• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

محنة الإمام الجواد (عليه السلام)

وهناك بعد آخر في قضية الإمام الجواد (عليه السلام)، وهو بعد محنته. وباعتبار أننا في ظروف المحنة فيحسن بنا أن نتعرض إلى قدوتنا في هذا الامتحان وهم أئمتنا (عليهم السلام)... لقد كان الإمام الجواد (عليه السلام) ممتحناً، وعلى ما يبدو أنّ امتحانه (عليه السلام) كان في عدة جوانب: الجانب الأول: امتحانه (عليه السلام) بموقفه الاجتماعي. ولعله أشد هذه الجوانب، وهو من الأُمور التي لا يعرفها الإنسان إلاّ عندما يبتلى بها.
بعض الناس يتصور أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) ولد في موقع العزة والكرامة الدنيوية، حيث كان أبوه ولي عهد هذه الدولة وصفتها، ومن ناحية الموقع الأُخروي فالإمام الرضا (عليه السلام) كان له موقع خاص عند المسلمين من الناحية المعنوية والروحية مع قطع النظر في اعتقادنا بإمامته هذا الموقع الخاص، فالمسلمون كانوا ينظرون للإمام الرضا (عليه السلام) ولموقعه المعنوي الخاص، هذا الموقع الذي فرض على المأمون أن يأتي بالإمام الرضا (عليه السلام) ويجعله ولياً للعهد. إذن فهو قد جمع الدنيا والآخرة. فهذا الشاب الصغير تصدى للإمامة وعمره سبع سنين، ووجد في مثل هذا الوضع الاجتماعي.
وبعد سنتين من وفاة الإمام الرضا (عليه السلام) يأتي المأمون وهو رئيس الدولة وخليفة الزمان ـ فيعرض عليه الزواج من ابنته، ويلقى هذا الزواج احتجاجاً واسعاً جدّاً من قبل العباسيين، باعتبار أنهم كانوا يرون بأنّ هذا الزواج تمهيد لكي يكون الإمام الجواد هو الخليفة بعد المأمون، لأنّ العباسيين كانوا يرون أن المأمون يميل إلى الهاشميين، ومع قطع النظر عن تفسير هذه القضية، ولكن الرؤية العامة كانت هكذا.
فزوجه المأمون ابنته وهو في عمر تسع سنوات، أي: بعد سنتين من شهادة الإمام الرضا (عليه السلام).
ولم يكن الإمام الجواد (عليه السلام) في وصفه الاجتماعي العام في وضع الزواج، ففي عمر تسع سنوات لا يتزوج الإنسان عادة، وزوجته أيضاً صغيرة السن، ولكن المأمون زوجها باعتباره أنه وليها.
فالإمام الجواد (عليه السلام) كان له هذا الوضع، وعاش في وسط هذه العزة والكرامة الدنيوية من ناحية، والمعنوية من ناحية أُخرى.
وهذا الأمر فرض عليه نوعاً من الامتحان والابتلاء، بحيث يذكر المؤرخون: إنّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان يتمنى الموت، ويرى أن فرجه بالموت، من خلال هذا الامتحان والابتلاء.
وأما ما هي أبعاد هذا الامتحان؟ فالحديث فيها واسع، ولا يعرفه إلاّ أهله الذين ابتلوا بمثل هذا النوع من الابتلاءات. فالإنسان الذي يرى الدنيا لهواً ولعباً، فيبتلى بها وتفرض عليه بحيث يكون سلوكه العام سلوكاً دنيوياً والناس ينظرون إليه وكأنه من أهل الدنيا، فهذا من أعظم الابتلاءات ويبدو من بعض النصوص التاريخية: إنّ الإمامين الرضا والجواد (عليهما السلام) كانا يتعرضان إلى انتقاد واسع من قبل الناس في هذا التصدي، لأنّ الإنسان في هذا الموقع يلبس لباساً خاصاً، ويجلس مجلسا خاصا، ويتعامل بطريقة خاصة، وهذه الطريقة كانت تثير الكثير من الناس.
وهناك رواية طويلة يسأل السائل فيها الإمام الجواد (عليه السلام)، ويقول له: جعلني الله فداك ما تقول في المسك(1)؟
فقال (عليه السلام): إنّ أبي أمر أن يعمل له مسك في فأرة(2)، فكتب إليه الفضل يخبره أن الناس يعيبون ذلك عليه(3)، فكتب (عليه السلام): يا فضل: أما علمت أن يوسف كان يلبس ديباجاً مزروراً بالذهب، ويجلس على كراسي الذهب، فلم ينتقص ذلك من حكمته شيئاً، وكذلك سليمان. ثم أمر أن يعمل له غالية بأربعة آلاف درهم.
وهذه القصة على إيجازها تشير إلى هذا الجانب، وأن موقعه كان يفرض عليه أن يتعامل بطريقة معينة في الحياة، بحيث تتناسب مع هذا الموقع.. ولكن هذا كان يثير الضغائن عليه بصورة كبيرة جدّاً.

امتحان الإمام الجواد (عليه السلام) بانحراف أحد أولاده
وفي جانب ـ على ما يبدو من النصوص ـ نجد أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) ابتلي بانحراف أحد أولاده. فالإمام (عليه السلام) لم يترك إلاّ ولدين وبنتين أو ثلاث بنات، على كلام في التاريخ، والولد الأول: هو إمامنا وسيدنا أبو الحسن الثالث علي الهادي (عليه السلام)، والولد الثاني: هو موسى، وكان منحرفاً في سلوكه الاجتماعي العام، وكان ـ على ما تذكر النصوص ـ يشرب الخمر ويتعاطى أُموراً من هذا القبيل، كما يتعاطاها أهل الدنيا.
