• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الإمامُ عَلي الهادي ( عليه السلام ) مع مروق القصر وقضاة العَصر

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك يا أبا الحسن ، عليّ بن محمد ، الزكي الرّاشد ، النّور الثّاقب .
السلام عليك يا نور الأنوار ، السّلام عليك يا زين الأبرار ، السّلام عليك يا سليل الأخيار .
السّلام عليك يا حجّة الرحمان ، السّلام عليك يا ركن الإيمان ، السّلام عليك يا مولى المؤمنين ، السّلام عليك يا وليّ الصّالحين .
السّلام عليك يا عَلمَ الهدى ، السّلام عليك يا حليف التّقى ، السّلام عليك يا عمود الدّين ، السّلام عليك يا بن خاتم النبيّين ، السّلام عليك يا بن سيّد الوصيّين ، السّلام عليك يا بن فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين ،.. السّلام عليك أيّها الحجّة على الخلق أجمعين ، ورحمة الله وبركاته (1) .
من زيارته ( عليه السلام ) المنصوصة .
الإهداء
إلى الأخ المنصف الّذي يحب أن يستمع القول فيتّبع أحسنه ، ويفتح قلبه للوعي ، قبل أن يفتح عينيه للقراءة .
ويوطِّن نفسه على الدّخول إلى هيكل قدس ، بقلب نقيّ لا رواسب فيه ، ونفس صافية لا تشوبها شائبة .
ليقرأ سيرة عظيم من أولياء الله تعالى ، وحُماة دينه ، وحَمَلة كلمته ، وعيبة عِلمه ، الّذين خُلقوا من غير طينتنا ، واصطنعوا على عينه سبحانه .
وليدخل محراب حضرة علويّة ، فيطالع آيات واحدٍ من أوصياء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، حَملَ أعباء الولاية قرابة ثُلُث قرن على هذه الأرض ، فكان في عصره سيّد العصر ، فتىً ،.. فشابّاً ،.. فكهلاً ،.. وإلى آخر لحظةٍ من عمره الشّريف .
أجل ، إلى مَن يريد أن يقرأ ، ويتفكّر ، ويتدبّر .
أهدي بعض آيات هذا الإمام العظيم .
في هذا الكتاب المتواضع الّذي هو نفحة من نفحات سادة الخلق ( عليهم السلام ) .
البيّاض : قضاء صُور ـ لبنان الجنوبي
سنة 1419 هجريّة ، 1999 ميلاديّة

المؤلّف:كامل سليمان

مفتتحُ هذا الكتاب
سِيَر أهل بيت النبيّ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم ، سِيَر حافلة بكرائم الأقوال وجلائل الأعمال ، طافحة بشذى الرّسالة وروح النبوّة ، لا ترى فيها إلاّ نماذج أئمّة الحقّ والعدل ، ولا تقع عند استقرائها إلاّ على صور مشرقة لخلفاء الله تبارك وتعالى الذين جعلهم في أرضه تراجمة وحيه ، النّاطقين عن أمره ، الممثّلين ظلّه بين عباده ،.. تَحسبُ الصامت منهم متجلبباً بهيبة الرّسول ، وتجد المتكلّم يصدر عن ربّه فيما يقول ،.. تعلوه ـ أبداً ـ هالة وقار وجلال تجعله مهاباً قد ضربَ على المجرّة قبابه ، ووصلَ بحبل الله أسبابه ،.. فلا تُذكر فضيلة إلاّ وله محضها وخلاصتها ، ولا تُستعصى حجّة إلاّ وعلى لسانه حججها وأدلّتها..
فهو أحرى النّاس بكلّ مكرمة ؛ لِما منحه الله تعالى من خصائص تفرّدَ بها : كسماحة النّفس ، والخلُق العظيم ، والرّسوخ في العلم والفضل والحِلم ، والتمرّس بالقرآن والسنّة ، وكالصّدق في القول والوعد والعهد ، وغير ذلك من مزايا الكمال التي لا تجتمع في غيره من البشر ،.. وكالإيمان العميق الّذي يبلغ به مرتبة الأنبياء ،.. ولا شيء كالإيمان لا يحتاج إلى برهان بعد أن تؤكّده أقوال حامله وأفعاله..
فسيَر حياتهم ( عليهم السلام ) مأدبة غنيّة تحيى بها القلوب ، وتتقوّى العقيدة ، ويترسّخ الإيمان ، ويكمل العمل ويُتقبّل ، وتُرتضى الحياة ـ على ما فيها من أثقال الخطوات الشاقّة ـ نحو النّعيم المقيم الّذي لا يُنال بيوم الدّين إلاّ بتولّيهم..

ولم يكن الأئمة ( عليهم السلام ) طالبي حكم دنيويّ ،.. ولا هم موعودون به فضعفوا عن طلبه وقعدوا عنه ، ولا كانوا في مركز ضعف حينما كان سلاطين الزمان يشخصونهم إلى عواصم مُلكهم ، ويضعونهم تحت الرقابة ؛ لإبعادهم عن قواعد أعمالهم ومفاتح تحرّكاتهم ، وللوقوف بوجه دعوتهم التي تزلزل عروش الظّلم ، وتُظهر زيف الحُكم ، وتفضح باطل ما كان عليه الحاكمون ، بل كانوا أقوياء مرهوبين ، يُحسب لقوّتهم ألف حساب !.
فلم يولد واحد منهم ( عليهم السلام ) ، إلاّ انتشرَ خبر ولادته كلمح البصر ، وذاعَ صيته بين البدو والحضر ، وارتاعت لدى سماع اسمه قلوب السّلطان وأعوانه ، وهابت ذكره أركان الدولة وسائر لحَسَة قصاعها من الكذَبة وسرقة المال ؛.. لأنّهم ـ جميعاً ـ على موعد مع ذلك الاسم الكريم المرعب الّذي لا ينطق عن الهوى ، وبشّرَ به آباؤه واحداً بعد واحدٍ ، فصار على كلّ شَفة ولسان .
نعم ، كانوا يرضون بالشّخوص إلى عواصم خلفاء الزمان ( مستضعفين ) ؛ ليُعلنوا وليبشّروا وينذروا هناك ،.. حيث تتزاحم الأقدام ويزدحم الجبابرة ممّن يأكلون التّراث أكلاً لمّاً ، ويحبّون المال وشهوات النفوس حبّاً جمّاً ! ولذا كانوا مهاجَمين من جميع الدائرين في فلَك طواغيت الحُكم ، مراقَبين ومحاسَبين على مفتريات خصومهم ،.. صابرين على ذلك برضا واطمئنان ؛ لأنّهم كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في مركز ثقل الدّهماء ، وبصفتهم شهداء الله تعالى على الخلق..
فمِن خداع الحواسّ أن نظنّ في الأئمة ( عليهم السلام ) ضعفاً ، لمجرّد النظرة الطائشة لإذعانهم ( لأوامر ) الحاكم الظالم الذي كان يعتقلهم بجانبه مرةً ، ويسجنهم مرةً ، ويطلق سراحهم مرةً أخرى ،.. فهم مأمورون بالصبر على هذه الأمور ؛ ليتسنّى لهم القيام بعملهم الذي هو امتداد للرّسالة السماويّة ، وتتيسّر إذاعة كلمة العدل عند الحاكم الظالم ، والوقوف في وجه ضلال الأمير ، والمشير ، والوزير ، وفقيه السّوء ،.. وليكونوا على اتصال مع كافّة مَن يدورون حول عرش السلطان من ذباب موظّفيه وعملائه ، ولو ذاقوا الشذى من الحكم تارةً والأذى طوراً ؛.. لأنّهم حُجج الله على عباده ، وأُمناؤه على دعوته ، وسفراؤه في أرضه ،.. ولولا ذلك لكانوا كالصقور ، ولرأيتَ كلّ واحد منهم كالأسد الهصور ، تحميهم حصانة الحاكم السماويّ الذي لا يرهب الحاكم الأرضيّ !
فأهل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وعليهم ) كانوا كذلك ،.. والناس يعلمون أنّ أمرهم من أمر ربّهم سبحانه وتعالى .. ؛ ولذا كانوا محسودين ، ومجفوّين..
***
أمّا إمامُنا أبو الحسن عليّ الهادي ( عليه السلام ) ، الذي نحن بصدد عرض شيء من سيرته الكريمة ، فإنّ كتابنا هذا سيكشف للقارئ عن جوانب من عَظمة الله تعالى في عظمة مخلوقه هذا ، وسيريه آيات صُنع الله سبحانه في آيات وليّه ، الذي حَفلت حياته بأسمى معاني الإمامة التي هي خزينة النبوّة ، فكان لدى التقويم في الميزان ، يرجح بجميع أهل ذلك الزمان ،.. قد تقلّد الإمامة وهو في أوائل السنة التاسعة من عمره ، فتصدّر يومها مجالس الفتوى بين أجلاّء العصر ومشايخ الفقهاء ، وبهرَ العقول بعلمه وفضله..
ثمّ حملَ أعباءها طيلة ثلاث وثلاثين سنة في عصر ظلم وغشم ونفاق ، أخَذَ منه ـ ومن العلويّين جميعاً ـ ومن شيعته ـ خصوصاً ـ بالخناق ! ولكنّه استمرّ على أدب الله عزّ وجلّ ، وسيرة رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ونهج آبائه ( عليهم السلام ) ، لا يُمالئ حاكماً ، ولا يهادن ظالماً ، بل يقوم بما انتدبَ إليه في قصر السلطان ، ومجالس الحُكم ، وبين الأمراء ، وفي كلّ مكان .
يعيش صراحة الدّين ، ويجانب الباطل بجرأة لا يكون لها نظير إلاّ عند المنتجب من الله تعالى للولاية على الناس ،.. منسجماً مع أمر السماء التي استسفرته لكلمتها ، وقائماً بقسط الوظيفة التي خَلعت عليه سربال ولايتها ،.. مُثبتاً أنّه على مستوى ذلك الأمر ، في ذلك العصر ،.. تماماً كالسّفير الذي لا يخرج عن خطّ دولته ، ويدلّ صدقه مع وظيفته على حفظ كرامة الدولة التي سخت عليه بما وضعته بين يديه من إمكانيّات ؛ ليستطيع تمثيلها حقّاً وحقيقة .
وأنا ـ في كتابي هذا ـ أحبّ أن يعرف قرّائي الأعزاء شيئاً عَرَفتهُ من مزايا هذا الإمام العظيم ؛ ليكونوا على بيّنة من أمر الله سبحانه وتعالى في مَن يولّى عليهم ، فإنّهم يوم القيامة لموقوفون ،.. وإنّهم عن أئمّتهم في الدّين لمسؤولون..
وقد قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسّحاب الرّكام ، أو كالجبال الرّواسي ، فيقول : يا ربّ ، أنّى لي هذا ولم أعملها ؟ فيقول : هذا علمك الّذي عَلّمته الناس ، يُعمل به من بعدك ) (2)..
فعلينا أن نتعلّم ،.. وأن يُعلّم بعضنا بعضاً ما فيه سعادتنا في الدارين ( ...مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ...) (3) ؛ فإنّ المعرفة باب النجاة ، والجهل يؤدي إلى البوار والخسران..
وقال معاوية بن عمّار : قلت لأبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : رجل راوية لحديثكم يبثّ ذلك إلى الناس ويُسدّده في قلوب شيعتكم ، ولعلّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرّواية ، أيّهما أفضل ؟
قال : ( الراوية لحديثنا يبثّ في الناس ويُسدّده في قلوب شيعتنا ، أفضل من ألف عابد ) (4) .
لذا تصدّيتُ لهذا الأمر ، دون أن أنصِب نفسي معلّماً أو راوية يبثّ أخبار هذه العترة الطاهرة في الناس ، بل كنت جَمّاعاً ـ لهذه الأمور ـ غير وضّاع ، متوخّياً أن يجد المعلّم والرّاوية مادّة التعليم والرّواية بين أيديهما محضّرة مهيّأةً ، فيتيسّر لهما القيام بواجبهما حين يجدان وسائل العمل مرتّبةً جاهزةً لتثقيف الآخرين ، مبتغياً من وراء ذلك إنارة زاوية من زوايا حياتنا الدّنيا الزائلة ، وراجياً بلوغ الغاية المرجوّة في حياتنا الأخرى الدائمة .
وما كنتُ ـ بالحقيقة ـ لأختار هذا الموضوع وأبذل جهدي في الكتابة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لولا أنّهم شجرة النبوّة المقطوعة من أكثر المسلمين ، وحبل الله الممدود من السماء إلى الأرض فلا ينجو إلاّ مَن تمسّك به ،.. ولم يتمسّك به إلاّ القليلون ! وكتابتي فيهم لا ـ ولن ـ تبلغ سوى جزءً من آلاف الأجزاء ممّا كانوا عليه من المنزلة السامية ، التي لا يبلغ شأوها قلم كاتب ، ولا فكر ثاقب .

إلمامةٌ عابرة بمزايا العترة الطاهرة
إنّ أوّل آية خارقةٍ من آيات أهل بيت النبيّ ( صلوات الله عليه وعليهم ) : أنّ تأريخهم سَبَقهم وكُتِب قبل ولادتهم ، فقد حدّث به النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) أصحابه قبل حدوثه ، وأطلعهم على ما يجري عليهم واحداً بعد واحدٍ سلفاً ، ونقلَ إليهم ما خطّه قلم القدرة في اللّوح المحفوظ عنهم ، وما قضى به الباري عزّ وعلا عليهم ، فتحدّث الناس بأوصياء النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وبعددهم ، وأسمائهم ، وصفاتهم ، وبما يُصيب عليّاً ، والحسن ، والحسين ،.. حتى الإمام الثاني عشر عجّل الله تعالى فرجه..
ثمّ وصفَ علمهم وفضلهم ، وبيّن صفاتهم ولم يترك خافياً من أمورهم ؛ كي لا يضلّ الناس عنهم ولا يحيدوا عن الدّين ، وعمّا كلّفهم به ربّ العالمين ،.. فصارَ تاريخ أهل البيت ( عليهم السلام ) يدور على كلّ لسان قبل أن يولد أكثرهم ، وقبل أن يولد آخرهم بمئتين وخمس وخمسين سنة ،.. ثمّ تناقلهُ الرّواة ، وتحدّثت به الرّكبان ، وصار معلوماً لدى القاصي والداني ، جارياً على لسان المؤالف والمخالف ،.. كما أنّه كُتبَ ـ يومئذ ـ مجمل تاريخ بعض الصّحابة ؛ إذ ذكرَ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) نصر بعضهم لأهل بيته ، وظلم البعض الآخر لهم ، وقيام سلاطين جبّارين ،.. وأعطى من أعلام الغيب ما مدحَ به قوماً وذمّ آخرين ، وكشفَ لأمّته عن كثير ممّا يجري بعد لحوقه ( صلّى الله عليه وآله ) بالرّفيق الأعلى .
والتاريخ الذي كتبهُ الله عزّ وجلّ لا يُمحى ؛ إذ لا مُبدّل لكلماته سبحانه ،.. والحديث الشريف الذي نقله رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) عن الوحي لا يُطمس ، ولا يعفو أثره مهما زوّر المزوّرون ؛ لأنّ الحقّ ينادي على نفسه وينفض عن وجهه الرّكام والغبار مهما تطاولت الأزمنة والدهور ،.. فأنتَ إذا استقصيتَ ما كتبه السلف الصالح عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، واستنطقتَ بطون الكتب ، وجدتَ الخطوط تتكامل بين يديك شيئاً فشيئاً ، ووصلتَ إلى تكوين صورةٍ مشرقةٍ واضحة المعالم تدلّ عليهم أصدق دلالة ، ولا تنطبق على غيرهم بوجه من الوجوه ؛ لأنّهم خُلقوا مُعلَّمين مُفهَّمين ، يعرفون كلّ لغة ويتكلّمون بكلّ لسان معرفةً لدُنيّةً موهوبةً لهم من ربّهم ، كما وهبَ لنا ولهم النظر والسّمع والحسّ دون أن يُعلّمنا أهلنا كيف نرى ، أو كيف نسمع ، أو كيف نحس ..؟
فمن عطايا الله سبحانه لسفرائه في أرضه أنّهم يُزّقون العلم زقّاً ، فيولَدون علماء ، حلماء ، حكماء ، ذوي أدب ربّانيّ موهوب ـ غير مكسوب ـ فلا يعيون بجواب ولا ينطقون إلاّ بالصواب ،.. تكاد أجوبتهم تدع السامع مشدوهاً من العجب ، لبلاغة منطقهم وصدق حِكمهم ، من دون فرق بين كبيرهم وصغيرهم ؛ لأنّهم يصدرون عن معينٍ واحدٍ ، ويتمتّعون بنفس الكفاءة خلقاً من عند ربّهم وتمييزاً لهم عمّن سواهم ،.. وكمثلٍ على بعض أحوالهم نورد لك ما رواه عبد العظيم الحسنيّ ، عن عليّ بن محمد ـ إمامنا الهادي ـ عن أبيه محمد بن عليّ ، عن أبيه الرّضا ، عليّ بن موسى ( عليهم السلام ) ، حيث قال :
( خرجَ أبو حنيفة من عند الصادق ( عليه السلام ) ، فاستقبلهُ موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ـ وهو دون السابعة من عمره ـ فقال له أبو حنيفة : يا غلام ، ممّن المعصية ؟
قال ( عليه السلام ) : لا تخلو من ثلاث :
إمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ، وليست من الله ، فلا ينبغي للكريم أن يُعذّب عبده بما لا يكتسبه .
وإمّا أن تكون من الله عزّ وجلّ ومن العبد ،.. وليس كذلك ، فلا ينبغي للشريك القويّ أن يظلم الشريك الضّعيف .
وإمّا أن تكون من العبد ،.. وهي منه ، فإن عاقَبهُ الله فبذنبه ، وإن عفا عنه فبكرمه وجوده ) (5) .
فزِنْ جواب هذا الغلام بميزان العقل والعدل ـ ولا تنسَ أنّه يخاطب فقيهاً كبيراً من فقهاء ذلك العصر ، يرى أنّ العبد محمول على ارتكاب المعصية مجبور عليها ؛ لأنّه مقضيّ عليه من الله تعالى بها ـ تَعلم أيّ فقه يَحمل هذا الغلام العظيم ، وأيّة حكمة تجري على لسانه حين يضع الأحكام الحقيقية في مواضعها بعد أن يفلسفها فلسفةً عقليةً بليغةً ، وتعلم ـ أيضاً ـ أنّ الله سبحانه يُطلع سفراءه المنتجبين على كلّ كبيرة وصغيرة في الأرض ، ولا يحجب عنهم شيئاً ليكونوا على بيّنة ممّا يجري حولهم ، كما هو شأن السفير الذي لا تخفي عنه دولته أمراً من أمورها ، فقد روى عليّ بن حمزة عن إمامنا الهادي ( عليه السلام ) ما يلي :
( سمعتهُ يقول : ( ما من مَلَك يُهبطه الله في أمر ، ما يهبطه إلاّ بدأ بالإمام فعرضَ عليه ، وأنّ مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى صاحب هذا الأمر ) ) (6) ـ أي إلى الإمام الحجّة على الناس ـ .
فعن محمد بن يعقوب بإسناده عن الحسن بن راشد ، قال :
( سمعتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : ( إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ أن يَخلق الإمام ، أمرَ مَلَكاً فأخذَ شربةً من ماء تحت العرش فيسقيها أباه ، فمن ذلك يخلق الإمام ، فيمكث أربعين يوماً وليلةً في بطن أمّه لا يسمع الصوت ، ثمّ يسمع بعد ذلك الكلام ، فإذا ولِدَ بعثَ الله ذلك المَلَك فيكتب بين عينيه : وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلاً ، لا مبدّل لكلماته وهو السّميع العليم ، فإذا مضى الإمام الذي كان قبله ، رُفعَ لهذا مناراً من نورٍ يَنظر فيه إلى أعمال الخلائق ، فبهذا يحتجّ الله على خلقه ) (7) .
فمن المعروف أنّ الموفَد من الدولة إلى دولةٍ أخرى بمهمّةٍ ما ، يراجِع ـ أول ما يراجِع ـ سفير دولته ، ويَدخل ـ بادئ بدءٍ ـ على المنتدَب من حكومته ؛ ليُطلعه على ما جاء بشأنه وما انتُدب إليه من عمل ، فالأجدر بحكومة السماء ـ ذات النّظام الأزليّ الدقيق ـ أن تكون على مستوىً أرفعَ من جميع الأنظمة الأرضيّة من حيث الدّقة في التخطيط والتنفيذ..
ولا عجبَ ـ إذاً ـ أن يمرّ كلّ أمر سماويّ عِبر سفير السماء ؛ ليعرف جميع ما يدور في مملكة الله الكبرى ، وليطّلع على ما يحدث فيها ويستجدّ من قضاء ربّه تعالى وقدره ، وعلى ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج إليها ،.. وليعلم كلّ شيء في وقته ، فيكون حينئذٍ السفير المنتدَب من لدن الحضرة القدسيّة بحقّ وحقيقة .
وإنّ الّذين يمارون في هذه الأمور يغالطون عقولهم ، ويسيئون فهمها إذا أنكروا النظام الإلهيّ وهم يرون الترتيبات الأرضية التي صنعوها بأيديهم ، بل إنّهم حين ينكرونها يخالفون المنطق السليم ، ويزجّون أنفسهم في مدار إنكار قدرة الله تعالى على تسيير شؤون كونه العظيم وإدارة مُلكه الواسع ، ويسيرون في ركاب المُنكِرين لكلّ أوامر الله سبحانه من الّذين كفروا ( وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ) (8) أي : أنّهم يُلحدون بالسماء وبأوامرها برمّتها ويقفون في صفّ المعاندين..
فلابدّ من تمرير أمر الله عزّ اسمه على عبده المنتجب أولاً وبالذات ؛ لأنّه اختارهُ من بين خلقه لإمامة خلقه ، ولذا قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( نحنُ السبب بينكم وبين الله ) (9) ، وهذا معنى كونهم السبب بيننا وبين ربّنا عزّ وجلّ .
فنلفت النظر إلى أنّ الجهل بشأن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، لا يشكّل عذراً للجاهل بحالهم وبحقّهم ، ولا هو حجّة مقبولة بين يدي الله تعالى يوم الدّين ، كما أنّ معرفته السطحيّة التقليدية لا تُُُُُُُُكوّن باب خلاص في قسطاس العمل المقبول عنده سبحانه ,.. فوجبَ أن نعرفهم بما هم فيه ، وبما كانوا عليه ، وبما انتدبهم الله عزّ اسمه إليه من حماية دينه ورقابة عباده ؛ لنرجع إلى معدن العلم والحكمة في سائر أمور ديننا ودنيانا ، ولنستقي من منابع تتفجّر معرفتها من سرادق عرش الرّحمان ، فنصدر في تصرّفاتنا وأعمالنا عن مشرّعين ربّانيّين اصطفاهم خالقهم عزّ وجلّ ، وجَعلهم حججاً على خلقه وهداةً لهم إلى سواء السبيل ، اجتباءً لهم منه سبحانه وآدم بين الطين والماء ، فإنْ نَفِسَ عليهم أحد بما أعطاهم الله سبحانه من فضله ، وبخلَ عليهم بكيفية خلقه لهم على هذه الشاكلة ، فليُطفئ نور الشمس إذا استطاع ، أو فليأتِ بها من الغرب إذا قَدر ، أو فليطأطئ رأسه صاغراً لمشيئة الله عزّ وجلّ ولا ( يتفرعَن ) ، ويُنصّب نفسه شريكاً لله عزّ وعلا في خلقه..
قال الحَكم بن عيينة : ( لقيَ رجل الحسين بن عليّ بالثعلبيّة وهو يريد كربلاء ، فدخلَ عليه .
فقال له الحسين ( عليه السلام ) : ( من أيّ البلاد أنت ؟
قال : من أهل الكوفة .
قال : يا أخا أهل الكوفة ، أمَا والله لو لقيتُك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل من دارنا ، ونزوله على جدّي بالوحي ، يا أخا أهل الكوفة ، مستقى العلم من عندنا ، أفعلموا وجَهِلْنا ؟!. هذا ما لا يكون ) (10) .
وأكرِم بهذه القَولة الكريمة من سيّد الشّهداء ( عليه السلام ) ، فهي قولة لا يجرؤ عليها إلاّ هو أو مَن كان من أهل بيته إمام حقّ مكرّس من عند ربّه ، وإنْ تواقحَ وقالها غيرهم كذّبهُ الله وملائكته وسائر خلقه ، وهي كلمة لو وَعاها المسلم لرأى فيها رسالةً منه سلام الله عليه لكافّة المسلمين ، تُضارع قولة حسامه يوم الطّف حيث ضربَ الباطل بسيف الحقّ ، فأبقى على كلمة لا إله إلاّ الله.. إلى يوم القيامة ! فليتأمّل بعين عقله وصافي فكره ( وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) (11) .
وعن حسّان بن سدير أنّ أبا جعفر الباقر ( عليه السلام ) قال :
( إنّ لله عِلماً عامّاً وعِلماً خاصّاً ، فأمّا الخاصّ فالذي لم يطّلع عليه مَلك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وأمّا عِلمه العامّ الذي اطّلعت عليه الملائكة المقرّبون والأنبياء المرسلون ، قد رُفعَ ذلك كلّه إلينا ) (12) .
وروي بمعناه ـ وقريب منه ـ عن أكثر الأئمة ( عليهم السلام ) .
وحدّثَ سماعة أنّ أبا عبد الله ( عليه السلام ) قال :
( إنّ لله عِلماً علّمه ملائكته وأنبياءه ورسُله فنحن نعلمه ، ولم يطّلع عليه أحد من خلْق الله ) (13) .
فدعْ عِلم الساعة ـ الذي هو لله عزّ وعلا ـ تجد عندهم عِلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ؛ منحةً من الكريم الوهّاب الذي اختارهم كفاءَ وظيفتهم الإلهيّة .
وقد روى جابر أنّ أبا عبد الله ( عليه السلام ) قال :
( لمّا نَزلت هذه الآية : ( يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ) (14) قال المسلمون : يا رسول الله ، ألستَ إمام النّاس كلّهم أجمعين ؟!
فقال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : إلى النّاس أجمعين ، ولكن سيكون بعدي أئمّة على النّاس من الله ، من أهل بيتي ، يقومون في النّاس فيُكذَّبون ويظلمهم أئمّة الكفر والضلال وأشياعهم ، ألا ومَن والاهم واتّبعهم وصدّقهم فهو منّي ، ومعي وسيلقاني ، ألا ومَن ظَلمهم ، وأعانَ على ظلمهم وكذّبهم ، فليس منّي ، ولا معي ، وأنا منه بريء ) (15) .
ومَن تبرّأ منه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فسيُحشر يوم القيامة مع أئمّة الكفر والنّفاق ( وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ) (16) .
وقد قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : ( إنّا أهل البيت ، أهل بيت الرّحمة ، وشجرة النبوّة ، وموضع الرّسالة ومختلف الملائكة ، ومَعدن العلم ) (17) .
ورويَ مثله عن الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مبتدأً بقوله : ( ما تنقمُ الناس منّا..؟ ) (18) ، وكذلك رويَ عن ابنه الباقر وحفيده الصادق ، فابن حفيده الكاظم ( عليهم السلام ) جميعاً بلفظه (19) .
و ( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) (20) على الله سبحانه ، ولا يجوز لمؤمن بدعوته أن يتّخذه ظهريّاً ؛ إذ لم يقله من عند نفسه ، ولا نطقَ به إلاّ عن وحي نزلَ من ربّه فيه وفي أهل بيته ، الّذين ـ للأسف ـ لاقوا من ظلم المسلمين ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى !
فبأيّ آلائهم ـ يا ربّ ـ كانوا هكذا مجفوّين من قِبل المسلمين ؟!.. أليسوا هم ذريّة رسول الإسلام التي لازمت الحقّ وبقيت مع دعوة الرسول في أحلك ظروفها ؟!. يتخايل لي أنّ سبب جفوة النّاس لهم كانت بدافع حبّ الدّنيا ، والتهرّب من مسؤولية القيام بأوامر الله تعالى ونواهيه قياماً حقّاً ،.. إلى جانب حسدهم على المرتبة التي رتّبهم الله سبحانه فيها .
وحقيقة ماذا ينقم الناس منهم حتى فارقوهم ونسوا وصيّة جدّهم التي نزلت من عند الله تبارك وتعالى القائل له : يا محمد ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (21) ، فهل أخذوا عليهم حُكماً بدّلوه فلم يوادّوهم ، أم حدّاً عطّلوه فقتلوهم ، أم فريةً اجترحوها فنابذوهم وانتبذوا منهم ، وفارقوهم ؟!
لم ينجُ أحد من الصّحابة والتابعين ـ أنصاراً ومهاجرين ـ من مهمز أو ملمز ـ إلاّ مَن عصمَ الله ـ سواهم ، ولا عفّت الألسن عن ذكر أحد بالسوء إلاّ إذا دارَ عليها ذكرهم ؛ لأنّهم مبرّأون من كلّ عيب ومنزّهون عن أيّ ريب ، لم يجاوزوا الكتاب ولا حادوا عن السنّة ، بل كانوا عِدلهما كلَيهما ،.. قد أذهبَ الله تعالى عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً بنصّ القرآن الكريم..
قال عليّ بن عبد الله : ( سأل الإمام الصادق رجل عن قوله : ( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) (22) .
قال : ( مَن قال بالأئمة وتَبعَ أمرهم ، ولم يجُز طاعتهم ) (23) .
أمّا مَن ردّ هذا القول ، فهو حُرّ في أن يختار لنفسه ويتحمّل وِزر ردّه ( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ) (24) والإيمان لا يتمّ إلاّ بموادّتهم ؛ لأنّهم حَمَلة القرآن وتراجمته ، وحَفَظة سنّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ونَقلتها ، لم يَفُتهم حُكم إلهيّ يتناول أيّ شأن من الشؤون ، ولا خفيَ عليهم شيء من أمور النّاس ، ولا كانت تغيب عنهم خاطرة تمرّ في نفوس جلسائهم ؛ فإنّ عدّة من أصحاب الإمام الصادق ( عليه السلام ) فيهم عبد الأعلى ، وعبيد بن عبد الله بن بشر الخثعمي ، وعبد الله بن بشر ، سمعوه يقول :
( إنّي لأعلم ما في السماوات ، وأعلم ما في الأرض ، وأعلم ما في الجنّة ، وأعلم ما في النّار ، وأعلم ما كان وما يكون .
ثمّ مكثَ هنيئة فرأى أنّ ذلك كبُر على مَن سمعه فقال : عَلمتُ من كتاب الله أنّ الله يقول : فيه تبيان لكلّ شيء ) (25) .
وهذا ممّا لم يقله أحد غير الإمام الصادق وآبائه وأبنائه ( عليهم السلام ) ؛ لأنّه لا يتجرّأ على قوله مَن تُكذّبه شواهد الامتحان ،.. فإنّهم ـ بعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ـ أوتوا العلم ـ كلّ العلم ـ وبأيديهم مواريث الأنبياء من لدُن آدم حتى خاتم النبيّين صلوات الله عليهم أجمعين .
فاستمِع إلى ما حدّث به إبراهيم بن مهزم الذي قال : ( خرجتُ من عند أبي عبد الله ( عليه السلام ) ليلةً مُمسياً ، فأتيت منزلي في المدينة وكانت أمّي معي ، فوقعَ بيني وبينها كلام فأغلظتُ لها ،.. فلمّا كان من الغد صلّيت الغداة وأتيتُ أبا عبد الله ( عليه السلام ) .
فلما دخلتُ عليه قال : ( ما لكَ ولخالدة أغلظتَ في كلامها البارحة ؟ أمَا عَلمتَ أنّ بطنها منزل قد سكنتَهُ ، وأنّ حِجرها مهد قد غمزته ، وثديها وعاء قد شَربتهُ ؟
قلت : بلى .
قال : فلا تغلظ لها ) (26) .
فالأئمّة ( عليهم السلام ) لا تخفى عليهم أفعال شيعتهم ولا أفعال غيرهم ، بل يطّلعون على أعمال الناس وأحوالهم تباعاً ، ويعلمون ما يضمرونه بعلم لدُنيّ اختصّهم الله تبارك وتعالى به ؛ لأنّهم أمناؤه وحججه في ملكوته الأعظم ، والدولة لا تكتم عن أمينها شيئاً من معلوماتها ودساتيرها وأنظمتها ،.. وقد روى أبو بصير أنّ أبا عبد الله ( عليه السلام ) قال له :
( يا أبا بصير ، إنّا أهل بيت أوتينا عِلم المنايا والبلايا والأنساب ، والله لو أنّ رجلاً منّا قامَ على جسرٍ ثمّ عُرضت عليه هذه الأمّة ، لحدّثكم بأسمائهم وأنسابهم ) (27) .
فلا ينبغي أن نحور وندور ؛ لئلاّ نمسك بحبال الشيطان فيضلّنا عن حقيقة أهل بيت نبيّنا صلوات الله عليه وعليهم ، فإنّ الله سبحانه حين وهَبهم مِننه الجزيلة لم يستشر أحداً منّا لنكون شركاء له في العطاء والمنع ،.. ولا تَعجب من علمهم العامّ ، ولا بمعرفتهم بما في النفوس ، فإنّ المرآة العادّية تُري الإنسان العاديّ صورته الطبيعية بملامحها الظاهرة وألوانها وظلالها الحقيقيّة ، ولا تنقص ولا تزيد في الصورة شيئاً ، ولكنّها لا تكشف عمّا وراء الصورة الظاهرة ، ولا تُطلعه على ما في داخلها ولا تفضح سرّاً مكتوماً ، ولا تُبيّن ما خَبأ في الصّدر .
أمّا المرآة السرّية التي مَنحها الله تعالى للأئمّة ( عليهم السلام ) ـ وهي عمود النّور أقلاًّ ، أو عيونهم التي تخترق الكثافات(28) ـ فإنّها تكشف لهم عن ضمائرنا وعمّا وراء صُورنا الظاهرة ، وتفضح الأسرار ولا تُبقي مكنوناً ولا مكتوماً ولا خافياً ،.. فهي تفوق أشعة الليزر وتفوق الكهرباء والإلكترون ؛ لأنّها مرآة ترتسم عليها الصورة وسائر ما يعتمل في النّفس ،.. وإنّ جميع تصرّفاتهم مع الناس تدلّ على ذلك بفضلٍ من الله عليهم ؛ لأنّهم أُمناؤه وأهل طاعته وحاملو دعوته .
قال سيف التمّار : ( كنّا مع أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، جماعةً من الشيعة في الحجر فقال : ( هل علينا عَين ؟ ـ أي هل يراقبنا أحد ؟ ـ .
فالتفتنا يمنةً ويسرةً فلم نرَ أحداً ، فقلنا : ليس علينا عَين .
فقال : وربّ الكعبة ، وربّ البيت ـ ثلاث مرّات ـ لو كنتُ بين موسى والخضر لأخبرتهما أنّي أعلم منهما ولأنبَأتهما بما ليس في أيديهما ؛ لأنّ موسى والخضر أُعطيا عِلم ما كان ولم يُعطيا عِلم ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فورثناهُ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وراثة ) (29) .
ويمين الإمام الصادق ( عليه السلام ) بربّ الكعبة وربّ البيت ـ ثلاث مرّات ـ لها وزنها في عالَم الاعتبار والتقدير ؛ فإنّه لا يتجرّأ على مثل قوله هذا أحد ، كائناً مَن كان من العلماء والفقهاء وأهل الملّة ، بل إنْ أحدٌ قاله كذّبهُ جَليسه ، وفَضحهُ حديثه .
وقال الحسن بن الجهم : ( حضرتُ مجلس المأمون يوماً وعنده عليّ بن موسى الرّضا ( عليه السلام ) ، وقد اجتمعَ الفقهاء وأهل الكلام من الفِرق المختلفة ، فسأله بعضهم فقال له : يا بن رسول الله ، بأيّ شيء تصحّ الإمامة لمدّعيها ؟
قال : ( بالنّص والدليل .
قال له : دلالة الإمام فيمَ هي ؟
قال : في العِلم ، واستجابة الدعوة .
قال : فما وجه إخباركم بما يكون ؟
قال : ذلك بعهدٍ معهود إلينا من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
قال : فما وجه إخباركم بما في قلوب الناس ؟
قال ( عليه السلام ) : أمَا بلغكَ قول الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) : اتّقوا فَرَاسة المؤمن ؛ فإنّه ينظر بنور الله ؟!
قال : بلى .
قال : وما من مؤمن إلاّ وله فَراسة ، ينظر بنور الله على قدر إيمانه ومبلغ استبصاره وعلمه ، وقد جمعَ الله في الأئمّة منّا ما فرّقه في جميع المؤمنين ) ) (30) .
فإنّه لو تسنّى لكائن مَن كان أن تجتمع فيه فَراسة جميع المؤمنين ؛ لنفذَ بصرُه إلى ما وراء الآفاق فضلاً عمّا وراء شغاف القلوب ، ولشَقّ الصخر واخترقَ البحر وعَلِم ما توسوس به النفوس ، وتعتمل به الضمائر وأتى بالعجب العجاب ،.. ولبطلَ عجبه من قدرة الأئمّة ( عليهم السلام ) على معرفة ما تنعقد عليه القلوب..
هذا ، وإنّ الإمام الكاظم ( عليه السلام ) قال ـ في حديثٍ رواه عنه عليّ بن يقطين بمناسبة مُلك سليمان ( عليه السلام ) الذي لا ينبغي لأحدٍ من بعده ـ :
( قد والله أوتينا ما أوتيَ سليمان وما لم يؤتَ سليمان ، وما لم يؤتَ أحدٌ من الأنبياء ،.. قال الله عزّ وجلّ في قصّة سليمان ( عليه السلام ) : ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ، وقال عزّ وجلّ في قصّة محمّد ( صلّى الله عليه وآله ) : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) ) (31) .
فما أعطاه الله تعالى لنبيّنا محمد ( صلّى الله عليه وآله ) أفضل ممّا أعطاه لسليمان ( عليه السلام ) ؛ لأنّه سبحانه أعطى سليمان ما أعطى وفوّض الأمر إليه في بذله ومنعه ، ولكنّه لم يُفوّض إليه تعيين أمر ،.. وذاك بخلاف ما أعطى نبيّنا ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ فإنّه فوّض إليه الأمر وأمَرَ الناس باتّباعه في كلّ ما يقول ، ممّا يعني إطلاق صلاحيّة خاتم النبيّين بفضل ما اختصّه الله سبحانه به من سموّ المنزلة ، وما حَباه من العلم والفضل والحكمة ، فجعلهُ لا يتعدّى الحقّ ولا يَحيد عن الصواب في جميع أقواله الكريمة وأفعاله العظيمة .

فالأئمّة الاثنا عشر ( عليهم السلام ) أعلام الهدى في الأرض ، والعروة الوثقى ، وحُجج الله على أهل الدّنيا ، وهم يعرفون محبّهم من مبغضهم وما انعقدَ عليه قلب كلّ واحدٍ من النوايا ، بمنحةٍ ربّانيّة أقدرهم الله تعالى بها على ذلك بعفويّة تامّة ، ودون تنجيمٍ ولا حسابٍ ، ولا ضربٍ بالرّمل ، وقد روى جابر : أنّ أبا جعفر ( عليه السلام ) قال :
( إنّ الله أخذَ ميثاق شيعتنا فينا من صُلب آدم ، فنعرف بذلك حبّ المحبّ وإن أظهرَ خلاف ذلك بسبيله ـ أي استعملَ التقيّة وتظاهرَ بعدم حبّهم ـ ونعرف بُغض المبغض وإن أظهرَ حبّنا أهل البيت ) (32) .
فعِلمهم ـ بجملته وتفصيله ـ هو ميراثهم من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) كما مرّ ، وهم لا يقولون برأيهم ، ولا يتعدّون أصول ما هو عندهم من ميراث النبوّة قيد أنملة ؛ ولذلك قال أبو جعفر ( عليه السلام ) لجابر أيضاً :
( يا جابر ، لو كنّا نُحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نُحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، كما يكنز هؤلاء ذَهبهم وفضّتهم ) (33)
وقد بيّنا في كتابنا في مكان آخر أنّهم مُلهمون ، محدّثون ، مفهّمون ، ينكَت في قلوبهم ، وينقَر في أسماعهم ، ومعهم مَلَك عظيم ـ أكبر من جبرائيل ( عليه السلام ) ـ يُسدّدهم ويؤيّدهم ،.. وتوسّعنا حول ذلك كثيراً ولن نكرّر هنا بعد أن برهنّا على كونهم يعرفون جميع الناس ، ويتكلّمون بكلّ اللّغات ، ويعلمون ما ينقص في الأرض وما يزاد من حقّ أو باطل ، ويفهمون منطق الطّير والأنعام وسائر المخلوقات ، ويعرفون الناس بسيماهم فلا تخفى عليهم منهم خافية ،.. ولكنّهم ليسوا بأنبياء.. فقط .
ولا يجفلنّك هذا القول ،.. ولا تعجب ممّا هم عليه من الكرامة والمقامة العليّة والقدرة على معرفة ما غاب عن الناس ؛ فإنّهم هكذا خُلقوا من لدُن ربّهم عزّ وجلّ ، ثمّ زوّدهم بإمكاناتٍ عظيمة كالاسم الأعظم الذي تنفتح به مغالق الأمور ويتيسّر به كلّ عسير ، وقد قال عليّ بن محمد النوفلي : ( سمعت الإمام أبي الحسن الهادي ( عليه السلام ) يقول :
( اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً ، وإنّما كان عند آصف منه حرف واحد تكلّم به فانخرَقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ ، فتناولَ عرش بلقيس حتى صيّرهُ إلى سليمان ، ثمّ انبسطت الأرض في أقلّ من طرفة عين ، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً ، وحرف واحد عند الله جلّ وعزّ استأثرَ به في علم الغيب ) (34) .
فدَعْ ـ إذاً ـ أنّهم أنبياء ،.. وقل في علمهم الربّانيّ ما تشاء .
وكلامنا فيهم لا يقاس بعطاء الله تعالى القائل : ( وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ) (35) فقد نزّل عليهم من خزائن علمه ما شاء بعد أن انتجبهم أصفياء من خلقه ، ثمّ لم يحجب عنهم إلاّ علم الساعة ـ فقط ـ ، وعلّمهم ما دون ذلك جميعاً وأقدرهم على معاجز الأنبياء السابقين كلّها ، حتى شفاء المرضى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى بإذنه سبحانه وتعالى عطاءً منه غير مجذوذ ؛ ليكونوا ذوي لياقة لخلافته في أرضه وسفارته عن سمائه ،.. فقد قال أبو حمزة الثمالي رضوان الله عليه : ( قلت لعليّ بن الحسين ( عليه السلام ) : الأئمّة يُحيون الموتى ويبرئون الأكمه والأبرص ، ويمشون على الماء ؟
قال : ( ما أعطى الله نبيّاً شيئاً قط ، إلاّ وقد أعطاه محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأعطاه ما لم يكن عندهم .
قلت : وما كان عند رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فقد أعطاه أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ؟
قال : نعم ، ثمّ الحسن والحسين ( عليه السلام ) من بعد كلّ إمام إماماً إلى يوم القيامة ، مع الزيادة التي تحدث في كلّ سنة ، وفي كلّ شهرٍ.. ثمّ قال : إي والله ، في كلّ ساعة ) (36) .
وليس في هذا الأمر غرابة ؛.. فإنّ عَظمة السفير من عَظمة دولته ، والسفارة عن السماء لابدّ أن تكون على غير ما يألفه الأرضيّون .
قال أحمد بن علي : ( دعانا عيسى بن أحمد القمّي لي ولأبي وكان أهوج ـ أي طويلاً في حمقٍ وطيشٍ وتسرّعٍ ـ فقال لنا : أدخَلَني ابن عمّي أحمد بن إسحاق ، على أبي الحسن ( عليه السلام ) فرأيتهُ ، وكلّمه بكلامٍ لم أفهمه ، ثمّ قال له :
جَعلني الله فداك ، هذا ابن عمّي عيسى بن أحمد ، وبه بياض في ذراعه وشيء قد تكتّل كأمثال الجوز .
قال : فقال لي : ( تَقدّم يا عيسى .
فتقدّمتُ ، فقال لي : أخرِج ذراعك .
فأخرجتُ ذراعي ، فمسحَ عليه وتكلّم بكلام خفيّ طوّلَ فيه ، ثمّ قال : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، ثمّ التفت إلى أحمد بن إسحاق وقال : يا أحمد بن إسحاق ، كان عليّ بن موسى يقول : بسم الله الرّحمن الرّحيم أقرب من الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها .
ثمّ قال : يا عيسى .
قلت : لبّيك .
قال : أدخِل يدك في كُمّك ، ثمّ أخرِجها ) .
فأدخَلها ، ثمّ أخرَجها وليس في يده قليل ولا كثير ) (37) .
أجل ، هكذا كان ،.. ولا يكون ذلك كذلك إلاّ بإذن الله تبارك وتعالى ، وعلى يد وليّه الذي أقدره بمشيئته على مثل هذه الآية الإلهية ، التي لا سحرَ فيها ولا شعوذة..
وفي عيون المعجزات ، عن أبي جعفر بن جرير الطبري ، عن عبد الله بن محمد البلويّ ، عن هاشم بن زيد ، قال :
رأيت عليّ بن محمد ، صاحب العسكر ـ أي إمامنا الهادي ( عليه السلام ) ـ وقد أُتيَ بأكمَه فأبرأهُ ، ورأيتهُ يُهيئ من الطّين كهيئة الطّير ، وينفخ فيه فيطير !
فقلت له : لا فرق بينك وبين عيسى ( عليه السلام ) ؟!
فقال : ( أنا منه ، وهو منّي ) (38) .
نعم ، إنّهما من طينةٍ واحدةٍ ،.. وما قدرا عليه من ابتداع العجائب غير المألوفة هو من الله تعالى وبإذنه ،.. وقد تخرّجا من الجامعة الإلهيّة كلاهما ؛ إذ قال سبحانه : ( إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (38) وجَعل سبحانه هذه الذّرية من البشر ، ولكنّه جَبلها من طينةٍ أعلى من طينة النّاس ، ورصدها لأمره ودعوته ، وأفاضَ عليها من قدرته ما يمكّنها من الإتيان بالآيات الدالّة على شأنها وشأوها الرفيع ،.. وفي الخبر القدسيّ أنّ الله تعالى قال : ( يا عبدي ، أطِعني تكُن مَثلي ، تقول للشّيء : كن فيكون..) فأين البشر العاديّون عن مثل تلك العبوديّة الحقّة التي تخوّلهم احتلال مثل هذه المرتبة السامية ؟!
ولكن لكَ أن تسأل : هل كان الإمام ( عليه السلام ) جالساً على قارعة الطريق يتسلّى بجِبلّ الطّين وجعله طيراً ؛ ليصفّق له الحاضرون ؟ أم وقفَ وسط حَلقة المتفرّجين يريهم براعته ومواهب الله تعالى له ؛ ليعترف بفضله المتفرّجون ؟!
لا ، لا هذا ولا ذاك ،.. وعلينا أن نبيّن لك أنّ الإمام ( عليه السلام ) لا يأتي بمثل هذه المعجزة إلاّ بمناسبة يكون قد تحدّاه فيها كفر كافرٍ ، ومروق مارقٍ ، أو تحدّي قدرة الله تعالى ، وأنكرَ أن يكون قد مكّن واحداً من البشر أن يأتي بمثلها من جهة ، وأنّ هذه الآية لابدّ أنّها طَلَبت منه هي بذاتها من أحد المعاندين الّذين يعترضون على مشيئة الله سبحانه ، ويبارزون قدرته من جهةٍ ثانية ، وأنّ الإمام لا يستجيب لذلك إذا لم يكن من مبرّرٍ له ، بحيث يستفيد من صدور هذا العمل المعجز بعض النّاس أو كثير من الناس من جهة أخيرة ،.. وسامحَ الله الراوي الذي لم يذكر تلك المناسبة حين أوردَ هذه الآية التي لم يقم بها إلاّ المسيح ( عليه السلام ) من قبل ؛ ليصفع الكفر والنّفاق والمروق .
وإليك أختها فيما رواه أبو التّحف المصريّ ، يرفع الحديث برجاله إلى محمد بن سنان الرامزيّ أعلى الله مقامه ، إذ يقول :
( كان أبو الحسن عليّ بن محمد ( عليه السلام ) حاجّاً ، ولمّا كان في انصرافه إلى المدينة وجدَ رجلاً خراسانياً واقفاً على حمارٍ له ميّتٍ يبكي ويقول : على ماذا أحمل رَحلي ؟!.
فاجتاز ( عليه السلام ) به فقيل له : هذا الرّجل الخراسانيّ ممّن يتولاّكم أهل البيت .
فدنا من الحمار الميّت فقال : ( لم تكن بقرة بني إسرائيل بأكرم على الله تعالى منيّ ، وقد ضربَ ببعضها الميّت فعاشَ ، ثمّ وكَزهُ برِجله اليمنى وقال : قم بإذن الله ) .
فتحرّك الحمار ، ثمّ قام ! ووضعَ الخراسانيّ رَحله عليه وأتى به المدينة .
وكلّما مرّ الإمام ( عليه السلام ) ، أشاروا إليه بإصبعهم وقالوا : هذا الّذي أحيا حمار الخراساني ) (40) .
وفي هذه المرّة لم يتحدَّ الإمام أحد ، فما باله يأتي بهذه المعجزة المدهشة..
إنّه أتى بها ليتحدّى ـ هو هذه المرة ـ أفواج الحجيج ذي الضجيج الذي لا يسمع الله تعالى له تلبيةً ولا دعاءً ، ضالّ عن حجّته في أرضه ، ومنصرفٍ مع أهوائه وشهواته ،.. فلفتَ بها الأنظار ،.. وامتدّت إليه الأصابع تشير إلى محيي الميّت بإذن الله تعالى ،.. وحرّكَ بها الأفكار والقلوب ليتفكّر مَن كان يلقي السمع وهو شهيد ،.. وتناقَلها الناس فطارت إلى كلّ صقع في أقاصي المعمور .
وقد سبقهُ إلى مثلها جدّ أبيه الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ، كما في رواية عليّ بن المغيرة الذي قال :
( مرّ العبد الصالح بامرأة بمِنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون ، وقد ماتت بقرة لها .
فدنا منها ثمّ قال لها : ( ما يُبكيك يا أمَة الله ؟
قالت : يا عبد الله ، إنّ لي صبياناً أيتاماً ، وكانت لي بقرة ، معيشتي ومعيشة صبياني كانت منها ، فقد ماتت ، وبقيتُ منقطعاً بي وبوِلْدي ولا حيلة لنا .
فقال : يا أمَة الله ، هل لكِ أن أُحييها لك ) ؟!
قالت : فأُلهمتُ أن قلتُ : نعم ، يا عبد الله .
قالت : فتنحّى ناحية فصلّى ركعتين ، ثمّ رفع يديه هُنَيئة وحرّك شفتيه ، ثمّ قام فَمرّ بالبقرة فنخسها نخساً أو ضربها برجْله ، فاستوت على الأرض قائمة .
فلمّا نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت ، صاحت : عيسى بن مريم وربّ الكعبة !
قال : فخالطَ الناس وصار بينهم ، ومضى بينهم صلّى الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ) (41) .
وهذه كتلك ، وكسابقتها ،.. ولا نقول أمام هذه الظواهر العجيبة إلاّ ما قاله الله تبارك وتعالى : ( كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (43) ، ولا يغلبك إلاّ مَن يقول : إنّ الله أعطاني..
وفي ثاقب المناقب روي عن محمد بن حمدان ، عن إبراهيم بن بلطون ، عن أبيه ، قال :
( كنتُ أحجب للمتوكل فأُهدي له خمسون غلاماً ، وأمَرَني أن أتسلّمهم وأحسن إليهم ، فلمّا تمّت سنة كاملة كنتُ واقفاً بين يديه إذ دخلَ عليه أبو الحسن ، عليّ بن محمد النقيّ ( عليه السلام ) فأخذَ مجلسه ، وأمَرَني أن أُخرِج الغلمان من بيوتهم ، فأخرَجتهم .
فلمّا بصروا بأبي الحسن سجدوا له بأجمعهم ، فلم يتمالك المتوكل أن قام يجرّ ذيله حتى توارى خلف السّتر.. ثمّ نهض ( عليه السلام ) .
فلمّا عَلم المتوكل بذلك خرجَ فقال : ويلك يا بلطون ، ما هذا الذي فعلَ هؤلاء الغلمان ؟!
فقلت : والله ، ما أدري .
قال : سلْهم .
فسألتهم عمّا فعلوه ، فقالوا : هذا رجل يأتينا كلّ سنة فيعرض علينا الدّين ويقيم عندنا عشرة أيام ، وهو وصيّ نبيّ المسلمين.
فأمرَ بذبحهم عن آخرهم !
فلمّا صار وقت العتمة صرتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) ، فإذا خادم على الباب .
فنظر إليّ ، فقال لمّا بصَر بي : ادخُل .
فدخلت ، فإذا هو جالس ، فقال : ( يا بلطون ، ما صنعَ القوم ؟
فقلت : يا بن رسول الله ذُبحوا عن آخرهم !
فقال : كلّهم !!
فقلت : نعم ، إي والله !
فقال ( عليه السلام ) : أتحبّ أن تراهم ؟! )
قلت : نعم ، يا بن رسول الله .
فأومأ بيده أن ادخُل السّتر ، فدخلتُ فإذا أنا بالقوم قعود وبين أيديهم فاكهة يأكلون ) (43) .
أمّا كيف كان ذلك ؟! فلن نتفلسف في تحليله ، وأقلّ ما يقال إنّهم لم يُذبحوا ؛ لأنّ الإمام ( عليه السلام ) عَلم ما في نفس المتوكل فدعا الله أن ينجّيهم من شرّه ، فقيّض سبحانه حاجباً شيعيّاً متستّراً أُمِر بذبحهم ، فخرجَ بهم ليفعل ما أُمِر به ، ولكنّه هرّبهم تحت جُنح الظلام ، وأخبرَ المتوكل أنّه ذَبحهم جميعاً وأخفى جثثهم .
وكلّ ما في الأمر : أنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام )  هكذا كانوا ،.. وهكذا هم بفضل ربّهم عليهم ، وسترى آياتٍ ومعجزاتٍ في مختلف فصول هذا الكتاب أتى بها إمامنا ( عليه السلام ) تكشف عن سرّهم الإلهيّ ، فلا ينبغي لنا أن نَضيع مع أهوائنا المضلّة ، وأن نزِنهم بموازين عقولنا المطفّفة ونركب جناحي النعّامة في سبيل تجريدهم من مواهب الله عزّ وعلا .
ولن أختم كلامي في هذه الإلمامة الوجيزة قبل أن أُطلع قارئي الكريم على كيفيّة خلق الأئمّة ( عليهم السلام ) ؛ ليعلم أنّهم منتجبون من لدُن خالقهم عزّت قدرته ، وأنّهم بشر من غير طينة البشر ،.. فعن محمد بن مروان ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) قال :
سمعتهُ يقول : ( إنّ الله خَلقنا من نور عظمته ، ثمّ صوّر خَلقنا من طينة مخزونةٍ مكنونةٍ من تحت العرش ، فأسكنَ ذلك النّور فيه ، فكنّا نحن خلقاً وبشراً نورانيّين لم يجعل لأحدٍ في مثل الذي خلقنا منه نصيباً ، وخَلق أرواح شيعتنا من طينتنا ، وأبدانهم من طينةٍ مخزونةٍ أسفل من تلك الطينة ، ولم يجعل لأحد في مثل الذي خَلقهم منه نصيباً إلاّ الأنبياء ) (44) .
وعنه ( عليه السلام ) أيضاً في حديث آخر :
(.. إنّ الله خلقنا من عِليّين ، وخلقَ أرواحنا من فوق ذلك ، وخلقَ أرواح شيعتنا من عِليّين ، وخلقَ أجسادهم من دون ذلك ، فمن أجل ذلك القرابة بيننا وبينهم ، وقلوبهم تحنّ إلينا ) (45) .
فأنا أعرضُ حقيقة أمرهم على الناس ، ومَن صعّر خدّه ومشى ثاني عِطفه ، فلا سبيل لي عليه ؛ لأنّ الخالق تبارك وتعالى ترك لنا سبيل الاختيار لأنفسنا .
تعريفٌ بأحد سادة العارفين
ولِدَ البدر الزاهر ، الإمام العاشر ، ذو العزّ الباذخ والمجد الشامخ ، أبو الحسن عليّ الهادي ، بن الإمام محمد الجواد ( عليه السلام ) ، بِصَرْيا من ضاحية مدينة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، للنّصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومئتين للهجرة النبوّية الشريفة ـ في عهد المأمون ـ ، وتوفّي في سرّ مَن رأى ـ سامرّاء ـ بالعراق ، يوم الاثنين في الثالث من رجب ، سنة أربع وخمسين ومئتين في عهد المعتزّ ابن المتوكل .
وقيل : إنه توفّي في عهد أبيه خطأً ، ولكنّ المتوكل هو الذي أشخصهُ من المدينة إلى سامرّاء تحت حراسة يحيى بن هرثمة بن أعين ، فأقامَ فيها حتى مضى لسبيله مسموماً ، ودُفن في داره ، وكان له يومئذ إحدى وأربعين سنةً وستة أشهرٍ واثنا عشر يوماً (46) .
(46) وقيل : إنّه ولِدَ في ثاني رجب أو خامسة في تلك السنة ، كما قيل : إنّه ولِد سنة أربع عشرة ومئتين خطأ ، ولكنّنا اعتمدنا أصدق الأقوال ؛ مستأنسين بصحة الرّواية من جهة ، وبمواكبة الأحداث والوقائع التاريخية الصحيحة من جهةٍ ثانية .
ويعارض ذلك ما رواه ابن عيّاش الذي قال : خرجَ إلى أهلي على يد الشيخ الكبير أبي القاسم ـ بن روح ـ نائب الإمام الحجة عجّل الله تعالى فرجه هذا الدّعاء : اللّهمّ إنّي أسألك بالمولودَين في رجب : محمّد بن عليّ الثّاني ، وابنه عليّ بن محمّد المنتجب.. إلخ..
وانظر : الأنوار البهية : ص 244 - 245 ، وص 270 ، والإرشاد : ص 307 - 308 وص 314 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 401 ، وفي كشف الغمّة : ج 3 ص 164 وص 165 ذكرَ أنّه توفي في جمادى الآخرة ، فيكون عمره أربعين سنة غير أيّام ، وانظر الصفحات : 166 و 184 و 188 ، وكذلك في الكافي : م1 ص 497 - 498 ، والصواعق المحرقة : ص 207 ، وإعلام الورى : ص 339 ، وتذكرة الخواص : ص 373 و ص 375 ، وبحار الأنوار : ج 50 من ص 114 إلى ص 117 ، وفي الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 339 ذكر سنة وفاته ( عليه السلام ) وولادته ، وانظر تاريخ الأُمم والملوك : ج7 ص 519 ، وينابيع المودّة : ج2 ص 463 .
وكانت مدة إمامته ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشهراً ؛ لأنّ أباه سلام الله عليه مضى سنة مئتين وعشرين للهجرة الكريمة ، فيكون قد أقامَ في حياته ثماني سنوات وأشهراً ، ثمّ تولّى الأمر غلاماً كأبيه ( عليه السلام ) ، وأدّاه قسطه من الحيطة بقيّة عمره الشريف ، الذي قضى منه في سرّ مَن رأى عشرين سنةً كان فيها مكرّماً من السّلطة في ظاهر حاله ، ومهاباً من الجميع في واقع الأمر ، وإن كان المتوكل ـ خاصة ـ قد اجتهدَ في إيقاع حيلةٍ به ليقتله ، فلم يتمكّن من إيجاد مغمز يخوّله الفتك به ، وستقرأ آيات بيّناتٍ له ( عليه السلام ) معه تشهد على ذلك ) (47) .
وكانت في أيام إمامته بقيّة مُلك المعتصم ، ثمّ مُلك الواثق خمس سنين وسبعة أشهر ، ومَلكَ المتوكل أربع عشرة سنة ، ثمّ مَلك ابنه المنتصر ستة أشهر ، ثمّ مَلك المستعين سنتين وتسعة أشهر ، ثمّ مَلك المعتزّ ثماني سنين وستة أشهر ، وفي آخر مُلكه استشهد هذا الوليّ الزكيّ ( عليه السلام ) (48) .
فلم يعش إمامنا سلام الله عليه عمراً طويلاً ، ولكنّه قضاه حافلاً بجلائل الأعمال والأقوال ، وبما أتى من الحقّ في مجالس أهل الباطل ، وبما كرّس من العدل في مواطن الظّلم ، وبما أرسى من الإيمان ، ورسّخ من العقيدة التي ينبغي أن يُدان الله تعالى بها ، فزادَ أتباعه زيادةً ملموسةً حتى أنّهم كان يعجّ بهم قصر الخلافة سرّاً وظاهراً ، وكانوا ينتشرون في الجيش بين قوّاده وأفراده ، مضافاً إلى كثيرين من أفراد الرعيّة والولاة كما سترى .
وقد كان ( عليه السلام ) إذا تكلّم نطقَ بالصواب ، فأسكت أهل الفأفأة من مشايخ الفقهاء وقضاة البلاط ، وأهل التّأتأة من الوزراء والأمراء وسائر الملتفّين حول معتلف السلطان ، وإذا ظهرَ للناس في الشارع أو في ردهات القصر وصالاته تقوقع المتعالون وانكفأوا على ذواتهم ، وذابَ أعداؤه ومناوئوه في لظى حقدهم وحسراتهم ، وإذا حضرَ مجالسهم أحلّوه الصّدر وانتهى إليه الأمر ، وكان فيما بينهم السيّد ( المفدّى ) بالنّفوس والأهل ، وإذا غابَ عنهم صرّوا بأنيابهم حَنَقاً وعضّوا الأنامل من الغيظ !

( وكانت صفته ـ كما جاء في الفصول المهمة ـ أسمر اللّون ، ونَقشُ خاتمه : الله ربّي وهو عصمتي من خلْقه ، وله خاتم نَقشهُ : حِفْظ العهود من أخلاق المعبود ) (49) .
وألقابه : الناصح ، والمتوكل ، والنّجيب ، والفتّاح ، والمؤتمن ، والنقيّ ، والمرتضى ، والعالم ، والفقيه ، والأمين ، والطيّب ، والعسكريّ ، وأبو الحسن الثالث ، ثمّ الهادي الذي هو أشهر ألقابه (50).. ولُقّب بالعسكريّ ؛ لأنّه لمّا أُشخِص من المدينة إلى سرّ مَن رأى وأسكنهُ الخليفة فيها وكانت تسمّى العسكر ، عُرِف بالعسكريّ ، فهو عليّ ، وكنيته أبو الحسن لا غيرها (51) .
أمّا أُمّه المعظّمة ، فأُمّ ولدٍ اسمها سمانة المغربيّة ، وتُلقّب بأُمّ الفضل ، وكانت تُدعى في زمانها بالسيّدة إطلاقاً (52) ؛ تقديراً لكرامتها وسموّ منزلتها .
قال محمد بن الفرج بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر : ( دعاني أبو جعفر الجواد ( عليه السلام ) ، فأعلَمَني أنّ قافلةً قد قدِمت فيها نخّاس معه جواري ، ودفعَ إليّ بستّين ديناراً ، وأمَرَني بابتياع جاريةٍ وَصَفها
فمضيتُ فعملتُ ما أُمرت به ، فكانت تلك الجارية أُمّ أبي الحسن ( عليه السلام ) ) (53) .
ولإمامنا شهادة كريمة بحقّ أمّه ( عليهما السلام ) ـ رواها عنه محمد بن الفرج المذكور ، وعليّ بن مهزيار ـ قالا فيها :
( أُمّي عارفة بحقيّ ، وهي من أهل الجنّة لا يقربها شيطان مارد ، ولا ينالها جبّار عنيد ، وهي مكلوءة بعين الله التي لا تنام ، ولا تختلف عن أمّهات الصّدّيقين والصالحين ) (54) .
وكلمةُ ( أمّ ولد ) فيها ما فيها عند ضعفاء النفوس الّذين يجهلون أنّ أكثر أمّهات الأولاد عريقات الأصل ، ومن كرائم الأسَر ؛ لأنّهن يتحدّرن من أشرف العائلات اللواتي يأسر الغزاة والفاتحون المنتصرون نساءهّن ويبيعونهنّ في سوق النخّاسة ، انتقاماً من أهلهنّ ؛ إذ من المعلوم أنّه لا يأسر بنات السّوقة وعامّة البشر ،.. وكم وكم بين العلماء والفقهاء والملوك والسلاطين والأمراء والعظماء والفلاسفة والكبراء ، من أمّهاتهم أمّهات أولاد إذا ما رجعنا إلى التاريخ .
هذا ، وأمّهات الأولاد أعَفّ بكثير من البنات اللّواتي رُبّينَ في القصور المليئة بالمفاسد والموبقات ، وأكثر حَدباً على راحة الأزواج ، وأشدّ حصانةً من بنات الحضر اللاّئي ينغمسن في حياة اللّهو والطّيش ونعومة العيش ،.. وقد عَقدنا فصلاً حول هذا الموضوع في كتابنا ( الإمام الجواد ( عليه السلام ) ) ، وذكرنا كثيراً من الأحاديث النبويّة الشريفة وأخبار الأئمة الحاثّة على التزوّج من الإماء ، ولن نكرّر هنا ؛ لعِلمنا بأنّ أكثر القرّاء يعرفون عظماء وعلماء وأصحاب مذاهب ولِدوا من أمّهات أولاد كُنّ مملوكات ،.. وكم وكم بين أمّهات الأولاد من كاملات ! وكم وكم بين ( سيّدات المجتمع ) المتحضّر من ساقطات !

وإمامنا الهادي ( عليه السلام ) غنيّ عن التعريف ؛ لاشتهار علمه وفضله ومآثره الفاخرة ومعاجزه الباهرة التي ظهرت لمعاصريه ، رغم أنّ السلطات الزمنيّة حاولت إطفاء نوره ، فأبى الله إلاّ إظهاره ولو كرهَ الظالمون وعَبدة السلطان المتخمون ، وكتَبَة التاريخ المزوّر المأجورون !
لقد كان على جانب كبير من العظمة التي لم تَخفَ على أهل زمانه أصحاباً وأعداءً ، وبرهنَ على أنّه فرع زكيّ من الشجرة المباركة التي خلّد ذكرها القرآن الكريم .
قال فيه أعدى أعداء الشيعة الإماميّة ، ابن حجر الهيثمي في ( صواعقه المحرقة ) : ( كان وارث أبيه عِلماً وسخاءً ) (55) .
ووصفهُ العلاّمة المجلسيّ ( قدّس الله سرّه ) في بحاره الزاخرة بقوله : ( كان أطيب الناس مهجةً ، وأصدَقهم لهجةً ، وأصلحهم من قريب ، وأكملهم من بعيد ، إذا صَمَتَ عَلَتْه هيبةُ الوقار ، وإذا تكلّم علاه سيماء البهاء ، وهو من بيت الإمامة ومقرّ الوصيّة والخلافة ، شعبة من دوحة النبوّة منتضاة مرتضاة ، وثمرة من شجرة الرّسالة مجتناة مجتباة ) (56) .
وقال فيه الشيخ المفيد رضوان الله عليه : ( وكان الإمام بعد أبي جعفر ( عليه السلام ) ابنه أبا الحسن ، عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) ؛ لاجتماع خصال الإمامة فيه ، وتكامل فضله ، وأنّه لا وارث لمقام أبيه سواه ، وثبوت النّص عليه بالإمامة ، والإشارة إليه من أبيه بالخلافة ) (57) .
وقال القطب الرواندي : ( وأمّا عليّ بن محمدٍ الهادي ( عليه السلام ) ، فقد اجتمعت فيه خصال الإمامة ، وتكامل فضله وعلمه وخصال الخير ، وكانت أخلاقه كلّها خارقةً للعادة كأخلاق آبائه ، وكان باللّيل مُقبلاً على القِبلة ـ للعبادة ـ لا يفتر ساعةً ، وعليه جبّة صوف ، وسجّادته على حصير ، ولو ذكرنا محاسن شمائله لطالَ بها الكتاب ) (58) .
فهو سلام الله عليه من دوحة العُلا في أعلاها ، ومن سدرة المنتهى في منتهاها ، وقد أجمعَ معاصروه على علمه الوافر ، وفضله الظاهر ، وحكمته البالغة ، وسكينته ووقاره ، وحِلمه وهيبته ، فأجلّوه مختارين ومرغَمين ، وانتهوا إلى حكمه في كلّ مسألة عوصاء ، وعملوا بفتواه في كلّ قضيّة عجزَ عن الإفتاء بها الفقهاء ، وكانوا كلّما اسْتَبْهمَ عليهم أمر دَعوا إليه ، صلوات الله وسلامه عليه..

