ومن العلوم: علم الفقه، وهو(عليه السلام) أصله وأساسه، وكلّ فقيه في الإسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
وأمّا عُمَر فقد عَرَف كلُّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرّة: «لولا عليّ لهلك عمر». وقوله: «لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن»، وقوله: «لا يُفِتَينَّ أحد في المسجد وعليّ حاضر». فقد عُرف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه.
وقد روت العامّة والخاصّة قوله(صلى الله عليه وآله): «أقضاكم عليّ»، والقضاء هو الفقه، فهو إذاً أفقههم.
وروى الكلُّ أيضاً أنّه(عليه السلام) قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضياً: «اللهمّ اهدِ قلبه وثبّت لسانه». قال: «فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين».
وهو(عليه السلام) الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستّة أشهر. وهو الذي أفتى في الحامل الزانية.
وهو الذي قال في المنبرية: «صار ثمنها تسعاً». وهذه المسألة لو فكّر الفرضيّ فيها فكراً طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنُّك بمن قال بديهةً واقتضبه ارتجالا. ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه اُخِذ، ومنه فُرِّع، وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك.
ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافّةً أنـّه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبي الأسود الدُؤَلي جوامعه واُصوله، من جملتها: «الكلام كلّه ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف». ومن جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى: الرفع والنصب والجرّ والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات; لأنّ القوّة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط. وإن رجعت إلى الخصائص الخلقيّة، والفضائل النفسانيّة والدينيّة وجدته ابن جلاها وطلاّع ثناياها.
أمّا الشجاعة: فإنّه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة تُضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة. وهو الشجاع الذي ما فرّ قطّ، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحداً إلاّ قتله، ولا ضرب ضربةً قطّ فاحتاجت الاُولى إلى ثانية.
وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأمّا قتلاه فافتخار رهطهم بأنّه(عليه السلام) قتلهم أظهر وأكثر([2]).
وجملة الأمر: أنّ كلّ شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادي في مشارق الأرض ومغاربها.
وأمّا القوة والأيد: فبه يُضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في «المعارف» : ما صارع أحداً قطّ إلاّ صرعه، وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه. وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة وكان عظيماً جدّاً فألقاه إلى الأرض. وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته(عليه السلام)وبيده بعد عجز الجيش كلّه عنها، وأنبط الماء من تحتها. وأمّا السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة، وكان يصوم ويطوي، ويؤثر بزاده، وفيه اُنزل: (وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً)([3]) وروى المفسرون: أنّه لم يكن يملك إلاّ أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً، وبدرهم علانية، فاُنزل فيه:
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً)([4]).
وروي عنه(عليه السلام) أنّه كان يَسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده، ويتصدّق بالأُجرة، ويشدّ على بطنه حجراً.
وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب وأصفحهم عن مُسيء، وقد ظهرت صحة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له وأشدّهم بغضاً فصفح عنه. وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم عليّ بن أبي طالب!! وكان عليّ(عليه السلام) يقول: «ما زال الزبير رجلا منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله»، فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيراً فصفح عنه، وقال: «إذهب فلا أرينّك»، لم يزده على ذلك. وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكّة، وكان له عدوّاً فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً. وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلمّا ظفر بها أكرمها وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهنّ بالعمائم، وقلّدهن بالسيوف، فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأفّفت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكّلهم بي، فلمّا وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهنّ وقلن لها: إنّما نحن نسوة. وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيف وشتموه ولعنوه، فلمّا ظفر بهم رفع السيف عنهم ونادى مناديه في أقطار العسكر: «ألا لا يُتَبع مول، ولا يُجَهز على جريح، ولاُيقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيّز إلى عسكر الإمام فهو آمن»، ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كلّ ذلك لفعل، ولكنّه أبى إلاّ الصفح والعفو، وتقبّل سنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)يوم فتح مكة، فإنّه عفا، والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تُنسَ. ولمّا ملك عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً. سألهم عليّ(عليه السلام)وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله ولا قطرة حتى تموت ظمأً كما مات ابن عفان، فلمّا رأى(عليه السلام) إنّه الموت لا محالة تقدّم بأصحابه وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفةً حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم. فقال له أصحابه وشيعته: امنعهم الماء يا أميرالمؤمنين كما منعوك، ولا تَسقِهِم منه قطرةً واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب.
فقال(عليه السلام): «لا والله، لا اُكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك».
فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله(عليه السلام).
وأمّا الجهاد في سبيل الله: فمعلوم عند صديقه وعدوّه: أنّه سيّد المجاهدين، وهل الجهاد لأحد من الناس إلاّ له، وقد عرفت أنّ أعظم غزاة غزاها رسول الله(صلى الله عليه وآله)وأشدّها نكايةً في المشركين بدر الكبرى، قُتل فيها سبعون من المشركين، قتل عليّ(عليه السلام)نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر.
وإذا رجعت إلى مغازي محمّد بن عمر الواقدي، وتاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك. دع مَن قتله في غيرها كأُحد والخندق وغيرهما، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه، لأنّه من المعلومات الضروريّة، كالعلم بوجود مكّة ومصر ونحوهما.
