وقفت حائراً من أين أبدأ في الكتابة عن شخصية الإمام  هل أبدأ من بدء ولادته(عليه السلام) ثم نسبه وتربيته وإسلامه وكفالة الرسول له.
أم أبدأ من عبقريته الحربيّة، وشجاعته ومواقفه الفذّة وغزواته. أم من خلافته وتضحياته في سبيل الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله).
أم من شهادات الرسول له بالفضل والأسبقيّة، ورجاحة العقل، وشهادة الصحابة له.
أم أبدأ في حروبه وتسامحه مع أعدائه منذ أن بزغ فجر الإسلام حتى ارتقى إلى الرفيق الأعلى في شهر الصوم والإيمان صابراً محتسباً لله.
أم أبدأ من خرِّيجي مدرسته وانتشارها في جميع أنحاء العالم. أم أبدأ من تشريعاته التي لم تكن كالتشريعات الوضعيّة تنقضها نظريّة جديدة أو اجتهاد جديد.
أم أبدأ من إبداعه في علم الحساب والفرائض، وما المسألة العوليّة التي تنقلها كتب المواريث إلاّ نادرة من نوادر التاريخ تشهد له بالعلم الإلهامي، وإشراقة نفسه الإشراقة الإلهية التي يهبها الخالق جلّت قدرته لمن يشاء. أم أبدأ من فتوّته التي تهذّب النفس الإنسانية وتجعلها تعمل الخير للإنسانية. أم أبدأ من وضعه لعلم النحو.
أم من بلاغته وخطبه التي ستبقى ترنّ في اُذن الزمن حتى قيام الساعة.
أم من تفسيره للقرآن وكشف أسراره. أم من كراماته وزهده وحرصه على بيت المال، ومعاقبة أهله وعدم التسامح معهم فيما إذا امتدّت أيديهم إليه.
أم من نكرانه لذاته؟ أم من أيِّ باب أدخل؟! كلّ هذه المواضيع قد ظهرت أمامي وقلت: إن كتبت هذا فهل أنـّي موفّ حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)؟ أو هل أنّي أدرك في هذه الكتابة لبعض نواحي شخصيّته(عليه السلام) في تصوير الحقيقة التي جعلتها هدفي الأول؟
ثم توقّفت لأنّي وجدت بعض المواضيع لا يدركها العقل، فلو كتبت عن إنسانيّتة الكاملة وأنّى لي أن أكتب وأنا المَسبُوه([1]) العقل والمشرّد الفكر؟ وقد تشاطحت فيه الأقلام، وكلّت الأذهان، ووقف العقل حائراً أمام إنسانيته(عليه السلام)الكاملة التي لا تدرك.
ثم إن كتبت عن عبقريته الحربيّة، وشجاعته النادرة التي أذهلت قادة الاُمم فهو القائد المحنّك الذي شهد له جميع الناس من محبّين وأعداء بأنّه فارس المشارق والمغارب. والعبقرية شيء لا يمكن للعقل والقلم أن يصوّرها إلاّ من النواحي الظاهرة التي يقوم بها هو نفسه، أمّا النواحي الكامنة فإنّها لا تُدرَك مهما فكّر العقل في إدراكها.
ثمّ إن كتبت عن عليٍّ ونكرانه للذات فإنّي أحتاج لإدراك نفسيّته السامية التي تعالت فوق ما يدركه الإنسان، وحينئذ أدخل في حلقة مفرغة وأعود إلى البحث عن عليٍّ هو الإنسان الكامل، والعبقري الفذّ. ثمّ إن كتبت عن عليٍّ وخرّيجي مدرسته فإنّي أحتاج إلى المجلّدات.
ثمّ إن كتبت عن عليّ وتشريعاته فإنّما اُدوّن ما وصل إلينا، وإنّها بالنسبة للواقع قليلة لا تتناسب مع حياته الحافلة بالعلم والمعرفة، وإنّ لقوله: «سلوني قبل أن تفقدوني» لخير شاهد على ذلك، فلا بدّ هناك تشريعات قد أطمستها الحوادث، أو أطمسها التعصّب السياسي بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى، ومع قلّتها فقد بلغت مبلغاً كبيراً يستمدّ منها العلماء والفقهاء ما يصلح للدين والدنيا، وستبقى مدى الدهر تتجدّد ويستنبط منها الأحكام التي لا تغيّرها التشريعات الوضعيّة.
