• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الامــام الهــادي (عليه السلام) قدوة وأسوة

تمهيــد
الحمد لله رب العالمين . والسلام على النبيّين والصديقين ، وصلوات اللـه وبركاته على خاتم المرسلين محمد وآله الهداة الميامين .
أفكر في نفسي أحياناً : هل تكفي أحدنا صلة بالأئمة هذه المعرفة البسيطة بأسمائهم وتواريخ ميلادهم وشهادتهم ؟
وهل بمجرد ذلك يصبح الواحد منا تابعاً للأئمة بحيث يكون مأموماً لهم ، وما علامة الائتمام إذاً ؟
وإذا مثل الواحد منا أمام رب العزة فسأله : من إمامك أو من هم أئمتك ؟ فعرّفهم بأسمائهم دون صفاتهم وأفعالهم فلم يعرفوه بل أنكروه وأنكروا أن يكون من شيعتهم فهل له عذر مقبول عند اللـه يومئذ ؟
أشك في ذلك ، وأحتمل أن يكون على موالي أهل البيت الذي يدعي الإنتماء إليهم ، والتشيع لهم واتباع منهجهم أن يعرفهم معرفة تنشئ بينه وبينهم صلة الإئتمام ، وهي معرفة تتجاوز كثيراَ حدود الأسماء والألقاب ، حتى تبلغ - على الأقل - إلى معرفة نهجهم العام في الحياة ، وبعض ما أمروا به شيعتهم .
وإذا كان هذا الإحتمال صحيحاً يجب أن يجعل الشيعي في برنامج دراسته معرفة تاريخ الأئمة ولو بصورة موجزة .
على أن الإستزادة من معرفتهم (ع) ، ودراسة أقوالهم ترفع درجات الإنسان عند ربه ، كما ترفع قيمة أعماله الصالحة .
وما نقدمه خلال الصفحات التالية بضاعة مزجاة إلى أئمة الهدى ، أرجو أن يتقبلها اللـه قبولاً حسناً ومنةه ..
وإذا وفقنا اللـه لإكمال هذا الكتاب الذي يتشرف بتاريخ حياة الإمام العاشر (ع) ، فإن مشروع التآليف عن تاريخ المعصومين الأربعة عشر يكون قد أنجز بفضل اللـه بالرغم من أنه قد تكون الفاصلة الزمنية بين الكتاب والآخر تبلغ ثلاثا وعشرين عاماً من سني المحن والفتن ، وإذا وجد القارىء اختلافاً بين أساليب التأليف ، فهو الإختلاف بين شاب عمره 23 عاماً ومن بلغ الخامسة والأربعين من حياته التي أسأل اللـه تعالى أن يختمها بالشهادة في سبيله وحسن العاقبة بحق أوليائه المعصومين محمد وآله الطاهرين .

الفصل الاول : منعطفات الحركة الرسالية
منذ أن هبط آدم أبو البشر (ع) أرض الفتن والإبتلاء ، ومن قيام الساعة تجري سنّة الصراع بين الأبرار الذين ابتغوا رضوان اللـه ، والضّالين الذين اتبعوا خطوات الشيطان .
ولم تخل الأرض - في أية حقبة - عن أولي بقية من سلالة النبيين واتباعهم ينهون عن الفساد في الأرض ، ويقيمون حجة اللـه على العباد .
وقد قال ربّنا سبحانه : {  فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ اُولُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَآ اُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ } (هود/116)
وكان يقود أولئك البقية الصالحة نبي مرسل ، أو وصي نبي ، أو عالم رباني ، يتوارثون الدعوة إلى اللـه، والقيام بامره . وورث الإمام الهادي (ع) هذه القيادة الرشيدة من والده الجواد (ع) الذي انتهى إليه ميراث رسول اللـه خاتم الأنبياء والمهيمن على رسالات اللـه جميعاً ! فالإمامة الربانية ورثها المصطفون من عباد اللـه ، وان نهج الحق توارثه العلماء الربانيون ، وأهل الزهد والصلاح من شيعة الحق واتباع نهج الأنبياء .
وكان هدف هذا الخط الميمون تحقيق ذات التطلعات التي سعى إليها الأنبياء والصالحون عبر التاريخ والتي يوجزها ربّنا سبحانه في كتابه حين يقول : {  لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللـه مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللـه قَوِيٌّ عَزِيزٌ } (الحديد/25)    
ان ما تهدينا اليه سائر الآيات القرآنية ومنها هذه الآية المباركة هي الغايات السامية لابتعاث الرسل وهي التالية :
ألف : الدعوة إلى اللـه بالبينات ، التي تتمثل في كلمة الإمام أمير المؤمنين (ع) :
“ ليستــــأدوهـم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ، ويقدروا لهم بالبينات ، وليثيروا لهم دفائن العقــــول ...” .
هكذا بإيقاظ العقل من سباته ، وإثارة الوجدان من تحت ركام الغفلة ، وتنقية الفطرة من الشوائب ، والحجب ، بذلك كله تتم حجة اللـه على عباد اللـه عبر رسله الكرام !
باء : تـــــلاوة كتاب اللـه الذي فيه تبيان كل شيء مما يحتاجه الخلق ، وعبر تــــــلاوة الكتاب وآياته الكريمــــة
كان الأنبياء (ع) يقومون بتزكية الناس وتعليمهم وقد قال ربنا سبحانه :
{  هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } (الجُمُعَة/2)
جيم : توفير الميزان : والذي يعني ولي الأمر الذي يقضي بين الناس بالعدل ، وقد قال ربنا سبحانه :
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } (النساء/65)
وهكذا كل من يستلم منصب الخلافة الإلهية يكون ميزاناً للحق وفرقاناً ونوراً ، ليعلم الناس إذا تشابهت المذاهب ، واختلفت الآراء ، أي سبيل يهديهم إلى ربهم ، وأي نهج يرضاه خالقهم .
دال : والهدف الأسمى لكل تلك التطلعات السامية تحقيق أقصى درجات العدالة بين الناس وهي القسط ، والتي لا تتم إلاّ بإيمان الناس بالرسل واتباعهم للكتاب وتسليمهم للميزان - لذلك قال ربنا سبحانه : { ليقوم الناس بالقسط }
ومعلوم : أن هذا القسط لا يتحقق بالتمام إلاّ بقوة مادية رادعة تتمثل بالحديد الذي أنزله اللـه .. وجعل فيه بأساً شديداً .
والحديد بدوره لا يعني شيئاً لو لم تحمله أيادي شجاعة متفانية في سبيل اللـه ونصر دينه ورسله .
فإذا حملوا الحديد دفاعاً عن وحي اللـه ونهج رسل اللـه ، نزل عليهم نصر اللـه إن اللـه قوي عزيز ، كما قال سبحانه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللـه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللـه لَقَويٌ عَزِيزٌ } (الحَج/40)
تلك كانت تطلعات الخط الرسالي الذي قاده في عصره الإمام النقي علي بن محمد الهادي (ع) ، فماذا كانت منعطفات هذا الخط منذ تبلوره في عصر الإمام أمير المؤمنين (ع) حتى ذلك اليوم .
بعد رحيل النبي إلى الرفيق الأعلى كانت الأمة الناشئة بحاجة إلى إمام يحافظ على تراث الرسول ، ويدافع عن خطه الأصيل ان يزمع الناس عنه يمنة ويساراً ، ويكرس تلك القيم السامية التي نزل بها الوحي في واقع الأمة .
وقد قام الإمام أمير المؤمنين (ع) بذلك خير قيام والتف حوله الاصفياء من الأمة الذين
أصبحوا تلك البقية الصالحة الذين حافظوا على الخط الأصيل للرسالة الإلهية !
وعندما وقعت معركة صفّين ازداد الفرق بين هذا الخط وبين سائر الخطوط وضوحاً ، وانحاز الأبرار كلياً إلى الإمام (ع) وبينهم بقية السلف الصالح من أصحاب النبي (ص) ، وبقي هذا الخط في تصاعد رغم إرهاب الحزب الأموي الحاكم ، ولكنه لم يشتهر في أرجاء الأرض إلاّ بعد أن اصطبغ بلون الدم ، واكتسب حرارة المأساة بعد واقعة الطف ، فإذا كانت بلورة الخط في صفّين ، فإن رشده وتكامله كان في يوم عاشوراء .
وعلى عهد الإمام زين العابدين تضاعفت صبغته الإلهية . وفي عهد الإمام الباقر تبلور فيه المنهج التوحيدي حيث يلتقي في ذروته العقل النير بالوحي المنزل . أما في عهد الإمام الصادق (ع) فإن تفاصيل هذا المنهج في الأحكام والأخلاق والآداب والمواعظ كانت قد رسمت بصورة تامة .
أما في عهد الإمام الكاظم (ع) فإن الخط قد اتخذ الصبغة السياسية في صورتها حيث التخطيط لثورة جماهيرية ، أما على عهد الأئمة من بعده - الإمام الرضا وأبنائه الثلاثة - فإن الخط الرسالي قد أصبح قوة سياسية وأجتماعية متداخلة مع السلطة الحاكمة مؤثرة في قراراتها مهيمنة على الحياة الدينية .
وهكذا كان عهد الإمام الهادي (ع) يتميز بقدرة الخط الرسالي على جميع الأصعدة بالرغم من الإرهاب الذي كان يتميز به النظام العباسي ، وبالذات على عهد المتوكّل العبّاسي .
ولعلنا نجد في الشواهد التاريخية التالية بعض الملامح لوضع الطائفة في عصر الإمام (ع) .
1 - في حديث مفصل رواه الشيخ الكليني رضوان اللـه عليه عما جرى بعد وفاة الإمام الجواد (ع) جاء فيه :  
“ فلما مضى أبو جعفر ( الإمام الجواد (ع) ) لم أخرج من منزلي حتى علمت أن رؤوس العصابة قد اجتمعوا عند محمد بن الفرج ( الرخجي وكان ثقة من أصحاب الرضا والجواد ووكيلاً عن الإمام الهادي عليه السلام )  يتفاوضون في الأمر “   .
