طباعة

لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة؟

لماذا لم تتزوج السيدة المعصومة؟

tab_al-masuma_02

ثم إنّ هناك أمراً لابدّ من البحث حوله وله صلة وثيقة بما نحن فيه، إذ له مدخلية في مكانتها الاجتماعية، ومنزلتها بين الناس، ذلكم هو عدم زواج السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).
والمستفاد من جملة الروايات أن بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) وعددهن إحدى وعشرون بنتاً لم تتزوج منهنّ واحدة.
ونقل المحدث القمي عن تاريخ قم ما حاصله: أنّ هذا كان سائراً في بنات الرضائيّة.(103)
وهذا أمر مثير للتساؤل، ولا سيّما مع ملاحظة أن ورد عن أهل البيت (عليهم السلام) من الحثّ على التناكح والترغيب فيه، وأنّ به إكمال ثلث الدين أو نصفه أو ثلثيه، فيا ترى ما هي الأسباب المانعة عن هذا الأمر في حق بنات الإمام الكاظم (عليه السلام)؟
وينبغي أن نؤكّد قبل كل شيء على أنّ عدم اقتران واحدة من بنات الإمام الكاظم (عليه السلام) بزوج ـ ولا سيّما السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ـ لم يكن عن عيب مانع في الخلق أو الخُلق، وقد مرّ علينا أنها كانت جليلة القدر ذات شأن عظيم، ومنزلة كبيرة، على أن هذا الأمر لم تنفرد به وحدها من دون سائر أخواتها، فلابدّ أن يكون المانع أمراً آخر، وهذا ما نسعى للبحث حوله بمقدار ما يسعفنا به ما ورد حول هذه القضية من الروايات.
ومن الضروري أن نلتفت قبل ذلك إلى أنّ هذا الأمر يعدّ من الشؤون الخاصّة التي هي أشبه شيء بالأسرار العائلية والأسريّة كغيرها من الخصوصيّات التي لا تكون معرضاً عامّاً لعامة الناس لإبداء أنظارهم فيها، وإنّما ساغ للباحث أن يتناول بعض الشؤون بالدراسة والتحليل لأنّ أهل البيت (عليهم السلام) يمثّلون القدوة الصّالحة التي ترشد الإنسان إلى طريق الحق والهداية، وقد صدرت الأوامر الإلهية والنبويّة بالإقتداء بهم، والسير على خطاهم، واقتفاء آثارهم، فإنّهم لا يخرجون الناس من باب هدى ولا يدلونهم في باب ضلالة.
ولعلّ السبب في قلّة الروايات الواردة في هذا الشأن خصوصيّة هذه القضيّة، وأنّها لا تعني سائر الناس وكونها من شؤونهم (عليهم السلام) الخاصّة بهم دون سواهم، كما لعلّه أيضاً لعدم اهتمام المؤرخين بهذه الناحية كما أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم.
ولكن لمّا كان في هذه القضية معصوم فلابدّ أن يكون الفعل معصوماً موافقاً لمقتضى الحكمة، وعلى طبق الموازين الإلهية سواء حالفنا التوفيق فأدركنا السبب أو أخفقنا فلم ندركه.
ثم إنّه بدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي والظروف المحيطة بأهل البيت (عليهم السلام) آنذاك قد نتمكّن من إعطاء صورة تقريبيّة عن الأسباب الكامنة وراء هذه القضيّة فنقول:
أولاً: إنّ نظرة سريعة إلى تاريخ حياة الإمام الكاظم (عليه السلام) تدلّ على أنّ تلك الفترة كانت تتسم بالتوتر والتوجس والرهبة والخوف، فبرغم ما عاناه الإمام الصادق (عليه السلام) من حكّام بني العباس وقد فرضوا عليه الحصار وتشدّدوا في عزله عن شيعته، وحاولوا بشتّى الوسائل اصطناع شخصيات مناوئة، للحيلولة دون انتشار فكر أهل البيت (عليهم السلام)، وبرغم حملات الإبادة التي تعرّض لها العلويون من قتل وسجن وتشريد. وهم ـ العباسيون ـ وإن نجحوا إلى حدّ ما في تفتيت البنية الظاهرية لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وألجئ الأئمة (عليهم السلام) إلى التقية في كثير من أحوالهم وشؤونهم على ما هو مذكور في كتب الفقه إلا أن فكر أهل البيت (عليهم السلام) بقي حيّاً زاخراً بالعطاء، الأمر الذي يدلّ دلالة قاطعة على أن العناية الإلهية تحوطه وترعاه، ويأبى الله إلا أن يتم نوره. فقد كان الإمام الصادق (عليه السلام) على تمام الحيطة والحذر، يحبط كثيراً من مخططاتهم بأساليبه الحكيمة، حتى إذا استشهد الإمام الصادق (عليه السلام) وقع الاضطراب الشديد في صفوف الشيعة، وقد ذكرنا في مطلع هذا البحث شيئاً من ذلك، وممّا زاد الأوضاع وخامةً ظهور الدعاوى الكاذبة التي ساعدت على زيادة ضغط السلطة على كل من ينتمي لأهل البيت (عليهم السلام) في الفكر والعقيدة. وكادت معالم التشيع أن تنطمس لولا ظهور الإمام الكاظم (عليه السلام) في الوقت المناسب مع حراجة الظروف وخطورتها.
فكانت الفترة التي عاشها الإمام الكاظم (عليه السلام) من أشدّ الفترات صعوبة، ولا سيّما في عهد الرّشيد العباسي الذي كان على معرفة بأنّ الإمام الكاظم (عليه السلام) هو صاحب الحقّ الشّرعي، وأنّ الشيعة لا ترضى بغيره بدلاً.
وإنّ أشدّ ما يقضّ مضجع الحاكم ويؤرّق حياته أن يرى أحداً ينافسه على السطلان، فهو إذ ذاك لا يقرّ له قرار، ولا يهنأ له عيش، ولا يشعر بالأمان حتى يفتك بخصمه أيّاً كان.