ذُكر في إثبات الوصيّة : أنّ الخضر بن محمدٍ البزّار ، الشيخ المستور الثقة عند القضاة وسائر الناس ، حكى القصّة التالية قبيل إشخاص الإمام إلى سرّ مَن رأى ، فقال :
( رأيت في المنام كأنّي على شاطئ دجلة بمدينة السلام ، في رحبة الجسر ـ أي الساحة العامّة ببغداد ـ والناس مجتمعون ، خَلق كثير يزحم بعضهم بعضاً ، وهم يقولون : قد أقبلَ البيت الحرام !
فبينا نحن كذلك إذ رأيت البيت ـ الكعبة أعزّها الله ـ بما عليه من ستائر الدّيباج والقباطي ـ وهو كتّان من صنع القبط ـ قد أقبلَ مارّاً على الأرض يسير حتى عبَرَ الجسر ، من الجانب الغربيّ إلى الجانب الشرقيّ ، والناس يطوفون به وبين يديه حتى دخلَ دار خزيمة ،.. إلى أن قال :
فلمّا كان بعد أيّام خرجتُ في حاجةٍ حتى انتهيتُ إلى الجسر ، فرأيتُ الناس مجتمعين وهم يقولون : قد قدِمَ ابن الرّضا ( عليهما السلام ) من المدينة ، فرأيتهُ قد عبرَ من الجسر على شهريّ تحته كبير يسير سيراً رفيقاً ، والناس بين يديه وخلفه ، وجاء حتى دخلَ دار خزيمة بن حازم ، فعلمتُ أنّه تأويل الرّؤيا التي رأيتها ، ثمّ خرجَ إلى سرّ مَن رأى (59) .
وقد صَدقَ حُلمك ، وصدقتَ يا بن البزّاز في تأويله ، ففي الخبر المرويّ أنّ ( الرّؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءاً من النبوّة ) ، أي أنّ ما يُنبّأ به المرء في منامه ، قد يبلغ من الصّدق ـ أحياناً ـ حدّاً يشبه ما يُنبّأ به النبيّ من وحيٍ أثناء غيبوبته في شبه المنام .
وكأنّي برؤياك لم تعد الحقّ ـ عين الحقّ ـ ؛ لأنّ البيت الحرام هو بيت الله عزّ وجلّ ، والإمام هو من خير سَدَنة ذلك البيت الكريم ، فلا جرَم أن يرمز البيت الكريم إلى سادنه العظيم ، وأن يلقي الله عزّ وعلا على قلبك ،.. وأنت الشيخ الثقة ( عِلماً ) ليس من أضغاث الأحلام ، ولا من تخاليط المنام ؛ لينبّه عباده الغافلين إلى أنّ هذا الإمام العزيز على الله تعالى ، قد أشخَصهُ الحاكم الظالم إلى دار سلطنته .
فجاء في موكبه الجليل يحمل بين جنبيه أمر الله جلّ وعزّ ، كما يحمل بيته الكريم عنوان التعبّد له سبحانه بأوامره ونواهيه ، فيطاف من حول البيت الحرام امتثالاً لِما فُرض ، ويُطاف بسادن ذلك البيت انتجاعاً لِما حلّل الله تعالى وحرّم ؛ فإنّ لهذا الإمام ( عليه السلام ) آيات نتلوها في هذا الكتاب تدَع الإنسان مبهوراً ، إذ كانت لا تتوافر لأحدٍ في الخلق ـ إذا استثنينا آله ( عليهم السلام ) ـ ظهرَ أمرها منذ طفولته الرشيدة ، ودامَ حتى منتهى عمره الشريف .
فمن ظواهر العَجب في عهد صباوته : ما حدّث به الحسن بن عليّ الوشّاء الذي قال : ( حدّثتني أمّ محمد ـ مولاة أبي الحسن الرّضا بالحَير ، أي بكربلاء ـ وهي مع الحسن بن موسى ، قالت :
جاء أبو الحسن ( عليه السلام ) قد رُعب حتى جلسَ في حِجر أمّ أبيها بنت موسى فقالت له : ما لكَ ؟
فقال لها : ( مات أبي والله الساعة !
فقالت له : لا تقل هكذا .
قال : هو والله كما أقول لك ) .
قال : فكتبنا ذلك اليوم ، فجاءت وفاة أبي جعفر في ذلك اليوم ) (60) .
وكذلك حدّث هارون بن الفضل قائلاً : ( رأيتُ أبا الحسن ( عليه السلام ) في اليوم الذي توفّي فيه أبو جعفر ، فقال ( عليه السلام ) : ( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ،.. مضى أبو جعفر !
فقيل له : وكيف عرفتَ ذلك ؟!
قال : تُداخلني ذلّة لله لم أكن أعرفها ) (61) .
ثمّ روى محمد بن عياض ، عن هارون ، عن رحيل ـ وكان رضيع أبي جعفر الثاني ( عليه السلام ) ـ قال : ( بينا أبو الحسن ( عليه السلام ) جالس مع مؤدّبه إذ بكى بكاءً شديداً ، فسأله المؤدّب : مِمّ بكاؤك ؟
فلم يجبه ؟ فقال : ( ائذن لي بالدخول .
فأذِنَ له ، فارتفع الصياح من داره بالبكاء ، ثمّ خرجَ إلينا ، فسألوه عن السبب في بكائه ؟ فقال : إنّ أبا جعفر ( عليه السلام ) توفّي الساعة .
قال : قلنا له : فما عِلمك ؟!
قال : دَخلني من إجلال الله عزّ وجلّ شيء لم أكن أعرفه قبل ، فعلمتُ أنّ أبي قد مضى ) .
قال : فعرفنا ذلك اليوم والشهر ، إلى أن وردَ خَبره ، فإذا هو في ذلك الوقت بعينه ) (62) .
وفي كتابنا ( الإمام الجواد ( عليه السلام ) ) ، تكلّمنا حول هذه الذّلة لله سبحانه ، وكيف تتداخل الإمام ـ خاصةً ودون غيره ـ حين يموت أبوه ويُفضي الأمر إليه ، فيخلع الله تعالى عليه سربال ولايته ، ويلبسه جلباب اصطفائه لخلافته في أرضه ، ويلقي إليه بمرسوم اختياره حجّةً من بين خليقته ، ويهبه من علمه ما لا يهب لغيره ، فيحسّ بما لا نحسّ به من عظمة الإلوهية ، ويشعر بأنّ ( الأمر ) قد صار إليه ،.. فيتواضع تواضع العبد الذليل بين يدي الرّبّ الجليل ، ويعلم حينئذٍ أنّ أباه قد اختاره الله إلى جواره وكريم ثوابه ، فيخشع قلبه لهذا الخالق الذي أجزلَ له العطاء ، واختصّه بما يشاء من نورٍ يقذفه في قلوب الأولياء وخلفاء الأنبياء ،.. ومَن شاء فليراجع بحثنا هناك..
ونُلفت نظر القارئ إلى أنّ علم الأئمة ( عليهم السلام ) موهوب لا مكسوب ، وأنّ تكليف المؤدّب بتعليم كلّ إمام في طفولته ، كان أمراً لابدّ منه لمصلحة حفظ الإمام ( عليه السلام ) وتغطية ( أمره ) ؛ ولئلاّ تمتدّ إليه يد الغدر منذ نعومة أظفاره وقبل أن يؤدّي واجبه ،.. فالإمام علاّم من عند ربّه ، ومؤدّب بأدبه الرفيع .

أمّا أيام إمامنا مع أبيه ( عليهما السلام ) ، فلم يذكر عنها التاريخ سوى نهلات يسيرة لا تعطي الصورة الواضحة المرجوّة ،.. وقد كانت تلك الأيام قصيرةً وكان اجتماعه به أقصر ؛ لأنّ السنوات الثمان الأخيرة من عمر الأب كانت مشحونةً بالسّموم والهموم ، إذ كان الظَلَمة يطلبون رأسه في كلّ لحظة ويتآمرون على قتله مرةً بعد مرّةٍ ، وهو بعيد عن ابنه بُعد الحجاز عن العراق ، ولا يجتمعان إلاّ لماماً في موسم الحج .
فمن ذلك ما أورده أحمد بن محمد بن عيسى ، عن أبيه الذي قال : ( إنّ أبا جعفر ( عليه السلام ) لمّا أراد الخروج من المدينة إلى العراق ، أجلسَ أبا الحسن في حِجره بعد النّص عليه وقال :
( ما الّذي تُحبّ أن أهدي إليك من طرائف العراق ؟
فقال : سيفاً كأنّه شعلة نار !
ثمّ التفتَ إلى موسى ابنه وقال له : ما تحبّ أنت ؟
فقال : فرَساً .
فقال : أشبَهني أبو الحسن ، وأشبهَ هذا أمّه ) (63) .
ومَن يقعد في حِجر أبيه لا يكون شابّاً ، ولا فتىً ، ولا غلاماً ،.. بل هو صبيّ حَدَث لم يتخطّ عهد صَباوته وحداثته ،.. ولم نقف ـ عدا ذلك ـ على خلواتٍ له مع أبيه ، ولا على اجتماعات له به ، الأمر الذي يدلّ على أنّه لم يتيسّر له شرف الإقامة في وارف ظلّه ، إذ فَرّق بينهما ( أُمراء الجور ) الذين كادوا لمحمد ( صلّى الله عليه وآله ) في أهل بيته ، وسمّوا أنفسهم ( خلفاء ) له من بعده !!
أمّا نصوص أبيه على إمامته ( عليهما السلام ) فهذا بعضها :
قال إسماعيل بن مهران : لمّا أُخرِج أبو جعفر ـ الإمام محمد الجواد ( عليه السلام ) ـ من المدينة إلى بغداد في الدُفعة الأولى من خَرجَتيه قلت عند خروجه : جُعلت فداك ، إنّي أخاف عليك في هذا الوجه ، فإلى مَن الأمر بعدك ؟
فكرّ إليّ بوجهه ضاحكاً ـ أي عَطفه نحوه ـ وقال لي : ( ليس الغَيبة حيث ظننتَ في هذه السنة .
فلمّا استُدعي به إلى المعتصم صرتُ إليه فقلت له : جُعلت فداك ، أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك ؟
فبكى حتى اخضلّت لحيته ـ ابتلّت ـ ثمّ التفت إليّ فقال : عند هذه يُخاف عليّ ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ ) (64) .
فالإمام الجواد ( عليه السلام ) يعلم الخرجة التي يعود منها سالماً ، والخرجة التي يجيء فيها أمر الله تعالى وتقع مشيئته ، من عهدٍ معهود إليه عن آبائه عن جدّه النبيّ الأكرم ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ ولذلك يوصي في هذه المرة وينصّ على الوليّ من بعده .
وقال الصقر بن دلف : ( سمعت أبا جعفر ، محمد بن عليّ الرّضا ( عليه السلام ) يقول :
( إنّ الإمام من بعدي ابني عليّ ، أمرهُ أمري ، وقوله قولي ، وطاعته طاعتي ، والإمامة بعده في ابنه الحسن ) (65) .
وهذا نصّ صريح من الأب على إمامة ابنه وإمامة حفيده من بعده ( عليهم السلام ) جميعاً ،.. صرّح به حين لزم الأمر طباقاً ؛ لِما في يده من العهد الإلهيّ القدسيّ المرسوم بموجب قضاء الله سبحانه وتعالى ، الذي نشير إلى شطرٍ منه يناسب موضوعنا ، آخذين ذلك من لوح فاطمة ( عليها السلام ) أو صحيفتها .
قال أبو نضرة : ( لمّا احتضرَ أبو جعفر ، محمد بن عليّ الباقر ( عليه السلام ) ، عند الوفاة دعا بابنه الصادق ( عليه السلام ) ليعهد إليه عهداً ، فقال له أخوه زيد بن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) : لو تمثّلتَ في مثال الحسن والحسين ( عليهم السلام ) لرجوتُ أن لا تكون أتيت منكراً ، أي لو أوصى بالإمامة له ، وهو أخوه ، كما أوصى الحسن لأخيه الحسين ( عليهما السلام ) .
فقال : ( يا أبا الحسن ، إنّ الأمانات ليست بالمثال ، ولا العهود بالرّسوم ، وإنّما هي أمور سابقة عن حجج الله عزّ وجلّ .
ثمّ دعا بجابر بن عبد الله الأنصاري ـ صاحب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ـ فقال له : يا جابر ، حدّثنا بما عاينتَ من الصحيفة .
فقال جابر : نعم ، يا أبا جعفر ، دخلتُ على مولاتي فاطمة بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ لأهنّئها بولادة الحسين ( عليه السلام ) ، فإذا بيدها صحيفة بيضاء من درّة ، فقلت لها : يا سيّدة النّساء ، ما هذه الصحيفة التي أراها معكِ ؟
قالت : فيها أسماء الأئمة من وِلدي .
قلتُ لها : ناوليني لأنظر فيها .
قالت : يا جابر ، لولا النهي لكنتُ أفعل ، لكنّه قد نُهي أن يمسّها إلاّ نبيّ ، أو وصيّ نبيّ ، أو أهل بيت نبيّ ، ولكنّك مأذون لك أن تنظر إلى باطنها من ظاهرها .
قال جابر : فإذا فيها : أبو القاسم ، محمد بن عبد الله المصطفى ، أمّه آمنة ، أبو الحسن عليّ بن أبي طالب المرتضى ، أمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف ، أبو محمد الحسن بن عليّ البرّ ، أبو عبد الله الحسين بن التقيّ ، أمّهما فاطمة بنت محمد ، أبو محمدٍ عليّ بن الحسين العدل ، أمّه شهر بانويه بنت يزدجرد ، أبو جعفر  محمد بن عليّ الباقر ، أمّه أمّ عبد الله بنت الحسن بن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، أبو عبد الله جعفر بن محمدٍ الصادق ، أمّه أمّ فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر ، أبو إبراهيم موسى بن جعفر ، أمّه جارية اسمها نجمة ، أبو الحسن علي بن موسى ، أمّه جارية اسمها تكتم ، أبو جعفر محمد بن عليّ الزكيّ ، أمّه جارية اسمها خيزران ، أبو الحسن عليّ بن محمدٍ الأمين ، أمّه جارية اسمها سوسن ، أبو محمد الحسن بن عليّ الرفيق ، أمّه جارية اسمها سمانة وتُكنّى أمّ الحسن ، أبو القاسم محمد بن الحسن هو حجّة الله القائم ، أمّه جارية اسمها نرجس ، صلوات الله عليهم أجمعين ) (66) .
فهو الإمام الأمين العاشر بمقتضى هذا العهد المرسوم الربّانيّ المقدّس الذي سبق جميع النّصوص والدلالات ، ورُسِم بيد القدرة قبل أن تكون المخلوقات .
ثمّ وردَ عن محمد بن الحسن الواسطيّ ( أنّه سمعَ أحمد بن أبي خالد ، مولى أبي جعفر ( عليه السلام ) ، يحكي أنّه أشهده على هذه الوصيّة المنسوخة ـ أي المكتوبة ـ .
شَهدَ أحمد بن أبي خالد ، مولى أبي جعفر ، محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، أشهدهُ أنّه أوصى إلى عليّ ابنه ، بنفسه وإخوانه ، وجعلَ أمر موسى (67) إذا بلغَ إليه ، وجعلَ عبد الله بن المساور قائماً على تركته من الضِياع والأموال والنفقات والرقيق وغير ذلك ، إلى أن يبلغ عليّ بن محمدٍ صيّر عبد الله بن المساور ذلك إليه يقوم بأمر نفسه وإخوانه ، ويصيّر أمر موسى إليه يقوم بنفسه بعدهما ، على شرط أبيهما في صدقاته التي تصدّق بها .
وذلك يوم الأحد لثلاث ليالٍ خلونَ من ذي الحجة سنة عشرين ومئتين ،.. وكتبَ أحمد بن أبي خالد شهادته بخطّه ،.. وشهدَ الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وهو الجواني ، على مثل شهادة أحمد بن أبي خالد في صدر هذا الكتاب ، وكتبَ شهادته بيده ،.. وشهد نصر الخادم ، وكتبَ شهادته بيده ) (68) .
ولا يخفى أنّ إقامة عبد الله قد نصّبه وكيلاً على الضِياع والأموال والنفقات والرقيق ، وهو الواقع .
وأمّا أنّه قد أقامهُ وصيّاً للتقية ؛ لأنّ ابنه الإمام عليّ الهادي ( عليه السلام ) كان لا يزال صبيّاً ، والعامّة لا يعتبرون سنّه سنّ رشد شرعيّ ، جاهلين أنّ هذا الأمر لا ينسحب على مَن كان إماماً .
ثمّ لا يخفى أيضاً على مَن يقرأ هذه الوصيّة أنّها صريحة النّص للإمام ( عليه السلام ) بولايته على نفسه ، وعلى إخوانه صغاراً وكباراً .
وروى الحسين بن محمد بن عيسى الأشعري ـ الذي هو شيخ القميّين وفقيههم الذي يلقى السلطان ـ يجيء في السّحر من آخر كلّ ليلةٍ ليعرف خبر علّة قام أحمد بن محمد بن عيسى ، وخلا به أبي .
فخرجَ ذات ليلة وقام أحمد عن المجلس ، وخلا أبي بالرسول ، واستدارَ أحمد بن محمدٍ ، ووقفَ حيث يسمع الكلام .
فقال الرسول لأبي : إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول : ( إنّي ماضٍ ، والأمر صائر إلى ابني عليّ ، وله عليكم بعدي ، ما كان لي عليكم بعد أبي ) .
ثمّ مضى الرسول ، فرجعَ أحمد بن محمدٍ بن عيسى إلى موضعه وقال لأبي : ما الذي قد قال لك ؟
قال : خيراً .
قال : فإنّي قد سمعت ما قال لك ، فلِمَ تكتمه ؟ وأعادَ عليه ما سمعَ .
فقال أبي : قد حرّم الله عليك ما فعلتَ ؛ لأنّ الله تعالى يقول : ( وَلاَ تَجَسَّسُوا ) (69) ، فأمّا إذا سمعتَ فاحفظ هذه الشهادة لعلّنا نحتاج إليها يوماً ،.. وإيّاك أن تظهرها لأحدٍ إلى وقتها .
فلمّا أصبحَ أبي كتبَ نسخة الرسالة في عشر رقاعٍ بلفظها ، وختمها ودفعها إلى عشرةٍ من وجوه العصابة ـ أي الأصحاب ـ وقال لهم : إنْ حَدثَ بي حدث الموت قبل أن أُطالبكم بها ، فافتحوها واعمَلوا بما فيها .
قال : فلمّا مضى أبو جعفر ( عليه السلام ) ، لبثَ أبي في منزله فلم يخرج حتى قطع على يديه نحو من أربعمئة إنسان ، أي اعترفوا بإمامة الهادي الفتى ( عليه السلام ) واقتنعوا بنصّ أبيه عليه .
واجتمعَ رؤساء الإماميّة عند محمد بن الفرج الرّخجيّ ـ الثقة الذي هو من أصحاب الرّضا ، والجواد ، والهادي ( عليهم السلام ) ـ اجتمعوا يفاوضون في القائم بعد أبي جعفر ويخوضون في ذلك ، فكتبَ محمد بن الفرج إلى أبي يُعلِمه باجتماع القوم عنده ، وأنّه لولا مخافة الشّهرة لصارَ معهم إليه ، وسألهُ أن يأتيه .
فركبَ أبي وصار إليه ، فوجدَ القوم مجتمعين عنده ، فتجاروا في الباب ـ أي تناقشوا في الأمر ـ فوجدَ أبي أنّ أكثرهم قد شكّوا ، فقال لأبي : ما تقول في هذا الأمر ؟
فقال أبي لِمن عنده الرّقاع : أحضِروا الرّقاع ، فأحضروها ، وفضّها وقال : هذا ما أُمرتُ به .
فقال بعض القوم : قد كنّا نحبّ أن يكون معك في هذا الأمر شاهد آخر ليتأكّد هذا القول .
فقال لهم أبي : قد آتاكم الله ما تحبّون ، هذا أبو جعفر الأشعريّ يشهد لي بسماع هذه الرسالة .
وسألهُ أن يشهد بما عنده ، فتوقّف أبو جعفر ، وأنكرَ أن يكون قد سمعَ من هذا شيئاً .
فدعاه أبي إلى المباهلة ، وخوّفه الله !
فلمّا حقّق عليه القول ، قال : قد سمعتُ ذلك ، ولكنّني كنت أحبّ أن تكون هذه المكرمة لرجلٍ من العرب ، لا لرجل من العجم ؛ ذلك أنّ الخيراني من الأعاجم ، وكان الأشعريّ يحب أن يقوم عربيّ بما قامَ به الخيراني من كونه المؤتمَن والواسطة بين الإمام ( عليه السلام ) وبين أصحابه .
فلم يبرح القوم حتى اعترفوا بإمامة أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وزال عنهم الرّيب في ذلك ، وقالوا بالحقّ جميعاً ) (70) .
هذا ، ومن رواة النّص على إمامته ( عليه السلام ) أيضاً إسماعيل بن مهران ؛ والدليل عليها : إجماع الإماميّة على ذلك ، وطريق النّصوص ، والعصمة ، إلى جانب الطريفين المختلفين من الخاصّة والعامّة ـ الشيعة والسنّة ـ من نصّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) على إمامة الاثني عشر ، الذي حَفلت به بطون الكتب المعتبرة عند سائر الفِرق الإسلامية ،.. وطريق الشيعة ـ خاصّةً ـ هو النّصوص على إمامته عن آبائه ( عليهم السلام ) واحداً بعد واحد (71) .

وقال شاهويه بن عبد الله بن سليمان الخلاّل :
( كنتُ رويت عن أبي الحسن ـ عليّ ـ الرّضا ( عليه السلام ) في أبي جعفر روايات تدلّ عليه .
فلمّا مضى أبو جعفر ( عليه السلام ) قلقت لذلك وبقيتُ متحيّراً لا أتقدّم ولا أتأخّر.. وخفتُ وكتبت إليه ـ أي إلى الهادي ( عليه السلام ) ـ في ذلك ولا أدري ما يكون ،.. وكتبتُ إليه أسأله الدّعاء أن يفرّج الله عنّا في أسباب من قِبل السلطان كنّا نغتمّ بها من غلماننا ـ أي من وكلاء الخليفة وجلاوزته ـ .
فرجعَ الجواب بالدعاء ، وكتبَ في آخر الكتاب : ( كنتَ أردتَ أن تسأل عن الخلَف بعد ما مضى أبو جعفر ( عليه السلام )  ، وقلقتَ لذلك ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ) (72) يُقدّم الله ما يشاء ويؤخّر.. ( مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ) (73).. كتبتُ بما فيه بيان وإقناع لذي عقل يقظان ) (74) .
وروي عن أبي عليّ بن راشدٍ رضوان الله عليه قوله :
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( إنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، وأنا والله ذلك الحجّة ) (75) .

أمّا ما كان في شأن تمرّض الإمام ( عليه السلام ) ووفاته ـ بالسمّ الذي ديفَ له في طعام أعدائه ، أو شرابهم على يد المعتزّ العباسيّ وقضاة قصره والمشيرين عليه ـ فسنتناوله بالصورة الخاطفة التالية ؛ لأنّ التاريخ خرسَ عن النّطق بالتفصيل أو الإجمال ، كما أنّ المؤرّخين صمّوا عن سماع تلك الحادثة النّكراء :
فقد روى سهل بن زياد أنّ أبا هاشم الجعفريّ قال :
( بعث إليّ أبو الحسن ( عليه السلام ) في مرضه ، وإلى محمد بن حمزة فسبَقَني إليه محمد بن حمزة فأخبرَني محمد : ما زال ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ يقول : ( ابعثوا إلى الحَير ـ أي أرسِلوا رجلاً يدعو لي في الحائر الحسينيّ في كربلاء ـ.
وقلت لمحمد : ألا قلتَ : أنا أذهب إلى الحَير ؟ ثمّ دخلت عليه ، وقلت له : جعلت فداك ، أنا أذهب إلى الحَير .
فقال : انظروا في ذلك ـ أي تدبّروا الأمر ، ولا تبادروا فوراً ؛ لأنّ في الذهاب إلى كربلاء مظنّة ضررٍ وأذى على مَن يُرى هناك ، فقد مُنِع الناس من زيارة الحسين ( عليه السلام ) في ذلك العهد الظالم أشدّ مَنع
ثمّ قال ( عليه السلام ) : إنّ محمداً ليس له سرّ من زيد بن عليّ ، وأنا أكره أن يسمع ذلك ـ فهو ( عليه السلام ) يقصد محمد بن حمزة ، وأنّه لا يكتم سرّاً ، ويقول بإمامة زيد ، وفي بعض النّسخ : ليس له شرّ ، أي أنّه مأمون ولا يأتي الشرّ من قِبله ، وهو من قِبل نفسه لم يُجِب إمامه في الذهاب إلى الحائر الحسيني ـ .
قال : فذكرتُ ذلك لعليّ بن بلال ، فقال : ما كان يصنع بالحَير ؟ هو الحَير ـ أي أنّ دعاءه لنفسه كافٍ ؛ لأنّه في الشرف والكرامة كساكن الحائر ( عليه السلام ) ـ .
فقدِمتُ العسكر ـ سرّ مَن رأى ـ فدخلتُ عليه فقال لي : اجلِس ، حين أردتُ القيام ، فلمّا وجدتهُ قد أنسَ بي ، ذكرتُ له قول عليّ بن بلال ، فقال لي : ألا قلتَ له : إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) كان يطوف بالبيت ويُقبّل الحجَر .
وحرمة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وحرمة المؤمن أعظم من حرمة البيت ، وأمَرهُ الله عزّ وجلّ أن يقف بعرَفة ، وإنّما هي مواطن يحبّ الله أن يُذكر فيها ، فأنا أحبّ أن يُدعى لي حيث يحبّ الله أن يُدعى فيها ) (76) .
فالإمام ( عليه السلام ) أراحنا حين فلسفَ قوله لأصحابه : ( ابعثوا إلى الحَير ) ، حين حدّث بما كان يفعله جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في الحرم من : الطواف ، وتقبيل الحجر ، والوقوف بعرفات وغير ذلك من الأماكن المقدّسة ، وبُغيته الحقيقيّة هي : ربط شيعته بتوقير الأماكن المشرّفة ، وشدّهم إلى الحائر الحسينيّ وغيره من مقدّساتهم ، وزيارة كربلاء مهما قست عليهم الظّروف ومهما بلغَ منع الحكّام الظّلاّم ،.. وهو يعلم ـ ساعتئذٍ ـ يقيناً أنّ حياته الشريفة قد انتهت بحسب العهد الذي بيده ، وبمجرّد أن سقوه السمّ ، وأنّ الدعاء له لا يُجدي نفعاً ، ولكنّه يأبى أن يفارق الحياة قبل أن يبلّغهم أنّ الدعاء مستجاب في تلك الأماكن الكريمة ، وأنّ زيارة الحسين ( عليه السلام ) تعادل عند الله سبعين حجّة ، فلا ينبغي لهم التفريط في دنياهم بما يكسبون به الأجر الجزيل في أُخراهم حين يكرّمون أهل الكرامة من أولياء ربّهم عزّ وعلا ،.. ولم يقل ذلك إلاّ من أجل ذلك .

وروى عبد الله بن عياش بإسناده عن أبي هاشم الجعفريّ أنّه قال فيه ( عليه السلام ) حين اعتلّ ومرض :
مـادَت الأرض بي وآدت iiفؤادي
واعـترَتني مـوارد العُرَواء(77)
حـين  قـيل الإمـام نضو عليل
قـلتُ  نفسي فَدَته كلّ الفداء(78)
مَـرضَ الـدّين لاعتلالك iiواعتلّ
وغـارت  لـه نجوم السّماء(79)
عَـجباً  أنْ مُـنيتَ بالدّاء iiوالسّقم
وأنـت الإمـام حـسم الداء (80)
أنت آسي الأدواء في الدّين والدّنيا
ومـحيي  الأموات والأحياء(81)
في قصيدة عامرةٍ إن دلّت على شيءٍ فإنّما تدلّ على العاطفة الصادقة تصدر عن هذا السيّد الجليل ، قد فاضت على لسانه شِعراً رقيقاً متيناً رصيناً ، يظهر فيه اضطرابه للحال التي نزلت بإمامه ( عليه السلام ) ؛ لأنّه يعلم أنّه بين أيدي ظلاّمٍ لئام عمرت صدورهم بالحقد والكيد لأهل بيت الوحي والتنزيل ، فلاحقوهم تحت كلّ سماءٍ ، وضيّقوا عليهم الآفاق والأجواء ،.. وليس بيده أن يدفع عنه غائلةً ، ولا أن يردّ نازلة..

أما كيفيّة سمّه ، فقد ضربَ عليها التاريخ المأجور أقفالاً فوق أقفال ، ولم يذكر عنها شيئاً ولا تسرّب لها تفصيل ولا إجمال ؛ لشدّة ظلم الحاكم وعسفه ، بالرّغم من أنّ سمّه كان جريمةً نكراء تهتزّ لها الأرض والسماء ، ولكنّ ذلك تمّ على يد المعتزّ وأعوانه من الوزراء والمشيرين بلا أدنى ريب ، لا رجماً بالغيب ، وهذه هي سيرة العباسيّين مع أئمّة الهدى ( عليهم السلام ) .

قال أبو دعامة : أتيت عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) عائداً في علّته التي كانت وفاته فيها .
فلمّا هممتُ بالانصراف قال لي : ( يا أبا دعامة ، قد وجب عليّ حقك ، ألا أُحدّثك بحديثٍ تُسَرّ به ؟
فقلتُ له : ما أحوجني إلى ذلك يا بن رسول الله .
قال : حدّثني أبي محمد بن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن موسى قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي قال : حدّثني أبي عليّ بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال : حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال :
( قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : يا عليّ اكتُب :
فقلت : ما أكتب ؟
فقال : اُكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم : الإيمان ما وقرَ في القلوب وصدّقه الأعمال ، والإسلام ما جرى على اللسان وحلّت به المناكحة .
قال أبو دعامة : فقلت : يا بن رسول الله ، والله ما أدري أيّهما أحسن ، الحديث ، أم الإسناد .
فقال : إنّها لصحيفة بخطّ عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وإملاء رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، نتوارثها صاغراً عن كابر ) (82) .
فهو ( عليه السلام ) ـ قبل أن يفارق دنيا أصحابه ومواليه ـ يُلقي بهذا الحديث ذي السّند الذهبيّ الفخم إلى صاحبٍ عاده في مرضه ، فلم يرضَ أن يخرج من عنده إلاّ بهذه التّحفة السَنيّة ، التي تُلخّص موضوع الفرق بين الإسلام والإيمان بأوجز عبارةٍ وأجلى بيان ، رامياً إلى تثبيت شيعته الذين لا يتمّ ( إيمانهم ) إلاّ ( بالولاية ) من جهة ، وإلى إذاعة ذلك بين الناس ليعرفوا أيّ طريق يختارون من جهةٍ ثانية ؛ فإنّ الاعتراف ـ باللّسان ـ لله عزّ وجلّ بالوحدانيّة ، ولنبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) بالرّسالة ، شهادتان تُعلنان إسلام المعترف بهما ، فيصير له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ، فيحرم دمه وماله وعرضه على غيره ، وتحلّ مناكحته والمعاطاة معه كأيّ كان منهم..
أمّا الإيمان : فهو ما استقرّ في القلب ، وانعقدت عليه النيّة ، وصدّقه العمل بجميع ما شرع الله تعالى وسنّه رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) للناس ، مع موالاة أولياء الله ، ومعاداة أعدائه ، وليس بين الأمرين حدّ وسط ؛ لأنّ الدّين جزء لا يتجزّأ ، ولا يصحّ أن يؤمن الإنسان ببعض ويكفر ببعضٍ ، كأولئك الذين آمنوا بالله تبارك وتعالى ولم يعملوا بما أنزل على رسوله ، وكهؤلاء الذين صدّقوا برسالة محمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ) ولم يعملوا بأقواله ووصاياه ، ولا رعوا لربّهم حرمةً ولا لنبيّهم كرامة.. وقد عقدنا فصلاً مسهباً حول موضوع ( الإسلام والإيمان ) ، جاء في غاية الدّقة والتفصيل والبيان في كتابنا ( صك الخلاص ) ، ومَن شاء فليراجعه هناك ؛ فإنّه لا يخلو من الفوائد الجمّة .

وعلى كلّ حال ، مات الإمام الهادي ( عليه السلام ) مسموماً (83) ـ كما قدّمنا ـ ، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً اهتزّت له سرّ مَن رأى بسلطتها الحاكمة وشعبها المختلف الأهواء وعسكرها وقادته وأمرائه ، وتَدافَع هؤلاء وهؤلاء إلى داره بالألوف ، واجمين وذاهلين من وقْع النبّأ العظيم الذي كان لا يمكن أن يُعلِّق عليه أحد بكلمةٍ ، ولا أن ينبُس ببَنْت شفةٍ ؛ لأنّ سيوف الظّلم المُشرَعة فوق الرؤوس لا ترحم الغريب ولا ترأف بالقريب ، إذ في مفهوم العباسيّين أنّ المُلك عقيم قد يستدعي قتل الأب ، أو الأخ أو الابن وسائر الأقرباء ، كما يستدعي قتل أيّ واحدٍ من الأباعد حين تُسوّل له نفسه أن يقول : مه مه !
وفي كتاب إثبات الوصيّة : ( أنّ جماعةً دخلوا إلى دار أبي الحسن ( عليه السلام ) يوم وفاته ، وإذا بها قد اجتمعَ فيها بنو هاشمٍ من الطالبيّين والعباسيّين ، واجتمعَ خَلق كثير من الشيعة ولم يكن قد ظهرَ عندهم أمر أبي محمد ، الإمام الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) ، ولا عرفَ خبر الوصيّة إليه إلاّ الثقات الّذين نصّ أبو الحسن ( عليه السلام ) على ابنه بحضورهم ، فحكى النّاس أنّهم في حيرةٍ من الأمر ومصيبة ، إذ خرجَ من الدار الداخليّة خادم صاح بخادمٍ آخر : يا رياش ، خذ هذه الرّقعة وامضِ بها إلى دار أمير المؤمنين وادفعها إلى فلان وقل له : هذه رقعة الحسن بن عليّ.. فاستشرفَ الناس لذلك !
ثمّ فُتحَ من صدر الرواق باب وخرج خادم أسود ، ثمّ خرجَ بعده أبو محمد ( عليه السلام ) مكشوف الرأس مشقوق الثّياب ، وعليه مبطنة بيضاء ـ أي ثوب مبطّن ـ وكان وجهه وجه أبيه ( عليه السلام ) لا يخطئ شيئاً .
وكان في الدار أولاد المتوكل ، وبعضهم ولاة العهد ، فلم يبقَ أحد إلاّ قام على رجْليه ، ووثبَ إليه أبو أحمد ، فقصده أبو محمد ( عليه السلام ) فعانقه ثمّ قال له : ( مرحباً بابن العمّ ) ، وجلسَ بين بابي الرواق والناس كلّهم بين يديه..
وكانت الدار كالسّوق بالأحاديث ، فلمّا خرجَ وجلس أمسكَ النّاس فما كنّا نسمع شيئاً إلاّ العطسة والسّعلة ،.. وخرَجت جارية تندب أبا الحسن ( عليه السلام ) ، فقال أبو محمدٍ ( عليه السلام ) : ( ما هاهنا مَن يكفي مؤنة هذه الجارية... ) ثمّ خرجَ خادم فوقف بحذاء أبي محمد ، فنهضَ ( عليه السلام ) وخرجت الجنازة ، وخرجَ يمشي حتى أخرجَ بها إلى الشارع الذي إزاء دار موسى بن بغا ، وقد كان أبو محمد صلّى عليه قبل أن يخرج إلى الناس ، وصلّى عليه لمّا خرجَ ( المعتمد ) ودُفن في بيتٍ من دوره ) (84) .
وتعجّب بعض الأعداء الجهَلة من شقّ الإمام لثوبه يوم وفاة أبيه ( عليه السلام ) ، ورأوا في ذلك أمراً مستهجناً ، وسها عن بالِهم سمّهم للإمام واغتيالهم له ؛ لأنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويقف في وجه باطلهم وظلمهم , فقد قال محمد بن الحسن بن شمّون وغيره : خرجَ أبو محمد ( عليه السلام ) ـ أي الإمام الحسن العسكري ـ في جنازة أبي الحسن ( عليه السلام ) وقميصه مشقوق ، فكتبَ إليه أبو عون الأبرش ، قرابة نجاح بن سلمة : مَن رأيتَ أو بلغكَ من الأئمّة شقّ ثوبه في مثل هذا ؟!
فكتبَ إليه أبو محمد ( عليه السلام ) : ( يا أحمق ، وما يدريك ما هذا ؟! قد شقّ موسى على هارون ) (85) .
وفي رجال الكشّي نقلَ هذا الخبر عن إبراهيم بن الخضيب الأنباري الذي أورده قائلاً : ( كتبَ أبو عون الأبرش ، قرابة نجاح بن سلمة ، إلى أبي محمد ( عليه السلام ) : إنّ النّاس قد استوهنوا ـ وقيل : استوحشوا ـ من شقّك على أبي الحسن ( عليه السلام ) .
فقال : ( يا أحمق ، ما أنت وذاك ؟! قد شقّ موسى على هارون ( عليهما السلام ) ، إنّ من النّاس مَن يولد مؤمناً ، ويحيا مؤمناً ، ويموت مؤمناً ، ومنهم مَن يولد كافراً ، ويحيا كافراً ، ويموت كافراً ، وإنّك لا تموت حتى تكفر ويتغيّر عقلك ! ) فما مات حتى حَجبهُ وِلده عن الناس وحبسوه في منزله في ذهاب العقل والوسوسة ، ولكثرة التخليط ، وكان يردّ على أهل الإمامة ، وانكشفَ عمّا كان عليه ) (86) .
فمَن طرقَ الباب تلقّى الجواب يا أبرش الاسم والهيئة وأغبرهما ! أفما سألتَ نفسك حين قرأتَ رسالة الإمام ( عليه السلام ) إليك : من أين جاءه العلم بموتك كافراً بعد أن يختلط عقلك وتُجنّ ، وتصبح سخريةً بين النّاس ، فيضطرّ أولادك إلى حبسك في منزلك قبل أن تُحبس تحت أطباق الثّرى رهين كفرك وارتدادك ؟! كان ينبغي لك أن تسأل نفسك ، وأن تفكّر وتُقدّر.. وأن تتوب وتستغفر ، لو كان الله تعالى يعلم فيك خيراً..
فتوقّوا خزّان علم الله أيّها المغترّون بزخرف الدّنيا وزبرجها.. وإيّاكم والاعتراض على أبواب الإيمان ، وأمناء الرحمان ؛ فإنّهم قد اصطفاهم ربّهم بعلمه ، وارتضاهم لغيبه ، واختارهم لسرّه ، واجتباهم بقدرته ، وأيّدهم بروح القدس من عنده ، وخصّهم ببرهانه ، وجعلهم تراجمة وحيه وشهداء خلقه ، وأعلام عباده ومنار بلاده.. فلا تتعدّوهم بفتوىً ، ولا تسبقوهم بحكمٍ ؛ لأنّهم عَيبة علم الله ، والأدلاّء على الحقّ ـ وحدهم دون غيرهم ـ ومَن ناصَبهم العداء نازعَ الله تعالى في مشيئته !

وعن أحمد بن داود القمّي ، ومحمد بن عبد الله الطّلحيّ ، أنّهما قالا : ( حَمَلنا مالاً اجتمعَ من خُمس ونذرٍ ، وعين وورق ، وجوهرٍ وحليّ وثيابٍ وما يليها ، فخرَجنا نريد سيّدنا أبا الحسن ، عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) .
فلمّا صِرنا إلى دسكرة المَلِك تلقّانا رجل راكب على جَمل ونحن في قافلةٍ عظيمة ، فقَصَدنا ونحن سائرون في جملة النّاس وهو يعارضنا بجَمَله حتى وصلَ إلينا وقال : يا أحمد بن داود ، ومحمد بن عبد الله الطّلحيّ ، معي رسالة إليكما .
فقلنا له : ممّن يرحمكَ الله ؟!
قال : من سيّدكما أبي الحسن عليّ بن محمد ( عليه السلام ) ، يقول لكما : ( إنّي راحل إلى الله في هذه اللّيلة ، فأقيما مكانكما حتى يأتيكما أمر ابني أبي محمد..) فخشعت قلوبنا ، وبكت عيوننا ، وأخفينا ذلك ولم نظهره ، ونزلنا بدسكرة المَلِك واستأجرنا منزلاً وأحرَزنا ما حملناه فيه ، وأصبحنا والخبر شائع في الدسكرة بوفاة مولانا أبي الحسن ( عليه السلام ) ، فقلنا : لا إله إلاّ الله ، أترى الرسول الذي جاء برسالته أشاعَ الخبر في الناس ! فلمّا تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشدّ قلقٍ ممّا نحن فيه ، فأخفينا ذلك ولم نظهره ) (87) .
فسبحان الخالق العظيم الذي علّم أولياءه ، وأصفياءه ما لا يعلمه الآخرون ، وأطلَعهم على علم ما كان وما يكون ـ في أنفسهم وفي كافة أقطار أرضه ـ دون سائر العالَمين ،.. وأرى نفسي تخاتلني أن أتجاوز هذا الخبر دون تعليق ، ولكنّ راكب الجَمل يستوقفني قسراً بدافع سؤال أُوجّهه إليه : مَن هو أولاً ، وهل طلعَ من الأرض أم نزلَ من السماء حتى وافى الرجلين في دسكرة المَلِك ، وليلة وفاة الإمام ( عليه السلام ) بالذات ، وهل كان على موعدٍ معهما عَيّنه سابقاً ، وقرّر فيه ساعة اللقاء وموعد حلول القضاء بهذه الدّقة العجيبة ؟!
لا ، لا ،.. فإنّها دقّة كومبيوتريّة إلكترونيّة بلغت الغاية في التقدير والحساب ، ولا يتسنّى له أن يستعملها في حال انطلاقه من العراق ، لملاقاة قادِمَين من إيران لم يتّصل بهما ولا اتّصلا به ، ولا بيده ولا بيديهما توقيت جميع تلك المفارقات.. بل هي من علم الإمام الذي علّمه إياه علاّم الغيوب ، يظهره لنا لنقف عنده مُفكّرين لا يرتدّ إلينا طرفنا قبل أن نقرّ بسفارة هذا المخلوق الكريم ، وبكونه ينطق عن غيبٍ محتومٍ قدّره الله تعالى وأمضاه ، ثمّ أطلعهُ عليه ليبرهن على أنّه الحجّة القائمة على العباد ، فلا ينكرها إلاّ الكافرون من أهل العناد .
قال المسعودي : ( وكانت وفاة أبي الحسن في خلافة المعتزّ بالله ، وذلك يوم الاثنين ،.. وسُمع في جنازته جارية تقول : ماذا لقينا من يوم الاثنين قديماً وحديثاً ) (88) ، فأشارت بقولها إلي يوم وفاة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ـ يوم الاثنين ـ وجفاء بعض أصحابه الذين تركوه جنازةً في بيته دون تجهيزٍ ، واشتغلوا في غير ما أوصاهم به مراراً وتكراراً..
وقال ابن عياش ـ في كتابه ( المقتضب ) : ( لِمحمد بن إسماعيل بن صالح القميريّ رحمه الله ، قصيدة يرثي بها مولانا أبا الحسن الثالث ( عليه السلام ) ، ويُعزّي ابنه أبا محمدٍ ( عليه السلام ) ، أوّلها :
الأرض خوفاً زَلزلت زلزالها
وأخـرجت  من جَزعٍ أثقالها
إلى أن قال :
عَـشرُ نـجوم أفَلَت في فُلكها
ويُـطـلع  الله لـنا أمـثالها
بـالحسن الـهادي أبي محمد
تَـدرك  أشـياع الهدى آمالها
وبـعده  مَـن يُرتجى طلوعه
يـظلّ  جـوّاب الفلا أجزالها
ذو الغيبتين الطّوّل الحقّ iiالّتي
لا يَـقبل الله مَـن اسـتطالها
يا حجج الرّحمان إحدى عشرةً
آلت بثاني عَشرها آمالها (89)
وبها يشير إلى الحجّة المنتظر ، الإمام الثاني عشر ، عجّل الله تعالى فرجه ، وإلى غيبتيه الصّغرى والكبرى اللّتين يستطيل مدّتهما الناس فينكرون وجوده ( عليه السلام ) .
وقد خلّف إمامنا من الولد : أبا محمدٍ ـ الحسن الذي هو الإمام من بعده ـ والحسين ، ومحمداً ، وجعفر ـ الملقّب بالكذّاب ـ وابنةً واحدةً تدعى عائشة ـ وقيل غالية ، أو عليّة (90) ـ ، أي أنّه ( قضى عن أربعة ذكورٍ وأنثى ، أجلّهم أبو محمدٍ الخالص ) (91) ، كما قال ابن حجر الهيثمي في صواعقه المحرقة .
و( في سنة أربع وخمسين ومئتين أحضرَ ابنه أبا محمدٍ ، الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) ، وأعطاه النّور والحكمة ومواريث الأنبياء والسلاح ، ونصّ عليه ، وأوصى إليه بمشهد ثقاتٍ من أصحابه ) (92) ، فهو الإمام الحادي عشر الذي سنتناول دراسة سيرته الكريمة في كتابٍ مستقلّ إن شاء الله تعالى .
أمّا ابنه جعفر ، فإنّه ادّعى أنّ أخاه الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) جَعلَ الإمامة فيه ، فسُمّي بالكذّاب ، ووردَ بشأنه ذم كثير (93) ، ونحن نذكر من شأنه ما يلي :
روى صالح بن محمد بن عبد الله بن محمد بن زياد ، عن أمّه فاطمة بنت محمد بن الهيثم ، المعروف بابن سبالة ، التي قالت : ( كنتُ في دار أبي الحسن ، عليّ بن محمد العسكريّ في الوقت الذي ولِدَ فيه جعفر ، فرأيتُ أهل الدار قد سُرّوا به ، فصرتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) فلم أرَ به سروراً ، فقلت : يا سيدي ، ما لي أراك غير مسرورٍ بهذا المولود ؟!
فقال ( عليه السلام ) : ( هوّني عليك ؛ فإنّه سيُضلُّ به خَلقٌ كثير ) (94) .
وابنه هذا هو أصغر أولاده ، وقد آذى أخاه الإمام العسكريّ ( عليه السلام ) في حياته بسوء سلوكه وعدم استقامته على طريقة آبائه ، ثمّ اغتصبَ إرثه بعد موته وتعدّى على حقّ ابن أخيه الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه .
وأنت ترى أنّ الله تبارك وتعالى عرّف أباه ما يكون عليه حال مولوده الذي ولِد الساعة ، فامتقعَ لونه ولم يَظهر عليه السرور ؛ إذ أطلعهُ سبحانه على أنّه سيُضَلّ به خَلق كثير ، وهو بعدُ لم يفتح ناظريه على نور الشمس !
فلا تسأل عن علم الأئمّة ( عليهم السلام ) كيف يكون ولا كيف يحصل ؛ فإنّك إن فعلتَ ذلك تدور في فراغ عظيم تضيع فيه إذا انتقصتهم أيّ شيءٍ من قَدرهم ، أو أنكرتَ عليهم أيّ عطاءٍ من مواهب ربّهم الذي انتدبهم لسياسة العباد ، وجَعلهم أوتاد البلاد ، وعلّمهم علم الأولين والآخرين ، فكانوا حَملة شرع الإسلام في الأنام .
طغوى.. عَهدَي المعتصم والواثق
عاشَ إمامنا ( عليه السلام ) عهوداً ستّةً في ظلّ ظلمٍ سافرٍ ، إذ حملَ أمر الله تبارك وتعالى بولاية النّاس طيلة مُلك ستّةٍ من خلفاء بني العباس ، هم : المعتصم ، والواثق ، والمتوكل ، والمنتصر ، والمستعين ، والمعتزّ ، ولاقى أثناء ذلك صنوفاً من الأذى وأنواعاً من المكر ، وعاشرَ فيها عتاةً متغطرسين حَكموا المسلمين باسم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وساروا وفق جاهليةٍ رعناء ، ولم يعيشوا الإسلام إلاّ في مظاهر جوفاء !
ثمّ عَمدوا إلى بَني عليّ ( عليه السلام ) فأرعبوهم طيلة حياتهم التي ختموها معهم ـ كلّهم ـ بالسّمّ والقتل البشِع ، حرباً لله تعالى ورسوله ! ثمّ لم يخجلوا بأن تلقّبوا بألقابٍ كانوا أبعد عن معناها بُعد السماء عن الأرض ؛ إذ كان الرشيد غير رشيدٍ حين أطغاه الحُكم ، والمأمون غير مأمون على غير عبّاسيّته العنيدة ، والمعتصم اعتصمَ بغير الله وبغير أهل الدّين ضدّ أهله ، والواثق عرفَ الحقّ وعمل بغيره ، والمتوكّل توكّل على الشيطان دون سواه ، والمنتصِر انتصرَ بأبالسة التّرك والدّيلم على العرب والمسلمين ، والمستعين لم يستعِن بالله طرفة عين ، ومثلهم المعتزّ ، والمعتضد ، و...
وقد أضافوا أسماءهم جميعها إلى اسم الله ولم يَعرفوا الله ، وتلبّسوا بخلافة فاقدةٍ لمحتواها ، ثمّ حَملوا أوزار سلطانٍ غاشم فَعل الأفاعيل وجاء بالأباطيل ، وغطّى على عهد الأمويّة الّذي سبق ، وعلى عهد الوثنيّة التي سَلفت ! فسحقاً لأصحاب ألقاب أغضبوا ربّ الأرباب ؛ لكثرة ما احتطبوا من الآثام ولشدّة ما ارتكبوا من الإجرام..
أجل ، قد عاصرَ إمامنا ( عليه السلام ) هؤلاء الخلفاء الستّة المتجبّرين ، فلوى كبرياءهم بجلالة قدره ، وكفخَ طغواهم بعزّته من ربّه ، وتغلّب على كيدهم بما آتاه الله تعالى من العلم والفضل والكرامة.. وخرجَ منتصراً على زورهم وبهتانهم في سائر مناسبات حياته معهم ، من غير أن يَعلُق بأذيال أردانه الطاهرة شيء من شوائبهم ومصائبهم ، ودون أن يُغبّر طريقه رماد قلوبهم المحترقة من عظمته ؛ لأنّهم كانوا كلّما نفخوا في نار حقدهم ، أعمى الرّماد أبصارهم !
ونحن إذا حاكَمنا العباسيّين محاكمةً عادلةً ، ونظرنا إلى أعمالهم بعين العقل والدّين ، نرى أنّ جرائمهم ضدّ الإسلام وحَملة الدّين تفوق جرائم الأمويّين ، الذين أقسمَ شيخهم أن لا جنّة ولا نار ! وقال معاويتهم : لم أُقاتلكم لتصلّوا ، ولا لتصوموا ، ولا لتزكّوا ، ولا لتحجّوا ؛ بل لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم ! وقَتلَ يزيدهم الحسين ، ابن بنت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ومزّق وليدهم القرآن وقال :
إذا ما جئت ربّك يوم حشرٍ     فقل يا ربِّ مزّقني الوليد
فأولئك قوم أعادوها وثنيّةً جاهليّةً ، بقالب قيصرية كسرويةٍ حادت عن خطّ الإسلام من جهة ، وكانت لهم تِرات وذحول عند أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من جهةٍ أخرى ، فاعتبروا عملهم الجاهليّ معه ومع أبنائه أخذاً بالثأر..
أمّا بنو العبّاس ، فقد جاءوا إلى الحكم على أساس تدمير تلك الوثنيّة وردّ الحقّ إلى مستقرّه ، ولكنّه ما عتّم أن صار سكرهم يزري بسُكر يزيد العربيد ، وفسْقهم يضمحلّ أمامه فسْق الوليد ، وجرائمهم مع أئمّة أهل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) رجحت بجرائم كلّ جبّار عنيد !
فهُم في ميزان خلافة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) صفر وهباء ، وفي ميزان السلاطين والملوك سفّاكون سفّاحون ، وفي ميزان الحكّام العاديّين ظلمة جائرون ، لم يربحوا معركةً مع أعداء الدّين ، ولا خسروا معركةً مع أهل الحقّ من المسلمين ! قصورهم كانت مواخير للسّكر والفسق والدعارة واللّواط ، وأموال المسلمين كانت بين أيديهم نهباً للعملاء والسُّمّار والمهرّجين والمغنّين والراقصات.. وأحكام قضاتهم جَرت في رقاب أصحاب المذاهب ، وسياطهم تقطّعت على جلود الفقهاء والعلماء ،.. وعِنّا لأمرك يا ربّ في هؤلاء الخلفاء لرسولك الكريم ( صلّى الله عليه وآله ) !!
***
ففي عهد المعتصم ـ الذي لم يعتصم إلاّ بسنّة آبائه كيداً للبيت العلويّ وحرباً لله ـ واجهَ إمامنا ( عليه السلام ) أزمَتين من أعظم أزمات عمره ؛ إذ تلقّى كارثة الفجيعة بأبيه الذي سمّه المعتصم مرتكباً جريمةً نكراء بقتل إمام مُنصّب من ربّه ، ثمّ لاقى منه ـ هو وآله من العلويّين ـ عزلاً وضيقاً أشدّ من عزل الهاشميّين في شِعب أبي طالب أيّام الجاهلية العمياء.. فإنّ حادثة قَتل أبيه ( عليه السلام ) آذت كلّ ذي ضمير ، وأفزَعت كلّ إنسانٍ ، واهتزّ من بشاعتها عرش الرحمان ! إلاّ ضمائر المؤرّخين المأجورين فإنّها لم تتحرّك ولم تتأثّر ، وأبقت تفصيلات ذلك كلّه طيّ الكتمان..
وقد كان الخليفة يومئذ يولّي على مكّة والمدينة كلّ جبّارٍ من ولاته ، ثمّ يوصيه بالقسوة وأخذ العلويّين بالعنف ، فأُضيف ظلمه إلى ظلم ولاته القُساة على أهل الحقّ ، الجفاة لآل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأدّى ذلك التصرّف الأرعن إلى صرعةٍ شعبيّةٍ تركت الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ ظلم الخليفة شديد !
فمن ذلك ما حصلَ على يد عمر بن الفرج الرّخجيّ الذي أذاقهم ألواناً من الضّيق والحاجة ، ومنعَ صِلتهم والتعامل معهم ، وسدّ في وجوههم أبواب الرّزق وسبُل العيش ، وأعطى أبشع صورةٍ عن جَور ذلك العهد المشؤوم ـ كما سترى بعد قليل ـ حيث كان الإمام ( عليه السلام ) لا يزال ما بين السابعة والتاسعة من عمره الشريف .
ومع ذلك التعسّف ـ الذي ما عليه من مزيد ـ لم يكن الإمام الغلام ( عليه السلام ) قابعاً في زاوية همّه وغمّه وحزنه على أبيه ، بل كان يخرج إلى مسجد جدّه الأعظم ( عليه السلام ) ، فيُفتي ويقضي لمواليه ولسائر الناس ببيان ربّانيّ وبحجّة دامغةٍ ، ناطقاً بالقرآن والسنّة ، وحاكماً بما نزلَ من عند ربّه عزّ وعلا ، فيرجع إليه مشايخ الفقهاء من الهاشميين وغيرهم ؛ إذ لا يجدون الحقّ إلاّ عنده ، ولا يرون الصّدق إلاّ على لسانه ، ويلمسون من علمه وفضله ورشده ما لا يتوفّر عند شيوخهم وكبرائهم في سائر أرجاء الدولة الإسلاميّة ؛ لأنّه ينطق عن علمٍ من علم الله تعالى ، ورثة عن آبائه ، عن جدّه صلوات الله عليه وعليهم ، ولم يكتسبه من مدرسةٍ ولا من أستاذ ، بل هو موهوب له وكأنّه مخلوق معه ، قد زقّه زقّاً منذ طفولته المبكّرة ،.. وقد كانت تظهر للناس براهينه الساطعة وآياته الباهرة ، ثمّ لا يخفى ذلك على قصر الإمارة ومَن فيه ؛ لأنّه كانت تتناول أحاديث عجائبه الرّكبان فتصل إلى كلّ مكان .
ومن أبرز ما حدثَ من دلائل عَظمته يومها وهو بعدُ دون الحُلم : أنّ أحد الثقات من أصحاب أبيه وأصحابه الذين كانوا يتولّون العمل في الدولة ، حبسهُ المعتصم وهدّده بالقتل وبمصادرة أملاكه ؛ لأنّه يتولّى الله ورسوله والّذين آمنوا ! ذاك هو اليَسع بن حمزة القمّي الذي روى عنه محمد بن جعفر بن هشام الأصبغي قصّته قائلاً :
( أخبرَني عمرو بن مسعدة ، وزير المعتصم الخليفة ، أنّه جاء عَليّ بالمكروه الفظيع حتى تخوّفته على إراقة دمي وفقر عقِبي ، فكتبتُ إلى سيّدي أبي الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) أشكو إليه ما حلّ بي !
فكتبَ إليّ : ( لا روعَ عليك ولا بأس ، فادعُ الله بهذه الكلمات يُخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعتَ فيه ويجعل لك فرجاً ؛ فإنّ آل محمد ( صلّى الله عليه وآله ) يدعون بها عند إشراف البلاء وظهور الأعداء ، وعند تخوّف الفقر وضيق الصّدر ) .
قال اليسع بن حمزة : فدعوتُ الله بالكلمات التي كتبَ إليّ سيّدي بها ، في صدر النّهار ، فو الله ما مضى شطرهُ حتى جاءني رسول عمرو بن مسعدة فقال لي : أجب الوزير ! فنهضتُ ودخلت عليه ، فلمّا بصُرَ بي تبسّم إليّ ، وأمرَ بالحديد ففُكّ عنّي ، والأغلال فحُلّت منّي ، وأمرَ لي بخُلعةٍ من فاخر ثيابه ، وأتحَفَني بطِيب ، ثمّ أدناني وقرّبني وجعلَ يُحدّثني ويعتذر إليّ ، وردّ عَلَيّ جميع ما كان استخرجهُ منّي ، وأحسنَ رفدي وردّني إلى الناحية التي كنتُ أتقلّدها وأضاف إليها الكورة التي تليها ) (95) .
ثمّ ذكرَ الدعاء ، وهو هذا :
( يا مَن تُحلّ بأسمائه عُقَد المكاره ، ويا مَن يُفلّ بذكره حدّ الشّدائد ، ويا مَن يُدعى بأسمائه العظام من ضيق المخرج إلى محلّ الفرَج ، ذلّت لقدرتك الصّعاب ، وتسبّبت بلطفك الأسباب ، فهي بمشيئتك دون أمرك مؤتمرة ، وبإرادتك دون وحيك منزجرة ، وأنت المرجوّ للمهمّات ، وأنت المفزع للملمّات ، لا يندفع منها إلاّ ما دفعتَ ، ولا ينكشف منها إلاّ ما كشفتَ ، وقد نزلَ بي من الأمر ما فَدَحني ثِقله ، وحلّ بي منه ما بَهضني حمْله ، وبقدرتك أوردتَ عليّ ذلك ، وبسلطانك وجّهته إليّ ، فلا مصدر لِما أوردتَ ، ولا ميسّر لِما عسّرت ، ولا صارفَ لِما وجّهت ، ولا فاتح لِما أغلقتَ ، ولا مغلق لِما فتحتَ ، ولا ناصر لِمن خذلتَ إلاّ أنت .
فصلِّ على محمّدٍ وآل محمّدٍ وافتح لي باب الفرج بطَولك ، واصرِف عنّي سلطان الهمّ بحَولك ، وأنِلني حسن النّظر فيما شكوتُ ، وارزقني حلاوة الصّنع فيما سألتك ، وهب لي من لدنك فرجاً وحِيّاً ، واجعل لي من عندك مخرجاً هنيئاً ، ولا تشغلني بالاهتمام عن تعاهد فرائضك واستعمال سنّتك ، فقد ضقتُ بما نزلَ بي ذرعاً ، وامتلأتُ بحمل ما حدثَ عليّ جزعاً ، وأنت القادر على كشف ما بليتُ به ، ودفع ما وقعتُ فيه ، فافعل ذلك بي وإن كنتُ غير مستوجبه منك يا ذا العرش العظيم وذا المنّ الكريم ، فأنت قادر يا أرحم الرّاحمين ، آمين ربّ العالمين ) (96) .
فمُذ رفع الإمام الغلام ( عليه السلام ) كفّ الابتهال إلى ربّه جلّ وعلا بشأن اليسع بن حمزة ، استجاب الله تعالى دعاءه وفرّج عنه فكتبَ إليه : ( لا روع عليك ، ولا بأس ) !
فما هذه الثّقة الإيمانيّة التي يحملها ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في قلبه ! وما هذا الاطمئنان النفسيّ الّذي أبلَغه لصاحبه المكبّل بالحديد في غياهب السّجن ، حين قال له بجزم : ( ادعُ الله بهذه الكلمات يخلّصك الله وشيكاً ممّا وقعتَ فيه ) ، فكيف ضمنَ له الخلاص وأكّد له سرعته ، فتمّ في جزءٍ من النّهار ؟!
إنّ هذا الإمام الغلام وإن يكن صغيراً ، فهو كالكبير من أهل هذا البيت الّذين أمْرَهم من أمر الله سبحانه ، وسرّهم من سرّه ، وعَظمتهم من عنده ،.. مَن تَقدّمهم ضلّ ، ومَن تأخّر عنهم زلّ وقطعَ صلته بآل الله ، ولم يكن له حظ من الله ولا نصيب يوم تزلّ فيه الأقدام ، فهم باب رحمته سبحانه ، ومفاتح النجاة بين يديه ، ما خابَ مَن تمسّك بهم ، وأمِنَ مَن لجأ إليهم ؛ لأنّ الحقّ معهم ، وفيهم ، ولهم ،.. ما نازعهم إيّاه إلاّ شقيّ ، ولا تعدّى عليهم فيه إلاّ غويّ مبين..

ثمّ ( إنّ المعتصم استعملَ على المدينة المنوّرة ومكة المكرّمة عمر بن الفرج الرّخجيّ الذي مرّ ذكره ، والّذي كان يقسو على آل أبي طالب ويضيّق عليهم ـ أيّام حَداثة الإمام الجواد ( عليه السلام ) ـ وكان يمنعهم سلوك سُبل العيش ، ويحول بينهم وبين مساءلة الناس لهم ، ويحذّر الناس بِرّهم وصِلتهم ، حتى أنّه كان لا يبلغه عن أحدٍ بِرّهم بشيء وإن قلّ ، إلاّ أنهكهُ عقوبة وأثقله غرماً وأشبعه عذاباً !! فبلغَ بهم ضيق الحال أن صارت العلوّيات يصلّين في القميص الواحد واحدةً بعد واحدةٍ ؛ لأنّهنّ لا يملكْنَ غيره ، ثمّ يُرقّعنه إذا تخرّق ، ويجلسن في منازلهنّ عواري حواسر !! ) (97) .
ثمّ تمّت فصول رواية ظلم المعتصم للطالبيّين بأن اغتالَ الإمام الجواد ( عليه السلام ) بالسّم ، وتلطّخت يداه الآثمتان بتلك الجريمة الكبرى ، ومع ذلك لم يبرد غليله ، بل ثارت ثائرة الحقد في صدره وشَرهت نفسه إلى التشفّي من أهل بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهو يحكم المسلمين باسمه وباسم دينه ، ولا يخجل منه ولا يخاف عُقبى عمله الكافر السافر ، ناسياً موقفه المخزي بين يدي الله عزّ وجلّ وأمام رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ، إن كان يؤمن بيوم البعث والحساب !
لكن مَن قَتلَ إماماً ( منصوباً ) من لدُن ربّه تبارك وتعالى ، و( منصوصاً ) عليه من رسوله الأعظم ، و( موصىً ) له من آبائه الكرام ، و( حاملاً ) لكلمة الله إلى عباده ، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، مقيماً للحقّ ، مزهقاً للباطل ، أقول : مَن قَتلَ مثل ذلك الإمام من أجل مُلكٍ يدوم عدّة أعوام ، يكون عميلاً للشيطان لا خليفةً لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ويكون من أسفه مَن خَسرت تجارتهم حين باعوا آخرتهم بدنياهم ( فَبَآءوُاْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ ) (98) ، واستحقّوا العذاب المهين .
فيا أيّها المعتصِم بالعصبيّة الجاهلية : لم يُسئ أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام ) إلى أجدادكم ، بل أحسنَ إليهم وولّى أربعة من أولاد عمّه العباس بالذات ! فيا ليتك ارتفعتَ إلى منزلة الجاهليّين وقابلتَ الإحسان بالإحسان يا أمير ( المتأسلمين ) الضائعين مثلك عن الحقّ ،.. لكنتَ إذاً ممّن لا يُسيئون إلى مَن أحسنَ إليهم..