وأمّا الفصاحة: فهو(عليه السلام) إمام الفصحاء، وسيّد البلغاء، وعن كلامه قيل: «دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين»، ومنه تعلّم الناس الخطابة والكتابة.
قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبةً من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباتة: حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعةً وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ عليّ بن أبي طالب.
ولمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيى الناس! قال له: ويحك! كيف يكون أعيى الناس؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره.
ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالةً على أنّه لا يُجارى في الفصاحة، ولا يُبارى في البلاغة، وحسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العشر ولا نصف العشر ممّا دوّن له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب «البيان والتبيين» وفي غيره من كتبه.
وأمّا سجاحة الأخلاق وبشر الوجه، وطلاقة المحيَّا([5]) والتبسّم: فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه. قال عمرو بن العاص لأهل الشام: إنّه ذو دعابة شديدة. وقال عليّ(عليه السلام) في ذاك: «عجباً لابن النابغة يزعم لأهل الشام أنّ فيّ دعابة، وأنّي امرؤ تلعابة اُعافس واُمارس». وعمرو بن العاص إنّما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لمّا عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك. إلاّ أنّ عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمّجها.
وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلا في محبّيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
وأمّا الزهد في الدنيا: فهو سيّد الزهّاد، وبدل الأبدال، وإليه تُشدّ الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قطّ، وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً.
قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد فقدّم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبزَ شعير يابساً مرضوضاً، فقدّم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: «خفت هذين الولدين أن يلتّاه بسمن أو زيت». وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة، وبليف اُخرى، ونعلاه من ليف، وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمّه طويلاً قطعه بشفرة ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سُدىً لا لُحمة له.
وكان يأتدم إذا ائتدم بخلٍّ أو بملح، فإن ترقّى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلاّ قليلا، ويقول: «لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان»، وكان مع ذلك أشدّ الناس قوّة، وأعظمهم يداً، لم ينقص الجوع قوّته، ولا يُخَوِّن الإقلال منّته، وهو الذي طلّق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلاّ من الشام، فكان يفرّقها ويمزّقها ثم يقول:  ذا جناي وخياره فيه إذ كلّ جان يده إلى فيه
وأمّا العبادة: فكان أعبد الناس، وأكثرهم صلاةً وصوماً، ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد، وقيام النافلة.
وما ظنّك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفّين ليلة الهرير فيصلِّي عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمرّ على صماخيه يميناً وشمالا، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته؟! وما ظنّك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده؟ وأنت إذا تأمّلت دعواته ومناجاته ووقفت على مافيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله([6]) وما يتضمّنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزّته، والاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أيّ قلب خرجت، وعلى أيّ لسان جرت.
وقيل لعليّ بن الحسين(عليهما السلام) وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدّك؟ قال:«عبادتي عند عبادة جدّي كعبادة جدّي عند عبادة رسول الله(صلى الله عليه وآله)».
وأمّا قراءته القرآن: واشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب. اتفق الكلّ على أنّه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أوّل من جمعه وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القُرّاء كلّهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء، وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنّهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القاري، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفنّ من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً، مثل كثير ممّا سبق.
وأمّا الرأي والتدبير: فكان من أسَدِ الناس رأياً، وأصحِّهم تدبيراً، وهو الذي أشار على عمر لمّا عزم على أن يتوجّه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار، وهو الذي أشار على عثمان بأُمور كان صلاحه فيها ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث، وإنّما قال أعداؤه: لا رأي له لأنّه كان متقيّداً بالشريعة، لا يرى خلافها ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه، وقد قال(عليه السلام): «لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب».
وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوفقه، سواء كان مطابقاً للشرع أم لم يكن([7]). ولا ريب أنّ من يعمل بما يؤدّي إليه اجتهاده ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها ممّا يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيويّة إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتشار أقرب([8]).
وأمّا السياسة: فإنّه كان شديد السياسة، خشناً في ذات الله، لم يراقب ابن عمّه في عمل كان ولاّه إيّاه، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به. وأحرق قوماً بالنار ونقض دار مصقلة بن هبيرة، ودار جرير بن عبد الله البجلي، وقطع جماعة، وصلب آخرين.
ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان وفي أقل القليل مقنع فإنّ كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل(عليه السلام) في هذه الحروب بيده وأعوانه. فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنّه فيها الإمام المُتَّبعُ فعله، والرئيس المقتفى أثره.
وما أقول في رجل تحبّه أهل الذِمّة على تكذيبهم بالنبوّة([9])، وتعظّمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملّة، وتصوّر ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها حاملاً سيفه، مشمّراً لحربه، وتصوّر ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها. كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان على سيف ألب أرسلان وابنه ملكشاه صورته كأنّهم يتفاءلون به النصر والظفر([10]).