ولم يدر هؤلاء الحكّام أن سلطان أهل البيت (عليهم السلام) إنّما هو على القلوب والأرواح، فما عهد عن أحد من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه سعى للسلطة وتولّى الحكم أو حمل سلاحاً أو نظم جيشاً ليقلب نظاماً على صاحبه أيّاً كان، حتى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع أنّه كان الإمام والحاكم وقد نصبه النبي خليفة على الأمة لم يطمع في الولاية يوم استأثر بها القوم، وحملوه على قبول ولايتهم قسراً، واعتزلهم وما يفعلون، ولمّا قتل عثمان جاءوا يسعون إليه وبايعوه عن طواعية واختيار، وسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يسوسهم بالعدل والحكمة، ويسير فهيم بسيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) ويحملهم على المحجّة البيضاء، فلم يرق لهم ذلك، فنقضوا بيعته، وحاربوه، وكان أول من نقض البيعة وأول من حاربه هو أول من بايعه ونادى بخلافته.
إنّ أولئك الحكّام يحسبون أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كأنفسهم، حيث يجد الحكام أنفسهم ذوي أطماع في الحكم والسلطان، وإن أشادوا حكمهم على أشلاء الضحايا وبنوا قصورهم على أجساد الأبرياء، وسقوا أساس ملكهم بدماء المظلومين.
وعلى أي حال فقد كان عصر الإمام الكاظم (عليه السلام) عصر خوف واضطراب، وقد أحكمت السلطة قبضتها على زمام الأمر فأخمدت الأنفاس، وكتمت الأصوات، وسفكت الدماء، وضاقت السجون وتفرّق الرّجال.
ولم يكن الذي يجري إلا على أهل البيت وشيعتهم وفي طليعة أهل البيت (عليهم السلام) الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام).
ولك أن تتصور حالات الذعر والفزع والاضطراب التي مني بها أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، رجالاً ونساءً وعلى مختلف الأصعدة.
ونحن إذ نستفظع ما نقرأ، ونرتاع لما نتلوا من صحف صبغها المجرمون بدماء المظلومين، فما ظنّك بمن قاسى أهوال المآسي وفوادح الخطوب.
والناس آنذاك إزاء ما يجري على أهل البيت (عليهم السلام) بين من أصبح آلة في أيدي الظالمين يحقّقون به أغراضهم، ويتوصلون به إلى أهدافهم، ويحقّق بهم مطامعه، وبين من أرعبه الخوف والهلع فانطوى على نفسه، وتوارى وراء التقية خوفاً على نفسه وعرضه وماله، وبين من لا يعنيه من الأمر شيء فلم يبال بما يجري من أحداث.
ثانياً: إن ممّا تقرر في مذهب أهل البيت (عليهم السلام) أن العصمة الخاصّة ـ في هذه الأمة ـ منحصرة في النبي (صلّى الله عليه وآله) والصديقة الزهراء (عليها السلام) والأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) دون سواهم، وقد قامت الأدلّة العقلية والنقلية على ذلك، ممّا هو مبثوث في الكتب الكلامية، وقد أحلنا القارئ العزيز على بعض المصادر فيما تقدّم.
ولئن استفيد من بعض الأدلة أو القرائن عصمة بعض الأفراد من أهل البيت (عليهم السلام) كأبي الفضل العباس، وعلي الأكبر، والسيدة زينب بنت أمير المؤمنين، والسيدة فاطمة المعصومة (عليهم السلام)، فليس المراد بعصمة هؤلاء هي تلك العصمة الخاصّة اللاّزمة، وإنّما المراد أنّهم بلغوا مرتبة عالية من الكمال لم ينلها سائر الناس. على ما بيّناه فيما سبق.
وعلى هذا فما عدا هؤلاء من سائر أفراد أهل البيت (عليهم السلام) ليسوا بمعصومين بمعنى أنه لا يصدر عنهم خطأ أو اشتباه عن تعمّد كان أو عن سهو، وإن نالوا شرف الأصل والنسبة، إذ ليس من البعيد أن يصدر من بعضهم ما لا يليق صدوره من مثلهم من الهفوات والأخطاء الكبيرة أو الصغيرة التي عانى منها الأئمة (عليهم السلام) في كثير من القضايا والأمور.
وقد عانى الإمام الكاظم (عليه السلام) من بعض إخوانه كما عانى آباؤه عن بعض بني عمومته من قبل، وهكذا بقية الأئمة (عليهم السلام) على ما تكفّلت ببيانه الروايات وكتب التراجم.
ولولا أن الأئمة (عليهما السلام) كانوا يعالجون هذه القضايا بالحكمة، ورحابة الصدر، وبعد النظر، والصّبر والتحمّل لكان للصورة وجه آخر، وقد وعدنا بعدم الخوض في تفاصيل ذلك، ونكتفي بهذه الإشارة.
وهذا هو أحد الامتيازات والفوارق بين المعصوم وغيره، وإن كان هذا الغير ـ ينحدر في نسبه ـ من أهل البيت (عليهم السلام).
وثالثاً: إن حكومة بني العباس في نظر الأئمة (عليهم السلام) لم تكن حكومة شرعيّة، ولم تحظ بالتأييد والمساندة منهم (عليهم السلام)، بل كانوا يظهرون لبعض خواصّهم من له علاقة بالسلطة الحاكمة عدم مشروعيّة العمل للحكام والتحذير من الدخول في ولاياتهم، أو السعي في قضاء حوائجهم، وإن كان العمل بحسب الظاهر في نفسه بعيداً عن جرائمهم ومخازيهم، ويرى الإمام (عليه السلام) أن إسداء أي خدمة لهم مهما كانت، مشاركة لهم في الجريمة، كما يكشف عن ذلك الحوار الذي جرى بين الإمام الكاظم (عليه السلام) وبين صفوان بن مهران الجمال، الذي روى ما جرى فقال: دخلت على أبي الحسن الأول (عليه السلام)، فقال لي: يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً، وقلت: جعلت فداك أي شيء؟!
قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل ـ يعني هارون ـ قلت: والله ما أكريته أشراً، ولا بطراً، ولا للصّيد، ولا للّهو، ولكنّي أكريته لهذا الطريق ـ يعني طريق مكّة ـ ولا أتولاّه، ولكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أيقع كراك عليهم؟ قلت: نعم جعلت فداك، فقال لي: أتحبّ بقاءهم حتى يخرج كراك؟ قلت: نعم، قال: فمن أحبّ بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم ورد النار، فقال صفوان: فذهبت وبعت جمالي عن آخرها، فبلغ ذلك إلى هارون، فدعاني، وقال: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم. فقال: لم؟ قلت: أنا شيخ كبير، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال، فقال: هيهات، إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر. قلت: ما لي ولموسى بن جعفر. فقال: دع هذا عنك، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك.(104)
إن هذا الموقف الصارم وأمثاله من الإمام (عليه السلام) لم يدع مجالاً للحاكم أن يشعر بالاستقرار، إذ يرى أن الخطر يتهدّد سلطانه، ويزعزع أركان وجوده، وينذره بالزوال.
وهذه السلبية التي انتهجها الإمام (عليه السلام) إزاء حكومة هارون الرشيد أظهرت كثيراً من الحقائق الخفيّة على الناس، وجعلت الحاكم يزداد في تماديه وضلاله، فيرتكب من الجرائم ما هو أبشع، ومن المنكرات ما هو أفظع، ويظهر حقيقته التي كان يسترها وراء بعض المظاهر الدينية التي قد ينخدع بها بعض من قصرت بصيرته عن إدراك الحقيقة، فقد ظن صفوان أن عمله مشروع، لأنّه يكري جماله في طريق الحجر، وهو أمر منفصل لا علاقة له بما يمارسه هارون الرشيد من اللّهو واللّعب والمحرّمات، ولكنّ الإمام (عليه السلام) أوقفه على الحقيقة، وبيّن له أنّ البصير ينبغي أن لا ينخدع بمظهر زائف، وأن لا يكون مطيّة يحقّق بها الظالم أغراضه.
وقد تنبّه لذلك فاتّخذ إجراءً حاسماً، فباع جماله وتخلّى عن مهنته، وأدرك هارون الرشيد السّر وراء ذلك، ولولا شفاعة حسن صحبة صفوان لكان في عداد الضحايا.
ولا شك أن هذه الحادثة وأمثالها تركت هارون الرشيد يتميّز من الغيظ، ويبحث عن أساليب أخرى يكيد بها الإمام (عليه السلام).
وأما إذنه (عليه السلام) لعلي بن يقطين في تولّي منصب الوزارة لهارون الرشيد ورغبته (عليه السلام) في بقائه في الوزارة فليس ذلك نقضاً لهذا الموقف، وذلك لأنّ الوزارة منصب عام يرتبط بعامّة الناس، وله صلاحيّات واسعة يستطيع علي بن يقطين من خلالها أن يؤدي خدمات كبيرة للشّيعة على مختلف طبقاتهم ودفع الأخطار عنهم، ومع أنّ هذا المنصب حسّاس جدّاً وقد استأذن ابن يقطين الإمام (عليه السلام) في الاستعفاء من هذا المنصب، إلا أن الإمام (عليه السلام) رغب في بقائه لحماية الشيعة(105)، وتكفّل له بالرعاية والتسديد في مواطن الخطر. وقد أنقذه الإمام (عليه السلام) في مواضع كثيرة كاد أن يتورّط فيها علي بن يقطين، على أنّه كان من الجلالة والاستقامة والمعرفة بالحق ما يؤمن منه الانحراف أو تلتبس عليه الأمور.
وأما صفوان بن مهران فلم يكن عمله بهذه المثابة، بل كان خدمة خالصة لهارون الرشيد والجهاز الحاكم، وليس فيها إلا التأييد والمساندة لحكومة بني العباس، من دون أن يكون فيها نفع يذكر لغيرهم، ولذلك لم يمنعه الإمام (عليه السلام) من التخلّي عن هذا العمل في حين أمر ابن يقطين بالبقاء، فلا تنافي بين الأمرين.
رابعاً: إن من أهم الركائز التي اعتمدت عليها سياسة الحكّام منذ اليوم الذي استولوا فيه على مقام الزّعامة واغتصبوا فيه منصب الخلافة، هو السعي لإبقاء أصحاب الحقّ الشرعي في عوز وفاقة، كسراً لشوكتهم وتقليصاً لشأنهم، وحدّاً من قدراتهم وإمكانياتهم، وإظهارهم للناس بأنّهم ليسوا ممّن يطمع فيهم، أو يرغب في صحبتهم أو حملهم على الاستجداء والخنوع.
ومن المعلوم أن الناس أبناء الدنيا وعبيد الدرهم والدينار، إلا ما قلّ وندر، وكان ذلك أحد العوامل التي ساهمت في انحسار أغلب الناس وتخلّيهم عنهم بل والتنكّر لهم (عليهم السلام).
وقد اتخذ الحكّام عدّة إجراءات للحيلولة دون تمكّن أهل البيت (عليهم السلام) من الإنفاق بما يتناسب مع شأنهم فصادروا فدكاً(106) من أصحابها ومنعوهم الحقّ الشرعي الذي افترضه الله على عباده بنص القرآن وهو الخمس، ومنعوهم عطاءاتهم، واستولوا على بعض ممتلكاتهم، واستمرّت هذه السياسة جارية في بني أمية وبني العباس، حتى بلغ الأمر أنه إذا ما تناهى إلى أسماعهم أنّ أحداً أعطى خمسه للإمام (عليه السلام) فإنّهم ينكّلون به أشد التنكيل، وكانت الرّصد والعيون التي جنّدها الحكّام على الأئمة (عليهم السلام) ترقب عليهم كلّ تصرف.