وهناك قصة تقول: إنّ المتوكل العباسي حاول أن يستغل هذا الإنسان من أجل أن يهتك بالإمام الهادي (عليه السلام)، حيث ان الناس يعرفون أن موسى هو ابن الإمام الجواد (عليه السلام)، ويأتون به ويجلس مجالسهم، ويشرب ويصنع ما يصنع، ثم يقال: إنّ ابن الرضا يصنع كذا..! فالقضية تشمل الإمام الهادي (عليه السلام)، وهذه القضية تذكر في الإمام الجواد، ولعل ذكرها في تاريخه باعتبار الخصوصية، فالإمام الجواد (عليه السلام) كان يرى أن هذا الموقع الاجتماعي العام يؤدي إلى انحراف ولده، وقد أُصيب ولده بهذا الانحراف بسبب هذا الموقع; لأنّ موقع الإمام الجواد (عليه السلام) ـ كما ذكرت ـ موقع خاص، وإن كان يتمكن أن يحفظ نفسه ويداري أولاده ويحافظ عليهم، ولكن قد يقع هذا الولد في انحراف.
وقد أشار القرآن الكريم إلى وجود مثل هذه الانحرافات في تاريخ الصالحين من عباد الله كنوح (عليه السلام). وتوجد هذه الانحرافات في أولاد أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، وهم أطهر الناس وأفضلهم، وهذه المسألة ابتلي بها الإمام الجواد (عليه السلام)، وهكذا الإمام الهادي (عليه السلام)، فأحد أولاده هو جعفر (المعروف بالكذاب)، مع أنه ابن الإمام وأخو الإمام!!
فمثل هذه الانحرافات كان يتعرض لها أولاد أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بسبب الظروف الاجتماعية التي كانت تفرض عليهم. وهذه محنة عظيمة.
فإنسان مثل الإمام الجواد (عليه السلام) يرى أنّ هناك ظرفاً اجتماعياً يفرض عليه، ويؤدي إلى انحراف بعض أولاده، فهذه محنة عظيمة جدّاً يمتحن بها، كما امتحن بها بعض الأنبياء.
امتحان الإمام الجواد (عليه السلام) بحسد أدعياء العلم
الجانب الثاني: امتحانه (عليه السلام) بحسد أدعياء العلم. فقد كان في ذلك الوقت الكثير من العلماء، وكان بعض هؤلاء ليس عالماً بالمعنى الحقيقي للعلم، بل هو من أدعياء العلم، وكان يرى نفسه أفضل من الإمام الجواد (عليه السلام)، ومن ثم فعندما رأوا علم الإمام الجواد (عليه السلام) وفضله وقرته تنامى الحسد عندهم، وأدى بهم إلى أن يتامروا عليه (عليه السلام)، فكانت شهادته بسبب هذا التآمر، كما تذكر بعض النصوص.
وهناك نص يذكره المؤرخون، ويذكر العياشي صاحب التفسير المعروف عن زرقان صاحب أبي دؤار يقول زرقان: رجع أبو دؤار ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتم. فقلت له: لماذا أنت مغتم؟فقال: وددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة.
قال: قلت له: ولم ذاك؟
قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى (عليهم السلام) (4) اليوم، بين يدي أمير المؤمنين.قال: قلت له: وكيف كان ذلك؟
قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن علي (عليهما السلام)، فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟
قال: فقلت: من الكرسوع.
قال: وما الحجة في ذلك؟
قال: قلت: لأن اليد هي الأصابع والكف إلى الكرسوع، لقول الله في التيمم: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم}(5)، واتفق معي على ذلك قوم.
وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق.
قال: وما الدليل على ذلك؟
قالوا: لأن الله لما قال: {وأيديكم إلى المرافق}(6)، في الغسل، دلّ ذلك على أن حد اليد هو المرفق.
قال: فالتفت إلى محمد بن علي (عليهما السلام) (7) فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟
فقال: قد تكلم القوم فيه يا أمير المؤمنين.
قال: دعني مما تكلموا به، أي شيء عندك؟
قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين.
قال: أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه.
فقال: أما إذا أقسمت عليّ باللّه، إني أقول أنهم أخطئوا فيه السنة فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف.
قال: وما الحجة في ذلك؟
قال: قول رسول الله(صلى الله عليه وآله) السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى {وأن المساجد لله} يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها {فلا تدعو مع الله أحداً}(8) وما كان لله لم يقطع.
قال: فأعجب المعتصم ذلك، وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف.
قال ابن أبي دؤاد: قامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حياً(9).
قال زرقان: قال أبو دؤاد: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة(10)، فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وأنا أُكلمه بما أعلم أني أدخل به النار!
قال: وما هو؟
قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع من أُمور الدين فسألهم عن الحكم فيه،فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه(11)، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأُمَّة بإمامته(12)، ويدعون أنه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء.
قال: فتغير لونه وانتبه لما نبهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً.
قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله، فدعاه فأبى أن يجيبه، وقال: قد علمت أني لا أحضر مجالسكم.
فقال: إني إنَّما أدعوك إلى الطعام، وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك.
فصار إليه، فلما أطعم منها أحس بالسم، فدعا بدابته، فسأله ربّ المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليله في خلفه(13)، حتى قبض  (عليه السلام). وهذه القصة تعبر عن هذا النوع من الامتحان الذي امتحن به الإمام الجواد (عليه السلام)، في جانب من الامتحانات.