وهكذا كان للشيعة يومئذ مجالس للتفاوض في الأمور المهمَّة ، ومن أبرزها معرفة الإمام والبيعة له والتسليم لأوامره ، وقد أجمعوا بعد الإمام الجواد على الإمام الهادي ، بما تناهت إليهم من الإخبار الصحيحة بذلك حيث جاء في نهاية هذه الرواية : فلم يبرح القوم حتى سلموا لأبي الحسن (ع) ، وأضاف الشيخ المفيد في كتابه الإرشاد : والأخبار في هذا الباب كثيرة جداً إن عملنا على إثباتها طال الكتاب ، وفي إجماع العصابة على امامة أبي الحسن وعدم من يدعيها سواه في وقته ممن يلتمس الأمر فيه ، غني عن إيراد الأخبار بالنصوص على التفصيل “   .
وهكذا ترى الشيخ المفيد يقول بإمامة الهــادي (ع) بإجماع العصابة ، بلى وهو صفوة الأمة وكبار فقهائها ، فمعرفتهم بالإمام الذي عاصروه وعاصروا والده وجدَّه ، سبيل عقلائي إلى معرفة الإمام بعدهم .
والأمـــر الذي نستفيده من كلام الشيـــخ المفيد ومن الحديث الذي يرويه هو وضع الطائفة في ذلك اليـــــوم .
2 - وكان فتح بن خاقان وزيراً عند المتوكل ، ولكنه كان يتحبب إلى الإمام الهادي ، إما لميله النفسي إليه أو لأنه كان من رجاله في البلاط ، ولكن ورد من الإمام بحقه الذم حفاظاً عليه ، دعنا نستمع معاً إلى الحديث التالـــي الذي يحكي مكرمة من مكارم الإمام ، وفي ذات الوقت يعكس جانباً من وضع الطائفة فـي تلك الأيــام !
قصدت الإمام (ع) يوماً فقلت : يا سيدي إن هذا الرجل قد اطّرحني ، وقطع رزقي ، ومللني ، وما أتهم في ذلك إلاّ علمُه بملازمتي لك ، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك فينبغي أن تتفضل عليّ بمسألة ، فقال : تكفى إن شاء اللـه .
فلما كان في الليل طرقني رسل المتوكل رسول يتلو رسولاً فجئت والفتح على الباب قائم فقال : يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل كدني هذا الرجل مما يطلبك ، فدخلت وإذا المتوكل جالس على فراشه فقال : يا أبا موسى نشغل عنك وتنسينا نفسك أي شيء لك عندي ؟ فقلت : الصلة الفلانية والرزق الفلاني وذكرت أشياء فأمر لي بها ويضعها .
فقلت للفتح : وافي علي بن محمد إلى ههنا ؟ فقال : لا ، فقلت : كتب رقعة ؟ فقال : لا فوليت منصرفاً فتبعني فقال لي : لست أشك أنك سألته دعاء لك فالتمس لي منه دعاء .
فلما دخلت إليه (ع) فقال لي : يا أبا موسى ! هذا وجه الرضا ، فقلت : ببركتك يا سيدي ، ولكن قالوا لي : إنك ما مضيت إليه ولا سألته ، فقال : إن اللـه تعالى علم منا أنا لا نلجأ في المهمات إلاّ إليه ولا نتوكل في الملمات إلاّ عليه وعودنا إذا سألناه الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا .
قلت : إن الفتح قال لي كيت وكيت ، قال : إنه يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ، الدعاء لمن يدعو به : إذا أخلصت في طاعة اللـه ، واعترفت برسول اللـه (ص) وبحقنا أهل البيت وسألت اللـه تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك   .
3 - وكان الإمام الهادي يسكن سامراء في عاصمة الخلافة وكان يدخل على المتوكل وينقل الرواة في صفة دخوله عليه أنه كان لا يملك من يحضر باب الخليفة أن يترجل إذا طلع عليه الإمام ، يقول محمد بن الحسن بن الأشتر العلوي .. قال : كنت مع أبي بباب المتوكل ، وانا صبي في جمع الناس ما بين طالبي إلى عباسي إلى جندي إلى غير ذلك ، وكان إذا جاء أبو الحسن (ع) ترجل الناس كلهم حتى يدخل . فقال بعضهم لبعض : لم نترجل لهذا الغلام ؟ وما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا ولا بأسننا ولا بأعلمنا ؟ فقالوا : واللـه لا ترجلنا له فقال لهم أبو هاشم : واللـه لترجلن له صغاراً وذلة إذا رأيتموه ، فما هو إلاّ أن أقبل وبصروا به فترجل له الناس كلهم فقال لهم أبو هاشم : أليس زعمتم أنكم لا تترجلون له ؟ فقالو : واللـه ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا   .
وكان الإمام إذا دخل على المتوكل رفعوا له الستر واحترموه بكل وقار ، تقول الرواية : إن أحد الأشرار قال للمتوكل العباسي يوماً ما يعمل أحد بك أكثر مما تعمله بنفسك في علي بن محمد ، فلا يبقى في الدار إلاّ من يخدمه ولا يتعبونه بشيـــــل ستر ولا فتح باب ولا شيء ، ولهذا كان الناس يقولون : لو لم يعلـــم
استحقاقه للأمر ما فعل به هذا   .
ويظهر من هذا الحديث المفصّل الذي أخذنا منه موضع الحاجة أنه (ع) كان مهيباً مبجلاً حتى في بلاط أشد الخلفاء العباسيين إرهاباً في عصره وهو المتوكل العباسي .
وكان (ع) إذا دخل على الخليفة جابهه بالحق ، فقد دخل يوماً عليه فقال ا لمتوكل : يا أبا الحسن من أِشعر الناس ، قال الإمام فلان ابن فلان العلوي حيث يقول :
لقــــــــــــــــــــد فاخرتنــــــــــــــــا من قريـــــــــــش عصابـــــــة                    بمــــــط خـــــــــــــدود وامتـــــــــــــــــداد أصـــــــــــابــــــــــــع
فلمــــــــــا تنازعنــــــــــا القضـــــــــــــاء قضـــــى لنـــــــــــــــــــــا                    عليـــــه بمــــــا فـــــــــاهـــــوا نــــــــــــــــداء الصوامــــــــع
قال وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟
قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللـه وأشهد أن محمداً .. جدي أم جدكم ، فضحك المتوكل كثيراً ثم قال : هو جدك لا ندفعك عنه   .
ومرة أخرى أدخل المتوكل الإمام (ع) إلى مجلس لهوه وطلب منه المشاركة فيما كان فيه ، فوعظه الإمام عظة بليغة تعالوا نستمع إلى قصة ذلك حسبما ينقلها المسعودي ، قال : سعي إلى المتوكل بعلي بن محمد الجواد (ع) أن في منزله كتباً وسلاحاً من شيعته من أهل قم ، وأنه عازم على الوثوب بالدولة ، فبعث إليه جماعة من الأتراك ، فهجموا داره ليلاً فلم يجدوا فيها شيئاً ووجدوه في بيت مغلق عليه ، وعليه مدرعة من صوف ، وهو جالس على الرمل والحصى وهو متوجه إلى اللـه تعالى يتلو آيات من القرآن ، فحمل على حاله تلك إلى المتوكل وقالوا له : لم نجد في بيته شيئاً ووجدناه يقرأ القرآن مستقبل القبلة ، وكان المتوكل جالساً في مجلس الشرب فدخل عليه والكأس في يد المتوكل . فلما رآه هابه وعظمه وأجلسه إلى جانبه ، وناوله الكأس التي كانت في يده فقال : واللـه ما يخامر لحمي ودمي قط ، فاعفني فأعفاه ، فقال : أنشدني شعراً فقال (ع) : إني قليل الرواية للشعر فقال : لابد ، فأنشده (ع) وهو جالس عنده :
بــــــــــــاتـــــــوا علـــــــى قـلــــل الأجبـــــال تحـــــــرسهـــــــــــم                     غلـــــب الـــــــــرجـــــــال فلـــــم تنفعهــــــــــم القــــــــــلل
واستنزلــــــــــــــوا بعـــــــــــد عـــــــــز مـــــــــن معــاقلهــــــــــم                       واسكنـــــــــــوا حفـــــــــــــــراً يــــا بئسمــــــا نــزلــــــــــــــوا
نــــــــاداهـــــــم صــــــــــارخ مــــن بعــــــد دفنهـــــــــــــــــــــــــــم                     أيـــــــــــن الأســـــــاور والتيجــــــــــــــــــان والحـــــــــــــــــلل
أيـــــــــــن الوجــــــــــــــوه التـــــــــــــــي كانــــــــــت منعَّمـــــــــة                      مــــــن دونهـــــا تضــــرب الأستــــــــــــار والكـــــــــــلل
فأفصــــــح القبـــــــر عنهــــم حيــــــــــــن ســـــاءلهــــــــــــــم                          تلــــــــك الوجـــــوه عليهـــــــــا الــــــــــــــدود تقتتــــــــــل
قـــــــد طــــال مـــــا أكلـــــــــــــوا دهــــراً وقـــد شربــــــــــوا                           وأصبحــــــوا اليـــوم بعــد الأكـــــل قــــد أكلــــــــــــوا
قــــال : فبكى المتوكل حتى بل لحيتــــــه دمــــــوع عينيـه ، وبكى الحاضرون ، ودفع إلى علي (ع) أربعـة آلاف دينار ، ثم رده إلى منزله مكرّماً  .
وحسبما نقرأ في المصادر التاريخية ، كان الكثير من بطانة الخليفة يتشيع للإمام ، أما واقعاً أو لما يجد عند الشيعة من ثقل سياسي ، مثل الفتح بن خاقان الذي كان من أعظم وزراء المتوكل ، والذي قتل معه عندما انقلب عليه عسكره من الأتراك ، كان يحاول التقرب إلى الإمام ، ويظهر من بعض الروايات أن المتوكل كان يتهمه بذلك مما يدل على أنه قد أحسَّ بأمره    .
وجاء فيه فقال المتوكل : يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجه الفتح وضحك الفتح في وجهه . كما يظهر من القصة التالية أن بعض قادة النظام العسكريين كانوا يكنون للإمام الحب وربما الولاء ، كما أن القصة تعكس جانباً من انتشار حب الإمام واحترامه بين عامة الناس لا سيما في الحرمين الشريفين .