وكان قسم كبير من تلك الأموال التي استولى عليها الظالمون غصباً وعدواناً يبذل لأولئك الذين يتزلّفون للحكّام من الشعراء الذين اتخذوا من هجاء النبي (صلّى الله عليه وآله) وعترته ذريعة لنيل الأموال والحصول عليها، كأبان بن عبد الحميد، ومروان بن أبي حفصة، وأضرابهما ممن طبع على قلوبهم وباع دينه بدنياه.(107)
وأما القسم الآخر ـ من الأموال ـ فكان يبذل على الفسوق والفجور، والفساد، ممّا حفلت بذكره كتب التاريخ(108).
وبقيت الأمة ولا سيّما أهل البيت (عليهم السلام) يرزحون تحت وطأة القهر والحرمان.
وقد اعترف هارون الرشيد بذلك، كما جاء في حواره مع ولده المأمون لمّا اعترض على أبيه لقلّة ما أعطى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حين أنّه ضمن له أن يعطيه الكثير.
قال المأمون: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار وتعطي موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار أخس عطيّة أعطيتها أحداً من النسا، فثار هارون وصاح في وجهه قائلاً: اسكت لا أمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم.(109)
وخامساً: إنّه برغم ما كان يمارسه حكّام بني العاس من سياسة البطش والقهر، والحرمان والإبادة والتشريد، إلا أن الأئمة (عليهم السلام) ما كانوا ليتنازلون عن منصب الإمامة والولاية فإنّه حق إلهي لهم من دون سائر الناس بل كانوا يقفون مواقف التحدّي للحكّام ويمارسون دورهم في حدود ما تسمح به الظروف المحيطة بهم وبشيعتهم، وكان الإمام السابق ينصّ على إمامة اللاحق في جمع من خواصّ الشيعة، ويؤكدون على ذلك بين حين وآخر، ويبيّنون لشيعتهم الأحكام والمعارف وإن كانت على خلاف ما عليه الحكّام وأذنابهم.
وبعبارة أخرى: كان الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم في معزل عن السلطة في الفكر والعقيدة والسلوك على نحو الاستقلال التام، مع علمهم بأنّ الحكام لهم ولشيعتهم بالمرصاد.
ونستفيد ذلك من المواقف الصّريحة التي يواجه الإمام (عليه السلام) بها رأس السلطة الحاكمة.
فقد ذكر الرواة أن هارون سأل الإمام (عليه السلام) عن فدك ليرجعها إليه، فأبى الإمام (عليه السلام) أن يأخذها إلا بحدودها، فقال الرشيد: ما حدودها؟ فقال (عليه السلام): إن حددتها لم تردّها. فأصرّ هارون عليه أن يبيّنها له قائلاً: بحقّ جدّك إلا فعلت. ولم يجد الإمام بدّاً من إجابته فقال له: أمّا الحدّ الأول فعدن، فلمّا سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه، واستمر الإمام (عليه السلام) في بيانه قائلاً: والحدّ الثاني سمرقند، والحدّ الثالث أفريقيا، والحدّ الرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية، فثار الرشيد وقال: لم يبق لنا شيء. فقال (عليه السلام): قد علمت أنك لا تردّها.(110)
وفي هذا الحوار موقف الإمام الصّريح وبيان أحقيّته بالخلافة، ومن الطبيعي أن يترك ذلك الحوار أثراً في نفس هارون حيث يرى نفسه غاصباً ليس له من الأمر شيء.
ونظير هذا الموقف موقف آخر للإمام (عليه السلام) مع هارون لمّا أراد (عليه السلام) أن يبيّن شدّة صلته وقربه من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد سأله هارون: لم قلت: إنّك أقرب إلى رسول الله منّا؟ فقال (عليه السلام): لو بعث رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيّاً، وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون: سبحان الله! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
فقال (عليه السلام): لكنّه لا يخطب منّي ولا أزوّجه لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم، ثم قال (عليه السلام): هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشّفات؟ فقال هارون: لا، فقال الإمام: لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، فلذلك نحن أقرب إليه منكم.(111)
وقد اعترف هارون بأحقيّة الإمام (عليه السلام) حين أخذته هيبة الإمام (عليه السلام) ولم ير بدّاً من إظهار احترامه وإجلاله، الأمر الذي أثار ابنه المأمون فدفعه للسؤال قائلاً: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الرّكاب له؟ فقال هارون: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده، قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟ فقال: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بني إنّه لأحقّ بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) منّي ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم.(112).
وهكذا كان الأئمة (عليهم السلام) مع الحكّام في كل عصر من عصورهم، فلم يكن أحد من الأئمة (عليهم السلام) ليتخلّى عن منصب الإمامة مهما كانت الظروف، ولئن لم يتمكّن الأئمة (عليهم السلام) من ممارسة أدوارهم في الظاهر إلا أنّهم قاموا بوظيفتهم في الواقع، وإذا كان ثمّة تقصير فهو من الناس حيث ضلّوا الطرق فتاهوا، لا من الأئمة (عليهم السلام)، وقد فاز بذلك شيعة أهل البيت (عليهم السلام) فساروا في ركاب أئمّتهم، وركبوا في سفينتهم والعاقبة للمتقين.
ولا شك أن هذا الموقف الصارم من الأئمة (عليهم السلام) في مسألة الإمامة يجعل ردّة الفعل من قبل الحكّام عنيفة جدّاً، بحيث تصبح حياة الأئمة (عليهم السلام) وشيعتهم مهدّدة بالأخطار ولا ينافي ذلك أمر التقيّة، لأنّها إنما تسوغ في بعض المواطن وليس هذا منها.