جواب الإمام محمد بن علي (عليه السلام) في محرم قتل صيدا    
لما عزم المأمون على أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) اجتمع إليه أهل بيته الأدنون منه فقالوا له يا أمير المؤمنين ناشدناك أن تخرج عنا أمرا قد ملكناه وتنزع عنا عزا قد لبسناه وتعلم الأمر الذي بيننا وبين آل علي قديما وحديثا فقال المأمون أمسكوا والله لا قبلت من واحد منكم في أمره فقالوا يا أمير المؤمنين أتزوج ابنتك وقرة عينك صبيا لم يتفقه في دين الله ولا يعرف حلاله من حرامه ولا فرضا من سنة ولأبي جعفر (عليه السلام) إذ ذاك تسع سنين
فلو صبرت له حتى يتأدب ويقرأ القرآن ويعرف الحلال من الحرام فقال المأمون إنه لأفقه منكم وأعلم بالله ورسوله وسنته وأحكامه وأقرأ لكتاب الله منكم وأعلم بمحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وظاهره وباطنه وخاصه وعامه وتنزيله وتأويله منكم فاسألوه فإن كان الأمر كما وصفتم قبلت منكم وإن كان الأمر على ما وصفت علمت أن الرجل خلف منكم فخرجوا من عنده وبعثوا إلى يحيى بن أكثم وهو يومئذ قاضي القضاة فجعلوا حاجتهم إليه وأطمعوه في هدايا على أن يحتال على أبي جعفر (عليه السلام) بمسألة في الفقه لا يدري ما الجواب فيها فلما حضروا وحضر أبو جعفر (عليه السلام) قالوا يا أمير المؤمنين هذا القاضي إن أذنت له أن يسأل فقال المأمون يا يحيى سل أبا جعفر عن مسألة في الفقه لتنظر كيف فقهه فقال يحيى يا أبا جعفر أصلحك الله ما تقول في محرم قتل صيدا فقال أبو جعفر (عليه السلام) قتله في حل أم حرم عالما أو جاهلا عمدا أو خطأ عبدا أو حرا صغيرا أو كبيرا مبدئا أو معيدا من ذوات الطير أو غيره من صغار الطير أو كباره مصرا أو نادما بالليل في أوكارها أو بالنهار وعيانا محرما للحج أو للعمرة قال فانقطع يحيى انقطاعا لم يخف على أحد من أهل المجلس انقطاعه وتحير الناس عجبا من جواب أبي جعفر (عليه السلام) فقال المأمون أخطب أبا جعفر فقال (عليه السلام) نعم يا أمير المؤمنين فقال الحمد لله إقرارا بنعمته ولا إله إلا الله إجلالا لعظمته وصلى الله على محمد وآله عند ذكره أما بعد فقد كان من قضاء الله على الأنام أن أغناهم بالحلال عن الحرام فقال جل وعز (وأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ واللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ثم إن محمد بن علي خطب أم الفضل ابنة عبد الله وقد بذل لها من الصداق خمسمائة درهم فقد زوجته فهل قبلت يا أبا جعفر فقال (عليه السلام) قد قبلت هذا التزويج بهذا الصداق فأولم المأمون وأجاز الناس على مراتبهم أهل الخاصة وأهل العامة والأشراف والعمال وأوصل إلى كل طبقة برا على ما يستحقه فلما تفرق أكثر الناس قال المأمون يا أبا جعفر إن رأيت أن تعرفنا ما يجب على كل صنف من هذه الأصناف في قتل الصيد فقال (عليه السلام) إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات الطير من كبارها فعليه شاة فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا وإن قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم فليست عليه القيمة لأنه ليس في الحرم وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ وإن كان من الوحش فعليه في حمار الوحش بقرة وإن كان نعامة فعليه بدنة فإن لم يقدر فإطعام ستين مسكينا فإن لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوما وإن كان بقرة فعليه بقرة فإن لم يقدر فليطعم ثلاثين مسكينا فإن لم يقدر فليصم تسعة أيام وإن كان ظبيا فعليه شاة فإن لم يقدر فليطعم عشرة مساكين فإن لم يجد فليصم ثلاثة أيام وإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ حقا واجبا أن ينحره إن كان في حج بمنى حيث ينحر الناس وإن كان في عمرة ينحره بمكة في فناء الكعبة ويتصدق بمثل ثمنه حتى يكون مضاعفا وكذلك إذا أصاب أرنبا أو ثعلبا فعليه شاة ويتصدق بمثل ثمن شاة وإن قتل حماما من حمام الحرم فعليه درهم يتصدق به ودرهم يشتري به علفا لحمام الحرم وفي الفرخ نصف درهم وفي البيضة ربع درهم وكل ما أتى به المحرم بجهالة أو خطإ فلا شي‏ء عليه إلا الصيد فإن عليه فيه الفداء بجهالة كان أم بعلم بخطإ كان أم بعمد وكل ما أتى به العبد فكفارته على صاحبه مثل ما يلزم صاحبه وكل ما أتى به الصغير الذي ليس ببالغ فلا شي‏ء عليه فإن عاد فهو ممن ينتقم الله منه وإن دل على الصيد وهو محرم وقتل الصيد فعليه فيه الفداء والمصر عليه يلزمه بعد الفداء العقوبة في الآخرة والنادم لا شي‏ء عليه بعد الفداء في الآخرة وإن أصابه ليلا أوكارها خطأ فلا شي‏ء عليه إلا أن يتصيد فإن تصيد بليل أو نهار فعليه فيه الفداء والمحرم للحج ينحر الفداء بمكة قال فأمر أن يكتب ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) ثم التفت إلى أهل بيته الذين أنكروا تزويجه فقال هل فيكم من يجيب بهذا الجواب قالوا لا والله ولا القاضي فقالوا يا أمير المؤمنين كنت أعلم به منا فقال ويحكم أ ما علمتم أن أهل هذا البيت ليسوا خلقا من هذا الخلق أ ما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بايع الحسن والحسين (عليه السلام) وهما صبيان ولم يبايع غيرهما طفلين أ ولم تعلموا أن أباهم عليا (عليه السلام) آمن برسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ابن تسع سنين فقبل الله ورسوله إيمانه ولم يقبل من طفل غيره ولا دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) طفلا غيره أ ولم تعلموا أنها ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم مسألة غريبة.