نعم ، كان الإمام في هذا العهد غلاماً ، ولكنّه مهيب مرهوب ، مفروض احترامه وتوقيره على الجميع بلا استثناء أحدٍ من الخلق ، عطاءً من ربّه عزّ اسمه ، وسترى آيات ذلك في طيّ فصول هذا الكتاب فتقف على حقيقة كون الأئمّة بَشراً من غير سِنخ البشر .
وإذا أحببتَ أن تسمع مثلاً على ذلك ، وتلمس هيبته في هذا السنّ المبكّرة ، فاستمِع إلى ما ذكره الحسن بن محمد بن جمهور العمّي الذي قال : (حدّثني سعيد بن عيسى قائلاً :
رَفعَ زيد بن موسى بن جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، عمّ أب الإمام الهادي ( عليه السلام ) إلى عمر بن الفرج ـ الوالي على مكّة والمدينة المنوّرة الذي مرّ ذكره ـ مراراً يسأله أن يقدّمه على ابن أخيه الهادي ( عليه السلام ) ويقول : إنّه حَدَث وأنا عمّ أبيه ؟
فقال عمر : ذلك لأبي الحسن ( عليه السلام ) .
فقال : افعل واحدةً ، أقعِدني غداً قبله ثمّ انظر .
فلمّا كان في الغد أحضرَ عمر أبا الحسن ( عليه السلام ) ، فجلسَ في صدر المجلس ، ثمّ أذِن لزيد بن موسى فدخلَ فجلسَ بين يدي أبي الحسن ( عليه السلام ) .
فلمّا كان يوم الخميس أذِن لزيد بن موسى قبله ، فجلس في صدر المجلس ، ثمّ أذِن لأبي الحسن ( عليه السلام ) ، فدخلَ.. فلمّا رآه زيد قامَ من مجلسه وأقعدهُ وجلس بين يديه ) (98) .
فلماذا تصاغرَ أمام الإمام عمّ أبيه ؟! وما الذي أزاحهُ عن صدر المجلس ، وأزاله عن مقام كبريائه ، وأقعده مؤدّباً بين يدي ابن ابن أخيه ؟! وما الّذي جعلهُ ينهزم أمام الغلام الحَدَث يا ترى ؟!
الجواب غير خافٍ على أحد وإن كان الناس قد ( جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ) (100) كقوم نوح الذي دعاهم نبيّهم جهاراً ، وأسرّ لهم إسراراً ، فلم يزدهم دعاؤه إلاّ فراراً ! فالقوم أبناء القوم ، ولا فرق بين الأمس واليوم ،.. وقد جرفَ الناس طوفان الكِبْر على أوامر الله تبارك وتعالى ،.. وأخنى على عنادهم الدهر ! وما أبعدَ أهل العناد عن اتّباع سبيل الرشاد !
***
ولن ننتقل إلى موضوعٍ آخر قبل أن نعرض للقارئ شيئاً من شريط نهاية أمر عمر بن الفرج الرُخّجي ، الذي كان والياً في أطراف البلاد حتى اشتهر ظلمه لآل أبي طالب ، فنقلَ إلى القصر كاتباً فموظّفاً كبيراً ، وكوفئ فصار مستشاراً جبّاراً في قصر سامرّاء أيام المتوكل ، وكان من أكثر موظّفي القصر إيذاءً للإمام الهادي بعد إيذاء أبيه ( عليهما السلام ) ، ومن أشدّ الناس حرباً عليهما وكيداً لهما ولآلهما.. فمن نتائج إفكه وافترائه على الإمام الجواد ( عليه السلام ) ، وما رواه محمد بن سنان الذي قال :
دخلتُ على أبي الحسن ـ الهادي ( عليه السلام ) ـ فقال : ( يا محمد ، هل حَدثَ بآل فرج حَدَث ؟
فقلت : مات عمر .
فقال ( عليه السلام ) : الحمد لله ! حتى أحصيت له أربعاً وعشرين مرّة !
فقلت : يا سيّدي لو علمتُ أنّ هذا يسرّك ، لجئتُ حافياً أعدو إليك .
فقال : يا محمد ، أو لا تدري ما قال لعنهُ الله لمحمد بن عليّ أبي ؟!
قلت : لا .
قال : خاطبهُ في شيءٍ ، فقال : أظنّك سكران ! فقال أبي : اللّهمّ إن كنتَ تعلم أنّي أمسيتُ لك صائماً ، فأذقهُ طعم الحَرَب وذُلّ الأسْر ! فو الله ما ذهبت الأيام حتى حَرَب ما له وما كان له ـ أي حُرِم وسُلِب منه ـ ثمّ أُخذَ أسيراً ! وهو ذا قد مات ـ لا رحمه الله ـ وقد أدالَ الله عزّ وجلّ منه ، وما زال يديل أولياءه من أعدائه ) (101) .
أمّا تفصيل الحال السيّئة التي وصلَ إليها عمر بن الفرج بفعل دعاء الإمام ( عليه السلام ) ، فقد ذكرهُ ثلاثة مؤرّخين أجلاّء وهم : المسعودي ، وابن الأثير ، والطبريّ.. فقد قال المسعودي ـ وقريب منه ما قاله ابن الأثير ـ :
( في سنة ثلاث وثلاثين ومئتين ، سخطَ المتوكل على عمر بن الفرج الرُخَّجيّ ، وكان من عليّة الكُتّاب ، وأخذَ منه مالاً وجواهر نحو مئة ألفٍ وعشرين ألف دينار ، وأخذَ من أخيه نحو مئة ألف دينار وخمسين ألف دينار ! ثمّ صولِحَ عمر على أحد وعشرين ألف ألف درهم ـ 21 مليوناً ـ على أن يردّ عليه ضِياعه ،.. ثمّ غَضب عليه غضبةً ثانيةً وأمرَ أن يُصفع في كلّ يوم ، فأُحصي ما صُفع فكان ستّة آلاف صفعة ! وألبسَهُ جبّة صوف.. ثمّ رضي عنه ، وسخطَ عليه ثالثةً وأُحدِر إلى بغداد وأقامَ بها حتى مات ) (102) .
وهذا من نهاية الذّل والهوان حيث سُلب ماله وضِياعه ، وأُسِر وضُرب حتى شَبع ومات بحسرته سكراناً ، من صفع غطرسته المتطاولة على أولياء الله وأهل الكرامة من عباده .
وقال أبو جعفر الطبريّ : ( وفيها ـ في سنة 233 هـ ـ غضبَ المتوكّل على عمر بن فرج ، وذلك في شهر رمضان ، فدُفعَ إلى إبراهيم بن إسحاق بن مصعب ، فحُبسَ عنده , وكُتب في قبض ضِياعه وأمواله ، وصار نجاح بن سلمة إلى منزله فلم يجد فيه إلاّ خمسة عشر ألف درهم .
وحضرَ مسرور سمانة فقبضَ جواريه ، وقُيّد عمر ثلاثين رطلاً ! ـ أي كان ثقل قيد الحديد في يديه ورجليه بهذا الوزن ـ . وأُحضرَ مولاه نصر من بغداد فحملَ ثلاثين ألف دينار ، وحملَ نصر من مال نفسه أربعة عشر ألف دينار ، وأُصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار ، ولأخيه محمد بن فرج مئة ألف دينار وخمسون ألف دينار ، وحُمل من داره من المتاع ستّة عشر بعيراً فرشاً ، ومن الجواهر قيمة أربعين ألف دينار ، وحُمل من متاعه وفرشه على خمسين جَملاً كرّت مراراً ! وأُلبِس فرجيّة صوفٍ وقُيّد فمكثَ بذلك سبعاً ، ثمّ أُطلِق عنه وقُبض قصره ، وأُخِذ عياله ففُتّشوا ، وكنّ مئة جارية ! ثمّ صولِح على عشرة آلاف ألف درهم ـ أي عشرة ملايين ـ على أن يردّ عليه ما حيز عنه من ضِياع الأهواز فقط ، ونُزعت عنه الجبّة الصوف والقيد ، وذلك في شوّال ،.. وقال علي بن الجهم بن بدر لنجاح بن سلمة يُحرّضه على عمر بن الفرج :
أبـلِغ نـجاحاً فـتى الـكُتّاب مَـأْلُكةً
يـمضي  بـها الرّيح إصداراً وإيراداً
لا يخرج المال عفواً من يدي ( عمر )
أو يُـغمد الـسيف فـي فوديه إغماداً
الـرُخّجيّون لا يـوفون مـا وعـدوا
والـرُخّجيّات لا يـخلفن ميعاداً ! (103)
وويلٌ لِمن كفّره النمرود ! فقد ذمّ هذا الشاعر البذيء السّكّير الخمّير عمر بن الفرج وعشيرته وهجاهم بأقبح الهجاء ؛ إذ رماهم بعدم الوفاء بالعهود ، ثمّ ذمّ نساءهم بأخسّ من ذلك وجعلهنّ ـ جميعهنّ ـ وفيّاتٍ مع مَن يطلب وصالهنّ ، وفاجراتٍ لا يخلفن موعداً مع عشيقٍ أو طالب هوى وفسق !!
وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ : ( قال لي محمد بن فرج الرُخّجيّ ـ وهو أخو عمر المذكور ، ولكنّه كان على عكس أخيه مَذهباً ومسلكاً ؛ إذ كان من المتشيّعين للإمام ( عليه السلام ) ، وإن كان قد أخذَ بجريرة أخيه حين غَضب المتوكل ـ :
إنّ أبا الحسن ( عليه السلام ) كتبَ إليه : ( يا محمد ، اجمَع أمرك ، وخُذ حذرك !
قال : فأنا في جمع أمري لستُ أدري ما الذي أرادَ بما كتبَ به إليّ ، حتى وردَ عليّ رسول فَحَملني من مصر مصفّداً ـ مقيّداً ـ بالحديد ، وضَربَ عليّ كلّ ما أملك ـ أي صادَرَه ـ ، فمكثتُ في السجن ثماني سنين .
ثمّ وردَ عليّ منه كتاب وأنا في السّجن : يا محمد بن الفرج ، لا تنزل في ناحية الجانب الغربيّ ) .
فقرأتُ الكتاب وقلت في نفسي : يكتب أبو الحسن ( عليه السلام ) إليّ بهذا وأنا في السّجن ؟! إنّ هذا لعجيب !
فما مكثتُ إلاّ أياماً يسيرةً حتى أُفرِج عنّي ، وحُلّت قيودي ، وخُلّي سبيلي .
قال علي بن محمد النوفلي : فلمّا شُخص محمد بن الفرج الرُخّجي إلى العسكر ـ سامراء ـ كُتِب له بردّ ضِياعه ، فلم يصل الكتاب إليه حتى مات ) (104) .
وقال عليّ بن محمدٍ النوفليّ نفسه : ( وكتبَ أحمد بن الخصيب ـ وهو الوزير ـ إلى محمد بن الفرج الخروج إلى العسكر ، فكتبَ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) يشاوره ، فكتبَ إليه أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( اُخرج ؛ فإنّ فيه فَرجُك إن شاء الله..) فخرجَ ، فلم يمكث إلاّ يسيراً حتى مات ) .
وقال أحمد بن ( محمد ) : ( أخبَرني أبو يعقوب ، قال : رأيتُ محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشيّةٍ من العشايا وقد استقبلَ أبا الحسن ( عليه السلام ) ، فنظرَ إليه نظراً شافياً ، فاعتلّ محمد بن الفرج من الغد ، فدخلتُ عليه عائداً بعد أيام من علّته وقد ثَقُل ، فحدّثني أنّ أبا الحسن ( عليه السلام ) قد أنفذَ إليه بثوبٍ وأرانيه مدرجاً ـ مطويّاً ـ تحت رأسه ،
قال : فكُفّن والله فيه ) (105) .
فانظر إلى الفرق بين الأخوين ـ عمر ، ومحمد ـ وإلى موقفَي الإمامين ( عليهما السلام ) من كلّ منهما ، وكيف استُجيب دعاء الإمام الجواد ( عليه السلام ) بشأن عمر الأفّاك منهما ، وكيف كانت عناية الإمام الهادي ( عليه السلام ) بمحمدٍ المؤمن المهتدي.. ثمّ لا تنسَ ما في الأحداث من أعلام الغيب ومن الكرامات التي انفردَ بها أهل هذا البيت النّبويّ صلوات الله وسلامه عليهم.. واعلَم بأنّ القوم كانوا قُساةً جُفاةً لا يتأثّرون بمثل تلك الآيات ، بعد أن أعمَت أبصارهم وبصائرهم لذائذ الحياة ومُغريات الدّنيا .

وفي عهد الواثق (106) كان الإمام ( عليه السلام ) لا يزال يُلملم شتات أشياعه فيسدّدهم ، ويقوّي قلوبهم ، ويجمعهم على الإيمان والعمل بما يرضي الله عزّ وجلّ ، ولا يغادر بيته إلاّ إلى بيت ربّه عزّ وعلا في موسم الحج ، أو إلى مسجد جدّه ( صلّى الله عليه وآله ) في باقي أيام السنة.. وممّا سُمع عنه في ذلك الوقت قول خيران الأسباطيّ الذي قال :
( قدِمتُ على أبي الحسن ، عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) ، المدينة فقال لي : ( ما خبر الواثق عندك ؟
قلت : جُعلت فداك ، خلّفته في عافية ، أنا من أقرب الناس عهداً به ، عهدي به منذ عشرة أيام .
قال لي : إنّ أهل المدينة يقولون : إنّه قد مات .
فقلت : أنا أقرب الناس به عهداً .
فقال لي : إنّ الناس يقولون : إنّه مات .
فلمّا قال لي : إنّ الناس يقولون ، عَلمتُ أنّه يعني نفسه .
ثم ّقال لي : ما فعلَ جعفر ؟ أي المتوكل .
قلت : تركتهُ أسوأ الناس حالاً في السّجن .
فقال لي : أمَا إنّه صاحب الأمر .
ثمّ قال : ما فعل ابن الزيّات ؟
قلت : الناس معه ، والأمر أمره .
فقال : أمَا إنّه شؤم عليه ،.. ثمّ إنّه سكت.. وقال لي : لابدّ أن تجري مقادير الله وأحكامه ،.. يا خيران ، ماتَ الواثق ، وقد قعدَ جعفر المتوكل ، وقد قُتل ابن الزيّات .
قلت : متى ، جُعلت فداك ؟!
قال : بعد خروجك بستّة أيام ) ، وكان كذلك ) (107) .
فقد فجأ الإمام ( عليه السلام ) خيران هذا بسؤاله له : ( ما خبر الواثق ؟ ) ؛ ليُلفت نظره ـ كواحدٍ من الأصحاب الأخيار ـ إلى أنّ الإمام يعلم ما لا يعلمه الناس ، ويعرف الحوادث وقت وقوعها بالذات ، ولا تخفى عليه خافية ؛ لدقّة وسائل إعلامه الربّانيّة التي تفنى أمامها المسافات ، وتضمحلّ المشقّات ، وتنكشف الأسرار والمخبّئات ؛ ولذلك فإنّه في آخر الحديث أخبرَ صاحبه بالانقلاب السلطانيّ ، الذي تمّ بعد مغادرته لبغداد بستة أيام على التحقيق..
أمّا حين قال له : ( إنّ الناس يقولون..) فإنّه عَنى نفسه دون غيره إذ لم يعرف الخبر سواه ؛ ولذلك أدركَ صاحبه خيران قَصده بوضوح.. ثمّ أخذهُ الفكر بعدها بأنّ الذي عَلم بموت الواثق ، وخروج المتوكل من الحبس إلى العرش ، وقتل ابن الزيّات ـ الوزير المتكبّر ـ هو الجدير بأن يُلفت النظر إلى علمه اللّدنيّ الذي يأتيه من ظهر الغيب ،.. وهو الحريّ بإمامة الناس الذي سخّر الله تعالى له ما لم يسخّره لغيره من سائر الخلق..
والإمام ( عليه السلام ) عندما فاتحَ صاحبه بهذا الحديث لم يشأ أن يزفّ إليه ببشارةٍ ولا أن ينبئه بخبرٍ ، ولا كانت غايته تقطيع الوقت بأحداث جرت أو تجري ،.. بل رمى إلى ما هو أبعد من ذلك ، وأرادَ ـ أقلاًّ ـ أن ينشر هذا الجليس ذلك الخبر عن لسان سيّده ؛ ليثبّت أصحابه على ( ولاية ) إمام يعرف الكثير من الغيب المحجوب عن الآخرين ، إلى جانب علمه وفضله وعالي قدره ، وليشاع هذا السرّ عن مصدرٍ مرتبطٍ بالسماء يتلقّى الأمور عن عليم خبير يُقدّر الأمور ويقضي بما يشاء ،.. فيسمع مَن يسمع ،.. ويتفكّر ويتدبّر مَن يريد أن ينظر إلى نفسه ، فيفتح الله تعالى عليه باباً للهدى إلى الحقّ والتمسّك بأهل الحق .
وإنّ من شأن الإمام أن لا يقعد ساكتاً إذا تشرّف بحضرته جليس ؛ فهو إمّا أن يُسأل فيجيب ليوضّح ما استُبهم على الناس ، وإمّا أن يبتدئ بالكلام الذي يفيد جليسه وغير جليسه ، فيبيّن الأحكام ويطلق كلمة الحقّ في تفسير القرآن وبيان السنّة النبويّة ، اللّذين هما دستور الدّين الإسلاميّ الكريم ،.. أي أنّه لابدّ أن يقوم بوظيفته الربّانية من : إذاعة الحقّ ، والأمر بالمعروف ، والنّهي عن المنكر ، والوقوف بوجه الباطل ، وإفتاء الناس بما لا يعلمون.. وهكذا يؤدّي رسالته التي انتدَبته من أجلها العزّة الإلهية .
قال أبو هاشم الجعفري : ( كنتُ بالمدينة حين مرّ بها بغا ـ قائد جيش الخليفة ـ أيام الواثق ـ في طلب الأعراب (108) ـ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( اُخرجوا بنا حتى ننظر إلى تعبئة هذا التّركيّ ) .
فخرجنا فوقفنا ، فمرّت بنا تعبئته .
فمرّ بنا تركيّ ، فكلّمه أبو الحسن ( عليه السلام ) بالتّركيّة ، فنزلَ عن فَرسه وقبّل حافر دابّته ـ أي دابّة الإمام ـ .
قال : فحلّفت التّركيّ : ما قال لك الرّجل ؟! أي الإمام ( عليه السلام ) .
قال : أنبيّ هو ؟! هذا نبيّ ؟!
قلت : لا ، ليس هذا بنبيّ .
قال : هذا دَعاني ـ تكنّاني ـ باسمٍ سُمّيت به في صغري في بلاد التّرك ، ما عَلِمهُ أحد إلى الساعة )  .
فإذا خطرَ ببالنا أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد خرجَ ( ليتفرّج ) على تعبئة الجيش ، ويتنزّه ويسرّي عن نفسه ، نكون من البسطاء الذين يجهلون مرتبة الإمامة ، بالرغم من أنّه كان يومئذٍ في العشرين من عمره الشريف وفي مطلع شبابه ؛ فإنّ الأئمّة ( عليهم السلام ) ما خلقهم الله تعالى للّهو ، ولا للتفرّج ، والتنزّة
ولن نقف طويلاً بين رواية محمد بن يحيى ورواية يحيى بن هرثمة ؛ فإنّ الحادثة وقعت في عهد المتوكّل بحسب الظاهر لا في عهد الواثق ؛ لأنّ الإمام ( عليه السلام ) كان ـ في عهد الواثق ـ لا يزال مقيماً في مدينة جدّه الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، والذي استقدَمهُ إلى دار الخلافة هو المتوكل ،.. وفي أيّ العهدين كان ذلك الإشكال ، فإنّهم لن يجدوا حلّه إلاّ عند الإمام ( عليه السلام ) ، الذي لا يعيى بجواب ولا يكلّ عند خطاب بقدرة الله تعالى وتسديده ،.. ومن أجل ذلك ناصبوه العداء ، وقَتَلهم الحقد !

اعتقالٌ.. وبراهين بين يثرب ودار السلاطين
وجاء المتوكل (109)عدوّ العلويّين الّلدود ـ إلى الحُكم ، فأخذَ يجتهد في إيجاد حيلةٍ للإيقاع بالإمام ( عليه السلام ) والبطش به ، فيدفع الله تعالى عنه شرّه ،.. ويحاول الحطّ من قدره في أعين الناس ، فيرفعه سبحانه ويُلقي كيد الخليفة في نَحره فلا يصل إلى بُغيته ، ويبقى غِلّه في صدره ويعجز عن النّيل من كرامة وليّ الله في أرضه ،.. فيضطرّ إلى إكرامه وإجلاله وتفدّيه والإحسان إليه صاغراً ، كلّما حاول أن ينتقص منه أو يهينه ؛ إذ كان الإمام ( عليه السلام ) يريه من علمه وفضله وآياته ما يُبطل مَكرَه ، ويهلع منه فؤاده ويختبط عقله كما سترى..
وكذلك كان عملاء العرش وأعوان الحاكم الظالم يدّعون على الإمام ( عليه السلام ) بما ليس فيه ، وينمّون ويفترون ، ويتّهمونه بأمورٍ لم يفعلها ، تزلّفاً لأميرهم ، وطمعاً في لذائذ دنياه ، وملء كروشهم التي لا تشبع من ازدراد الحرام ، فيبير الله سبحانه مكائدهم ويردّ حقدهم في قلوبهم ، ويُبقي ذلك شجاً تغصّ به لهواتهم فيعانون مرارتها ويقاسون حرقتها..
فمن ذلك : أنّ بُريحة العباسيّ كتبَ إلى المتوكّل : ( إنْ كان لك في الحَرَمين حاجة فأخرِج عليّ بن محمدٍ منهما ؛ فإنّه قد دعا الناس إلى نفسه واتّبعه خَلق كثير ،.. ثمّ بعثَ بالكتاب إلى المتوكّل ، فأنفذَ يحيى بن هرثمة وكتبَ معه إلى أبي الحسن ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ كتاباً جيّداً يُعرّفه أنّه قد اشتاق إليه ، وسألهُ القدوم عليه ، وأمرَ يحيى بالمسير إليه ، وكتبَ ـ كذلك ـ إلى بريحة يُعرّفه الأمر ، وكان ذلك سنة ثلاثٍ وأربعين ومئتين للهجرة النبويّة الشريفة (110) .
فقدِم يحيى المدينة ، وبدأ ببريحة وأوصلَ الكتاب إليه ، ثمّ ركبا جميعاً إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) وأوصلا إليه كتاب المتوكّل ، فاستأجلهما ثلاثة أيام..
فلمّا كان بعد ثلاثةٍ عادا إلى داره ، فوجدا الدوابّ مسرَجة ، والأثقال مشدودةً قد فرغَ منها ، فخرجَ صلوات الله عليه متوجهاً إلى العراق ومعه يحيى بن هرثمة ) (111)
ولو سألنا بريحة النمّام الزّنيم ـ فيما بينه وبين الله ـ هل كانت كتابته إلى المتوكل غِيرةً على الدّين ، وحفظاً لبيضة الإسلام وبدافع حقّ وعن صدقٍ ، وهل سمعَ الإمام يدعو إلى نفسه في سرّ أو عَلن ، أو في تصريح أو تلميح ، أو وقفَ له على نشاطٍ استعملَ فيه رُسلاً وبثّ أرصاداً ، أو اتّخذ لنفسه أُمناء وسعاةً ودعاة ؟!
أقول : لو سألنا هذا العُتلّ عن ذلك وأقسمنا عليه بما يُدين به من صَنميّة ( الوظيفة ) ؛ لوقفَ واجماً لا يحير جواباً ولا يردّ على سؤال ، ولبرزَ على حقيقته عارياً لم يفعل ذلك إلاّ خدمةً أمينةً لبطنه وفَرْجه لا أمانةً لصاحبه ،.. إذ ياليته كان يحمل أمانة الكلب لصاحبه الذي يملأ بطنه .
وفي رواية ثانيةٍ نقع على واشٍ ثانٍ كان نصيبه العزل من مركز ولاية أمور أهل المدينة المنوّرة ، لمجرّد إشارة من الإمام ( عليه السلام ) .
فقد قال في الإرشاد : ( وكان سبب شخوص أبي الحسن ( عليه السلام ) من المدينة إلى سرّ مَن رأى (112) : أنّ عبد الله بن محمد كان يتولّى الحرب والصّلاة بمدينة الرّسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، فسعى بأبي الحسن ( عليه السلام ) إلى المتوكّل ، وكان يقصدهُ بالأذى .
وبلغَ أبا الحسن سعايته به ، فكتبَ إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ، وكذبهُ فيما سعى به ، فتقدّم المتوكل ـ أي أمرَ ـ بإجابته عن كتابه ، ودعائه فيه إلى حضور ( العسكر ) ـ سرّ مَن رأى ـ على جميلٍ من الفعل والقول ، فخرجَت نسخة الكتاب التي بَعثها مع يحيى بن هرثمة مع ثلاثمئة رجل ( وأُخذت من يحيى بن هرثمة سنة ثلاث وأربعين ومئتين ) وهي :
بسم الله الرّحمن الرّحيم : أمّا بعد ، فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، وراعٍ لقرابتك موجب لحقّك ، مُقرّ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يُصلح الله به حالك وحالهم ، ويثبّت عزّك وعزّهم ، ويُدخل اليُمن ـ الأمن ـ عليك وعليهم ، يبتغي بذلك رضا ربّه وأداء ما افترضَ عليه فيك وفيهم .
وقد رأى أمير المؤمنين صَرْف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصّلاة بمدينة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ إذ كان على ما ذكرتَ من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قَرفك به ـ أي اتّهمك ـ ونَسبك إليه من الأمر الذي قد عَلِم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في بِرّك وقولك ، وأنّك لم تؤهِّل نفسك لِما قُرفتَ ـ اتّهمت ـ بطلبه ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمَرَهُ بإكرامك و تبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك ، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين بذلك .
وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك يحبّ إحداث العهد بك والنظر إلى وجهك ! فإن نشطتَ لزيارته والمقام قِبله ما أحببتَ ، شخصتَ ومَن اخترتَ من أهل بيتك ومواليك وحَشمك على مهلةٍ وطمأنينة ، ترحل إذا شئتَ ، وتنزل إذا شئتَ ، وتسير كيف شئت .
وإن أحببتَ أن يكون يحيى بن هرثمة ، مولى أمير المؤمنين ، ومَن معه من الجند مُشيّعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بمسيرك ، فالأمر بذلك إليك ـ وقد تقدّمنا إليه بطاعتك ، فاستخِر الله حتى توافي أمير المؤمنين ، فما من أحدٍ من إخوانه ووِلده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ، ولا أحمد منه أثرةً ، ولا هو لهم أنظر ، ولا عليهم أشفق وبهم أبَرّ وإليهم أسكنَ منه إليك ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .
وكتبَ إبراهيم بن العباس : وصلّى الله على محمد وآله وسلّم ، في شهر جمادى الآخرة من سنة ثلاثٍ وأربعين ومئتين .
فلمّا وصلَ الكتاب إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) ، تجهّز للرحيل ، وخرجَ معه يحيى بن هرثمة حتى وصلَ إلى سرّ مَن رأى .
فلمّا وصلَ إليها تَقدّم المتوكّل بأن يُحجَب عنه في يومه ، فنزلَ في خانٍ يُعرف بـ( خان الصعاليك )،وأقامَ فيه يومه ، ثمّ تقدّم المتوكل بإفراد دارٍ له فانتقلَ إليها ) (113)
وسنتكلّم حول نزوله في خان الصعاليك قريباً إن شاء الله تعالى .

وهذا الكتاب المُنمّق ـ المليء بالمَلق والتودّد باللّسان بما ليس في القلب ـ يشبه زخرف قول ( المبصّرين والمشعوذين ) : اقرأ تفرح ، جرّب تحزن ! فإذا أردتَ أن تفهم فحواه وحقيقة مغزاه ، فاقرأه مستعملاً أضداد كلماته لتقف على صريح هدفه ومعناه ، فالمتوكل لا يرعى قرابة الإمام ولا يحفظ حقّه ، ولا يُقدّر له ولا لآله ما يصلح حاله وحالهم ، ولا يمنحهم أمناً ولا يبتغي بهم رضا ربّه ! وإذا عزلَ واليه وأقامَ غيره وأمَرَه بإكرام الإمام والائتمار بأمره ، فلِمَ استقدَمهُ من المدينة و( اشتاقَ ) إليه وإلى النظر إلى وجهه قبل أن يستلم الوالي الجديد منصبه ؟ ولماذا بعثَ بثلاثمئة جنديّ لمرافقته ؟ سترى آيات بِرّه والإشفاق عليه ؛ فإنّه يُجسّد غِلّ العباسيّين على العلويّين أعظم تجسيد ، ويَحمل من الحقد عليهم ما لم يحمله المأمون ولا أبوه من قبل.. وهو :
يُعطيك من طرف اللّسان حلاوةً     ويروغ منك كما يروغ الثّعلب
قد فرشَ الطريق للإمام بالورود ، وجعَل تحت الزّهور شوك القتاد ! ومدّ في الشارع العامّ بساطاً أحمر ؛ ليدوس الإمام ( عليه السلام ) في كلّ خطوةٍ على خنجر ! وأحضرَ الإمام ـ كذلك ـ محاطاً بجندٍ وسلاح ! واقتيد بقوّةٍ إلى ذلك ( المشتاق ) إليه ، الحريص على راحته الذي تعمّد أن يكون دخوله إلى سرّ مَن رأى بحيث لا يعلم بوصوله أحد ! وأمرَ جواسيسه أن لا يُعلَن خبرَ قدومه ،.. ثمّ تقدّم بأن يحجب عنه في يوم وصوله فألجأه إلى النزول في خان الصعاليك !
فما أكذبَ شوق هذا ( المشتاق ) ، الواضح النّفاق ! وما أعظمَ خان الفقراء والصعاليك حين وطَأته قَدما الإمام ، وما أحكمَ خطّته بنزوله فيه ليرى القاصي والداني أنّ هذا ( المستقدَم ) قسراً أُريدت إهانته ،.. وأنّه لا يطمع في دنيا القوم ولا في الباطل الذي هم فيه ، وأنّ ( الخان الحقير ) ـ الذي نزلَ فيه ـ صار للفور قُطب رحى العلم والفضل والحكمة بعد أن كان خاناً للصعاليك !
إنّ حقيقة إشخاصه ( عليه السلام ) إلى سامرّاء هي ما ذكره سبط بن الجوزي الذي قال :
( قال علماء السيَر : وإنّما أشخصهُ المتوكّل من مدينة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إلى بغداد ؛ لأنّ المتوكّل كان يبغض علياً وذريّته ، فبَلغه مقام عليّ بالمدينة ومَيل النّاس إليه ، فخافَ منه ، فدعا يحيى بن هرثمة وقال : اذهب وانظر في حاله ، وأشخصهُ إلينا .
قال يحيى : فذهبتُ إلى المدينة ، فلمّا دخلتها ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمعَ الناس بمثله خوفاً على عليّ ( عليه السلام ) ، وقامت الدّنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً إليهم ، ملازماً للمسجد ، لم يكن عنده مَيل إلى الدّنيا ،.. فجعلتُ أُسكّنهم وأحلف لهم أنّي لم أؤمَر فيه بمكروهٍ ، وأنّه لا بأسَ عليه ،.. ثمّ فتّشت منزله فلم أجد فيه إلاّ مصاحف وأدعيةً وكُتب العلم ، فعظُم في عيني وتولّيت خدمتهُ بنفسي ، وأحسنتُ عِشرته .
فبينا أنا نائم في يوم من الأيام ـ أثناء المسير إلى العراق ـ والسماء صاحية والشمس طالعة ، إذ ركبَ ، وعليه ممطر ، وقد عَقد ذنب دابّته ! فتعجّبتُ من فعله ، فلم يكن من ذلك إلاّ هنيئة حتى جاءت سحابة فأرخت عزاليها ونالنا من المطر أمر عظيم جداً ! فالتفتَ إليّ فقال : ( أنا أعلم أنّك أنكرتَ ما رأيت وتوهّمت أنّي أعلم ما لم تعلمه ، وليس ذلك كما ظننتَ ، ولكنّي نشأتُ بالبادية ، فأنا أعرف الرّياح التي تكون في عَقبها المطر ) ، فلمّا أصبحتُ هبّت ريح لا تخلف ، وشممتُ منها رائحة المطر فتأهّبتُ لذلك .
فلمّا قدِمت به بغداد بدأت بإسحاق بن إبراهيم الطاهريّ ـ وكان والياً على بغداد ـ فقال لي : يا يحيى ، إنّ هذا الرجل قد ولَدَه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، والمتوكل مَن تَعلم ! فإنْ حرّضته عليه قَتَله ، وكان رسول الله خَصمك يوم القيامة ! فقلتُ له : والله ، ما وقفتُ منه إلاّ على كلّ أمرٍ جميل .
ثمّ سرتُ به إلى سرّ مَن رأى ، فبدأت ( بوصيف التّركي ) فأخبرته بوصوله ، فقال : والله ، لئن سقطَ منه شعرة لا يُطالب بها سواك ، ولا يكون المطالِب بها غيري ! فتعجّبتُ كيف وافقَ قوله قول إسحاق .
فلمّا دخلت على المتوكل سألني عنه ، فأخبرته بحسن سيرته ، وسلامة طريقه ، وورعه وزهادته ، وأنّي فتّشت داره فلم أجد فيها غير المصاحف وكُتب العلم ، وأنّ أهل المدينة خافوا عليه ، فأكرَمهُ المتوكل وأحسنَ جائزته وأجزلَ عطاءه ، وأنزله معه سرّ مَن رأى ) (114) .
فلو كان هذا ( المعتقَل ) قد سيق إلى ( مشتاقٍ ) إليه من سلاطين بني عمومته ـ غير محاط بالجند والرّقباء ـ لمَا خاف عليه إسحاق بن إبراهيم ، ولا خشيَ قَتله ( وصيف ) التّركيّ ، ولا احتملَ ضرره بَرّ ولا فاجر ،.. ولكنّه جيء به ( محمولاً ) بتجِلّة السيوف.. وعرفَ الكلّ أنّ أُسرة السفّاحين السّمّامين غير مأمونةٍ على سلامته ، فعبّر عن ذلك إسحاق الطاهريّ ،.. وأنذرَ ( وصيف ) التّركيّ من مغبّة الفتك به ؛.. لأنّهما يستطيعان الكلام ،.. وغيرهما في فمه ( طعام ) القصر ،.. أو ( لجام ) القسر !

أمّا ما بين يثرب ودار الخلافة ، فقد ظهرَ من آيات إمامنا ( عليه السلام ) ومعجزاته ما بهرَ حَرسته من جند الظّلمة ، وأثارَ إعجابهم ودهشتهم ،.. وتبيّن لهم من سِرّ أهل هذا البيت صلوات الله وسلامه عليهم ، ما يدع العاقل يتفكّر ويتدبّر ،.. فيا ليتهم كانوا يعقلون !
أُولاها : ما قاله يحيى بن هرثمة في رواية تتناول وصف ذهابه بطلب الإمام ( عليه السلام ) ، وإيابه بإحضاره محاطاً بثلاثمئة رجلٍ ،.. ( مسلّحين ) إذ قال :
( دعاني المتوكل وقال : اختر ثلاثمئة رجلٍ ممّن تريد ، واخرُجوا إلى الكوفة فخلّفوا أثقالكم فيها ، واخرجوا على طريق البادية إلى المدينة ، فأحضِروا عليّ بن محمد ( عليه السلام ) إلى عندي مكرّماً ، معظّماً ، مبجّلاً ،.. ففعلتُ ، وخرَجنا .
وكان في أصحابي قائد من الشّراة ـ الخوارج ـ وكان لي كاتب متشيّع ، وأنا على مذهب الحشويّة ، فكان ( الشاري ) يناظر الكاتب ، وكنت أستريح إلى مناظرتهما لقطع الطريق .
فلمّا صرنا وسط الطريق قال ( الشاري ) للكاتب : أليس من قول صاحبكم عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ( ليس من الأرض بقعة إلاّ وهي قبر ، أو ستكون قبراً ؟ ) فانظر إلى هذه البرّية العظيمة أين مَن يموت فيها ، حتى يملأها الله قبوراً كما تزعمون ؟!
فقلت للكاتب : أهذا من قولكم ؟
قال : نعم .
فقلت : صدقَ ، أين مَن يموت في هذه البريّة العظيمة حتى تمتلئ قبوراً ؟!
وتضاحكنا ساعةً إذ انخذل الكاتب في أيدينا ، وسرنا حتى دخلنا المدينة ، فقصدتُ باب أبي الحسن ، فدخلتُ إليه ، وقرأ كتاب المتوكل وقال : انزلوا ، فليس من جهتي خلاف..
فلمّا صرتُ إليه من الغد ـ وكنّا في تمّوز ، أشدّ ما يكون من الحرّ ـ فإذا بين يديه خيّاط وهو يقطع من ثيابٍ غلاظٍ خفّاتين له ولغمانه ـ والخفتان ثوب شتويّ ـ وقال للخياط : اجمع عليها جماعةً من الخيّاطين ، واعمل على الفراغ منها يومك هذا ، وبكّر بها إليّ في هذا الوقت ، ثمّ نظر إليّ وقال : ( يا يحيى ، اقضوا وَطركم من المدينة في هذا اليوم ، واعمل على الرحيل غداً في هذا الوقت .
فخرجتُ من عنده وأنا أتعجّب منه ومن الخفّاتين وأقول في نفسي : نحن في تمّوز وحرّ الحجاز ، وبيننا وبين العراق مسيرة عشرة أيام ، فما يصنع بهذه الثياب ؟! وقلت في نفسي : هذا رجل لم يسافر ، ويُقدّر أنّ كلّ سفرٍ يحتاج إلى هذه الثياب ، والعجب من الرّوافض حيث يقولون بإمامة هذا ، مع فهمه هذا !
فعدتُ إليه في الغد في ذلك الوقت ، فإذا الثياب قد أُحضرت ، وقال لغلمانه : ادخُلوا وخذوا لنا معكم لبابيد وبرانس ـ ما يُلبس على الرأس والبدن من الثياب الغليظة ـ ثمّ قال : ارحل يا يحيى .
فقلت في نفسي : وهذا أعجب من الأول ! يخاف أن يلحقنا الشتاء في الطريق حتى أخذَ معه اللّبابيد والبرانس ! فخرجتُ وأنا أستصغرُ فهمه..
فسِرنا حتى إذا وصلنا إلى الموضع الذي وقَعت فيه المناظرة في القبور ، ارتفعت سحابة واسودّت ، وأرعَدت وأبرَقت ، حتى إذا صارت على رؤوسنا أرسَلت علينا برداً مثل الصّخور ، وقد شدّ على نفسه ( عليه السلام ) وعلى غلمانه الخفّاتين ، ولبسوا اللّبابيد والبرانس ، وقال لغلمانه : ادفعوا إلى يحيى لبّادةً ، وإلى الكاتب بُرنساً ،.. وتجمّعنا والبرد يأخذنا حتى قُتل من أصحابي ثمانين رجلاً !
وزالت وعاد الحَرّ كما كان ،.. فقال لي : يا يحيى ، أنزِل مَن بقي من أصحابك فادفن مَن ماتَ منهم ، فكهذا يملأ الله هذه البرّية قبوراً ) .
قال : فرميتُ نفسي عن دابّتي ، وعدوتُ إليه فقبّلت رجْله وركابه وقلت : أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) عبده ورسوله ، وأنّكم خلفاء الله في أرضه ، فقد كنت كافراً ، وقد أسلمتُ الآن على يديك يا مولاي.. وتشيّعت ، ولزمتُ خدمتهُ إلى أن مضى ) (115) .
فعن هذه الآية الإلهية استنطِقْ أولئك الأموات ـ الّذين مَلأ الله تعالى البرّية بقبورهم ـ يجيبوك بالحقّ وهم رفات ؛ لأنّ موتهم كان آية بيّنةً من آيات الله تعالى أمدّ بها الإمام ( عليه السلام ) في ساعة الهزء من مولاه ( الكاتب ) الشيعيّ ! وإنّ تلك الرّفات التي صَرع أصحابها البرد لَتَنطق بما عانتهُ من عاقبة العناد ، وبما ذاقته من الموت زؤاماً حين سَخَرت بقول أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين سلام الله عليه !

والثانية : أنّه قيل : ( وجّه المتوكل عتاب بن أبي عتاب إلى المدينة يحمل عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) إلى سرّ مَن رأى ، وكان الشيعة يتحدّثون أنّه يعلم الغيب ، وكان في نفس عتاب من هذا شيء ـ أي كان يستهزئ بهذا القول .
ومن المؤكّد أنّ هذا الرجل كان مع زمرة القصر التي كانت برئاسة يحيى بن هرثمة .
فلمّا فصلَ من المدينة رآه وقد لبس لبّادةً والسماء صاحية ! فما كان بأسرع من أن تغيّمت وأمطرت ! فقال عتاب : هذا واحد.
ثمّ لمّا وافى شطّ القاطول على دجلة رآه مقلق القلب فقال ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ له : ( ما لكَ يا أبا أحمد ؟
فقال : قلبي مقلق بحوائج التمستها من أمير المؤمنين .
فقال : إنّ حوائجك قد قُضيت ) .
فما أسرع من أن جاءته البشارات بقضاء حوائجه ، فقال : إنّ الناس يقولون إنّك تعلم الغيب ، وقد تبيّنتُ ذلك من خلّتَين (116).
فسلام الله وتحياته وبركاته على أعلام التّقى الّذين جعلهم الله سبحانه وتعالى جلاء العمى في الناس ، ونبراس الهدى ، والحجّة العظمى على أهل الدّنيا لِمن كان له أُذن واعية وعقل رشيد ؛ فإنّهم جديرون بالمراتب التي رتّبهم الله عزّ اسمه فيها ، ونحن من أبخل البخلاء حين ننكر عليهم ما أنعمَ به عليهم غيرنا ، مع أنّ الاعتراف بنعمة الله عليهم لا يكلّفنا عبوديةً لهم ، ولا يُحمّلنا صرفاً ولا غَرماً.. بل يكسبنا فضلاً عظيماً وغُنماً جزيلاً..

ومثل قضيّة عتاب كانت قضية زميله أبي العباس الذي كان في جملة الثلاثمئة رجلٍ من جند الخليفة ، وحَدثت معه القصّة الثالثة التي رواها أبو محمدٍ البصريّ عن أبي العباس ، عن شبلٍ ، كاتب إبراهيم بن محمد ، قائلاً :
( كنّا أجرينا ذكر أبي الحسن ( عليه السلام ) فقال لي : يا أبا محمد ، لم أكن في شيءٍ من هذا الأمر ـ أي لم يكن إمامياً معترفاً بالولاية ـ وكنتُ أعيب على أخي وعلى أهل هذا القول عيباً شديداً بالذمّ والشتم ، إلى أن كنت في الوفد الذي أوفدَ المتوكل إلى المدينة لإحضار أبي الحسن ( عليه السلام ) ، فخرجنا إلى المدينة .
فلمّا خرجَ وصرنا في بعض الطريق ، وطوَينا المنزل ، وكان منزلاً صائفاً شديد الحرّ ، فسألناه أن ينزل فقال : ( لا .
فخرجنا ولم نطعم ، ولم نشرب..
فلمّا اشتدّ الحرّ والجوع والعطش ، وبينما نحن كذلك في أرض ملساء لا نرى شيئاً ولا ظلاًّ ولا ماءً نستريح إليه ، فجعلنا نشخص بأبصارنا نحوه ، قال : ( وما لكم ؟ أحسبكم جياعاً ، وقد عطشتم .
فقلنا : إي والله يا سيّدنا ، قد عَيينا .
قال : عرّسوا ، وكلوا ، واشربوا .
فتعجّبت من قوله ونحن في صحراء ملساء لا نرى فيها شيئاً لنستريح إليه ، ولا نرى ماءً ولا ظلاًّ !
فقال : ما لكم ؟! عرّسوا .
فابتدرتُ إلى القطار ـ القافلة ـ لأُنيخ ، ثمّ التفتّ وإذا أنا بشجرتين عظيمتين يستظلّ تحتهما عالَم من الناس ، وإنّي لأعرف موضعهما أنّه أرض براح قفراء ! وإذا بعينٍ تسيح على وجه الأرض أعذب ماءٍ وأبرده ! فنزلنا وأكلنا وشربنا واسترحنا ، وإنّ فينا مَن سلكَ ذلك الطريق مراراً .
فوقعَ في قلبي ذلك الوقت أعاجيب ، وجعلتُ أحِدّ النظر إليه وأتأمّله طويلاً ، وإذا نظرتُ إليه تبسّم وزوى وجهه عنّي !
فقلت في نفسي : لأعرفنّ هذا ، كيف هو ؟! فأتيتُ وراء الشجرة فدفنتُ سيفي ووضعت عليه حَجَرين ، وتغوّطت في ذلك الموضع وتهيّأت للصلاة .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : استرحتم ؟!
قلنا له : نعم .
قال : فارتحِلوا على اسم الله ، فارتحلنا .
فلمّا أن سِرنا ساعةً رجعت على الأثر ، فأتيت الموضع فوجدت الأثر والسيف كما وضعتُ والعلامة ، وكأنّ الله لم يخلق ثَمّ شجرةً ولا ماءً ، ولا ظلاًّ ولا بللاً ! فتعجّبت من ذلك ورفعت يديّ إلى السماء فسألت الله الثبات على المحبّة والإيمان به ، والمعرفة منه ،.. وأخذتُ الأثر ولحقتُ القوم..
فالتفت إليّ أبو الحسن ( عليه السلام ) وقال لي : يا أبا العباس ، فَعَلتَها ؟!
قلت : نعم يا سيّدي ، لقد كنت شاكّاً ، وأصبحتُ أنا عند نفسي من أغنى الناس في الدّنيا والآخرة .
فقال : هو كذلك ، هم معدودون معلومون ـ أي الشيعة ـ لا يزيد رجل ولا ينقص ) (117) .
والأسئلة التي تفرض نفسها علينا هي : لماذا تعمّد الإمام ( عليه السلام ) أن يُعرّس هذا العدد الهائل من الجند في صحراء ملساء حرّها لاهب ؟! ولِم أنبتَ الله تعالى هاتين الشجرتين ، وفجّر قربهما الماء العذِب البارد ؟!
ولماذا أجرى الله تبارك وتعالى على يدَي الإمام هذه المعجزة في ذلك المكان ، وذاك الزمان ؟! أليتشيّع أبو العباس ، أو عتاب ، أو هرثمة ورجاله ؟!
لا ، طبعاً.. لا من أجل ذلك ، ولا من أجل ما يدور في فكرك لأوّل وهلة ،.. بل من أجل أن تخلد هذه الآية على المدى البعيد ، فتصلني وتصلك فنؤمن بالله وبكتُبه وملائكته ورسُله وأوليائه الأصفياء ،.. ثمّ من أجل أن يَشحن يومئذ ثلاثمئة قوّة مدمّرةٍ يلقيها من حول عرش الظّلم ، ومن أجل أن يشاع ذلك ويذاع في جيشٍ كان عدد أفراده تسعين ألفاً يُحدقون بصرَ ذلك الحاكم ، المتحكّم برقاب الناس من غير أن يُنصّبه عليهم ربّ ولا انتخاب ؛ ولينتشر أمر الإمام الحقّ ويشتهر في كل مكان ، وكل زمان .
وإنّ الإنسان ليقف حائراً أمام كثير من أفعال الإمام ( عليه السلام ) وأقواله ، التي تتناول الغيب وتأتي بالخوارق ،.. ومتفكّراً في تحليلها تحليلاً يتقبّله ذهنه ، وفي فلسفتها فلسفةً يتهضّمها عقله ،.. فيعجز لدى التفكير والتحليل ، ولا يرى إلاّ الإذعان لأفعال الخالق الجليل عزّ وعلا ، والإيمان بانتجاب هذا الإمام العظيم الذي يُدلّ الناس على عظمة الخالق من خلال عظمة مخلوقه ، وعلى قدرته سبحانه وما اختصّ به أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ممّا لم يختصّ به أحداً من خلقه حتى الأنبياء السابقين وأوصياءهم ؛ لأنّهم ـ هم وحدهم ـ ورثة النبيّين والوصيّين جميعاً ، وعندهم ما كان عندهم ، مضافاً إليه ما كان عند جدّهم الأعظم ( صلّى الله عليه وآله )..

وأرجو أن لا يكون قارئي الكريم قد نسيَ ذكر خان الصعاليك الذي نزلَ فيه الإمام ( عليه السلام ) ليلة وروده سرّ مَن رأى ؛ لئلاّ يفوته ذكر واحدةٍ من آيات الإمام ـ في ذلك الخان ـ تُبيّن له كيف تكون سفارة السماء.. على الأرض ! فإنّ سفير الله تعالى في عباده ، ليس هذا منزله في الدّنيا يا أيّها ( المتوكل ) الذي احتجب عنه بكبرياء ( السلطان ) والطغيان ،.. ولا يمكن أن يكون منزله كذلك ولو رأيناه في العيان !
أجل ، قال صالح بن سعيد : ( دخلتُ على أبي الحسن يوم وروده ـ إلى سرّ مَن رأى ـ فقلت له : جُعلت فداك ، في كلّ الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك ، حتى أنزلوك في هذا الخان الأشنع ، خان الصعاليك !
فقال : ( هاهنا أنت يا بن سعيد ! ـ أي : أنت في هذه المرتبة من معرفتنا ، وتظنّ أنّ هذه الأمور تُنقص من قدْرنا ؟ ـ ثمّ أومأَ بيده وقال : انظر..
فنظرتُ ، فإذا أنا بروضاتٍ أنيقاتٍ ، وأنهارٍ جارياتٍ ، وأطيارٍ وظِباءٍ ، وجنّاتٍ فيها خيرات عطرات ، وولدانٍ كأنّهم اللّؤلؤ المكنون ! فحارَ بصري ، وحسرَت عيني ، وكثر تعجّبي !
فقال لي : حيث كنّا فهذا لنا عتيد يا بن سعيد ! لسنا في خان الصعاليك ) (118) .
فصالح بن سعيدٍ الغيور على كرامة إمامه ، قد اقتصرَ نظره وعلمه على المظاهر الزائلة من مباهج الحياة ، وقصرَ ـ حينها ـ عن إدراك اللّذة الرّوحانيّة العلويّة ، فعظُم عليه أن يرى إمامه في منزلٍ مُعَدّ لعامّة الفقراء والمساكين ، وظنّ أنّ ذلك يحطّ من منزلته ، فأراه الإمام ( عليه السلام ) أنّ مثل هذه الحالة يضاعف من علوّ منزلته عند ربّه ،.. ثمّ كشفَ له عمّا هيّأه سبحانه له من كريم المقام وحسن المنزل أينما أقام ،.. وأظهرَ له بعض آياته ؛ ليشتهر إعجازه بين النّاس فتقوم الحجّة على الخصوم ، وتتثبّت قلوب شيعته فلا يلج إليها نَفث الشيطان ،.. وعلى هذا الأساس استفتحَ أولى لياليه في سرّ مَن رأى بهذه الآية ؛.. ليسمع الناس ويروا ،.. ولنسمع ونرى عِبر الدوران عناية الخالق بعباده المنتجبين الّذين جَعلهم خيرة الخلق أجمعين..
أفكان للناس عَجباً أن يكون للإمام مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل ؟! لا ، بل هو في كنف بارئه حجّة منذ بَرأه ، وفي عين خالقه ممتاز عن الآخرين ، مميّز عن العالَمين ، منذ صوّره وخلقه ،.. قد جعلَ له مثل ذلك وأكثر أينما حلّ أو ارتحل ، ولكنّنا لا نراه.. ويراه ؛ لأنّ حواسّ أولياء الله وخلفائه في أرضه تختلف قدراتها عن قدرات حواسّنا بحسب ما خلقها الله تعالى عليه ؛ فإنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) كان يرى جبرائيل الأمين ( عليه السلام ) وكثيرين من الملائكة ، ويسمع كلامهم ويخاطبهم ـ وكذلك سائر الأنبياء ـ ولا يُكذّب بذلك إلاّ الكافرون ـ في حين أنّ صحابة النبيّ لم يروه مَلَكاً ولا سمعوا كلامه !
فأهل البيت ( عليهم السلام ) مجهّزون بما أهّلهم لخلافة النبيّ وخلافة الله عزّ اسمه بدون أدنى شك ،.. والسفير عن العرش السماويّ أولى من السفير عن أيّ عرشٍ أرضيّ بأن تكون لديه إمكانات تفوق حدّ المعقول ؛ لأنّه يمثّل العزيز الجبّار الذي ( وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (119) .
فلا جرمَ أن يُسخّر لسفيره المنتدب لأمره سائر مخلوقاته ؛ ليكون جديراً بتمثيل القدرة الإلهيّة التي تقول للشيء : كن ، فيكون ،.. وإذا لم يكن ذلك كذلك ، تَبطل آيات الأنبياء والرُسل ، وتذهب ثمّة حجج الأوصياء والأولياء والأصفياء أدراج الرياح .
فلا غرابة في أن نرى عبده الصالح ـ الذي يحمل أمره ودعوته ـ يستريح في مثل تلك الجنّة الوارفة الظلاّل ، بعد وعثاء السفر الذي حَمله عليه عبد جائر يريد أن يبارز الله تعالى في مُلكه ، ويحجب عن الناس حجّته البالغة ،.. حتى ولو رأيناه ـ ظاهراً ـ في خان الصعاليك الذي أزرى ساعتئذ بقصر الخليفة ، وأنافَ على داره ومقرّ قراره ؛.. لأنّه كان النافذة المطلّة من السماء على الأرض ، تنشر منها الرحمة والخير والبركة على قلب كلّ عبدٍ منيب .

آياتٌ في قصر الإمارة والمؤامرات أيام المتوكل
.. ودخلَ الإمام ( عليه السلام ) إلى القصر ؛ ليكون صرخةً صاعقةً في وجه صاحب القصر ، ومستشاريه ، ووزرائه ، وكلمةً ماحقةً لقُضاته وضفادعه النقّاقة ، وكبرائه .
ومعجزةً ساحقةً لكيدهم ومكرهم ،.. بما ظهرَ من أمر انتدابه لحمل كلمة الله ،.. ومن آياته ومعجزاته التي كانت بأمر الله تعالى وبإذنه .
وبشيراً ونذيراً ،.. يمنع الزّيادة في الدّين ،.. ولا يرضى بالنّقصان فيه..

( رويَ في إثبات الوصيّة أنّه ( عليه السلام ) ، دخلَ إلى دار المتوكل مرّةً فقام يصلّي ، فأتاه بعض المخالفين فوقفَ حياله فقال له : إلى كم هذا الرّياء ؟!
فأسرعَ الصلاة وسلّم ، ثمّ التفتَ إليه فقال : ( إن كنت كاذباً سحتكَ الله ) .
فوقعَ الرجل ميّتاً ، فصار حديث الدار ! ) (120) .
.. ولم يرتح لهذه الظاهرة القاهرة صاحب الدار ، ولا مَن فيه من جِرذان تَقضم لذائذ الأطعمة فتنتفش كروشها ، وتخضم أموال المسلمين التي ستكوى بها جباهها !
فإن يستفتحوا مع الإمام ( عليه السلام ) بمثل هذا البادرة المذهلة ،.. فقد ( وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (121) .
وأن ينالوا من ( ضيف ) القصر الذي قالوا إنّهم ( مشتاقون ) إليه ويؤذوه بُعيد وصوله ، فليس ذلك من الميسور لهم مهما بلغَ بهم الكيد لبني عليّ والزّهراء ( عليهما السلام )..
وأن يصبروا على ظهور كراماته ودلالاته ، فذلك هو العَلقم في لهواتهم ،.. بل هو ( كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ) (122) ويُقطّع أمعاءهم !
فليبتلعوا الصّبر ،.. أو ليشربوا البحر ،.. فليس في اليد ـ الآن ـ حيلة .
وهاهو ذا ( عليه السلام ) ـ أيضاً ـ يأتيه رجل من أهل بيته اسمه معروف ويقول له : ( جئتك وما أذنتَ لي .
قال ( عليه السلام ) : ( ما علمتُ بك ، وأُخبِرتُ بعد انصرافك ، وذكرتني بما لا ينبغي .
فحلفَ ما فعلتُ ،.. وعَلم أبو الحسن ( عليه السلام ) أنّه كاذب فقال : اللّهمّ إنّه حَلفَ كاذباً ، فانتقم منه ) فماتَ من الغد ) (123) .
وانتشر الخبرَ الثاني وذاع ، وانتقل من أسماع إلى ألسنةٍ فأسماع ، فسارَ بين المؤالفين والمخالفين ،.. فكانت البادرة الثانية ثانية الأثافي !
فما العمل وقد أخذَت تَرجح بالإمام ـ وتشيل بعدوّه ـ كفّة الميزان ، في كلّ مكان !
أمّا ثالثة الأثافي فلا تستعجل عليها ؛ لأنّها استمرّت ألفاً وثلاثمئة وخمسين ليلةً وليلة ، إذ دامت ثلاثة أعوام وتسعة شهور بين المتوكل و( ضيفه ) الذي استقدَمه ( مشتاقاً ) إلى.. الإيقاع به وقتله مهما كلّف الأمر ! فكادَ له ودبّر وكادَ هو وأعوانه ،.. ولكنّه سبحانه قال : ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً ) (124) ، وقد قُتِل الخليفة ( المشتاق ) قبل أن يظفر بأمنيته ( وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ) (125) !

وقبل أن ننتقل إلى استعراض آيات الله عزّ وجلّ التي ظهرت على يد سيّدنا أبي الحسن الهادي ( عليه السلام ) طيلة عشرين عاماً ، قضاها بين أشرس أعدائه وأشدّهم حقداً عليه ، نُبقي المتوكل قليلاً في صفوف المشاهدين ـ المتفرّجين ؛ لنعرض ( مناظر ) الشريط أولاً ، ثمّ نورد الأحداث العديدة التي جرت له معه ؛ فإنّ المتوكل كان أشدّ بني العباس عداوةً للعلويّين ، وهو الذي جعجعَ بالإمام ( عليه السلام ) ، وألزمهُ بهجر وطنه ومنازل الوحي المقدّسة التي ولِد وترعرعَ وشبّ فيها ، وأشخصه من الحجاز إلى العراق ليقف في وجه كلمة الحقّ التي يحملها ،.. وليقتله متى استطاع !
فمن مناظر تلك التمثيليّة : أنّه ( نقلَ بعض الحفّاظ أنّ امرأةً زَعمت أنّها شريفة بحضرة المتوكل ؛ فسألَ عمّن يخبره بذلك ، فدلّ على عليّ الرّضا ( عليه السلام ) ـ وهذا خطأ سنوضّحه ؛ لأنّه دلّ على ابن الرّضا ـ .
فجاء فأجلسهُ معه على السرير وسأله ؟ فقال : ( إنّ الله حرّم لحم أولاد الحَسنين على السّباع ، فلتُلقَ للسّباع ) .
فعرضَ عليها ذلك ، فاعترَفت بكذبها .
ثمّ قيل للمتوكل : ألا تجرّب ذلك فيه ؟
فأمرَ بثلاثةٍ من السّباع ، فجيء بها في صحن قصره ، ثمّ دعاه .
فلمّا دخلَ باب القفص أُغلقَ عليه والسّباع قد أصمّت الأسماع من زئيرها !
فلمّا مشى في الصّحن يريد الدرجة ، مشت إليه وقد سكنت وتمسّحت به ودارت حوله وهو يمسحها بكمّه ، ثمّ رَبضت !
فصعدَ المتوكل وتحدّث معه ساعةً من وراء قضبان القفص الحديديّ فَفعلت معه ـ أي مع الإمام ( عليه السلام ) ـ كفعلها الأول حتى خرجَ ، فأتبعهُ المتوكل بجائزة عظيمة !
فقيل للمتوكل : افعل كما فعل ابن عمّك .
فلم يجسر عليه وقال : أتريدون قتلي ؟!
ثمّ أمَرَهم أن لا يُفشوا ذلك ) (126) .
( وذُكرَ أنّ ابن الجهم قال : فقمتُ وقلت للمتوكل : يا أمير المؤمنين ، أنت إمام ، فافعل كما فعلَ ابن عمّك .
فقال : والله ، لئن بلّغني أحد من الناس ذلك ، لأضربنّ عنقك وعنق هذه العصابة كلّهم !
فو الله ما تحدّثنا بذلك حتى مات (127) .
لقد خابَ ظنّ المتوكل حين حسبَ أنّ السّباع تفترس الإمام وتريحه منه ؛ ولذلك أسرعَ بإحضار السّباع الجائعة على جناح السرعة ، زعماً بأنّ فرصة الخلاص منه قد سَنحت ،.. فتحطّم أمله وكذّبه حُلمه الذهبيّ بقتل الإمام بفتوى الإمام نفسه ، وبحضور شهود الزّور في تلك القصور !
( ونقلَ المسعودي أنّ صاحب هذه الحادثة هو ابن ابن عليّ الرّضا ، وهو عليّ العسكريّ ، وصوّب ـ ذلك وهو على حقّ ـ ؛ لأنّ الرّضا ( عليه السلام ) توفّي في خلافة المأمون اتّفاقاً ولم يُدرك المتوكل ) (128) ، فالحادثة وقَعت مع المتوكل بلا شك ؛ ولذلك علّق ابن حجر الهيثمي عليها في صواعقه المحرقة ـ في ترجمة إمامنا ( عليه السلام ) بقوله :
( ومرّ أنّ الصواب في قضيّة السّباع الواقعة من المتوكل ، أنّه ـ أي الهادي ( عليه السلام ) ـ هو الممتحَن بها ، وأنّها ـ أي السّباع ـ لم تقربه ، وهابته ، واطمأنّت لمّا رأتهُ ) (129) .
فممّا لا شكّ فيه أنّ القصّة حَصلت مع إمامنا هذا لا مع جدّه ( عليهما السلام ) .
وقد روى أبو الهلقام ، وعبد الله بن جعفر الحميريّ ، والصقر الجبليّ ، وأبو شعيب الحنّاط ، وعليّ بن مهزيار ، قائلين : ( كانت زينب الكذّابة تزعم أنّها بنت عليّ بن أبي طالب ، فأحضَرها المتوكل وقال : اذكري نَسَبك .
فقالت : أنا زينب بنت عليّ ،.. وأنّها كانت حُملت إلى الشام فوقعت إلى باديةٍ من بني كلبٍ ، فأقامت بين ظهرانيهم .
فقال لها المتوكل : إنّ زينب بنت عليّ قديمة ، وأنت شابّة !
فقالت : لحَقتني دعوة رسول الله بأن يرد إليّ شبابي في كلّ خمسين سنة .
فدعا المتوكل وجوه آل أبي طالب ، فقال : كيف نعرف كذبها ؟
فقال الفتح ـ بن خاقان ـ : لا يخبرك بهذا إلاّ ابن الرّضا .
فأمرَ بإحضاره وسأله ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( إنّ في وِلْد عليّ علامة .
قال : وما هي ؟
قال : لا تعرِض لهم السّباع ، فألقِها إلى السّباع ، فإن لم تَعرض لها فهي صادقة ) .
فقالت : يا أمير المؤمنين ، الله الله فيّ ، فإنّما أراد قتلي ! وركبَت الحمار وجعلَت تنادي : ألا إنّني زينب الكذّابة !
وفي روايةٍ أنّه عُرضَ عليها ذلك فامتنعت ، فطُرحت للسّباع فأكلَتها ) (130) .
وقيل : ( إنّ أمّ المتوكل استوهبتها منه فوهَبها لها ) (131) .
أمّا ذكر حدوث القصّة مع الإمام الرّضا ـ الجدّ ـ ( عليه السلام ) في أيام المأمون ، فقد روي أنّه ( دخلَ الإمام الرّضا ( عليه السلام ) على المأمون وعنده زينب الكذّابة التي كانت تزعم أنّها ابنة عليّ بن أبي طالب ، وأنّ عليّاً دعا لها بالبقاء إلى يوم القيامة ، فقال المأمون للإمام ( عليه السلام ) : سلّم على أختك .
فقال : ( والله ، ما هي أختي ، ولا ولَدَها عليّ بن أبي طالب .
فقالت زينب : والله ما هو أخي ، ولا ولَده عليّ بن أبي طالب .
فقال المأمون للرّضا ( عليه السلام ) : ما مصداق قولك ؟
قال : إنّا أهل البيت لحومنا محرّمة على السّباع ، فاطرَحها إلى السّباع ، فإن تكُ صادقةً فإنّ السّباع تغبّ لحمها ـ أي تقرّبه مرةً ، وتتركه أخرى ، وتأنف أن تذوقه .
قالت زينب : ابدأ بالشّيخ .
فقال المأمون : لقد أنصفتِ .
قال الرّضا ( عليه السلام ) : أجل .
ففُتحت بركة السّباع ، وأُضربت ـ أُهيجت ـ فنزلَ الرّضا إليها ! فلمّا أن رأته بَصبصت ـ أي طأطأت رؤوسها ، وحرّكت أذنابها ـ وأومَأت له بالسجود ، فصلّى ما بينها ركعتين ، وخرجَ منها .
فأمرَ المأمون زينب لتنزل ، وامتنعت ،.. فطُرحت إلى السّباع فأكلَتها ) (132) .

.. وفي كلّ حال طاشَ سهم المتوكل حين عاش لحظاتٍ سعيدة خاطفةً ، كان أثناءها يحلم برؤية السّباع تُمزّق جسد الإمام ، الذي أذهبَ الله تعالى عنه الرّجس وطهّره تطهيراً ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (133) .
وخسئ كلّ مَن أرادَ مبارزة الله تعالى في قدرته ، وتحدّيه في مشيئته ، والاعتراض عليه سبحانه في انتجاب أهل البيت النّبويّ الشريف وجعلهم أمناءه وخلفاءه..
ولكن.. كيف غابت عن ذهن المتوكل فعلة هارون الرشيد ـ بالأمس ـ مع أحد أبناء عليّ ( عليه السلام ) ، وفَشله في محاولته الخسيسة معه ، يوم كان المتوكل شريكه فيها ؟! فقد قال ابن حجر في الصواعق المحرقة ـ تعليقاً على دخول الإمام ( عليه السلام ) إلى قفص السّباع ولواذها به ، وتمسّحها بأعطافه الشريفة ـ :
( ويوافقه ما حكاه المسعودي وغيره : أنّ يحيى بن عبد الله المحض بن الحسن المثنّى بن الحسن السّبط ( عليه السلام ) ، لمّا هربَ إلى الدّيلم ثمّ أتى به الرشيد وأمرَ بقتله ، أُلقيَ في بركةٍ فيها سباع قد جوِّعت ، فأمسَكت عن أكله ، ولاذَت بجانبه ، وهابت الدّنوّ منه ! فبنى عليه ركن بالجصّ وهو حيّ بأمر المتوكل (134) ، الذي كان إذ ذاك في مقتبل عمره ولم يتربّع بعد على ذلك العرش الظالم ، الذي لم تنزل أحكامه في قرآنٍ ولا في سنّة ،.. فلم يتّعظ بتلك الآية التي يتّعظ بها مَن كان على غير الإسلام ، بل جرّب مثلها مع إمام الحقّ وسيّد الخلق في زمانه بجرأة الفراعنة المتربّبين !
آية ذلك : أنّ المتوكّل نبتَ لحمه ونما عظمه على كُره العلويّين ، الذي كان لا يستطيع تبريره حتى فيما بينه وبين نفسه ؛ ولذلك دأبَ على الحطّ من شأن الإمام الهادي ( عليه السلام ) إبّان عهده الطويل ، فما ازدادَ الإمام إلاّ رفعةً وعزّة.. ( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) (135).. وأبو الحسن الهادي يومئذٍ هو رأس المؤمنين ،.. ووليّ الله عليهم ،.. وإمامهم..
قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره :
( حدّثني أبي قال : أمرَ المعتصم أن يحفر بالبطانية بئر ، فحفر ثلاثمئة قامةٍ فلم يظهر الماء ، فتركهُ ولم يحفره .
فلمّا وليَ المتوكّل أمرَ أن يُحفر ذلك البئر أبداً حتى يظهر الماء ، فحفروا حتى وضعوا في كلّ مئة قامةٍ بَكرةً ، حتى انتهوا إلى صخرةٍ فضربوها بالمِعوَل فانكسرت ، فخرجَ منها ريح باردة فمات مَن كان بقُربها ! فأخبروا المتوكل بذلك فلم يعلم ما ذاك ؟ فقالوا : سل ابن الرّضا عن ذلك ، وهو أبو الحسن عليّ بن محمد العسكري ( عليه السلام ) .
فكتبَ إليه يسأله عن ذلك ؟ فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( تلك بلاد الأحقاف ، وهم قوم عادٍ الذين أهلكهم الله بالريح الصّرصر ) (136) .
فالإمام ( عليه السلام ) هو مرجعهم دائماً وأبداً ،.. وفي كلّ معضلة .