وبعد هذا كله نقول: جاء في وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لابنه الإمام الرضا (عليه السلام) بما يتعلّق بهذا الموضوع أنّه (عليه السلام) قال: وإنّي قد أوصيت إلى عليّ وبنيّ بعدُ معه، إن شاء وآنس منهم رشداً، وأحبّ أن يقرّبهم فذاك له، ولا أمر لهم معه.. وإلى علي أمر نسائي دونهم.. وإن أراد رجل منهم أن يزوّج أخته فليس له أن يزوّجها إلا بإذنه وأمره، فإنّه أعرف بمناكح قومه.. وأمهات أولادي من أقامت منهنّ في منزلها وحجابها فلها ما كان يجري عليها في حياتي، إن رأى ذلك، ومن خرجت منهنّ إلى زوج فليس لها أن ترجع إلى محواي، إلا أن يرى علي غير ذلك، وبناتي بمثل ذلك، ولا يزوّج بناتي أحد من أخوتهنّ من أمهاتهن، ولا سلطان ولا عمّ إلا برأيه ومشورته، فإن فعلوا غير ذلك فقد خالفوا الله ورسوله وجاهدوه في ملكه، وهو أعرف بمناكح قومه، فإن أراد أن يزوّج زوّج، وإن أراد أن يترك ترك، وقد أوصيتهنّ بمثل ما ذكرت في كتابي هذا، وجعلت الله عزّ وجلّ عليهنّ شهيداً.(113)
ويستفاد منها أن الأمر حساس وخطير، وهو يتطلّب بصيرة نافذة، ومعرفة تامّة بمداخل القضايا ومخارجها، ولذلك أوكل أمر زواج بناته (عليه السلام) إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو المعصوم العالم بحقائق الأمور، وكان الظروف ظرف محنة وابتلاء كما يدل عليه حديث الإمام الكاظم (عليه السلام) ليزيد بن سليط الزيدي حيث قال: ثم قال لي أبو إبراهيم (عليه السلام): إني راحل في هذه السنة، والأمر هو إلى ابني علي، سميّ علي وعلي، فأمّا علي الأول فعلي بن أبي طالب، وأمّا الآخر فعلي بن الحسين (عليه السلام)، أُعطي فَهْمَ الأول وحلمه ونصره وودّه ودينه ومحنة الآخر وصبره على ما يكره..(114)
وليس في هذه الوصية ما يدلّ على المنع من التزويج، وإنّما تدل على أن الأمر إلى الإمام الرضا (عليه السلام)، فهو الأعرف بمناكح قومه، وهو الأعلم بأحوال زمانه.
فما ذكره اليعقوبي في تاريخه(155) من أن الإمام (عليه السلام) أوصى بعدم تزويج بناته فإن كان مستنده هو وصيّة الإمام (عليه السلام) التي ذكرناها فقد أخطأ في الاستنتاج، وإن كان غيرها فلم نقف عليه، ولا نستبعد أنّه قد التبس عليه الأمر وفهم من الوصيّة أنّ الإمام قد منع من تزويج بناته، وليس الأمر كذلك.
ثم إنه من خلال ما تقدّم ذكره من الأمور الخمسة يمكننا استفادة السبب وراء عدم زواج بنات الإمام الكاظم (عليه السلام).
والذي يترجح من جميع ذلك أن السبب أمران أحدهما يكمل الآخر، وهما:
الأول: عدم وجود الكفء.
والثاني: الخوف من الإقدام على مصاهرة الإمام (عليه السلام).
أما الأول فإن الفقهاء وإن اختلفوا في تحديد معنى الكفاءة، ولهم في ذلك أقوال وآراء ذكرها صاحب الجواهر(116) وغيره إلا أنّهم اتفقوا على أن المؤمن كفء المؤمنة.
وقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: المؤمنون بعضهم أكفاء بعض.(117)
وخلافهم إنّما هو في زواج المرأة الشريفة ممن هو أدنى منها، وأمّا العكس فلا خوف بينهم في جوازه، على أنّ الخلاف في ذلك ممّا لا يعتدّ به، كما صرّ به صاحب الجواهر حيث قال: وكيف كان فلا إشكال ولا خلاف معتدّ به في أنّه (يجوز) عندنا (إنكاح الحرّة العبد، والعربيّة العجميّ، والهاشمية غير الهاشمي، وبالعكس، وكذا أرباب الصّنائع الدنيّة) كالكنّاس والحجّام وغيرهما (بذات الدين) من العلم والصلاح (والبيوتات) وغيرهم، لعموم الأدلة، وخصوص ما جاء في تزويج جويبر الدلفاء، ومنجح بن رباح مولى علي بن الحسين (عليهما السلام) بنت ابن أبي رافع.(118)
والحاصل إجمالاً: أنّ سيرة النبي (صلّى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) كانت على ذلك، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الواردة عنهم (عليهم السلام) الدالة على الجواز. نعم اختصّت الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) بهذا الشأن من دون سائر النساء، فقد روي عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: إنّما أنا بشر مثلكم أتزوّج فيكم وأزواجكم إلا فاطمة، فإنّ تزويجها نزل من السماء.(119)
وقال (صلّى الله عليه وآله): لولا أن الله خلق أمير المؤمنين لم يكن لفاطمة كفء على وجه الأرض، آدم فمن دونه.(120)
وأمّا ما عدا فاطمة الزهراء (عليها السلام) من النساء فليست لها هذه الخصوصيّة، وإنّما يتبع فيها الشرائط العامة في الزّواج من الدين والخلق وغيرهما ممّا ذكره الفقهاء ورووه عن الأئمة (عليهم السلام) وتفصيل هذه المسالة بجميع أبعادها مبسوطة في كتب الفقه الاستدلالية.
وغرضنا من ذلك الإشارة إلى أنّه لا شكّ في توفّر الشرائط في بعض الأشخاص في زمان الإمام الكاظم (عليه السلام).
ولكن ما جرى على العلويين من الأحداث حال دون ذلك، فإنّ حملات الإبادة من القتل والتشريد لبني هاشم ما أبقت منهم إلا القليل، فإنّ المسلسل الدّامي بدأ مع بداية عهد المنصور، وقد تتبّع العلويين، فمنهم من قتل في ميادين الحروب، ومنهم من قتل تحت الأنقاض حيث أمر المنصور بهدم السجن عليهما ووضعوا في أساس الناس أحياء فماتوا اختناقاً، ومنهم من اغتيل بالسم، ومنهم من قتل صبراً واحتفظ برؤوسهم في خزانة ولم يطّلع عليها إلا بعض أهل بيته.