ينقـل عـن القائـد العباسي يحيى بن هرثمة قال : أرجعني المتوكل إلى المدينة لإشخاص علي بن محمد (ع) لشيء بلغه عنه ، فلما صرت إليها ضج اهلهـا وعجـوا ضجيجاً وعجيجاً ما سمعت مثله ، فجعلت أسكنهم وأحلف أني لم أومر فيه بمكروه ، وفتشت منزله ، فلم أصب فيه إلاّ مصاحف ودعاء وما أشبـــه ذلك ، فأشخصته وتوليت خدمته ، وأحسنت عشرته .
فبينما أنا في يوم من الأيام والسماء صاحية والشمس طالعة ، إذ ركب وعليه ممطر عقد ذنب دابته فتعجبت من فعله ، فلم يكن من ذلك إلاّ هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها ، ونالنا من المطر أمر عظيم جداُ فالتفت إليّ فقال : أنا أعلم أنك أنكرت ما رأيت ، وتوهمت أني أعلم من الأمر ما لم تعلم ، وليس ذلك كما ظننت ولكني نشأت بالبادية ، فأنا اعرف الرياح التي تكون في عقبها المطر فتأهبت لذلك .
فلما قدمت إلى مدينة السلام بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهري وكان على بغداد ، فقال : يا يحيى إن هذا الرجل قد ولده رسول اللـه (ص) والمتوكل من تعلم ، وإن حرضته عليه قتله ، وكان رسول اللـه (ص) خصمك ، فقلت : واللـه ما وقفت منه إلاّ على أمر جميل .
فصرت إلى سامراء فبدأت بوصيف التركي وكنت  من أصحابه ، فقال لي : واللـه لئن سقط من رأس هذا الرجل شعرة لايكون الطالب بها غيري ، فتعجبت من قولهما ، وعرَّفتُ المتوكل ما وقفت عليه من أمره ، وسمعته من الثناء فأحسن جائزته ، وأظهر بره وتكرمته   .
وكان عصر الإمام (ع) قد تميز بالتحولات السياسية حيث تنامى بعودة الأتراك في بلاط العباسيين ، وكان كل قائد منهم يميل إلى واحد من المرشحين للخلافة ، فيتحين الفرص لدفعه إلى واجهة السلطة وتسميته باسم الخليفة ليلعب ما يشاء في امور البلاد باسمه . فبعدما مضى المعتصم ملك الواثق ابنه واستوزر ابن الزيات ، وغضب على جعفر بن المعتصم أخيه ، وما لبث أن مات واستخلف المتوكل وقتل ابن الزيات ، وشهد عصره قدراً من الإستقرار ، وقبل أن يموت الواثق سئل عن الخليفة بعده فقال : لا يراني اللـه أتقلدها حياً وميتاً ، “ ويبدو من هذه الكلمة : أنه كان يعرف ماذا تعني الخلافة في عصره أو ليست تعني القمع والدجل والمؤامرات والإنغماس في الشهوات ، ثم أليس أنه نفسه قد سجن أخاه المتوكل بعد أن ولاّه إمارة الحج لمّا عرف أن ينافسهم الأمر ولم يقبل فيه شفاعة أحد ؟ “ .
وبعد الواثق وُلّي المتوكل الذي شهد عصره قدراً من الإستقرار ولكنه كان استقراراً قائماً على العنف والتضليل .
وأبرز مظاهر عنفه سياسته الإرهابية تجاه البيت العلوي وأمره بهدم قبر سيد الشهداء أبي عبد اللـه الحسين (ع) حيث أمر سنة 236 بهدم قبر الإمام وما حوله من الدور ، وأن يحرث ويبذر ويسقى موضعه ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية من وجدناه عنده بعد ثلاثة أيام بعثنا به إلى المطبق ( السجن ) ، فهرب الناس وأشنعوا من المصيد إليه ، وقد أثار المتوكل بهذه السياسة حفيظة المسلمين وخاصة أهل بغداد الذين ردوا على الإهانات التي ألحقها بالعلويين بسبه في المساجد والطرقات   .
ووقعت في عهده مجاعة رهيبة في العراق وهلك كثير من الناس ، وقد طمع الروم في بلاد الإسلام بسبب ضعف الدولة العباسية فاستأنفوا غاراتهم على أراضي قاليقلا جنوبي آسيا الصغرى وهزموا أهلها هزيمة منكرة   .
وتظهر من القصة التالية صورة عن طبيعة حكم المتوكل ، وما بلغ من إرهابه ضد العلويين ومن ثورة هؤلاء ضده .
قال البختري : كنت بمنبج بحضرة المتوكل ، إذ دخل عليه رجل من أولاد محمد بن الحنيفة حلو العينين ، حسن الثياب ، قد قرف عنده بشيء فوقف بين يديه والمتوكل مقبل على الفتح يحدثه .
فلما طال وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال له :
“ يا أمير المؤمنين إن كنت أحضرتني لتأديبي فقد أسأت الأدب ، وإن كنت أحضرتني ليعرف من بحضرتك من اوباش الناس استهانتك بأهلي فقد عرفوا “ .
فقال له المتوكل : واللـه يا حنفي لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحم ويعطفني عليك من مواقع الحلم لانتزعت لسانك ، ولفرقت بين رأسك وجسدك ، ولو كان بمكانك محمد أبوك ، قال : ثم التفت إلى الفتح فقال : أما ترى ما نلقاه من آل أبي طالب ؟ إما حسني يجذب إلى نفسه تاج عز نقله اللـه إلينا قبله ، أو حسيني يسعى في نقض ما أنزل اللـه إلينا قبله ، أو حنفي يدل بجهله أسيافنا على سفك دمه .
فقال له الفتى : “ وأي حلم تركته لك الخمور وإدمانها ؟ أم العيدان وفتيانها ومتى عطفك الرحم على أهلي وقد ابتززتهم فدكاً إرثهم من رسول اللـه ( صلى اللـه عليه وآله وسلم ) فورثها أبو حرملة ! وأمّا ذكرك محمداً أبي فقد طفقت تضع عن عز رفعه اللـه ورسوله ، وتطاول شرفاً تقصر عنه ولا تطوله ، فأنت كما قال الشاعر :
فغــــــــــــض الطــــــــــــــــــرف إنــــــــــــــــك مــــــن نميـــــــــــــــــر                    فــــــــــــــــلا كــــعـــــبــــــــــــــــاً بـــــلــــــــــغت ولا كـــــلابـــــــــــا
ثم ها أنت تشكـو لي علجـك هذا ما تلقاه من الحسني والحسيني والحنفي فلبئس المولى ولبئس العشيـر .
ثم مد رجليه ثم قال : هاتان رجلاي لقيدك ، وهذه عنقي لسيفك ، فبؤ بإثمي وتحمَّل ظلمي فليس هذا أول مكروه أوقعته أنت وسلفك بهم ، يقول اللـه تعالى { ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللـه عِبَادَهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لآ أَسْاَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَــى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللـه غَفُورٌ شَكُورٌ } (الشّورى/23)   فواللـه ما أجبت رسول اللـه (ص) عن مسألته ولقد عطفت بالمودة على غير قرابته فعما قليل ترد الحوض ، فيذودك أبي ويمنعك جدي صلوات اللـه عليهما .
قال : فبكى المتوكل ثم قام فدخل إلى قصر جواريه ، فلما كان من الغد أحضره وأحسن جائزته وخلى سبيله .
وكانت قبضة المتوكل الحديدية وإرهابه الشديد سبباً لسخط الناس عليه ، والذي تنامى حتى بلغ الجيش الذي ثار عليه بقيادة بغا الصغير وباغر ، وقتل المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان وخلفه ابنه المنتصر  في شوال عام 247 الذي أخذ يخالف أباه في كل شيء ، وبالذات فيما يتعلق بالبيت العلوي وحتى أنشد يزيد المعلبي يقول :
ولقـــــــــــــــد بــــــــــــــــــــــرزت الطــــــــــالبيـــــــــــــــــة بعدمـــــــــــا                      ذمــــــــــــــــــوا زمــــــــامـــــــــــاً بعــــدهـــــــــا وزمــــــانـــــــــــــــا
ورددت ألفــــــــــــــة هـــــــــــــاشــــــــــــــــم فــــــــــــــــرأيتهــــــــــــــــم                    بعـــــــــــــــــد العــــــــــــــداوة بينهــــــــــم إخـــــــــــوانـــــــــــــــا  
ولم يدم عهد المنتصر الذي وصفه بعض المؤرخين بالحسن ، وقالوا : كان عظيم الحلم ، راجح العقــــل ، غزير المعروف راغباً في الخير جواداً كثير الإنصاف حسن العشرة   .
فقد مات بعد ستة أشهر وذلك سنة ( 248 ) وبايع الناس أحمد بن محمد المعتصم ( 248 / 252 ) وأعطوه لقب المستعين باللـه ، ويبدو أن المستعين أراد أن يحدّ من نفوذ الأتراك الذين تحولت قوتهم العسكرية إلى قوة سياسية متنامية في البلاد ، فواجه تحدياً من قبل بعضهم وبالذات من بغا وباغر الذين تمردا عليه وبايعا المعتز بن المتوكل وقامت حرب ضاربة بين أنصار الخليفتين حيث استقر الأول ببغداد والثاني بسامراء ، وأثّرت الحرب على الحالة الإقتصادية للبلاد وبعد أن تم الأمر للمعتز تم إبعاد المستعين إلى واسط ولكنه قتل بالتالي على يد عصابة سيرها بقيادة سعيد الخادم   .
ولكن المعتز بقي يخشى جانب الأتراك الذين قتلوا أباه وخلعوا ابن عمه ، وهكذا لم تصفو له الخلافة بل قتل بصورة شنيعة يصفها المؤرخون بما يلي .. قد حل إليه جماعة من الأتراك فجروه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه وأقاموه في الشمس في الدار فكان يرفع رجلاً ويضع اخرى لشدة الحر وكان بعضهم يلطمه وهو يتقي بيده ثم اشهدوا على خلعه بعض علماء البلاط وادخلوه سرداباً وحَصوا حصْوا عليه وسدوا عليه الباب حتى مات   .
وبعده استخلفوا المعتدي بن واثق عام 255 واضطربت البلاد في عهده فمن ثورة ببغداد إلى تمرد في الجيش ، إلى انتفاضات للعلويين هنا وهناك .