قال المأمون ليحيى بن أكثم اطرح على أبي جعفر محمد بن الرضا (عليه السلام) مسألة تقطعه فيها فقال يا أبا جعفر ما تقول في رجل نكح امرأة على زنا أ يحل أن يتزوجها فقال (عليه السلام) يدعها حتى يستبرئها من نطفته ونطفة غيره إذ لا يؤمن منها أن تكون قد أحدثت مع غيره حدثا كما أحدثت معه ثم يتزوج بها إن أراد فإنما مثلها مثل نخلة أكل رجل منها حراما ثم اشتراها فأكل منها حلالا فانقطع يحيى فقال له أبو جعفر (عليه السلام) يا أبا محمد ما تقول في رجل حرمت عليه امرأة بالغداة وحلت له ارتفاع النهار وحرمت عليه نصف النهار ثم حلت له الظهر ثم حرمت عليه العصر ثم حلت له المغرب ثم حرمت عليه نصف الليل ثم حلت له الفجر ثم حرمت عليه ارتفاع النهار ثم حلت له نصف النهار فبقي يحيى والفقهاء بلسا خرسا فقال المأمون يا أبا جعفر أعزك الله بين لنا هذا قال (عليه السلام) هذا رجل نظر إلى مملوكة لا تحل له اشتراها فحلت له ثم أعتقها فحرمت عليه ثم تزوجها فحلت له فظاهر منها فحرمت عليه فكفر الظهار فحلت له ثم طلقها تطليقة فحرمت عليه ثم راجعها فحلت له فارتد عن الإسلام فحرمت عليه فتاب ورجع إلى الإسلام فحلت له بالنكاح الأول كما أقر رسول الله (صلى الله عليه وآله) نكاح زينب مع أبي العاص بن الربيع حيث أسلم على النكاح الأول وروي عنه (عليه السلام) في قصار هذه المعاني.
قال له رجل أوصني قال (عليه السلام) وتقبل قال نعم قال توسد الصبر واعتنق الفقر وارفض الشهوات وخالف الهوى واعلم أنك لن تخلو من عين الله فانظر كيف تكون
وقال (عليه السلام) أوحى الله إلى بعض الأنبياء أما زهدك في الدنيا فتعجلك الراحة وأما انقطاعك إلي فيعززك بي ولكن هل عاديت لي عدوا وواليت لي وليا.
وروي أنه حمل له حمل بز له قيمة كثيرة فسل في الطريق فكتب إليه الذي حمله يعرفه الخبر فوقع بخطه إن أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة وعواريه المستودعة يمتع بما متع منها في سرور وغبطة ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره ونعوذ بالله من ذلك
وقال (عليه السلام) من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه ومن غاب عن أمر فرضيه كان كمن شهده
وقال (عليه السلام) من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق ينطق عن لسان إبليس فقد عبد إبليس
وقال داود بن القاسم سألته عن الصمد فقال (عليه السلام) الذي لا سرة له قلت فإنهم يقولون إنه الذي لا جوف له فقال (عليه السلام) كل ذي جوف له سرة.
فقال له أبو هاشم الجعفري في يوم تزوج أم الفضل ابنة المأمون يا مولاي لقد عظمت علينا بركة هذا اليوم فقال (عليه السلام) يا أبا هاشم عظمت بركات الله علينا فيه قلت نعم يا مولاي فما أقول في اليوم فقال قل فيه خيرا فإنه يصيبك قلت يا مولاي أفعل هذا ولا أخالفه قال (عليه السلام) إذا ترشد ولا ترى إلا خيرا.
وكتب إلى بعض أوليائه أما هذه الدنيا فإنا فيها مغترفون ولكن من كان هواه هوى صاحبه ودان بدينه فهو معه حيث كان والآخرة هي دار القرار
وقال (عليه السلام) تأخير التوبة اغترار وطول التسويف حيرة والاعتلال على الله هلكة والإصرار على الذنب أمن لمكر الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ
وروي أن جمالا حمله من المدينة إلى الكوفة فكلمه في صلته وقد كان أبو جعفر (عليه السلام) وصله بأربعمائة دينار فقال (عليه السلام) سبحان الله أ ما علمت أنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العباد وقال (عليه السلام) كانت مبايعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) النساء أن يغمس يده في إناء فيه ماء ثم يخرجها وتغمس النساء بأيديهن في ذلك الإناء بالإقرار والإيمان بالله والتصديق برسوله على ما أخذ عليهن وقال (عليه السلام) إظهار الشي‏ء قبل أن يستحكم مفسدة له
وقال (عليه السلام) المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله وواعظ من نفسه وقبول ممن ينصحه من كتاب تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله

الجواد ووراثة التوحيد...دفاع عن الوحدانية الحقة
ولم يكتفِ «محمد عليه السلام» في دفاعه عن مبدأ الإمامة ما لم يكن مطعّماً بمبدأ التوحيد، فالتشبيه والتجسيم صنمية الثقافة العباسية المستوردة من خلف الأسوار الإسلامية، تنتفض اليوم بعد أن دعاها معاوية بن أبي سفيان برجالاتها المنظِّرين: كعب الأحبار وأبو هريرة وأمثالهما؛ لإيجاد صيغ جاهزة تحرف المسيرة التوحيدية عن اتجاهها المحمدي الذي أرسى قواعده إبّان دعوته، وتتراجع هذه التنظيرات التجسيمية بعد تصدّي أهل البيت عليهم السلام خصوصاً، وعصر الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام يسمحان للتحرك بهذا الاتجاه، إلّا أنّ عصر المزاوجة الثقافية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي دعا المأمون أن يتسامح في إذكاء روح الثقافة التجسيمية من جديد، ولم يكن بوسع أئمة أهل البيت عليهم السلام إلّا أن يتصدَّوا لمثل هذه التيارات وإيقاف عتوِّها المقتلع لثواب التوحيد.