يقول الطبري في تاريخه لمّا عزم المنصور على الحجّ دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي، وكان المهدي بالريّ قبل شخوص أبي جعفر، فأوصاها بما أراد، وعهد إليها، ودفع إليها مفاتيح الخزائن، وتقدّم إليها وأحلفها، ووكّد الأيمان أن لا تفتح بعض تلك الخزائن، ولا تطلع عليا أحداً إلا المهدي، ولا هي إلا أن يصحّ عندها موته، فإذا صحّ ذلك اجتمعت هي والمهدي وليس معهما ثالث حتى يفتحا الخزانة، فلمّا قدم المهدي من الريّ إلى مدينة السلام، دفعت إليه المفاتيح، وأخبرته أنّه تقدّم إليها ألا يفتحه ولا يطلع عليه أحد حتى يصحّ عندها موته، فلمّا انتهى إلى المهدي موت المنصور، وولي الخلافة فتح الباب ومعهم ريطة، فإذا أزج كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال شيب، ومشايخ عدّة كثيرة، فلمّا رأى ذلك المهدي ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها، وعمل فوقها دكان.(121)
ومنهم من سلم من القتل ولكنّه لم يسلم من التشرّد فهام في البلدان متنكّراً، وقد أخفى اسمه ونسبه، ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين من أحوال عيسى بن زيد الذي توارى عن المنصور العباسي زماناً طويلاً حتى مات متوارياً، ولم يطلع زوجته وابنته على اسمه ونسبه.
روى أبو الفرج بسنده عن محمد بن المنصور المرادي قال: قال يحيى بن الحسين بن زيد: قلت لأبي: يا أبه، إنّي أشتهي أن أرى عمّي عيسى بن زيد، فإنّه يقبح بمثلي أن لا يلقى مثله من أشياخه، فدافعني عن ذلك مدة، وقال: إن هذا أمر يثقل عليه، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إيّاه فتزعجه، فلم أزل به أداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك، فجهّزني إلى الكوفة، وقال لي: إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي، فإن دللت عليها فاقصدها في السكّة الفلانية، وسترى في وسط السكّة داراً لها باب، صفته كذا وكذا، فاعرفه واجلس بعيداً منها في أول السكّة فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون (مستور) الوجه، قد أثّر السجود في جبهته، عليه جبّة صوف، يستقى الماء على جمل وقد انصرف يسوق الجمل، لا يضع قدماً ولا يرفعها إلا ذكر الله عزّ وجلّ، ودموعه تنحدر، فقم وسلّم عليه وعانقه، فإنّه سيذعر منك كما يذعر الوحش، فعرّفه نفسك، وانتسب له، فإنّه يسكن إليك، ويحدّثك طويلاً، ويسألك عنّا جميعاً، ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه، ولا تطل عليه، وودّعه، فإّنه يستعفيك من العودة إليه، فافعل ما يأمرك به من ذلك، فإنّك إن عدت إليه توارى عنك واستوحش منك، وانتقل عن موضعه، وعليه في ذلك مشقّة، فقلت: أفعل ما أمرتني، ثم جهّزني إلى الكوفة وودّعته وخرجت، فلمّا وردت الكوفة قصدت سكّة بني حي بعد العصر، فجلست خارجها بعد أن تعرّفت الباب الذي نعته لي، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل، وهو كما وصف لي أبي لا يرفع قدماً ولا يضعها إلا حرّك شفتيه بذكر الله، ودموعه ترقرق في عينيه، وتذرف أحياناً، فقمت فعانقته فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس، فقلت: يا عم أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك، فضمّني إليه، وبكى حتى قال: قد جاءت نفسه، ثم أناخ جمله وجلس معي، فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً، وامرأة امرأة، وصبيّاً صبيّاً، وأنا أشرح له أخبارهم، وهو يبكي، ثم قال: يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء، فأصرف ما اكتسب يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه واتقوّت باقيه، وربّما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البريّة، يعني بظهر الكوفة فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فاتقوّته. وقد تزوّجت إلى هذا الرجل ابنته، وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا، فولدت مني بنتاً، فنشأت، وبلغت وهي أيضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا. قالت: لي أمّها: زوّج ابنتك بابن فلان السقاء ـ لرجل من جيراننا يسقي الماء ـ فإنّه أيسر منّا، وقد خطبها، وألحّت عليّ فلم أقدر على إخبارها بأنّ ذلك غير جائز، ولا هو بكفء لها، فيشيع خبري، فجعلت تلحّ عليّ فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام، فما أجدني آسى على شيء من الدنيا أساي على أنّها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله).
وذكر أبو الفرج أن عيسى بن زيد بقي متوارياً إلى أن مات في زمان المهدي العباسي، روى بسنده عن يعقوب بن داود، قال: دخلت معه المهدي في قبّة في بعض الخانات في طريق خراسان، فإذا حائطها عليه أسطر مكتوبة، فدنا ودنوت معه، فإذا هي هذه الأبيات:
والله ما أطــــــعم طعــــم الرقاد***خــــوفاً إذا نامــت عيون العباد
شرّدني أهــــل اعــــــتداء وما***أذنبت ذنــــباً غــــير ذكر المعاد
آمــــنت بالله ولـــــم يؤمـــــنوا***فكـــــان زادي عــندهم شرّ زاد
أقـــول قــــــولاً قــــــاله خائف***مطـــــرد قلــــــبي كثير السّهاد
منخرق الخفّـــين يشكو الوجى***تنكـــــبه أطراف مــــرو حـــداد
شرّده الخــــــوف فــــأزرى به***كذلك مـــــن يكـــــره حرّ الجلاد
قد كان فـــــي المــوت له راحة***والموت حــــتم في رقاب العباد
قال: فجعل المهدي يكتب تحت كل بيت: لك الأمان من الله ومنّي، فاظهر متى شئت، حتى كتب ذلك تحتها أجمع، فالتفت فإذا دموعه تجري على خدّه فقلت له: من ترى قائل هذا الشعر يا أمير المؤمنين؟ قال: أتتجاهل علي؟ من عسى أن يقول هذا الشعر إلا عيسى بن زيد.(122)
ولكن لمّا بلغه موت عيسى بن زيد اعتبر ذلك بشرى وحوّل وجهه إلى المحراب وسجد وحمد الله. وكان يجدّ في طلبه حتى أنّه حبس بعض أصحابه ثم قتلهم لأنّهم لم يخبروه بموضع اختفائه.(123)
وعهده وإن لم يكن كعهد أبيه شدة وبطشاً إلا أنّه ورث منه العداء لأهل البيت (عليهم السلام)، الذي كان يعتقد أن لا بقاء له في الحكم والسلطان إلا بالقضاء على العلويين وشيعتهم.