وهكذا أصبحت الخلافة العباسية شعاراً لكل الطامعين في السلطة ، وأصبحت المؤامرة والدجل سمة بارزة للسياســة .. وكل ذلك كان نهاية طبيعية للإرهــــاب والدجل الذي مارسه الرواد الأوائل لهؤلاء الخلفــــاء .. حيث أن المعتصم مثلاً حينما استقدم الأتراك وجعل منهم قوة عسكرية ضاربة ، وأرهب بهم الناس وأخمد الإنتفاضات والثورات ، كان من الطبيعي أن تتحول هذه القوة ضد أسرته وأن تستبد بالأمر دونهم . حتى حكى بعض المؤرخين أنه لما جلس المعتز على سرير الخلافة قعد خواصهم وأحضروا المنجمين وقالوا لهم انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة ، وكان بالمجلس بعض الظرفاء فقال : أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته فقالوا : فكم تقول أنه يعيش وكم يملك ؟ قال : مهما أراد الأتراك ، فلم يبق في المجلس إلاّ من ضحك   .
وهكذا كان الإنحراف يبدأ في الظاهر قليلاً وسرعان ما يجرف كل خير وصلاح ، وإنما كان الأئمة (ع) وأنصارهم يدافعون عن قيم الحق والعدل والحرية ، لكي لا تنتهي أمور الدين وشؤون الملة إلى مثل هذه المآسي الفظيعة .

الفصل الثاني : سيــرة الإمـام الهــــادي (ع)
في الثاني من رجب من عام 212 هـ ، استقبلت المدينة المنورة ميلاد أول أبناء الإمام الجواد (ع) ، و عمَّ البيت الهاشمي فرح عظيم ، فسمّاه والده علياً باسم جده الرضا وجده الأكبر أمير المؤمنين ، وكناه بأبي الحسن ومشت ألقابه الكريمة تعبر عن محياه الكريم وسيرته الزكيّة ، فكان النجيب والمرتضى والهادي والنقي والعالم والفقيه والأمين والمؤتمن والطيب والمتوكل .
وعندما انتقل إلى مدينة سامراء وسكن محلة كانت تسمى عسكر سمي أيضاً العسكري أو الفقيه العسكري .
وقيـل بل كان اسـم سـامراء العسكر لأنها كانت حاشيـة الجيـش ولذلك سمي الإمام بـ (العسكري) .
أما أمّه فكانت سماته الغربيبة ، وترعرع الوليد في ظل أبيه يربيه بعلم الإمامة ،  ويرفع له من معارف الدين كل يوم علماً ويامره بالاقتداء به ، وفي الثامن والعشرين من محرم عام 220 هـ حيث استقدم المعتصم والده الإمام الجواد (ع) إلى العراق ، أجلسه في حجره وقال له : ما الذي تحب أن أهدي إليك من طرائق العراق ؟ فقال سيفاً كأنه شعلة نار   .
ولكنه لم ير ذلك االسيف ولم يعد يرى والده الكريم لأنه لم يعد من تلك الرحلة أبداً . فلعله كان في يوم 29 / ذي القعدة من عام 220 حيث رأت عائلة الإمام أنه قد رعب ، وكان عمره يومئذ ثمانية أعوام فسألوه ما به فقال : مات أبي واللـه الساعة ، فقالوا له : لا تقل هذا قال : هو واللـه كما أقول فكتبوا ذلك اليوم فكان كما قال   .
وكان قد سبقت وصية أبيه إلى زعماء الطائفة فاجتمعوا وسلموا إليه الأمر .. كما سبق الحديث عن ذلك بتفصيل .
وبقي في مدينة جده بقية خلافة المعتصم وأيام خلافة الواثق ، حيث اشتهرت مكارمه في الآفاق ، فلما ملك المتوكل ، خشي منه القيام ضده فاستقدمه ، ليكون قريباً منه يراقبه ويسهل الضغط عليه .
ويبــدو أنه لم يستقدمه إلاّ بعد أن توالت عليه الرسائل من الحجاز تخبره بأن الناس في الحرمين يميلون
إليه ، وكانت زوجة المتوكل التي يبدو أنه أرسلها لاستخبار الأمر ممن بعثوا الرسائل .
ويبدو من طريقة استقدام الإمام أن المتوكل كان شديد الحذر في الأمر ، حيث بعث بسرية كاملة من سامراء إلى المدينة لتحقيق هذا الأمر .. كما سبق . وقد كتب المتوكل إلى الإمام رسالة رقيقة جاء فيها:
فقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد اللـه بن محمد عما كان يتولى من الحرب والصلاة بمدينة الرسول إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك ، واستخفافه بقدرك ، وعندما قرنك به ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيتك وبرك وقولك وأنك لم تؤهل نفسك لما قرفت بطلبه   .
وكان هذا الرجل قد كتب رسالة إلى المتوكل يتهم الإمام فيها بانه ينوي القيام ضده ، وكتب الإمام رسالة إلى المتوكل ينفي تلك التهمة ، ثم أضاف :
وقد ولى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل وامره بإكرامك وبتجليك والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرب إلى اللـه وإلى أمير المؤمنين بذلك .
وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك   .
وعندما نزل الإمام مدينة سامراء أراد المتوكل النيل من شخصيته عند الناس فامر أن يسكن دار الصعاليك لمدة أيام ثلاث ، قبل أن يدخل عليه وهو لا يعلم أن قدر الإمام عند اللـه ، أو عند عباد اللـه الصالحين ليس بما يسكنه من دار أو يحوزه من ثروة ، وإنما بزهده في درجات الدنيا ورغبته فيما عند اللـه ، فلا يزداد بتواضعه وصبره على الأذى في جنب اللـه إلاّ زلفى من اللـه .
وهكذا دخل عليه بعض شيعته ( صالح بن سعد ) في ذلك المكان المتواضع وقال له : جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتشهير بك حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع خان الصعاليك ، ولكن الإمام أراه بعض مكرماته ثم قال له : “ حيث كنا فهذا لنا عتيد ولسنا في خان الصعاليك “   .
وقد فتش الموالون لأهل البيت عن موضع ذلك الخان فاشتروا مكاناً معيناً قريباً من مرقد الإمام الهادي (ع) وحولوه إلى مركز ديني بأمل أن يكون هو موضع ذلك الخان الذي تشرف بمقام الإمام فيه برهة من الوقت .
ويبدو أن الإمام كان يقود في تلك الفترة من مقامه في سامراء الخط الرسالي وبطرقه الخاصة ، وقد استطاب السكن فيها حتى قال (ع) :
“ أخرجت إلى سر من رأى كرهاً ولو أخرجت عنها ، أخرجت كرهاً ، قال الراوي : ولِمَ يا سيدي ؟ قال : لطيب هوائها وعذوبة مائها وقلة دائها “  .
والمتوكل العباسي المعروف بشدَّة بطشه وبغضه لأهل البيت ، وإرهابه ضد الشيعة ، أراد أن يبقى أعظم وأقوى معارضيه قريباً منه حتى يسهل عليه القضاء عليه أنى شاء . إلاّ أن الإمام قد كاد بإذن اللـه كيداً ، حيث أخذ ينفذ إلى عمق سلطته ، ويمد نفوذه إلى أقرب أنصاره ، وهكذا فعل .
في هذا الوقت كانت أم المتوكل تنذر للإمام ، ولعل القصص التالية تعكس جانباً من تأثير الإمام في بلاطه .
( مرض المتوكل من خراج خرج به ، فأشرف منه على التلف ، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة ، فنذرت أمه إن عوفي أن يحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد (ع) مالاً جليلاً من مالها ) .
وقال له الفتح بن خاقان : لو بعثت إلى هذا الرجل يعني أبا الحسن فسألته فأنه ربما كان عنده صفة شيء يفرج اللـه به عنك ، قال : ابعثوا إليه فمضى الرسول ورجع ، فقال : خذوا كسب الغنم فديفوه بماء ورد ، وضعوه على الخراج فإنه نافع بإذن اللـه .
فجعل من بحضرة المتوكل يهزأ من قوله ، فقال لهم الفتح : وما يضر من تجربة ما قال فواللـه إني لأرجو الصلاح به ، فأحضر الكسب ، وديف بماء الورد ووضع على الخراج ، ، فانفتح وخرج ما كان فيه ، وبشرت أم المتوكل بعافيته فحملت إلى أبي الحسن (ع) عشرة آلاف دينار تحت ختمها فاستقل المتوكل في علته   .
1 - روي عن الصقر بن أبي دلف الكرخي ، قال : لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري (ع) جئت أسأل عن خبره ، قال : فنظر إلى الزرافي وكان حاجباً للمتوكل ، فأمر أن أدخل إليه فأدخلت إليه ، فقال : يا صقر ما شأنك ؟ فقلت : خير أيها الأستاذ ، فقال : أقعد فاخذني ما تقدم وما تأخر ، وقلت : أخطئت في المجيء .
قال : فوحى الناس عنه ثم قال لي : ما شانك وفيم جئت ؟ قلت : لخبر ما فقال : لعلك تسأل عن خبر مولاك ؟ فقلت له : ومن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين ، فقال : أسكت ! مولاك هو الحق ، فلا تحتشمني فإني على مذهبك ، فقلت : الحمد لله .
قال : أتحب أن تراه ؟ قلت : نعم ، قال : أجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده .
قـال : فجلست فلما خرج قال الغلام له : خذ بيد الصقر وأدخله إلى الحجرة التي فيها العلوي المحبوس ، وخل بينه وبينه ، قال : فأدخلني إلى الحجرة وأومأ إلى بيت فدخلت فإذا هو جالس على صدر حصير وبحذاه قبر محفور ، قال : فسلمت عليه فرد عليّ ثم أمرني بالجلوس ثم قال لي : يا صقر ما أتى بك ؟ قلت : سيدي جئت أتعرف خبرك ؟ قال : ثم نظرت إلى القبر فبكيت فنظر إليّ فقال : يا صقر لا عليك لن يصلوا إلينا بسوء الآن ، فقلت : الحمد لله    .