ونفتح الستار ـ بعد انتهاء ( المناظر ) التي ظهرَ فيها جانب ممّا كان عليه صاحب القصر في سامرّاء ، حين كان في مجلس الحكم ، وعلى عرش السلطة ؛ ليظهر مَن كان يُلقّب ( بأمير المؤمنين ) ، وخليفة رسول ربّ العالمين ، في مجلسه الخاصّ في منزله وقد تحرّر من عبء السّلطة ، وخَلعَ ربقة الإسلام من عنقه ؛ لأنّه لا يعرف في الدّين قُبيله من دُبيره ،.. مُبتدئين بما رواه الفحّام ، عن المنصوريّ ، عن عم أبيه الذي قال :
( دخلتُ يوماً على المتوكّل وهو يشرب ، فدعاني إلى الشرب ، فقلت : يا سيّدي ، ما شربته قط !
قال : أنت تشرب مع عليّ بن محمد ! يعني بذلك الإمام ( عليه السلام ) !
فقلت له : ليس تعرف مَن في يديك ،.. إنّه يضرّك ، ولا يضرّه ! أي أنّ خليفة المسلمين الذي قعدَ مقعد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، والذي يعيش بين الكأس والطّاس ، ويجهل شأن الإمام ، وفريته عليه ، تضرّه ولا تضرّ الإمام .
ثمّ قال : ولم أعد ذلك عليه ) (137) أي أنّه لم يُعد حديث المتوكل على سمع الإمام ( عليه السلام ) .
قال : فلمّا كان يوم من الأيام ، قال لي الفتح بن خاقان : قد ذُكر عند الرجل ـ يعني المتوكل ـ خبر مالٍ يجيء من قمّ ، وقد أمرَني أن أرصدهُ لأخبره به ، فقل لي من أيّ طريقٍ يجيء حتى أجتنبه .
فجئت إلى الإمام عليّ بن محمدٍ ، فصادفتُ عنده مَن أحشمه ، فتبسّم وقال لي : ( لا يكون إلاّ خيراً يا أبا موسى ، لِمَ لَم تعِد الرّسالة الأوّلة ؟!
يعني : لِمَ لَم تذكر لي فرية المتوكل عليّ واتّهامه لي بالشرب ؟!
فقلت : أجللتُك يا سيّدي .
فقال : المال يجيء الليلة وليس يصلون إليه ، فبِت عندي .
فلمّا كان من اللّيل قامَ إلى ورده ، وقطعَ الرّكوع بالسلام وقال لي : قد جاء الرجل ومعه المال ، وقد منعهُ الخادم الوصول إليّ ، فاخرج خذ ما معه .
فإذا معه زنفيلجة فيها المال ، فأخذتهُ ودخلت إليه ، فقال : قل له : هات الجبّة التي قالت لك القمّية إنّها ذخيرة جدّتها .
فخرجتُ إليه فأعطانيها ،.. فدخلت بها إليه فقال لي : الجبّة التي أبدلتَها منها ، ردّها إليها ، فخرجت إليه فقلت له ذلك ، فقال : نعم ، كانت ابنتي استحسنتها فأبدَلتها بهذه الجبّة ، وأنا أمضي فأجيء بها .
فقال : اخرج فقل له : إنّ الله تعالى يحفظ ما لنا علينا ، هاتها من كتفك !
فخرجتُ إلى الرجل فأخرجتها من كتفه ، فغشيَ عليه !
فخرج َالإمام ( عليه السلام ) إليه فقال له : قد كنتَ شاكّاً فتيقّنتَ ؟! ) (138) .
وتستوقفنا هذه الرواية بالأسئلة الكثيرة التي تزدحم حولها ، وبالتعجّبات التي تثيرها ، ودلائل الإمامة التي تحتويها دون أن تصرف نظرنا عن سكر الخليفة وخمره..
فمن العادة والمألوف أنّ خليفة المسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ،.. ويقيم الحدّ على شارب الخمر فيما يقيم من حدود ما أنزل الله تعالى ،.. أمّا هذا الخليفة فإنّه مع الزّيّ الجديد فهو سكّير خمّير ، يشربها ، ويأمر بها ، ويدعو إليها ،.. ثمّ يجترح فريةً على الإمام يهتزّ لها عرش الرحمان ! ويكذب على الرجل ، ويكذب على نفسه بتلك التّهمة الشّنيعة حين يقول : أنت تشرب مع عليّ بن محمد !
فَدَعنا من سُكر هذا الخليفة وعهره ، ومن خموره وفجوره ؛ لئلاّ ننصرف عن جوهر ما مرّ من الآيات في هذه الرّواية .
لقد كتمَ الرجل فِرية المتوكل على الإمام ،.. فمَن بلّغه إياها حتى قال للرجل : ( لِمَ لَم تعد عليّ الرّسالة الأوّلة ؟! )
ثمّ كان أن جاء الرجل ليخبر الإمام أنّ الخليفة عرفَ بالمال القادم إليه من قمّ ، وأنّه كلّف مَن يرصده ليصادره ويقبض على ناقله ،.. ودخلَ على الإمام ولم يفاتحه بذلك احتشاماً ممّن وجدهُ بحضرته.. فمَن عَرّف الإمام أنّ الرّجل قادم بهذا الشأن ؟! حتى تبسّم وقال له : ( لا يكون إلاّ خيراً ، فاطمئنّ على المال ) .
ومَن أخبره ( عليه السلام ) أنّ المال يصل الليلة ، وأنّ ( عيون ) القصر تعمى عنه ؟
ولماذا ألزم الرجل بالمبيت عنده ؟ وكيف شعرَ بوصول المال أثناء صلاته في الليل وقبل أن ينصرف منها ؟
وكيف عَلم أنّ الخادم منعَ ناقل المال من الدخول عليه ؟!
ثمّ مَن أخبرهُ بجبّة القمّية ؟ وأنّها من ذخيرة جدّتها ؟! وكيف عرفَ استبدالها بغيرها ؟! ومَن دلّه على مخبئها من كتف الرجل ، وأنّ الرجل كان غير صادقٍ حين قال : أنا أمضي وأجيء بها ؟!
ولماذا ـ أخيراً ـ أُغشيَ على الناقل حين استخراجها من كتفه ؟!
وما سبب خروج الإمام ( عليه السلام ) إليه ؟! و ، و ، و.. إلخ ، فإنّنا قد نَفدت عندنا أدوات الاستفهام وبقيت التساؤلات ، وتَعِبت منّا : لماذا ، وكيف ، ومَن ، وماذا وغيرها !
ورحمَ الله أبا نؤاسٍ الذي قال بمدح الإمام الرّضا ( عليه السلام ) حين عوتِبَ بعدم مَدحه :
قيل لي أنت أشعر الناس طرّاً
فـي فـنونٍ من الكلام النّبيه
لـك مـن جيّد القريض نظام
يـثمر الـدُرّ في يدي مجتنيه
فعلامَ  تركتَ مدح ابن موسى
والـخصال  التي تجمّعنَ فيه
قـلتُ لا أسـتطيع مدح إمامٍ
كـان جـبريلُ خـادِماً لأبيه
فلا عجبَ أن يأتي الإمام علم ذلك كلّه بواسطة محدّثيه ومسدّديه من الملائكة المسخّرين لخدمته كسفير لله عزّ وجلّ ، ولا غرابة أن يأتي الإمام بهذه الآيات ولا بغيرها ، طالما هو مرفود بعناية الخالق العزيز الجبّار ، الذي لا يعجزه شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ؛ فإنّ أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قد أتعبوا سلاطين عصورهم أكثر ممّا نُتعب نحن أدوات الاستفهام حول أقوالهم ، وأفعالهم ، وآياتهم ، وبيّناتهم..
وأولئك السلاطين لم يكونوا عديمي الفهم ، ولا قليلي الإدراك ، بل كان أكثرهم على جانبٍ كبيرٍ من الوعي ، وقسطٍ عظيمٍ من العلم ، ولكنّهم كانوا فراعنة مُلكٍ استحوذَ عليهم حُبّ المِلك والتسلّط ، فقعدوا مقعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وحكموا بغير ما أنزل الله تعالى عليه ، وأخافوا ذرّيته وأرعبوهم ؛ لئلاّ يَحولوا بينهم وبين دنياهم ، ثمّ قتلوهم ولم يراعوا للنبيّ فيهم إلاًّ ولا ذمّةً متناسين قول الله عزّ وعلا : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (139) متصامّين عن قوله سبحانه ، وذاهبين في الغيّ كلّ مذهب..
إنّ حادثةً واحدةً كهذه التي مررتَ بها ، تجد فيها أكثر من عشر آياتٍ بيّناتٍ أتى بها إمامنا العظيم ، ثمّ لم يدعها طيّ الكتمان ، بل صرّح بها أمام رجلٍ يتردّد بينه وبين القصر ، وأمام رجلٍ آخر جاء من إيران شاكّاً متحيّراً ، لم يُخبّئ الجبّة ليسرقها ، ولا استحسنتها بنته فاستبدَلتها ، بل أراد أن يبحث عن الحقّ فيتّبعه ؛ لأنّه لا ينتمي إلى ( تنابل ) القصر الذين يرون الآيات ، ويتغاضون في سبيل فتات الموائد ، ولَحس الصحون ، وملء الكروش والجيوب ! ممّا صَرفهم عن الإيمان ، وأنساهم ذكر ربّهم!
فقل لصاحب القصر وأعوانه ومشيريه ومُخبريه : قد ( فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ ) (140) أفأمِنتم مكر الله حين استسلمتم للشهوات ، وكِدتم لعترة نبيّكم ومكرتُم بهم ، أم كنتم على غير ملّة الإسلام ؟! إنّ نُطقكم بالشهادتين لا يغرّ إلاّ الجَهلة ،.. فقد آمَنتم ببعض الدّين وكفرتم ببعض ، وعَبدتم الله على حرفٍ ! ومَن فعلَ ذلك فلا إيمان له ولا أمانَ على أبناء رسول الإسلام منه ، ولو كانوا من أكرم خَلق الله عليه ، ومَن آذاهم فقد أذاه ، ومَن آذاه فقد آذى الله .
أجل ، قد مَنع هؤلاء أئمّة المسلمين من إيصال كلمة الحقّ إلى المسلمين ،.. وبزعمي أنّ تبرير أذيّتهم من قِبل الأمويّين الموتورين ، أسهل من تبرير أذيّة العباسيّين لهم وأيسر ؛ لِمَا كان بين أولئك وأولئك من تِراتٍ وذحول ، ولِمَا كان بين هؤلاء وهؤلاء من قربى وإفضال .
فكأيّن من هنَاتٍ وهنَاتٍ كانت للمتوكل مع إمامنا الشابّ ( عليه السلام ) ! وكم له معه من تصرّفاتٍ يَندى منها جبين الإنسانية خجلاً ؛ لِما كان عنده من جرأةٍ على الله ، ومن استهانةٍ بأوليائه وأصفيائه وحَملة دعوته !! فإنّك إذا راقبتَ أفعاله معه ، تظنّ أنّ هذا الخليفة التّعيس كان متفرّغاً لأذيّته ( عليه السلام ) ، راصداً قسطاً كبيراً من وقته لمحاولة انتقاص قدره ؛ إذ ظلّ أكثر وقته يتعمّد الحطّ من شأنه ، وما فتئ يضيّق عليه إلى أن بترَ الله تعالى عمره ،.. إذ لمّا حاولَ قتلهُ فعلاً ، قتلهُ الله تعالى شرّ قتلةٍ فاختلطت أشلاؤه المقطّعة إرباً إرباً بأشلاء وزيره ، قبل أن ينال بُغيته اللّئيمة كما سترى .
نعم ، قد تحدّاه كثيراً ليوقِعه في فخاخ مكائده فأنجاه الله ! وأرادَ مراراً أن يزلّ لسانه بكلمةٍ فيأخذه بها أخذاً ظالماً ، فجلّ لسان المعصوم عن أن يزلّ ، وجلّت قدرة الله سبحانه عن أن تَخذل عبده الناطق بلسان توحيده ، الصادع بأمره بين عباده .

قال عليّ بن يحيى بن أبي منصور :
( كنتُ يوماً عند المتوكل ، ودخلَ عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى ( عليهم السلام ) ، فلمّا جلسَ قال له المتوكل : ما يقول وِلْد أبيك في العباس بن عبد المطلّب ؟
قال : ( ما يقول ولْد أبي يا أمير المؤمنين ، في رجلٍ فرض الله طاعة نبيّه على خلْقه ، وفرضَ طاعته على نبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) ؟! ) (141) .
فجاء الجواب مسكتاً ،.. بليغاً غاية البلاغة ، لا ذِكر فيه للعبّاس لِمن دقّق النظر ، ولا مُمسك فيه على الإمام ( عليه السلام ) ، وإن كان يحتمل أكثر من وجهٍ حين يُفسّر حسب مشيئة المفسّر ؛ فإنّ إمامنا سلام الله عليه وتحياته وبركاته قد قصدَ أنّ الله تعالى فرض طاعة النبيّ على الخلق ، ثمّ فرضَ طاعته ـ أي طاعة الله سبحانه ـ على نبيّه ، ولم يقصد العباس في الضمير الواقع في آخر لفظة ( طاعته ) .
وإذا فرضنا أنّ ذلك لم يخفَ على المتوكل ، فإنّ المتوكل رضي الجواب و( أراد ) أن يفهم الكلام على أساس أنّ الله تعالى فرضَ طاعة العباس على النبيّ ، أمام الناس ، وكانت بُغيته أن يقول الإمام ( عليه السلام ) قولاً لا يحتمل الجدل ،.. فهو يفتح على نفسه باباً مغلقاً ويطلب التفسير ؟! لا ، قطعاً .
ومع ذلك ، فإنّ مُزوّري الحقائق التاريخية من عملاء السلطان والزمان ، لمّا أدركوا النّكتة الخفيّة عَمدوا إلى اللّعب باللّفظ ؛ لتغيير المعنى الذي أراده الإمام سلام الله عليه ، ولينزعوا عن هذا الجواب الكريم بلاغته الفائقة وعمقه العجيب ، فامتدّت أيديهم الآثمة إليه فجعلته على لسان محمد بن يزيد المبرّد هكذا :
( قال المتوكّل لأبي الحسن ، عليّ بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم : ما يقول وِلْد أبيك في العباس بن عبد المطلب ؟!
قال : ( وما يقول وِلْد أبي يا أمير المؤمنين ، في رجلٍ افترضَ الله طاعة بنيه على خلْقه ، وافترضَ طاعته على بنيه ) ؟
فأمرَ له بمئة ألف درهم !
وإنّما أراد أبو الحسن طاعة الله على بنيه ، وقد عرّضَ ) (142) أي أنّه ( عليه السلام ) نبّه بني العباس إلى وجوب طاعة الله..
ويظهر تزويق الكلام في أول هذه الرواية المكذوبة الموضوعة ، حيث بدأها الراوي بذكر نسب الإمام إلى جدّه عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ،.. وهي ظاهرة الوضع ؛ لأنّ الله تعالى لم يفرض طاعة بني العباس على الخلق ، ولا هو نصّبهم خلفاء له على عباده من جهة ثانية ، ولأنّ الإمام ( عليه السلام ) لا يشتغل في القصر بالأجرة ككِذبة الرّواة ومزوّر روايته من جهةٍ أخرى .
فقد تلاعبَ الراوي بتبديل لفظة ( نبيّه ) بلفظة ( بنيه ) فغيّر المعنى ، وجعلَ الجواب منطوياً على ممالأة سافرةٍ يُبعد الإمام عنها بُعداً لا متناهياً ؛ لأنّه من الّذين ( لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (143) ولا يقول بغير علمه الصحيح الذي تلقّاه عن الوحي الّذي نزل على جدّه المصطفى ( صلّى الله عليه وآله ) .
أمّا العبارة التي ذيّل بها الراوي المزوِّر روايته حين قال : وإنّما أرادَ أبو الحسن طاعة الله على بنيه ، وقد عرّضَ ، فإنّها ( رقعة ) فاقع لونها جاءت من غير جنس الثوب المرقوع بها ، وفضحت الكذب والتعمّل والدّس ! والرواية الأولى هي الصحيحة جزماً ؛ لأنّها تنمّ عن عقيدة الإمام الذي لا يقول إلاّ الحق ولا يخاف في القول إلاّ الله جلّ وعلا ، وهو لا يشتري رضا أحدٍ من المخلوقين بسخط الخالق ، ولا يداري ، ولا يرائي ، ولا يهاب في الصّدق لوماً ، ولا يخشى غرماً .
.. وفي كلّ الأحوال ، لاحِظ هذا الإحراج المفاجئ الذي زجّ المتوكل فيه الإمام حين فاجأه بهذا السؤال المحرِج فور جلوسه ، ترى أنّ اللّؤم يسيل على لسانه ، والحقد يتفجّر من قلبه ؛ إذ أراد أن يُحرجه فيخرجه لينتقم منه ، فلقّاه الله سبحانه الجواب الذي يلجم الخصم ولا يغيّر من الحقّ حرفاً .

وكذلك تحرّش المتوكل بالإمام ( عليه السلام ) في سؤاله عن جدّه أبي طالب ، كما في رواية عليّ بن عبد الله الحسني الذي قال :
( ركبنا مع سيّدنا أبي الحسن ( عليه السلام ) إلى دار المتوكل في يوم السلام ـ يوم العيد ـ فسلّم سيّدنا أبو الحسن ( عليه السلام ) ، وأرادَ أن ينهض فقال له المتوكل :
تجلس يا أبا الحسن ، إنّي أريد أن أسألك .
فقال له : ( سَل .
فقال له : ما في الآخرة شيء غير الجنّة والنار يحلّون به الناس ؟
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ما يعلمه إلاّ الله .
فقال له : فمن عِلم الله أسألك .
قال : ومن عِلم الله أخبرك .
قال : يا أبا الحسن ، ما رواه الناس أنّ أبا طالبٍ يوقَف إذا حوسِبَ الخلائق بين الجنّة والنار وفي رجْله نعلان من نارٍ يغلي منها دماغه ، ولا يدخل الجنّة لكفره ، ولا يدخل النار لكفالته رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وصدّه قريشاً عنه ، وأيسر على يده حتى ظهرَ أمره ؟!
قال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : ويحك ! لو وُضِعَ إيمان أبي طالب في كفّةٍ ، ووُضِعَ إيمان الخلائق في الكفّة الأخرى ؛ لرجُحَ إيمان أبي طالبٍ على إيمانهم جميعاً .
قال له المتوكل : ومتى كان مؤمناً ؟
قال له : دَع ما لا تعلم ، واسمع ما لا يردّه المسلمون جميعاً ولا يكذّبون به ) .
فأطرقَ المتوكل ،.. ونهضَ عنه أبو الحسن ( عليه السلام ) (144) .
ولا جرمَ أن يُطرق هذا المتوكّل على غير ربّه ، أمام تسفيه الإمام ، ومقابل زجره له ؛ فإنّ إيمان أبي طالب ( عليه السلام ) يدلّ عليه شِعره ، وقوله ، وفعله ؛ لأنّه كان الحامي الوحيد للرسالة والرسول مدّة حياته الكريمة التي لاقى فيها المصاعب الشاقّة ، دفاعاً عن ابن أخيه ( صلّى الله عليه وآله ) وعن دعوته .

وفي الواقع لم يعرف أن يقف مع المتوكل موقف ثأرٍ لنفسه إلاّ ذاك الحنفيّ (145) ، الذي روى محمد بن العلا السّراج قصته ـ نقلاً عن البختريّ – فقال :
( قال البختريّ : كنت بمنبج ـ بلدة قرب حلب ـ بحضرة المتوكل ، إذ دخلَ عليه رجل من أولاد محمد بن الحنفية ، حلو العينين ، حسن الثياب ، قد قُرِفَ عنده بشيء ـ أي اتُّهم بجُرم ـ ، فوقفَ بين يديه والمتوكل مُقبل على الفتح ـ بن خاقان ـ يُحدّثه .
فلمّا طالَ وقوف الفتى بين يديه وهو لا ينظر إليه قال : يا أمير المؤمنين ، إن كنتَ أحضَرتني لتأديبي ، فقد أسأتَ الأدب ! وإن كنتَ قد أحضَرتني ليعرف مَن بحضرتك من أوباش الناس استهانتك بأهلي ، فقد عَرفوا .
فقال له المتوكل : والله يا حنفيّ ، لولا ما يثنيني عليك من أوصال الرحِم ، ويعطفني عليك من مواقع الحِلم ؛ لانتزعتُ لسانك بيديّ ، ولفرّقتُ بين رأسك وجسدك ولو كان بمكانك محمد أبوك !
قال : ثمّ التفتَ إلى الفتح فقال : أمَا ترى ما نلقاه من آل أبي طالب ؟! إمّا حَسَني يجذب إلى نفسه تاج عزّ نقله الله إلينا قبله ، أو حسينيّ يسعى في نقض ما أنزلَ الله إلينا قبله ، أو حنفيّ يدلّ بجهله أسيافنا على سفك دمه .
فقال له الفتى : وأيّ حِلمٍ تَركَتهُ لك الخمور وإدمانها ، أم العيدان وفتيانها ؟! ومتى عَطفك الرحِم على أهلي وقد ابتزَزتهم فَدكاً إرثهم من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فورَثها أبو حرملة ؟!
وأمّا ذكركَ محمداً أبي ، فقد طفقتَ تضع من عزٍّ رفعه الله ورسوله ، وتطاول شرفاً تقصر عنه ولا تطوله ! وأنت كما قال الشاعر :
فغضّ الطّرف إنّك من نميرٍ       فلا كعباً بلغتَ ولا كلابا
ثمّ ها أنت تشكو إلى عِلْجك هذا ـ أي الفتح بن خاقان الذي هو تركي لا عربيّ ـ ما تلقاه من الحسنيّ والحسينيّ والحنفيّ.. فـ( لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِير ُ) (146) ! ـ أي بئس الوزير وزيرك ـ .
ثمّ مدّ رجْليه ، ثمّ قال : هاتان رجْلاي لقيدك ، وهذه عُنقي لسيفك ! فبؤ بإثمي ، وتحمّل ظلمي ، فليس هذا أول مكروهٍ أوقَعتهُ أنت وسَلَفك بهم !
يقول الله تعالى : ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (147).. فو الله ما أجبتَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) عن مسألته ، ولقد عطفتَ بالمودّة على غير قرابته ، فعمّا قليل ترِد الحوض فيذودك أبي ، ويمنعك جدّي صلوات الله عليهما .
قال : فبكى المتوكّل ، ثمّ قام فدخلَ إلى قصر جواريه ،.. فلمّا كان من الغد أحضرهُ وأحسن جائزته ، وخلّى سبيله ) (148) .
حقّاً إنّ قول هذا الحنفيّ رضوان الله عليه يفشّ الخُلُق ،.. وإن كان لا يوصِل إلى حق !
ولك أن تسألني : لِمَ لا يقف الإمام ( عليه السلام ) من الخلفاء والظّلَمة مثل هذا الموقف ..؟ فأُجيبك فوراً : إنّ مثل هذا الموقف ليس من وظيفة الإمام ، ولا هو يرضاه من أحد مقرّبيه ؛ لأنّ واجبه يتلخّص بحفظ الدّين وبالمحافظة على المتديّنين ، وينحصر بدفع أذى الظّلَمة من السلاطين عنهم ليبقى مَن يعبد الله في الأرض حقّ عبادته ، ويعتنق شريعته السماويّة المقدّسة التي أنزلها دون زيادةٍ ولا نقصان .
ومثل هذا الموقف يضرّ بالإمام وبأتباعه وأشياعه ، فيستأصل الظالم شأفتهم ويقطع دابرهم ؛ ولذا كان مأموراً بالصّبر على أذاهم ، ليبقى حرّاً في إعلان كلمة الله تعالى في عهدٍ قاسٍ ضالٍّ لا يتورّع السلطان فيه عن قتل النبيّ والوصي في سبيل مُلكه ، فصبرهُ على تجرّع الغصص التي كان يعانيها في زمانه مفروض عليه ، وملازِم لوظيفته السماويّة..

هذا ، وإنّ المتوكل كان يرى من دلائل إمامة هذا الشابّ السّريّ صلوات الله عليه ما يُحار به لبّه ، ولكن إذا أطاعَ الإنسان شيطانه مرّةً ، فانتظِر له أن يجري الشيطان منه مجرى الدّم والنفس في كلّ مرة.. وحينئذٍ ترى لحيته مع لحى ( التّيوس ).. في قبضة إبليس ،.. وتراه يتولّى كِبره ويغلق قلبه دون الكلمة المنصفة ، ولا يتحكّم بأذنيه إلاّ الصارفون له عن الحق !
فالآيات كانت تُصابح المتوكل وتماسيه ، ومعاجز الإمام ( عليه السلام ) كانت تسدّ منافذ بصره ،.. ولكنّه كان على ضلاله ؛ لأنّ الإيمان بالإمام يقضي بزوال مُلكه.. وبزواله !
قال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله :
( كان للمتوكل مجلس بشبابيك كي ما تدور الشمس في حيطانه ، وقد جعلَ فيه طيوراً مصوّتةً ، فإذا كان يوم السلام جلسَ في ذلك المجلس ، فإذا دخلَ إليه أحد لم يُسمع ولم يَسمع ما يقول لاختلاف أصوات تلك الطيور ! فإذا وافاه عليّ بن محمدٍ الرّضا ( عليه السلام ) سَكنت الطّيور جميعاً ،.. فإذا خرجَ من باب المجلس عادت في أصواتها !
قال : وكان عنده عدّة من القَوابج ـ الحجل والكروان ـ في الحيطان ـ أي في الحدائق ـ فكان يجلس في مجلس له عال ، ويرسل تلك القَوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها ،.. فإذا وافى عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ذلك المجلس ، لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك من مواضعها حتى ينصرف ، فإذا انصرفَ عادت في القتال ) (149) .
فما أحرى الإنسان بأن يتعلّم الأدب من مثل هذا الحيوان.. يا خليفة الزمان !
أمَا كان الألْيَق بالعاقل أن يتفكّر ، ويتدبّر ،.. بدل أن يحقد ، ويتكبّر ؟!
وحقيقٌ بمَن كان يملك رشداً أن يختار لنفسه الأَولى والأحجى ،.. ومَن يدّعِ بأنّك لم تدرك هذه الظواهر الغريبة من الطّيور أثناء وجود الإمام ( عليه السلام ) ، نقول له : أخطأتَ في ادّعائك وغَمستَ لقمتك خارج الصّحن ؛ لأنّ الطيور المتقاتلة الصاخبة لم يكن ليهدأ صخبها إلاّ بحضرة الإمام ، الذي هو حجّة الله على مخلوقاته من الإنس والجنّ وجميع ذوات الأرواح ،.. وبمرأى من خليفة المسلمين الذي لم يكن عديم الفهم ولا قليل الإدراك ،.. والذي هو من أسرةٍ استعدّت لبني عليّ ( عليه السلام ) ،.. والعدوّ لا يكون صديقاً بوجهٍ من الوجوه ! ولكن لِمَ لا يكون مسلماً مُسلِّماً بمشيئة الله وتقديره في خلقه ؟! وإذا استعدى لعليّ وبنيه فلِم استعدى لله ولتقديره في مخلوقاته ؟!
إنّه خليفة خائب يريد أن ينزع عن الإمام ( عليه السلام ) ما ألبسهُ الله تعالى من سربال عَظمته وهيبته ووقاره ، ويحاول كإنسان أن يقف بوجه إرادة ربّه ،.. فانقلبَ حسيراً ، بَقيت غصّته في صدره كما بقيت أحقاد آبائه مدفونةً معهم في صدورهم.. وقبورهم !

وإليك مكيدةً دبّرها الخليفة وأعوانه في ليلٍ ؛ ليمكروا بالإمام ( عليه السلام ) فتجلّى فيها سرّه الإلهيّ ، وقلبَ مَكرهم على رؤوسهم صاعقةً ماحقةً بمعنى المحق الواقعيّ ، فإنّ زرافة ـ حاجب المتوكل ـ قال :
( وقعَ عندي رجل مشعوذ يلعب بالحقّة لم يُرَ مثله ـ والحقة : عُلبة من خشبٍ يضعون فيها شيئاً يراه الناس ويُغلقونها ، ثمّ يفتحونها فلا يجدون شيئاً ـ .
وكان المتوكل لعّاباً ـ كثير اللعب ـ ، فأراد أن يُخجل عليّ بن محمدٍ بن الرّضا ( عليهم السلام ) ، فقال لذلك الرجل : إنْ أنتَ أخجَلته فلكَ ألف دينارٍ زكيّة .
قال المشعوذ : فتقدّم ـ أي أعطِ أوامرك ـ بأن يُخبز رقاق خفاف تُجعل على المائدة ، وأقعِدني إلى جنبه ،.. ففعلَ .
وأُحضرَ عليّ بن محمد ٍ( عليهما السلام ) للطعام ، وجُعل له مسورة ـ متّكأ من جِلد ـ عن يساره كان عليها صورة أسد ، وجلسَ اللاعب إلى جنب المسورة .
فمدّ عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) يده إلى رقاقةٍ ـ من الخبز ـ فطيّرها اللاعب في الهواء ،.. ومدّ يده إلى أخرى ، فطيّرها ،.. فتضاحكَ الناس .
فضربَ عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) يده على تلك الصورة ـ صورة الأسد التي على المسورة ـ وقال : ( خُذ عدوّ الله !
فوثَبت تلك الصورة من المسورة فابتلَعت الرجل اللاعب ، وعادت إلى المسورة كما كانت !
فتحيّر الجميع ،.. ونهضَ عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) ليمضي ، فقال المتوكل : سألتك بالله إلاّ جلستَ ورَدَدته .
فقال : والله ، لا يُرى بعدها ! أتُسلّط أعداء الله على أوليائه ؟ )
وخرجَ من عنده ، ولم يُرَ الرجل بعد ذلك (150) .
وقد رويَت هذه الحادثة في مشارق الأنوار عن البرسي ، عن محمد بن الحسن الجهني الذي قال :
( حضرَ مجلس المتوكل مشعبذ هنديّ ، فلعبَ عنده بالحُقّ فأعجبهُ ، فقال : يا هندي ، الساعة يحضر مجلسنا شريف ، فإذا حضرَ فالعب عنده ما يُخجله .
قال : فلمّا حضرَ أبو الحسن ( عليه السلام ) المجلس ، لعبَ الهنديّ ، فلم يلتفت إليه ، فقال له : يا شريف ما يعجبك لعبي ؟ كأنّك جائع ؟ ثمّ أشار إلى صورةٍ مدوّرةٍ في البساط على شكل الرغيف ، وقال : يا رغيف ، مُرّ على هذا الشريف ،.. فارتفعت الصورة .
فوضعَ أبو الحسن ( عليه السلام ) يده على صورة سبع في البساط ، وقال : ( قُم فخذ هذا ) فصارت الصورة سَبُعاً وابتلع الهنديّ وعادَ إلى مكانه في البساط !
فسقطَ المتوكل لوجهه ، وهربَ مَن كان قائماً ) (151) .
فسبحان مَن تجلّت عنايته بعبده الصالح الذي اختاره لأمره وقضيّته ، وجعله حجةً على بريّته ، ونَصرهُ على مَن أرادَ أن ينال من قدسيّته الربّانيّة وينتقص من قدْره في مجالس لهوه وطيشه .
وقد قال جُحا لزوجته : تقولين إنّ القطّ أكلَ اللحم الذي اشتريته ، وقد وزنتُ القطّ فكان وزنه بوزن اللحم ! فإذا كان هذا القط ، فأين اللحم ؟ وإذا كان هذا اللّحم ، فأين القط ؟!
ونحن نقول للمتوكل : وضعَ الإمام ( عليه السلام ) يده المباركة على صورة الأسد وقال له : ( قم فخذ هذا ! ) فانبعثت الصورة أسداً هائجاً ابتلعَ صاحبك الهنديّ وعادَ إلى مكانه في الصورة ،.. فإذا كانت هذه الصورة ، فأين هنديّك بجسده ولحمه وعَظمه وهامته ؟! وكيف ابتلعته صورة مرسومة على مسندك وغَيّبته بما فيه وبما معه ، وجَعلته طيّ العدم ، ثمّ عادت صورةً كما كانت ؟! وإذا كان الهندي قد تحوّل إلى صورةٍ على بساطك فأين الأسد الزائر الذي أسقطكَ على وجهك هلعاً ؟!
أفلم يظهر لهذا العابث اللاهي ـ الذي تَسمّى ( خليفة المسلمين ) ـ أنّ عمل الإمام ( عليه السلام ) لم يكن سحراً ولا شعوذة ، بل هو آية صَدرت عنه بإذن ربّه لمّا تحدّى الخليفة إرادة ربّه ؟! وأنّ مَن نصّب نفسه لإمارة المؤمنين ، وقعدَ مقعد سيّد المرسلين ، لا ينبغي له أن يتنقّص من آل الله وصفوته وخلصائه ؛ فإنّ قدرة الله عزّ اسمه لا يقوم لها شيء ،.. ولن تلهينا فاجعتك بالهنديّ يا أمير المسلمين ، عن أن نسألك ـ عمّا هو أهمّ من فاجعتك به ـ ذلك أنّه كيف تدفع للمشعوذ ألف دينارٍ زكيةً من بيت مال المسلمين ، وحولكَ الألوف والألوف من الجوعى والمحرومين من المسلمين ؟!
ثمّ تنتقل بنا آلة التصوير إلى فعل الله عزّ وجلّ مع المتوكل نفسه ، حين أراد أن يفتري على الإمام وينسب إليه السوء ، فقد قال فارس بن حاتم بن ماهويه :
( بَعث يوماً المتوكل إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) : أنا راكب فاخرج معنا إلى الصّيد لنتبرّك بك .
فقال ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ للرسول : ( قل له : إنّي راكب .
فلمّا خرجَ الرسول قال ـ الإمام ـ لنا : كذب ، ما يريد إلاّ غير ما قال .
قلت : يا مولانا ، فما الذي يريد ؟
قال : يظهر هذا القول ـ أي التبرّك به ـ فإن أصابه خير نَسَبه إلى ما يريد بنا ممّا يبعده من الله ، وإنْ أصابه شرّ نَسبه إلينا ، وهو يركب في هذا اليوم ويخرج إلى الصّيد ، فيرد هو وجيشه عَليّ فتزلّ رجله وتتوهّن يداه ويمرض شهراً .
قال فارس : فركب سيّدنا وسِرنا في المركب معه ، والمتوكل يقول : أين ابن عمّي المَدني ؟ أي الإمام ( عليه السلام ) الذي لم يدر اسمه على لسان الخليفة فقال : المدنيّ
فيقال له : سائر يا أمير المؤمنين في الجيش .
فيقول : ألحقوهُ بنا .
وورَدْنا النهَر والقنطرة ، فعبرَ سائر الجيش وتشعّثت القنطرة وتهدّمت ونحن نسير في أواخر الناس مع سيّدنا ، ورسل المتوكل تحثّه.. فلمّا ورَدْنا النّهر والقنطرة امتنعت دابته أن تعبر ، وعبرَ سائر دوابّنا ، فأجهدت رسل المتوكل عبور دابّته فلم تعبر ، وعبرهُ المتوكل فلحقوا به ، ورجعَ سيدنا .
فلم يمضِ إلاّ ساعات حتى جاءنا الخبر أنّ المتوكل سقطَ عن دابّته ، وزلّت رجْله وتوهّنت يداه ، وبقيَ عليلاً شهراً ،.. وعتبَ على أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وقال : إنّما رجعَ عنّا لئلاّ يصيبنا هذه السقطة فنشأم به .
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : صدقَ الملعون ، وأبدى ما في نفسه ) (152) .
فيا أيّها الملعون على لسان إمامنا الهاشميّ القرشيّ المدنيّ ( عليه السلام ) ، والملعون معك راوي هذه الحادثة الذي أمرَ الإمام بقتله لكفره فيما بعد ، إنّنا نقول لك : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) (153) .
فقد انقلبتَ على وجهك عن ظَهر فرَسك ، وبؤتَ بعار هذه الآية الكريمة وشنارها ، بعد أن توهّنَت يداك ومرضتَ شهراً كاملاً ، كما قال أبو الحسن ( عليه السلام ) حين عَلم ما في نفسك ،.. وإنّه لقَذى في عينك وشَجاً في حلقك ! وقد رجعَ من رحلتك المشؤومة بسلامٍ بعد أن صدقَ قوله فيك .
وأنت هو ذاك الذي يعبد الله على حرف ؛ إذ أضمرتَ إن أصبتَ خيراً أن تتزلّف وترائي وتقول للإمام : هذا ببركتك ، وإن أصابكَ شر أن تتشأم به..
ولأنتَ كالمعاندين لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) الذين وصفهم سبحانه بقوله الكريم : ( وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ ) (154) .

قال محمد بن مسعود  :
( قال يوسف بن السخت : كان عليّ بن جعفر ـ عمّ جدّ الإمام ـ وكيلاً لأبي الحسن صلوات الله عليه ، وكان رجل من أهل همينيا ـ قرية من سواد بغداد ـ قد سعى به إلى المتوكل فحبسهُ فطالَ حَبسه ، واحتال ـ أي قُبلت حوالته كإخلاء سبيله ـ من قِبل عبد الرحمان بن خاقان بمالٍ ضمنهُ عنه ثلاثة آلاف دينار .
وكلّم ـ الضامن ـ عبيد الله بن يحيى بن خاقان ـ وزير المتوكل ـ فعرضَ حاله على المتوكل فقال : يا عبيد الله ، لو شككتُ فيك لقلتُ إنّك رافضي ، هذا وكيل فلانٍ ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ وأنا على قتله ـ أي مصمّم على قتله ـ .
قال : فتأدّى الخبر إلى عليّ بن جعفر ـ المحبوس ـ فكتبَ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) : يا سيّدي ، الله الله فيّ ، فقد والله خفتُ أن أرتاب .
فوقّعَ رقعته : ( أمّا إذا بلغَ بك الأمر ما أرى ، فسأقصد الله فيك ) .
وكان هذا في ليلة الجمعة ، فأصبحَ المتوكل محموماً ،.. فازدادت عليه حتى صرخَ عليه يوم الاثنين ـ أي أعلنَ قرب احتضاره ـ فأمرَ بتخلية كلّ محبوس عُرضَ عليه اسمه ، حتى ذكرَ هو عليّ بن جعفر وقال لعبيد الله ـ وزيره ـ : لِمَ لَم تعرض عليّ أمرهُ ؟!
فقال : لا أعود لذكره أبداً ـ خوف اتّهامه بكونه رافضيّاً ـ .
قال : خلِّ سبيله الساعة ، وسَله أن يجعلني في حِلّ .
فخلّى سبيله ، وصار إلى مكّة بأمر أبي الحسن ( عليه السلام ) مجاوراً بها ،.. وبَرئ المتوكل من علّته ) (155) .
وقال عليّ بن جعفر بهذه المناسبة :
( عرضتُ أمري على المتوكل فأقبلَ على عبيد الله بن يحيى بن خاقان فقال : لا تتعبنّ نفسك بعرض قصّة هذا وأشباهه ؛ فإنّ عمّك أخبرني أنّه رافضيّ وأنّه وكيل عليّ بن محمد ،.. وحلفَ أن لا يخرج من السجن إلاّ بعد موته ، فكتبتُ إلى مولانا : إنّ نفسي قد ضاقت ، وإنّي أخاف الزّيغ .
فكتب إليّ : ( أمّا إذا بلغَ الأمر منك ما أرى ، فسأقصد الله فيك ) .
فما عادت الجمعة حتى أُخرجتُ من السّجن ) (156) .
فهلاًّ اتّعظَ بها الخليفة الغاضب الذي باتَ ليلته مصمّماً على قتله ، وأفاقَ على معاناة الحمّى التي كادت تودي بحياته ؟! قطعاً ، لا.. ومَن لم يكن له من نفسه واعظ ، لا تنفعهُ المواعظ ،.. وما أبعدَ أرباب الممالك عن ترك جَبروتهم الذي يوردهم المهالك !

وحدّث أبو الحسين ، سعيد بن سهل البصريّ الذي كان حاجباً للمتوكل ، وكان يلقّب بالملاّح ، فقال :
( دلّني أبو الحسن ، وكنتُ واقفيّاً ـ وغير قائل بإمامته ـ فقال : ( إلى كم هذه النَومة ؟ أمَا آنَ لك أن تنتبه منها ؟! ) فقدحَ في قلبي شيئاً ، وغُشي عليّ ، واتّبعتُ الحق ) (157) .
ورويَ مثل هذا الخبر عنه نفسه ، فقال :
( كان جعفر بن القاسم الهاشميّ البصريّ يقول بالوقف ـ أي لا يعترف بإمام زمانه ـ وكنتُ معه بسرّ مَن رأى إذ رآه أبو الحسن ( عليه السلام ) في الطريق ، فقال : ( إلى كم هذه النَومة ؟ أمَا آنَ تنتبه منها ؟! ) .
فقال لي جعفر : أمَا سمعتَ ما قال لي عليّ بن محمد ؟! قد والله وقعَ في قلبي شيء ، أي قد تأثّر بقول الإمام له ؛ لأنّه عَلم ما في نفسه من الوقْف ، رغم أنّه لم يُصرّح بذلك .
فلمّا كان بعد أيام ، حدثَ لبعض أولاد الخليفة وليمة ، فدعانا إليها ، ودعا أبا الحسن معنا ، فدخلنا ، فلمّا رأوه أنصَتوا إجلالاً له .
وجعلَ شابّ في المجلس لا يوقّره ، وأخذَ يتحدّث ، ويلغط ، ويضحك .
فأقبلَ ـ الإمام ـ عليه فقال له : ( يا هذا ، أتضحك بملء فيك ، وتَذهل عن ذكر الله وأنت بعد ثلاثة أيام من أهل القبور ؟! ) .
قال جعفر بن القاسم الهاشمي : فأمسكَ الفتى ، وكفّ عمّا هو عليه ، وطُعمنا وخرجنا ،.. فلمّا كان بعد يوم اعتلّ الفتى ؛ وماتَ في اليوم الثالث من أول النهار ، ودُفن فيه ! ) (158) .
وقبل أيّ تعليقٍ على هذه الآية الكريمة الصادرة عن إمامنا العظيم صلوات الله عليه ، نورد للقارئ آيةً مشابهةً لها ، رواها سعيد بن سهل البصريّ ـ أيضاً ـ فقال :
( اجتمعنا في وليمةٍ لبعض أهل سرّ مَن رأى ، وأبو الحسن ( عليه السلام ) معنا ، فجعلَ رجل يعبث ويمزح ولا يرى له جلالة ـ أي لا يوقِّر الإمام ـ .
فأقبلَ الإمام على جعفر ـ بن القاسم الهاشمي ـ فقال : ( أمَا إنّه لا يأكل من هذا الطعام ، وسيرِد عليه من خبر أهله ما يُنغّص عليه عيشه ) .
قال : فقُدِّمت المائدة ، وقال جعفر ـ الواقفيّ ـ : ليس بعد هذا خبر ، قد بطلَ قوله ، أي لم يتحقّق ما قاله الإمام ، وقد رأى جعفر ذلك بنفسه.. والرجل لا يزال يعبث ـ فو الله قد غَسل الرجل يديه وأهوى إلى الطعام ، فإذا غلامهُ قد دخلَ من باب البيت يبكي وقال له : اِلحَقْ أمّك ، فقد وقَعَت من فوق سطح البيت ، وهي الموت !
قال جعفر : والله ، لا وقفتُ بعد هذا ! وقطعتُ عليه ) (159) ، اعترَفَ بإمامته ( عليه السلام ) .
فتباركَ ربّك الذي اجتباكَ لعزائم أمره يا أبا الحسن ، واصطفاكَ لحَمل الكلمة العظمى والدّعوة الكبرى .
وكم هي ساهرة عينه سبحانه على كرامتك يا وليّه في أرضه !
فكثيراً ما حاولوا النّيل من جاهكَ عند الله ، فتلقّاهم ربّك بقاصمةٍ قطعت منهم حبل الوريد ، ولَوت عُنق كلّ جبّارٍ عنيد !
وخسئَ شاب غرّ ، أو رجل عابث ، أن يتطاولا إلى سامي المرتبة التي رتّبكَ الله تعالى فيها ، وخسرَ مَن ناواكَ خسراناً عظيماً ، وضلّ مَن ضَلّ عن عيبة علمك وجزيل فضلك ضلالاً مبيناً..
وبقيتَ أنت أنت في سموّ معناك وفي سموّ ذاتك ،.. سفيراً لله ، مُحصَّناً من لدُنه ،... يسند ظهره إلى ركنٍ ركين..

وروى الفحّام ، عن أبي الحسن محمد بن أحمد ، عن عمّ أبيه ، قائلاً :
( قصدتُ الإمام ( عليه السلام ) يوماً فقلت : يا سيّدي ، إنّ هذا الرجل ـ أي المتوكل ؛ لأنّ العمّ المذكور من حجّابه ـ قد أطرَحني وقطعَ رزقي ، ومَلّني ، وما أُتّهم في ذلك إلاّ عِلمه بملازَمتي لك ، وإذا سألته شيئاً منه يلزمه القبول منك ، فينبغي أن تتفضّل عليّ بمسألته .
فقال : ( تُكفى إن شاء الله .
فلمّا كان في اللّيل طرَقني رُسل المتوكل رسول يتلو رسولاً ، فجئتُ والفتح بن خاقان على الباب قائم ، فقال : يا رجل ما تأوي في منزلك بالليل ؟! كدَّني هذا الرجل ـ أي المتوكّل ـ ممّا يطلبك .
فدخلتُ وإذا المتوكّل جالس على فراشه ، فقال : يا أبا موسى ، نشغل عنك وتُنسينا نفسك ؟ أيّ شيءٍ لك عندي ؟
فقلت : الصّلة الفلانيّة والرّزق الفلانيّ ، وذكرتُ أشياء فأمرَ لي بها وبضعفها !
قلت للفتح : وافى علي بن محمد إلى ههنا ؟
فقال : لا .
فقلت : كتبَ رقعة ؟!
فقال : لا .
فولّيتُ منصرفاً ، فَتبعني فقال لي : لستُ أشكّ أنّك سألتهُ دعاء لك ، فالتمِس لي منه دعاءً .
فلمّا دخلتُ إليه ( عليه السلام ) ، قال لي : يا أبا موسى ، هذا وجه الرّضا .
فقلت : ببركتك يا سيّدي ، ولكن قالوا لي : إنّك ما مضيتَ إليه ، ولا سألته !
فقال : إنّ الله تعالى عَلم منّا أنّا لا نلجأ في المهمّات إلاّ إليه ، ولا نتوكّل في الملمّات إلاّ عليه ، وعوّدَنا إذا سألناه الإجابة ، ونخاف أن نعدل فيعدل بنا .
قلت : إنّ الفتح قال لي كيت وكيت ـ أي طلبَ اِلتِماس دعاء ـ .
قال : إنّه يوالينا بظاهره ، ويجانبنا بباطنه ، الدّعاء لِمن يدعو به ـ أي تابع لحال الداعي ـ إذا أخلصتَ في طاعة الله ، واعترفتَ برسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وبحقّنا أهل البيت ، وسألتَ الله تبارك وتعالى شيئاً لم يحرمك .
قلت : يا سيّدي ، فتُعلّمني دعاءً أختصّ به من الأدعية ؟
قال : هذا الدعاء كثيراً ما أدعو الله به ، وقد سألتُ الله أن لا يُخيّب مَن دعا به في مشهدي بعدي ، وهو هذا :
يا عدّتي عند العدد ، ويا رجائي والمعتمد ، ويا كهفي والسّند ، ويا واحد يا أحد ، يا قل هو الله أحد ، أسألك اللّهمّ بحقّ مَن خلقتهم من خلقك ولم تجعل في خلقكَ مثلهم أحداً ، أن تصلّي عليهم وتفعل بي كيت وكيت ) (160) .
فمذ أراد أبو الحسن ( عليه السلام ) الفرج لصاحبه المظلوم الذي يتولاّه ، قضى الله تعالى له المراد ، فقد عوّده سبحانه الجميل ؛ لأنّه لا يصانع غير وجهه الكريم ـ أكرم الوجوه ـ ولا يطرق إلاّ بابه ، ولا يلجأ في مهمّاته وملمّاته إلاّ إلى حضرة قدسه التي لا ينطق إلاّ بأمرها ، ولا يعمل إلاّ بوحيها وإلهامها .
أفرأيتَ أيّها المتوكل.. كيف يُديل الله تعالى أولياءه من أعدائه ؟! وشعرتَ كيف بَدّل سبحانه غَضبك وسخطك على الرّجل باعتذارٍ منك له عن تقصيرك بحقّه ، فاندفعتَ تُضاعف له عطاياه وصِلاته ؟! غَيرك يحسّ ، ويتدبّر ،.. وأنت سادر في نشوة الحُكم والمكث في قصر ( إمارة المؤمنين ) ، الذي انقلبَ بوجودك إلى ماخورٍ تنبعث منه روائح الخمر ، والفسق ، والدّعارة ، والفجور..

وفي المعتمد في الأصول ، قال عليّ بن مهزيار :
( وردتُ العسكر وأنا شاكّ في الإمامة ، فرأيتُ السلطان قد خرجَ إلى الصّيد في يوم من الربيع إلاّ أنّه صائف ، والناس عليهم ثياب الصيف ، وعلى أبي الحسن ( عليه السلام ) لُبادة وعلى فرَسه تجفاف لبود ، وقد عقدَ ذنَب الفرس والناس يتعجّبون ويقولون : ألا ترون إلى هذا المَدنيّ وما قد فعلَ بنفسه ؟!
فقلت في نفسي : لو كان هذا إماماً ما فعلَ هذا .
فلمّا خرجَ الناس إلى الصحراء ، لم يلبثوا إلاّ أن ارتفعت سحابة عظيمة هطلت ، فلم يبقَ أحد حتى غرقَ بالمطر ، وعادَ ( عليه السلام ) وهو سالم من جميعه ! فقلت في نفسي : يوشك أن يكون هو الإمام ،.. ثمّ قلتُ : أريد أن أسأله عن الجُنُب إذا عرقَ في الثوب ، فقلتُ في نفسي : إنْ كشفَ وجهه فهو الإمام .
فلمّا قرُب منّي كشفَ وجهه ثمّ قال : ( إن كان عَرقَ الجنُب في الثوب وجنابته من حرام لا يجوز الصلاة فيه ، وإن كان جنابته من حلال فلا بأس ) .
فلم يبقَ في نفسي بعد ذلك شبهة ) (161) .
ولن نتجاوز هذه الحادثة قبل أن نشير إلى أنّ هذا ( المَدني ) سلام الله عليه وتحيّاته ، كان وحده ـ من بين الخارجين في موكب السلطان ـ إماماً عالِماً بما يكون ، عارفاً بكلّ خطوةٍ يخطوها ، وبكلّ ما يدور حوله من أحداثٍ طبيعيّة ومصطنعةٍ ، معرفةً أُوتيها من ربّه سبحانه الذي أكرمهُ ونعّمه ، وأطلعهُ على تقديره وتدبيره ، وعرّفه ما تكِنّ نفس كلّ إنسان وما يجيش بضميره ؛ ليكون حجّة له تعالى على خلقه ، وشاهداً على عباده ، ولولا ذلك لمَا لبسَ اللّباد ولا وضعَ على فرسه التّجفاف ، ولا كشفَ عن وجهه لعلي بن مهزيار ، ولمَا أفتاه بحُكم عَرق الجنُب من غير أن يسأله .
هكذا يكون الإمام المنتجَب من ربّه ،.. ومَن لم يكن كذلك فليس بإمام !

وشبيه بذلك ما حدّث به عليّ بن يقطين بن موسى الأهوازي ، إذ قال : ( كنتُ رجلاً أذهب مذاهب المعتزلة ، وكان يبلغني من أمر أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ، ما أستهزئ به ولا أقبله ، فدَعَتني الحال إلى دخولي بسرّ مَن رأى للقاء السلطان ، فدخَلتُها ، فلمّا كان يوم ، وعدَ السلطان الناس أن يركبوا إلى الميدان .
فلمّا كان من الغد ركبَ الناس في غلائل القصب ـ أي الملابس الناعمة من الكتان ، وتُلبس تحت الثياب ـ بأيديهم المراوح ـ لشدّة الحرّ ـ وركبَ أبو الحسن ( عليه السلام ) في زيّ الشتاء وعليه لُباد وبُرنُس ، وعلى سرجه تجفاف طويل ، وقد عقدَ ذَنبَ دابّته والناس يهزءون به وهو يقول : ( إنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ؟! (162) .
فلمّا توسّطوا الصحراء ، وجاوزوا الحائطين ، ارتفعت سحابة وأرخت السّماء عزالَيها ، وغاصت الدّوابّ إلى رُكَبها في الطّين ولوّثتهم أذنابها ، فرجعوا في أقبح زيّ ورجعَ أبو الحسن ( عليه السلام ) في أحسن زيّ ، ولم يُصبه شيءٍّ ممّا أصابهم ، فقلتُ : إن كان الله عزّ وجلّ أطلعهُ على هذا السّرّ فهو حجّة .
ثمّ إنّه لجأ إلى بعض السقائف ، فلمّا قرب نحّى البُرنس وجَعلهُ على قربوس سرْجه ثلاث مرّات ـ وكنتُ قد نويتُ أن أسأله عن عَرق الجنُب أيُصلّى فيه أم لا ؟ ـ ثمّ التفتَ إليّ وقال : ( إن كان من حلالٍ فالصّلاة في الثوب حلال ، وإن كان من حرامٍ فالصلاة في الثوب حرام..) .
فصدّقته وقلت بفضله ولزمته ) (163) .
فلِمَ لبسَ الإمام اللّباد والبُرنس في يوم شامسٍ حارٍّ ، ظهرَ فيه الناس بغلائل الحرير والقصب وحَملوا المراوح ؟ ولِمَ لفتَ نظر الجميع بوضع التّجفاف على سَرج دابّته وعقدَ ذَنبها ، مع علمه بأنّ ذلك يجلب النّقد والتعجّب ؟
إنّه فعلَ ذلك على رؤوس الأشهاد ، وفي ذلك الموكب العظيم ؛ ليُظهر علمه ويفضح جهلهم به وبحقّه ،.. وليُقبّح ما هم عليه من عنادٍ ومكابرةٍ ومكايدةٍ لاختيار الله تعالى واصطفائه ،.. وليُنادى في ذلك الحشد الكثير : حيّ على خير العمل ،.. الذي يتجسّد بالإمام قولاً وعملاً بلا مشاحّةٍ وبلا نزاع !
وإنّ الإمام الذي يعلم ما يعتمل في نفس ابن مهزيار ـ الشاكّ بإمامته ـ وما في نفس ابن يقطين ـ المعتزليّ ـ ويجيبهما على سؤاليهما ، اللّذين لم يبوحا بهما لأحد ـ أقول : إنّ هذا الإمام ( عليه السلام ) ليقدّم الدليل القاطع على إمامته لِمن كان يُلقي السمع وهو شهيد .

معَ زور القصر وإفك قُضاة العصر
نذكر فيما يلي طائفةً من افتراءات أهل قصر الإمارة وقضاته على الإمام ( عليه السلام ) ، وردوده الحكيمة البليغة ، وفتاواه التي مَسحت زورهم وإفكهم ، ومسخت قضاتهم حين تسوّروا محراب قدس الله تعالى بالنّيل من كرامة عبده المجتبى لحفظ شريعته وحَمل أمره .
ونحن لا نبالغ إذا قلنا : إنّ العباسيّين قد لبسوا ثوب الدّين لبس الفرو مقلوباً ، وساروا من حيث انتهى الأمويّون في ارتكاب المنكرات والبعد عن الدّين والديّان !
فالأمويّون ـ بالحقيقة ـ متزعّمون جاهليون ، وخصماء تقليديون للهاشميين ولعترة النبيّ صلوات الله عليه وعليهم بالخصوص ، تحكّموا برقاب العباد ـ لمّا نزلت الكُرة في مضربهم ـ على أساس أنّه :
لَعبتْ هاشم بالمُلك فلا     خبرٌ جاء ولا وحيٌ نَزَل
وكانوا مع الهاشميين على خطّين متوازيين لا يلتقيان ، أو بالأحرى على خطّين متعاكسين لا يزالان يتباعدان ،.. وما على الجاهليّ إن عيّرتهُ بعدم الالتزام بالدّين ؟!
أمّا العباسيّون ، فقد جاءوا إلى الحُكم تحت ظلّ دعوة رفْع الحيف عن الدّين وعن الهاشميين ، وليعيدوا الحقّ إلى العلويّين ، ولكنّهم حين وصلوا إلى عرش المُلك فاقوا أسلافهم ظلماً وجوراً وبُعداً عن الدّين ، وتنكيلاً بذريّة سيّد المرسلين ( صلّى الله عليه وآله ) ، حتى لتحسب أنّهم على غير ملّته وعلى غير شريعته ، وأنّهم لم يؤمنوا بما جاء به عن ربّه ، ولم يُصدّقوا شيئاً ممّا قاله!
فقد كان هَمّ كلّ عباسيّ واهتمامه ينحصران في إذلال أولياء الله ، والحطّ من كرامة عباده الصالحين ، لا بباعث شهوة التشفيّ ، كما فعلَ الأمويّون ثأراً لرؤوس الضلال من عتاتهم الّذين قَتلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، بل بشهوة إقامة مُلكٍ ظالم ذاقوا حلاوة التسلطّ فيه ، فأقاموه على أشلاء كلّ ذي كرامةٍ ، وكلّ ذي حقّ من أهل الحقّ ، ليتمرّغوا في نعيمه ليس إلاّ !
فهل هذا هو عدل الإسلام يا خلفاء المسلمين ؟
لا ، طبعاً.. ولكن لِمَ خَرست الألسن عن نزع هالة تقديسكم المزوّرة حتى أيامنا هذه ، مع أنّ الحقّ لا يَحجِبهُ الرّكام مهما تطاولت الأيام ؟!
عِلمُ ذلك عند شهداء الزّور من الذين مَجّدوكم ولبسوا الإسلام لبس الفرو مقلوباً إرضاءً لكم : كقضاة الزّور ، وكوزراء وولاة الجَور ، وكالمؤرّخين المأجورين الذين رضوا بشهوتَي البطن والفرْج ، وكالخطباء والشعراء والكتّاب الذين ألهاهم عن الحقّ ذَهَبكم الوهّاج أو السّوط و( الكرباج ) ! يليهم المستشرقون الدسّاسون الّذين أطنبوا في مدح كلّ سلطان جبّارٍ ابتدع طريقةً يخالف فيها طرائق الإسلام ،.. ويمدّهم أعداء الدّين من الشرق ومن الغرب الذين خلّدوا ذكر كلّ حائدٍ عن الإسلام ، واعتبروه مجدّداً لشكل الدولة والحُكم ، ومنشئاً لسلطانٍ حديثٍ يماشي روح العصر !

وفي هذا الفصل نعرض للقارئ شيئاً من تعدّيات الحكّام ، وبعض أذنابهم ، على كرامة الإمام ( عليه السلام ) ، ونعطي صورةً عن مضايقاتهم التي كانت تهدف إلى إحراجه ، والتغلّب على واضح برهانه وجليّ بيانه ، وحقّه الصّراح الذي يعرفونه وينفسون به عليه .
قال أبو يعقوب البغداديّ :
( قال المتوكل لابن السكّيت (164) : سَل ابن الرّضا مسألةً عوصاء بحضرَتي ؟
(164) ابن السكّيت : هو يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف المتوفّى سنة 245 هـ ، وكان سبب موته : أنّه دعاه المتوكل فقال له : أيّهما أحبّ إليك : المعتزّ والمؤيّد ، أو الحسن والحسين ؟ فتنقّص ابن السّكّيت ابنَي المتوكل ، وذكرَ الحسن والحسين ( عليهما السلام ) بما هما أهل له ، فأمرَ الأتراك فداسوا بطنه فحُمل إلى داره فماتَ رحمه الله.. انظر التاريخ الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 300 ، وتجد حديثه مع الإمام ( عليه السلام ) في الكافي : م 1 ص 124 أيضاً .
فسألهُ ؟ فقال : لِمَ بعثَ الله موسى بن عمران ( عليه السلام ) بالعصا واليد البيضاء وآلة السّحر ، وبعثَ عيسى ( عليه السلام ) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بآلة الطّب ، وبعثَ محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) بالقرآن والسيف ؟!
فقال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( بعثَ الله موسى ( عليه السلام ) بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر ، فأتاهم من عند الله بما قهرَ سحرهم وأثبتَ الحجّة عليهم .
وبعثَ عيسى ( عليه السلام ) بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، في زمان الغالب على أهله الطبّ ـ في وقتٍ ظهرت فيه الزّمانات والآفات التي يصعب برؤها ـ فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله ، فقهرَهم وبهرهم .
وبعثَ محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) بالقرآن والسيف في زمانٍ الغالب على أهله السيف والشِّعر ، فأتاهم من القرآن الزاهر ، والسيف القاهر ، ما بهرَ به شِعرهم ، وبهرَ به سيفهم ، وأثبتَ الحجّة عليهم .
فقال ابن السّكّيت : تالله ، ما رأيتُ مثلك قط ! فما الحجّة على الخَلق الآن ؟
قال ( عليه السلام ) : العقل يُعرف به الصادق فيصدّقه ، والكاذب على الله فيكذّبه ) .
فقال ابن السّكّيت : هذا هو والله الجواب ) (1164) .
فبُهت الخليفة ومَن حوله من الذين يعيشون على معتلفه ؛ لأنّهم كانوا يريدون من السائل أصعب من هذه المسألة ، ويبتغون أن يُعيوا الإمام ويقطعوه عن الجواب ويناقشوه ويفحموه ؛ ولذا فإنّه لمّا خرجَ الإمام ( عليه السلام ) من المجلس ، رفعَ الجرذ الأكبر رأسه وتنحنح وترنّح ، وتشجّع وتبرّع بنصيحة سيّده الذي في نعمته يتمرّغ ،.. أعني به يحيى بن أكثم (165) الذي كان يقضم مال الله ، ويحكم بغير ما أنزل ، والذي قال للمتوكل : ما لابن السّكيت ومناظرته ؟! وإنّما هو صاحب نحوٍ وشِعرٍ ولغة..
ثمّ انتفجَ ونفجَ حضنه وأخذَ قرطاساً وأثبتَ فيه مسائل .
ثمّ حاصَ وباص وحارَ ودار ،.. ولم يتجرّأ أن يُبادِ بها الإمام سلام الله عليه ، فأعطاها لموسى المبرقع (166) ـ وهو أخو الإمام ـ وسألهُ الفتوى بها ، قاصداً بذلك إحراج الإمام دون غيره قطعاً..
فقد قال موسى بن محمد بن الرّضا ( عليه السلام ) ـ وهو المبرقع ـ : ( لقيتُ يحيى بن أكثم في دار العامّة فسألني عن مسائل ، فجئتُ إلى أخي عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) فدارَ بيني وبينه من المواعظ ما حَملني وبصّرني طاعته ، فقلت له : جُعلت فداك ، إنّ ابن أكثم كتبَ يسألني عن مسائل لأفتيه فيها .
فضحكَ ( عليه السلام ) ثمّ قال : ( فهل أفتَيتَه ؟
قلت : لا ، لم أعرفها .
قال ( عليه السلام ) : وما هي ؟
قلت : كتبَ يسألني عن قول الله : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. ) (167) نبيّ الله كان محتاجاً إلى علم آصف ؟
وعن قوله : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً...) (168) سجدَ يعقوب ووِلده ليوسف وهم أنبياء ؟
وعن قوله : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ.. ) (169) مَن المخاطَب بالآية ؟ فإن كان المخاطَب النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) فقد شكّ ! وإن كان المخاطَب غيره فعلى مَن إذاً أنزلَ الكتاب ؟
وعن قوله : ( لَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) (170) ما هذه الأبحر ، وأين هي ؟
وعن قوله : ( فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ.. ) (171) فاشتهت نفس آدم ( عليه السلام ) أكل البُرّ ، فأكلَ وأُطعم ( وفيها ما تشتهي الأنفس ) فكيف عُوقِب ؟
وعن قوله : ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (172) يزوّج الله عباده الذّكران ، وقد عاقبَ قوماً فعلوا ذلك ؟ أي قوم لوط .
وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ ) (173) .
وعن الخنثى وقول عليّ ( عليه السلام ) : ( يورّث من المَبال ) ، فمَن ينظر إذا بالَ إليه ، مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظرَ إليها الرجال ، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحلّ ، وشهادة الجارّ إلى نفسه لا تُقبل..
وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاةٍ منها ، فلمّا بصرَ بصاحبها خلّى سبيلها ، فدخَلَت بين الغنم ، كيف تُذبح ، وهل يجوز أكلها أم لا ؟
وعن صلاة الفجر لِمَ يُجهر فيها وهي من صلاة النهار ، وإنّما يُجهر في صلاة الليل ؟
وعن قول عليّ ( عليه السلام ) لابن جرموز : ( بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنار ) ، فلِمَ لم يقتله وهو إمام ؟
وأخبِرني عن عليّ لِمَ قَتلَ أهل صِفّين وأمرَ بذلك مقبلين ومدبرين وأجهزَ على الجرحى ، وكان حكمه يوم الجَمل أنّه لم يَقتِل مولّياً ولم يَجهز على جريحٍ ولم يأمر بذلك وقال : ( مَن دخلَ داره فهو آمِن ، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن ! ) لِمَ فعلَ ذلك ؟ فإن كان الحكم الأول صواباً ، فالثاني خطأ !
وأخبِرني عن رجلٍ أقرّ باللّواط على نفسه ، أيُحدّ أم يُدرأ عنه الحدّ ؟
قال ( عليه السلام ) لأخيه موسى : اُكتب .
قلت : وما أكتُب ؟
قال ( عليه السلام ) : اُكتب :
بسم الله الرّحمن الرّحيم : وأنتَ فألهمكَ الله الرّشد ،.. أتاني كتابك فامتحَنتَنا به من تَعنّتك لتجد إلى الطّعن سبيلاً إن قصّرنا فيها ، والله يكافيك على نيّتك ! وقد شَرَحنا مسائلك ، فأصغِ إليها سَمعك ، وذلِّل لها فهمك ، وأشغِل بها قلبك ، فقد لزَمتك الحجّة ، والسلام .
سألتَ عن قول الله جلّ وعزّ : ( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) (147) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان ( عليه السلام ) عن معرفة ما عرفَ آصف ، ولكنّه أحبّ أن يُعرّف أمّته من الجنّ والإنس أنّه الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان ( عليه السلام ) أودعهُ آصف بأمر الله ، ففهّمه ذلك ؛ لئلاّ يختلف عليه في إمامته وولايته من بعده ، ولتأكيد الحجّة على الخلق .
وأمّا سجود يعقوب ( عليه السلام ) لولده ، فإنّ السجود لم يكن ليوسف ، وإنّما كان ذلك من يعقوب ووِلده طاعة لله تعالى ، وتحيّة ـ ومحبّة ـ ليوسف ( عليه السلام ) ، كما أنّ السجود من الملائكة لم يكن لآدم ( عليه السلام ) ، وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّةً منهم لآدم ، فسجود يعقوب ووِلده ويوسف معهم كان شكراً لله باجتماع الشّمل ، ألم تر أنّه يقول في شكره في ذلك الوقت : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ) ؟ (175) .
وأمّا قوله : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) (176) ، فإنّ المخاطَب بذلك رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ولم يكن في شكّ ممّا أنزلَ الله إليه ، ولكن قالت الجهَلة : كيف لم يبعث نبيّاً من الملائكة ؟ ولِمَ لَم يُفرّق بينه وبين الناس في الاستغناء عن المأكل والمشرب والمشي في الأسواق ؟ فأوحى الله إلى نبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) : ( فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ ) بمحضرٍ من الجهَلة : هل بعثَ الله نبيّاً قبلك إلاّ وهو يأكل الطعام ويشرب الشراب ؟ ولكَ بهم أسوة يا محمّد ،.. وإنّما قال : ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ ) ولم يكن ـ أي والحال أنّه ( صلّى الله عليه وآله ) لم يكن في شكّ ـ ولكن للنّصفة ، كما قال : ( فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (177) ولو قال : تعالوا نبتهل فنجعل لعنة الله ( عليكم ) لم يكونوا يجيبوا إلى المباهلة ، وقد عَلمَ الله أنّ نبيّه مؤدّ عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، وكذلك عَرّف النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) بأنّه صادق فيما يقول ، ولكن أحبَّ أن ينصف من نفسه .
وأمّا قوله : ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ... ) (178) فهو كذلك ، لو أنّ شجر الدّنيا أقلام ، والبحر مِداد يمدّه سبعة أبحُر حتى انفجرت الأرض عيوناً كما انفجَرت في الطوفان ، ما نَفدت كلمات الله !! وهي عين الكبريت ، وعين اليمن ، وعين برهوت ، وعين طبريّة ، وحَمّة ما سيدان ، وحَمّة أفريقيا ( تُدعى بسيلان ) وعين باحوران .
ونحن الكلمات التي لا تُدرك فضائلنا ، ولا تُستقصى .
وأمّا الجنّة ، ففيها من المأكل والمشرب والملاهي وما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ، وأباحَ الله ذلك كلّه لآدم ، والشجرة التي نهى الله آدم عنها وزوجته أن يأكلا منها ، شجرة الحسد ، عهدَ الله إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله عليهما وعلى خلائقه بعين الحسد ( فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (179) ونظرَ بعين الحسد .
وأمّا قوله : ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (180) أي يولد له ذكور ، ويولد له إناث يقال كلّ اثنين مقرنَين : زوجان ، كلّ واحدٍ منهما زوج ـ يعني يزوّجهم : يجعلهم أزواجاً : توائم حين يولدون ، لا بمعنى الزواج والنّكاح ـ ومعاذَ الله أن يكون الجليل العظيم عنى ما لبّستَ على نفسك بطلب الرّخص لارتكاب المحارم ( وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً ) (181) إن لم يتب .
ولا يخفى أنّ يحيى بن أكثم قصدَ اللّواط والسّحاق : أي تزويج الذَكر من الذَكر ، والأنثى من الأنثى ، يريد بذلك أن يُبرّر لواطه بما لبّسه على نفسه .
فأمّا شهادة امرأةٍ وحدها التي جازت ، فهي القابلة التي جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضاً فلا أقلّ من امرأتين ، تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإنْ كانت وحدها قُبل قولها مع يمينها.
وأما قول عليّ ( عليه السلام ) في الخنثى ، فهو كما قال : يرِث من المَبال ، ويَنظر إليه قوم عدول يأخذ كلّ واحدٍ منهم مرآةً وتقوم الخنثى وراءهم عريانةً ، ويَنظرون إلى المرآة ـ للمرأة الخنثى ـ فيرونَ الشيء ويَحكمون عليه .
وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاةٍ ، فإنْ عَرفها ذَبحها وأحرقها ، وإن لم يَعرفها قسّمها الإمام نصفين ـ أي قسّم الغنم كلّه ـ وساهمَ بينهما ، فإن وقعَ السهم على أحد القسمين فقد انقسمَ النّصف الآخر ، ثمّ يُفرّق الذي وقعَ عليه السهم نصفين فيُقرع بينهما ، فلا يزال كذلك حتى يبقى اثنتان فيُقرع بينهما ، فأيّتها وقعَ السهم عليها ذُبحت وأُحرِقت ، وقد نجا سائرها ، وسهم الإمام سهم الله لا يخيب .
وأمّا صلاة الفجر والجهر فيها بالقراءة ؛ لأنّ النبي ( صلّى الله عليه وآله ) كان يغلّس بها ـ يُبكّر والظلام مستحكم ـ فقراءتها من الليل .
وأمّا قول أمير المؤمنين : بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنّار (182) ، فهو لقول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكان ـ ابن جرموز ـ ممّن خرجَ يوم النهروان ، فلم يقتله أمير المؤمنين ( عليه السلام ) بالبصرة ؛ لأنّه عَلِم أنّه يُقتل في فتنة النهروان .
(182) هو الزّبير بن العوّام بن خويلد بن أسد بن عبد العزّى القرشي ، وهو ابن صفيّة بنت عبد المطّلب ، عمّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، كما أنّه ابن أخي خديجة بنت خويلد ( رضي الله تعالى عنها ) التي هي زوج الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) .
وقد شهدَ حرب الجَمل وقاتلَ فيها عليّاً ( عليه السلام ) ، فذكّره بقول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إليه : ( لتقاتلنّه وأنتَ له ظالم ) ، فذكرَ ذلك وانصرف عن القتال ، فنزلَ بوادي السّباع فأتاه ابن جرموز ، فقتلهُ وجاء بسيفه ورأسه إلى عليّ ( عليه السلام ) فقال : ( هذا سيف طالما جَلا الكرب عن وجه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ! بشِّر قاتل ابن صفيّة بالنّار ) ؛ وذلك أنّ ابن جرموز استأذنَ في الدخول على عليّ ( عليه السلام ) ، فلم يأذن له وقال للآذن ذلك القول ، فقال ابن جرموز:
أتيتُ  عليّاً برأس الزبير
أرجـو لـديه بـه الزّلفة
فـبشّر بـالنّار إذ جـئته
فـبِئس الـبشارة والتّحفة
وسـيّان عندي قَتل الزّبير
وضرطة عنز بذي الجحفة
وأمّا قولك : إنّ أمير المؤمنين قاتلَ أهل صِفّين مُقبلين ومُدبرين وأجهَزَ على جريحهم ، وأنّه يوم الجَمل لم يتّبع مولّياً ولم يَجهز على جريحهم ، وكلّ مَن ألقى سيفه وسلاحه آمَنه ؛ فإنّ أهل الجمل قُتل إمامهم ولم تكن لهم فئةً يرجعون إليها ، وإنّما رجعَ القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين ، ولا محتالين ولا متجسّسين ولا مبارزين .
فقد رضوا بالكفّ عنهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً ، وأهل صِفّين يرجعون إلى فئةٍ مستعدّةٍ وإمام منتصبٍ يجمع لهم السلاح من الرّماح والدّروع والسيوف ، ويستعدّ لهم ، ويسني لهم العطاء ، ويهيّئ الأموال ، ويعود مريضهم ، ويجبر كبيرهم ، ويداوي جريحهم ، ويحمل راجلهم ، ويكسو حاسرهم ، ويردّهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم ! فإنّ الحُكم في أهل البصرة الكفّ عنهم لمّا ألقوا أسلحتهم ؛ إذ لم تكن لهم فئةً يرجعون إليها ، والحُكم في أهل صفّين أن يتّبع مُدبرهم ، ويجهز على جريحهم ، فلا يُساوى بين الفريقين في الحُكم ، ولولا أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وحُكمه في أهل صِفّين والجَمل ، لمَا عُرف الحُكم في عُصاة أهل التوحيد ، لكنّه شرحَ ذلك لهم ، فمَن أبى عُرض على السيف أو يتوب من ذلك .
وأمّا الرجل الذي أقرّ باللّواط ، فإنّه أقرّ بذلك متبرّعاً من نفسه ، ولو لم تقم عليه بيّنة ولا أخذه سلطان ، وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقِب في الله ، فله أن يعفو في الله ، أمَا سمعتَ الله يقول لسليمان : ( هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (183) فبدأ بالمنّ قبل المنع .
قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه ، فاعلَم ذلك ) (184) .
( فلمّا قرأه ابن أكثم ـ فشّ انتفاخه وهزلَ ورَمه ـ وقال للمتوكل : ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل عن شيءٍ بعد مسائلي ؛ فإنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها ، وفي ظهور علمه تقوية للرّافضة ) (185) .
أفرأيتَ قاضي السلطان الذي كان يبيع آخرته بدنياه كيف نصحَ ربّه الأرضيّ ، ولو أغضبَ ربّ السماوات والأرضين ؟!
ورأيتَ كيف ينثال العلم على لسان الإمام الشابّ الذي ينحدر كالسّيل ولا يرقى إليه الطّير ؟!!
وشاهَدَت عيناك منظر المجلس المخزي الذي تقوقعَ فيه فقيه السّوء بين يدي ( ربّه ) ، الذي تقوقعَ أيضاً رغم جبروته وفرعنته ؟!
إذا كنتَ قد لمست شيئاً من ذلك ، فأنتَ إذاً في الطريق نحو معرفة ما يكون عليه الإمام من العلم الموهوب ، والفضل الربّانيّ ، والتسديد الإلهيّ ، والكرامة العلويّة ، والحصانة السماويّة ، التي تلازمه طيلة حياته كالظّل .
فعلمُ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) من علم الله تعالى اللاّمحدود ،.. فهو غير محدود .
ومَن جرّب أن يقطعهم بمسألة عوصاء يا أيّها الخليفة الأحوص الألوص ، قطعَ الله تعالى لسانه ، وقصمَ ظهره , وأمّا أنت يا قاضي البلاط الخلاّط فقط مددتَ عنقك بالأمس نحو الإمام الجواد أبي إمامنا الهادي ( عليه السلام ) في مجلس المأمون ، فلواها ودقّها ومزّقها ، وأزالَ ما حاكَ حولك إبليس.. من تقديس.. أفلا ارعويت ؟!
علماء أهل بيت النبيّ صلوات الله عليه وعليهم ، يغترفون من بحر ،.. فما شأن مَن يرتشف قطرة بمنقاره يا بومة القصر ؟!
وهم آل القرآن والبيان والأحكام ،.. يتهاوى تحت أقدامهم مَن لا يَعرف لِمَ وُضِعت الألف في أوّل حروف الهجاء ، ثمّ وضِعت ثانية مع اللام ـ ألف ـ في آخرها..
والعيرُ البسيط يحيد عن الجدار إذا ارتطمَ به حِمله أوّل مرّة ،.. فما بال القاضي العبيط ،.. الرّبيط على معلف السلطان ، ينزل إلى الميدان ولو زلّ حافره في كلّ مرّة ؟!