حتى إذا جاء عهد ابنه موسى الهادي الذي اتصف بنزعات الشّر والطيش والتمادي في سفك الدماء، فنقم عليه القريب والبعيد وبغضه الناس جميعاً، وقد حقدت عليه أمّه الخيزران، وبلغ بها الغيظ والكراهية له أنها هي التي قتلته.(124)
وفي زمانه حدثت واقعة فخ التي ضارعت ماسة كربلاء في آلامها وشجونها، وقد تحدّث الإمام الجواد (عليه السلام) عن مدى أثرها البالغ على أهل البيت (عليهم السلام) بقوله: لم يكن لنا بعد الطف ـ يعني كربلاء ـ مصرع أعظم من فخ.(125)
فقد حملت فيها رؤوس العلويين وتركت جثثهم في العراء، وسيقت الأسرى من بلد إلى بلد، وقد قيّدوا بالحبال والسلاسل، ووضعوا في أيديهم وأرجلهم الحديد، وأدخلا على الهادي العباسي فأمر بقتل بعضهم فقتلوا صبراً وصلبوا على باب الجسر ببغداد.(126)
ولم يكن عهد الرشيد بأحسن حالاً، يقول الشيخ القرشي: وورث هارون من جدّه المنصور البغض العارم والعداء الشديد للعلويين، فقابلهم منذ بداية حكمه بكلّ قسوة وجفاء، وصبّ عليهم جام غضبه، وقد أقسم على استئصالهم وقتلهم، فقال: والله لأقتلنّهم ـ أي العلويين ـ ولا قتلنّ شيعتهم.
وأرسل طائفة كبيرة منهم إلى ساحات الإعدام، ودفن قسماً منهم وهم أحياء، وأودع الكثيرين منهم في ظلمات السجون، إلى غير ذلك من المآسي الموجعة التي صبّها عليهم..
لقد كان الرشيد شديد الوطأة على عترة النبي (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا على علم بمقته وبغضه لهم، فحينما علموا بخلافته هاموا على وجوههم في القرى والأرياف، متنكرين لئلا يعرفهم أحد.(127)
وقد أمر الرشيد حميد بن قحطبة أن يقتل ستّين علويّاً في ليلة واحدة، روى الصدوق بسنده عن أبي الحسين أحمد بن سهل بن ماهان، قال: حدّثني عبيد الله البزّاز النيسابوري، وكان مسنّاً قال: كان بيني وبين حميد بن قحطبة الطائي الطوسي معاملة، فرحلت إليه في بعض الأيام فبلغه خبر قدومي، فاستحضرني للوقت وعليّ ثياب السفر لم أغيّرها، وذلك في شهر رمضان وقت صلاة الظهر، فلمّا دخلت عليه رأيته في بيت يجري فيه الماء، فسلّمت عليه وجلست فأتي بطشت وإبريق فغسل يديه، ثم أمرني فغسلت يدي، وأحضرت المائدة، وذهب عنّي أنّي صائم، وأنّي في شهر رمضان، ثم ذكرت فأمسكت يدي، فقال لي حميد: ما لك لا تأكل؟ فقلت: أيّها الأمير هذا شهر رمضان، ولست بمريض ولا بي علّة توجب الإفطار، ولعلّ الأمير له عذر في ذلك، أو علّة توجب الإفطار، فقال: ما بي علّة توجب الإفطار وإنّي لصحيح البدن، ثم دمعت عيناه وبكى، فقلت له بعد ما فرغ من طعامه: ما يبكيك أيها الأمير؟ فقال: أنفذ إليّ هارون الرشيد وقت كونه بطوس في بعض الليل أن أجب، فلمّا دخلت عليه رأيت بين يديه شمعة تتّقد وسيفاً أخضر مسلولاً، وبين يديه خادم واقف، فلمّا قمت بين يديه رفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال، فأطرق، ثم أذن لي في الانصراف، فلم ألبث في منزلي حتى عاد الرسول إليّ وقال: أجب أمير المؤمنين، فقلت في نفسي: إنّا لله، أخاف أن يكون قد عزم على قتلي، فلما حضرت بين يديه رفع رأسه إليّ فقال: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد، فتبسّم ضاحكاً، ثم أذن لي في الانصراف، فلمّا دخلت منزلي لم ألبث أن عاد إليّ الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين فحضرت بين يديه وهو على حاله فرفع رأسه إليّ وقال لي: كيف طاعتك لأمير المؤمنين؟ فقلت: بالنفس والمال والأهل والولد والدين، فضحك، ثم قال لي: خذ هذا السيف وامتثل ما يأمرك به الخادم، قال: فتناول الخادم السيف وناولنيه، وجاء إلى بيت بابه مغلق، ففتحه، وإذا فيه بئر في وسطه ثلاثة بيوت أبوابها مغلقة، ففتح باب بيت منه فإذا فيه عشرون نفساً عليهم الشعور والذوائب شيوخ وكهول وشبان مقيّدون، فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، وكانوا كلّهم علويّة من ولد عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، حتى أتيت على آخرهم، ثم رمى بأجسادهم ورؤوسهم في تلك البئر، ثم فتح باب بيت آخر فإذا فيه أيضاً عشرون نفساً من العلويّة، من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون فقال لي: إن أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمي به في تلك البئر، حتى أتيت على آخرهم، ثم فتح باب البيت الثالث فإذا فيه مثلهم عشرون نفساً من ولد علي وفاطمة (عليهما السلام) مقيّدون عليهم الشعور والذوائب، فقال لي: إنّ أمير المؤمنين يأمرك بقتل هؤلاء أيضاً، فجعل يخرج إليّ واحداً بعد واحد، فأضرب عنقه، ويرمى به في تلك البئر، حتى أتيت على تسعة عشر نفساً منهم، وبقي شيخ منهم عليه شعر، فقال لي: تبّاً لك يا ميشوم أي عذر لك يوم القيامة إذا قدمت على جدّنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد قتلت من أولاده ستين نفساً قد ولدهم علي وفاطمة (عليهما السلام)؟ فارتعشت يدي وارتعدت فرائصي، فنظر إليّ الخادم مغضباً وزبرني فأتيت على ذلك الشيخ أيضاً فقتلته، ورمى به في تلك البئر، فإذا كان فعلي هذا وقد قتلت ستين نفساً من ولد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فما ينفعني صومي وصلاتي وأنا لا أشك أنّي مخلّد في النار.(128)
وقيل: إن هذا الواقعة حدثت في زمان المنصور، ولعلّها تكرّرت، ولذا قال الصدوق: للمنصور مثل هذه الفعلة في ذريّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)(129).