2 - قال أبو عبد اللـه الزيادي :
لما سمَّ المتوكل ، نذر لله إنّ رزقه اللـه العافية أن يتصدق بمال كثير ، فلما عوفي اختلف الفقهاء في المال الكثير فقال له الحسن حاجبه : إن أتيتك يا أمير المؤمنين بالصواب فما لي عندك ؟
قال : عشرة آلاف درهم وإلاّ ضربتك مائة مقرعة قال : قد رضيت فأتى أبا الحسن (ع) فسأله عن ذلك فقال : قل له : يتصدق بثمانين درهماً فأخبر المتوكل فسأله : ما العلة ؟ فأتاه فسأله قال : إن اللـه تعالى قال لنبيه (ص) : {  لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللـه فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ } (التوبة/25) فعددنا مواطن رسول اللـه (ص) فبلغت ثمانين مواطناً ، فرجع إليه فأخبره ففرح وأعطاه عشرة آلاف درهم   .
3 - وهكذا كان الإمام (ع) يحل المعضلات فيزداد الناس إيماناً به ، ومعرفة بمقامه وبمدى جهالة خصمه المتوكل ، فكثيراً ما كان المتوكل يوعز إلى بعض أصحابه بأن يسألوا الإمام أسئلة صعبة لعله يتوقف فيها ، فمثلاً قال المتوكل لابن السكيت : سل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي فسأله فقال : لم بعث اللـه موسى بالعصا وبعث عيسى (ع) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمداً بالقرآن والسيف ؟
فقال أبو الحسن (ع) :
بعث اللـه موسى (ع) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم ، وأثبت الحجة عليهم ، وبعث عيسى (ع) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن اللـه في زمان الغالب على أهله الطب فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن اللـه فقهرهم وبهرهم، وبعث محمداً بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر فأتاهم من القرآن الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم وأثبت الحجة به عليهم .
فقال ابن السكيت : فما الحجة الآن ؟ قال :
“ العقل يعرف به الكاذب على اللـه فيكذب “ .
وقد كان ابن السكيت هذا عالماً كبيراً في النحو والشعر واللغة وقالوا عن كتابه المنطق أنه أفضل كتاب في اللغة كتبه علماء بغداد ، وكان المتوكل قد عهد إليه بتربية ابنيه المعتز والمؤيد ، فسأله يوماً أيهما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين فقال ابن السكيت واللـه إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب خير منك ومن ابنيك ، فقال المتوكل للأتراك سلوا لسانه من قفاه ففعلوا فمات ( رضوان اللـه عليه ) .
4 - وفي بعض أيام الربيع حيث كان الجو صحواً وحاراً خرج الناس في مناسبة رسمية صائفين ، وخرج الإمام الهادي (ع) في ثياب شتوية فلما توسطوا الصحراء خرجت عليهم سحابة ممطرة وفاضت عليهم الوديان ولم يسلم من أذى المطر والطين إلاّ الإمام فاهتدى إليه وإلى علمه الكثير من الناس .
وهكذا تكيف الإمام (ع) مع الواقع المر لعهد المتوكل حتى استفاد منه إيجابياً لمصحلة الدعوة الإلهية ، وذلك بحكمته الرشيدة وباستقامته وصبره في اللـه .
ولكن المتوكل عقد العزم على الإيقاع به في أيامه الأخيرة فلم يأذن له اللـه بذلك بل أطيح به في إنقلاب دموي .
فقد جاء في الجزامة : لمّا حبس المتوكل أبا الحسن (ع) ، ودفعه إلى علي بن كركر قال أبو الحسن : أنا أكرم على اللـه من ناقة صالح {  تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ  ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } (هود/65) ، فلما كان من الغد أطلقه واعتقد إليه ، فلما كان في اليوم الثالث وثب عليه ياغز وتاشى ومعطوف فقتلوه واعقدوا المنتصر ولده خليفة   .
ولعل المتوكل اعتقل الإمام أكثر من مرة ولكن اللـه أنقذه من شرّه ، ولعله كان يخشى كل مرة من ثورة جماهيرية عارمة ضده بالإضافة إلى أنّه لم يجد مبرراً للقضاء على الإمام مع أنه كان يعرف أن في أصحابه من يتشيع له .
فمثلاً عندما سعى البطحاني إلى المتوكل وكان من أولاد أبي طالب ولكنه يتشيع للبيت العباسي ، وقال له أنّ عنده سلاح وأموال ، فتقدم المتوكل إلى سعيد الحاجب وامره أن يهجم ليلاً عليه ويأخذ ما يجد عنده من الأموال والسلاح ويحمل إليه .
فقال إبراهيم بن محمد : قال لي سعيد الحاجب : صرت إلى دار أبي الحسن (ع) بالليل ، ومعي سلم، فصعدت منه إلى السطح ، ونزلت من الدرجة إلى بعضها في الظلمة ، فلم أدر كيف أصل إلى الدار فناداني أبو الحسن (ع) من الدار : “ يا سعيد مكانك حتى يأتوك بشمعة “ .
فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت ووجدت عليه جبة من صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة فقال لي : “ دونك بالبيوت “ .
فدخلتها وفتشتها فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أم المتوكل وكيساً مختوماً معها ، فقال أبو الحسن (ع) : دونك المصلى فرفعت فوجدت سيفاً في جفن غير ملبوس ، فأخذت ذلك وصرت إليه .
فلما نظر إلى خاتم أمه على البدرة بعث إليها ، فخرجت إليه ، فسألها عن البدرة ، فأخبرني بعض خدم الخاصة أنها قالت له : كنت نذرت في علتك إن عوفيت أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار فحملتها إليه ، وهذا خاتمك على الكيس ما حركها .
وفتح الكيس الآخر وكان فيه أربع مائة دينار ، فامر أن يضم إلى البدرة بدرة أخرى وقال لي : إحمل ذلك إلى أبي الحسن واردد عليه السيف والكيس بما فيه ، فحملت ذلك إليه واستحييت منه ، وقلت : يا سيدي عزَّ علي دخول دارك بغير إذنك ، ولكني مأمور به ، فقال لي : { سيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون }   .
والواقع أن الشيعة كانوا يحملون إلى الإمام الأموال ولكنهم كانوا قد أتقنوا أساليب الكتمان ، وكانت لديهم عناصرهم في البلاط العباسي مما يجعلهم عارفين بمواقع الخطر وكيفية اجتنابها ، والحديث التالي يكشف لنا جانباً من ذلك .
فعن المنصوري ، عن عم أبيه قال : دخلت يوماً على المتوكل وهو يشرب فدعاني إلى الشرب فقلت : يا سيدي ما شربته قط ، قال : أنت تشرب مع علي بن محمد ، قال : فقلت له : ليس تعرف من في يدك إنما يضرك ولا يضره ولم أعد ذلك عليه .
قال : فلما كان يوماً من الأيام قال لي الفتح بن خاقان : قد ذكر الرجل يعني المتوكل خبر مال يجيء من قم ، وقد أمرني أن أرصده لأخبره له فقل لي من أي طريق يجيء حتى أجتنبه ، فجئت إلى الإمام علي بن محمد فصادفت عنده من أحتشمه فتبسم وقال لي : لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى لِمْ لمْ تعد الرسالة الأولى ؟ فقلت : اجللتك يا سيدي ، فقال لي : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه فبت عندي   .
الإمام بعد عهد المتوكل :
بعد أن قتل المتوكل بدعاء الإمام الهادي وبسبب مؤامرات قواته التركية ، انقشعت عن آل أبي طالب والموالين لأهل بيت الرسول سحابة الإرهاب إذ كان المنتصر بن المتوكل يخالف أباه في كل شيء ويظهــر الحب والإحترام لآل الرسول وشيعتهم ، حتى أنه عزل والي المدينة الذي نصبه أبوه واسمه صالح بن علي ونصّب مكانه علي بن الحسين ، فدخل عليه يردعه فقال : يا علي إني أوجهك إلى لحمي ودمي ، ومد جلد ساعده وقال : إلى هذا وجهتك فانظر : كيف تكون للقوم ، وكيف تعاملهم - يعني آل ابي طالب  .
أما الخلفاء العباسيون الذين تعاقبوا بعد المتوكل وابنه المنتصر لم يكونوا في قوة المتوكل ولا في لين المنتصر ، ولم نجد في التاريخ حوادث مهمة تتصل بحياة الإمام الهادي (ع) ، الذي يبدو أنه تفرغ لتربية وقيادة الربانيين من العلماء وإدارة الشؤون العامة لمواليه وشيعته ، كذلك في ملاحقة بعض الغلاة والمشعوذين الذي أرادوا التسلل إلى صفوف الخط الرسالي مثل الذي اغتاله بعض الموالين وربما بعد صدور الفتوى الشرعية بإعدامه !!
والكتاب التالي نموذج لمنهجية إدارة الإمام (ع) للشيعة ، قال : ( نسخة الكتاب مع ابن راشد إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد المقيمين بها والمدائن والسواد وما يليها :
“ أحمــد اللـه إليكم ما أنــا عليه من عافية وحسن عائدته ، وأصلي على نبيه وآله أفضل صلواته وأكمــــل رحمتـــه
ورأفته ، وإني أقمت أبا علي بن راشد مقام الحسين بن عبد ربه ومن كان قبله من وكلائي وصار في منزلته عندي ، ووليته ما كان يتولاه غيره من وكلائي قبلكم ، ليقبض حقي وأرتضيته لكم ، وقدمته في ذلك وهو أهله وموضعه .
فصيروا رحمكم اللـه إلى الدفع إليه ذلك وإليَّ ، وأن لا تجعلوا له على أنفسكم علة ، فعليكم بالخروج عن ذلك ، والتسرع إلى طاعة اللـه وتحليل أموالكم والحقن لدمائكم { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } { وَاتَّقُوا اللـه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُــونَ  وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللـه جَمِيعاً } فقد أوجبت في طاعته طاعتي ، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني ، فالزموا الطريق يأجركم اللـه ويزيدكم من فضله ، فأن اللـه بما عنده واسع كريـم ، متطـول على عبـاده رحيم ، نحن وأنتـم في وديعة اللـه وحفظته وكتبته بخطي والحمد لله كثيراً “ .