وما أقول في رجل أحبّ كلّ أحد أن يتكثّر به، وودّ كلّ أحد أن يتجمّل ويتحسّن بالانتساب إليه، حتى الفتوّة التي أحسن ما قيل في حدّها: «أن لا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك». فإنّ أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنّفوا في ذلك كتباً، وجعلوا لذلك أسناداً أنهوه إليه، وقصروه عليه، وسمّوه سيّد الفتيان، وعضدوا مذهبهم بالبيت المشهور المرويّ أنّه سمع من السماء يوم اُحد: لا سيفَ إلاّ ذُو الفقارِ ولا فتى إلاّ عليّ
وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيّد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكّة؟ قالوا: قلّ أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسمّيه الشيخ وله مع شرف هذه الأُبوّة أنّ ابن عمِّه محمّد سيّد الأوّلين والآخرين، وأخاه جعفر ذو الجناحين الذي قال له رسول الله(صلى الله عليه وآله)«أشبهت خَلْقي وخُلُقي». فمرّ يحجل فرحاً. وزوجته سيّدة نساء العالمين، وابنيه سيدا شباب أهل الجنّة. فآباؤه آباء رسول الله، واُمّهاته اُمّهات رسول الله، وهو مسوط بلحمه وبدمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلّب بين الأخوين: عبد الله وأبي طالب، واُمّهما واحدة فكان منهما سيّدا الناس، هذا الأوّل، وهذا التالي، وهذا المنذر، وهذا الهادي.
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده وكلّ من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلاّ السابق إلى كلّ خير محمّد رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟([11]) ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنّه(عليه السلام): أوّل الناس اتّباعاً لرسول الله(صلى الله عليه وآله)وإيماناً به، ولم يخالف في ذلك إلاّ الأقلّون، وقد قال هو(عليه السلام):«أنا الصدّيق الأكبر، وأنا الفاروق الأوّل، أسلمت قبل إسلام الناس، وصلّيت قبل صلاتهم». ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقّق ذلك وعلمه واضحاً، وإليه ذهب الواقدي وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجّحه ونصره صاحب كتاب «الاستيعاب»([12]).
وكان أمير المؤمنين(عليه السلام) في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه، لا يشكّ عدوّ ولا صديق أنّه أشرف خلق الله نسباً بعد ابن عمّه صلوات الله عليه، وقد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعدّدة قد ذكرنا بعضها، ومع ذلك فكان أشدّ الناس تواضعاً لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأسمحهم خلقاً، وأبعدهم عن الكِبر، وأعرفهم بحقّ، وكانت حاله هذه في كلا زمانيه: زمان خلافته والزمان الذي قبله، لم تغيّره الإمرة، ولا أحالت خلقه الرياسة، وكيف تحيل الرياسة خلقه وما زال رئيساً؟! وكيف تغيّر الإمرة سجيّته وما برح أميراً لم يستفد بالخلافة شرفاً ولا اكتسب بها زينة([13])؟! وقال البغداديون قاطبةً قدماؤهم ومتأخِّروهم: إنّ علياً أفضل من أبي بكر وأمّا نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله(عليه السلام). وقد ذكرنا في كتبنا الكلاميّة ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثواباً، أو الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة؟ وبيّنا أنّه(عليه السلام) أفضل على التفسيرين معاً([14]).
*******************
[1] ـ  طبع في مصر عام 1329 مطبعة دار الكتب العربية الكبرى.
[2] ـ قالت اُخت عمرو بن عبد ودّ ترثيه كما في شرح نهج البلاغة: ج1 ص7.
لو كان قاتل عمرو غير قاتِلِه  بكيتُهُ أبداً ما دُمت في الأبدِ
لكنّ قاتلَه مَن لا نظيرَ له  وكان يُدعى أبوهُ بيضةُ البلدِ
[3] ـ  الإنسان: 8  ـ 9.
[4] ـ  البقرة: 274.
[5] ـ المُحَيّا: الوجه، وقيل: جماعة الوجه، وقيل: حُرُّهُ. لسان العرب: ج3 ص429. (مادة حَيا)، (لجنة التحقيق).
[6] ـ جمع العلاّمة الشيخ عبد الله السماهيجي(رحمه الله) طائفةً منها في كتاب سمـّاه «الصحيفة العلوية والتحفة المرتضوية» طبع في الهند عام (1319 هـ ).
[7] ـ والشواهد على ذلك كثيرة، منها: تعطيل أبي بكر إقامة الحدّ على خالد بن الوليد صديقه الحميم لمّا قتل مالك بن نويرة ودخل بزوجته في ليلته، ومنها: قول عمر: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا اُحرِّمهما واُعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحجّ. راجع كتابنا «عمر بن الخطاب ومواقفه» والكتاب مطبوع.
[8] ـ  شرح نهج البلاغة : ص9.
[9] ـ  ومن سبر هذا الكتاب وقف على ما قاله بعضهم في إكبار شخصيته(عليه السلام)الفذّة وإعجابهم به.
[10] ـ  شرح نهج البلاغة : ص9.
[11] ـ ضلّ والله عن الهدى وأضلّ من قدّم غيره عليه في الخلافة وأخّره عن محلٍّ أقامه الله ورسوله(صلى الله عليه وآله) والعقل فيه، فهل من مدّكر؟
[12] ـ  الاستيعاب: ص10
[13] ـ  شرح نهج البلاغة: ص17، طبع في مصر عام (1329) مطبعة دار الكتب العربية الكبرى.
[14] ـ  شرح نهج البلاغة: ج1 ص3.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page