وكان الإمام علي بن موسى الرضا عليهما السلام قد تمتّع بفرصة الحوار مع اُولئك المجسِّمة من المسلمين والديانات الاُخرى: يهودية ونصرانية ومجوسية وغيرها، فاغتنم فرصة المحاورات الرسمية التي عقدها المأمون لإظهار فضل الإمام الرضا عليه السلام ومقامه العلمي، وتصويب رأيه في اختياره الموفق للإمام ولياً للعهد، واليوم خليفته الجواد يعتلي منصّة الحوار، ويلقي من نظريات التوحيد ما توقّف معها انتهاكات اُولئك المجسِّمة وأمثالهم.
ففي جوابه لمن سأله عن الرب تعالى: ألَهُ أسماء وصفات في كتابه؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو؟
فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّ لهذا الكلام وجهين: إن كنت تقول: (هي هو) أنّه ذو عدد وكثرة فتعالى اللَّه عن ذلك، وإن كنت تقول: (هذه الأسماء والصفات لم تزل) فإنّ ممّا لم تزل محتمل على معنيين:
فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو يستحقها فنعم، وإن كنت تقول: لم تزل صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ اللَّه أن يكون معه شي‏ء غيره، بل كان اللَّه تعالى ذكره ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرعون بها إليه ويعبدون، وهي ذكره وكان اللَّه سبحانه ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو اللَّه القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات، والمعنيّ بها هو اللَّه، لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنّما يختلف ويتألّف المتجزّئ، ولا يقال له: قليل ولا كثير، ولكنّه القديم في ذاته؛ لأنّ ما سوى الواحد متجزِّئ، واللَّه واحد لا متجزّئ ولا متوهّم بالقلّة والكثرة، وكل متجزّئٍ أو متوهّم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دالّ على خالق له، فقولك: (إن اللَّه قدير) خبّرت أنه لا يعجزه شي‏ء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز لسواه، وكذلك قولك: (عالم) إنّما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل لسواه، فإذا أفنى اللَّه الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع فلا يزال من لم يزل عالماً».
فقال الرجل: فكيف سمّينا ربّنا سميعاً؟
فقال عليه السلام: «لأ نّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأسماع، ولم نَصِفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سمّيناه بصيراً لأ نّه لا يخفى عليه ما يُدرَك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر طرفة العين، وكذلك سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشي‏ء اللطيف مثل البعوضة وما هو أخفى من ذلك، وموضع المشي منها والشهود والسفاد، والحدب على أولادها، وإقامة بعضها على بعض، ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمغاور والأودية والقفار، وعلمنا بذلك أنّ خالقها لطيف بلا كيف، إذ الكيف للمخلوق المكيَّف.
وكذلك سمّينا ربّنا قوياً بلا قوة البطش المعروف من الخلق ولو كانت قوته قوة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً، فربنا تبارك وتعالى لا شبه له، ولا ضدّ ولا ندّ، ولا كيفية، ولا نهاية، ولا تصاريف، محرّم على القلوب أن تحمله، وعلى الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تصوّره، جلّ وعزّ عن أداة خلقه، وسمات بريّته، تعالى عن ذلك علواً كبيراً»[14].
وفي رواية داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»[15] ما معنى الأحد؟
قال: «المجمع عليه بالوحدانية، أما سمعته يقول: «وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»[16] ثم يقولون بعد ذلك: له شريك وصاحبة».
فقلت: قوله: «لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ»؟[17]
قال: «يا أبا هاشم، أوهام القلوب أدقّ من إبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السِند والهند والبلدان التي لم تدخلها، ولم تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لاتدركه، فكيف تدركه الأبصار»[18].
وفي حديث بن أبي نجران قال: سألت: أبا جعفر الثاني عليه السلام عن التوحيد، فقلت: أتوهم شيئاً؟
فقال: «نعم، غير معقول ولا محدود، فما وقع وهمك من شي‏ء فهو خلافه، لايشبهه شي‏ء ولا تدركه الأوهام، كيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل وخلاف ما يتصور في الأوهام؟ إنّما يتوهّم شي‏ء غير معقول ولا محدود»[19].
وسئل عليه السلام: أيجوز أن يقال للَّه: إنّه شي‏ء؟
فقال عليه السلام: «نعم، تخرجه من الحدّين: حدّ الإبطال، وحدّ التشبيه»[20].
في واقع إسلامي أغرقته نظريات المتفلسفين القادمة ضمن حملات الترجمة التي بدأها المأمون في جلب الكثير من كتابات الروم الفلسفية، وتوجّهات الهند القصصية، ومساعي الفرس الأدبية، فضلاً عن ثقافات أهل الصين، ومحاولات الترك، ونزعات البربر، وفنون اليونان، وغيرها من تجسيمات اليهود، وتثليث النصارى، واختلافات أهل الملّة، كل ذلك أربكت عقلية الفرد وأودت بالجماعة الإسلامية إلى تقمّصات هذه الثقافات الجديدة غير الواعية في معرفة صفات اللَّه، فخلطت بين صفات الذات وصفات الفعل، وأثبتت من صفات التنزيه ما كان ينبغي أن تجلّ عنه الذات وتوصف به أفعاله تعالى، وانزلق المجتمع الإسلامي إلى مهاوي التشبيه ومحاولات الإلحاد، حتى كان للإمام الجواد وقبله والده الإمام الرضا عليهما السلام الأثر في صدّ عادية هذه التيارات الفكرية المنحرفة.. وأنت ترى ما لهذه الاُسس التوحيدية في كلام الإمام الجواد من أثر في انتشال المدرسة الإسلامية من مخاطر الانحراف الفكري القادم.