وفي كتاب آخر : “ وأنا آمرك يا أيوب بن نوح أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي علي وأن يلزم كل واحد منكما ما وكل به وأمر القيام فيه بامر ناحيته ، فإنكم إن انتهيتم إلى كل ما أمرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي وآمرك يا أبا علي بمثل ما آمرك به أيوب أن لا تقبل من أحد من أهل بغداد والمدائن شيئاً يحملونه ولا تلي لهم استئذاناً عليّ ، ومر من أتاك بشيء من غير أهل ناحيتك أن يصيره إلى الموكل بناحيته ، وآمرك يا أبا علي بمثل ما أمرت به أيوب وليقبل كل واحد منكما ما أمرته به “   .
وبالتالـي وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً من الإمامة ، وقيادة طليعة الأمة أحضر الإمام الهادي (ع) نجله الإمام الحسن العسكري وأوصى إليه وأشهد خيرة الطائفة بذلك واستعد للرحيل .
وفي الثالث من رجب وفي ملك المعتمد باللـه فارقت روحه النقية الدنيا ونقل عن العالم الكبير ابن بابويه أن المعتمد قد دس إليه السم فمضى شهيداً !
وقال المسعودي : ولما توفي اجتمع في داره جملة بني هاشم من الطالبيين والعباسيين ، واجتمع خلق كثير من الشيعة ، ثم فتح من صدر الدار باب وخرج خادم أسود ، ثم خرج بعده أبو محمد الحسن العسكري حاسراً مكشوف الرأس ، مشقوق الثياب ، وكان وجهه وجه أبيه لا يخطى منه شيئاً ، وأضاف : وكانت الــدار كالسوق بالأحاديث ، فلما خرج وجلس أمسك الناس وكنا لا نسمع إلاّ العطسة والسعلة وقــــال : وصاحت سر من رأى يوم موته صيحة واحدة   .
ويظهر من المسعودي أن وفاة الإمام كانت في عهد المعتمد الذي استهل بعام 256 هـ ، وحيث كان أخوه الموفق الغالب على السلطة وهو الذي حضر جنازة الإمام ، ويقول المسعودي في ذلك : ووثب إليه
( الإمام الحسن العسكري ) أبو أحمد الموفق فعانقه ثم قال له : “ مرحباً يابن العم “   .
وهكذا يظهر من الشيخ ابن بابويه الذي يرى أن المعتمد قد سم الإمام ، وعلى هذا فلا بدَّ أن تكون وفاته بعد عام 256 وليس كما قالوا عام ( 254 ) ، ويظهر ذلك أيضاً من كشف الغمة إذ قال : وفي آخر ملك المعتمد استشهد مسموماً   .
ولعل هناك اشتباهاً عند النسّاخ بين المهتدي والمعتمد ، إذ أن آخر ملك المعتمد يصادف عام 279 ، ولعل الذي استشهد في أيام المعتمد هو الإمام الحسن العسكري الذي استشهد عام 260 واللـه العالم

الفصل الثالث : كراماتــه ومكرماتــه
كما اختار ربنا من بني إسرائيل اثني عشر نقيباً ، اختار لهذه الأمة اثني عشر إماماً هادياً إليه بإذنه ، ذرية بعضها من بعض واللـه سميع عليم .. أوليس اللـه أعلم حيث يجعل رسالته ؟ بلى . لذلك كان الإمام افضل خلق اللـه في علم اللـه ، ولذلك اصطفاه اللـه لهذا المنصب الإلهي العظيم !!
وهكذا كان الإمام عبداً لله قد وقر قلبه الإيمان باللـه ومعرفته ، أحب اللـه ، والتسليم له فأحبه اللـه ، ورفعه مقاماً علياً ، وكان عند ربه مرضياً .
وما الكرامات التي ظهرت على يديه إلاّ آية بينة لمدى حب اللـه له ، وبالتالي لمدى حبه لله ، وتسليمه له ورضاه بما قدر له وقضى .
لقد كان للإمام الهادي (ع) ذِكراً يبدو أنه كان يكرره ، وقد علَّمهُ لشيعته وقال : دعوت اللـه أن يستجيب لمن دعا به في مشهدي بعد وفاتي وهذا الذكر هو :
“ يا عدتي عند العدد ويا رجائي والمعتمد ويا كهفي والسند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو اللـه احد ، وأسألك اللـهم بحق من خلقته من خلقك ، ولم تجعل في خلقك مثلهم أحداً أن تصلي عليهم وتفعل بي (كيت وكيت)   .
هذا الذكر هو عنوان صفات الإمام ، ومفتاح معرفته فهو عبد أخلص العبودية لله ، فكان مثلاً لما جاء في الحديث القدسي :
“ عبدي اطعني تكن مثلي - أو مثلي - أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون “ .
إنه عبد أطاع اللـه فطوع اللـه له الأشياء : إنه خاف ربه فأخاف اللـه منه كل شيء .
ولابد أن نجعل كرامات أهل البيت (ع) في هذا الإطار ، وهو الإطار المناسب الذي وضعوا فيه أنفسهم وعلمهم وكرامتهم على اللـه ، فمثلاً عندما أظهر اللـه على يد الإمام الهادي (ع) بعض آياته ولم يتحمله بعض مواليه ، فدخله وسواس الشيطان فبادره الإمام (ع) برفع اللّبس عنه وقال له :
“ وأما الذي أخلج في صدرك فإن شاء العالم أنبئك أن اللـه لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رســــول ، فكل ما كان عند الرســــول كان عند العالــم وكل ما أطلع عليه الرســــول فقد أطلع أوصياءه عليــــه ،
كيلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته ، وجواز عدالته .
يا فتح عسى الشيطان أراد اللّبس عليك ، فأوهمك في بعض ما أودعتك ، وشكّك في بعض ما أنبأتك ، حتى اراد إزالتك عن طريق اللـه ، وصراطه المستقيم ؟ فقلت : “ متى أيقنت أنهم كذا فهم أرباب ، معاذ اللـه إنهم مخلوقون مربوبون ، مطيعون لله داخرون راغبون ، فإذا جاءك الشيطان من قبل ما جاءك فاقمعه بما أنبأتك به .
فقلت له : جعلت فداك ! فرَّجت عني ، وكشفت ما لبس الملعون عليَّ بشرحك فقد كان أوقع في خلدي أنكم أرباب ، قال : فسجد أبو الحسن (ع) وهو يقول في سجوده : راغماً لك يا خالقي داخراً خاضعاً ، قال : فلم يزل كذلك حتى ذهب ليلي “   .
وهكذا كانت الكرامات التي نتلوها عليك بفضل هذه الصلة الوثيقة بين الإمام وبين ربه سبحانه ، وكذلك كان الذين اتبعوه مخلصين العبودية لله ، من العلماء الربانيين والمجاهدين الصابرين فإن اللـه لا يضيع أجر من عمل صالحاً منهم ، وإن اللـه ينصرهم في الدنيا كما في الآخرة وقد قال سبحانه :
{ وَلَيَنصُرَنَّ اللـه مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللـه لَقَويٌ عَزِيزٌ } (الحَج/40)
وقال :
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللـه فَهُوَ حَسْبُهُ } (الطَّلاَقِ/3)
وهكذا نجد كيف يدعو الإمام للمؤمنين وكيف يتسجيب اللـه له دعاءه في حقهم .
لقد كان يونس النقاش واحداٌ من الموالين الذين حظي بخدمة الإسلام ، فجاء يوماً يرعد فقال : يا سيدي أوصيك بأهلي خيراً ، قال : وما الخبر ؟ قال : عزمت على الرحيل ، قال : ولم يا يونس ؟ وهو (ع) مبتسم ، قال : موسى بن بغا وجَّه إليَّ بفص ليس له قيمة أقبلت أنقشه فكسرته بأثنين وموعده غداً وهو موسى بن بغا أمّا ألف سوط أو القتل ، قال : إمض إلى منزلك إلى غد فما يكون إلاّ خيراً .
فلما كان من الغد وافى بكرة يرعد فقال : قد جاء الرسول يلتمس الفصَّ قال : إمض إليه فما ترى إلاّ خيراً ، قال : وما أقول له يا سيدي ؟ قال : فتبسَّم وقال : إمض إليه واسمع ما يخبرك به ، فلن يكون إلاّ خيراً .
قال : فمضى وعاد يضحك قال : قال لي يا سيدي : الجواري اختصمن فيمكنك أن تجعله فصين حتى نغنيك ؟ فقال سيدنا الإمام (ع) : اللـهم لك الحمد إذ جعلتنا ممن يحمدك حقاً ( أي شيء ) قلت له ؟ قال : قلت له : أمهلني حتى أتأمل أمره كيف أعمله ؟ فقال : أصبت   .
وكان محمد بن الفرج واحداً من المجاهدين الصابرين الذين كتب إليه الإمــام يحذره من بلاء وشيك يقول :
إن أبا الحسن كتب إليَّ إجمع أمرك ، وخذ حذرك ، قال : فأنا في جمع أمري لست أدري ما الذ ي أراد فيما كتب به إليَّ حتى ورد علي رسول حملني من مصر مقيداً مصفَّداً بالحديد ، وضرب على كل ما أملـــك .
فمكثت في السجن ثماني سنين ثم ورد علي كتاب من أبي الحسن (ع) وانا في الحبس “ ولا تنزل في ناحية الجانب الغربي “ فقرأت الكتاب فقلت في نفسي : يكتب إليّ أبو الحسن ( عليه لاسلام ) بهذا وأنا في الحبس إن هذا لعجيب ! فما مكثت إلاّ أياماً يسيرة حتى أفرج عني ، وحلّت قيودي ، وخلي سبيلي .
ولما رجع إلى العراق لم يقف ببغداد لما أمره أبو الحسن (ع) وخرج إلى سر من رأى   .
وكان الإمام يهتم بتأديب شيعته مثلما يهتم بقضاء حوائجهم ، ومن ذلك قصة يرويها لنا أبو هاشم الجعفري ويقول : أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (ع) فأذن لي فلما جلست قال : يا أبا هاشم أي نعم اللـه عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدي شكرها ؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدر ما أقول له .
فابتدأ (ع) فقال : رزقك الإيمان فحرم بدنك على النار ، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة ، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل ، يا أبا هاشم إنما أبتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو لي من فعل بك هذا ، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها   .