وفي ذلك العهد المليء بالخلافات الدينيّة والنزاعات المذهبيّة ، العامر بالجدل والنّقاش حول كثير من المسائل التي تمسّ العقيدة في أصول الدّين وفروعه ، وفي خَلق القرآن وقِدَمه ، وتشمل ما لا يحصى من الفتن الطائفيّة والمشاكل السياسيّة ، كان السلطان ومَلأه المأجورون يتحدّون الله تعالى في خلقه ، ويقصدون الإمام بالأذيّة ويتآمرون عليه وينصبون له الفخاخ ليوقعوه في زلّة لسان ـ جلّ عنها ـ ويدبّرون له المكائد و( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ ) (186) ويحصيه عليهم ، ثمّ ( وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) (187) فيزداد طغيانهم وتتزايد مضايقتهم لوليّه وحجّته وعينه الساهرة ، وكلمته العليا التي تفضح باطلهم ،.. ولا يزدادون إلاّ مكراً كبّاراً ، وعناداً واستهتاراً بكل ما نزلَ من السماء !
فمِن فِتنهم اللّئيمة : أنّهم كانوا يقفون في وجه ترسّله ( عليه السلام ) عنه كل لقاء ، ويستثيرونه بمناسبةٍ وبلا مناسبة ،.. ولكن أنّى لهم أن ينتصروا على الله ، حين يتصدّون لإذلال مجتباه ومرتضاه !
قيل للمتوكل ـ بافتراءٍ سافلٍ خبيثٍ ـ : ( إنّ أبا الحسن ، يعني عليّ بن محمد بن عليّ الرّضا يفسّر قول الله عزّ وجلّ : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ) (188) في الأول والثاني..
قال : فكيف الوجه في أمره ؟
قالوا : تَجمع له الناس وتسأله بحضرتهم ، فإن فَسّرها بهذا كفاك الحاضرون أمره ، وإن فسّرها بخلاف ذلك افتضحَ عند أصحابه .
قال : فوجّه إلى القضاة ، وبني هاشم ، والأولياء .
وسُئل ( عليه السلام ) ، فقال : ( هذان رجلان كنّى عنهما ، ومَنّ بالسّتر عليهما ، أفيُحبّ أمير المؤمنين أن يُكشف ما سترهُ الله ) ؟
فقال : لا أحبّ ) (189) .
.. وبار ما هم فيه ، وفضحَ الله سبحانه تآمرهم الباطل لمّا وضَعَهم الإمام ( عليه السلام ) في موقف خصومةٍ مع الله عزّ اسمه ! فإن رغبوا في كشف ما سترهَ الله تعالى كانوا كافرين ،.. وإن سَكتوا ورضوا بقول الإمام ( فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ ) (190) وطارت فِرْيتهم مع النّسر الطائر .
أمّا نصّ الآيتين الشريفتين فهو : ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً ) والرجلان اللّذان كنّى سبحانه عنهما هما المعنيّان بلفظتَي : الظالم ، وفلاناً ، وهو جلّ وعزّ لم يُسمّهما ولا أشارَ إليهما بشيء مميّزٍ لأحدهما أو لكليهما ، وتفضّلَ بعدم التصريح باسميهما تكرّماً منه من جهة ، وليُعلّمنا أدب الحديث وحسن الكناية في الأمور العامة والخاصة من جهة ثانية ، فجاء بهذا السّتر على ( الظالم ) الذي لم يتّخذ سبيل الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، واتّبع ( فلاناً ) الذي أضلّه عن سبيل ربّه وسبيل رسوله الكريم ، ودفعَ به في سبيلٍ آخر لا يُرضي الله تعالى ولا رسوله .
فالكناية تتناول ( الظالم ) الذي سترَ عليه ربّه ، وكلّ ظالم يسلك طريقاً غير طريق ربّه ونبيّه بدافع من صديقه أو قريبه ، أو أسرته أو عشيرته ، أو ما يمكن أن نسمّيه ( فلاناً ) أو فُلَيتاناً ،.. فليس في الآيتين أيّ تصريح بأحدٍ بالعين والذات ، ولا أيّ تلميح بذلك الظالم وذلك الفلان ، وجواب الإمام ( عليه السلام ) هو جواب الله تعالى من فوق عرشه ؛ ولذلك أسكتَ به الخليفة الذي ربّما كان كذلك ( الظالم ) أو كان مندرجاً تحت العنوان ، وكمّ أفواه القضاة وبني هاشم والأولياء الذين ربّما كان يندرج بعضهم تحت عنوان ( فلان ) ، وبُهت كلّ مفترٍ سَمع بذلك أو يسمع به فيما بعد ؛ لأنّه يضع نفسه موضع خصومة مع الله ، واعتراضٍ على قوله الحكيم .
هذا ، وإنّ الكشف عمّا سترهُ الله جلّ وعلا لا يجوز ؛ لأنّه لو شاءَ الكشف أو رضيَ به لكشفَ هو ولكانَ الحريّ بالتصريح ، الجدير بالمبادهة ، الأجرأ على فضح ما عَلِم ، الأقدر على ذرّ الرّماد في عيون الظالمين والفلانيّين ،.. فكيف يجوز أن نخالف صريح ما أنزلَ سبحانه في كتابه الكريم ، وفصيح ما نَطقَت به الآيتان الكريمتان ؟!
ويا خليفة المسلمين ، متى كان الفقه المزوّر الذي يَسنّه الحاكم الظالم ، قادراً على أن يكفيك أمره إمام يحمل ما سَنّه الحاكم العدل تبارك وتعالى ؟ وهل يستطيع الفقه ( الموجّه ) أن يخوض في آيات الله ويؤوّلها برأيه بمحضر ترجمان القرآن العالِم بسنّة نبيّ الرحمان ؟ لقد جرّبتَ أنت وأسلافك ، وجرّكم فقهاء السوء إلى كل موبقةٍ فما اتّعظتم ،.. وكان الأحجى أن تتفكّروا وتتدبّروا.. ( أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) (191) ؟!.

قال أبو عبد الله الزبادي : ( لمّا سُمّ المتوكل نذرَ إن رزقهُ الله العافية أن يتصدّق بمالٍ كثير .
فلمّا عوفيَ اختلفَ الفقهاء في المال الكثير ، فقال له الحسن ـ حاجبه ـ : إنْ أتيتك يا أمير المؤمنين بالصواب ، فما لي عندك ؟
قال : عشرة آلاف درهم ، وإلاّ ضَربتُك مئة مقرعة .
قال : قد رضيت .
فأتى أبا الحسن ( عليه السلام ) فسألهُ عن ذلك ؟ فقال : ( قل له يتصدّق بثمانين درهماً .
فأخبرَ المتوكل ، فسألهُ ما العلّة ؟
فأتاه فسأله ؟ قال ( عليه السلام ) : إنّ الله تعالى قال لنبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) (192) فَعدَدنا مواطن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فبلَغت ثمانين موطناً ) .
فرجعَ إليه فأخبرهُ ، ففرحَ وأعطاه عشرة آلاف درهم ) (193) .
فللّه هذه البديهة العجيبة التي تعطي صورةً واضحةً عن غزير علم الإمام الذي أخذَ الحكم من الآية الكريمة ؛ لأنّ الله عزّ اسمه لم يضع في كتابه الكريم شيئاً إلاّ ولهُ مدلول خاصّ أو عام ، وقد أنزلَ سبحانه عبارة ( مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) في الآية منزل ( ثمانين موطناً ) ،.. فتباركَ الذي اصطفاه حجّةً على الخلق ، ولم يُغيّب عنه حُكماً ولا حَجب علماً .
ولو اجتمعَ مع الخليفة وزراؤه وقُضاته وسائر المستكبرين ، على قطع الإمام سلام الله عليه بمسألة ما قطعوه ، ولا وصلوا إلى إدراك ما هو عليه من العلم والفضل ؛ لأنّ عِلمه من علم الله تعالى الذي لا ينفد ، وفضله عطاء إلهيّ وعطاء الله تعالى ليس له حد ،.. ولكنّهم لا يريدون أن يستوعبوا هذا المعنى فيه سلام الله عليه ، ولا في نيّتهم أن يعترفوا بما خَلعه الله سبحانه عليه من عَظمته التي لا يقوم لها شيء ، بالغاً ما بلغَ ذلك الشيء من الجبروت والاستكبار ، فقد انتدَبه تعالى لأن يكون أحد حَمَلة أحكامه في الأرض ، وجَعله الناطق بكتابه وبسنّة نبيّه دون سائر مَن لاث عمامةً ، وأسبلَ لحيةً عريضةً ، ولبسَ ثوباً دينيّاً فضفاضاً ، وتصدّى للحكم في الدّماء والأموال والأعراض !

(193) بحار الأنوار : ج 50 ص 162 ـ 163 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 402 ، والاحتجاج : ج 2 ص 453 ـ 454 ، وتحف العقول : ص 481 ، وفي الكافي : م 1 ص 463 عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه بلفظ آخر .
وفي معاني الأخبار : ص 218 روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال في رجل نذرَ أن يتصدّق بمالٍ كثير : الكثير : ( ثمانون فما زاد ؛ لقول الله تبارك وتعالى : ( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ) وكانت ثمانين موطناً ) . وهو في تذكرة الخواص : ص 374 مرويّ عن يحيى بن هرثمة مع زيادة ( حيث أكرمَ المتوكل الإمام ( عليه السلام ) وأرسلَ له مالاً جزيلاً يتصدّق به هو أيضاً بما أحبّ ) . وهو في حلية الأبرار : ج 2 ص 447 ـ 448 مع فرق بسيط .
وقال جعفر بن رزق الله : ( قُدّم إلى المتوكل رجل نصرانيّ فجَرَ بامرأةٍ مسلمةٍ ، فأراد أن يُقيم الحدّ عليه فأسلَم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما قبله ، قد هدّمَ إيمانه شِركه وفِعله ، وقال بعضهم : يُضرب ثلاثة حدود ،.. وقال بعضهم : يُفعل به كذا وكذا ،.. فكتبَ المتوكل إلى عليّ بن محمدٍ يسأله .
فلمّا قرأ الكتاب كتبَ : ( يُضرب حتى يموت .
فأنكرَ يحيى ، وأنكرَ فقهاء العسكر ذلك فقالوا : يا أمير المؤمنين ، سَله عن ذلك ؛ فإنّه شيء لم ينطق به كتاب ولم يجئ به سنّة .
فكتبَ إليه : إنّ الفقهاء قد أنكروا هذا وقالوا : لم يجئ به سنّة ولم ينطق به كتاب ، فَبيِّن لنا لِمَ أوجبتَ علينا الضرب حتى يموت ؟
فكتبَ إليه : ( بسم الله الرّحمن الرّحيم ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا...) ) (194) .
قال : فأمرَ المتوكل فضُرِب حتى مات ) (195) .
فيا قُضاة الأثواب الزاهية المعطّرة ، ما أدراكم بما نطقَ به الكتاب وجاءت به السُنّة وأنتم في حالة تخمةٍ من أطايب الطعام ، جَعلت أفكاركم تختبط وعقولكم تختلط ؟! ولكأنّي بأثوابكم لم يفُح منها شذى الطّيب والعطر بعد أن غَرقت بعرَق الخيبة والفشل ، وانتشرَت منها روائح الكروش التي يتكدّس فيها الحرام يوماً بعد يوم ، حين نزلَ حُكم الله تعالى على رؤوسكم نزول الصاعقة الماحقة ! فقوموا بروائح نتن جهلكم الذي تريدون أن تقابلوا به عِلم الله المتجلّي على لسان عبده الصادع بأمره الناطق بوحيه .
لقد غَلطتم جدّاً حين اعتمدتم على أنّ القاضي إذا أصابَ فله حَسنتان ، وإذا أخطأ فله حَسنة ؛ لأنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) قال :
( مَن أفتى الناس بغير عِلم ، فليتبوّأ مقعدهُ من النّار ) (196) ، فالحَسنتان عند إصابة الحُكم ، والحَسنة عند الخطأ ، مشروطة بالعلم وموازين الحُكم وكيفية استنباطه من القرآن والسُنّة وفْق قواعد أصوليةٍ ، وأوامر فقهيةٍ يقطع بموجبها الحاكم في حكمه ،.. وإلاّ فلا حُكم ولا حاكم في ميزان الشرع الشريف عند مَن يَحكم بغير علمٍ ولا فقهٍ وعَينُه على الرّغيف !
وعن موسى بن بكر أنّ أبا الحسن ( عليه السلام ) ، قال : ( مَن أفتى الناس بغير علم ، لعَنَته ملائكة الأرض وملائكة السماء ) (197) .
وإنّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين ولّى القضاء لشريح قال : ( يا شريح ، قد جلستَ مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ ، أو وصيّ نبيّ ، أو شقيّ ) (198) ؛ وبناءً على ذلك لا يكون القضاء في الدين ـ بعد وفاة النبيّ ـ إلاّ للإمام ، أو لنوّابه من العلماء المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام الشرعيّة من أدلّتها القطعيّة ـ من الكتاب والسُنّة ـ .
وهيهات أن تجد مَن كانت عنده هذه المَلَكة من آلاف وآلاف المعمّمين ، الذين يَعرف ( العالِم ) منهم بعض فتاوى الشرع ، ويجهل أدلّتها تمام الجهل ! فوقوفكم في وجه فقه الإمام ( عليه السلام ) وفضله وولايته ، مصداق لقوله عزّ وجلّ : ( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ـ وهو الإمام ـ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ ) (199) وهم أنتم وجميع مَن لفّ لفّكم من عبيد البطون والفروج ولذائذ الحياة .
وأنتَ يا سلطان هذه الزّمرة المزيّنة لك حُسن ما أنت فيه ، تسمع وترى ،.. وتستحقّ الشفقة ـ لو كانت تجوز عليك الشَفقة ـ ؛ لأنّك محاط بأبالسةٍ موسوسين يعِجّ بهم قصرك ، والواحد منهم يكفي لإطغاء المرء وإلباسه ثوبه مقلوباً ،.. ولكنّك شيخهم ، وأصابعك تُحرّكهم وتُملي لهم ، وطَمَعهم بما في يديك من المال والجاه يَجتذبهم كما يجتذب الطعام الدّسم أفواج الذّباب .
ويا فضيلة قاضي قضاة السلطان ، ويا زملاءه الذين أنكروا حُكم الإمام ، قد جاء في الخبر الصحيح عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قوله : ( القضاة أربعة : ثلاثة في النار ، وواحد في الجنّة :
رجل قضى بجورٍ وهو يعلم ، فهو في النّار .
ورجل قضى بجورٍ وهو لا يعلم ، فهو في النّار .
ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم ، فهو في النّار .
ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم ، فهو في الجنّة ) (200) .
وقد روى أنس بن مالك أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال :
( لسانُ القاضي بين جمرتين من نارٍ حتى يقضي بين النّاس ، فإمّا إلى الجنّة ، وإمّا إلى النّار ) (201) ( فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ) (202) يا يحيى بن أكثم ، ويا جميع المائلين عن الحقّ المجانبين للإمام المفترض الطاعة ! .

أجل ، كان المتوكل على حقده ، ومع هؤلاء وأمثالهم يعمل جاهداً في إطفاء نور الله في إمامنا الشابّ ، الذي رصَدته القدرة الإلهيّة لهداية النّاس وإحقاق الحقّ وإبطال الباطل ،.. وسَها عن باله أنّ حربه كانت حرباً لمشيئة الله عزّت قدرته ، وتعدّياً على أوليائه ، وانتهاكاً لحرماته ،.. وغابَ عن ذهنه أنّه أعجَز من أن يطفئ نور الشمس ، وأنّه لا يَخرق الأرض ولا يبلغ الجبال طُولاً ، وأنّ له من واسع سلطانه موضع قبر ليست رقدته فيه بمريحة ، وأنّه تأمّر على المسلمين باسم الإسلام وكان يجتهد في الكيد لنَقَلة الشّرع وتراجمة الوحي ،.. ثمّ استجازَ لنفسه اختيار الوزير ، والمشير ، والقاضي ، والموظّف ليوطّدوا له سلطانه ،.. ووقفَ في وجه اختيار الله سبحانه لواحدٍ من خلفائه في أرضه وملكوته الواسع !!
وأنا لا أعرف كيف كان هو وأسلافه يُعلّلون حربهم الشعواء لأهل بيت النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهم يحكمون باسمه ويدّعون أنّهم على دينه الذي جاء به عن ربّه ! ولم أهتدِ إلى تبرير لعداوتهم الضارية لأهل الدّين ، وهم ( أمراء مؤمنين ) ! ولا أعرفُ لهم عذراً بين يدي سلطان السلاطين في قَتل أبناء عليّ سوى إطفاء نور الله في مَن خُلِقوا من نوره !

لقد نزلَ هذا المتوكل مع الشيطان إلى الدّرك الأسفل من الضّعة ، وسَلكَ مسلك أبناء الأزقّة في محاولاته الدنيئة للتصغير من مقام أبي الحسن الهادي ( عليه السلام ) ، فما ازدادَ إلاّ رفعةً وكرامةً ؛ لأنّه لا واضِعَ لِما رفعَ الله ، ولا رافِع لِما وضَعهُ سبحانه ،.. فقد قال أبو الطّيب المثنّى يعقوب بن ياسر ( المديني ) :
( كان المتوكل يقول : ويحَكم ، قد أعياني أمر ابن الرّضا ، وجهدتُ أن يشرب معي وينادِمني ، فامتنعَ ، وجهدتُ أن أجد فرصةً في هذا المعنى فلم أجدها !
فقال له بعض مَن حضر : إن لم تجد من ابن الرّضا ما تريده في هذه الحال ، فهذا أخوه موسى المبرقع قصّاف عزّاف ـ أي شارب للخمر ، لاهٍ بآلات الطرب ـ يأكل ويشرب ، ويعشق ويتخالع ، فأحضِره وأشهِره ؛ فإنّ الخبر يشيع ـ يُسمع ـ عن ابن الرّضا بذلك ، فلا يُفرّق الناس بينه وبين أخيه ، ومَن عَرفه اتّهم أخاه بمثل فعاله .
فقال المتوكل : اكتبوا بإشخاصه مكرّماً ، وجيئوا به حتى نُموِّه به على النّاس ونقول : ابن الرّضا .
فكتبَ إليه فأُشخص مكرّماً ،.. فتقدّم المتوكل ـ أي أمرَ ـ بأن يتلقّاه جميع بني هاشم ، والقوّاد ، وسائر الناس ، وعملَ على أنّه إذا وافى ـ وصلَ ـ أقطِعه قطيعة ـ وَهبهُ ضيعة يأكل غلّتها ـ وبنى له فيها وحوّل إليه الخمّارين والقِيان ـ المغنّيات ـ وتقدّم بصِلته وبِرّه وأفردَ له منزلاً سريّاً ـ عليّاً ـ يصلح أن يزوره هو فيه .
فلمّا وافى موسى تلقّاه أبو الحسن ( عليه السلام ) في قنطرة وصيف ـ وهو موضع يتلقّى فيه القادمون ـ فسلّم عليه ووفّاه حقّه ، ثمّ قال له : ( إنّ هذا الرجل ـ أي المتوكل ـ قد أحضركَ ليهتِك أمرك ويَضَع منك ، فلا تقرّ له أنّك شربتَ نبيذاً قط ، واتّق الله يا أخي أن ترتكب محظوراً ـ محرّماً ـ  .
فقال له موسى : وإنّما دَعاني لهذا ، فما حيلتي ؟!
قال ( عليه السلام ) : فلا تَضع من قَدرك ، ولا تعصِ ربّك ، ولا تفعل ما يشينك ، فما غرضهُ إلاّ هَتكك .
فأبى عليه ، فكرّر عليه أبو الحسن القول والوعظ ، وهو مقيم ـ مصمّم ـ على خلافه..
فلمّا رأى أنّه لا يجيب قال : أمَا إنّ المجلس الذي تريد الاجتماع معه عليه ، لا تجتمع أنت وهو أبداً ) !
قال : فأقام موسى ثلاث سنين يُبكّر كلّ يوم إلى باب المتوكل ، فيقال له : قد تشاغلَ اليوم فرُحْ ، فيروح ، ويُبكّر فيقال له : قد سكرَ ، فبكّر ، ويُبكّر فيقال له : قد شربَ دواءً ، فما زال على هذا ثلاث سنين حتى قُتل ـ المتوكل ـ ولم يجتمع معه على شراب ! ) (203) ، فمن أهمّ آيات الإمام ( عليه السلام ) في هذه المناسبة : أنّه أخبرَ أخاه بعدم التوفيق للاجتماع مع الخليفة على مائدة شرابٍ ،.. فكان كما أخبر..
ومن المفروض ـ مبدئياً ـ أن يقيم خليفة المسلمين الحدّ على شارب الخمر !
والمأمول منه أن لا يشربها هو على الأقل إذا فَسدت رعيّته بأكملها !
فما بال هذا الخليفة يشربها ويدعو إليها ؟!.. وسَلوه معي : لِمَ أعياه أمر ابن الرّضا ( عليه السلام ) ، ولم يَعيه إقامة حدود الله وإشاعة العدل في سلطانه ؟!
أوَ لم يكن الأجدر به أن يجتهد في رفع قدر نفسه إلى موازاة قدر مَن هو أرفع منه وأشرف ؛ ليكون لائقاً بإمارة المؤمنين ؟!
وهلاّ كان عليه أن يجاهد نفسه في محاولة ترك السُّكر وارتكاب المعاصي والآثام ،.. وهو يدّعي اعتناق الإسلام ، ويتقمّص خلافة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ؟! وما بالهُ لم يُتعب نفسه في تقوى الله وامتثال أوامره بمقدار ما امتثلَ أمر نفسه الأمّارة بالسوء ، وأمره الهمّازين المشّائين الذين قادوه بلحيته إلى حتفٍ فَتحَ عليه باب آخرةٍ لا أسوأ ولا أشدّ عذاباً منها ؟!
كان الأليَق به أن يعيى بإصلاح نفسه ، لا بمحاولة إفساد إمام منصّب من ربّه ، معصومٍ عن الزّلل والخطل ! ولكنّ العباسيين كانوا يرون أنّ المُلك عقيم ، واختاروا بسبيله النّار وغضب الجبّار ،.. فأين كان منهم العقل ، والفهم ، والحكمة ؟! لقد أخطأوا حين لم يكونوا أمراء مؤمنين بمقدار ما كانوا فراعنةً متربّبين ،.. ونفخوا في رمادٍ وعثيرٍ فكانت عاقبتهم عاقبة مَن تفرعنَ وتربّب وتجبّر ،.. وما استطاعوا أن يطفئوا قرص الشمس ، ولا أن يمنعوا حرارتها عن الأحياء ، ولا أن يمنعوا الهواء عن أن يتنفّسه الوليّ والعدوّ على السّواء ، ولم يُنزلوا المطر إذا انحبسَ ، ولا أوقفوه حين انبجسَ ، ولا وقفوا في وجه خالق الكائنات ولا مَلكوا عطاء الله ، ولا مَنعه ، ولا ضرّه ، ولا دفعه ،.. بل تجرّأوا على مآثم تهتزّ منها الأرض وترتجّ ،.. وذهبوا بأوزار ذلك كلّه..

قال أبو محمد الفحّام ، بالإسناد إلى سَلمة الكاتب ـ في قصر الخليفة ـ :
( قال خطيب يلقّب بالهريسة للمتوكل : ما يعمل أحد بك أكثر ممّا تعمله أنت بنفسك في عليّ بن محمدٍ ، فلا يبقى في الدار إلاّ مَن يخدمه ، ولا يتعبونه بشيل سَترٍ ولا فتح باب ! وهذا إذا عَلمه الناس قالوا : لو لم يعلم استحقاقه للأمر ـ أي للخلافة ـ ما فعلَ به هذا ،.. دَعه إذا دخلَ يشيل السَتر لنفسه ، ويمشي كما يمشي غيره ، فتمسّه بعض الجفوة !
فتقدّم ـ أي أمرَ ـ المتوكل أن لا يُخدم ولا يُشال بين يديه سَتر..
ولم يكن أحد كالمتوكل يهتمّ بالخبر ـ أي يعطي أُذنه للوشاة والنّمامين ورجال الاستخبارات ـ .
قال : فكتبَ صاحب الخبر إليه : إنّ عليّ بن محمدٍ دخلَ الدار فلم يُخدم ولم يَشِل أحد بين يديه ستراً ، فهبّت هواء رَفع السّتر له ، فدخل !
فقال المتوكل : اعرفوا خبر خروجه .
فذكرَ صاحب الخبر : هواء خالفَ ذلك الهواء ، شالَ الستر له حتى خرج !
فقال ـ المتوكل ـ : ليس نريد هواءً يشيل السّتر ! شيلوا السّتر بين يديه ) (204) .
وفي تخريج أبي سعيدٍ العامريّ ، رواية عن صالح بن الحكم بيّاع السابريّ ، قال :
( وكنت واقفيّاً ـ غير قائلٍ بإمامة ابن الرّضا ( عليه السلام ) ـ فلمّا أخبرَني حاجب المتوكل بذلك ـ أي بشَيل الهواء للسَتر حالَ دخول الإمام ـ أقبلتُ أستهزئ به ، إذ خرجَ أبو الحسن ، فتبسّم في وجهي ، من غير معرفةٍ بيني وبينه ، وقال :
( يا صالح ، إنّ الله تعالى قال في سليمان : ( فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ ) (205) ونبيّك وأوصياء نبيّك أكرم على الله من سليمان ) .
قال صالح : وكأنّما انسلّ من قلبي الضلالة ، فتركتُ الوقْف ) (206) ـ أي قال بإمامته ( عليه السلام ) ـ .
فيا أيّها الخطيب الملّقب بالهريسة ، لو لم يكن عقلك مختبطاً مختلطاً كما يختبط ويختلط لحم الهريسة بمائها وبُرّها ودهنها وملحها ، لمَا لقّبوك بهذا اللّقب الذي هو على وزن الفطيسة ! والله تعالى قد عَلم بإشفاقك على سيّدك الذي يملأ بطنك ، ولقّاك خزياً وأنت في المجلس ذاته ،.. ثمّ عَلم بمكيدة سيّدك وبما بيّته من احتقار وليّ الله ، فسخّر له الرّيح تجري بأمره ؛ ليطّلع الناس على سرّه ،.. وهو سبحانه يرقب الأفّاكين ( وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) (207) فأطلعَ وليّه على ما بيّتوا له ، فأراهم آيات ربّهم التي فَضحت مكيدتهم .
ولا يخفى أنّ الإمام ( عليه السلام ) قد عرفَ ما في نفس صالح بن الحكم ، وعَلم استهزاءه بخبر الحاجب عن هبوب ريح شالت السّتر بين يديه ، وعرفَ ـ أيضاً ـ أنّ صالح بن الحكم وقفَ يتفحّص ذلك بنفسه حين خروجه ، ففجأه بذكر اسمه الذي كان يعتقد صالح أنّه لا يعرفه ، ثمّ أردفَ بذكر الآية البيّنة والحجّة الدامغة ، فانتزعَ الحيرة من نفسه وردّه إلى جادّة الصواب والاعتراف بالحقّ لأهله..
فما بال الخليفة.. ( طويل الأذنين ) من شدّة اهتمامه بالأخبار التي يأتيه بها حاكة الدسائس ، لا تنسلّ من قلبه الضلالة حين يرى الآيات والمعجزات ؟! لقد ألهاهُ اهتمامه بالحطّ من شأن سفير الله ،.. فضلّ عن الحقّ ضلالاً كبيراً ، وخسر خسراناً مبيناً..
ولو أنّه استفادَ من فهمه وعلمه وعقله ، لقرّب الإمام وأدناه ، وأجلّه وتفدّاه بحقّ وحقيقةٍ ؛ لظهور علمه وفضله ، وبقرب منزلته من ربّه ، وإكراماً لعينَي جدّه ( صلّى الله عليه وآله ) ، وهو ينزو على منبره كما نزا القِرَدة من الأمويّين والعباسيّين ،.. ولو فكّر بعين البصيرة لسلكَ مسلكاً يُخلّصه غداً من زبانية جهنّم وملائكة العذاب ، حين يدعّون ( المتأمّر ) على الناس باسم رسول الله ، بغير استحقاقٍ ، إلى نار جهنّم دعّاً ؛ لأنّه قعدَ مقعداً يُغضب الله ، وسارَ سيرة تستنزل النّقمة..

وروي أنّ أبا محمد الفحّام قال :
( دخلَ الإمام ( عليه السلام ) على المتوكل يوماً ، فسأل المتوكل ابن الجهم : مَن أشعر النّاس ؟ فذكرَ شعراء الجاهليّة والإسلام .
فقال المتوكل : يا أبا الحسن ، مَن أشعر الناس ؟
قال : ( فلان بن فلان (208) حيث يقول :

لـقد فـاخَرَتنا من قريش عصابة
بـمدّ  خـدودٍ وامـتداد أصـابع
فـلمّا  تـنازعنا القضاء قضى لنا
عـليهم بـما فاهوا نداء iiالصّوامع
تَـرانا سـكوتاً والـشهيد بفضلنا
عليهم جهير الصّوت في كلّ جامع
فـإنّ  رسـول الله أحـمد جـدّنا
ونـحن بـنوه كـالنّجوم الطّوالع
قال ـ المتوكل ـ : وما نداء الصوامع يا أبا الحسن ؟
قال ( عليه السلام ) : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أنّ محمّداً رسول الله.. جدّي أم جدّك ) ؟!
فضحكَ المتوكل كثيراً ثمّ قال : هو جدّك ، لا ندفعك عنه ) (209) .
وإنّه لضحك الممثّل البارع على خشبة المسرح ؛ لأنّه انتزعهُ من قلبه العامر بالحقد انتزاعاً ، إذ عَلِم ما قصده أبو الحسن ( عليه السلام ) من مدح.. وقدح ! ولكنّه ضَحِكٌ كانت تظهر فيه صورة التكشير عن الأنياب الناقعة بالسّم بوضوح ،.. وليس أجرأ على الله من ( خليفة المسلمين ) يفتعل مجلس عبثٍ ولهوٍ ومفاضلةٍ بين الشعراء ؛ ليُنزل الإمام إلى نقاشٍ تافهٍ ليس من وظيفته السماوية ، وليوقفه بمقابل عليّ بن الجهم ، الذي كان أشدّ النّاس عداوةً لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأبنائه ( عليهم السلام ) ، ثمّ يحاول أن يجعل منه سميراً من سمّار القصر ونديماً من ندمان موائد القصف ! ولكنّ الإمام عرفَ كيف يطعنه في الصمّيم ، حين تلا أبياتاً من الشِعر أذلّت نفسه في عين نفسه ، ولوَت كبرياءه وعنجهيّة آبائه الذين اتّخذوا مال الله دُوَلاً وعباده خوَلاً ، وزيّف الكبرياء والعزّة حين تكونان لغير الله ورسوله ، وبغير الدّين وطاعة ربّ العالمين .

وممّا لا شكّ فيه أنّنا إذا اتّهمنا المتوكل بالغباء ، نكون من أغبى الأغبياء ،.. ولكنّنا نحار في تصرّفاته التي انحصرت في الغضّ من جاه الإمام ، مع علمه بما هو عليه من العناية الربّانيّة .
فإنّه قد عَرضَ إليه بالسّوء كثيراً ، وواقعه مراراً ، ونازلَ قدرة الله تعالى فيه مراراً وتكراراً ،.. فقد ذكر المحقّق الإربلي : ( أنّه عرضَ عسكره ـ وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسرّ مَن رأى ـ وأمرَ كلّ فارس أن تُملأ مخلاة فرسه طيناً ، ويطرحوه في موضع واحدٍ ـ بعضه فوق بعض في وسط بريّةٍ واسعةٍ هناك ـ فلمّا فعلوا صار مثل جبلٍ عظيم ؛ واسمه تلّ المخالي .
وصعدَ هو فوقه ، واستدعى أبا الحسن ( عليه السلام ) ، واستصعده وقال : إنّما طلبتك لتشاهد خيولي ،.. وكانوا قد لبسوا التجافيف ـ دروع الخيل ـ وحملوا السلاح ، وقد عرضوا بأحسن زينةٍ ، وأتمّ عدّةٍ ، وأعظم هيئةٍ ،.. وكان غرضهُ أن يكسر قلب كلّ مَن يريد أن يخرج عليه ، وكان يخاف من أبي الحسن أن يأمر أحداً من أهل بيته بالخروج على الخليفة .
فقال أبو الحسن صلوات الله عليه : ( فهل أعرضُ عليك عسكري ؟!
قال : نعم .
فدعا الله سبحانه ، فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مُدجّجون ـ لابسون للسلاح ـ فغُشيَ على المتوكل !
فلمّا أفاق ، قال له أبو الحسن : نحن لا ننافسكم في الدّنيا ؛ فإنّا مشغولون بالآخرة ، فلا عليك شيء ممّا تظن ) (210) .
ولكن أنّى لقولة الإمام أن تدخل إلى سمع خليفةٍ أعطى أُذنيه للوشّائين ، ووضعَ لحيته في أيدي المشّائين بنميم ! وأنّى لها أن تدخل بسهولة إلى قلبه المظلم ؛ فإنّ الكره لا ينقلب إلى حبّ على الماشي عند عَبدة الدّنيا ، والخليفة هذا محاط بكَذَبةٍ يزيّنون له الأمور ، ويضعون رأسه في سعير التنّور !
فدلّوني متى كان هذا ( المتوكل ) متوكلاً على الله أثناء خلافته ، وقبلها ؟!
الخليفةُ والعشيرة يقعون في الحفيرة !
يقول المَثل : مَن حفرَ بئراً لأخيه ، وقعَ فيها ! والمَثل ذو دلالةٍ صادقةٍ ؛ لأنّه لا يوضع إلاّ بعد آلاف التجارب الصائبة ، ولذلك قالوا : إنّ المَثل نبيّ ؛ لأنّه لا ينطق إلاّ بالحقّ والصّدق .
وإمامنا ( عليه السلام ) كان يعاشر الحاكمين وسائر الحاكمين وسائر الظالمين له بتمام العفويّة والترسّل ؛ لأنّ الله تعالى حين نصّبه لهذا الأمر الخطير ، قلّده بكلّ ما يجعله على مستوى اختياره السماويّ ، وأطلعهُ على خفاياهم وخفايا النّاس جميعاً ليكون جديراً بتمثيل ظلّه سبحانه على الأرض ، يعلم كثيراً من غيبهم ويطّلع على أعمالهم ولا تفجأه مكائدهم ، فسارَ فيهم سيرة جدّه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) مع جبابرة قريش وعتاة المشركين في مكّة وما حولها ، يصدقهم القول ، ويمحضهم النّصح ، ويبذل قصارى جهده في سبيل هدايتهم وإنقاذهم من الضلال ، ولكنّهم كانوا يَغِشّون إذا نصحَ ، ويتكبّرون إذا تواضعَ ، ويجافون إذا تقرّب ، رغم أنّه لم ينازعهم سلطاناً ولا رغبَ في منصب ، بل كان كلّما قدّم لهم نصحاً قابلوه بسوء !
فقد روى علي بن إبراهيم ، عن إبراهيم بن محمد الطاهري أنّه قال : ( مرض المتوكل من خُرّاج ـ دمّل ـ فأشرفَ على الموت ، فلم يجسر أحد أن يمسّه بحديدة ، فنَذرت أمّه إن عوفيَ أن تحمل إلى أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) مالاً جليلاً من مالها .
وقال الفتح بن خاقان للمتوكل : لو بُعث إلى هذا الرجل ـ يعني أبا الحسن ( عليه السلام ) ـ فَسألته ، فإنّه ربّما كان عنده صفة شيءٍ يُفرّج الله تعالى به عنك .
فقال : ابعثوا إليه .
فمضى الرسول.. ورجعَ فقال : قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( خذوا كُسْب الغنم ـ أي عصارة دهنه ـ فديفوه بماء الورد ـ اخلطوه به ـ وضَعوه على الخرّاج ؛ فإنّه نافع بإذن الله..) .
فجعلَ مَن يحضر المتوكل يهزأ من قوله .
فقال لهم الفتح بن خاقان : وما يضرّ من تجربة ما قال ؟! فو الله إنّي لأرجو الصلاح به .
فأحضروا الكُسْب ، وديفَ بماء الورد ، ووضِع على الخُرّاج ، فانفتحَ وخرجَ ما كان فيه .
وبُشّرت أمّ المتوكل بعافيته ، فحَملت إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) عشرة آلاف دينار تحت خاتمها .
واستقلّ ـ شُفي ـ المتوكل من علّته .
فلمّا كان بعد أيام ، سعى البطحائي (211) بأبي الحسن ( عليه السلام ) إلى المتوكل وقال : عنده أموال وسلاح .
فتقدّم المتوكل إلى سعيد الحاجب ـ الذي كان من ألأم حجّابه ـ أن يهجم عليه ليلاً ويأخذ ما عنده من الأموال والسلاح ، ويُحمل إليه !
قال إبراهيم بن محمد : قال لي سعيد الحاجب : صرتُ إلى دار أبي الحسن ( عليه السلام ) بالليل ومعي سُلّم ، فصعدتُ منه إلى السطح ، ونزلتُ من الدرَجة إلى بعضها في الظُلمة ، فلم أدرِ كيف أصِل إلى الدار .
فناداني أبو الحسن ( عليه السلام ) من الدار : ( يا سعيد ، مكانك حتى يأتوك بشمعة .
فلم ألبِث أن أتَوني بشمعة ، فنزلتُ فوجدت عليه جبّة صوف وقلنسوةً منها ، وسجّادته على حصيرٍ بين يديه ، وهو مُقبل على القِبلة .
فقال : دونك البيوت .
فدخلتها وفتّشتها ، فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدتُ البُدْرة ـ الصّرة ـ مختومةً بخاتم أمّ المتوكل وكيساً مختوماً معها .
فقال لي أبو الحسن : دونك المصلّى .
فرفعتهُ ، فوجدت ُسيفاً في جفنٍ غير ملبوس .
فأخذتُ ذلك ، وصرتُ إليه ـ إلى المتوكل ـ فلمّا نظرَ إلى خاتم أمّه على البُدْرة بَعث إليها .
فخرجَتْ إليه ، فسألها عن البُدرة ؟ قالت : كنت نذرتُ في علّتك إن عوفيتَ أن أحمل إليه من مالي عشرة آلاف دينار ، فحملتها إليه ، وهذا خاتمي على الكيس ما حرّكه
وفتحَ الكيس الآخر فإذا فيه أربعمئة دينار ،.. فأمرَ أن يُضمّ إلى البُدْرة بُدرةً أخرى ، وقال لي : احمل ذلك إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) واردُد عليه السيف والكيس بما فيه .
فحملتُ ذلك ، واستحييت منه فقلت له : يا سيّدي عزّ عليّ دخول دارك بغير إذنك ، ولكنّي مأمور .
فقال لي : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ) ) (212) .
فقد أصابَ إمامنا ( عليه السلام ) مع المتوكل ، ما أصابَ نبيّ الله يونس ( عليه السلام ) مع الولد الأعمى ، الّذي رآه مع رفاقٍ له على شاطئ البحر لمّا لفظَهُ الحوت ، فانكسرَ قلبه من أجله ؛ لأنّه كان يقف فاشلاً بين أترابه الذين يلهون ويلعبون ، فدعا ربّه تعالى أن يردّ عليه بصره حتى يتمتّع بصباوته وفتوّته كرفاقه .
فاستجابَ الله سبحانه دعاءه ، وردّ على الولد بصره ،.. ففركَ الولد عينيه ، ودلكهما وعركهما ،.. ثمّ فتحهما دهشاً مستغرباً ممّا انفتحَ عليه بصره من مناظر لا عهد له بها ، استقرّ نظره على النبيّ يونس ( عليه السلام ) وهو يقبع تحت شجرة اليقطين ، التي أنبتها الله تبارك وتعالى لتظلّله من حرارة الشمس ؛ فقال لرفاقه : تعالوا نراشق هذا الرّجل بالحجارة لنرى مَن يصيبه حَجرُه !
وانهالت الحجارة على النبيّ يونس ( عليه السلام ) من كل جانب ! فعلِم حينئذ أنّ الله تعالى لا يفعل إلاّ عين الحكمة ،.. ومَن يعترض على فعله يُصِبه ما أصابه ،.. فلم يكفّ سبحانه بَصر ذلك الولد إلاّ ليكفّ عن الناس شرّه ، ويحفظ عليه أجره..
فقد عالجَ الإمام ( عليه السلام ) علّة المتوكل التي كادت تودي بحياته ، بأسهل طريقةٍ ، وبأسرع وقت ، وكان جزاؤه ـ بعد أيام نقاهة المتوكل ـ أن كبسَ داره وفتّش وقَبض على ما عنده من مال !
فكم هو حَسن نكران الجميل ،.. في منطق هذا الخليفة الجليل ! وكم هو سفيه هذا الواشي ، وذاك الخليفة الطاغوت ، وذلك الحاجب الجالوت ، حين يَقدمون على مثل هذا العمل الوقح الذي كأنّ الإمام على موعد معهم فيه لعلمه بدخائلهم الخبيثة ! فها هو ذا يُقدّم الشمعة إلى ( اللّصّ ) الذي تسلّق إلى السّطح ، وأعاقته الظُلمة عن الاهتداء إلى جوانب البيت ! وهو ذا يُلفت نظره إلى السيف تحت المصلّى ! ثمّ هو ذا يبتسم من هذا الخَلق المتعوس الذي هو في صورة البشر وفكر الحمقى !
فلو كانوا لا يعرفون شأن الإمام لعَذَرناهم ،.. ولكنّهم أوسع معرفةً به منّا ،.. وهم ـ مع ذلك ـ يتصرّفون معه هذا التصرّف الأرعن ، الذي إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على الخُرق وقُصر النظر على الأقل !
ويا أيّها المتوكل على الأبالسة من حاشيتك ، إذا كان لم يقنعك هذا الشّفاء عن طريق النّذر الكبير الذي رَصدته أمّك للإمام ( عليه السلام ) ، وعن طريق استعمال الدواء الذي وصَفه لك ، وكنتَ قد غفلت عن فضله وكرامته على الله ، أفلا يقنعك ما حولك من ظواهر قدْره ومنزلته عند ربّه ، وكيف فاتكَ علم ما رواه أبو الفرج بن الجوزي ـ بإسناده إلى ابن الخطيب عن قصّة أمّك ـ حيث قال :
( كنت كاتباً للسيّدة أمّ المتوكل ، فبينا أنا في الديوان إذ خادم صغير خرجَ من عندها ومعه كيس فيه ألف دينار ، فقال : تقول لك السيّدة : فرِّق هذا في المستحقّين .
فسمّوا لي أشخاصاً ، ففرّقتُ فيهم ثلاثمئة دينار ، والباقي في يدي إلى نصف الليل وإذ طرقَ باب داري رجل من العلويّين ، وهو جاري ، فقال : دخلَ عليّ هذا الساعة رجل من أقربائي ولم يكن عندي طعام ، فأعطيته ديناراً ، فأخذه مسروراً وانصرف.
فلمّا وصلَ إلى الباب خرجَت زوجتي باكيةً وهي تقول : أمَا تستحي ؟ يطلب منك العلويّ وتعطيه ديناراً وقد عرفتَ فقْرَه ! أعطِه الكلّ ،.. فوقعَ كلامها في قلبي ، فناولتهُ الكيس ، فأخذه وانصرف .
ثمّ ندمتُ ، وخفتُ من المتوكل ؛ لأنّه يمقُت العلويّين ،.. فقالت زوجتي : لا تخف واتّكل على الله وعلى جدّهم..
فبينا نحن في الكلام ، إذ يطرق الخَدم الباب بأيديهم المشاعل ويقولون : تدعوك السيّدة ! فقمتُ خائفاً ،.. فأدخلوني عند ستر السيّدة وقالت لي : يا أحمد ، جزاك الله خيراً ، وجزى زوجتك خيراً ! كنتُ الساعة نائمة ، وجاءني النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) وقال لي : جزاكِ الله خيراً ، وجزى الله زوجة الخطيب خيراً ! فما معنى هذا ؟!
فأخبرتها ما جرى وهي تبكي وتقول : هذه الكسوة وهذه الدنانير للعلويّ ، وهذه لزوجتك ، وهذه لك ،.. وكان ذلك يساوي مئة ألف درهم .
فأخذتُ المال ، وجعلتُ طريقي على بيت العلويّ فطرقتُ ، فصاح : هات ما معك يا أحمد ! وخرجَ وهو يبكي..
فسألتهُ عن بكائه ؟ فقال : لمّا دخلتُ منزلي بالكيس قالت لي زوجتي : قم نصلّي وندعو للسيّدة ، ولأحمد وزوجته ،.. فصلّينا ودعونا لهم ، ثمّ نمتُ فرأيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وهو يقول : قد شكرتُهم على ما فعلوا ، والساعة يأتونك بشيءٍ فاقبلهُ منهم ) (213) .
أفما بلغكَ يا ( خليفة المسلمين ) خبر هذه الحادثة من أمّك ؟!
يقيناً ، لا ؛.. لأنّ أمّك على الحقّ الذي عليه الإمام ( عليه السلام ) ، وهي تعرف كرهك للعلويّين ومناصبتك لهم العداء ، وتعلم أنّك قد ركبتَ شيطاناً غويّاً منذ صغرك ونعومة أظفارك ، وأنت جبّار لا تلج النصيحة إلى قلبه !
بل لو كنتَ باقياً إلى زمن المعتضد من سلاطين أسرتك ، لبلغكَ ما أثبته المسعودي في كتابه ( مروج الذهب ) (214) من : أنّ ( المعتضد بالله ) لمّا وليَ الخلافة قرّب آل أبي طالب ؛ لأنّه رأى ـ في المنام ـ وهو في حبس أبيه ، شيخاً جالساً على دجلة يمدّ يده إلى ماء دجلة فيصير في يده وتجفّ دجلة ! ثمّ يردّه من يده فتعود دجلة كما كانت .
قال : فسألت عنه ؟ فقيل : هذا عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
فقمتُ إليه ، وسلّمت عليه ، فقال لي : يا أحمد ، إنّ هذا الأمر صائر إليك ـ أي الخلافة ـ فلا تتعرّض لوِلدي ولا تؤذهم !
فقلت : السمع والطاعة يا أمير المؤمنين )
لم يسمع المتوكل بحادثة أمّه ، ولا أدركَ ما قيل للمعتضد من بعده ،.. ولو سمعَ لولّى مُدبراً كأن لم يسمع ،.. إذ توكّل على نفسه الأمّارة بالسوء ، وركبَ حقده على أهل البيت ، ونسيَ ما قاله نبيّ الإسلام ( صلّى الله عليه وآله ) بشأنهم ،.. وغابَت عنه نومته في حفرته ، وقد قطّعته سيوف غلمانه من الأتراك أشلاءً اختلطت بأشلاء وزيره المقرّب !

حدّث محمد بن موسى بن المتوكل ، عن علي بن إبراهيم ، عن عبد الله بن أحمد الموصلي ، عن الصقر بن أبي دلف الكرخيّ الذي قال :
( لمّا حَمل المتوكل سيّدنا أبا الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) ـ أي حَمله إلى السّجن ـ جئتُ أسأل عن خبره ، فنظرَ إلى الزرافيّ ، وكان خادماً للمتوكل ، فأمرَ أن أدخل إليه ـ أي إلى زرافة الخادم ـ فأُدخلت إليه فقال : يا صقر ، ما شأنك ؟
فقلت : خير يا أستاذ .
فقال : اقعد ،.. فأخذَني ما تقدّم وما تأخّر ـ يعني صار متفكّراً في الأمور السابقة واللاّحقة ، وفي ذلك ما يشير إلى ندمه على المجيء ؛ لأنّه قد يواجه خطراً ـ وقلت : أخطأتُ في المجيء .
فأوجأ الناس عنه ـ أبعدهم ـ ثمّ قال لي : ما شأنك ؟ فيم جئتَ ؟
قلت : لخبرٍ ما .
فقال : لعلّك جئتَ تسأل عن خبر مولاك ؟
فقلت له : ومَن مولاي ؟ مولاي أمير المؤمنين .
فقال : اسكت ! مولاك هو الحقّ ، فلا تحتَشمني ؛ فإنّي على مَذهبك .
فقلت : الحمد لله .
قال : أتحبّ أن تراه ؟
فقلت : نعم .
قال : اجلس حتى يخرج صاحب البريد من عنده ،.. فجلستُ فلمّا خرجَ قال لغلام له : خذ بيد صقر ، وأدخِله إلى الحُجرة التي فيها العلويّ المحبوس ، وخلِّ بينه وبينه .
فأدخَلني إلى الحجرة ، وأومَأ إلى بيتٍ ، فدخلتُ فإذا هو ( عليه السلام ) جالس على صدر حصير ، بحذاه قبر محفور ! فسلّمتُ عليه فردّ عليّ ثمّ أمرَني بالجلوس ، ثمّ قال لي : ( يا صقر ، ما أتى بك ؟
قلت : سيّدي جئتُ أتعرّف خبرك ،.. ثمّ نظرتُ إلى القبر فبكيت .
فنظر إليّ فقال : يا صقر ، لا عليك ، لن يصلوا إلينا بسوء الآن .
فقلت : الحمد لله ،.. ثمّ قلت : يا سيّدي ، حديث روي عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ، لا أعرف معناه .
قال : وما هو ؟
فقلت : قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا تعادوا الأيام فتعاديكم ، ما معناه ؟
فقال : نعم ، إنّ لحديث رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لتأويلاً : الأيام نحن ما قامت السماوات والأرض :
فالسبت : اسم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) .
والأحد : كناية عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
والاثنين : الحسن والحسين .
والثلاثاء : عليّ بن الحسين ، ومحمد بن عليّ ، وجعفر بن محمد .
والأربعاء : موسى بن جعفر ، وعليّ بن موسى ، ومحمد بن عليّ ، وأنا .
والخميس : ابني الحسن بن علي .
والجمعة : ابن ابني ، وإليه تجتمع عصابة الحقّ ، وهو الذي يملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً .
فهذا معنى الأيام ، فلا تعادوهم في الدّنيا ، فيعادوكم في الآخرة ،.. ثمّ قال : ودِّع واخرُج ، فلا آمِن عليك ) (215) .
فسبحان الله ( الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) (216) ، وتنزيهاً لِمن لم يَحجب عن حجّته شيئاً من علمه ، إلاّ ما استأثرَ به لنفسه جلّ وعلا من علم الساعة !
فإمام محبوس ،.. قد صدرَ الأمر بقتله غداة غدٍ ،.. يجاور قبراً محفوراً.. في غرفةٍ مظلمةٍ في غياهب السّجن ،.. ومع ذلك يجلس للعبادة والتّلاوة مطمئنّاً ويقول لصاحبه : ( لا بأس علينا الآن بكلّ جزم ؛ لأنّ ذلك ثابت عنده ، وهو ممّا علّمه ربّه وعرّفه إياه ! ثمّ هو يقول له : اخرُج فلا آمِن عليك ) بعد أن زوّده بما يستفيد منه في دنياه وأخراه .
وبالنسبة للأيام حدّث الحسن بن مسعود فقال :
( دخلتُ على أبي الحسن ، عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) وقد نكبت إصبعي ـ خدشت ـ وتلقّاني راكب وصدمَ كتفي ، ودخلتُ في زحمةٍ فخرّقوا عليّ بعض ثيابي ، فقلت : راكب وصدمَ كتفي ، ودخلتُ في زحمةٍ فخرّقوا عليّ بعض ثيابي ، فقلت : كفاني الله شرّك من يومٍ ، فما أيشمك ! ـ أي ما أشأمك ـ .
فقال لي ( عليه السلام ) : ( يا حسن ، هذا وأنت تغشانا ؟! ترمي بذنبك مَن لا ذنبَ له ؟
قال الحسن : فأثاب إليّ عقلي ، وتبيّنتُ خطأي ، فقلت : يا مولاي أستغفر الله .
فقال : يا حسن ، ما ذنبُ الأيام حتى صرتم تتشئّمون بها إذا جُوزِيتم بأعمالكم فيها ؟
قال الحسن : أنا أستغفر الله أبداً ، وهي توبتي يا بن رسول الله .
قال ( عليه السلام ) : والله ما ينفعكم ، ولكنّ الله يعاقبكم بذمّها على ما لا ذمّ عليها فيه .
أمَا علمتَ يا حسن أنّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال عاجلاً وآجلاً ؟!
قلت : بلى يا مولاي
قال عليه السلام : لا تعُد ولا تجعل للأيام صنعاً في حكم الله .
قال الحسن : بلى يا مولاي . ) (217) .
وإنّ ابن مسعود لم يذكر للإمام ( عليه السلام ) شيئاً عمّا أصابه في الطريق ، ومع ذلك فإنّ خدش إصبعه ، وصَدم كتفه ، وتخريق ثيابه ،.. وتشاؤمه من النهار ـ أيضاً ـ لم تخفَ عليه بل عرفها وكأنّه كان حاضرها ؛ ولذلك لامَه فور دخوله عليه ، ثمّ أنّبهُ على شكواه من ذلك اليوم وهو بطريقه إلى التشرّف برؤية إمامه ،.. ثمّ أدّبه بأدب الإسلام الصحيح .
فمَن كشفَ لإمامنا سلام الله عليه عن ذلك كلّه إذا لم يكونوا الملائكة الذين يعملون بين يديه بأمر ربّه جلّ وعزّ ؟! وهل نستكثر عليه مثل ذلك ، والمأمول أن يعمل بين يدي سفير الله تعالى في أرضه آلاف المحدّثين والمسدّدين والمؤيّدين ؟!
لا ، وكلاّ ؛.. فإنّ بين يدي كلّ سفير أرضيّ وسائل استخباراتٍ كثيرةً ، ومن أنواعٍ شتّى..

فكم ذا ، وكم ذا كان يحلم المتوكل أن يفتك بإمامنا العظيم ، ويبطش به !
وكم من حُلمٍ داعبَ خياله ، فباءَ بالفشل ،.. ثمّ أفاقَ من حمله فوجدَ أنّه قد حجّ على ظهر الشيطان !
فقد روي أنّ أبا سعيد ، سهل بن زياد ، قال :
( حدّثنا أبو العباس ، فضل بن أحمد بن إسرائيل ـ الكاتب في القصر ـ ونحن بداره بسرّ مَن رأى ، فجرى ذكر أبي الحسن ( عليه السلام ) فقال : يا أبا سعيد ، أحدّثك بشيءٍ حدّثني به أبي ؟ قال :
كنّا مع المنتصر (218) ـ ابن المتوكل ـ وكان أبي كاتبه ، فدخلنا الدار وإذا المتوكل على سريره قاعد ، فسلّم المنتصر (219) ووقف ، ووقفتُ خلفه ، وكان عهدي به إذا دخلَ رحّب به وأمرهُ بالقعود ، فأطالَ القيام وجعلَ يرفع رِجلاً ويضع أخرى ، وهو لا يأذن له بالقعود .
ورأيت وجهه ـ أي وجه المتوكل ـ يتغيّر ساعةً بعد ساعةٍ ، وهو يَقبِل على الفتح بن خاقان ويقول : هذا الذي تقول فيه ما تقول ؟!
ويردّد عليه القول ، والفتح يُسكّنه ويقول : هو مكذوب عليه يا أمير المؤمنين وهو يتلظّى ويستشيط ويقول : والله لأقتلنّ هذا المرائي الزنديق ! وهو الذي يدّعي الكذب ، ويطعن في دولتي !
ثمّ طلبَ أربعةً من الخزر أجلافاً لا يفقهون ،.. فجيء بهم ، ودفعَ لهم أسيافاً فأمرَهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخلَ أبو الحسن ( عليه السلام ) ، ويُقبلوا عليه بأسيافهم فيخبطوه ،.. وهو يقول : والله ، لأحرقنّه بعد قتله !
وأنا منتصب خلف المنتصر من وراء السَتر ، فما علمتُ إلاّ بأبي الحسن قد دخلَ وقد بادرَ الناس قدّامه وقالوا : جاء !! والتفتُّ فإذا شفتاه تتحرّكان وهو غير مكترث ولا جازع !
فلمّا رآه المتوكل رمَى بنفسه عن السرير إليه ، وسَبقه وانكبّ عليه يُقبّل بين عينيه ويديه وسيفه بيده وهو يقول : يا سيّدي ، يا بن رسول الله ، يا خير خلق الله ، يا بن عمّي ، يا مولاي يا أبا الحسن !
وأبو الحسن ( عليه السلام ) يقول : ( أعيذك يا أمير المؤمنين بالله ، اعفني من هذا ـ أي من هذا التبجيل الكاذب ـ .
فقال ـ المتوكل ـ : ما جاء بك يا سيّدي في هذا الوقت ؟
قال : جاءني رسولك فقال : المتوكل يدعوك ) .
قال : كذبَ ابن الفاعلة ، ارجع يا سيدي ،.. يا فتْح ،.. يا عبد الله ،.. يا منتصر : شيّعوا سيّدكم وسيّدي .
فلمّا بصرَ به الخزر خرّوا سجّداً !
فلمّا خرجَ دعاهم المتوكل ، ثمّ أمرَ الترجمان أن يخبره بما يقولون ، ثمّ قال لهم : لِمَ لَم تفعلوا ما أمرتُكم به ؟
قالوا : شدّة هيبته ! ورأينا حوله أكثر من مئة سيفٍ لم نقدر أن نتأمّلهم ، فمنَعَنا ذلك ممّا أمرتَ به ، وامتلأتْ قلوبنا رعباً !
فقال المتوكل : يا فتْح ، هذا صاحبك ،.. وضحكَ في وجه الفتْح ، وضحكَ الفتْح في وجهه ، وقال : الحمد لله الذي بيّض وجهه وأنارَ حجّته ) (220) .
فاسألوا معي خليفة الزمان عن الذي قلبَ غضبه العارم ، وأطفأ نار حقده حين رأى الإمام ( عليه السلام ) داخلاً ؟! لقد كان يتلظّى غيظاً وحنقاً ،.. ثمّ رَمى نفسه عن السرير يتفدّاه ويحار في التزلّف إليه والتقرّب منه ،.. ثمّ تلعثمَ لسانه حين مخاطبته وكالَ له النّعوت والألقاب !
لقد أرسلَ بطلبه ، وجنّد له أربعةً من الخزر الأجلاف ، وشحذَ الأسياف ،.. وقعدَ بالمرصاد ينتظر قدومه ،.. ثمّ ترامَى عليه ذليلاً ، مهاناً ،.. أمام.. ( خير خلق الله.. ) ، وعلى قَدَمي ( ابن عمّه ).. ابن رسول الله !!
يا فتْح ،.. يا عبد الله ،.. يا منتصر : أنبِئوني بعلمٍ عن هذا الخليفة القُلّب الحُوَّل إن كنتم لنَعته تَعبرون ،.. وبيّنوا لي تفسير موقفٍ خسيسٍ من مواقف إبليس أرضيٍّ تطاولَ إلى النَيْل ممّن كرّمته السماء !
لا شيء عندكم قطعاً ، إلاّ إذا تكلّمتم ـ بالصراحة ـ عن الهيبة الإلهيّة التي يخلعها الله تبارك وتعالى على أمنائه من الأنبياء والأوصياء والأولياء ،.. وليس لأحدٍ من المخلوقين قدرة على نزعها عنهم مهما مكرَ وكاد ،.. وكفرَ وركبَ العناد !
وسنري القارئ بعض آثار هيبة الولاية الربّانية في مظهرٍ آخر فيما رواه محمد بن الحسن بن الأشتر ، العلويّ الذي قال :
( كنتُ مع أبي على باب المتوكل وأنا صبيّ في جمعٍ من الناس ، ما بين طالبيّ إلى عباسيّ ، وجعفريّ إلى جنديّ إلى غير ذلك وقوف..
وكان إذا جاء أبو الحسن ( عليه السلام ) ترجّل الناس كلّهم حتى يدخل .
فتحالَفوا ألاّ نترجّل لهذا الغلام ، فقال بعضهم لبعض : لِمَ نترجّل لهذا الغلام وما هو بأشرفنا ، ولا بأكبرنا ، ولا بأسَنّنا ، ولا بأعلَمنا ؟! والله لا تَرجّلنا له .
فقال لهم أبو هاشم الجعفريّ : والله ، لتترجّلنّ له صاغرين إذا رأيتموه !
فما هو إلاّ أن أقبلَ وبصروا به ، ترجّل النّاس كلّهم !! فقال أبو هاشم : أليس زعمتم أنّكم لا تترجّلون ؟!
فقالوا : والله ، ما مَلكنا أنفسنا حتى تَرجّلنا ) (221) .
أفمَن أهوى بهذه الكتل البشريّة على الأرض صاغرةً باخعةً ، وأنزلَ هذه الفرسان عن خيولها ذليلةً خاضعةً ، لا يستحقّ وقفة تأمّلٍ منكم يا ( أوادم ) سامرّاء ، ويا مرتادي قصر الإمارة ؟!
ولِمَ انخلَعت قلوب هذه الغوغاء التي تآمرت مسبقاً أن لا تتظاهر باحترام الإمام الغلام ؟! ولماذا ( لم تَملك نفوسها ) حتى تَرجّلت مطأطئة الرؤوس ؟!
اسأل بذلك خبيراً ،.. واسأل الرّيح التي شالت السّتور بين يدي الإمام حين دخلَ قصر الإمارة والمؤامرات وحين خرجَ منه ،.. فعند تلك الرّيح ، تجد الخبر الصحيح !!
فهي ـ دون حيصٍ وبيصٍ ـ هيبة علويّة ، محمّديّة ، علويّة ، ألقى عليها بارئها شيئاً من هيبته وعظمته !
ولا تنسَ أنّ الملائكة المسدّدين والمؤيّدين قد لكَموا المتآمرين على الإمام في متونهم ، فأهووا راجلين يدوسون صلافتهم وعنجهيّتهم ،.. وأنّ قدرة الله الخفيّة ، وكلمته القدسيّة التي تقول للشيء : كن فيكون ، هي ـ أيضاً ـ مَحَت شَرفهم المدّعى ، ومَسحت كِبرهم المصطنع ، وما احترَمت سنّ الكبير ، ولا حماقة الصغير ! فترجّلوا ـ هيبةً له سلام الله عليه ـ راغمي أُنوفهم ( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ) (222).. وقلوبهم خواء !