أبو جعفر الإمام.. الإمامة المبكِّرة..
ولم يلبث الإمام الرضا في خراسان حتى تمت المؤامرة... إنها مؤامرات اللعب السياسية التي زاولها المأمون.. ولم يكن من أمر غير إنهاء المرحلة الحرجة من الحياة السياسية للعباسيين.. وتنافسات الأطراف المتنازعة تؤجج لظى التسابق السياسي الذي ينتهي بشهادة الرضا مسموماً سنة (203) للهجرة في صفر من ذلك العام.
ويصل خبر نعي الإمام الرضا عليه السلام إلى المدينة، وأبو جعفر يومها في السابعة من العمر... كان الموقف مضطرباً.. فالتجربة الجديدة في تولّي الإمامة المبكّرة أمرٌ لم يألفه الناس، وحتى شيعة الإمام فإنّهم لم يألفوا إمامة الصبيّ وهو في السابعة، فأخذوا يتجاذبون الحديث عن صلاحية الإمامة لهذه السِنّ المبكرة.. إنّها محنة التسليم لأمر اللَّه تعالى حين يأتي وليّه الحكم وهو صبيّ... وإذا غابت مسوّغات لإمامة المبكرة فإنّ القرآن لم يغِبْ عن أذهان الناس حين يذكِّرهم بالصبيّين اللذَين آتاهما اللَّه الحكم والكتاب «يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً»[21] وكان يحيى معجزة احتجّ بها اللَّه على عباده...
ولم تكن مرحلة يحيى وحدها معجزة، فإنّ في عيسى تتكرّر معجزة النبوة المبكّرة، ولا تزال التجربة تختبر الناس في تسليمهم لأمره تعالى... كانت نبوة عيسى امتحاناً عسيراً لاُولئك الذين يتساءلون عن أمر الصبيّ عيسى كيف يكون نبياً؟ «فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ»[22].
وذلك محمد بن علي الذي فيه يمترون، بل فيه يضطربون.. وفيه يخوضون.. ولم يكن الرضا قد غاب عنه ما توجّس منه أصحابه في صغر سِنِّ ولده الخليفة والإمام القادم... هي تجربتهم الاُولى في الإمامة المبكّرة..
كان أصحاب الرضا يتساءلون عن أمر ذلك.. وكان الخيرانيّ يروي عن أبيه هذا الموقف الذي يبيّن تصورات شيعة الإمام ومواليه، قال: كنت واقفاً بين يدي أبي الحسن عليه السلام بخراسان، فقال له قائل: يا سيدي، إن كان كون فإلى‏ من؟ قال: «إلى أبي جعفر ابني» فكأنّ القائل استصغر سنّ أبي جعفر عليه السلام، فقال: أبو الحسن عليه السلام: «إنّ اللَّه تبارك وتعالى بعث عيسى بن مريم رسولاً نبياً، صاحب شريعةٍ مبتدأةٍ في أصغر من السِنّ الذي فيه أبو جعفر عليه السلام»[23].
وفي رواية صفوان بن يحيى قال: قلت للرضا عليه السلام: قد كنّا نسألك قبل أن يهب لك اللَّه أبا جعفر؟ فكنت تقول: «يهب اللَّه لي غلاماً»، فقد وهبه اللَّه لك، وقرَّ عيوننا به، فلا أرانا اللَّه يومك، فإن كان كون فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت له: جعلت فداك، وهذا ابن ثلاث سنين؟ قال: «وما يضرّ من ذلك! قد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين»[24].
وروى الكشّي في رجاله بإسناده، عن أبي الحسين بن موسى بن جعفر قال: كنت عند أبي جعفر عليه السلام بالمدينة وعنده عليّ بن جعفر، وأعرابي من أهل المدينة جالس، فقال لي الأعرابى: مَن هذا الفتى؟ وأشار بيده إلى أبي جعفر عليه السلام، قلت: هذا وصيّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فقال: يا سبحان اللَّه! رسول اللَّه قد مات منذ مئتي سنة وكذا وكذا سنة، وهذا حدث كيف يكون؟![25]
هكذا يضطرب الناس في إمامة أبي جعفر السُباعيّ، فهي تجربتهم الجديدة في المعرفة، والتسليم لإمامة مبكّرة شاء اللَّه أن يجعلها وراثة آبائه المعصومين... وهذا علي بن جعفر عمّ أبيه يمر بتجربة الإمامة المبكرة ليتصاغر لأمر اللَّه ويذعن لإرادته في أوليائه المكرّمين....
كان عليّ بن جعفر قد ناهز الثمانين عاماً، وهو عمّ أبيه - أي عمّ الرضا - قد عرف منزلة أبي جعفر، وأدرك أنّ الإمامة ليست بالسِنّ والشيخوخة وغيرها... إنّما هو أمر إلهى... سرّ إلهى.. مكنون من مكنونات الغيب، لا يحلّ غوامضه إلّا التسليم لأمره تعالى.. وهكذا فعل علي بن جعفر... فقد أصاب هذا الشيخ في فعله لأبي جعفر وفي تسليمه لأمر اللَّه... كان عليّ بن جعفر نموذجاً رائعاً من نماذج الطاعة والتسليم لأمر لا يعرف منه إلّا أنّه «أمر اللَّه»...