ويبدو أن عمله (ع) كان مشروطاً بالتزامهم بفرائض الدين ، وهكذا يحكي لنا أبو محمد الطبري قصته مع خاتم حصل عليه بفضل الإمام ويقول :
تمنيت أن يكون لي خاتم من عنده (ع) فجاءني نصر الخادم بدرهمين ، فصغت خاتما  فدخلت على قوم يشربون الخمر فتعلقوا بي حتى شربت قدحاً أو قدحين ، فكان الخاتم ضيقاً في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء ، فأصبحت وقد افتقدته ، فتبت إلى اللـه   .
إن ولاء الإنسان لأهل بيت الرسول إذا كان خالصاً لوجه اللـه ، يكون وسيلة لهدايته وسعادته والقصة التالية تعكس مدى صدق هذه الحقيقة .
حَدث أن جماعة من أهل أصفهان منهم أبو العباس أحمد بن النضير وأبو جعفر محمد بن علوية قالوا : كان بأصفهان رجل يقال له : عبد الرحمان وكان شيعياً  قيل له : ما السبب الذي أوجب عليك بإمامة علي النقي دون غيره من أهل الزمان ؟ قال : شاهدت ما أوجب عليَّ ، وذلك لأني كنت رجلاً فقيراً وكـان لي لسان وجرأة ، فاخرجني أهل اصفهان سنة من السنين مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلمين .
فكنا بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإجضار علي بن محمد بن الرضا (ع) ، فقلت لبعض من حضـر :
من هذا الرجل الذي قد أمر بإحضاره ؟ فقيل : هذا رجل علوي تقول الرافضة بإمامته ، ثم قال : ويقدر أن المتوكل يحضره للقتل فقلت : لا أبرح من ههنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أي رجل هو ؟
قال : فأقبل راكباً على فرس ، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرتها صفين ينظرون إليه ، فلما رأيته وقع حبه في قلبي فجعلت أدعو في نفسي بأن يدفع اللـه عنه شر المتوكل ، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة ، وأنا دائم الدعاء ، فلما صار إليَّ أقبل بوجهه إليَّ وقال : استجاب اللـه دعاءك ، وطَوّل عمرك ، وكثر مالك وولدك قال : فارتعدت ووقعت بين أصحابي فسألوني وهم يقولون : ما شأنك ؟ فقلت : خير ولم أخبر بذلك .
فأنصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان ، ففتح اللـه عليّ وجوهاً من المال ، حتى أنا اليوم أغلق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم ، سوى مالي خارج داري ، ورزقت عشرة من الأولاد ، وقد بلغت الآن من عمري نيفاً وسبعين سنة وأنا أقول بإمامة الرجل على الذي علم ما في قلبي ، واستجاب اللـه دعاءه فيَّ ولي   .
هكذا استجاب ربنا سبحانه دعاء وليّه الكريم الإمام الهادي في حق واحد من سائر الناس أحبه وأشفق عليه من ظلم السلطان ، وبالرغم من أنه لم يكن مـن مواليه وشيعته من قبل ، بينما نجد أخاه موسـى بن محمد ينوي الإضرار بالدين فيدعو عليه ويستجيب اللـه دعاءه فيه ، ألا يَدُلَّنا ذلك على أنه (ع) كسائر الأنبياء والأوصياء والصديقين يعملون لمرضاة ربهم واللـه يؤيدهم لأنهم ينصرون دينه ، وهكذا كل من نصر دين اللـه نصره اللـه سبحانه .
تعالوا نستمع قصة موسى هذا الذي عرف عنه بموسى المبرقع لكي نعرف أن أولياء اللـه المرضيين لا تأخذهم في دينه لومة لائم .
روي عن يعقوب بن ياسر قال : كان المتوكل يقول : وَيْحكم قد أعياني أمر ابن الرضا وجهدت أن يشرب معي وينادمني فامتنع ، وجهدت أن آخذ فرصة في هذا المعنى ، فلم أجدها ، فقالوا له : فإن لم تجد من ابن الرضا ما تريده في هذه الحالة فهذا أخوه موسى قصاف عزاف يأكل ويشرب ويتعشق قال : ابعثوا إليه وجيئوا به حتى نموِّه به على الناس ، ونقول : ابن الرضا .
فكتب إليه وأشخص مكرماً وتلقاه جميع بني هاشم والقواد والناس على أنه إذا وافى أقطعه قطيعة ، وبنى له فيها وحوّل الخمّارين والقيان إليه ، ووصله وبره وجعل له منزلاً سرِّياً حتى يزوره هو فيه .
فلما وافى موسى تلقاه أبو الحسن في قنطرة وصيف ، وهو موضع يتلقى فيه القادمون فسلم عليه ووفاه حقه ثم قال له : إن هذا الرجل قد أحضرك ليهتكك ويضع منك ، فلا تقر له أنك شربت نبيذاً قط ، فقال له موسى : فإذا كان دعاني لهذا فما حيلتي ؟ قال : فلا تضع من قدرك ولا تفعل ، فإنما أراد هتكك فأبى عليــــه ، فكرر عليه القول والوعظ وهو مقيم على خلافه ، فلما رأى أنه لا يجيب قال : أما إن هذا مجلـــــس لا
تجتمع أنت وهو عليه أبداً .
فأقام موسى ثلاث سنين يبكر كل يوم فيقال : قد تشاغل اليوم فَرُح فَيرُوح فقال : قد سكر فبكر ! فيبكر فيقال : قد شرب دواء فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قتل المتوكل ولم يجتمع معه عليه  .
علــم الإمــام :
لقد تحدثنا بإيجاز حول علم الإمام عندما تحدثنا عن حياة الإمام الباقر (ع) وقلنا أن علم الأئمة (ع) بالغيب ليس علماً ذاتياً بل بما أعطاهم اللـه سبحانه وبالقدر الذي شاءت حكمته ، وبطرق شتى أبرزها توارث العلم عن النبي وعبر آباءهم الطاهرين .
وقد جاء في الحديث عن الإمام الهادي (ع) تأكيد على ذلك حيث قال :
إن اللـه لم يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول اللـه ، لكل ما كان عند الرسول كان عند العالم وكل ما  أطلع عليه الرسول فقد اطلّع أوصياؤه عليه كيلا تخلو أرضه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته   .
ومن أبعاد علمه (ع) إلهام اللـه له حسبما تقتضيه حكمته البالغة ، وقد قال ربنا سبحانه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } (الحِجرِ/75)
وهكذا كان الإمام يعلم اللغات المختلفة بإلهام اللـه وقد استفاضت الروايات التي تهدينا إلى علم الأئمة بذلك .
كذلك روي عن علي بن مهزيار : قال : أرسلت إلى أبي الحسن (ع) غلامي وكان مقلابياً ، فرجع الغلام إليّ متعجباً فقلت مالك يا بني ؟ قال : كيف لا أتعجب ، مازال يكلمني بالقلابية كأنه واحد منا ، فظننت أنه إنما دار بينهم   .
وفي ذلك روايات أخرى تدل على علمهم بسائر اللغات الفارسية والتركية وما أشبه . وكان ينبئ الناس بما يحدث في المستقبل بتعليم اللـه ، كما حدث بالنسبة إلى موت الواثق .
روي عن خيران الأسباطي قال : قدمت المدينة على أبي الحسن (ع) فقال لي :
ما فعل الواثق ؟ قلت : هو في عافية ، قال : وما يفعل جعفر ؟ قلت تركته أسوأ الناس حالاً في السجن قال : وما يفعل ابن الزيات ؟ قلت : الأمر أمره وانا منذ عشرة أيام خرجت من هناك ، قال : مات الواثق ، وقد قعد المتوكل جعفر ، وقتل ابن الزيات قلت : متى ؟ قال : بعد خروجك بستة أيام وكان كذلك    .
وكذلك إخباره بموت المتوكل حيث دعا عليه وأخبر المقربين إليه أنه يهلك خلال أيام ثلاثة .
وحينما حمله قائد المتوكل إلى سر من رأى أخذ حذره وأخذ لبابين وبرانس احتياطاً لما كان يتوقعه في الطريق من عواصف ثلجية أيام الصيف ولم تكن متوقعة أبداً ، ولكنها وقعت وقتلت طائفة من الجنود المرافقين له وبقي الإمام سالماً بفضل اللـه   .
وتجلى علمه في احتجاجه على يحيى بن أكثم ، الذي كان المقَّدم بين علماء عصره عند الخليفة ، فطلب منه إحضار أسئلة صعبة لإحراجه ، وسوف نذكر القصة في فصل آت .
وقد وعظ شاباً كان يبالغ في الضحك وأخبره بقرب وفاته وكان كذلك :
قالوا : حدث لبعض أولاد الخليفة وليمة فدعا الناس إليها ودعا أبا الحسن ، فدخلنا فلما رأوه انصتوا إجلالاً له ، وجعل شاب في المجلس لا يوقره ، وجعل يلغط ويضحك ، فأقبل عليه وقال له : يا هذا تضحك ملء فيك وتذهل عن ذكر اللـه وأنت بعد ثلاثة من أهل القبور ؟ قال : فقلنا هذا دليل حتى ننظر ما يكون .
قال : فأمسك الفتى وكفَّ عما هو عليه ، وطعمنا وخرجنا ، فلما كان بعد يوم أعتل الفتى ومات في اليوم الثالث من أول النهار ، ودفن في آخره   .
وفي خبر مشابه حدَّث به سعيد بن سهل البصري قال : اجتمعنا أيضاً في وليمة لبعض أهل سر من رأى وأبو الحسن (ع) معنا ، فجعل رجل يعبث ويمزح ، ولا يرى له جلالة فأقبل على جعفر فقال : أما أنه لا يأكل من هذا الطعام ، وسوف يرد عليه من خبر أهله ما ينغص عليه عيشه ، قال : فقدمت المائدة قال جعفر : ليس بعد هذا خبر ، قد بطل قوله ، فواللـه لقد  غسل الرجل يده وأهوى إلى الطعام فإذا غلامه قد دخل من باب البيت يبكي وقال له : الحق أمك فقد وقعت من فوق البيت ، وهي بالموت ، قال جعفر فقلت واللـه لا وقفت بعد هذا وقطعت عليه    .