قال المسعودي في ( مروج الذهب ) :
( وكان قد سُعي بأبي الحسن ، عليّ بن محمد ـ أي أُفسد عليه ـ عند المتوكل وقيل : إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، فوجّه إليه ليلاً من الأتراك وغيرهم مَن هجمَ عليه في منزله على غفلةٍ ممّن في داره ، فوجدوه في بيتٍ وحده مغلقٍ عليه ، وعليه مدرعة من شَعر ، ولا بساط في البيت إلاّ الرّمل والحصى ، وعلى رأسه ملحفة من الصوف ، وهو يترنّم بآياتٍ من القرآن في الوعد والوعيد .
فأُخذَ على ما وجِد عليه ، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل !
فَمثُلَ بين يديه والمتوكل يشرب وفي يده كأس !
فلمّا رآه هابهُ وعظّمه ، وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في بيته شيء ممّا قيل فيه ، ولا حالة يتعلّل بها عليه .
فناولهُ المتوكل الكأس الذي في يده ، فقال : ( والله ، ما خامرَ لحمي ودمي قط ، فاعفِني منه .
فأعفاه وقال : أنشِدني شعراً أستحسنهُ .
فقال ( عليه السلام ) : إنّي لقليل الرّواية للأشعار .
فقال : لابدّ أن تنشدني .
فأنشدهُ ( عليه السلام ) ، وهو جالس عنده :
بَـاتُوْا على قُلَلِ الأَجْبَالِ تَحْرِسُهُمْ
غُـلْبُ الـرجالِ فَـلم تَنفَعهم iiالقُلَلُ
واسـتُنْزِلُوا  بَـعْدَ عِزٍّ مِنْ مَعَاقِلِهِمْ
وَأُسْـكِنُوْا حُـفَرَاً يَا بِئْسَ مَا نَزَلُوا
نَادَاهمُ  صارخٌ مِنْ بَعْدِ ما قُبروا :
أَيْـنَ الأَسِـرَّةُ وَالتِيْجَانُ وَالحُلَلُ ؟
أَيْـنَ  الـوُجُوْهُ التِيْ كَانَتْ مُنَعَّمَةً
مِنْ دُوْنِهَا تُضْرَبُ الأَسْتَارُ وَالكِلَلُ ؟
فَأَفْصَحَ  القَبْرُ عَنْهُمْ حِيْنَ سَاءَلَهُمْ :
تِـلْكَ الـوُجُوْهُ عَـلَيْهَا الدُوْدُ يَنْتَقِلُ
قَـدْ طَالَ مَا أَكَلُوْا دَهْرَاً وَمَا شَرِبُوْا
فَـأَصْبَحُوْا  بَـعْدَ الأَكْـلِ قَدْ أُكِلُوْا
وَطَـالَمَا  عَـمَّرُوا دُوْرَاً iiلِتَحْصِنَهُمْ
فَـفَارَقُوْا الـدُوْرَ وَالأَهْلِيْنَ وَانْتَقَلُوْا
وَطَـالَمَا كَـنَزُوْا الأَمْوَالَ وادَّخَرُوْا
فَـخَلَّفُوْهَا عَـلَى الأَعْدَاءِ وَارْتَحَلُوْا
أَضْـحَتْ  مَـنَازِلُهُمْ قَـفْراً مُعَطَّلَةً
وَسَـاكِنُوْهَا إِلَى الأَجْدَاثِ قَدْ رَحَلُوْا
قال : فأشفقَ كلّ مَن حضر على عليّ ، وظنّ أنّ بادرةً تبدر منه إليه .
قال : والله ، لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً حتى بلّت دموعه لحيته ! وبكى مَن حضره ، ثمّ أمرَ أن يُرفع الشراب ثمّ قال : يا أبا الحسن ، أعليك دَين ؟
قال : نعم ، أربعة آلاف دينار .
فأمرَ بدفعها إليه ، وردّه إلى منزله من ساعته مكرّماً ) .
وقد روى الكراكجيّ هذا الحديث في ( كنز الفوائد ) وقال : ( فضربَ المتوكل بالكأس الأرض وتنغّص عيشه في ذلك اليوم )(223) .
فمرحَى لخليفة المسلمين الذي يقعد مقعد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، مستعيضاً عن نافلة الليل والصلاة والتهجّد والدّعاء في جوف اللّيل ، بكأس الخمر ومعاقرة الشراب !
هذا ، وهو ( المتوكل على الله ) لقباً ! فكيف إذا تلقّب بألقاب النّماردة والفراعنة المتعالين على الناس ؟!
لقد أرعبَ وليّ الله ، وكبسَ عليه بيته ، ثمّ حَمله عن مصلاّه ـ بثياب اللّيل ـ  وتجرّأ على ذلك بقلبٍ قاس ، ثمّ تحدّى الله بأن أدخله مجلس شرابه ،.. وعرضَ عليه الكأس ! استهزاءً به وبمَن اصطفاه لولاية الناس ، واستهتاراً بالدين والمتديّنين !
ومن الواضح الجليّ : أنّ هذه الأبيات التي أنشأها الإمام ( عليه السلام ) في ذلك المجلس الماجن ، المتعدّي على حدود ما أنزلَ الله تعالى ، كانت للتصريح أقرب منها للتلميح ، وقد كانت صفعةً في جبين ( خليفة المسلمين ) ، الذي يعاقر الخمر والشراب بوقاحة المتحدّي لربّه ودينه ونبيّه ،.. ونداءً صارخاً فيه تخويف وترهيب أوحاهما الإمام بصوته الشجيّ الرقيق الذي استنزلَ الدّموع ، وأحرقَ الضّلوع !
فكأنّه ( عليه السلام ) قد قال مفصحاً : يا أيّها الخليفة المغرور بدنياه ، المتهتّك بدينه ، الذي يسكن أعالي القصور ، ويحيط به الخَدم والحشم ، ويقوم على حفظه الحرّاس والجنود ، قريباً ما تنزل في حفرة يتضيّق عليك فيها قبرك ، ويضغط عليك لِحدك حتى تلتقي أضلاعك ! وعاجلاً ما يوبّخك المَلَكان على ظلمك لنفسك ولرعيّتك ،.. ثمّ يلقي عليك الزمان بكلكله فتسرح في جسمك الدّيدان فتُبشّع نضارة وجهك المتنعّم بغضارة العيش ،.. ثمّ يفنى جسمك ، وينتخر عظمك ،.. وتبقى أسير عملك ، وتبوء بإثمك وخطاياك ،.. ويطويك النسيان فلا تذكر إلاّ بما عصيتَ به ربّك في حياتك الدّنيا..
فماذا أعددتَ لذلك العهد الجديد أيها الخليفة السعيد الذي كان له في دنياه ـ بحسب ما قاله المسعودي في مروج الذهب (224) ـ أربعة آلاف سرّيةٍ وطأهنّ كلّهنّ ! والذي ليس له في أخراه سوى الشّقاء والعذاب ؛ إذ لم يكن في بيت النبوّة مثل هذا العدد من السّراري والجواري ، ولا في بيوت أحدٍ من السلاطين والطّغاة..

ومن الأمثلة الدالّة على سوء تصرّف المطوّقين لقصر الخلافة وربّه ـ بما فيه من مفاسد وموبقات ـ ما حكاه ابن أرومة ، ورواه عنه أبو سليمان الذي قال :
( خرجتُ إلى سرّ مَن رأى أيام المتوكل ، فدخلتُ على سعيد ـ الحاجب ـ وقد دفعَ المتوكل أبا الحسن ( عليه السلام ) إليه ليقتله .
فقال ـ سعيد ـ : أتحبّ أن ترى إلهك ؟
فقلت : سبحان الله ، إلهي لا تُدركه الأبصار !
فقال : هذا الذي تزعمون أنّه إمامكم .
قلت : ما أكره ذلك .
قال : قد أُمرتُ بقتله ، وأنا فاعله غداً ، وعنده صاحب البريد ، فإذا خرجَ صاحب البريد فادخُل عليه .
ولم ألبث أن خرجَ ، فدخلتُ الدار التي كان فيها محبوساً ، وهو جالس وبحياله قبر يحفر ! فسلّمت عليه وبكيتُ بكاءً شديداً .
فقال : ( ما يبكيك ؟
قلت : ما أرى .
قال : لا تبكِ لذلك ؛ إنّه لا يتمّ لهم ذلك .
فسكنَ ما كان بي ، فقال : إنّه لا يلبث أكثر من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته ) .
فو الله ما مضى غير يومين حتى قُتِل ) (225) .
فيا سعيد الحاجب : إنّك الشقّي الخائب ، الذي غيّب عن فكره أجَله المخروم كما غيّب هو عن قلبه فكر ربّه بالمرّة ! وظنّ أنّه خالد ولم يعمل حساباً إلى أنّه سيُقتل ـ هو ـ بعد يومين مع صاحبه الذي أراد ( شيئاً ) ،.. وأراد الله تعالى غيره ! إنّ دهرك الذي أمنتَ له غدّار ،.. وسيُقذف بك وبسيّدك من قمّة الإمارة والصّدارة ،.. إلى حفرة من حُفر النّار ،.. لا تشبه القبر الذي حفرتماه للإمام ( عليه السلام ) ،.. وإنّه لأسوأ زادٍ لأميرك ، أن يبوء بهذا الإثم العظيم حين يأمرك بقتل الإمام قبل أن ينخرك أجَل ذلك الأمير بثمانٍ وأربعين ساعة !! وإنّك ـ يا سعيد ـ لمِن أشقى مَن على ظهرها ؛ إذ جرّك أميرك إلى حتفك ، كما جررتهُ أنت وزملاؤك إلى حتفه بأظلافكم وبألسنتكم التي لم تَعرف ذكر الله !

وقبل أن نطوي شريط حوادث سعيد الحاجب مع الإمام ( عليه السلام ) ، نعود إلى بعض ما سبقَ حادثته هذه من إعلام الغيب التي صرّح بها الإمام منذراً بقتل المتوكل وأعوانه ، فقد قال عليّ بن محمد النوفلي :
( قال عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ـ لمّا بَدا الموسوم بالمتوكل بعمارة سرّ مَن رأى والحفرية ـ : ( يا عليّ ، إنّ هذا الطاغية يبتلي ببناء مدينةٍ لا تتمّ ، ويكون حَتفه قبل تمامها على يد فرعون من فراعنة الأتراك !
ثمّ قال : يا عليّ ، إنّ الله عزّ وجلّ اصطفى محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) بالنبوّة والبرهان ، واصطفاه بالمحبّة والتّبيان ، وجعلَ كرامة الصّفوة لِمن ترى ـ يعني نفسه ( عليه السلام ) ـ ) (226) .
فالخليفة منهمك بوضع حجَر الأساس للمدينة الحفرية التي ينشئها بين قصره والعسكر في سرّ مَن رأى ،.. والنوفليّ سمعَ إنذار الإمام ( عليه السلام ) ،.. وانتظرَ قَتل الخليفة كأمر واقعٍ لا محالة ،.. وأخذَت نهاية الخليفة وأعوانه تقترب حين كانت لا تخطر على البال ،.. وبَدت بشائر الخلاص تترى على لسان إمامنا الذي ينطق عن إعلام الغيب التي اختصّه الله سبحانه بها ،.. فقد قال ـ أيضاً ـ عليّ بن جعفر رحمه الله :
( قلت لأبي الحسن ( عليه السلام ) : أينا أشدّ حبّاً لصاحبه ؟
قال : ( أشدّكم حبّاً لصاحبه.. ـ في حديث طويل ـ ثمّ قال ( عليه السلام ) : يا عليّ ، إنّ هذا المتوكل يَبني بين المدينة بناءً لا يتمّ ، ويكون هلاكه قبل تمامه على يد فرعون من فراعنة التّرك ) (227) .
فكان ذلك كذلك ،.. وقُتِل المتوكل بيد قائدٍ من قوّاد عسكره ـ هو باغر التّركيّ ـ ، وبسيفٍ بَحثَ عنه المتوكل ـ نفسه ـ ما بين البصرة واليمن ، واختاره على بقيّة سيوف مملكته ليكون قتله به دون غيره ، كما ترى عمّا قريب .
أمّا البناء فهو الحفرية ـ أي مدينة سرّ مَن رأى المحاذية لمدينة العسكر ـ التي شرعَ بإقامتها بين قصره وبين ثكنات جيشه ، وقيل : هو بناء الحيريّ ـ نسبة إلى أبنية ملوك الحيرة ـ الذي يكون بشكل جبهة الحرب وهيئتها ، فلهُ صدر فيه مجلس المَلك ، ويمنةٌ يكون فيها خواصّه مع خزائن الكسوة ، وميسرة فيها كلّ ما احتيجَ إليه من شراب وغيره من وسائل اللّهو والمغنيّين ، وأبواب الأجنحة كلّها تطلّ على الرواق الذي فيه المَلك ،.. وكثيراً ما راودَ فكر الخليفة هذا البناء الذي يختلف كثيراً عن بيت رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ومسجده !
ثمّ نعود إلى سعيد الحاجب ـ الصغير الذي هو غير سعيد المذكور ـ فيما قاله الحسن بن محمد بن الجمهور العمّي الذي قال:
( سمعتُ من سعيد الصغير ـ الحاجب ـ قال : دخلتُ على سعيد الحاجب فقلت : يا أبا عثمان ، قد صرتُ من أصحابك ـ وكان يتشيّع ـ .
فقال : هيهات !
فقلت : بلى والله .
فقال : وكيف ذلك ؟!
قال : بَعثني المتوكل وأمرَني أن أكبس على عليّ بن محمد بن الرّضا ، وأنظرُ ما يفعل ،.. ففعلتُ فوجدته يصلّي ، فبقيتُ قائماً حتى فرغ .
فلمّا انفصلَ من صلاته أقبلَ عليّ وقال : ( يا سعيد ، لا يكفّ عنّي جعفر ـ أي المتوكل ـ حتّى يُقطّع إرباً إرباً ؟! اذهب ، واغرب ،..) وأشارَ بيده فخرجتُ مرعوباً ، ودَخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه ! فلمّا رجعتُ إلى المتوكل سمعتُ الصيحة والواعية ، فسألتُ عنه ، فقيل : قُتل المتوكل ! فرجعتُ وقلت بها )ـ أي بإمامة الإمام ( عليه السلام ) ـ  .
فنهاية الخليفة كان أمرها معلوماً ـ ومنذ زمنٍ بعيدٍ ـ عند خاصّة الإمام سلام الله عليه ؛ إذ روي أنّ رجلاً من أهل المدائن كتبَ إليه يسأله عمّا بقيَ من مُلك المتوكل ، فكتبَ إليه ـ قبل هذا الوقت بخمسة عشر عاماً ـ :
بسم الله الرّحمن الرّحيم قال : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ) ) (228) .
فالأمر محتوم عند الخالق عزّ وعلا ، معلوم عند خليفته في أرضه الحامل أمره ؛ إذ قُتل المتوكل في مطلع العام الخامس عشر من تاريخ هذا الكتاب الكريم ،.. ومَن كان يوقّت لقتله منذ تلك المدة الطويلة ، يعرف خطواته إلى الموت واحدةً واحدةً ، ويحصي عليه أنفاسه بقدرة الله تبارك وتعالى .

أمّا طامّة ( قصر الإمارة والمؤامرات ) التي لم يكن لها لامّة ، فهي محاولة ربّ ( القصر الماخور ) أن يحطّ من كرامة أهل الكرامة أجمعين أكتَعِين أبصَعِين ،.. ليحطّ من كرامة الإمام ( عليه السلام ) في ذات الوقت ؛.. ذلك أنّه دبّر مكيدةً عظيمةً ،.. فانقلبت على رأسه ! وحفرَ للإمام حفيرةً ،.. فلاقى هو حفرته التي هي واحدة من حُفر جهنّم !
وها نحن نطلع قارئنا الكريم على القصة مرويّة بعدّة أسانيد وعدّة أشكال ، وهذه أُولى الروايات :
( روي أنّه لمّا كان يوم الفطر في السنة التي قُتل فيها المتوكل ، أمرَ المتوكل بني هاشم بالتّرجّل والمشي بين يديه ، وإنّما أراد بذلك أن يترجّل أبو الحسن ( عليه السلام ) ! فترجّل بنو هاشم ، وترجّل أبو الحسن ( عليه السلام ) ، واتّكأ على رجل من مواليه ، فأقبلَ عليه الهاشميّون وقالوا : يا سيّدنا ، ما في هذا العالَم أحد يُستجاب دعاؤه ويكفينا الله به ، تعزّز هذا ؟! ـ أي المتوكل ـ .
قال لهم أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( في هذا العالَم من قُلامة ظفره أكرم على الله من ناقة ثمود ! لمّا عُقرت الناقة صاحَ الفصيل إلى الله تعالى ، فقال الله سبحانه : ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (229) .
فقُتل المتوكل يوم الثالث ) (230) .
و( رويَ أنّ المتوكل قُتل في الرابع من شوال ـ حسب وعد الإمام ـ سنة سبع وأربعين ومئتين ، أي في سبع وعشرين سنةً من إمامة أبي الحسن ( عليه السلام ) (231)
وكان قتلهُ آيةً من آيات الله العظمى ؛ إذ حدّث البحتريّ ـ البختريّ على الأصح ـ أنّه جرى ذكر السيوف عنده ، فوصفوا له سيفاً نادراً في البصرة ، فكتبَ إلى عامله فيها يَطلب السيف بأيّ ثمن كان ! فردّ عليه أنّ السيف بيعَ إلى اليمن .
فكتبَ إلى واليه هناك أن يشتريه مهما كان ثمنه ، ويرسله إليه ،.. فاشتراه له بعشرة آلاف درهم ، وبَعثَ به إليه .
فكلّف الفتح بن خاقان أن يختار له بطلاً من الغلمان يحمله فوق رأسه ويحرسه ، فاختار له ( باغر ) التّركيّ الشجاع المعروف ، فسلّمه إيّاه ، وزادَ له في مرتّبه ، ورفعَ مرتبته .
وحلفَ البختريّ بالله تعالى أنّ ذلك السيف ما انتضى ولا خرجَ من غمده ، إلاّ في الليلة التي ضَربَ فيها ( باغر ) التّركيّ المتوكل حين قَتله ) (232) .
وحكاية تلك المذبحة عجيبة ، ومَن شاء أن يطّلع عليها بالتفصيل ليشاهد رهبة ملحمةٍ غريبةٍ خُلقت من ساعتها ، وقُتل فيها المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان ، فليراجع مروج الذهب للمسعودي في أحداث سنة مئتين وسبعٍ وأربعين .

أمّا الرواية الثانية ، فهي التي ذكرها الحسن بن محمد بن جمهور العمّي في كتاب ( الواحدة ) حيث قال :
( كان لي صديق مؤدّب لوِلد ( بغا ) أو ( وصيف ) ـ والشكّ منّي ـ فقال لي : قال لي الأمير حين منصرفه من دار الخلافة ـ أي ساعة خروجه ـ : حَبسَ أمير المؤمنين هذا الذي يقولون ابن الرّضا اليوم ودَفَعه إلى عليّ بن كركر ـ السجّان ـ فسمعتهُ يقول :
( أنا أكرم على الله من ناقة صالح ! ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (233) وليس يفصح بالآية ولا بالكلام ، أيّ شيء هذا ؟
قال : قلت : أعزّك الله ، توعِد
انظر ما يكون بعد ثلاثة أيام !
فلمّا كان من الغد أطلقهُ المتوكل واعتذرَ إليه .
فلمّا كان اليوم الثالث وثبَ عليه ( باغر ) و( يغلون ) و( تامش ) وجماعة معهم ، فقتلوه وأقعَدوا المنتصر ولدهُ خليفة ) (234).
فالأمير ( التّركيّ ).. فهمَ أنّ وراء قول الإمام لغزاً وعلامةً للاستفهام ، ثمّ نقلَ دهشته إلى مؤدّب أولاده مستغرباً ،.. فما بال هؤلاء ( العرب الأقحاح ) لا يفهمون شيئاً ممّا يقوله الإمام صلوات الله وسلامه عليه ؟! إنّهم ( لا يريدون ) أن يفهموا..
أمّا ( بغا ) ، و( باغر ) ، و( يغلون ) ، و( تامش ) فهم قوّاد من عشرات آلاف من الأتراك الذين استقدَمهم واستخدمهم العباسيون لحماية ( إمارةٍ للمؤمنين ) ،.. وليُنكّلوا بالمؤمنين ! ولا يعلم إلاّ الله تعالى وحده كم قَتلوا من العَلويّين ـ ومن ذوي الهوى العلويّ ـ ومن أهل الدّين المجاهرين بالحقّ ،.. ثمّ مات كلّ خليفةٍ منهم قبل أن يروي غليله من دماء العلماء الربّانيّين ـ من مختلف المذاهب ـ ومن دماء ذرّية النبي ( صلّى الله عليه وآله ) بالخصوص !
ولكنّها دارت الأيام ،.. وفُتحت العيون على انقطاع دابر العباسيّين أخيراً وانقراض نسلهم عن وجه البسيطة ، وعلى بني عليّ وفاطمة ( عليهما السلام ) تزدحم بهم الأرض بالطول والعرض !
وإذا سألت الأمويّين عن ذلك ، أجابوك بالآيتين الكريمتين : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ) (235) فجوابهم موجود في مضمون هاتين الآيتين الشريفتين..
فما هو جواب بني العباس ؟!
وهل هو سوى قول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لعمّه العباس : ( ويلٌ لذرّيتي من وِلدك ؟! ) ، فقد سبقَ في علم الله سبحانه فساد وِلده ، وإفسادهم في الأرض .
أمّا عشرات الألوف من الأتراك المستقدمين المستخدَمين لحماية مُلك العباسيّين ، فقد كان فيهم الأمير والجنديّ ، والعالِم والجاهل ، والمسلم والملحِد ، والمرتزق والطامع ،.. وقد أثبتوا وجودهم وثبّتوا جذورهم في السلطة فحكموا البلاد ، وأذلّوا العباد ، وزجّوا الخليفة ـ أخيراً ـ في زاوية قصره ولعبوا به وبإمارة المؤمنين ، فعزَلوا مَن عزلوا ، وولّوا مَن ولّوا ،.. و( بغا ) نموذج منهم قال عنه المسعودي :
( كان بغا من الأتراك من غلمان المعتصم ، يشهد الحروب العظام ويباشرها بنفسه فيخرج منها سالماً ، ولم يكن يلبس على بَدنه شيئاً من الحديد ، فعُذل في ذلك فقال رأيت في نومي النبي ( صلّى الله عليه وآله ) ، ومعه جماعة من أصحابه ، فقال :
يا بغا ، أحسنتَ إلى رجلٍ من أمّتي ، فدعا لك بدعواتٍ استُجيبت له فيك .
قال : فقلت : يا رسول الله ، ومَن ذلك الرّجل ؟
قال : الّذي خلّصته من السّباع .
فقلت : يا رسول الله ، فَسل ربّك أن يطيل عمري .
فشالَ يده نحو السماء وقال : اللّهم أطِل عمره وأنسِئ في أجله .
فقلت : يا رسول الله ، خمس وتسعون سنة .
فقال : خمس وتسعون سنة .
فقال رجل كان بين يديه : ويوقَى من الآفات .
فقال النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : ويوقى من الآفات .
فقلت للرّجل : مَن أنت ؟
قال : أنا عليّ بن أبي طالب .
فاستيقظتُ من نومي وأنا أقول : عليّ بن أبي طالب !
وكان بغا كثير التعطّف والبِرّ على الطالبيّين ، فقيل له : ما كان ذلك الرّجل الذي خلّصته من السّباع ؟
قال : أُتيَ المعتصم بالله برجلٍ قد رُمي ببدعةٍ ، فجرَت بينهم في اللّيل مخاطبة في خلوةٍ فقال لي المعتصم : خُذ هذا فألقه إلى السّباع .
فأتيتُ بالرجل إلى السّباع لألقيه إليها وأنا مغتاظ عليه ، فسمعته يقول : اللّهم إنّك تَعلم أنّي ما كلّمت إلاّ فيك ، ولا نصرتُ إلاّ دينك ، ولا أتيت إلاّ من توحيدك ، ولم أرِد غيرك تقرّباً إليك بطاعتك ، وإقامةً للحقّ على مَن خالفك ، أفتُسلمني ؟!
قال بغا : فارتعدتُ وداخَلتني رقّة ، ومُلئ قلبي رعباً ، فجذبتهُ عن طرف بركة السّباع وقد كدتُ أن أزجّ به فيها ، وأتيتُ به إلى حُجرتي فأخفيته فيها .
وأتيتُ المعتصم فقال : هيه !
فقلتُ : ألقيته .
فقال : فما سمعته يقول ؟
قلت : أنا أعجميّ وكان يتكلّم بكلام عربيّ ، ما كنتُ أعلم ما يقول..
وقد كان الرجل أغلظَ للمعتصم في خطابه .
فلمّا كان في السحر قلت للرجل : قد فتحتُ الأبواب ، وأنا مُخرجك مع رجال الحَرس ، وقد آثرتك على نفسي ووقيتك بروحي ، فاجهد أن لا تظهر في أيام المعتصم .
قال : نعم .
قلت : فما خبرك ؟
قال : هجمَ رجل من عمّاله في بلدنا على ارتكاب المحارم والفجور ، وإماتة الحقّ ونصر الباطل ، فسرَى ذلك في إفساد الشريعة وهدم التوحيد ، فلم أجِد ناصراً عليه ، فوثبتُ عليه في ليلة فقتلته ؛ لأنّ جُرمه كان مستحقّاً في الشريعة أن يُفعل به ذلك ، فأُخِذت ، فكان ما رأيت ) (236) .
لقد ارتَعدت فرائص هذا القائد التّركيّ الجبّار ، ومُلئ قلبه رعباً حين سمعَ من هذا الرجل ما سمعه من ذكر الله تبارك وتعالى ، وتَرأّف به لمّا عَرف إيمانه وغِيرته على الدّين ، وتحمّل مسؤوليّة إنجائه من الحكم الظالم عليه بإلقائه طعمةً للسّباع ، تمزّق لحمه وتنهش عظامه ، ثأراً لفاسقٍ من موظّفيه الّذين ينشرون الفساد في البلاد ؟! وهل نزلَ مثل هذا الحكم في شريعةٍ من شرائع السّماء ؟!
قد فعلَ ذلك إبقاء على سلطانه بلا شك ، ولكن ما هو الدّين الذي كان يعتنقه الخليفة على المسلمين ؟! وهل كان من شروط الخلافة في الإسلام أن يكون ( قصر الإمارة ) مقصف لهوٍ وطربٍ وقِيانٍ وحِسانٍ ، ووصائف وغلمان ،.. ومركز مؤامرات على مَن يحمل في قلبه ذرّةً من الإيمان ؟!
***
أمّا الرواية الثالثة ، فهي ما حكاه أبو القاسم البغداديّ ، عن زرافة ـ خادم المتوكل ـ الذي قال :
( أرادَ المتوكل أن يُمشي عليّ بن محمد بن الرّضا ( عليهم السلام ) يوم السلام ـ وذلك للتصغير من شأنه حين يجبره على المشي بين يديه كعامّة النّاس ـ .
فقال له وزيره : إنّ في هذا شناعةً عليك وسوء قالةٍ ، فلا تفعل .
قال : لابدّ من هذا .
قال الوزير ـ وهو الفتح بن خاقان ـ : فإن لم يكن بدّ من هذا ، فتقدّم ـ أي أصدِر أمراً ـ بأن يمشي القوّاد والأشراف كلّهم ؛ حتى لا يظنّ الناس أنّك قصدتهُ بهذا دون غيره
ففعل ، ومشى الإمام ( عليه السلام ) !
وكان الصيف ، فوافى الدهليز وقد عَرق ، فقال زرافة ـ خادم المتوكل ـ : فلقيته فأجلستهُ في الدهليز ومسحتُ وجهه بمنديل وقلت : ابن عمّك لم يقصدك بهذا دون غيرك ، فلا تجد عليه في قلبك .
فقال ( عليه السلام ) : ( إيهاً عنك ـ أي كُفّ عن ذلك ـ ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) ) (237) .
قال زرافة : وكان عندي معلّم يتشيّع ، وكنت كثيراً ما أمازحه بالرافضي ،.. فانصرَفت إلى منزلي وقت العشاء وقلت : تعالَ يا رافضيّ حتى أُحدّثك بشيءٍ سمعتهُ اليوم من إمامكم .
فقال لي : وما سمعتَ ؟
فأخبرته بما قال .
فقال : أقول لك فاقبل نصيحتي .
قلت : هاتها .
قال : إن كان عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) قال بما قلت ، فاحترِز واخزِن كلّ ما تملكه ؛ فإنّ المتوكل يموت أو يُقتل بعد ثلاثة أيام .
فغضبتُ عليه وشتمته وطردته من بين يديّ ، فخرجَ ،.. فلمّا خلوتُ بنفسي تفكّرت وقلت : ما يضرّني أن آخذ بالحزم ؟ فإن كان من شيءٍ ، كنت قد أخذتُ بالحزم ، وإن لم يكن لم يضرّني ذلك .
قال : فركبتُ إلى دار المتوكل ، فأخرجتُ كلّ ما كان لي فيها ، وفرّقتُ كلّ ما كان في داري إلى عند أقوام أثق بهم ، ولم أترك في داري إلاّ حصيراً أقعد عليه ،.. فلمّا كانت الليلة الرابعة قُتل المتوكل وسَلِمتُ أنا ومالي ،.. وتشيّعت عند ذلك ، فصرتُ إليه ولزمتُ خدمته ، وسألتهُ أن يدعو لي ، وتوليتهُ حقّ الولاية ) (238) .
فلم يتنبّأ الإمام سلام الله عليه بموت المتوكل ،.. ولا أوحيَ إليه ذلك وحياً ،.. ولكنّه من صميم علمه الّذي علّمه الله تبارك وتعالى وجعله يعرف الآجال ، ويطّلع على الأعمال بيسيرٍ ، كما بيّنا سابقاً في أول الكتاب .
وفّقَنا الله سبحانه للإيمان بسرّك يا مولاي وسرّ آبائك وأجدادك وبنيك ؛ لنفوزمع الفائزين بولايتكم ، وننال مرضاة ربّنا عزّ وجلّ ،.. فإنّك لكَما قال أبو بديل التميمي فيك :
أنتَ من هاشم بن عبد مناف بن
قـصيّ  فـي سـرّها المختار
فـي اللّباب وفي الأرفع الأرفع
منهم  وفي النّضار النّضار (239)

وأمّا الرواية الرابعة ، ( ففي رواية سالم أنّ المتوكل أمرَ الفتح بن خاقان بسبّه ـ أي بسبّ الإمام والعياذ بالله من ذلك ـ فذكرَ له الفتْح ذلك ! أي ذكرهُ للإمام ( عليه السلام ) .
فقال : ( فَقَال تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (240) .
وأنهى ذلك إلى المتوكل ـ أي نقلَ له الفتْح قول الإمام ـ ، فقال ـ المتوكل ـ : أنا أقتله بعد ثلاثة أيام .
فلمّا كان اليوم الثالث ، قُتل المتوكل والفتْح ! ) (241) .
( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) (242) .
وكفى الله الإمام شرّه ، إذ جاء تفسير الخليفة لآية الإنذار معكوساً ؛ لأنّه لم يكن في يومٍ من الأيام مع القرآن ، ولا كان القرآن معه في خلافته الجائرة !

والرواية الخامسة ، حدّثَ بها أبو روح النسابي ، عن أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) ، أنّه دعا على المتوكل بدعاء المظلوم على الظالم الذي تراه قريباً ،.. وإذا دعا الإمام انقطعَ الكلام ،.. ولوَى الخليفة ووزيره عنقيهما !

والرواية السادسة ، وهي الأخيرة التي نُقلت عن زرافة حاجب المتوكل الذي روى الرابعة ، ولكنّها مع شيءٍ من التفصيل المفيد ، الذي يكفي فيه أن يكون قد ذكرَ دعاء الإمام ( عليه السلام ) بتمامه ، فقد قال زرافة :
( كان المتوكل يُحظي الفتح بن خاقان ويقرّبه منه دون الناس جميعاً ، ودون وِلده وأهله ، وأراد أن يبيّن موضعه عندهم ، فأمرَ جميع مملكته من الأشراف من أهله وغيرهم ، والوزراء والأمراء والقوّاد وسائر العساكر ، ووجوه النّاس أن يزيّنوا بأحسن التزيين ، ويظهروا في أفخر عددهم وذخائرهم ، ويخرجوا مشاةً بين يديه ، وأن لا يركب إلاّ هو ، والفتْح بن خاقان خاصّةً ، بسرّ مَن رأى .
ومشى النّاس بين أيديهما على مراتبهم رجّالة ـ على أقدامهم ـ وكان يوماً قائظاً شديد الحرّ ، وأخرَجوا في جملة الأشراف أبا الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ) ، وشقّ عليه ما لقيه من الحَرّ والزحمة .
قال زرافة : فأقبلتُ إليه وقلت له : يا سيّدي يعزّ والله عليّ ما تلقى من هؤلاء الطّغاة ، وما قد تكلّفت من المشقّة !
وأخذتهُ بيده فتوكّأ عليّ وقال : ( يا زرافة ، ما ناقة صالحٍ عند الله بأكرم منّي ـ أو قال : بأعظم منّي قدراً ! ـ .
ولم أزل أُسائله وأستفيد منه وأحدّثه ، إلى أن نزلَ المتوكل من الرّكوب وأمرَ الناس بالانصراف ، فقدّمتُ إليهم دوابّهم فركبوا إلى منازلهم .
وقدّمتُ له بغلةً فرَكبها ، وركبت معه إلى داره ، فنزلَ وودّعته وانصرفت إلى داري ، ولوَلَدي مؤدّب يتشيّع من أهل العلم والفضل ، وكانت لي عادة بإحضاره على الطعام ، فحضرَ عند ذلك وتحرّينا الحديث وما جرى من ركوب المتوكل والفتح ومشي الأشراف وذوي الأقدار بين أيديهما ، وذكرتُ له ما شاهدته من أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) ، وما سمعتُ من قوله : ما ناقة صالحٍ عند الله بأعظم منّي قدراً ! ) .
وكان المؤدّب يأكل معي ، فرفعَ يده وقال : بالله إنّك سمعتَ هذا اللّفظ منه ؟!
قلت : والله ، إنّي سمعته يقوله .
فقال لي : إنّ المتوكل لا يبقى في مملكته أكثر من ثلاثة أيام ويهلك وانظر في أمرك ، وأحرِز ما تريد إحرازه ، وتأهّب ؛ كي لا يفجأكم هلاك هذا الرجل ، فتهلك أموالكم بحادثةٍ تحدث أو سببٍ يجري .
فقلت له : من أين لك هذا ؟!
فقال لي : أمَا قرأت القرآن في قصّة الناقة ، وقوله تعالى : ( تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) (243) ؟!. ولا يجوز أن يبطل قول الإمام .
قال زرافة : فو الله ما جاء اليوم الثالث حتى هجمَ المنتصر ، ومعه بغا ووصيف والأتراك ، على المتوكل فقتلوه وقطّعوه والفتح بن خاقان جميعاً قطعاً حتى لم يُعرف أحدهما من الآخر ، وأزالَ الله نعمته ومملكته ! فلقيتُ أبا الحسن ( عليه السلام ) بعد ذلك وعرّفته ما جرى مع المؤدّب وما قاله .
فقال : صَدقَ ، إنّه لمّا بلغَ منّي الجهد ، رجعتُ إلى كنوز نتوارثها من آبائنا هي أعزّ من الحصون والسلاح والجُنن ، وهو دعاء المظلوم على الظالم ، فدعوتُ به عليه فأهلكه الله .
فقلت : يا سيّدي ، إن رأيتَ أن تُعلّمنيه ، فَعَلَّمنيه ) وهو هذا :
اللّهمّ إنّي وفلان بن فلان عبدان من عبيدك ، نواصينا بيدك ، تَعلم مستقرّنا ومستودعنا ، وتَعلم منقلبنا ومثوانا ، وسِرّنا وعلانيتنا ، وتطّلع على نيّاتنا ، وتحيط بضمائرنا ، عِلمُك بما نُبديه كعلمك بما نُخفيه ، ومعرفتك بما نُبطنه كمعرفتك بما نُظهره ، ولا ينطوي عليك شيء من أمورنا ، ولا يستتر دونك حال ، ولا لنا منك معقل يُحصّننا ، ولا حِرز يحرزنا ، ولا هارب يفوتك منّا ، ولا يمتنع الظالم منك بسلطانه ، ولا يجاهدك عنه جنود ، ولا يغالبك مغالب بمنعةٍ ، ولا يعازّك متعزّز بكثرةٍ ، أنت مدركه أينما سلك ، وقادر عليه أين لجأ ، فمعاد المظلوم منّا بك ، وتوكّل المقهور منّا عليك ورجوعه إليك ، ويستغيث إذا خذله المغيث ، ويستصرخك إذا قعدَ عنه النّصير ، ويلوذ بك إذا نَفته الأفنية ، ويطرق بابك إذا أُغلقت دونه الأبواب المرتجة ، ويصل إليك إذا احتجبَتْ عنه الملوك الغافلة ، تعلم ما حلّ به قبل أن يشكوه إليك ، وتعرف ما يصلحه قبل أن يدعوك له ، فلك الحمد سميعاً بصيراً ، لطيفاً قديراً .
اللّهمّ قد كان في سابق علمك ، ومحكم قضائك ، وجاري قدرك ، وماضي حكمك ، ونافذ مشيئتك في خلقك أجمعين ، سعيدهم وشقيّهم ، وبَرّهم وفاجرهم ، أن جعلتَ لفلان بن فلان عليّ قدرةً ظلمَني بها ، وبغى عليّ لمكانها ، وتَعزّز عليّ بسلطانه الّذي خوّلته إيّاه ، وتجبّر عليّ بعلوّ حاله الّتي جعلتها له ، وغرّه إملاؤك له ، وأطغاه حِلمك عنه ، فقصَدني بمكروهٍ عجزتُ عن الصّبر عليه ، وتعمّدني بشرٍّ ضعفتُ عن احتماله ، ولم أقدر على الانتصار منه لضعفي ، والانتصاف منه لذلّي ، فوكلتهُ إليك ، وتوكّلتُ في أمره عليك ، وتوعّدته بعقوبتك ، وحذّرته سطوتك ، وخوّفته نقمتك ، فظنّ أنّ حِلمك عنه من ضعفٍ ، وحسبَ أنّ إملاءك له من عجزٍ ، ولم تنهه واحدة عن أخرى ، ولا انزجر عن ثانيةٍ بأُولى ، ولكنّه تمادى بغيّه ، وتتابعَ في ظلمه ، ولجّ في عدوانه ، واستشرى في طغيانه جرأةً عليك يا سيّدي ، وتعرّضاً لسخطك الّذي لا تردّه عن الظالمين ، وقلّة اكتراثٍ ببأسك الّذي لا تحبسه عن الباغين .
فها أنذا يا سيّدي مستضعف في يديه ، مستضام تحت سلطانه ، مستذل بعنائه ، مغلوب مبغيّ عليّ ، مغضوب ، وجِل ، خائف ، مروّع مقهور قد قلّ صبري ، وضاقت حيلتي ، وانغلقت عليّ المذاهب إلاّ إليك ، وانسدّت عليّ الجهات إلاّ جهتك ، والتبست عليّ أموري في دفع مكروهه عنّي ، واشتبهت عليّ الآراء في إزالة ظلمه ، وخَذلني مَن استنصرته من عبادك ، وأسلمني مَن تعلّقت به من خلقك طرّاً ، واستشرتُ نصيحي فأشار إليّ بالرغبة إليك ، واسترشدتُ دليلي فلم يدلّني إلاّ عليك ، فرجعتُ إليك يا مولاي صاغراً راغماً مستكيناً ، عالماً أنّه لا فرجَ إلاّ عندك ، ولا خلاص إلاّ بك ، أنتجز وعدك في نصرتي وإجابة دعائي ، فإنّك قلت وقولك الحقّ لا يُردّ ولا يبدّل : ( وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ) وقلت جلّ جلالُك وتقدّست أسماؤك : ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) وأنا فاعل ما أمَرتني به لا منّاً عليك ، وكيف أمِنُّ به وأنت عليه دلَلتني ؟ فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ فاستجب لي كما وعَدتني يا مَن لا يخلف الميعاد .
وإنّي لأعلم يا سيّدي أنّ لك يوماً تنتقم فيه من الظالم للمظلوم ، وأتيقّن أنّ لك وقتاً تأخذ فيه من الغاصب للمغصوب ؛ لأنّك لا يسبقك معاند ، ولا يخرج عن قبضتك منابذ ، ولا تخاف فوت فائت ، ولكن جَزعي وهلعي لا يبلغان بي الصبر على أناتك وانتظار حلمك ، فقدرتك عليّ يا سيّدي ومولاي فوق كلّ قدرة ، وسلطانك غالب على كلّ سلطان ، ومعاد كلّ أحدٍ إليك وإن أمهلته ، ورجوع كلّ ظالمٍ إليك وإن أنظرته .
وقد أضرنّي يا ربّ حلمك عن فلان بن فلان ، وطول أناتك له وإمهالك إيّاه ، وكادَ القنوط يستولي عليّ لولا الثّقة بك واليقين بوعدك ، فإن كان في قضائك النّافذ وقدرتك الماضية أن ينيب أو يتوب أو يرجع عن ظلمي ، أو يكفّ مكروهه عنّي ، وينتقل عن عظيم ما ركبَ منّي ، فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ وأوقِع ذلك في قلبه الساعة الساعة قبل إزالة نعمتك الّتي أنعمتَ بها عليّ ، وتكديره معروفك الّذي صنعته عندي
وإن كان في علمك به غير ذلك من مقام على ظلمي ، فأسألك يا ناصر المظلوم المبغيّ عليه إجابة دعوتي ، فصلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ وخذه من مأمنه أخذ عزيز مقتدر ، وافجأه في غفلته مفاجأة مليكٍ منتصر ، واسلبه نعمته وسلطانه ، وافضض عنه جموعه وأعوانه ، ومزّق ملكه كلّ ممزّق ، وفرّق أنصاره كلّ مفرّق ، وأعِره من نعمتك الّتي لم يقابلها بالشّكر ، وانزع عنه سربال عزّك الذي لم يجازه بالإحسان ، واقصمه يا قاصم الجبابرة ، وأهلكه يا مهلك القرون ، وأبره يا مبير الأمم الظّالمة ، واخذله يا خاذل الفئات الباغية ، وابتر عمره ، وابتزّ ملكه ، وعفِّ أثره ، واقطَع خبره ، وأطفِئ ناره ، وأظلم نهاره ، وكدّر شمسه ، وأزهق نفسه ، وأهشم شدّته ، وجبّ سنامه ، وأرغِم أنفه ، وعجّل حتفه ، ولا تدع له جنّة إلاّ هتكتها ، ولا دعامةً إلاّ قصَمتها ، ولا كلمةً مجتمعة إلاّ فرّقتها ، ولا قائمة عُلوّ إلاّ وضعتها ، ولا ركناً إلاّ وهنته ، ولا سبباً إلاّ قطعته ، وأرنا أنصاره وجنده وأحبّاءه وأرحامه عباديد بعد الألفة ، وشتّى بعد اجتماع الكلمة ، ومُقنعي الرّؤوس بعد الظّهور على الأمّة ، واشفِ بزوال أمره القلوب المنقلبة الوجلة والأفئدة اللهفة ، والأمة المتحيرة ، والبرية الضائعة ، وأدل ببواره الحدود المعطّلة ، والأحكام المهملة ، والسّنن الدّائرة ، والمعالم المغيّرة ، والآيات المحرّفة والمدارس المهجورة ، والمحاريب المجفوّة ، والمساجد المهدومة ، وأرِح به الأقدام المتعبة ، وأشبِع الخماص الساغبة ، واروِ به اللّهوات اللاّغبة ، والأكباد الظّامئة , وأطرِقه بليلةٍ لا أختَ لها ، وساعةٍ لا شفاء منها ، وبنكبةٍ لا انتعاش معها ، وبعثرةٍ لا إقالة منها ، وأبِح حريمه ، ونغّص نعيمه ، وأره بطشتك الكبرى ، ونقمتك المثلى ، وقدرتك التي هي فوق كلّ قدرةٍ ، وسلطانك الذي هو أعزّ من سلطانه ، وأغلبه لي بقوّتك القويّة ومحالك الشّديد ، وامنعني منه بمنعتك التي كلّ خلقٍ فيها ذليل ، وابتله بفقرٍ لا تجبره ، وبسوءٍ لا تستره ، وكِله إلى نفسه فيما يريد ، إنك فعّال لِما تريد ، وأبرئه من حولك وقوّتك ، وأحوجه إلى حوله وقوّته ، وأذلّ مَكره بمكرك ، وادفع مشيئته بمشيئتك ، وأسقم جسده ، وأيتم وِلده ، وأنقِص أجَله ، وخيّب أمله ، وأذلّ دولته ، وأطل عولته ، واجعل شغله في بدنه ، ولا تفكّه من حزنه ، وصيّر كيده في ضلال ، وأمره إلى زوال ، ونعمته إلى انتقالٍ ، وجدّه في سفال ، وسلطانه في اضمحلالٍ ، وعاقبته إلى شرّ مآل ، وأمِته بغيظه إذا أمتّه ، وأبقه لحزنه إذا أبقيته ، وقِني شرّه ، وهمزه ، وسطوته ، وعداوته ، والْمَحه لمحمةً تدمّر بها عليه ؛ فإنّك أشدّ باساً ، وأشدّ تنكيلاً ، والحمد لله ربّ العالمين ) (244) .

.. وقد لَمحهُ سبحانه وتعالى لمحةً دمّر بها عليه ،.. وأطرَقه بليلةٍ لا أخت لها ، وساعةٍ لا شفاء منها ، وبنكبةٍ لا انتعاش معها ، وبعثرةٍ لا إقالة منها ،.. وخبطَ لحمه بلحم وزيره ! فلا المتوكل ، ولا الفتح ، ولا خليفة ، ولا وزير بعد ذلك التّدمير الذي استنزلتهُ دعوة الإمام المظلوم من قلبه المكلوم !
فإنّه إذا رفعَ الإمام ( عليه السلام ) كفّيه إلى السماء ، وتضرّع وألحّ في السؤال ،.. وجدَ الله تعالى قريباً مجيباً لا يردّ دعوة المضطّر إذا دعاه..
ولو تسنّى لنا أن ننتقل بأفكارنا وإحساسنا إلى الجوّ القاتم الذي كان يعيش الإمام في زنزانته ، لأخذَتنا الدهشة من ظالمه الذي لم يرَ منه سوءاً قط ، ولا وقفَ له على قالةٍ البتّة ، ولا صادَره رهن محاولةٍ ، ولا شَعرَ منه بهمسةٍ في سرّه ولا في عَلنه ،.. فكيف لا يدعو عليه الإمام بعد أن تعمّد إذلاله وسيّره ماشياً على قَدميه في يوم حارٍّ ، وهو يركب جواداً مطهّماً تأخذه الخيلاء والكبرياء ؟ ولِمَ لا يدقّ باب ربّه الذي اجتباه من خلقه ، فعمدَ هذا الطاغية إلى ازدراء اصطفاء الله واختياره ؟! فلو لَم يبلغ ظلم هذا الرجل الغاية ، لبقيَ الإمام على صبره المعهود ؛ فإنّ أهل البيت ( عليهم السلام ) هم أهل الصّبر على الأذى والظلم ، وأهل المكابدة والمجاهدة في سبيل الإبقاء على الدّين وحفظ رسالة جدّهم سيد المرسلين ( صلّى الله عليه وآله ) .
ويا أيّها المتوكل على غير الله ، أخطأتَ الحكمة والصواب حين نازعتَ بجبروتك ربّ الجبروت والملكوت !
ولو قُدّر لآبائك أن يُطلعوك على ما صاروا إليه ، لرأيتَ أمراً عظيماً وخطراً جسيماً ،.. ولواجهكَ فعل الله بمَن يتصدّى لأولياء الله وعباده الصالحين !
وأقول لك توبيخاً ، ولغيرك تحذيراً ، ما قاله أحد الشعراء :
لا تَـظلمنّ إذا ما كنتَ مقتدراً
فـالظّلم آخـره يـأتيك بالنّدمِ
نامَت عيونك ، والمظلوم مُنتبِه
يدعو عليك وعين الله لم تَنمِ !
وفي عهد المنتصر ومَن بعدهُ
.. وأزالَ الله تعالى تلك الغمّة التي خيّمت بثقلها في أجواء الإمام ( عليه السلام ) ، وكشفَ الغيمة السوداء التي مَلأ قتامها آفاقه وآفاق مَن يدور في فلك الحقّ ، حين قَطّع المتوكّل سيفه العزيز عليه ، فمضى واحداً من سلسلة ( أمراء المؤمنين ) الذين أذلّوا المؤمنين وعباد الله الصالحين !
وتنفّس الناس الصّعداء ، واستروحوا رَوح هدوء الأعصاب بعد ذي اللّحية الصفراء ، الذي بعثره زند ( باغر ) التركيّ أشلاءً ، ونثرهُ إرباً إرباً ،.. في ليلةٍ عاشَ أولها في دار المُلك والسلطان ، وقضى آخرها وجهاً لوجهٍ مع سوء عمله ، ومصيره البئيس التّعيس..
وقعدَ المنتصر ـ المتشيّع ـ فأمرَ بالكفّ عن آل أبي طالب ، وأن لا يُمنع أحد من زيارة الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء ، بعد أن كان أبوه ـ المتوكل ـ قد مَنعهم من ذلك وهَدَم القبر الشريف منذ سنة ستّ وثلاثين ومئتين ، وتهدّد مَن يزورهُ بالتعذيب والقتل ! وقد روى أبو جعفر الطبريّ هذه الحادثة في تاريخه قائلاً :
( وفيها ـ سنة 236 هـ ـ أمرَ المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ وهدّم ما حوله من المنازل والدُور ، وأن يُحرث ويُبذر ، وأن يمنع النّاس من إتيانه .
فذكرَ أنّ صاحب الشّرطة نادى في الناحية : مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ بعثنا به إلى المطبق ـ الحَبس ـ فهربَ الناس وامتنعوا من المصير إليه ، وحرثَ ذلك الموضع وزرعَ ما حواليه ) (245) .
أمّا المسعودي فقال في مروج الذهب :
( وكان آل أبي طالب قبل خلافته ـ أي المنتصر ـ في محنةٍ عظيمةٍ وخوفٍ على دمائهم ، قد مُنعوا من زيارة قبر الحسين والغريّ من أرض الكوفة ـ أي مقام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ـ وكذلك مُنع غيرهم من شيعتهم حضور هذه المشاهد ، وكان الأمر بذلك من المتوكل سنة ستّ وثلاثين ومئتين .
وفيها أمرَ المعروف ( بالذّيريج ) بالسّير إلى قبر الحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما وهَدمه ومحو أرضه وإزالة أثره ، وأن يعاقب مَن وجِدَ به ، فبذلَ الرغائب لِمن تقدّم على هدم هذا القبر فكلّ خشيَ العقوبة وأحجم ، فتناولَ ( الذّيريج ) مسحاةً وهدّم أعالي قبر الحسين ، فحينئذٍ أقدم الفعلة فيه ،.. وإنّهم انتهوا إلى الحفرة وموضع اللّحد فلم يروا فيه أثر رمّةٍ ولا غيرها .
ولم تزل الأمور على ما ذكرنا إلى أن استخلفَ المنتصر ، فأمِنَ النّاس وتقدّم بالكفّ عن آل أبي طالب وتركَ البحث عن أخبارهم ، وأن لا يُمنع أحد من زيارة الحيرة لقبر الحسين رضي الله تعالى عنه ، ولا قبر غيره من آل أبي طالب ، وأمرَ بردّ فدك إلى وِلد الحسن والحسين ، وأطلقَ أوقاف آل أبي طالبٍ وتركَ التعرّض لشيعتهم ودفعَ الأذى عنهم ) (246) .
وقال ابن الأثير في تاريخه الكامل : ( وفي سنة 236 هجريّة أمرَ المتوكل بهدم قبر الحسين بن عليّ ( عليه السلام ) ، وهدم ما حوله من المنازل والدّور ، وأن يُبذر ويُسقى موضع قبره ، وأن يُمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية : مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثةٍ حبسناه في المطبق ، فهربَ الناس وتركوا زيارته وخُرّب وزُرع..
وكان المتوكل شديد البغض لعليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ولأهل بيته ، وكان يقصد مَن يبلغه عنه أنّه يتولّى عليّاً وأهله بأخذ المال والدم .
وكان من جملة نُدمائه عبادة المخنّث ، وكان يشدّ على بطنه ـ تحت ثيابه ـ مخدّةً ، ويكشف رأسه ـ وهو أصلع ـ ويرقص بين يدي المتوكل والمغنّون يُغنّون :
قد أقبلَ الأصلعُ البطين      خليفة المسلمين
يحكي بذلك عليّاً ( عليه السلام ) ، والمتوكل يشرب ويضحك !
ففعلَ ذلك يوماً والمنتصر حاضر ، فأومَأ إلى عبادة يتهدّده ، فسكتَ خوفاً منه .
فقال المتوكل ـ لعبادة ـ : ما لكَ ؟! وأخبره .
فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين ، إنّ الّذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه الناس ، هو ابن عمّك ، وشيخ أهل بيتك ، وبه فخرُك ، فكُل أنت لحمهُ ولا تُطعم هذا الكلب وأمثاله منه .
فقال المتوكل للمغنّين : غنّوا جميعاً :
غارَ الفتى لابن عمّه     رأس الفتى في حرّ أمّه
فكان هذا من الأسباب التي استحلّ بها المنتصر قَتل المتوكل ـ أبيه ـ .
وقيل : إنّ المتوكل كان يبغض مَن تَقدّمه من الخلفاء : المأمون ، والمعتصم ، والواثق ، في محبّة عليٍّ وأهل بيته ، وإنّما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنّصب والبغض لعليٍّ منهم : عليّ بن الجهم الشاعر ، وعمر بن الفرج الرُخّجي ، وأبو السّمط ، وابن أترجة ، وكانوا يخوّفونه من العلويّين ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم ، ثمّ حسّنوا له الوقيعة في أسلافهم الّذين يعتقد الناس علوّ منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهرَ منه ما كان ، فغطّت هذه السيّئة على جميع حسناته ) (247) .
ويكفي هذا الخليفة نقصاً أن تصل بذاءة لسانه ـ وهو على طاولة الشراب وفي مجالس لهو ـ أنّه نالَ من عِرض زوجته ( أمّ المنتصر ) لمّا دافعَ عن كرامة عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ؛ إذ قال لابنه : ( رأس الفتى في حرّ أمّه ) ، وروي أنّه قالها بصراحةٍ : ( كذا الفتى في حرّ أمّه ) أي : فَرجه في فَرج أمّه .
ثمّ تكفيه هذه الشهادة من ثلاثة مؤرّخين أجلاّء ذكروا مخازيه وسوء سلوكه وقبح عقيدته ، وفساد ما كان عليه من تصرّف ! وتصوّر ـ بعدها ـ مبلغ مناصبته العداوة لرسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) في وصيّه وأخيه وابن عمّه ، وفي ابن بنته وابن وصيّه وأبي أوصيائه البررة ( عليهم السلام ) ؛ لتقف على ما كان عليه بعض حكّام المسلمين الذين تَسمّوا بأمراء المؤمنين !
ولذا ألقى الخليفة الجديد رجْله على المكبح ، وغيّر وجهة السّير لمّا أعلنَ رفع الكابوس الثقيل الجاثم على صدور المؤمنين ، فارتاحت النّفوس لذلك ، وابتلعَ الكلّ ريقهم..
وقد قال ابن الأثير في تاريخه الكامل : ( كان المنتصر عظيم الحِلم ، راجح العقل ،.. كثير الإنصاف ،.. وأمرَ الناس بزيارة عليّ والحسين ( عليه السلام ) ، وآمنَ العلويّين وكانوا خائفين أيام أبيه ، وأطلقَ وقوفهم ، وأمرَ بردّ فدك إلى وِلد الحسين والحسن ابني عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ) (248) .
وفي عصره المعتدل لم تغب عن الأذهان دلائل عَظمة إمامنا الهادي ( عليه السلام ) التي كانت تظهر لأوليائه وخصومه ـ بالرغم من أنّ واضعي التاريخ قد ضنّوا بذكر شيءٍ ،.. وبخلوا بكلّ شيء ! ـ ، إلاّ أنّه رشحَ إلينا من أخباره نزر قليل يعطي صورةً معبّرةً عن ( وجوده ) وجوداً منظوراً ، كإمامٍ لا يرضيه إلاّ ما يرضي الله عزّ وجلّ ، ولا يغضبه إلاّ ما يغضب الله تعالى ورسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فلا يهادن باطلاً ولو صدرَ من أخيه وأقرب الناس إليه .
ولكنّنا لن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة قبل أن نُطلع القارئ على تنصيب بعض أولئك الخلفاء ، بعد أن عَرضنا لكيفيّة تنصيب المتوكل سابقاً ،.. فقد قال ابن الأثير :
( في سنة 246 هجرية قُتل المتوكل ، وكان هو والفتح بن خاقان قد عَزما على الفتك بالمنتصر ووصيفٍ وبغا ، وبعض قوّاد الأتراك صباح غد ، وكان ابنه المنتصر قد واعدَ هؤلاء الأتراك على قتل أبيه المتوكل ؛ لأنّه يومها كثُر عبثه به فكان مرّةً يشتمه ، ومرّةً يأمر بصفعه ، ومرّةً يتهدّده بالقتل ، ثمّ قال للفتْح : برئتُ من الله ومن قرابتي من رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) إن لم تلطمه ـ يقصد المنتصر ـ فقامَ إليه فلَطمهُ مرّتين ! ) (249) ثمّ كان ما كان ممّا ذكرناه عن قتلهما وقال :
( وفي اليوم التالي اجتمعَ القوّاد والكتّاب والوجوه والشاكريّة والجند وسائر الناس ، فقرأ عليهم أحمد بن الخصيب ـ الوزير وشاهدَ التزوير ـ كتاباً يخبر فيه أنّ الفتح بن خاقان قَتل المتوكل ، فقتلهُ المنتصر به ، ودعاهم إلى المبايعة ، فبايعوا ! ) (250) .
فدماء المسلمين ـ في عُرف العباسيّين ـ أجراها الله تعالى مُلكاً لهم يدفعونه ثمن عروش الظّلم ،.. وهي في ميزان الأمراء ،.. أرخص من الماء.. والهواء !
أمّا الدّهماء من حولهم ،.. فسريعاً ما ينادون : ماتَ الزعيم ،.. يحيا الزعيم ! واللّعب كلّه في عين الله عزّ سلطانه..

قال عبد الله بن طاهر : ( خرجتُ إلى سرّ مَن رأى لأمر من الأمور أحضَرني المتوكل له ، فأقمتُ سنة ، ثمّ ودّعت وعزمتُ الانحدار إلى بغداد ، فكتبتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) أستأذنهُ في ذلك وأودّعه .
فكتب : ( فإنّك بعد ثلاثٍ يُحتاج إليك ، وسيحدث أمران ) فانحدرتُ واستحسنتهُ .
فخرجتُ إلى الصيد ونسيتُ ما أشار إليّ به أبو الحسن ( عليه السلام ) ، فعدلتُ إلى المطوة ـ أي الدابّة التي يمتطيها ، يركبها ـ وقد صرتُ إلى مصري ـ بلدي ـ وأنا جالس مع خاصّتي إذ بمئة فارسٍ يقولون لي : أجب أمير المؤمنين المنتصر .
فقلت : ما الخبر ؟
قالوا : قُتل المتوكل ، وجلسَ المنتصر واستوزر أحمد بن الخصيب ، فقمتُ من فوري راجعاً ) (251) .
فسبحانَ مَن لم يَحجب عن حجّته أمراً ، ولا أسدلَ دون علمه بالأشياء ستراً ؛ ليكون الحجّة البالغة على الخلق أجمعين ، وليكون آيةً بيّنةً دالّةً على قدرته في اصطفاء مَن شاء من العالمين .

وقال المنتصر بن المتوكل ـ الخليفة بن الخليفة ، وكان متشيّعاً للإمام ( عليه السلام ) بعلمٍ من أبيه الذي كان من أجل ذلك يكرهه ويزدريه.. ـ :
( زرعَ والدي الآس في بستان وأكثرَ منه ، فلمّا استوى الآس كلّه وحسن ، أمرَ الفرّاشين أن يفرشوا الدكان ـ أي المقعد المرتفع ـ في وسط البستان ، وأنا قائم على رأسه .
فرفعَ رأسه إليّ وقال : يا رافضيّ ، سَل ربّك الأسود ـ أي الإمام ( عليه السلام ) ـ عن هذا الأصل الأصفر ، ما لهُ بين ما بقيَ من هذا البستان قد اصفرّ ؟! فإنّك تزعم أنّه يَعلم الغيب .
فقلت : يا أمير المؤمنين ، إنّه ليس يَعلم الغيب .
فأصبحتُ وغدوت إليه ( عليه السلام ) من الغد ، وأخبرتهُ بالأمر .
فقال : ( يا بني ، امضِ أنت واحفُر الأصل الأصفر ؛ فإنّ تحته جمجمة نخرة ، واصفراره لبخارها ونتنها ) .
قال : ففعلتُ ذلك ، فوجدتهُ كما قال ( عليه السلام ) .
قال ـ أبوه المتوكل ـ : يا بنيّ ، لا تخبرنّ أحداً بهذا الأمر ، ولن نُحدّثك بمثله ) (252) .
وليس من العلم الطبيعيّ أنّ اصفرار ذلك الآس نتجَ عن بخار تلك الجمجمة ،.. ولا كلّ شجرة آس تحتاج إلى دفن جمجمةٍ نخرةٍ بجانبها حتى يصفرّ ثمرها إذا استوى ونضج ،.. ولم نعرف تفسيراً سهلاً لِما قصدهُ الإمام ( عليه السلام ) بهذا اللّغز الذي فهمه المتوكل حالاً ، وأمرَ ابنه المنتصر بأن لا يخبر به أحداً ، ثمّ وعدهُ بألاّ يعود إلى مثل تلك الغلطة معه !
وأيسر ما نُقدّره : أنّ تلك الجمجمة شاهد على جريمةٍ كبرى من جرائم المتوكل التي بارزَ الله تعالى فيها وأهل دينه ، قد ارتكبها سرّاً وأخفاها عن الناس وعن أقرب المقرّبين إليه لبشاعتها وقُبحها ، وقد دُفنَ مَن قتله يومها تحت شجرات الآس ، ففضحها الإمام ( عليه السلام ) ، أطلعَ المتوكل على أنّه على علمٍ بها وأنّه يعرف كثيراً من الغيب ،.. ويعلم كثيراً من الغيب الذي يرتكبه ( خليفة ) يدّعي الإسلام ويرتكب الفجور والمنكرات والآثام ،.. فأُلقِم حجَراً ، وقال لابنه : لن نُحدّثك بمثله..

قال أحمد بن محمد بن عيسى : ( حدّثني أبو يعقوب ، قال : رأيت أبا الحسن ( عليه السلام ) مع أحمد بن الخصيب ـ وزير المنتصر ـ يتسايران وقد قصّر أبو الحسن ( عليه السلام ) عنه .
فقال ابن الخصيب : سِر جُعلت فداك .
قال أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( أنت المقدّم ) وهذا إخبار له بأنّه يموت قبله .
فما لبثنا إلاّ أربعة أيامٍ حتى وضِعَ الوهق على ساق ابن الخصيب ، وقُتل ) (253) .
والوهق : حبلٌ في أحد طرفيه أنشوطة يُربط بهما ويُشدّ على رجلَي مَن رُمي للقتل أو أُريد ضربه .
قال الراوي : وألحّ قبل هذا ابن الخصيب على أبي الحسن ( عليه السلام ) في الدار التي كان قد نَزلها ، وطالبهُ بالانتقال منها وتسليمها إليه ، فبعثَ إليه أبو الحسن ( عليه السلام ) : ( لأقعِدنّ بك من الله مقعداً لا تبقى لك معه باقية ! ) فأخذهُ الله في تلك الأيام ) (254)
وابن الخصيب هذا ، وزير للمنتصر ـ كما ذكرناه ـ كان قد استوزرهُ وندمَ على استيزاره ؛ لأنّه كان طاغية متكبراً ( فقد ركبَ ذات يوم فَتَظلّم له مُتظلّم ، فأخرجَ رجْله من الركاب فزّج بها صدر المتظلِّم فقتلهُ ! فتحدّث الناس في ذلك ، وقال بعض الشعراء :
قـل  لـلخليفة يا بن عمّ محمد
أشـكِل وزيـرك إنّـه ركّـال
أشكِله عن ركل الرّجال فإنْ تَرد
مـالاً فـعندَ وزيـرك الأموال
وقد كان ابن الخصيب قليل الخير ، كثير الشّر ، شديد الجهل ) (255) .
وأشكِل وزيرك ، أي : اربطهُ برجليه وشدّهما إلى بعضهما كما تُربط الدابّة لمنعها من اللّبيط ،.. والرّكل : هو أن يلبط الرّجل غيره برجله استهانةً به..
فيا ويحَ راكل ذلك المتظلّم برجْله رَكلاً قتله به ! والويل لوزير متكبّرٍ جاهلٍ ، كثير الشّر ؛.. فإنّه لمّا دفعهُ الإمام ( عليه السلام ) ليقدّمه أثناء السّير معه ، أراه مقعده من النار ، منذ اللّحظة التي قال له فيها : ( أنت المقدّم ! ) ، فقد دعّه ـ منذئذٍ ـ إلى جهنّم التي ( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (256) ، حيث لقي ابن الخصيب عندهم منزلاً جديباً !
وبقيَ الإمام ( عليه السلام ) في منزله رغماً عن أنفه ،.. وبمرتبته التي رتّبه الله تعالى فيها .
وابن الخصيب هذا ، قد فعلَ الأفاعيل قبل موته ، واختلسَ هو وبقيّة كتّاب القصر أموال المسلمين واكتنزوها في خزائنهم .
( ففي سنة تسع وعشرين ومئتين للهجرة ، حبسَ الواثق الكُتّاب وألزَمهم أموالاً عظيمةً ، وأخذَ من أحمد بن إسرائيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربهُ ، ومن سليمان بن وهب ، كاتب إيتاخ ، أربعمئة ألف دينار ، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر ألف دينار ، ومن إبراهيم بن رياح وكتّابه مئة ألف دينار ، ومن أحمد بن الخصيب وكتّابه ألف ألف دينار ـ مليون ! ـ ، ومن نجاح ستّين ألف دينار ، ومن أبي الوزير مئة ألف وأربعين ألف دينار ) (257) ! ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ) (258) يا أيّها الكاتب المتكبّر ، والوزير المتجبّر..
( وروي أنّ الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) اتّصل بأبي الحسن ، عليّ بن محمد العسكريّ ( عليه السلام ) ـ أي بأبيه في هذا العهد ـ أنّ رجلاً من فقهاء شيعته كلّم بعض النّصاب فأفحَمهُ بحجّته حتى أبانَ فضيحته ، فدخلَ ـ أي الرجل الفقيه من شيعته ـ على عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، وفي صدر مجلسه دست عظيم منصوب ـ وسادة عظيمة ـ وهو جالس خارج الدّست ، وبحضرته خلق من العلويّين وبني هاشم ، فما زال يرفعه حتى أجلسه في ذلك الدّست وأقبلَ عليه ، فاشتدّ ذلك على أولئك الأشراف .
فأمّا العَلَوية فأجلّوه عن العتاب .
وأمّا الهاشميّون فقال له شيخهم : يا بن رسول الله ، هكذا تؤثر عامّيّاً ـ غير ذي حسبٍ ونسبٍ ـ على سادات بني هاشم من الطالبيّين والعباسيّين ؟!
فقال ( عليه السلام ) : ( إيّاكم وأن تكونوا من الذين قال الله تعالى فيهم : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ) (259) ، أترضون بكتاب الله حَكماً ؟
قالوا : بلى .
قال : أليس الله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) (260) ؟! فلم يرضَ للعالِم المؤمن إلاّ أن يُرفع عن المؤمن من غير العالِم ، كما لم يرضَ للمؤمن إلاّ أن يُرفع على مَن ليس بمؤمن .
أخبروني عنه ، قال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ...) أو قال : يرفع الذين أوتوا شَرف النَسب درجات ؟!
أو ليس قال الله : ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (261) ؟! فكيف تنكرون رَفعي لهذا لمّا رفعهُ الله ! إنّ كسر هذا ( الرجل ) لفلانٍ الناصب ، بحجج الله التي علّمه إيّاها ، لأفضَل من كلّ شَرفٍ في النَسب .
فقال العباسي : يا بن رسول الله ، قد أشرفتَ علينا ـ أي قدّمت علينا في الشرف.. ـ هو ذا تقصير بنا عمّن ليس له نَسب كنَسبنا ، وما زال منذ أول الإسلام يُقدّم الأفضل في الشرف على مَن دونه فيه .
فقال ( عليه السلام ) : سبحان الله ! أليس عباس بايع أبا بكرٍ وهو تيميّ والعباس هاشميّ ؟!
أوَ ليس عبد الله بن عباس كان يخدم عمر بن الخطّاب ، وهو هاشميّ أبو الخلفاء ، وعمر عدويّ ؟!
وما بال عمر أدخلَ البُعداء من قريشٍ في الشورى ، ولم يُدخل العباس ؟!
فإن كان رَفعُنا لِمن ليس بهاشميّ على هاشمي منكراً ، فأنكروا على عباس بيعته لأبي بكر ، وعلى عبد الله بن عباس خِدمته لعمر بعد بيعته !
فإن كان ذلك جائزاً ، فهذا جائز ) .
فكأنّما ألقَمَ الهاشميّ حجَراً ) (262) .
فتعالى الله العزيز الوهّاب ،.. وسلامه وتحيّاته وبركاته على خزّان علمه الذين زُقّوا العلم زقّاً ؛ فإنّ مَن حاولَ أن يغوص في بحر علمهم غرق ،.. ومَن عارضَ حقّهم بباطله زَهق ،.. ومَن سلّمَ إليهم واتّبع أمرهم وسمعَ قولهم ـ الذي هو قول الله وقول رسوله ـ لحقَ بركب الهدى ، ونجا من الضلال واللّهث وراء حطام الدنيا ؛ لأنّهم حَملة رسالة الحقّ والعدل التي أنزلها الله تبارك وتعالى إلى خلقه ، وهم حماتها ومستودع سرّ الله وأمناؤه على دعوته..
هذا ، وإنّ الله تعالى لا يسأل يوم القيامة عن الأنساب ، ولا عن العشائر والقبائل ؛ إذ قال عزّ مَن قائل : ( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (263) ، فَنَسب المرء يوم القيامة يُقرّره علمه ، وإنّ محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) قال لبضعته الشريفة الغرّاء فاطمة الزهراء سيّدة نساء العالمين : ( يا فاطمة ، اعمَلي ؛ فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً ) وهو ( صلّى الله عليه وآله ) شفيع الأمّة يوم الحساب ، في حين أنّ عمّه أبا لهبٍ كافر معاند ضال قد خلّد القرآن الكريم ذمّه إلى الأبد .
وقد قدّمنا : أنّ عهد المنتصر كان عهداً فرّج الله تعالى فيه عن الشيعة نوعاً ما ، ومع ذلك فقد بخلَ المؤرّخون بذكر أيّ شيءٍ جرى عهدئذٍ على يد الإمام ( عليه السلام ) ، وضَنّوا بوصف أعماله وتحرّكاته ، وخَلت من ذلك كتبهم الطافحة بذكر الحوادث والأحداث ،.. ثمّ توفّي المنتصر سنة 248 للهجرة وبويعَ المستعين الذي هو أحمد بن محمد بن المعتصم ، ودام عهده إلى سنة 251 هجريّة حيث مات ، وتولّى الأمر من بعده المعتزّ الذي سَمّ الإمام ( عليه السلام ) في عهده المشؤوم (264) .