روى محمد بن الحسن بن عمّار قال: كنت عند علي بن جعفر الصادق جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب عنه ما سمع من أخيه - يعني أبا الحسن موسى الكاظم عليه السلام - إذ دخل عليه أبو جعفر محمد بن علي الرضا عليه السلام في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فوثب علي بن جعفر رحمه الله بلا حذاء ولا رداء، فقبّل يده وعظّمه، فقال له أبو جعفر عليه السلام: «يا عمّ، اجلس رحمك اللَّه»، فقال: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم؟.
فلمّا رجع عليّ بن جعفر إلى مجلسه جعل أصحابه يوبّخونه ويقولون: أنت عمّ أبيه وأنت تفعل به هذا الفعل؟! فقال: اسكتوا، إذا كان اللَّه عزّ وجلّ - وقبض على لحيته - لم يؤهِّل هذه الشيبة، وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعوذ باللَّه ممّا تقولون، بل أنا له عبد[26].
هكذا كان عليّ عمّ أبيه... الشيخ المحدِّث.. الفقيه... شيخ الهاشميّين سنّاً.. لازم جعفر الإمام والده.. وموسى الإمام أخاه.. وعليّ الإمام ابن أخيه... روى عنهم وسمع أحاديثهم.. وتفقّه بفقههم حتى صار عليّ الفقيه والمحدِّث ونقيب العلويّين في وقته.. هو اليوم يخضع لإمامة ابن أخيه الصبيّ السُباعيّ... ولا يرى شيخ الهاشميين ونقيبهم ضيراً أن يتصاغر للإمام أبي جعفر، وأن يعظِّم مقامه، ويراعي حقّه... فقد تربّى في كنف ثلاثة أئمّة... فعليه اليوم أن يظهر ما تأدّب عليه من التسليم والطاعة والاتّباع لإمام وقته.. خليفة أبيه.. بل خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.. وكان الناس يوبّخون الشيخ على توقيره لهذا الصبيّ السُباعيّ.. إنّهم لا يدركون إلّا أنّه الصبي «محمد».. وعلي لا يدرك عن محمدٍ إلاّ أ نّه الإمام... الحجة.. خليفة أبيه... بل خليفة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله.

کتاب : الامام الجواد الامامة المبكرة
محمد بن عليّ .. وصيّ آبائه‏
كانت إمامة أبي جعفر تعنى‏ برعاية آبائه.. وعناية أسلافه المعصومين.. إنّها وصاية تتعدّى تقليدية الأعراف الاُسرية في الحفيد القادم... وكان «محمد» أملَ من سبقه ليقوم بالأمر.. فلعلّ «محمداً» الصبيّ سيعاني صخب المشكِّكين وضجيج المعترضين في الإمامة المبكّرة.. التجربة الاُولى... والعملية الجديدة في الإعجاز الإلهي تتعدّى حسابات اُولئك الذين تتزعزع في نفوسهم إرادة التسليم للغيب، والإذعان للمعجزة...
كانت بوادر الإمامة القادمة من ثنايا الغيب تحمل أسرار التحدّي للوارثة الملوكية في بني العباس... وفي بني اُميّة من قبل... فالوراثتان الاُموية والعباسية ترتسم فيهما ملامح كسروية في الطاعة وقيصرية في التسليم.. فكسرى يرث كسرى، وقيصر محلّ قيصر، والجميع يغضّ الطرف عن صلاحية المورّث وأهلية الوريث.. إنّها تقليدية الملك، وأعراف السلطنة في اُولئك القياصرة والأكاسرة.. وفي هؤلاء الاُمويين والعباسيين.. فالجميع تجمعهم الوراثة الدنيوية، وليست هي وراثة إلهية كما يزعمون.. إذن إمامة «محمد» ستكون تحدّياً لبني العباس، وإبطالاً لاُكذوبتهم في وراثة رسول اللَّه...
والأمر مختلف الآن.. «فمحمد» الإمام يحظى برعاية خاصة.. و«محمد» الآن يحفل بتراث نبوي ومعصومي يفوق تصورات اُولئك المشاغبين، والمعطِّلين لإرادة اللَّه في عباده.. اُكذوبة المدّعين تفتضح اليوم، فأبو جعفر الإمام.. السُباعيّ من العمر يتحدّى عراقيل السياسة وطيش المغامرين في السلطة، وأبو جعفر ينتظر تحدّيات اُولئك العابثين الذين يحاولون عبثاً أن يُحبِطوا مشروع أبي جعفر في الإمامة المبكّرة.. مشروع آبائه.. مشروع النبيّ.. بل المشروع الإلهي بعد هذا وذاك..
کتاب : الامام الجواد الامامة المبكرة
بشارة النبيّ صلى الله عليه وآله‏
كان النبي يتطلّع ما وراء الغيب.. يترنّم بكلمات لم يدركها اُولئك النفر الذين يحيطون به صلى الله عليه وآله، إلّا أ نّهم يستمعون إلى مناجاة تسمو في روعتها تراتيل النبوة في سفر الغيب المكنون... إنّهم لا يدركون شيئاً إلّا أ نّها متعة الاستماع لكلمات يضوع شذاها فمه الطاهر... فالنبي الآن يستذكر حفيده السابع.. يفدِّيه بأبيه، ويذكر أنّ اُمّه هي خِيرة الإماء المنتجبة، يستمعون إليه وهو يقول: «بأبي ابن خِيرة الإماء، ابن النوبية الطيّبة الفم، المنتجبة الرحم»[27].