وعلى أي تقدير فإنّها إحدى الشواهد على ما نقول:
وبعد: فإذا كان هكذا حال العلويين، فهل يبقى لأحدهم مجال للاقتران بواحدة من بنات الإمام (عليه السلام) ويستقر في حياة زوجيّة هانئة، وهو يعلم أن حياته في خطر؟!
إن ما ذكرته بعض المصادر(130) من أنّ عدم تزويج الإمام (عليه السلام) بناته إنّما هو لعدم وجود الكفء لم يكن على خلاف الواقع، فإنّ ما حلّ بأهل البيت (عليهم السلام) من الكوارث وحملات الإبادة قد أفنتهم ولم تدع منهم إلا القليل.
وربّما يقال: إذا كان هذا حال العلويين ففي رجالات الشيعة من توفّرت فيه سائر الشرائط، فلم لم يزوج الإمام الكاظم (عليه السلام) بناته من الشيعة، إذ ليس من الضروري أن يكون الزوج علويّاً ما دامت الكفاءة من الإيمان والخلق في غير العلوي متحقّقة؟
ونقول: إنّنا قد ذكرنا أنّ هناك أمراً آخر نعتبره مكمّلاً للأمر الأول وهو الخوف من الإقدام عل مصاهرة الإمام (عليه السلام) فلم يكن الشيعة آمنين على أرواحهم، وقد بلغهم أن هارون الرشيد قد أقسم على أن يقتل الشيعة كما أقسم على إبادة العلويين.
وقد عانى الشيعة من الشدائد ما لا يخفى، وكانوا يعيشون التقية في أمورهم كما أمرهم أئمتهم (عليهم السلام) بذلك، وأصبحت حياتهم آنذاك مهدّدة بالأخطار، وكان الحكّام لهم بالمرصاد.
ومما يدل على ذلك ما ورد في أحوال محمد بن أبي عمير، حيث روي عن الفضل بن شاذان أنّه قال: سُعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان أنّه يعرف أسامي عامّة الشيعة بالعراق، فأمره السلطان أن يسمّيهم فامتنع، فجرّد وعلّق بين القفّازين (العقارين) وضرب مائة سوط، قال الفضل: فسمعت ابن أبي عمير يقول: لما ضربت فبلغ الضّرب مائة سوط، أبلغ الضّرب الألم إليّ فكدت أن أسمّي، فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمن يقول: يا محمد ابن أبي عمير اذكر موقفك بين يدي الله تعالى، فتقوّيت بقوله فصبرت ولم أخبر، والحمد لله.
وقال: ضرب ابن أبي عمير مائة خشبة وعشرين خشبة بأمر هارون لعنه الله، تولّى ضربه السندي بن شاهك على التشيع..(131)
ويدلّ على ذلك أيضاً ما جاء في أحوال هشام بن الحكم، فإنّه عاش في آخر أيّامه مشرّداً حتى مات من الخوف في قصّة طويلة ذكرها علماء الرجال.(132)
وغيرها من القضايا التي كان الشيعة فيها كأئمتهم (عليهم السلام) في المعاناة والخوف.
وإذا كان هذا حال الشيعة فمن منهم يقدم على مصاهرة الإمام (عليه السلام) وقد تربّصت العيون بهم الدوائر، والحكام في طلبهم وراء كل حجر ومدر؟
على أنّه لم يثبت أن أحداً من العلويين أو من الشيعة تقدّم لخطبة إحدى بنات الإمام (عليه السلام) فقوبل بالرّفض.
هذا ما نرجّحه من الأسباب وراء عدم تزويج بنات الإمام (عليه السلام)، ومنهم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام).
وهناك احتمالان آخران يختصّان بها، وقد يشاركها بعض أخواتها فيهما.
أحدهما: أنّها وأباها وأخاها يعلمون أن عمرها قصير، فإنّ وفاتها (عليها السلام) كانت سنة 201هـ فيكون عمرها على أكثر الاحتمالات أقل من ثلاثين عاماً، وهو عمر قصير بالقياس إلى الأعمار المتعارفة.
وحيث كانت تعلم بذلك فلم يكن لديها ما يرغّبها في الزواج.
وثانيهما: أنّها لمّا كانت تشاهد ما يجري على أهل بيتها وبني عمومتها من حكّام بني العباس من القتل والسّجن والتشريد، وما يلاقيه أبوها وأخوها من الإيذاء عزفت نفسها عن الزواج، ومن الطبيعي أن في عدم الاطمئنان في الحياة صارفاً قويّاً عن الزواج.
هذا ولعل هناك سبباً أو أسباباً أخرى وراء ذلك لم ندركها، وكم ذكرنا أن الأمر شأن خاص قد أريد إخفاء سرّه عن الناس.