بعضُ آياته ومعجزاته ( عليه السلام )
هذا العنوان يُنفّر بعض سامعيه قبل أن يطّلعوا على تفاصيله وحقيقة أمره ، ولكنّهم حين يعلمون أنّ مصدر الآيات كلّها واحد ، وهو الله سبحانه وتعالى ـ سواءً أنزلها للرّحمة أم للنقّمة ، على يد نبيّ ، أو يد وصيّ نبيّ ، أو يد عبدٍ صالحٍ ـ فإنّ المستغربين حينئذٍ لا يعجبون..
وما زالت الآيات بإذنه تعالى ، وبقدرته ومشيئته ، فلا عجب إذاً إذا أجراها على يد النبيّ ، والوصيّ ، والعبد الصالح ،.. ولا ينبغي أن تنفر النفوس من ذكر الآيات والمعاجز وخوارق الطبيعة ؛ لمجرّد أنّ العقول لا تستوعب حدوثها ولا يقدر الآخرون على القيام بمثلها ، فالأمر ـ بحدّ ذاته ـ يدور ـ إذاً ـ بين أنّ الله تعالى قادر على أن ينزّلها ، أو أنّه ـ والعياذ به سبحانه ـ غير قادر !
أمّا هو تبارك وتعالى فيقول في محكم كتابه : ( قُلْ ـ يا محمد للنّاس ـ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) (265) ، ويقول عزّ مَن قائل : ( إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ ) (266) ، وقال تعالى أيضاً : ( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ) (267) ، فمَن صدّقَ به ـ تعالى وعزّ قائلاً ـ وآمنَ بأنّها من عنده سبحانه ، وأنّه قادر على إنزالها متى شاء لمصلحة العباد والحكمةٍ تقتضيها مشيئته ولزوم الأمر ، صدّقَ بحدوثها ، ومَن كذّبَ بذلك فله مكان في حظيرة الملحدين والمكابرين يأوي إليها يوم الدّين ، ولا شأن لنا معه ما زال سيكون لجهنّم حَطباً .
فالآيات من عنده سبحانه ،.. ولا تصدر إلاّ عن أمره وبقدرته التي تفوق ما ألِفه النّاس عُرفاً وعادةً ، فتنزل على يد الرّسول لمصلحة أمّته ،.. وعلى يد وصيّ رسوله ـ لأنّه وليّه على الخلق ـ لإثبات وصايته وولايته ، فتكشف للناس على يد كلٍّ منهما صدق دعوته وكونه على الحق ،.. ولا غرابة في نزولها حين نؤمن بحكمة الله تعالى ، ولا تجفل نفوسنا من اسمها بمقدار ما تجفل حين وقوعها وصدورها .
وهي إنّما تنزل لتهزّ ضمائر الناس وتوقظها بعد إثارة إعجابهم ،.. ولتفتح عليهم باب التفكّر ،.. والتدبّر ،.. والاختيار بين طريق الحقّ ، وطريق الباطل ،.. وإن هي نَزلت فإنّما تنزل في مناسباتٍ يكون لا مناص منها ، ولا مخرج إلاّ بها ، إذ تكون تلك المناسبات عظيمةً يبارَز الله تعالى فيها ـ عَلناً وعناداً ـ في قدرته ، وتتحدّى فيها مشيئته ،.. فيظهر قدرته الفائقة الوصف..
فالنبيّ ، والوصيّ ، بلا آياتٍ ـ وبلا معاجز ـ يكونان منتدَبين للأمر العظيم ـ الذي أقلّه حرب الكفر وأهل العناد ـ بلا سلاحٍ ولا عدّة ،.. ويكونان سفيرَين لله تعالى مجرّدين من أهمّ عوامل القوّة للوقوف في وجه التكذيب ، وللثبات في ساحة الدفاع عن أمره عزّ وعلا ،.. فالآيات والمعاجز سلاح سفير السماء في الأرض حين لا تنفع الحسنى ولا الموعظة ولا الإنذار ، وهي رأس ماله الربّانيّ الذي يطرحه كرصيدٍ كلّما كشّر الضلال في وجهه وتحدّى الكفر قدرة ربّه !
أمّا أن يرسل الله نبيّاً ويكِله إلى نفسه ، أو أن يختار حجةً على الناس ويصرف وجهه الكريم عنه ولا يمنحه التسديد والتأييد ، فأمران من المحال ؛ إذ لا يُعقل أن أبعث مندوباً عنّي يضارِب في السوق التجاريّ ـ أو في البورصة والحرب الماليّة ـ صفر اليدين ومن غير مال ، كما أنّ الدولة لا تلقي بالجنديّ في ساحة الحرب والدفاع عن الوطن دون سلاح .
فاستهجانُ الآيات قائم في نفوس الناس من جهة أنّ الآتين بها هم ( بشر ) من البشر ويبدون كسائر الناس ـ وإن فاقوهم في المزايا الكريمة والخُلق الرفيع ـ ثمّ يقومون بالخوارق ويأتون بما لا يستطيع الناس أن يأتوا بمثله ،.. أمّا لو كانت الخوارق تأتي عن أيدي أفرادٍ من غير جنس البشر ، فإنّه يكون للبشر منها موقف آخر ؛ ولذا نرى أنّه ما من أناسٍ جاءهم أنبياء يبشّرون وينذرون ، إلاّ ( قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ) (268) ، فلا نؤمن لبشر.. ( أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ) (269) ( فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا ) (270) ، لهذا السبب أولاً وبالذات .
فلو مَسحنا من أذهاننا هذه الأفكار الموروثة الصدئة ؛ لرأينا الأمر أبسط ممّا نتوهّم ، ولآمنّا بالآيات والمعجزات والخوارق التي يأتي بها النبيّ أو الوصيّ ، الذي تُجهّزه دولة السماء بكلّ ما تشاء له من قوّةٍ بعد أن جَعلتهُ ( منتدباً عنها فوق العادة ) ، وذا حصانةٍ لا يرفعها إلاّ خالقها عزّ وجلّ .

وعلى كلّ حالٍ ، قد مَررنا بالكثير الكثير من آيات إمامنا ( عليه السلام ) عِبر فصول هذا الكتاب ، منذ عهد ولادته وحتى هذا الفصل ، ونُشفع ذلك الذي مرّ ، بهذه الطائفة التي نوردها فيما يلي ، مستفتحين ذلك بقصّتين مختصرتين تُعبّران عن معنى الآية الخارقة للعادة والعُرف أوضح تعبير :
أُولاهما : رواها محمد بن الفرج الذي قال :
( قال عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) : ( إذا أردتَ أن تسأل مسألةً فاكتبها وضَع الكتاب تحت مصلاّك ودعه ساعةً ، ثمّ أخرِجه وانظر ) .
ففعلتُ ، فوجدتُ جواب ما سألته عنه موقّعاً فيه ) (271) .
وهذه من العجائب حقّاً ! ولا تحدث بحسب العادة والمألوف ، ولا تكون حتى بالسّحر ،.. إذ كيف انتقلت المسألة من تحت المصلّى فاطّلع عليها الإمام ( عليه السلام ) وأجابَ عنها ووقّع الجواب ، ثمّ أُعيدت إلى مكانها ؟!
إنّها آية تتحدّى المألوف ،.. وتضرب العُرف والعادة ،.. وهي معجزة تكشف عن سرٍّ مكنونٍ عند أمين الله في أرضه ! ولو استطعنا تفسيرها وتحليلها لبطل كونها خارقةً يعجز غير الإمام عن الإتيان بها ؛ لأنّ الإمام ـ وحده ـ يعمل بين يديه ملائكة مُسخّرون لأمره ، بأمر ربّه عزّ وجلّ..

والثانية : أعجب وأكثر غرابة ، وهي ما رواها السيد ابن طاووس في كشف المحجّة بإسناده ، من كتاب الرسائل للكليني عمّن سمّاه ، قال :
( كتبتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) : إنّ الرجل يحبّ أن يفضي إلى إمامه ما يحبّ أن يفضي إلى ربّه .
قال : فكتبَ : ( إن كان لك حاجة فحرّك شَفتيك ؛ فإنّ الجواب يأتيك ) (272) .
فهل استغربتَها وعجبتَ مثل عَجبي منها ؟ إذاً هي معجزة لا تصدر إلاّ عن إمام ،.. ولا تقع إلاّ مع وليّ مخلصٍ امتحنَ الله تعالى قلبه بالإيمان ، وهي والتي سَبقتها دلالتان على إمامة الإمام وحجيّته بين عباد الله ، ولو كانتا غير عجيبتين لفقدَتا قيمتهما ولكانَ الآتي بهما إنساناً عاديّاً ،.. وليس إماماً ،.. ومثلهما آيات نوحٍ ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلوات الله عليهم ؛ فإنّها كانت خوارق للعادة ،.. عجيبةً ، مدهشةً ،.. صَدرت بإذن الله وبتقديره وتدبيره ،.. وعينه وحكمته .
وآيتا الإمام اللتان ذكرناهما ، هما ـ بحدّ ذاتهما ـ أسهل استساغةً من سفينة نوحٍ وطوفانه ، ونار النمرود التي زُجّ فيها نبيّ الله إبراهيم ، وعصا موسى ، وإحياء عيسى للموتى ، ومعاجز محمدٍ الذي سبّحَ الحصى بيده ، ونبعَ الماء من بين أصابعه الشريفة ، وكلّمه الطير والوحش !

فإذا أردتَ أن تسمع عجيباً وغريباً يقول عنه المنافقون : سحر وتخييل ، وهو بالحقيقة من مِنح الربّ الجليل ، فامحُ من قلبك النّكتة السوداء ، ونظّف نفسك من أدران رواسب الجاهلية العمياء ، واستقبِل آيات هذا الإمام الكريم على الله سبحانه بقلبٍ نقيّ ونفسٍ صافيةٍ،واستمع إلى ما ذكره أبو جعفر ، محمد بن جرير الطبري الذي قال :
( حدّثنا سفيان عن أبيه ، قال : رأيت عليّ بن محمدٍ ومعه جراب ليس فيه شيء ، فقلت : أتراك ما تصنع بهذا ؟
فقال : ( أدخِل يدك .
فأدخلتُ يدي ، وليس فيه شيء .
ثمّ قال لي : عُد ) .
فعدتُ فإذا هو مملوء دنانير ! ) (273) .
ما أشبهها بلعبة ( الكلاكلا ) والسّحر والشعوذة ،.. لولا أنّها حقيقة لا تخييل فيها ولا تضليل ،.. فالجراب مملوء بالدنانير واقعاً ،.. ولو كنتَ حاضرها لنالكَ من الدنانير نصيب ،.. وقد مررتَ بنظائر لها من معاجز إمامنا ( عليه السلام ) ، وستمرّ بكثيرٍ من أمثالها .
فكيف امتلأ ذلك الجراب بالدنانير ، لولا القدرة الخفيّة التي تفيض الوجود من كتم العدم بمشيئة الربّ القدير ؟! إنّ تلك القدرة الهائلة لم يعجزها إيجاد الكائنات بأنواعها ، مع خصائصها ، وأحجامها ، وأبعادها ، وأنظمتها الأزليّة التي تُمسك السماء أن تقع على الأرض ،.. وتنير الشمس فلا يطفئها طول الزمان ،.. وتحمل الكواكب في الأفق اللامتناهي فلا تضطرب ، ولا تتناثر ، ولا تحول ولا تزول !! ولا تَعجز عن إيجاد دنانير ، تملأ الجراب الصغير ،.. ولا هي عَجزت عن خلق ناقة صالح ( عليه السلام ) من بطن الصخرة الصّماء : وبْراء ، عشْراء ، ذات حياةٍ ورغاء ،.. وإحداث آيات مذهلات..

ومثلها ما ذكره الطبريّ عن عمارة بن يزيد الذي قال :
قلت لعليّ بن محمد بن الرّضا : هل تستطيع أن تُخرج من هذه الأسطوانة رمّانة ؟
قال : ( نعم ، وتمراً ، وعنباً ، وموزاً ) .
ففعلَ ذلك ، وأكلنا وحَملنا (274) .
ولو كان غير حقيقيّ ـ كالسّحر والشعوذة ـ لمَا أكلوا ، ولمَا حَملوا..

وهذه الآيات يقف الفكر أمامها حائراً ، ويَحرُن العقل تجاهها مزورّاً ، فلا تدخل إليه إلاّ بعسرٍ شديد ؛.. لأنّه لا يستطيع فلسفة الآية التي تقلب العصا حيّةً تلقف حبال سَحرة فرعون ، وتجعل نار النمرود بَرداً وسلاماً على إبراهيم ، وتنقل عرش مَلِكة سبأ من اليمن إلى القدس بأقلّ من طرفة عين !
أجل ، إنّها معاجز يعجز أمام تحليلها الفكر ، ولا يؤمن بها إلاّ مَن قد آمنَ بربّه ربّاً قادراً لا يعجزه شيء ، وبالملائكة والرّسل والكتب ،.. ولا يأتي بها إلاّ نبيّ ، أو وصيّ بإذن ربّه وقدرته الفائقة ،.. وهي لا تقع بدون مناسبةٍ هامّةٍ يترتّب عليها أثر هام ؛ لأنّ الإمام لا يجمع الناس في الساحات ليتفرّجوا على آياته وبيّناته ، ولا من شأنه عَرض ذلك كما يفعل السَّحرة والمشعوذون .

وقال محمد بن يزيد : ( كنتُ عند عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، ولاذَ به قوم يَشكون الجوع ، فضربَ يده إلى الأرض ، وكان لهم بُرّاً ودقيقاً ) (275) .
فبورِكتْ يد تجعل التراب مرّةً بُرّاً ، وأخرى دقيقاً ، وتُحيل الرمل ذهباً مرةً ثالثةً بإذن ربّها ! وإنّها لَيد مباركة تحرّكها إرادة الرحمان ، فتفعل بقدرته ما يبهر الإنسان ، ويدفع البهتان ، ويَدع العقل يعمل بسرعة الكهرباء ليقف في مصافّ المؤمنين المصدّقين ، أو في عِداد المنافقين الذين تأخذهم العزّة بالإثم ،.. فالإنسان أمام هذه الظواهر المدهشة إمّا أن يهضمها بإيمان ،.. وإمّا أن يُصعّر خدّه عنها بكبرٍ وبنَفثة شيطان ،.. ولا حال بين الحالين ،.. ونحن ننقلها إلى الأخوة الأحبّة من القرّاء بأمانةٍ ، ليتفكّروا ويتدبّروا ويختاروا التصديق أو التكذيب .

وذكرَ القطب الراوندي أنّ جماعةً من أهل أصفهان ـ منهم أبو العباس ، أحمد بن النضر ، وأبو جعفر ، محمد بن علويّة ـ قالوا :
( كان بأصفهان رجل يقال له عبد الرحمان ، وكان شيعيّاً ، فقيل له : ما السبب الذي أوجبَ عليك القول بإمامة عليّ النقيّ دون غيره من أهل الزمان ؟
فقال : شاهدتُ ما أوجبَ عليّ ذلك ؛ وذلك أنّي كنتُ رجلاً فقيراً وكان لي لسان وجرأة ، فأخرَجني أهل أصفهان سنةً من السنين مع قومٍ آخرين ، فجئنا إلى باب المتوكل متظلّمين .
وكنّا بباب المتوكل يوماً إذ خرجَ الأمر بإحضار عليّ بن محمدٍ الرّضا ( عليه السلام ) ، فقلتُ لبعض مَن حَضَر : مَن هذا الرجل الذي قد أمَرَ بإحضاره ) ؟
فقيل : هذا رجل عَلويّ تقول الرافضة بإمامته ، ثمّ قيل : ونُقدّر أنّ المتوكل يُحضره للقتل .
فقلت : لا أبرح من هاهنا حتى أنظر إلى هذا الرجل أيّ رجل هو .
فأقبلَ راكباً على فرسٍ وقد قامَ الناس صَفّين ، يمنة الطريق ويسرَتها ينظرون إليه .
فلمّا رأيتهُ وقفتُ فأبصرته ، فوقعَ حبّه في قلبي ، فجعلتُ أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شرّ المتوكل .
فأقبلَ يسير بين الناس وهو ينظر إلى عُرف دابّته لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً ، وأنا أُكرّر في نفسي الدعاء له ،.. فلمّا صارَ بإزائي أقبلَ بوجهه عليّ وقال : ( قد استجابَ الله دعاءك ، وطوّلَ عُمرك ، وكثّر مالكَ ووِلدك ) .
قال : فارتعدتُ من هيبته ، ووقعتُ بين أصحابي..
فسألوني : ما شأنك ؟
قلت : خير ،.. ولم أخبرهم بذلك .
فانصرفنا بعد ذلك إلى أصفهان ، ففتحَ الله عليّ وجوهاً من المال حتى أنّي اليوم أغلُق بابي على ما قيمته ألف ألف درهم سوى مالي خارج داري ! ورُزقت عشرةً من الأولاد ، وقد بلغتُ الآن من عمري نيّفاً وسبعين سنةً ، وأنا أقول بإمامة هذا الرجل الذي عَلِم ما في قلبي ، واستجاب الله دعاءه فيّ ولي ) (276) .
ونأسف أنّ عبد الرحمان هذا ، قد مات برغم طول عمره ، وليس في يدنا ولا في مقدورنا أن نسأله عن كيفيّة تأثير كلام الإمام ( عليه السلام ) في نفسه ، لدرجةٍ بلغَ معها مبلغاً ارتعدَت منه فرائصه ووقعَ على وجهه مغشيّاً عليه بين أصحابه ! ولكنّنا نقف ذاهلين أمام علم الإمام الذي نفذَ إلى ضمير عبد الرحمان فاطّلع على ما في نفسه ، وقرأ غيرته عليه ، ووقوع حبّه في قلبه ، ودعاءه له خُفيةً عن غيره .
وفي كلّ حالٍ ، لا ينقضي عجبنا من انكشاف سريرة ( واحدٍ ) يقف بين ( آلاف المتفرّجين ) على يمين الشارع العامّ ويساره ، وهم جميعاً يختلسون النظر إلى ( رجلٍ ) أمرَ الخليفة بإحضاره لقتله ،.. ولا يمنعنا من التساؤل :
كيف سمعَ الإمام وسوسة صدر عبد الرحمان وما دارَ في خاطره ، وما حدّثته به نفسه ؟! وكيف وعَى ما يجول في فكره من دعاء وتمنيّات !
ثمّ ما هذه الثقة بالله عند الإمام الذي يقول لرجل لا يعرفه ولا رآه سابقاً ، ولا سمعَ له قولاً : ( قد استجاب الله دعاءك ، وطوّل عمرك ، وكثّر مالك ووِلدك ) ؟!
إنّ كلّ التساؤلات التي تخطر في البال حول مآتي الإمام ، تنمحي ولا تدور في فكر مَن كان في قلبه إيمان ،.. ويحلّ محلّها تقديس الله وتسبيحه والإقرار بعظمته وقدرته ،.. ويريح الإنسان من الضياع والسير في الفراغ..
قال أبو الحسن ، محمد بن إسماعيل بن أحمد القهقلي ، الكاتب بسرّ مَن رأى سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة ومئتين :
( حدّثني أبي ، قال : ( كنتُ بسرّ مَن رأى أسير في درب الحصى ، فرأيت ( يزداد ) الطبيب النصرانيّ ، تلميذ بختيشوع ، وهو منصرف من دار موسى بن بغا ، فسايَرَني وأفضى الحديث إلى أن قال لي : أترى هذا الجدار ،.. تدري مَن صاحبه ؟
قلت : ومَن صاحبه ؟
قال : هذا الفتى العَلوي الحجازيّ ـ يعني عليّ بن محمد بن الرّضا ( عليهم السلام ) وكنّا نسير في فناء داره .
قلت ليزداد : نعم ، فما شأنه ؟
قال : إنّه كان مخلوق يَعلم الغيب !
قلت : فكيف ذلك ؟!
قال : أخبرك عنه بأعجوبةٍ لن تسمع بمثلها أبداً ولا غيرك من الناس ! ولكن لي الله عليك كفيل وراعٍ أن لا تُحدّث بها أحداً ؛ فإنّي رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند السلطان ، وبلغَني أنّ الخليفة استقدَمه من الحجاز فَرِقاً منه ؛ لئلاًّ ينصرف إليه وجوه الناس ، فيخرج هذا الأمر عنهم ـ يعني عن بني العباس ـ .
قلت : عَليّ ذلك ، فَحدِّثني به وليس عليك بأس ، إنّما أنت رجل نصراني لا يتّهمك أحد فيما تُحدّث به عن هؤلاء القوم .
قال : نعم ، أُعلِمك ،.. إنّي لقيته منذ أيامٍ وهو على فرسٍ أدهم ، وعليه ثياب سود ، وعمامة سوداء ، وهو أسود اللون ، فلمّا بصرتُ به وقفت إعظاماً له وقلت في نفسي ـ لا وحقّ المسيح ، ما خرَجَت من فمي إلى أحدٍ من الناس ـ : ثياب سوداء ، ودابّة سوداء ، ورجل أسود ؟!
فلمّا بلغَ إليّ نظرَ إليّ وأحدّ النظر وقال : ( قلبك أسود ممّا ترى عيناك من سوادٍ في سوادٍ في سواد ) .
قال أبي ( رحمه الله ) للطبيب : فقلتُ له : أجل ، فلا تُحدّت به أحداً ، فما صنعتَ ، وما قلت ؟!
قال ـ أي الطبيب ـ : أسقطتُ في يده ، فلم أجد جواباً .
قلت له : فما أبيضّ قلبك لِما شاهدتَ ؟!
قال : الله أعلم .
قال أبي : فلمّا اعتلّ ( يزداد ) بعثَ إليّ فحضرتُ عنده ، فقال : إنّ قلبي قد ابيضّ بعد سواده ، فأنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّداً رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وأنّ عليّ بن محمّدٍ حجة الله على خلقه ، وناموسه الأعظم ، ثمّ ماتَ في مرضه ذلك ، وحضرتُ الصلاة عليه رحمه الله ) (277) .
وقبل أن نقف مع قصة ( يزداد ) ، نورد للقارئ قصةً أخرى ذكرها هبة الله بن أبي منصور الموصلي الذي قال :
( كان بديار ربيعة كاتب لها نصرانيّ ، وكان من ( كفرتوثا ) ـ القرية الكبيرة الواقعة بين دجلة والفرات ـ يسمّى يوسف بن يعقوب ، وكان بينه وبين والدي صداقة ، فوافانا فقال له والدي : فيمَ قدِمتَ في هذا الوقت ؟
قال : دُعيت إلى حضرة المتوكل ، ولا أدري ما يراد منّي ، إلاّ أنّي اشتريت نفسي من الله بمئة دينار ، وقد حَملتها لعليّ بن محمدٍ الرّضا ( عليهما السلام ) معي .
فقال له والدي : قد وفِّقت في هذا .
قال : وخرجَ إلى حضرة المتوكل ، وجاءنا بعد أيام قلائل فرحاً مسروراً مستبشراً .
فقال له والدي : حدِّثني حديثك .
قال : صرتُ إلى سرّ مَن رأى وما دخلتها قطّ ـ أي أنّه لم يدخلها قبلئذٍ ـ فنزلتُ في دار وقلت : يجب أن أوصِل هذه المئة دينار إلى ابن الرّضا قبل مصيري إلى باب المتوكل ، وقبل أن يَعرف أحد قدومي .
وعرفتُ أنّ المتوكل قد منعهُ من الرّكوب وأنّه مُلازم داره ـ أي بالإقامة الجبريّة ـ فقلت : كيف أصنع ؟! رجل نصرانيّ يسأل عن ابن الرّضا ! لا آمِن أن يُنذر بي ، فيكون ذلك زيادةً في ما أحاذره .
قال : ففكّرت ساعةً في ذلك ، فوقعَ في قلبي أن أركب حماري وأخرج في البلد ، فلا أمنعهُ حيث يذهب ، لعلّي أقِف على معرفة داره من غير أن أسأل أحداً ،.. فجعلت الدنانير في كاغذٍ ـ ورقة ، أو كيس من ورق ـ وجعلتها في كمّي وركبت ، وكان الحمار يتخرّق في الشوارع والأسواق يمرّ حيث يشاء ، إلى أن صرتُ إلى باب دارٍ ، فوقفَ الحمار ،.. فجهدت أن يزول فلم يزُل ! فقلت للغلام : سَل لِمن هذه الدار ؟ فقيل : دار ابن الرّضا ( عليه السلام ).. فقلت : الله أكبر ! دلالة والله مُقنعة .
قال : فإذا خادم أسود قد خرجَ فقال : أنت يوسف بن يعقوب ؟
قلت : نعم .
قال : فانزِل ،.. فنزلتُ فأقعدَني في الدهليز ودخل ، فقلت في نفسي : هذه دلالة أخرى ، من أين عرفَ هذا الغلام اسمي واسم أبي ، وليس في البلد مَن يعرفني ولا دَخلته قطّ ؟!
فخرجَ الخادم فقال : المئة دينار التي في كمّك في الكاغد ، هاتها .
فناولته إيّاها وقلت : هذه ثالثة .
ثمّ رجعَ فقال : ادخُل..
فدخلتُ وهو في مجلسه وحده ، فقال : ( يا يوسف ما آنَ لك ؟! ـ أي ما آنَ أن تُسلم بعد هذه الدلائل الغيبيّة العجيبة ـ .
فقلت : يا مولاي ، قد بانَ لي من البرهان ما فيه كفاية لِمن اكتفى .
فقال : هيهات ، إنّك لا تُسلم ، ولكن سيسلم وَلَدك فلان وهو من شيعتنا ، يا يوسف ، إنّ أقواماً يزعمون أنّ ولايتنا لا تنفع أمثالكم ، كذبوا والله ، إنّها لتنفع أمثالك ، امضِ فيما وافيتَ له فإنّك سترى ما تُحب ، وسيولد لك ولدٌ مبارك ) .
قال : فمضيتُ إلى باب المتوكل فنلتُ كلّ ما أردتُ ، وانصرفت .
قال هبة الله : فلقيتُ ابنه بعد هذا وهو مسلم حَسن التشيّع ، فأخبرَني أنّ أباه ماتَ على النصرانيّة ، وأنّه أسلمَ بعد موت أبيه ، وكان يقول : أنا مؤمن ببشارة مولاي ( عليه السلام ) ) (278) .
والعجيب في هذه القصة : أنّ الحمار اهتدى للدار من دون دليل ،.. وراكب الحمار ـ يوسف بن يعقوب ـ لم يهتدِ إلى الحقّ مع دلالاتٍ ثلاثٍ قويّة البرهان ، لمَسَها بنفسه وعدّها واحدةً بعد واحدة !
والأعجب في أمره : أنّه اشترى نفسه من الهلاك الذي كان ينتظره بمئة دينار نَذرها للإمام ( عليه السلام ) ، إنْ نجّاه الله تعالى من يدي الخليفة الذي أرسلَ بطلبه ، وأنّه لم يُنشئ النّذْر إلاّ عن إيمان بأنّ المنذور له ذو دعاءٍ مستجابٍ ، وصاحب كراماتٍ عند ربّ الأرباب ، وأنّه حارَ في أمر إيصال النّذْر إليه لجهله بمنزله فدلّه الحمار على المنزل ، ثمّ لمّا حَرن الحمار أمام باب الدار نوديَ باسمه وباسم أبيه من غلام أسود لا يعرفه ، وأنّه خوطِب باسمه من قِبل الإمام ( عليه السلام ) ، وعوتِب على عدم اقتناعه بالبراهين السابقة وعدم إظهار التسليم والإسلام ،.. وأنّه ـ بالأخير ـ اعترفَ بكفاية البراهين والدلائل لِمن أراد أن يكتفي ! أقول : والأعجب في أمره أنّه لم يُسلم ، ولم يؤمن !!
ولكنّ هذا العجب ينتهي بعد أن ينفتح الباب عمّا هو أعجب منه وأعظم ، وهو قول الإمام ( عليه السلام ) له : ( هيهات ، إنّك لا تسلم ) ! ثمّ يبشّره بمولودٍ مبارك يكون من شيعته !
فلا عتبَ على مَن كان دليله حماراً ،.. إذا بقيَ على جهله ؛ لأنّ مَن كان دليله عقله ـ كيزداد الطبيب ـ آمنَ وصدّق وأيقن ،.. وكان من الفائزين .
ومرحى لك يا ( يزداد ) ؛ إذ جعلَ الله تعالى خير أيّامك ما وليَ آخر عمرك ، وكان أفضل أيام حياتك خواتيمها ، حيث ختمَ لك بخير ؛ لأنّ الإسلام يَجبّ ما قبله ، فستُبعث بريئاً نظيفاً كيوم ولَدتك أمّك ،.. وقد أبيضّ قلبك الأسود قبل فراق هذه الدنيا الزائلة إلى الآخرة الباقية الخالدة ،.. فما أحسن ما استهلّيتَ به أول يوم من أيّام آخرتك ،.. وكان الحقّ معك حين طلبتَ من صاحبك أن يكتم أمرك ؛ لأنّ سلطان زمانك كان يستلّ لسانك من فمك إن هو سمع ما فهتَ به يومذاك ،.. وإذ أُهنّئك بنهايتك السعيدة ، لا لآسى على أولئك السلاطين المتربّبين على النّاس ، فقد أعماهم التسلّط على رقاب العباد ، وأطغاهم إمهال الله تعالى لهم ، فعاثَوا في الأرض فساداً وانصبّ همّهم واهتمامهم على عداوة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، وكيده في عترته الطاهرة ،.. ثمّ لم يفرغوا من ذلك إلى شيءٍ غيره..
فكيف يقابل وجه الله أولئك السلاطين.. حين تُنصب الموازين ؟!
وكيف يلاقون رسوله الكريم وأيديهم ملطّخة بدماء ذرّيته وأهل بيته ؟!

وعن محمد بن داود القمّي ، ومحمد بن طلحة ، قالا : ( حَمَلنا مالاً من خمسٍ ونذْرٍ وهدايا وجواهر اجتَمَعت في قم وبلادها ، وخرَجنا نريد بها أبا الحسن الهادي ( عليه السلام ) ، فجاءنا رسوله في الطريق أن ( ارجعوا فليس هذا وقت الوصول ،.. فرَجعنا إلى قم وأحرَزنا ما كان عندنا .
فجاءنا أمره بعد أيام أن ( قد أنفَذنا إليكم إبلاً وعيراً ، فاحمِلوا عليها ما عندكم وخلّوا سبيلها .
قالا : فحمّلناها وأودعناها الله..
فلمّا كان من قابل قدِمنا عليه فقال : انظروا إلى ما حَمَلتم إلينا ) .
فنظرنا فإذا المنائح كما هي ) (279) ـ والمنائح هي : الهدايا والعطايا ـ .
هذه العير والإبل سارت وحدها ما بين قم في إيران ، وسامرّاء في العراق وعلى ظهورها الأموال والجواهر والثياب ،.. فمَن كان دليلها وحاديها وحارسها عِبر ذلك السفر الطويل ؟!
ومَن جَنّبها الوقوع في قَبضة جلاوزة السلطان ، وأوصَلها إلى مكان قَصْدها بأمان ؟!
ولماذا أتى الإمام ( عليه السلام ) بهذه الآية بين طرَفي دولة بني العباس شرقاً وغرباً ؟!
إنّه سلام الله عليه وتحيّاته وبركاته ، قد تعمّدها لتتحدّث بها الرّكبان ،.. وليغطّي ذكرها آفاق دولة السلطان ، فتكون آيةً بيّنة تتناقل من شَفةٍ إلى لسان ، فشفةٍ فلسانٍ ،.. حتى تَصلنا في أيامنا هذه فيقوى بها إيمان الوليّ ، وتكون قذى في عين عدوّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) وعدوّ ذرّيته..

وقال الفحّام : ( حدّثني المنصوري عن عمّ أبيه ، وحدّثني عمّي ، عن كافور الخادم الذي قال :
( كان في الموضع مجاور الإمام من أهل الصنائع صنوف من الناس ، وكان الموضع كالقرية ، وكان يونس النّقّاش يغشى سيّدنا الإمام ( عليه السلام ) ويخدمه .
فجاءه يوماً يرعد ، فقال : يا سيّدي أوصيك بأهلي خيراً .
قال : ( وما الخبر ؟
قال : عزمتُ على الرحيل .
قال : ولِمَ يا يونس ؟ وهو ( عليه السلام ) مُتبسّم .
قال : موسى بن بغا وجّه إليّ بفصٍّ ليس له قيمة ـ أي أنّه ثمين لا تُقدّر قيمته ـ أقبلتُ أن أنقشهُ فكسرتهُ باثنين ، وموعده غداً ،.. وهو موسى بن بغا ، إمّا ألف سوطٍ ، وإمّا القتل !
قال : امضِ إلى منزلك إلى غدٍ ، فما ترى إلاّ خيراً .
قال : وما أقول له يا سيّدي ؟!
قال : فتبسّمَ وقال : امضِ إليه واسمع ما يخبرك به ، فلن يكون إلاّ خيراً .
قال : فمضى ، وعاد يضحك ، وقال : قال لي يا سيّدي : الجواري اختصمنَ ، فيمكنك أن تجعلهُ فصّين حتى نُغنيك .
فقال سيّدنا الإمام ( عليه السلام ) : اللّهم لك الحمد ، إذ جَعلتنا ممّن يَحمدك حقّاً ، فأيش قلت له ؟ ـ وهي لغة تعني : أيّ شيء ؟ ـ .
قال : قلت له : أمهِلني حتى أتأمّل أمرهُ كيف أعمله .
فقال : أصبتَ ) (280) .
( فبأيش ) نُعلّق على هذا الغيب من غيبك يا ربّ ؟! وهل نملك أكثر من القول بأنّ الإمام ( عليه السلام ) عَلم بما يكون في اختلاف الجواري بشأن ذلك الحجَر الكريم ، والاتفاق على جَعله نصفين ؟! وإذا قلنا ذلك ، وردَ السؤال : من أين له عِلم ذلك ،.. ووردَ سؤال بعد سؤال ، وإشكال بعد إشكال ،.. إنّنا إذا أردنا التعليق وجبَ أن يكون تعليقنا كفاء علم الإمام ( عليه السلام ) ،.. ومن أين لنا ذلك ونحن أطفال كلامٍ في معايير التحليل والتعليق !!
إنّه لا يغلب الناس إلاّ مَن يقول : أعطاني ربّي ،.. والأئمة ( عليهم السلام ) أعطاهم ربّهم عزّ وعلا ، وأنالهم وأنال ، حتى يعيا المكيال وينقطع النفس..
***
قال أحمد بن يحيى الأوديّ :
( دخلتُ مسجد الجامع لأصلّي الظّهر ، فلمّا صلّيت رأيت حرب بن الحسن الطحّان وجماعةً من أصحابنا جلوساً ، فمِلتُ إليهم فسلّمت عليهم وجلست ، وكان فيهم الحسن بن سماعة ـ من شيوخ الواقفة ـ فذكروا الحسن بن عليّ ( عليه السلام ) وما جرى عليه ، ثمّ من بعد زيد بن عليّ وما جرى عليه ، ومعنا رجل لا نعرفه ، فقال :
يا قوم ، عندنا رجل عَلوي بسرّ مَن رأى من أهل المدينة ما هو إلاّ ساحر أو كاهن .
فقال له ابن سماعة : بمَن يُعرف ؟
قال : عليّ بن محمد بن الرّضا .
فقال له الجماعة : فكيف تبيّنتَ ذلك منه ؟
قال : كنّا جلوساً معه على باب داره ، وهو جارنا بسرّ مَن رأى نجلس إليه كلّ عشيّةٍ نتحدّث معه ، إذ مرّ بنا قائد من دار السلطان ومعه خِلَع ، ومعه جمع كثير من القوّاد والرجّالة والشاكريّة ـ أي الأُجرَاء والمستخدَمين ـ وغيرهم ، فلمّا رآه عليّ بن محمدٍ وثبَ إليه وسلّم عليه وأكرمهُ .
فلمّا أن مضى قال لنا : ( هو فرِحٌ بما هو فيه ، وغداً يُدفن قبل الصّلاة ) !
فَعجبنا من ذلك ، فقمنا من عنده فقلنا : هذا علم الغيب ! فتعاهدنا ثلاثةً إن لم يكن ما قال أن نقتلهُ ونستريح منه .
فإنّي في منزلي وقد صلّيت الفجر إذ سمعتُ جلبةً فقمت إلى الباب ، فإذا خلق كثير من الجُند وغيرهم ، وهم يقولون : ماتَ فلان القائد البارحة ، سكرَ وعبرَ من موضع إلى موضع فوقعَ واندَقّت عُنقه !
فقلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وخرجتُ أحضرهُ وإذا الرجل ـ كان كما قال أبو الحسن ـ ميت ، فما برحتُ حتى دَفنته ورجعت ! فتعجّبنا جميعاً من هذا الحال ) (281)
فلا تغلط أيّها الضّيف السامرّائيّ في تفسير آيات الله ودلائل عظمته ! ولا تخلط بين الآيات وبين السّحر والشعوذة ! فليس الرجل الذي رأيته ساحراً ولا كاهناً كما زعمتَ ، ولكنّه عالِم أهل بيت النبوّة صلوات الله عليهم ، وهو لا يَرجم بالغيب ، بل ينطق عن علمٍ ثابتٍ محفوظٍ في صدره استقاه عن آبائه عن جدّه ( صلّى الله عليه وآله ) ، عن جبرائيل ( عليه السلام ) ، عن الله تبارك وتعالى..
وتعاهدُك مع رفيقيك على قَتل الإمام إذا لم يقع ما وعدَ به للاستراحة منه ، تعاهدٌ سَفه أريح لك من الوفاء به ؛ لأنّه تعاهد كفرٍ ونفاق كتعاهد كفّار قريش ورؤوس الضلال من أكابر مكّة ، حين تواطئوا على قَتل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فإنّ ما يقوله الإمام لابدّ أن يقع ؛ إذ هو من المحتوم الذي أطلعهُ عليه الحيّ القيّوم !
ولذا فإنّ إجلاب الجند وضجيجهم قد طرقَ سمعك مع صلاة الفجر ليؤذنك بصدق الإمام ( عليه السلام ) ، وبموت القائد الفرح المرح ،.. فاهمِس في أُذنَي رفيقيك أنّك وإيّاهما كنتم في ضلالٍ عن الحقّ كأكثر المعاصرين لكم ؛ إذ استحوذَ عليهم الشيطان وأنساهم أنّهم على دين نبيّ عظيم لم يعملوا بما أمرَ ، ولم ينتهوا عمّا نهى عنه وزجر ، بل وجدوا آباءهم على طريق ضلال فسلكوه ، وخالفوا أوامر ربّهم ونواهيه ، وما أغنت عنهم الآيات ولا النّذر ،.. فأدّى بهم غرورهم إلى مصير وبيل ، بعد أن رضوا بالعيش ـ صرفاً ـ بين المعتلف والنّثيل !

وعن الحسن بن إسماعيل ، عن شيخٍ من أهل النهرين ، قال :
( خرجتُ أنا ورجل من أهل قريتي إلى أبي الحسن بشيءٍ كان معنا ، وكان بعض أهل القرية قد حَمّلنا رسالةً ودفعَ إلينا ما أوصلناه وقال : تُقرئونه منّي السلام وتسألونه عن بيض الطائر الفلانيّ من طيور الآجام ، هل يجوز أكله أم لا ؟
فسلّمنا ما كان معنا إلى جاريةٍ ، وأتاه رسول السلطان فنهضَ ليركب ، وخرجنا من عنده ولم نسأله عن شيء ،.. فلمّا صِرنا في الشارع لحقنا ( عليه السلام ) وقال لرفيقي بالنبطيّة : ( أقرِئه منّي السلام وقل له : بيض الطائر الفلانيّ لا تأكلهُ ؛ فإنّه من المسوخ ) (1) .
فمِن أين له باللغة النبطية ومَن علّمه إياها ؟ ولِمَ اختارَ التكلّم بها ؟! وهل كان على إمامنا ( عليه السلام ) أن يخاطب أهل عصره باللّغة ( النبطيّة ) حتى يسمعوا ويَعوا ؟! لا ، أبداً ،. ولقد استعملَ معهم كلّ وسيلة ، وسلكَ كلّ طريقةٍ يمكن أن تؤدّي إلى الهدى للولاية الرّبانية ، فما ازدادوا إلاّ بُعداً وضلالاً وتمسّكاً بما ورثوه عن أجدادهم وآبائهم من التنكّر للحق ، وما زادهم دعاؤه لهم إلاّ فراراً ، ركضاً وراء شهوات الدّنيا ولذائذ العيش التي حَرمتهم من الإيمان ، ما كان ليُحرّم عليهم شهوةً محلّلةً ، ولا لذّةً مباحة مسوّغةً !
فيا ليتهم كانوا يسمعون ويعقلون ؛.. لينزعوا من عقولهم الصدئة أنّ الإمام واحد عاديّ كسائرهم ، أو إنّما كان أفقه وأحسن أخلاقاً منهم.. فقط ! جاهلين مرتبته الربّانية ، وسرّه الإلهيّ ، وأنّ قوله مُنزل من المنزل وليسوا بمُخيّرين بين قبوله أو رفضه ، ولا صِدقه موقوف على اعترافهم التافه الذي لا يحتاج إليه ظهور حقّه وصدقه .

والآن انظر إلى ما أصاب محمداً بن عبد الله القميّ ـ الشيعيّ ـ من مكروهٍ حين خالفَ أمر مولاه مخالفةً جزئيّة ، لا تمسّ جوهر العمل الدينيّ بمعناه الأصيل ، بالرغم من أنّه قد تجشّم وعثاء السفر فيما بين إيران والعراق ؛ ليتشرّف برؤية إمامه صلوات الله عليه والاجتماع بخدمته ،.. فقد قال ذلك المسكين :
( لمّا حملتُ ألطافاً من قمّ إلى سيّدي أبي الحسن ( عليه السلام ) إلى سرّ مَن رأى ، وصلتُها واستأجرت بها منزلاً ، وجعلتُ أروم الوصول إليه ومَن يوصل تلك اللطائف التي حَملتها ، فتعذّر عليّ ذلك .
فكلّفتُ عجوزاً كانت معي في الدار أن تلتمس لي امرأةً أتمتّع بها .
فخرجَت العجوز في طلب حاجتي ، فإذا أنا بطارقٍ قد طرقَ بابي وقَرعه ، فخرجتُ إليه فإذا أنا بصبيّ منحولٍ ، فقلت له : ما حاجتك ؟
فقال لي : سيّدي ومولاي يقول لك : ( قد شَكرنا بِرّك وألطافك التي حَملتها تريدنا بها ، فاخرُج إلى بلدك واردُد ألطافك معك ، واحذَر الحذر كلّه أن تقيم بسرّ مَن رأى أكثر من ساعة ؛ فإنّك إن خالفتَ وأقمتَ عوقِبتَ ،.. فانظر لنفسك !
فقلت : والله ، إنّي أخرج ولا أُقيم .
فجاءت العجوز ومعها المتيعة ،.. فتمتّعتُ بها ، وبتّ ليلتي وقلت : أخرج غداً .
فلمّا تولّى الليل طرقَ باب دارنا ناس وقرَعوه قرعاً شديداً ، فخرجَت العجوز إليهم ، فإذا أنا بالطّائف والحارس وشرطةٍ معهما ، ومشعلٍ وشمعٍ فقالوا لها : أخرجي إلينا الرجل والمرأة من داركِ ! فجحَدتهم ،.. فهجموا عليّ الدار فأخذوني والمرأة ونهبوا كلّ ما كان معي من اللطائف وغيرها ،.. فرُفقت ـ أي شُدّ عضداه بحبل ـ وأقمتُ في الحبس بسرّ مَن رأى ستّة أشهر .
.. ثمّ جاءني بعض مواليه فقال لي : حلّت بك العقوبة التي حذّرتك منها ، فاليوم تخرج من حَبسك ، فصِرْ إلى بلدك ) !
فأُخرجتُ في ذلك اليوم ، وخرجتُ هائماً حتى وردتُ قُم فقلت : إنّي بخلافي لأمره نالَتني تلك العقوبة ) (1) .
فقد رجعَ المسكين خائباً لم يتشرّف برؤية سيّده ومولاه ، رغم أنّه قطعَ المسافات الشاسعة الشاقة ، وما أوصلَ له ألطافاً ، ولا قضى من مآربه غير وطر المتعة التي قضت عليه بالانتشال من حضن المتيعة ، والإلقاء في غياهب السجن ستّة أشهرٍ ، حين لم يُنفّذ أمر إمامه الذي مَحضه النّصح فلم ينتصح ،.. وثِق أنّنا لا تتسنّى لنا معرفة الإمام حقّاً وحقيقةً إلاّ حين نعتقد اعتقاداً جازماً لا يخامره ريب ، أنّه حجّة الله تعالى على العباد وسفيره في البلاد ، لا يخفي سبحانه عنه شيئاً ممّا قدّر وأراد ،.. وإلاّ فإنّنا نضيع عنه مع الضائعين ، ونظنّه واحداً كسائر العالمين ، ونبوء بإثم تكذيب ما جاء به رسولنا العظيم ( عليه السلام ) عن ربّه عزّ وجلّ ، بخصوص عترته الطاهرة الفاخرة صلوات الله وسلامه عليهم .

وقال الحسين بن عليّ : إنّه أتى النقيّ ( عليه السلام ) رجل خائف وهو يرتعد ويقول : إنّ ابني أُخذَ بمحبّتكم ، والليلة يرمونه من موضع كذا ويدفنونه تحته !
قال : ( فما تريد ؟
قال : ما يريد الأبوان .
فقال : لا بأس عليه ، اذهب فإنّ ابنك يأتيك غداً .
فلمّا أصبحَ أتاه ابنه فقال : يا بنيّ ما شأنك ؟
قال : لمّا حفروا القبر وشدّوا لي الأيدي ، أتاني عشرة أنفسٍ مطهّرة معطّرة وسألوا عن بكائي ؟ فذكرتُ لهم :
فقالوا : لو جُعِل الطالب مطلوباً تُجرّد نفسك وتَخرج وتلزم تربة النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) ؟
قلت : نعم .
فأخذوا الحاجب فرموهُ من شاهق الجبل ولم يسمع أحد جَزعه ولا رأوا الرّجال ! وأورَدوني إليك وهم ينتظرون خروجي إليهم ، وودّعَ أباه وذهب..
فجاء أبوه إلى الإمام وأخبرهُ بحاله ، فكان الغوغاء تذهب وتقول : وقعَ كذا وكذا ، والإمام ( عليه السلام ) يبتسم ويقول : إنّهم لا يعلمون ما نعلم ! ) (283) .
أي والله ، ونعم ، وبلى ؛.. فإنّ الغوغاء ـ وهم سَفلة الناس والمتسرّعون إلى الشرّ ـ هم أبعد ما يكون عن علم ما تَعلم يا سيّدي يا أبا الحسن ! بل أنت في المنظر الأعلى وهم أقصى ما يكون عن فهم علمك ومعرفة قدرك ! بل إنّ العلماء والعقلاء يقصرون عن ذلك ، ولا يدركون إلاّ جزءاً يسيراً ممّا حباكَ به ربّك سبحانه حين انتجبكَ لسياسة خلقه ،.. فعِلمك من علم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، من علم الله تعالى علاّم الغيوب الذي يسمع النّجوى ويطّلع على السرّ وأخفى ، ولا يفوته ما توسوس به النفوس ، ولا ما تجيش به الصّدور و( وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء ) (284) ،.. فكيف يصل هذا الخلق القاصر إلى معرفة ما أنتَ عليه من القدرة والتمكّن ، وقد اختصّك الله عزّ وجلّ بما اختصّ به أنبياءه السابقين ، وسخّر لك الملائكة يعملون بين يديك بإذنه لتتمّ بك حجّته على الناس ؟!
لا والله ، إنّهم لا يعلمون ما تعلم ،.. ولا كانوا يريدون أن يعلموا ،.. بل ركبوا العناد وخانَهم السداد .

وقد روى الفحّام عن عمّه عمر بن يحيى ، عن كافور الخادم ، قال :
( قال لي الإمام عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) : ( اترك لي السطل الفلانيّ في الموضع الفلانيّ لأتطهّر منه للصّلاة ، وأنفذني في حاجةٍ ، وقال : إذا عُدت ، فافعل ذلك ليكون معدّاً إذا تأهّبت للصّلاة .
واستلقى ( عليه السلام ) لينام ، ونسيتُ ما قال لي ، وكانت ليلة باردة ،.. فأحسستُ به وقد قام إلى الصّلاة وذكرتُ أنّني لم أترك السطل ! فبعدتُ عن الموضع خوفاً من لومه ، وتألّمتُ له حيث يشقى بطلب الإناء..
فناداني نداء مغضب ، فقلت : إنّا لله ! أيش ـ أي شيءٍ ـ عذري أن أقول نسيت مثل هذا ؟!
ولم أجد بدّاً من إجابته ، فجئتُ مرعوباً ، فقال : يا ويلك ، أمَا عرفتَ رَسمي أنّني لا أتطهّر إلاّ بماءٍ باردٍ ، فسخّنتَ لي ماءً فتركتهُ في السطل ؟!
فقلت : والله ، يا سيّدي ما تركتُ السطل ، ولا الماء .
قال : الحمد لله ، والله لا تركنا رخصةً ، ولا رَددنا منحة ،.. الحمد لله الذي جَعلنا من أهل طاعته ، ووفّقنا للعون على عبادته ،.. إنّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) يقول : إنّ الله يغضب على مَن لا يقبل رخصته ) (285) .
أفأنتَ يا قارئي العزيز سخّنتَ له الماء ليتطهّر في تلك الليلة الباردة ؟!
لا ، ولا أنا ، ولا كافور الخادم..
وإذاً.. ( أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) (286) ، بأنّ الإمام يكون دائماً في عين الله عزّ وعلا بعد أن انتجبه وحمّله كلمته إلى الناس ( فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ) (287) ؟!

وقال محمد بن علي : ( أخبرَني زيد بن علي بن الحسين بن زيد  قال :
مرضتُ فدخلَ عليّ الطبيب ليلاً ووصفَ لي دواءً آخذه في السّحر كذا وكذا يوماً ، فلم يمكنّي تحصيله من الليل .
ولم يخرج الطبيب من الباب ، حتى وردَ عليّ نصر ، صاحب أبي الحسن ( عليه السلام ) في الحال بقارورةٍ فيها ذلك الدواء بعينه ، فقال لي : أبو الحسن ( عليه السلام ) يقرئك السلام ويقول لك : ( خذ هذا الدواء كذا وكذا يوماً ) .
فأخذتهُ ، وشربته فبرِئتُ ) (288) .
فلم يمرّ الطبيب بالإمام ( عليه السلام ) ، ولا أخبرهُ بمرض زيد المذكور ، ولا بما وصفَ له من الدواء ،.. ولا كان الإمام يحوز صيدليّة عقاقير مختلفةٍ اختارَ من بينها العلاج الناجع لصاحبه ! فهل عَلم ذلك بغير قدرة الله الّتي ذلّ لها كلّ شيءٍ ، وخضعَ لها كلّ شيءٍ ؟! لا ،.. وقد أعلمَ الله سبحانه وليّه بما كان ،.. بل لم يَحجب عنه علم ما يكون ؛ لأنّه جَعله عَيبة علمه ومستودع سرّه ، والناطق بأمره ،.. فهيّأ له المعرفة ، والحصول على الدواء المقرّر ، بلطفه الخفيّ ، وأقدرهُ على ما يعجز عنه الآخرون ؛ ليكشف لهم عن سرّه المكنون الذي هو من سرّه عزّ وجلّ ،.. ولولا ذلك لكانَ إنساناً عاديّاً كما كان يظنّ أهل عصره ومَن تلاهم..

وقال أبو هاشم الجعفري :
( ظهرَ برجُلٍ من سرّ مَن رأى بَرَص فتنغّص عليه عيشه ، فجلسَ يوماً إلى أبي عليّ الفهري فشكا إليه حاله ، فقال له : لو تعرّضت لأبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) ، فسألتهُ أن يدعو لك ، لرجوتُ أن يزول عنك .
فجلسَ له يوماً في الطريق وقتَ منصرفه من دار المتوكل ، فلمّا رآه قامَ إليه ليدنو منه فيسأله عن ذلك ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( تَنَحّ عافاك الله ـ وأشار إليه بيده ـ تَنَحّ عافاك الله ، تَنحّ عافاك الله ) !
فابتعدَ الرجل ولم يجسر أن يدنو منه ، وانصرف..
ولقيَ الفهريّ وعرّفه الحال وما قال ،.. فقال : قد دعا لك قبل أن تسأله ، فاذهب فإنّك ستُعافى .
فذهبَ الرجل إلى بيته ، فبات تلك الليلة ،.. ولمّا أصبحَ لم يرَ على بدنه شيئاً من ذلك ) (289) .
وقبل أن يأخذك العجب تَذكّر معي : ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) (290) تذكّر قوله هذا تَرى أنّ كلّ ذلك يتمّ بإذن الله سبحانه وتعالى لا بقدرة مخلوق .
فلم يكلّم عيسى ( عليه السلام ) الناس في المهد إلاّ بإذن ربّه عزّ وجلّ ، ولا خَلقَ ما هو بهيئة الطّير إلاّ بمشيئته تعالى ، وكذلك لم يُبرئ الأكمه ولا شفى البَرص إلاّ بإذن ربّه القادر تبارك وتعالى ،.. وإذنه هذا الذي مَنحه للمسيح ( عليه السلام ) ، لم يبخل به ولا بأكثر منه على رسوله محمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ) ، ولا بخلَ به على أوصيائه الذين هم مواضع سرّه وورثة أنبيائه وحَملة وحيه ، صلوات الله وسلامه عليهم ،.. أمّا شكُّنا وتوقّفنا عند هذه النّقاط من آثارهم ؛ فيدلاّن على نقصٍ في إيماننا ، وإنكار لشيءٍ موجود لا يجعله الإنكار معدوماً ، بل هو في الواقع إنكار لقدرة الله سبحانه ، واعتراض على مشيئته ، وعناد وتحدّ لإرادته !
فهل نحن شركاء له تعالى فيما قسّم بين عباده بمقتضى حكمته وعلمه ، حتى نقف بالمرصاد لكلّ ما يصدر عن أوليائه وأهل الزّلفى لديه ، فنبادر ما يأتون به من العجائب بالتكذيب والاستنكار ؟! طبعاً ، لا.. ولكنّها وقاحة العبد القاصر الذي كلّما عُرضَ له ما لا يستوعبه عقله وفكره قال : هذا سحر مبين !
فإمامُنا ( عليه السلام ) قد عرفَ بُغية الرجل المصاب بالبَرص منذ وقعَ نظره عليه في الطريق ، فدعا له بالبُرء قبل أن يطلب ذلك ـ وربّه سميع مجيب ـ ، ثمّ أشارَ إليه بيده الكريمة قائلاً : ( تَنحّ ، عافاك الله ) ، بقصد الدّعاء أو بقصد الإخبار أنّه قد حقّت له العافية ، فأذِنَ الله بعد دعاء وليّه الأمين ،.. فأدركَ ذلك صاحبه الفهريّ الذي قال للرجل بكامل الاطمئنان : اذهب فإنّك ستعافى ،.. وقد صِرنا على بيّنةٍ من أنّ الإمام ( عليه السلام ) يعلم ما في النفوس ، كما كان معاصروه على بينةٍ من أنّ الإمام ( عليه السلام ) يعلم ما في النفوس ، كما كان معاصروه على بينةٍ من ذلك وبيقينٍ ومعرفةٍ تامّةٍ بأنّه يأتي بالآيات الباهرة والمعاجز المدهشة ، كلّما لزِم الأمر أو عاندَ المعاند وكادَ المكايد .
وأسِرّ في أُذنك ـ يا قارئي الكريم ـ للمرة الثانية أنّ هذه ( البضاعة ) لم تكن عند الأئمة ( عليهم السلام ) مطروحة في الشوارع والأسواق ، بل كانت مرصودة لوقت الحاجة والحجّة ،.. ولفائدة الناس وانتشالهم من براثن الجهل المؤدّي إلى سخط الله تعالى وغضبه ،.. فقط ؛.. لأنّ الآية المعجزة لا تقع بلا سببٍ هام .

قال محمد القاسم بن العلا :
( حدّثنا خادم لعليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، قال : ( استأذنتهُ في الزيارة إلى طوس ـ أي للتشرّف بزيارة قبر جدّه الإمام الرّضا ( عليه السلام ) ـ فقال لي :
( يكون معك خاتم فصّه عقيق أصفر عليه : ما شاء الله ، لا قوّة إلاّ بالله ، أستغفر الله ، وعلى الجانب الآخر : محمد وعليّ ؛ فإنّه أمان من القطع ، وأتمّ للسلامة ، وأصوَن لدينك .
قال : فخرجتُ وأخذت خاتماً على الصّفة التي أمرَني بها ، ثمّ رجعت إليه لوداعه ، فودّعته وانصرفتُ ، فلمّا بعدتُ عنه أمرَ بردّي ، فرجعتُ إليه .
فقال : يا صافي .
قلت : لبّيك يا سيّدي .
قال : ليكن معك خاتم آخر فيروزج ؛ فإنّه يلقاك في طريقك أسد بين طوس ونيسابور ، فيمنع القافلة من المسير ، فتقدّم إليه ، وأرِه الخاتم وقل له : مولاي يقول لك : تَنحَّ عن الطريق ،.. ثمّ قال : ليكن نقشه : الله المَلك ، وعلى الجانب الآخر : المُلك لله الواحد القهّار ؛ فإنّ خاتم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) كان عليه : الله المَلك ، فلمّا وليَ الخلافة نقشَ على خاتمه : المُلك لله الواحد القهّار ،.. وكان فصّه ـ من ـ فيروزج ، وهو أمان من السّباع خاصةً ، وظفر في الحروب .
قال الخادم : فخرجتُ في سفري فلقيني والله السَبُع ، ففعلتُ ما أُمرت .
ورجعتُ فحدّثته ( عليه السلام ) فقال لي : بقيَت عليك خصلة تُحدّثني بها ، إن شئتَ حدّثتك بها ! فقلت : يا سيّدي ، لعلّي نسيتها .
فقال : نعم ، بتّ ليلةً بطوس عند القبر ، فصارَ إلى القبر قوم من الجنّ لزيارته ، فنظروا إلى الفصّ في يدك فقرأوا نقشه ، فأخذوه من يدك وصاروا إلى عليلٍ لهم وغَسلوا الخاتم بالماء وسقوه ذلك الماء فبرئ ، ورَدّوا الخاتم إليك ، وكان الخاتم في يدك اليمنى فصيّروه في يدك اليسرى ، فكثرَ تعجّبك من ذلك ولم تَعرف السبب فيه ، ووجدتَ عند رأسك حجَر ياقوت فأخذتهُ وهو معك ، فاحملهُ إلى السوق فإنّه ستبيعه بثمانين ديناراً ) .
فحَملتهُ إلى السوق وبعته بثمانين ديناراً كما قال سيّدي (291) .
أول هذه القصّة نصائح يقصد بها اليُمن والبركة ، أسداها إمام كريم لخادمه الأمين ووليّه الحميم ،.. ولكن أنّه سيلقى القافلة أسد عيّن له زمان لقائه ومكانه ، فأمر عجيب ! وأعجب منه : أنّ ذلك الأسد يأتمر بأمر الإمام لمجرّد رؤية الخاتم وسماع أمره له بالتنحّي عن الطريق !! وليس بأقلّ عجباً وغرابة تذكير الإمام ( عليه السلام ) لخادمه بما نسيَ ذكره ، من نقل الخاتم من يدٍ إلى يدٍ أثناء نومه الذي عيّن زمانه ومكانه ، وذكر الياقوتة التي وجَدها تحت رأسه والتي عرفَ ثمنها بالدقّة المدهشة !!
ونحن إذا استقصينا آيات عِلمه صلوات الله عليه ، وما ظهرت من معاجزه في هذه الحادثة لطالَ بنا المقام وكثُر الكلام ، ولكن حين نُسلّم بقدرة الخالق عزّ اسمه المطلقة ، وبقوّته المهيمنة على كلّ شيءٍ من الذّرّة إلى المجرّة ، نؤمن بأنّه سبحانه لا يمنع مِننه عن عبده الصالح المقرّب المختار ، ثمّ نقنع بأنّ القادر على أيجاد جميع الكائنات وفْق نظام دقيق أزليّ ، قادر على أن ينتجب من خلقه عباداً مكرمين ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (292) يزوّدهم بما لا مزيد عليه من التوفيق والتسديد ، ويؤيّدهم بملائكةٍ يحملون إليهم بريد القدرة الإلهيّة ، ومستجدّات الأقضية السماويّة ساعةً بعد ساعة..

ومن ذلك ما رواه محمد بن عيسى ، عن أبي عليّ بن راشد ـ وكيل إمامنا ومعتمده ـ حين قال :
( قدِمتْ عليّ أحمال ـ أي أموال وحقوق وهدايا للإمام من مواليه ـ فأتاني رسوله قبل أن أنظر في الكتب أن أوجّه بها إليه : ( سرِّح إليّ بدفتر كذا ) ،.. ولم يكن عندي في منزلي دفتر أصلاً ،.. فقمتُ أطلب ما لا أعرف ـ بالتصديق له ـ فلم أقع على شيء .
فلمّا ولّى الرسول قلت له : مكانك ،.. فحللتُ بعض الأحمال فتلقّاني دفتر لم أكن علمتُ به ! إلاّ أنّي علمتُ أنّه لم يَطلب إلاّ حقّاً ، فوجّهت به إليه ) (293) .
وتلاحظ أنّه ( عليه السلام ) قد علمَ بوصول الأحمال إلى وكيله ، وعلمَ أمر الدفتر المخبّأ في بعض الأكياس ، ثمّ أرسلَ بطلب ذلك كلّه قبل أن يعرف وكيله بشيءٍ من تلك التفصيلات..
فمِن أين للإمام ( عليه السلام ) ذلك ؟
.. لا من أين ؟ ولا كيف ؟ ولا لماذا ؟ فإنّ آيات الأئمة ( عليهم السلام ) ودلالاتهم أكثر من أن يحاط بها ؛ ولولاها لضَلّ كثيرون لشدّة ما حصلَ عليهم وعلى أوليائهم من ضيق السّلطات الدّنيويّة ، فثبتوا على الحق ،.. وقد هلكَ بإنكارها عليهم الأكثرون..

وروى الحسين بن محمد ـ معنعناً ـ عن إسحاق الجلاّب الذي قال :
( اشتريت لأبي الحسن ( عليه السلام ) غَنماً كثيرةً ، فدعاني فأدخَلني من اصطبل داره ـ حظيرة حيواناته ـ إلى موضعٍ واسعٍ لا أعرفه ، فجعلتُ أُفرّق تلك الغنم في مَن أمَرَني به .
فبعثتُ إلى أبي جعفر ـ ابنه الكبير ـ وإلى والدته وغيرهما ممّن أمرَني به ، ثمّ استأذنتُ في الانصراف إلى بغداد إلى والدي ، وكان ذلك يوم التّروية ـ أي قُبيل عيد الأضحى المبارك ـ فكتبَ إليّ : ( تُقيم غداً عندنا ، ثمّ تنصرف .
قال : فأقمتُ ،.. فلمّا كان يوم عرَفة أقمتُ عنده ، وبتّ ليلة الأضحى في رواقٍ له ، فلمّا كان في السّحر أتاني فقال لي : يا إسحاق ، قم ) .
فقمتُ ففتحت عينيّ فإذا أنا على باب داري ببغداد ، فدخلتُ على والدي ، وأتاني أصحابي فقلت لهم : عرّفتُ بالعسكر ـ أي قضيتُ يوم عرَفة ـ وخرجتُ إلى العيد ببغداد ) (294) .
وإنّك لسعيد يا إسحاق الجلاّب ، إذ ( عرّفتَ ) بخدمة إمامك الكريم في سامرّاء ، وخرجتَ إلى العيد صباحاً في بغداد ، دون أن تشعر بوعثاء السفر في طريقٍ طولها قرابة مئة وعشرين كيلومتراً !
فقد طُويَت لك الأرض كما تُطوى للأولياء والصّلحاء بقدرة الله عزّ اسمه ، وببركة إمامك العظيم الذي لم يحمّلك هذه ( الرسالة المعجزة ) إلاّ ليشدّ بها قلوب مواليه من شيعته في بغداد ،.. بل عِبر الأجيال حيث يتناقلها النّاس منذئذٍ حتى أيامنا هذه .
وقد أدّيتها بأمانةٍ وبمنتهى البساطة ،.. وأنا أنقلها إلى إخواني من خلالك ولك أجرها وفخرها .
وسعيدٌ مِثلك مَن سَمع فوعى ،.. وفكّر وقدّر ، فآمنَ واستعبر ! وأيقنَ أنّه سبحانه تنفتح باسمه الأعظم مغالق أبواب السماوات والأرض ، ويسهل كلّ صعب .

وقد روي عن يحيى بن زكريّا الخزاعي ، عن أبي هاشم الجعفري ، أنّه قال :
( خرجتُ مع أبي الحسن ( عليه السلام ) إلى ظاهر سرّ مَن رأى يتلقّى بعض الطالبيين ، فأبطأ .
فطرحتُ له غاشية السّرج فجلسَ عليها ، ونزلتُ فجلست بين يديه وهو يُحدّثني ، فشكوتُ له قصور يدي وضيق عيالي ، فأهوى إلى رملٍ كان عليه جالساً ، فناولني منه أكفّاً وقال : ( اتّسع بهذا يا أبا هاشم ، واكتُم ما رأيت ) .
فخبّأته معي ورجعنا ، فأبصرتهُ فإذا هو يتّقد كالنيران ذهباً أحمر !
فدعوتُ صائغاً إلى منزلي ، وقلت له : اسبك لي هذا سبيكة .
فسَبكهُ وقال : ما رأيتُ ذهباً أجود من هذا ! وهو كهيئة الرّمل ، فمِن أين لك هذا ؟ فما رأيت أعجب منه !
فقلت : هذا شيء عندنا قديم تدّخره لنا عجائزنا على طول الأيام (295) .
أمّن يمسكون الرّمل والتّراب فينقلب بأيديهم الشريفة إلى نضار من ذهبٍ وهّاج إذا لزمَ الأمر ، ويسدّون به حاجات أصحابهم ومواليهم ، أسأل الله من فضله أن يثبّتنا على ولايتكم والاعتراف بحقّكم ، وأن يُعجّل فرج غائبكم المنتظر ليقيم العدل في المعمور بعد أن غَرقت في الظّلم والجور ، وليهدي الناس إلى سواء السبيل ، فلا يعبد طواغيت المال وجواليت بيع السّلاح وفراعنة التسلّط والاستعمار ، وأهل الاستكبار ، من دون الله ، فيحق الحقّ ويزهق الباطل..

ثمّ قال أبو هاشم الجعفريّ ذاته : ( دخلتُ عليه بسرّ مَن رأى وأنا أريد الحج ، لأودّعه ، فخرجَ معي ، فلمّا انتهى إلى آخر الحاجز نزلَ ونزلتُ معه ، فخطّ بيده الأرض خطّةً شبيهةً بالدائرة ثمّ قال لي : ( يا عمّ ، خذ ما في هذه يكون في نفقتك ، وتستعين به على حَجّك ) .
فضربتُ بيدي فإذا سبيكة من ذهبٍ ، فكان فيها مئتا مثقال (296) .
وتفسير وجود هذه السبيكة في الأرض ، وفي تلك البقعة بالذّات ، وضمن الدائرة التي خطّها الإمام ( عليه السلام ) بالتأكيد ، لا يتيسّر شرحه بالمعقول الذي يستسيغه الفكر وتَركن إليه النفس ،.. وما هو إلاّ معجز في المعاجز التي لا يأتي بها إلاّ أمناء الله وصفوته من بريّته ! ولو فرضنا أنّ أحدنا طمرَ هذه السبيكة في ذلك الموضع في يوم من الأيام ، لضلّ عن مكان وجودها بالدّقة التي حدّدها إمامنا الكريم ( عليه السلام ) في تلك اللحظة ، حين خطّ الدائرة التي هي في وسطها بالذات !
وقد كانت للإمام سلام الله عليه عناية خاصّة بأبي هاشم هذا ؛ لأنّه كان من ثقات أصحابه المخلصين ومن رجاله الثابتين على الحق ، إلى جانب كونه شيخاً جليلاً طاعناً في السّن ، وكونه من أولاد عمّه المنحدرين من جعفر ـ الطيّار ـ بن أبي طالب ( عليه السلام ) (297) .
وقد حدّث عنه أبو القاسم ، عبد الله بن عبد الرحمان الصالحي ، قائلاً :
( إنّ أبا هاشم الجعفريّ شكا إلى مولانا أبي الحسن ما يلقى من الشوق إليه إذا انحدرَ من عنده إلى بغداد ، وقال له : يا سيّدي ادعُ الله لي ، فربّما لم أستطع ركوب الماء فسرتُ إليك على الظَهر ، وما لي مركوب سوى بُرذوني هذا على ضعفه ، فادعُ الله أن يقوّيني على زيارتك .
فقال : ( قوّاك الله يا أبا هاشم ، وقوّى برذونك ) .
قال ـ المحدّث ـ : فكان أبو هاشم يصلّي الفجر ببغداد ، ويسير على ذلك البُرذون ، فيدرك الزّوال ـ الظُهر ـ من يومه ذلك عسكر سرّ مَن رأى ، ويعود من يومه إلى بغداد إذا شاء على ذلك البرذون بعينه ! فكان ذلك من أعجب الدلائل التي شوهِدت (298) .
وما أكثر دلائل إمامتك يا مولاي ، وما أوضح برهانك وأعظم شأنك !
لم تكن مجهول المقام عند الخاصّ والعام.. و( إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ) (299) .
ولكنّ قول ( الصالحيّ ) حقّ ؛.. فإنّ قضيّة البرذون لمِن أدلّ الدلائل على كرامتك عند خالقك العظيم الّذي أمدّك بالعظمة الروحانيّة المنقطعة النّظير ،.. فأنْ يقطع البرذون ما يقرب من مئتين وخمسين كيلو متراً في جزءٍ من بياض النهار ـ ذهاباً وإياباً ـ فهذا يعني أنّ سرعة ذلك الحيوان كانت فائقة الوصف ، ولا تتيسّر لدابّة في الأرض إلاّ إذا كان ذلك آيةً من آيات الله تبارك وتعالى ؛ لأنّ السيّارة تقضي قريباً من هذا الوقت ذهاباً وإياباً إذا استثنينا وقت صلاة الظهر ، وتناول طعام الغداء ، وأخذ قسطٍ من الراحة قبل استئناف المسير للعودة !
أفلم يرَ الناس يومئذ ذلك ، ولم يسمعوا به ( فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) (300) .