ولم يُخفِ النبي صلى الله عليه وآله عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري أسماء أوصيائه وخلفائه من بعده.. فجابر يحبوه النبي بكرامة البشارة، إنّه يحمّله أمانة التبليغ، وجابر قَمِين أن يؤدّي الأمانة كما ائتمنه النبي صلى الله عليه وآله، كيف لا وجابر يتشوّق إلى حديث الغيب؟ وأيّ رجلٍ لا يفخر بهذه المهمة؟! فحقيق بجابر أن يفخر وهو يتحدّث في مجلسه الذي يضمّ شيوخ الرواية، كجابر بن يزيد الجعفي وأمثاله، فقد سمع من جابر الأنصاري يقول: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وآله:
«يا جابر، إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم عليّ، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم عليّ بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف بالباقر، ستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن على، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن على، ثم القائم اسمه اسمى، وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن على...»[28] .
ولم يقتصر الأمر على ذكر وصايته صلى الله عليه وآله لحفيده الإمام القادم محمد بل كانت خلقته النورية كآبائه الطاهرين موضع اهتمامه، وهي دلالة عظمته، وعلوُّ قدره، وكمال منزلته، فهو كآبائه شرفاً، ومرتبة، ومقاماً..
كان صلى الله عليه وآله ينقل مشاهداته عند عروجه إلى الملكوت الأعلى، يروي نِعَمَ اللَّه تعالى عليه وعلى ذرّيته، خلفائه من بعده، وأوصيائه على اُمته.. فلعلّ حديثه ذاع واستطار في آفاق الدنيا، كَسَرَيانه في آفاق النفس المتلهّفة لمعرفة المجهول، كان يحدِّث أصحابه صلى الله عليه وآله فيقول:
«ليلة اُسرِيَ بي إلى السماء قال لي الجليل جلّ وعلا: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ»[29]، قلت: والمؤمنون، قال: صدقت يامحمد، من خلّفتَ في اُمّتك؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب؟ قلت: نعم ياربِّ قال: يا محمد، إنّي اطّلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتُكَ منها، فشققت لك اسماً من أسمائي فلا اُذكر في موضع إلّا ذُكرتَ معي، فأنا المحمود وأنت محمد. ثم اطّلعت الثانية فاخترت علياً وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا الأعلى وهو عليّ. يامحمد، إنّي خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نورٍ من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات وأهل الأرض فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين، يا محمد، لو أن عبداً من عبيدي عبدني حتى ينقطع، أو يصير كالشنّ البالي، ثم أتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى يقرّ بولايتكم، يا محمد، أتحبّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربِّ.
فقال لى: التفت عن يمين العرش، فالتفتّ فإذا أنا بعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن عليّ، وعليّ بن محمد، والحسن بن عليّ، والمهدي، في ضحضاح من نورٍ قياماً يصلّون وهو في وسطهم - يعني المهدي - كأنّه كوكب دري.
قال: يا محمد، هؤلاء الحجج، وهو الثائر من عترتك، وعزّتي وجلالي إنّه الحجّة الواجبة لأوليائي، والمنتقم من أعدائي»[30].
هكذا كان محمد النبي يبشِّر بمحمدٍ الوصيّ.. كان الجدّ يقرأ الحفيد على أنّه ملحمة الكرامة النبوية، وعطاء الرَبّ الذي لا ينضب.
------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
1-المسك: هو حالة متعارفة في بعض البلاد وخصوصاً المناطق الخليجية، حيث تكون هناك مجمرة يوضع فيها الطيب، ثم تعرض هذه المجمره على الحاضرين. وهذا رسم من رسوم المجالس التي كانت موجودة في ذلك الوقت، وخصوصاً مجالس الأعياد والشخصيات والأشراف.
2- الفأرة: هي هذه المجمرة التي يوضع فيها المسك.
3- إنّ هذا الأمر لا يتناسب مع إنسان كالإمام الرضا (عليه السلام) في زهده وإعراضه عن الدنيا وعن هذه المراسيم والظواهر والزخارف.
4- عبّر بـ (الأسود) ; لأن الإمام الجواد (عليه السلام) كان لونه حنطي، أي: فيه شيء من السمرة، لأن أُمّه كانت (نوبية) أي: سوداء، على ما يذكر التاريخ.
5- النساء: 43، والمائدة: 6.
6- المائدة: 6.
7- وكان شاباً وعمره اثنان وعشرون عاماً.
8- الجن: 18.
9- قال هذا بدل أن يأخذ العلم ويستفيد منه!
10- أي: بعد ثلاثة أيام.
11- لاحظوا: إنّ الإمام الجواد (عليه السلام) كان يتصدى من هذا الموقع، وقد كان بارزاً.
12- وهنا يحاول أن يحرك الخليفة!
13- أي: أخذه الخروج.
[14] الاحتجاج للطبرسي 2/467، ح‏321 - عندالبحار: 4/153، ح‏1.
[15] الاخلاص : 1 .
[16] العنكبوت: 61.
[17] الأنعام: 103.
[18] الاحتجاج 2/465 - عند البحار: 4/39، ح 17.
[19] ح 32، عن توحيد: ص‏103، ح‏6، عندالبحار: 3/266، ح‏22.
[20] التوحيد: ص‏104، ح‏7، عندالبحار: 3/260، ح‏29، الاحتجاج: 2/466، ح‏320.
کتاب : الامام الجواد الامامة المبكرة
[21] مريم: 12.
[22] مريم: 29 - 34.
[23] اُصول الكافي: 1/322، ح‏13.
[24] الفصول المهمة لابن الصبّاغ: 261.
[25] رجال الكشّي: نقله عند معجم رجال الخوئى: 2/316، خمس/7979.
[26] كافى: 1/322، ح‏12.
[27] اُصول الكافي: 1/323، ضمن ح 14.
[28] كشف الغمّة للأربلي: 2/1006.
[29] سورة البقرة: آية 258.
[30] فرائد السمطين: 2/319.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page