ثمّ إن كتبت عن عليٍّ وعلم النحو فإنّي أحتاج إلى الخوض في الإلهام من ناحية  ومن ناحية اُخرى لابدّ أن اُنادي بأنّ أوّل إنسان واضع للقواعد العربية ومنبّه عليها هو الإمام(عليه السلام); لأنّ حفظ اللغة العربية من اللحن معناه تثبيت قواعد القرآن الذي قال (قُرءاناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَج)([2])، والمحافظة على القرآن ولغته محافظة على الاُمّة العربية.
ثمّ إن كتبت عن عليٍّ وعلم البلاغة والخطابة فتقف أمامي عقبتان كأداوان([3])إحداهما بأن أنقل نماذج من خطبه التي جاءت في «نهج البلاغة» والكتب الاُخرى لبعض الخطب التي لم تذكر في نهج البلاغة، كالخطبة التطنجيّة التي حوت من الأسرار ما يقف العقل أمامها مبهوتاً حائراً، لأنّه ذكر في هذه الخطبة التطنجيّة([4]) ما سيقع في هذا العالم حتى قيام الساعة، وسمّى أشخاصاً بأسمائهم لم يولدوا بعد، وهذا ما يعجز القلم عن تصويره.
والعقبة الثانية: أنّ قسماً كبيراً من خطبه لا يدركها العقل، ولا يفيها الشرح مهما حاول ]الشارح[ ذلك. وإذن فسيبقى الموضوع مجهولا وغير مستوف للمراد.
ثمّ إن كتبت عن عليٍّ وغزواته فإنّي أحتاج إلى نقل كتب السير نصّاً، وهو يحتاج إلى وقت طويل وجهد كبير، وعناء شديد.
ثمّ لاحظت أنّ قسماً من كتب السير والمغازي لا تكمل الخبر الذي تنقله، بل تسكت عند نقطة تبقى النفس متشوّقة إلى ما ورائها، أو تأتي بالخبر المهمّ مقتضباً اقتضاباً مخلاًّ، وبالخبر البسيط مفصّلا ومطوّلا يخرج منه القارئ كليل الذهن متعبه، وما ذلك إلاّ لحاجة في نفس يعقوب قضاها.
ورحت أطوف بين هذه الآراء فقلت: لا لوم على من قال في حقّ عليّ(عليه السلام): إن قلت: ذا بشراً فالعقل يمنعني.
فإذن إنّي عاجز عن إدراك ذلك والعجز عن درك الإدراك إدراك ([5]).
*****************
[1] ـ السَبَهُ: ذهاب العقل من الهَرَم، ورجل مَسبُوهٌ وسَباه: مُدَلَّهٌ ذاهب العقل. لسان العرب: ج6 ص165 (مادة سبه).
[2] ـ  الزّمر: آية 28.
[3] ـ عقبة كَؤُودو كأْداء: شاقّة المصعد، صعبة المرتضى. لسان العرب: ج12 ص6 (مادة كَأَدَ).
[4] ـ الخطبة التطنجية: هي إحدى الخُطَب المنسوبة إلى الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام)والتي لم تُذكر في نهج البلاغة، وقد ذكرها الحافظ رجب البرسي في كتابه «مشارق أنوار اليقين في أسرار أميرالمؤمنين(عليه السلام)»: 263، وقد خطبها الإمام(عليه السلام) بين الكوفة والمدينة، وسمّيت «التطنجينة» نسبة إلى قوله(عليه السلام): «أنا الواقف على التطنجين خليجان من ماء كأنّهما أيسار تطنجين». وكذلك أوردها البارجيني في «إلزام الناصب» وغيره في «المجموع الرائق»، وذكرها الشيخ الطهراني في «الذريعة»: ج7 ص201. (مادة خطب). (لجنة التحقيق).
[5] ـ  سيرة الإمام عليّ الهادي(عليه السلام).

أضف تعليق