وآخر مكرمة ننقلها عنه (ع) تلك التي ينقلها الرواة حول تل المخالي حيث سعى المتوكل لإرهاب معارضيه بما يملك من قوة عسكرية ، فأمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكني بسر من رأى أن يملأ كل واحد مخلاة فرسه من ا لطين الأحمر ، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط تربة واسعة هناك ، ففعلوا . فلما صار مثل جبل عظيم واسمه تل المخلي صعد فوقه ، واستدعى أبا الحسن واستصعده ، وقال : استحضرتك لنظارة خيولي ، وكان قد أمرهم ان يلبسوا التجافيف ويحملوا الأسلحة وقد عرضوا بأحسن زينة ، وأتم عدة ، وأعظم هيبة ، وكان غرضه أن يكسر قلب كل من يخرج عليه وكان خوفه من أبي الحسن (ع) أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة .
فقال له أبو الحسن (ع) : وهل أعرض عليك عسكري ؟ قال : نعم ، فدعا اللـه سبحانه فإذا بين السمـــاء
والأرض من المشرق والمغرب ملائكة مدججون فغشي على الخليفة ، فلما أفاق قال أبو الحسن (ع) : نحن لانناقشكم في الدنيا نحن مشتغلون بامر الآخرة فلا عليك شيء مما تظن   .
كرمــه وجــوده :
وكان (ع) من أهل بيت عادتهم الإحسان وسجيتهم الكرم .
جاء في التاريخ : دخل أبو عمرو عثمان بن سعيد وأحمد بن إسحاق الأشعري وعلي بن جعفر الهمداني على أبي الحسن العسكري ، فشكى إليه أحمد بن إسحاق ديناً عليه فقال يا ( أبا) عمرو - وكان وكيله - إدفع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلى علي بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخذ أنت ثلاثين ألف دينار ، فهذه معجزة لا يقدر عليها إلاّ الملوك ، وما سمعنا بمثل هذا العطاء   .
والقصة التالية تعكس قمة الإيثار عند الإمام (ع) حيث سعى لقضاء حاجة واحدة من مواليه بطريقة عجيبة دعنا نستمع إلى التاريخ يروي لنا قصته بكل عظمة :
قال محمد بن طلحة : خرج (ع) يوماً من سر من رأى إلى قرية لِمُهّمٍ عرض له ، فجاء رجل من الأعراب يطلبه فقيل له قد ذهب إلى الموضع الفلاني ، فقصده فلما وصل إليه قال له ما حاجتك ؟ فقال : أنا رجل من أعراب الكوفة المتمسكين بولاية جدك علي بن أبي طالب (ع) قد ركبني دين فادح أثقلني حمله ، ولم أر من أقصده لقضاءه سواك .
فقال له أبو الحسن : طب نفساً وقر عيناً ثم أنزله ، فلما أصبح ذلك اليوم قال له أبو الحسن (ع) : أريد منك حاجة . اللـه اللـه أن تخالفني فيها ، فقال الأعرابي لا أخالفك ، فكتب أبو الحسن (ع) ورقة بخطه معترفاً فيها أن عليه للأعرابي مالاً عينه فيها يرجح على دينه ، وقال : خذ هذا الخط فإذا وصلت إلى سر من رأى إحضر إليّ وعندي جماعة ، فطالبني به وأغلظ القول عليَّ في ترك إبقائك إياه اللـه اللـه في مخالفتي فقال : أفعل ، وأخذ الخط .
فلما وصل أبو الحسن إلى سر من رأى ، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم ، حضر ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه وقال كما أوصاه ، فألان أبو الحسن (ع) له القول ورفقه ، وجعل يعتذر ، ووعده بوفائه وطيبه نفسه ، فنقل ذلك إلى الخليفة المتوكل فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن (ع) ثلاثون ألف درهم .
فلما حملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل فقال : خذ هذا المال واقض منه دينك ، وأنفق الباقي على عيالك وأهلك ، واعذرنا ، فقال له الأعرابي : يا ابن رسول اللـه واللـه إن أملي كان يقصر عن ثلث هذا ، ولكن اللـه أعلم حيث يجعل رسالته ، وأخذ المال وانصرف   .
تعالوا نتعلم من أئمتنا الإيثار والكرم ،  فليس الكرم مجرد الإنفاق إنما السعي لقضاء الحاجة بكل وسيلة ممكنة وحتى ولو كانت في ذلك غضاضة على النفس .
وتذكرني قصة الإمام هذه بما روي عن أحد الأنبياء العظام الذي جاءه صاحب حاجة ، وطلب منه مالاً ولم يكن يملك شيئاً ، فقال له خذني وبعني في سوق النخاسين كما لو كنت عبداً لك وخذ الثمن واقض حاجتك به ، وفعل الرجل ولكن الذي اشترى النبي عرفه بالتالي فتركه .. وبهذه الطريقة التي تفيض إيثاراً وكرماً وجوداً علّمنا قادتنا كيف نحسن إلى بعضنا ، وننفق بما نملك ونسعى لامتلاك ما نفقده بهدف قضاء حوائج الناس .


الفصل الرابع : كلماتــه المضيئــة
لقد بلغ مذهب أهل البيت (ع) مرحلة النضج في عهد الإمام الهادي ، إلاّ أنه كان يهدده خطر التطرف الذي تسرب إلى بعض المسلمين عبر الثقافات المستوردة من الشرق ، كما أنه كان بحاجة إلى مزيد من الدفع الإيماني حتى لا تهبط الروح المعنوية عند البعض بسبب دعايات الأعداء وبالذات الخلفاء العباسيين الذين لم يعرفوا مقام الأئمة فنسبوا إليهم أو إلى شيعتهم الغلو والغنوص ، وهكذا احتياج المذاهب إلى نصوص جامعة تكون بمثابة دروس توجيهية تتضمن أصول العقائد بلا زيادة أو نقصان .
وهكذا جاءت زيارة الجامعة المروية عن الإمام الهادي (ع) التي تجعل الأئمة في مقامهم الأسمى بعيداً عن الغنوص والغلو .
دعنا نتدبر في بعض كلماتها المضيئة التي تعتبر أفضل وسيلة لتكريس حبهم في النفس ذلك الحب الذي يعتبر امتداداً لحب المؤمن لربّه ، وليس بديلاً عنه .
“ السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ، وموضع الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ومعدن الرحمة ، وخزّان العلم ومنتهى الحلم ، وأصول الكرم وقادة الأمم ، وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخيار ، وساسة العباد وأركان البلاد ، وأبواب الإيمان وأمناء الرحمن ، وسلالة النبيين وصفوة المرسلين وعترة خيرة رب العالمين ورحمة اللـه وبركاته ، السلام على ائمة الهدى ومصابيح الدجى ، وأعلام التقى وذوي النهى ، وأولي الحجى وكهف الورى ، وورثة الأنبياء والمثل الأعلى ، والدعوة الحسنى وحجج اللـه على أهل الدنيا والأخرة والأولى ورحمة اللـه وبركاته ، السلام على محال معرفة اللـه ، وبساكن بركة اللـه ، ومعادن حكمة اللـه ، وحفظة سر اللـه ، وحملة كتاب اللـه ، وأوصياء نبي اللـه ، وذرية رسول اللـه (ص) ورحمة اللـه وبركاته ، السلام على الدعاة إلى اللـه والأدلاّء على مرضاة اللـه ، والمستقرين “ والمستوفرين “ في أمر اللـه ، والتامين في محبة اللـه ، والمخلصين في توحيد اللـه ، والمظهرين لأمر اللـه ونهيه ، وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون ورحمة اللـه وبركاته “    .
وقال (ع) ينصح بعض مواليه : “ يا فتح من أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوق ، ومن أسخط الخالق فأيقن أن يحل به الخالق سخط المخلوق ، وأن الخالق لا يوصف إلاّ بما وصف به نفسه ، وأنى يوصف الخالق الذي تعجز الحواس أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحده ، والأبصار عن الإحاطة به “ .
“ جل عما يصفه الواصفون ، وتعالى عما ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرب في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قربه بعيد  ، كيف الكيف فلا يقال كيف ، وأيّن الأين فلا يقال أين ، إذ هو منقطع الكيفية والآيّنية “   .
وقال (ع) : “ من اتقى اللـه يُتَّق ، ومن أطاع اللـه يُطَع ، ومن أطاع الخالق لم يبال سخط المخلوقين ، من أمن مكر اللـه وأليم أخذه تكبر حتى يحل به قضاؤه ونافذ أمره ، ومن كان على بينة من ربه هانت عليه مصائب الدنيا ولو قرض ونشر ، الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر لأن النعم متاع والشكر نعم وعقبى ، إن اللـه جعل الدنيا دار بلوى والآخرة دار عقبى وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً وثواب الآخرة من بلوى الدنيا عوضاً ، إن الظالم الحاكم يكاد أن يعفى على ظلمه بحلمه وأن المحق السفيه يكاد أن يطفئ نور حقه بسفهه ، من جمع لك وده ورأيه فأجمع له طاعتك ، من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره ، الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون “   .
“ المراء يفسد الصداقة القديمة ويحل العقدة الوثيقة وأقل ما فيه أن يكون فيه المغالبة والمغالبة أسباب القطيعة “ .
“ العتاب مفتاح التقالي والعتاب خير من الحقد “ .
وقال لرجل ذم إليه ولداً له : “ العقوق ثكل من لم يثكل “ .
وقال : السهـر ألذ للمنـام والجوع يزيد في طيب الطعام ، يريد به الحث على قيام الليل وصيام النهار “ .
“ أذكر مصرعك بين يدي أهلك ، ولا طبيب يمنعك ولا حبيب ينفعك “ .
“ الغضب على من تملك لؤم “ .
“ الحكمة لا تنجح في الطباع الفاسدة “ .
“ خير من الخير فاعله ، وأجمل من الجميل قائله ، وأرجح من العلم حامله ، وشر من الشر جالبه ، وأهول من الهول راكبه “ .
“ إياك والحسد فإنه يبين فيك ولا يعمل في عدوك “ .
“ إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن احد باحد سوء حتى يعلم ذلك منه ، وإذا كان زمان الجور أغلب فيه من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه “   .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page