وقال أبو هاشم الجعفريّ ، المذكور آنفاً : ( أصابتني ضيقة شديدة فصرتُ إلى عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، فأذِن لي ، فلمّا جلستُ قال : ( يا أبا هاشم ، أيّ نِعم الله عزّ وجلّ عليك تريد أن تؤدّي شكرها ؟!
قال أبو هاشم : فوجمتُ ، فلم أدرِ ما أقول له .
فابتَدأني ( عليه السلام ) فقال : رَزَقك الإيمان فحرّم به بدنك على النّار ، ورَزَقك العافية فأعانكَ على الطاعة ، ورَزَقك القنوع فصانكَ عن التبذّل ،.. يا أبا هاشم ، إنّما ابتدأتُك بهذا لأنّي ظننتُك تريد أن تشكو لي مَن فعلَ بك هذا ، وقد أمرتُ لك بمئة دينار فخذها ) (301) .
فهل أدركتَ النّكتة الخفيّة التي استثارها الإمام ( عليه السلام ) في نفس صاحبه الحبيب وابن عمّه القريب ، حين أمسكَ بقلبه وردّه إلى ساحة الإيمان الرّحبة لمّا عَلم أنّه جاء يريد أن يشكو له مَن قدّر عليه ضيق العيش والحاجة ؟! فقد عدّد له نِعم الله التي متّعهُ بها طيلة عمره ، وجعلَ في جملتها صونه عن التبذّل والسؤال ،.. ثمّ رَفده بالمال من غير مَنّ ، فرجعَ حامداً شاكراً جميع أنعُم ربّه تعالى عليه ؛.. ذلك أنّ المؤمن يلجأ إلى الله أوّل ما يلجأ ، ويسأل الله من فضله أوّل ما يسأل ، والله تعالى أعلم بالعبد من نفسه وأرأف به من أمّه وأبيه ، فقد يعطيه آناً حيث يصلحه العطاء ، وقد يحرمه آناً آخر حين يصلحه الحرمان..

.. وننتقل من هذا النوع من الدلائل إلى نوعٍ آخر فيه بيان وتبيان ،.. فقد روى الفحّام ، عن المنصوريّ ، عن عمّ أبيه ، فقال :
( قال يوماً الإمام عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) : ( أُخرِجت إلى سرّ مَن رأى كُرهاً ، ولو أُخرِجت عنها أُخرجت كُرهاً .
قلت : ولِمَ يا سيّدي ؟
قال : لطيب هوائها ، وعذوبة مائها ، وقلّة دائها .
ثمّ قال ( عليه السلام ) : تخرب سرّ مَن رأى حتى يبقى فيها خان وبقّال للمارّة ! وعلامة خرابها : تدارك العمارة في مشهدي من بعدي ) (302) .
وقوله الأخير من إعلام الغيب المحتوم ومن دلائل سفارته الإلهيّة وآيات إعجازه ؛ لأن سرّ مَن رأى خَربت كما وصفَ ـ عسكريّاً ، وكدار للخلافة والسلطان ـ وذهبَ عزّها الباذخ حين ارتفعت قباب مشهده ومشهد ابنه العسكريّ ( عليهما السلام ) ، ولمّا سمقت مآذن مشهدهما في الأجواء ، وعكفَ الزّوار على قصده فأمّتهُ الشيعة من أطراف الأرض ، وبَدأ عمران البلدة منذئذٍ لخدمة الزائرين والاستفادة منهم ،.. فلم تعُد تسرّ مَن رأى بعد قوله الكريم بأعوام ؛ إذ ذهبَ ببنيانها الحَدثان وذهبَ معها عصاة الرحمان من سلاطين ذلك الزمان..

وقال أحمد بن عيسى الكاتب :
رأيتُ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) فيما يرى النائم ، كأنّه نائم في حِجري ، وكأنّه دفعَ إليّ كفّاً من تمر عدده خمس وعشرون تمرة .
قال : فما لبثت إلاّ وأنا بأبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليهما السلام ) ومعه قائد ، فأنزَلهُ في حُجرتي ـ أي أنزلَ القائد الإمام ( عليه السلام ) سجيناً في غرفة كاتب القصر المذكور ـ .
وكان القائد يبعث ويأخذ من العلف من عندي ، فسألَني يوماً : كم لك علينا ؟
قلت : لستُ آخذ منك شيئاً .
فقال لي : هل تحبّ أن تدخل إلى هذا العَلويّ فتُسلّم عليه ؟ ـ أي على الإمام المحبوس ـ .
قلت : لست أكره ذلك..
فدخلتُ فسلّمت عليه وقلت له : إنّ في هذه القرية كذا وكذا من مواليك ، فإن أمَرتنا بحضورهم فَعَلنا .
قال : ( لا تفعلوا .
قلت : فإنّ عندنا تموراً جياداً ، فتأذن لي أن أحمل لك بعضها ؟
فقال : إن حَملتَ شيئاً يصل إليّ ، ولكن احملهُ إلى القائد فإنّه سيبعث إليّ منه .
فحملتُ إلى القائد أنواعاً من التمر ، وأخذت نوعاً جيّداً في كمّي ، وسكرُّجة ـ صفحةً ـ من زبدٍ فحَملته إليه ، ثمّ جئت ، فقال لي القائد : أتحب أن تدخل على صاحبك ؟
قلت : نعم .
فدخلتُ فإذا قُدّامه من ذلك التّمر الذي بعثتُ به إلى القائد ، فأخرجتُ التّمر الذي كان معي والزّبد فوضعته بين يديه .
فأخذَ كفّاً من تمرٍ ودفعهُ إليّ وقال : لو زادكَ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) لزِدناك ) !
فعدَدتهُ فإذا هو كما رأيت في النّوم لم يزِد ولم ينقص ) (303) .
فيا ربّ ، مَن أتى الإمام بخبر ما رآه أحمد بن عيسى في المنام حين أعطاه النبيّ ( صلّى الله عليه وآله ) خمساً وعشرين تمرة ؟! فأعطاه الإمام بعددها دون زيادة ودون نقصان ؟!
الله وحده تبارك وتعالى يعلم تفصيل ذلك ،.. ولكنّنا نحن ـ أيضاً ـ نعلم إجماله ؛ فإنّه سبحانه لا يُخفي عن وليّه شيئاً من الأمور سوى ما استأثرَ به لنفسه من علم الساعة وقيام القيامة .
فصدِّق ، أو لا تصدّق ذلك ؛ فإنّ الكثيرين لا يزالون ينكرون كرويّة الأرض ودورانها على نفسها حول الشمس ، وينكرون الطّلوع إلى القمر وغزو الكواكب ، ويتنكّرون لأشياء كثيرةٍ أصبحت من البديهيات ،.. وإن كان إنكارهم لا يُغيّر شيئاً من تلك الوقائع .

( وكتبَ إليه ( عليه السلام ) محمد بن الحسين بن مصعب المدائني يسأله عن السجود على الزجاج وقال :
فلمّا نفذَ الكتاب حدّثتُ نفسي أنّه ممّا أنبَتت الأرض وأنّهم قالوا : لا بأس بالسجود على ما أنبَتت الأرض .
قال : فجاء الجواب : ( لا تسجد عليه وإن حدّثْتَ نفسك أنّه ممّا أنبَتت الأرض ؛ فإنّه من الرمل والملح ، والملح سبْخ ) (304) .
فهل باستطاعة أحدٍ من الناس معرفة ما تُحدّث به نفوس الآخرين ، حتى ولو فُصِلت بينه وبينهم المسافات ؟!
لا ، ولو أردنا استقصاء ما جرى مع أئمتنا ( عليهم السلام ) ممّا ابتدأوا به النّاس ، من كشفٍ عمّا يجول في نفوسهم ويعتمل في ضمائرهم ، وتتحدّث به خواطرهم قبل أن يفوهوا به ، لأحصَينا رمل البحار قبل ذلك ولبقينا نروي أحداثاً ليس لها نهاية..
فقد قال محمد بن شرف :
( كنت مع أبي الحسن ( عليه السلام ) أمشي في المدينة فقال لي : ( ألستَ ابن شرف ؟
قلت : بلى..
وأردتُ أن أسأله عن مسألة ، فابتَدأني من غير أن أسأله فقال : نحن على قارعة الطريق ، وليس هذا موضع مسألة ) (305) .
وقال أحمد بن محمد بن عبد الله : ( كان عبد الله بن هليل ـ وقيل : ابن هلال ـ يقول بعبد الله ـ أي يقول بإمامة عبد الله الأفطح ـ فصارَ إلى العسكر ـ سامرّاء ـ فرجعَ عن ذلك .
فسألته عن سبب رجوعه ؟ فقال : إنّي عرضتُ لأبي الحسن ( عليه السلام ) أن أسأله عن ذلك ـ أي تَعرّض له ـ فوافَقني في طريقٍ ضيّقٍ ، فمالَ نحوي حتى إذا حاذاني أقبلَ نحوي بشيءٍ مِن فيه ، فوقعَ على صدري .
فأخذتهُ فإذا هو رِقّ فيه مكتوب : ( ما كان هنالك ، ولا كذلك ) (306) .
أي ما كان عبد الله الأفطح في مقام الإمامة ، ولا كان كذلك مستحقّاً لها ،.. وقد صِرتَ تَعرف كيف عَلم هذا الإمام الهاشميّ العظيم ما دارَ في نفس المدائنيّ ، بعد أن أنفذَ إليه الكتاب سائلاً على صحّة السجود على الزجاج ، وكيف ابتدأ محمد بن شرف بالقول قبل أن يسأله ، وكيف أجابَ أحمد بن محمدٍ ـ من غير أن يسأله ـ : أنّ صاحبه الذي يتولاّه ليس أهلاً للولاية ، ولا هو كفُؤ لأنْ يكون حجةً على البشر ،.. ولم يعد مستهجناً عندك عِلم الإمام بما في النفوس ، ولا مستغرباً أن يكون الله تعالى مع حجّته على العالمين في كلّ حين ، يمنحه عِلماً يُثبت كونه الحجة والإمام بلا منازع .

ونطوي هذه الصفحة أيضاً لنستعرض نوعاً آخر من أنواع الدلالات التي لا تكون إلاّ لوليّ الله على العباد ، مهما تنكّرَ لها أهل المروق والعناد والكفر بكلّ ما ينزل من فوق ، وبما يُنسَب إلى السماء !
قال أحمد بن هارون : ( كنتُ جالساً أُعلّم غلاماً من غلمانه في فازة داره ـ أي في مظلّةٍ ذات عمودين كالخيمة ـ إذ دخلَ علينا أبو الحسن ( عليه السلام ) راكباً على فرسٍ له .
فقمنا إليه ، فَسَبقنا قبل أن ندنوا منه ، فأخذَ عنان فرَسه بيده فعلّقهُ في طنبٍ من أطناب الفازة .
ثمّ دخلَ فجلسَ معنا ، فأقبلَ عليّ وقال : ( متى رأيك أن تنصرف إلى المدينة ؟
فقلت : الليلة .
قال : فأكتُب إذاً كتاباً معك توصِلهُ إلى فلان التاجر .
قلت : نعم .
قال : يا غلام ، هات الدواة والقرطاس .
فخرجَ الغلام ليأتي بهما من دارٍ أخرى..
فلمّا غابَ الغلام ، صهلَ الفرس وضربَ بذنبه ، فقال له بالفارسيّة : ( ما هذا القلق ؟ ـ أي ما هذا الضجر ؟ ـ .
فصهلَ الثانية فضربَ بيده ، فقال له بالفارسيّة : أقلِع ـ أي اخلع رسنك ـ فامضِ إلى ناحية البستان وبُلْ هناك ورُثْ وارجع فقف هناك مكانك .
فرفعَ الفرَس رأسه وأخرجَ العنان من موضعه ، ثمّ مضى إلى ناحية البستان حتى لا نراه في ظَهر الفازة فبالَ وراثَ وعاد إلى مكانه .
فدخَلني من ذلك ما الله به عليم ! فوسوسَ الشيطان في قلبي.. فقال : يا أحمد ، لا يعظم عليك ما رأيت ، إنّ ما أعطى الله محمداً وآل محمدٍ أكثر ممّا أعطى داود وآل داود .
فقلت : صدقَ ابن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فما قال لك ، وما قلتَ له ، فما فهمتهُ .
فقال : قال لي الفرس : قم فاركب إلى البيت حتى تفرغ عنّي .
قلت : ما هذا القلق ؟
قال : قد تعبت .
قلت : لي حاجة أريد أن أكتب كتاباً إلى المدينة فإذا فرغتُ ركبتك .
قال : إنّي أريد أن أبول وأروث ، وأكره أن أفعل ذلك بين يديك .
فقلت : اذهب إلى ناحية البستان فافعل ما أردتَ ، ثمّ عُد إلى مكانك ، ففعلَ الذي رأيتَ .
ثمّ أقبلَ الغلام بالدواة والقرطاس وقد غابت الشمس ، فوضعهما بين يديه ، فأخذَ في الكتابة حتى أظلمَ الليل فيما بيني وبينه فلم أرَ الكتاب ، وظننتُ أنّه أصابهُ الذي أصابني فقلت للغلام : قم فهات شمعةً من الدار حتى يبصر مولاك كيف يكتب ، فمضى..
فقال للغلام : ليس إلى ذلك حاجة .
ثمّ كتبَ كتاباً طويلاً إلى أن غاب الشفق ، ثمّ قطَعه فقال للغلام : أصلِح ـ أي اطوه وغلّفه ـ وأخذَ الغلام الكتاب وخرجَ إلى الفازة ليصلحه ثمّ عاد إليه وناوله ليختمه ، فخَتمه من غير أن ينظر إلى الخاتم مقلوباً أو غير مقلوب.. فناولَني ، فقمتُ لأذهب فعرضَ في قلبي قبل أن أخرج من الفازة أن أصلّي قبل أن آتي المدينة .
قال : يا أحمد ، صلِّ المغرب والعشاء في مسجد رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، واطلب الرجل في الرّوضة ؛ فإنّك توافقهُ إن شاء الله .
فخرجتُ مبادراً ، فأتيت المسجد وقد نوديَ العشاء الآخرة ، فصلّيتُ المغرب ، ثمّ صلّيت معهم العُتمة وطلبت الرجل حيث أمرَني ، فوجدتهُ فأعطيته الكتاب .
وأخذَه وفضّه ليقرأه فلم يستبن قراءته في ذلك الوقت ، فدعا بسراجٍ فأخذتهُ وقرأته عليه في السراج في المسجد ، فإذا خطّ مستوٍ ليس حرف ملتصقاً بحرف ، وإذا الخاتم مستوٍ ليس بمقلوب .
فقال الرجل : عُد إليّ غداً حتى أكتب جواب الكتاب ،.. فغدوت ، فكتبَ الجواب .
فجئت إليه ( عليه السلام ) فقال : أليس قد وجدتَ الرجل حيث قلت لك ؟
فقلت : نعم .
قال : أحسنت ) (307) .
ويظهر واضحاً أنّ الفازة المذكورة كانت في دار الإمام ( عليه السلام ) في صُريا بظاهر المدينة المنوّرة ، وفي القصة أشياء لا يجوز أن تُتجاوز دون تدوين .
فالإمام ( عليه السلام ) يُكلّم حصانه كما يُكلّم العقلاء ! ويتلقّى الجواب ، ويردّ عليه ،.. ويأمره بفعلٍ فيباشر تنفيذه ويعود ممتثلاً أمر صاحبه.. كالعقلاء.. في حوارٍ جرى باللّغة الفارسية دهشَ منه صاحبه أحمد بن هارون فقال ( عليه السلام ) : ( لا يعظم عليك ما رأيت.. ) ، ثمّ ذكرَ له النبيّ داود ( عليه السلام ) وآل داود ، مشيراً إلى أنّ أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) أوتوا ( كلّ شيء ٍ) ، في حين أنّ آل داود ( عليهم السلام ) أوتوا ( من كلّ شيءٍ ) ولم يؤتوا ( كلّ شيء ) ، كما نصّ على ذلك القرآن الكريم..
ثمّ كتبَ كتاباً طويلاً كما يدلّ وقت استغراق كتابته ، وحرّره في العُتمة ؛ لأنّ الإمام الذي يرى من الخلف كما يرى من الأمام ، والذي له عينان يخترق بصرهما الكثافات والجدران والمسافات ، لا تعجزه العتمة ولا الظّلمة .
وعرفَ أيضاً مراد صاحبه بأن يصلّي قبل السفر إلى المدينة ، فأمرهُ أن يصلّي هناك في مسجد النبي ( صلّى الله عليه وآله )  ، ثمّ عيّن له مكان الصلاة ، ومكان اجتماعه بالتاجر الذي وجّه الكتاب إليه من غير أن يكون على موعد مع التاجر زماناً ومكاناً !
فكيف تُؤوّل هذه الأمور العجيبة ؟
لا تأويل لها يرتضيه الأرضيون المماحكون ،.. ولا تبديل لكلمات الله مهما جحدها المغضوب عليهم والضالون ،.. وقد سبقَ أن ذكرنا أنّ نبينا ( صلّى الله عليه وآله ) وجميع أئمتنا ( عليهم السلام ) ، يتكلمون بكل لغة ، وبكل لسان ، وبكل لهجة ، وذكرنا أمثلة كافية على ذلك .
ونذكر منها أيضاً ما حكاه محمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن الطيّب الهادي ( عليه السلام ) ، إذ قال :
( دخلتُ عليه فكلّمني بالفارسية ) (308) .
ونردف بما حكاه علي بن مهزيار نفسه إذ قال :
( أرسلتُ غلاماً لي إلى أبي الحسن في حاجة ، وكان سقلابياً ، فرجعَ الغلام إليّ متعجباً ، فقلت له : ما لكَ يا بني ؟!
فقال لي : وكيف لا أتعجب ! ما زال يكلمني بالسقلابية كأنّه واحد منّا ، فظننتُ أنّه دارَ بينهم ! ) (309) .
وقد أوردَ المجلسي رحمه الله في سِفره النفيس ( بحار الأنوار ) كثيراً من القصص التي رُوي فيها أنّه ( عليه السلام ) تكلّم بغير العربية ، يطول بنا المقام إذا ذكرناها ، ومثل هذه الحوادث ليس بعجيب على الإمام ولا على آبائه وأبنائه المعصومين صلوات الله عليهم،بل العجيب الغريب ما رواه الثقة الجليل أبو هاشم الجعفري الذي قال :
( دخلت على أبي الحسن ( عليه السلام ) فكلّمني بالهنديّة ، فلم أحسنُ أن أردّ عليه .
وكان بين يديه ركوة ملأى حصىً ، فأخذَ حصاةً ووضعها في فمه ومصّها ثلاث مصّات ـ ملياً ـ ودَفعها إليّ ، فوضَعتها في فمي .
فو الله ، ما برحتُ من عنده حتى تكلّمت بثلاثة وسبعين لساناً أوّلها الهنديّة ) (310) .
فإنْ يتكلّم الإمام ( عليه السلام ) بكل لسان ويعرف كلّ لغة ، ليس بمستهجن مطلقاً ؛ لأنّه مخلوق هكذا من عند ربّه الذي رَصَده سبحانه لصالح عباده أجمعين ، وآتاه ذلك خلقاً وإنشاءً كما آتى آدم الأسماء كلّها دفعةً واحدةً ـ خلقاً وإنشاءً ـ ، فأنبَأ بها الملائكة الذين لم يُعلّمهم سبحانه إياها ،.. فلا يجوز إلاّ أن يتكلّم الإمام بكل لغة ولسان ، كما أنّ الحكومة لا تنتدب إلى القيام بأعمالها لدى حكومة أخرى ، إلاّ مَن كان يعرف لغة تلك الحكومة أو لغة أجنبية على الأقل فيرافقه مترجم يتقنها..
ولكنّ المستهجن الغريب هو : أنّ مَن حظيَ برشف شيء من ريق الإمام الشريف ـ وأرادَ له الإمام أن يتكلّم بإذن الله بكل اللغات ـ تكلّم بإذن ربّه ! فهنا تكمن الآية الخارقة التي هي من سِيَرهم الممنوحة لهم من سرّ الله تعالى ، وقدرته وعطائه ،.. ولا تستقصِ ذلك أكثر فأكثر فتضلّ ؛ لأنّك إمّا أن تكفر بذلك فتكون من الخاسرين ،.. وإمّا أن تضع الأئمة فوق ما هم فيه فتكون من المشركين ،.. فابقِ النُمْرُقة الوسطى التي تؤمن بهم أولياء قادرين بقدرة الله عزّ وعلا ، عاملين بأمره لا يتعدّون ما يرضاه إلى ما لا يرضاه.. و( اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ) (311) .

.. ثمّ تُزوّد مائدتنا الذهنيّة هذه ، بألوان من آيات إمامنا ( عليه السلام ) ومعجزاته التي بَهرت معاصريه ، فأمسَكت بقلوب الأولياء ورَفعتهم إلى مرتبة الصدّيقين ، وأغاظت قلوب الأعداء وملأت صدورهم حَسداً وغِلاًّ وحقداً ، تأثّراً بما أملى لها الشيطان فأبعدَها عن التصديق بكلّ ما نزلَ من عند الرحمان الديّان .
قال عليّ بن محمدٍ الحجّال :
( كتبتُ إلى أبي الحسن : أنا في خدمتك ، وأصابتني علّة في رِجلي لا أقدر على النهوض والقيام بما يجب ، فإنْ رأيتَ أن تدعو الله أن يكشف علّتي ويعينني على القيام بما يجب عليّ وأداء الأمانة في ذلك ، ويجعلني من تقصيري ـ من غير تعمّدٍ منّي ، وتضييع ما لا أتعمّده من نسيان يصيبني ـ في حِلّ ، ويوسّع عليّ ، وتدعو لي بالثبات على دينه الذي ارتضاه لنبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) .
فوقّع ( عليه السلام ) : ( كشفَ الله عنك وعن أبيك ) .
قال : وكان بأبي علّة ولم أكتُب فيها ، فدَعا له ابتداءً ) (312) !
فالحجّال لم يذكر علّة أبيه قط ،.. ولكنّ الإمام ( عليه السلام ) لم ينسَ أن يدعو له كما دعا لابنه ،.. فكيف عرفَ مرض الأب وحاجته إلى الدّعاء وهو بعيد عنه ؟
قد صارَ ذلك غير خافٍ على القارئ الكريم بعد ما مرّ الكثير من هذا القبيل ؛.. فإنّ ملائكة موكّلين بإعلامه جميع ما يكون ، هم مسخّرون إعلامه ، يعملون بين يديه بأسرع من لَمح البصر وسرعة النّور ، وبأدقّ من السرعة الإلكترونيّة..

وقال محمد بن الريّان بن الصّلت :
( كتبتُ إلى أبي الحسن أستأذنهُ في كيد عدوّ لم يمكن كيده ، فنهاني عن ذلك وقال كلاماً معناه : تُكفاه .
فكُفِيتُه والله أحسن كفاية ، ذُلّ وافتقرَ ، وماتَ أسوأ الناس حالاً في دنياه ودينه ) (313) .
وممّا لا شكّ فيه أنّ ذلك العدو كان ناصبيّاً شديد التعصّب يكايد محمد بن الريّان ؛ لأنّه من خيرة الموالين وأجَلّ الأصحاب وأوثقهم عند أئمّة عصره ( عليهم السلام ) ،.. وأنّ محمد بن الريّان قد كابدَ من ذلك العدوّ كثيراً من الأذى والضرر ، وضاقَ به ذرعاً حتى لجأ إلى استشارة الإمام ( عليه السلام ) بشأن مكايدته ومكابدته ،.. ولكن كيف انكشفَ الغيب للإمام فعرفَ أنّه يُكفاه : فيذلّ ، ويفتقر ، ويموت أسوأ ما يكون دنياً وديناً ؟!
قد كشفَ له ذلك مُقدِّر الأمور سبحانه وتعالى ؛ ليكون آيةً دالّةً على قدرة الله الواحد الأحد..

ومثلها ما ذكره أيوب بن نوح ـ وهو أحد المؤمنين الأبدال كما ترى في فصل آخر من هذا الكتاب ـ إذ قال :
( كتبتُ إلى أبي الحسن : قد تعرّض لي جعفر بن عبد الواحد القاضي ، وكان يؤذيني بالكوفة ، أشكو إليك ما ينالني منه من الأذى .
فكتبَ إليّ : ( تُكفى أمرهُ إلى شهرين ) .
فعُزلَ عن الكوفة في شهرين ، واسترحتُ منه ! ) (314) .
إلاّ أنّ مرسوم عزل فضلة القاضي الساخر الماكر لم يكن بيد الإمام ( عليه السلام ) ، ولا وضعَ بناءً على اقتراحه عند حاكم الزمان ! ومع ذلك عيّن وقت صدروه بعزل ذلك القاضي وخذلانه قبل وقوع ذلك ! وكان الأمر كما عيّن وحدّد ،.. فهلاًّ فكّرت معي دقيقتين ـ لا شهرين ـ كيف يعلم هذا الإمام العظيم ما يحدث في المستقبل من أمورٍ كبيرةٍ وصغيرةٍ ، ثمّ يتحدّث عنها بترسّل وكأنّه سيُنفّذها بيده وبكامل إرادته ؟!
إذا تفكّرتَ وتدبّرت ، عَلمتَ أنّ للأئمّة ( عليهم السلام ) بريداً إلهيّاً دبلوماسيّاً لا يطّلع عليه إلاّ الملائكة الموكّلون به ، وأنّهم مسدّدون مؤيّدون تُحدّثهم الملائكة وتلقي في أسماعهم ، ويُلهمون فيقولون ،.. فلا يكون إلاّ ما يقولون بعلمٍ علّمهم الله تعالى إيّاه .

وكذلك قال أيوب بن نوح المذكور رحمه الله تعالى :
( كتبتُ إلى أبي الحسن أنّ لي حَمْلاً ، فادعُ الله أن يرزقني ابناً .
فكتبَ إليّ : ( إذا وُلِدَ فسمّه محمداً ) .
قال : فوُلِدَ لي ابن فسمّيته محمداً ،.. وكان ليحيى بن زكريّا حَمل فكتبَ إليه : إنّ لي حَملاً فادعُ الله أن يرزقني ابناً ، فكتبَ إليه : ( ربّ ابنةٍ خير من ابن ) ، فوُلِدت له ابنة ) (315) .
وليس هذا من حساب الجُمَل ، ولا هو ضرب بالرّمل ، ولا من التنجيم ،.. بل هو من عِلم الله الكريم الوهّاب الذي يعطي أولياءه ما لا يعطيه لغيرهم من العلم والفضل والحكمة ، والعصمة عن خطل القول وهجر الكلام ، فلا تسأل بعد ذلك : كيف ؟ ولِمَ ؟ ولماذا ؟ ولا تتعجّب ، ولا تقل كيف كان هذا ؟ فالله سبحانه من وراء ذلك كلّه ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء...) (316) .

وفي روايةٍ عن أبي محمدٍ الطبريّ أنّه قال :
( تمنّيتُ أن يكون لي خاتم من عنده ( عليه السلام ) ، فجاءني نصر الخادم بدرهمين فصنعتهما خاتماً .
ودخلتُ على قوم يشربون الخمر ، فتعلّقوا بي فشربتُ قدحاً وقدحين .
وكان ـ الخاتم ـ ضيّقاً في إصبعي لا يمكنني إدارته للوضوء ، فأصبحتُ وقد افتقدته ،.. فتبتُ إلى الله تعالى ) (317) .
فقد تمنّى الطبريّ ـ فيما بينه وبين نفسه ـ أن يكون له خاتم من الإمام ( عليه السلام ) ،.. فاطّلع الإمام على مُنيته وحقّق له رغبته من دون أن يطلب ومن غير أن يبوح لأحد بذلك ؛ إذ اختصّه بالدّرهمين لهذه الغاية ، ومن أجل أن يُخلّصه من شرب المسكر خصوصاً ؛ لأنّه سلام الله عليه عَلم ما سيفعله من صنع الخاتم ، وشرب الخمر ، وعَلم أنّ الخاتم سيُنتزع من إصبعه رغم ضيقه ودون أن يحسّ ؛ ليكون ذلك آية تفتح له باب التوبة عن الشراب المحرّم ،.. فخلّصه الإمام صلوات الله عليه بهذه الطريقة الفريدة .

وقال محمد بن الفضل البغدادي :
( كتبتُ إلى أبي الحسن : إنّ لي حانوتين ـ دكانين ـ خلّفهما لنا والدنا رضي الله عنه ، وأردنا بيعهما وقد عَسر علينا ذلك ، فادعُ لنا يا سيّدنا أن ييسّر الله لنا بيعهما بإصلاح الثمن ، ويجعل لنا الخيرة ، فلم يجب بشيء .
وانصرفنا إلى بغداد ، والحانوتان قد احترقا ) (318) .
فقد عَلم الإمام ( عليه السلام ) بحرق الحانوتَين لمّا طلبَ صاحبهما الدعاء ، فلم يدعُ له ولا أجابه على كتابه ؛ كي لا يُزعجه بخبر الحرق ، فمَن فسّر سكوته عن الجواب أدركَ علمه اللّدنيّ الذي يتلقّاه عن ربّه عزّ وعلا الذي ( لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ..) (319) .

وقال داود الضرير ـ داود الصّرمي ـ :
( أردتُ الخروج إلى مكّة فودّعت أبا الحسن بالعشيّ وخرجتُ ، فامتنعَ الجمّال تلك الليلة .
وأصبحتُ فجئت أودّع القبر ـ مقام رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ـ فإذا رسوله يدعوني ، فأتيتهُ واستحييت ، وقلت : جُعلت فداك إنّ الجمّال تخلّف أمس ،.. فضحكَ وأمرَني بأشياء وحوائج كثيرة ، ولعلّه قال ـ ولم أحفظ ما قال لي ـ .
فقال : ( كيف تقول ؟ ـ أي سأله أن يكرّر ذكر ما أوصاه به ؛ لأنّه سلام الله عليه أحسّ بعدم حفظه للوصايا ـ .
فلم أحفظ ما قال لي ، فمدّ الدواة وكتب : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أذكُر إن شاء الله والأمر بيدك .
فتبسّمت ، فقال لي : ما لكَ ؟
قلت له : خير .
فقال : أخبِرني .
فقلت له : ذكرتُ حديثاً حدّثني رجل من أصحابنا أنّ جدّك الرّضا كان إذا أمرَ بحاجةٍ كتب :
بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أذكر إن شاء الله .
فتبسّم وقال : يا داود ، لو قلتُ لك إنّ تارك التقيّة كتارك الصّلاة ، لكنت صادقاً ) (320) .
ويلاحظ أنّه ( عليه السلام ) قد ذكرَ هنا لصاحبه أمراً هامّاً يتعلّق بالتقيّة ؛ لأنّ لسان حاله كلسان حال جدّه الإمام ( عليه السلام ) الذي قال : ( التقيّة ديني وديني آبائي.. ) ولكن ما دَخلُ التقيّة هنا ، وما الموجِب لذكرها ؟!
الجواب : أنّه عَرضَ لها في ختام حواره مع صاحبه بسبب أنّ الحوائج التي أوصاه بها لم يكتبها ؛ لئلاّ تقع في يد مَن لا أمانة له من عملاء السلطان ، وأدوات الاستخبارات والتجسّس في ذلك العهد الذي أذاقَ العلويّين أمَرّ العيش وأضيقه ،.. ولذلك ـ فإنّه بعد أن كرّر ذكرها على مسمع الرجل ـ طلبَ إليه أن يعيد تعدادها حتى لا يُغيّر فيها ولا يُبدّل ، كما رأيت .

وقال إسحاق بن عبد الله العلويّ العريضيّ :
( ركبَ أبي وعمومتي إلى أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، وقد اختلفوا في الأيام الأربعة التي تُصام في السنة ، وهو مقيم بصَريا ، قبل مسيره إلى سرّ مَن رأى .
فقال ( عليه السلام ) : ( جئتم تسألوني عن الأيام التي تُصام في السنة .
فقالوا : ما جئنا إلاّ لهذا .
فقال : اليوم السابع عشر من ربيع الأول ، وهو اليوم الذي وُلِد فيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، واليوم السابع والعشرون من رجب ، وهو اليوم الذي بُعث فيه رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، واليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة ، وهو اليوم الذي دُحيت فيه الأرض ، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ) (321) .
فقد أجابهم قبل أن يسألوه ! وإنّك لتَحسب كأنّه كان معهم حين اختلفوا في الموضوع قبل المجيء إليه ( عليه السلام ) ، فأعدّ لهم الجواب وفجأهم به فور وصولهم ؛ ليريهم أنّ الإمام لا تخفى عليه أمورهم أينما كانوا ، بقدرة الله تعالى ومنّه عليه بالكرامة والزّلفى .

ومن مكارم أخلاقه وجميل تصرّفه : ما حكاه عنه محمد بن طلحة ـ كما روى الأربليّ ـ حيث قال : ( إنّه كان يوماً قد خرج من سرّ مَن رأى إلى قريةٍ لمهمّ عَرضَ له ، فجاء رجل من الأعراب يطلبه ، فقيل له : قد ذهبَ إلى الموضع الفلانيّ .
فقصدهُ ، فلمّا وصلَ قال ( عليه السلام ) : ( ما حاجتك ؟
فقال : أنا رجلّ من أعراب الكوفة المتمسّكين بولاء جدّك عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وقد رَكبني دَين فادح أثقلَني حَمْله ، ولم أرَ مَن أقصده لقضائه سواك .
فقال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : طِب نفساً ، وقِرّ عيناً ، ثمّ أنزَلهُ .
فلمّا أصبحَ ذلك اليوم قال له أبو الحسن ( عليه السلام ) : أريد منك حاجةً ، الله الله أن تخالفني فيها !
فقال الأعرابي : لا أخالفك .
فكتبَ أبو الحسن ( عليه السلام ) ورقةً بخطّه ، معترفاً فيها أنّ للأعرابيّ مالاً عيّنه فيها ، يرجح على دَينه ، وقال : خُذ هذا الخطّ ، فإذا وصلتَ إلى سرّ مَن رأى احضر إليّ وعندي جماعة فطالِبني به ، وأغلِظ القول عَليّ في ترْك إيفائك إيّاه ،.. الله الله في مخالفتي !
فقال : أفعل ،.. وأخذَ الخط .
فلمّا وصلَ أبو الحسن ( عليه السلام ) إلى سرّ مَن رأى ، وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم ، حضر ذلك الرجل ، وأخرجَ الخطّ وطالبه وقال كما أوصاه ،.. فألانَ له أبو الحسن ( عليه السلام ) القول ، ورفقهُ وجَعل يعتذر إليه ، ووعدهُ بوفائه وطيبة نفسه .
فنُقلَ ذلك إلى الخليفة المتوكل ، فأمرَ أن يُحمَل إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) ثلاثون ألف درهم .
فلمّا حُملت إليه تركها إلى أن جاء الرجل ، فقال : خذ هذا المال فاقضِ به دَينك ، وأنفِق الباقي على عيالك وأهلك ، واعذرنا ) .
فقال الأعرابي : يا بن رسول الله ، والله إنّ أمَلي كان يقصر عن ثُلُث هذا ، ولكنّ الله أعلم حيث يجعل رسالته ، وأخذَ المال وانصرف ) (322) .
وهذه من مناقب الأوصياء والأولياء الصالحين يضربون المَثل الأعلى في الغيريّة ؛ ليعلّموا الناس كرم الخلُق والبِرّ ونفع الآخرين ولو تنازلوا عن شيءٍ من مراتبهم السامية ، وتواضعوا ليوصلوا الحقّ إلى مستحقّه بحُسن التدبير الذي إن خطرَ ببالك أنّه يحطّ من كرامتهم ، كان بالحقيقة من مآثرهم التي ترفع شأنهم وتجعلهم سادةً في الأنام يعملون لرضا الله بإشاعة العدل ، وتبريد غُلل ذوي الحاجات من قلوب عباده المحتاجين .
فالإمام يعلم أنّ الدسّاسين يشون به آنذاك ، ويتّهمونه بجمع الأموال والسلاح لينقَضّ على الحكم بثورةٍ محرقةٍ مغرقةٍ ،.. ويعلم أنّ مجلسه في سرّ مَن رأى ـ حين مقابلة الأعرابي ـ سيضمّ بعض هؤلاء المنافقين ،.. في حين أنّه لا مالَ لديه ، ولا سلاح .
وهذا الأعرابيّ لا حول له ولا طول ،.. ولا يُصرف له حقّ من بيت مال المسلمين ؛ لأنّه من المتشيّعين لعليّ وبنيه ( عليهم السلام ) ، وهو مستَغَلّ يقيناً من ذوي الإقطاع والأطماع وولاة العرش الذين يتعمّدون ظلمه وتجويعه ،.. وخير طريقةٍ لسدّ حاجته هو : أن ينال حقّه الذي كتبَ الله تعالى له من بيت المال أسوة بغيره من المعاصرين ،.. ولا يوصله إلى ذلك الحقّ إلاّ هذه الطريقة الفذّة التي ابتدَعها ـ يومئذ ـ أبو الحسن ( عليه السلام ) ليُكذّب بها دعوى مَن يدّعي أنّ الأموال تُجبى إليه ، والأسلحة تتجمّع في منزله وما حواليه .
ولهذه المنقبة الشريفة نظيرة لها ، رواها الديلميّ عن أبي إمامة الذي قال :
( إنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قال ذات يوم لأصحابه : ( ألا أُحدّثكم عن الخضر ؟
قالوا : بلى ، يا رسول الله .
قال : بينا هو يمشي في سوقٍ من أسواق بني إسرائيل ، إذ بصُرَ به مسكين فقال : تَصدّق عليّ بارك الله فيك .
قال الخضر ( عليه السلام ) : آمنت بالله ،.. ما يقضي الله يكون ،.. ما عندي من شيءٍ أعطيكه .
قال المسكين : بوجه الله لمَا تصدّقتَ عَليّ ،.. إنّي رأيتُ الخير في وجهك ، ورجوتُ الخير عندك .
قال الخضر ( عليه السلام ) : آمنت بالله ،.. إنّك سألتني بأمر عظيم ! ما عندي من شيءٍ أعطيكه إلاّ أن تأخذني فتبيعني .
قال المسكين : وهل يستقيم هذا ؟
قال ( عليه السلام ) : الحقّ أقول لك ، إنّك سألتني بأمر عظيم ! سألتني بوجه ربّي عزّ وجلّ ،.. أمَا إنّي لا أُخيّبك في مسألتي بوجه ربّي فبِعني .
فقدّمه إلى السوق ، فباعه بأربعمئة درهم ، فمكثَ عند المشتري زماناً لا يستعمله في شيءٍ ، فقال الخضر ( عليه السلام ) : إنّما ابتَعتني التماس خدمتي ، فمُرني بعمل .
قال : إنّي أكره أن أشقّ عليك ، إنّك شيخ كبير .
قال : لستَ تشقّ عليّ .
قال : فقم فانقل هذه الحجارة ـ قال : وكان لا ينقلها دون ستّة نفرٍ في يوم ـ .
فقامَ فنقل الحجارة في ساعته ، فقال له : أحسنتَ وأجملت ، وأطقتَ ما لم يُطقه أحد .
ثمّ عرضَ للرجل سفر فقال : إنّي أحسبك أميناً ، فاخلُفني في أهلي خلافةً حسنة ، وإنّي أكره أن أشقّ عليك .
قال : لستَ تشقّ عليّ .
قال : فاضرِب من اللَّبِن شيئاً حتى أرجع إليك ـ أي اصنَع من الطّين ما يشبه الحجارة للبناء ـ .
فخرجَ الرجل لسفره ، ورجعَ وقد شيّد بناءً ، فقال له الرجل : أسألك بوجه الله ما حسبك وما أمرك ؟!
قال : إنّك سألتَني بأمرٍ عظيم ، وجه الله عزّ وجلّ ، ووجه الله أوقَعني في العبوديّة ، وسأخبرك مَن أنا ،.. أنا الخضر الذي سمعتَ به ،.. سألَني مسكين صدقةً ولم يكن عندي شيء أعطيه ، فسألني بوجه الله عزّ وجلّ ، فجعلتُ نفسي عبداً له حتى باعَني وانتفعَ بثمني ،.. ومَن ردّ سائله وهو قادر على ذلك ، وقفَ يوم القيامة ليس لوجهه جِلد ولا لحم ولا عظم إلاّ يتقعقع ـ أي يُحدث صوتاً عند التحريك ! ـ .
قال الرجل : شققتُ عليك ، ولم أعرفك .
قال : لا بأس ، اتّقيتَ وأحسنت .
قال : بأبي أنت وأمي ، احكُم في أهلي ومالي بما أراك الله عزّ وجلّ ، أمّ أُخيّرك فأخلّي سبيلك ؟
قال ( عليه السلام ) : أحبّ إليّ أن تُخلّي سبيلي ، فأعبد الله .
فأخلى سبيله ، فقال الخضر ( عليه السلام ) : الحمد لله الذي أوقَعني في العبوديّة فأنجاني منها ) (323) .
فهؤلاء صفوة من الناس ، قد جَبلهم الله سبحانه من طينة علّيّين ففاقوا جميع العالمين ؛ ولذا يستعصي على الباحث تحليل شخصيّاتهم الفذّة ، وإدراك مغازي أفعالهم ، إذ جعلهم خالقهم عزّ اسمه نماذج عُليا من الخلُق والطّيبة ، تمثّل الحقّ والعدل والبِرّ والرّحمة ، وبَرأهم على شاكلة النّاس ، وهم على غير شاكلتهم بمعنى اصطفائهم وعطائهم الربّانيّ ، وكونهم القدوة المثلى للبشر على الأرض .

من آثاره وفلسفته وأفكاره ( عليه السلام )
ليس فوق قول أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) قول لأحدٍ ـ بلاغةً وصدقاً وحكمةً ـ إذا استثنينا قول الله تبارك وتعالى ، وقول رسوله ( صلّى الله عليه وآله ) ؛ لأنّهم من أفصح مَن نطقَ بالضّاد ، ومن أبرز مَن تكلّم بالصدق ، ومن أصدق مَن جاهرَ بالحقّ ،.. فما في حكمهم مَنفذ لاعتراض معترِض ، إلاّ أن يردّ الإنسان على الله سبحانه وعلى رسوله ـ والعياذ بالله ـ ؛ لأنّ قولهم مُنزل من المنزل ما حادوا فيه حرفاً عن القرآن الكريم ، ولا عَدوا فيه لفظةً عن السنّة النّبويّة الشريفة ؛ لأنّهم عِدل القرآن وحَملة السنّة ، بل القرآن هو القرآن الصامت ، وهم ـ هم ـ القرآن الناطق والسنّة المبيّنة .
ونحن نتحدّى ذوي الأفهام ، وأرباب العلم والفضل ، أن يطعنوا في قولٍ قالوه ، أو حكم أصدروه ، أو بيان فصّلوه ، أو حكمةٍ نطقوا بها ، أو أن يجدوا في جميع ذلك معارضةً لِما نزلَ من عند الله عزّ وعلا ، أو اختلافاً عمّا جاء به رسوله محمد ( صلّى الله عليه وآله ) ، في جميع ما أحلّوه وسائر ما حرّموه ،.. وقد أجادَ مَن قالَ في كلام جدّهم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( إنّه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوق )
ولإمامنا أبي الحسن عليّ بن محمدٍ ، الهادي ( عليه السلام ) ، كلام في التوحيد ، والتشبيه ، وصفات الله الثّبوتيّة ، وفي الخلق والإيجاد ، والتكليف ، والجبر والتفويض وغير ذلك من الحِكَم البليغة ،.. نضع بين أيدي قرّائنا الكرام ما وقعَ منه في يدنا ؛ ليَروا بلاغة القول وصدقه ودقّته وحقيقته :
قال الفتح بن يزيد : ( سألته عن أدنى المعرفة ؟
فقال : ( الإقرار بأنّه لا إله غيره ، ولا شبيه ولا نظير ، وأنّه قديم ، مثبت ، موجود غير فقيدٍ ، وأنّه ليس كمثله شيء ) (324) .

وقال حمزة بن محمد : ( كتبتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) أسأله عن الجسم والصورة ؟
فكتب : ( سبحان مَن ليس كمثله شيء ، لا جسم ولا صورة ) (325) .
وقال محمد بن الفرج الرّخجي : ( كتبتُ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) عمّا قال هشام بن الحكَم في الجسم ، وهشام بن سالم في الصورة ؟
فكتب : ( دَع عنك حَيرة الحيران ، واستعِذ بالله من الشيطان ، ليس القول ما قال الهشامان ) (326) .
وهذان الهشامان كانا من أجلّ أصحاب الإمامين الصادق والكاظم ( عليه السلام ) ، وما نُسب إليهما من التجسيم مكذوب عليهما فيه ، وقد رُميا بهذه الفِرية للحطّ من منزلتهما ، وقد دافعَ السيد المرتضى ـ قدّس الله سرّه ـ عنهما وبرّأ ساحتهما من هذه التّهمة وذلك الدسّ الرّخيص في كتابه ( الشافي ) ، ومَن شاء فليراجع حججه الدامغة وبيانه القاطع .
وقال الصقر بن دلف : ( سألتُ أبا الحسن ، عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى ـ بن الرّضا ( عليهم السلام ) ـ عن التوحيد ، وقلت له : أقول بقول هشام بن الحَكم ؟
فغضب ثمّ قال : ( ما لكم ولقول هشام ؟ إنّه ليس منّا مَن زعمَ أنّ الله عزّ وجلّ جسم ، ونحن منه بُراء في الدّنيا والآخرة .
يا بن دلف ، إنّ الجسم مُحدَث ، والله مُحدثه ومجسّمه ) (327) .
وفي هذا الكتاب المختصر نكتة خفيّة في غاية الدقّة والعمق ، فمِن المسلّم به المتسالَم عليه أنّ العالَم محدَث ، ولا نزاع في ذلك البتّة ، وعلى هذا الأساس لفتَ ( عليه السلام ) نظر صاحبه إلى حدوث الأجسام من خلال حدوث العالَم ، بدون أن يخوض معه في حديثٍ طويل ، فالله سبحانه وتعالى قد أفاضَ الوجود عن محض إرادته بعد أن كان في كتم العدم ، وكذلك أفاضَ وجود الأجسام وجميع الكائنات ، فهو ليس بجسمٍ ، بل هو مُجسّم الأجسام كلّها ، وهو مصوّرها ومُحدثها .
وقد ثبتَ عنه وعن أبيه سلام الله عليهما أنّهما قالا : ( مَن قال بالجسم فلا تعطوه من الزكاة ، ولا تصلّوا وراءه ) (328) ؛ ذلك أنّه يكون من المشبّهة الذين أضلّهم الشيطان فتصوّروا له جسماً وصورة ،.. تعالى الله عن أن يُتصوّر في الأوهام أو أن يُتخيّل في العقول..
وقال محمد بن عيسى :
( كتبتُ إلى أبي الحسن ، عليّ بن محمد ( عليه السلام ) : أنّ الله في موضعٍ دون موضعٍ على العرش استوى ؟ وأنّه ينزل في كلّ ليلةٍ في النصف الأخير من اللّيل إلى السماء الدّنيا ، ورويَ أنّه ينزل في عشيّة ( عرَفة ) ثمّ يرجع إلى موضعه ! فقال بعض مواليك في ذلك : إذا كان في موضع دون موضع ، فقد يلاقيه الهواء ويتكنّف عليه ، والهواء جسم رقيق يتكنّف على كلّ شيءٍ بقدره ، فكيف يتكنّف عليه جَلّ ثناؤه على هذا المثال ؟!
فوقّع ( عليه السلام ) : ( عِلمُ ذلك عنده ، وهو المقدِّر له بما هو أحسن تقديراً ، واعلم أنّه إذا كان في السماء الدّنيا فهو كما هو على العرش ، والأشياء كلّها له سواء : علماً ، وقدرةً ، ومُلكاً ، وإحاطة ) (329) .
وقد عَلّق عليه في ( الكافي ) قائلاً : ( أي عِلم كيفيّة نزوله عنده سبحانه ، وليس عليكم معرفة ذلك ، ثمّ أشارَ إشارةً خفيّةً إلى أنّ المراد بنزوله وتقديره : نزول رحمته وإنزالها بتقديره بقوله : ( وهو المقدِّر له بما هو أحسن تقديراً ) ، ثمّ أفادَ أنّ ما عليكم عِلمه أنّه لا يجري عليه أحكام الأجسام والمتحيّزات من المجاورة والقرب المكانيّ ، والتمكّن في الأمكنة ، بل حضوره سبحانه حضور وشهود علميّ ، وإحاطة بالعلم والقدرة والملك بقوله ( عليه السلام ) : ( واعلم أنّه إذا كان في السماء الدّنيا ، فهو كما هو العرش ، والأشياء كلّها له سواء : علماً ، وقدرةً ، ومُلكاً ، وإحاطة ) ، وهو تعليق أيضاً جيد متين في غاية الجودة .

وقال أحمد بن إسحاق :
( كتبتُ إلى أبي الحسن ، عليّ بن محمدٍ العكسريّ أسأله عن الرؤية ـ أي إمكان رؤية الله عزّ وجلّ عن ذلك ـ وما فيه الخلق ؟
فكتبَ : ( لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر ، فمتى انقطعَ الهواء ، وعدم الضياء ، لم تصحّ الرؤية ، وفي جواب اتّصال الضّياءين : الرائي والمرئيّ ، وجوب الاشتباه ، والله تعالى منزّه عن الاشتباه ، فثبتَ أنّه لا يجوز عليه سبحانه الرؤية بالأبصار ؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات ) (330) .
ووردَ عنه ( عليه السلام ) ، بلفظ : (..لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئيّ هواء ينفذه البصر ، فإذا انقطعَ الهواء وعدم الضياء بين الرائي والمرئيّ لم تصحّ الرؤية وكان في ذلك الاشتباه ؛ لأنّ الرائي متى ساوى المرئيّ في السبب الموجب بينهما في الرؤية ، وجبَ الاشتباه وكان في ذلك التشبيه ؛ لأنّ الأسباب لابدّ من اتّصالها بالمسبّبات ) (331) .
فمَن لقّنكَ الفيزياء وعِلم الطبيعة يا سيّدي وقد كنتَ بين الجواري السّود في طفولتك ، ورهن الرقابة والقيود في يفاعك ، وحبيس السجون والسدود منذ مطلع فتوّتك وشبابك ؟! مَن علّمك هذا وأنت في مرصدٍ من العيون المتفتّحة عليك والأنياب المكشّرة ، التي لو أُتيحَ لها لنهشَت لحمَك ، وعرّقت عظمك منذ بزوغ نجمك حتى تَدرّجك نحو الكهولة ؟!
قد علّمك ذلك مُلهم العلوم كلّها لجدّك أمير المؤمنين ، باب مدينة عِلم رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ولجدّك الإمام الصادق ولسائر أبائك من قبله ومن بعده عليهم الصلاة والسلام ،.. فأنتم ذريّة أولها كآخرها ، وصغيرها ككبيرها ، يدور العلم على ألسِنتكم كما يدور الخاتم في الخنصر ، وتتدفّق الحكمة من ألسِنتكم والرحمة من قلوبكم كما يتدفّق الماء الزّلال من النبع الثّرّار ، ولقد كان الأحرى بمَن نازعوكم حقّكم وأزالوكم عن مراتبكم ، أن يستفيدوا من عِلمكم وحكمتكم بعد أن ألقيتم دنياهم في نحورهم ، وعَكفتم على نشر الدّين وإعلاء أوامر الدّيان .
فسبحان مَن علّمكم عِلم ما كان وعلم ما بقي ، ووهبََكم الفضل كلّه ، والرحمة كلّها فعملتم على إنقاذ النّاس من ظلمات الجهل والضلال ، ودلَلتموهم أنّ الخالق تبارك وتعالى قد احتجبَ عن خلقه ، وعزّ عن أن يُتصوّر في الأوهام ، أو أن يُتخيّل في القلوب والبصائر ، فضلاً عن أن يُرى بالأبصار !
قد تنزّه عن التجسيم ، وسَما عن الرؤية بالعيون ، ولم يكن محدوداً بحدّ ولا مشبهاً لندٍّ ، بل هو الحيّ القيّوم الذي ( لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (332) ، وإنّه لو أدركهُ بصر لنزلَ عن مرتبة الإلوهية ، ولزالت عنه هالة الرّبوبيّة ، ولشبّهناه ووصفناه ،.. ولصارَ ـ إذاً ـ محدوداً يفوت عِلمه ما كان خارج حدوده ومكان وجوده ،.. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً .

وسُئل ( عليه السلام ) عن التوحيد فقيل له : لَم يزل الله وحده لا شيء معه ، ثمّ خلقَ الأشياء بديعاً ، واختارَ لنفسه الأسماء ، ولم تزل الأسماء والحروف له معه قديمة ؟
فكتبَ : ( لم يزل الله موجوداً ، ثمّ كوّنَ ما أراد ، لا رادّ لقضائه ، ولا مُعقّب لحكمه ،.. تاهت أوهام المتوهّمين ، وقَصر طرف الطارفين ، وتلاشت أوصاف الواصفين ، واضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدّرك لعَجيب شأنه ، أو الوقوع بالبلوغ على علوّ مكانه ، فهو بالموضع الذي لا يتناهى ، وبالمكان الذي لم يقع عليه عيون بإشارة ولا عبارةٍ ،.. هيهات ، هيهات ) (333).
فهو سبحانه موجود قبل القبل إذ لم يكن قبله شيء ، ثمّ يبقى إلى ما بعد البعد حيّاً سرمديّاً ، دائماً أبديّاً وكلّ ما سواه مُحدَث ، وهو تعالى قديم أوجدَ بقدرته ما أرادَ من الكائنات .

وقال إبراهيم بن محمد الهمداني :
( كتبتُ إلى الرجل ـ أي إلى أبي الحسن الثالث ( عليه السلام ) : إنّ من قِبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد : فمنهم مَن يقول : جسم ! ومنهم مَن يقول : صورة !
فكتبَ ( عليه السلام ) بخطّه : ( سبحان مَن لا يُحدّ ، ولا يوصف ! ليس كمثله شيء ، وهو السّميع العليم ـ أو قال : البصير ـ ) (334) .
وروي مثله عن بشر بن بشّار النيسابوري بزيادة : (.. سبحان مَن لا يُحدّ ، ولا يوصف ، ولا يشبهه شيء ، إلخ..) (335) .
فقد نفى عن الخالق تعالى الحَدّ ـ أي التجسيم ـ ونزّههُ عن أن يحتويه مكان ، أو أن يَشغل حيّزاً ، ثمّ نزّههُ عن الوصف والتشبيه والتصوّر .

وتكلّم في عِلم الله تبارك وتعالى .
فقد قال أيوب بن نوح رحمه الله : ( إنّه كتبَ إلى أبي الحسن ( عليه السلام ) يسأله عن الله عزّ وجلّ : أكان يَعلم الأشياء قبل أن خلقَ الأشياء وكوّنها ، أو لم يعلم ذلك حتى خَلقها وأراد خلقها وتكوينها ، فعلِمَ ما خَلق عندما خلقَ ، وما كوّن عندما كوّن ؟
فوقّعَ ( عليه السلام ) بخطّه : ( لم يزل الله عالِماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء ، كعلمه بالأشياء بعدَما خلقَ الأشياء ) (336) .
فسبحان مَن أحاط بكل شيءٍ كان لا يعلمه ، ولا يزيد في علمه ما يُحدثه ويكوّنه ؛ لأنّه يفيض عن مشيئة حين إحداثه كما كان قدّره في سابق عِلمه به .

وقال جعفر بن محمد بن حمزة :
( كتبت إلى الرجل ـ أبي الحسن ( عليه السلام ) ـ أسأله : أنّ مواليك اختلفوا في العلم ، فقال بعضهم : لم يزل الله عالماً قبل فعل الأشياء ، وقال بعضهم لا نقول : لم يزل الله عالماً ؛ لأنّ معنى يعلم : يفعل ، فإنْ أثبَتنا العلم فقد أثبتنا في الأزل معه شيئاً ! فإنْ رأيت جَعلني الله فداك أن تُعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه .
فكتبَ ( عليه السلام ) بخطّه : ( لم يزل الله عالماً تبارك وتعالى ذكره..) (337) .
فإنّه صلوات الله عليه وتحيّاته وبركاته ـ مع اختصاره للجواب ـ بيّن أنّه تعالى لم يزل عالماً ، ثمّ نفى أزليّة الأشياء بإهمال ذكرها ؛ لأنّه سبحانه واحدٌ أحديّ أزليّ سرمديّ لا يشاركه في ذلك شيء .

وقال الفتح بن يزيد الجرجاني : سمعته يقول :
( هو اللطيف الخبير السّميع البصير ، الواحد الأحد الفرد الصّمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ،.. لو كان كما يقول المشبّهة ، لم يُعرف الخالق من المخلوق )
وفي توحيد الصدوق زادَ : ولم يكن له كفواً أحد ، مُنشئ الأشياء ، ومجسّم الأجسام ، ومصوّر الصّور ،.. لو كان كما يقول المشبهة لم يُعرف الخالق من المخلوق ولا المُنشِئ من المُنشَأ ، فَرقٌ بَين مَن جَسّمه ، وصوّره ، وأنشأه ، إذ كان لا يشبهه شيء ، ولا يشبه هو شيئاً .
قلت : أجل ، جَعلني الله فداك ، لكنّك قلت : الأحد الصّمد ، وقلت : لا يشبهه شيء ، ولا يشبه هو شيئاً ، والله واحد ، والإنسان واحد ، أليس قد تشابهت الوحدانيّة ؟
قال : يا فتح ، أحلتَ ثبّتك الله ـ أي أتيتَ بالمحال ـ إنّما التشبيه في المعاني ، فأمّا الأسماء فهي واحدة ، وهي دالّة على المسمّى ـ أو : دلالة على المسمّى ـ ؛ وذلك أنّ الإنسان وإن قيل : واحد ، فإنّما تخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين ، والإنسان نفسه ليس بواحدٍ ؛ لأنّ أعضاءه مختلفة ، وألوانه مختلفة غير واحدة ، ومن ألوانه مختلفة غير واحدة ، وهو أجزاء مجزّأة ليست بسواءٍ : دَمه غير لحمه ، ولحمه غير دمه ، وعَصبه غير عروقه ، وشَعره غير بشره ، وسواده غير بياضه ، وكذلك سائر الخلق ، فالإنسان واحد في الاسم ، لا واحد في المعنى .
والله جلّ جلاله هو واحد في المعنى ، لا واحد غيره ، لا اختلاف فيه ، ولا تفاوت ، ولا زيادة ولا نقصان ،.. فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع ، المؤلّف من أجزاءٍ مختلفةٍ وجواهر شتّى ، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد (338) .
قلت : جُعلت فداك ، فرّجتَ عنّي ، فرّجَ الله عنك ، فقولك : اللطيف الخبير ، فسِّره لي كما فسّرتَ الواحد ؛ فإنّي أعلم أنّ لطفه على خلاف لطف خلقه للفصل ـ أي للفرق الظاهر بينه وبين خلقه ـ غير أنّي أُحب أن تشرح ذلك لي ؟
فقال : يا فتح ، إنّما قلنا اللطيف ؛ للخلْق اللطيف ، ولعِلمه بالشيء اللطيف ، أولا ترى ـ وفّقك الله وثبّتك ـ إلى أثر صُنعه في النّبات اللطيف وغير اللطيف ؟ وفي الخلق اللطيف من الحيوان الصّغار والبعوض والجرجس ـ البعوض الصغير ـ وما هو أصغر منهما ولا يكاد تستبينه العيون ، بل لا يكاد يتبيّن لصغره الذّكر من الأنثى ، والحدِث المولود من القديم ؟!
فلمّا رأينا صِغر ذلك في لطفه ، واهتدائه للسّفاد ـ المناكحة ـ والهرب من الموت ، والجمع لِما يصلحه ، وما في لجج البحار ، وما في لحاء الأشجار ، والمفاوز والقفار ، وفَهم بعضها عن بعض منطقها ، وما يفهم به أولادها عنها ، ونقلها الغذاء إليها ، ثمّ تأليف ألوانها حمرةً مع صفرةٍ ، وبياضاً مع حمرة ، وما لا تكاد عيوننا تستبينه بتمامٍ لدَمامة خلقها ، ولحقارة أجسامها وشدّة صغرها ، ولا تراه عيوننا ، ولا تلمسه أيدينا ، عَلمنا أنّ خالق هذا الخلق لطيف ، لطفَ في خلق ما سمّيناه بلا علاج ، ولا أداةٍ ، ولا آلةٍ ، وأنّ صانع كلّ شيءٍ فمِن شيءٍ صنع ، والله الخالق الجليل ، خلقَ وصنعَ لا من شيء ) (339) .
وليس بعد هذا البيان بيان أدقّ منه وألطف ، ولا أشمل منه ولا أكمل ،.. والتعليق عليه يحطّ من قيمته وقدره ، مهما بالغَ الكاتب في التفكير والتقدير ودقّة التعبير..

وعن الفتح بن يزيد الجرجاني أيضاً ، أنّه ( عليه السلام ) قال :
( إنّ لله إرادتين ومشيئتين : إرادة حتمٍ ، وإرادة عَزم .
ينهى وهو يشاء ،.. ويأمر وهو لا يشاء .
أوَ ما رأيت أنّه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة ، وشاء ذلك..
ولو لم يشأ لم يأكلا ، ولو أكلا لغَلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى .
وأمرَ إبراهيم أن يذبح إسماعيل وشاء أن لا يذبحه ، ولو لم يشأ أن لا يذبحه ، لغَلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى ) (340) .
وقد علّق السيد الطباطبائي على هذا الكلام بما يلي :
( المشيئة والإرادة انقسام إلى الإرادة التكوينيّة الحقيقيّة ، والإرادة التشريعيّة الاعتباريّة ، فإنّ إرادة الإنسان التي تتعلّق بفعل نفسه نسبة حقيقيّة تكوينيّة تؤثّر في الأعضاء الانبعاث إلى الفعل ، ويستحيل معها تخلّفها عن المطاوعة إلاّ لمانع .
وأمّا الإرادة التي تتعلّق منّا بفعل الغير ، كما إذا أُمِرنا بشيءٍ أو نُهينا عن شيءٍ ، فإنّها إرادة بحسب الوضع والاعتبار لا تتعلّق بفعل الغير تكوينيّاً .
فإنّ إرادة كلّ شخصٍ إمّا تتعلّق بفعل نفسه من طريق الأعضاء والعضلات ، ومن هنا كانت إرادة الفعل أو التّرك من الغير لا تؤثّر في الفعل بالإيجاد والإعدام ، بل تتوقّف على الإرادة التكوينيّة من الغير بفعل نفسه حتى يوجد أو يترك عن اختيار فاعله ، لا عن اختيار آمره وناهيه .
إذا عرفتَ ذلك ، عَلمتَ أنّ الإرادتين يمكن أن تختلفا من غير ملازمة ، كما أنّ المعتاد بفعلٍ قبيح ربّما ينهى نفسه عن الفعل بالتلقين ، وهو يفعل من جهة إلزام مَلَكته الرذيلة الراسخة ، فهو يشاء الفعل بإرادة تكوينيّةٍ ، ولا يشاؤه بإرادة تشريعيّة ، ولا يقع إلاّ ما تعلّقت به الإرادة التكوينيّة ،.. والإرادة التكوينيّة هي التي يسمّيها ( عليه السلام ) بإرادة حَتم ، والتشريعيّة هي التي يسمّيها بإرادة عزم .
وإرادته تعالى التكوينيّة تتعلّق بالشيء من حيث هو موجود ، ولا موجود إلاّ وله نسبة الإيجاد إليه تعالى بوجوده بنحو يليق بساحة قدسه تعالى ، وإرادته التشريعيّة تتعلّق بالفعل من حيث إنّه حسن وصالح غير القبيح الفاسد ، فإذا تحقّق فعل موجودٍ قبيحٍ ، كان منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التكوينيّة بوجهٍ ، ولو لم يرده لم يوجد ، ولم يكن منسوباً إليه تعالى من حيث الإرادة التشريعيّة ، فإنّ الله لا يأمر بالفحشاء .
فقوله ( عليه السلام ) : ( إنّ الله نهى آدم ( عليه السلام ) عن الأكل ، وشاء ذلك ، وأمرَ إبراهيم ( عليه السلام ) بالذّبح ولم يشأه ) ، أرادَ بالأمر والنّهي التشريعيّين منهما ، وبالمشيئة وعَدمها التكوينيّين منهما .
واعلَم أنّ الرواية مشتملة على كون المأمور بالذّبح إسحاق ، دون إسماعيل ، وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة )(1) وهو بيان جيّد .

وقال الفتح بن يزيد الجرجاني في حديثٍ طويل : ( ضَمّني وأبا الحسن ( عليه السلام ) الطريق حين منصرفي من مكّة إلى خراسان ، وهو سائر إلى العراق ، فسَمعته وهو يقول :
( مَن اتّقى الله يُتّقى ، ومَن أطاع الله يطاع ـ أي مَن اتّقى الله يخافه كلّ شيء ـ .
فتلطّفتُ في الوصول إليه ، فسلّمتُ عليه ، فردّ عليّ السلام ، وأمرَني بالجلوس ، وأول ما ابتدَأني به أن قال :
يا فتح ، مَن أرضى الخالق لم يبالِ بسخط المخلوق ، ومَن أسخطَ الخالق فقَمِن أن يسلّط الله عليه سخطَ المخلوق ـ وفي نسخةٍ : فأيقنَ أن يحلّ به الخالق سخط المخلوق ـ ، وإنّ الخالق لا يوصف إلاّ بما وصفَ به نفسه ، وأنّى يوصَف الخالق الذي تعجز الحواسّ أن تدركه ، والأوهام أن تناله ، والخطرات أن تحدّه ، والأبصار عن الإحاطة به ! جلّ عمّا يصفه به الواصفون ، وتعالى عمّا ينعته الناعتون ، نأى في قربه ، وقرُبَ في نأيه ، فهو في نأيه قريب ، وفي قُربه بعيد ،.. كيّف الكيف فلا يقال : كيف ؟ وأيّن الأين فلا يقال : أين ؟ إذ هو منقطع الكيفوفية والأينونيّة (342) .
هو الواحد الأحد ، الفرد الصّمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، فجلّ جلاله .
أم كيف يوصف بكنهه محمد ( صلّى الله عليه وآله ) وقد قرنهُ الجليل باسمه ، وشَركه في عطائه ، وأوجبَ لِمن أطاعه جزاء طاعته ؛ إذ يقول : ( وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (343) وقال ـ يحكي قول مَن ترك طاعته وهو يُعذّبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها ـ : ( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا ) (344) .
أم كيف يوصف بكنهه مَن قَرنَ الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) (345) ، وقال : ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ) (346) ، وقال : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) (347) ، وقال : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (348) .
يا فتح ، كما لا يوصف الجليل جلّ جلاله ، والرسول ، والخليل ، ووِلد البتول ، فكذلك لا يوصَف المؤمن المُسلّم لأمرنا ! فنبيّنا أفضل الأنبياء ، وخليلنا أفضل الأخلاّء ، ووصيّه أفضل الأوصياء ، واسمها ـ أي البتول ( عليها السلام ) ـ أفضل الأسماء ، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها .
لو لم يجالسنا إلاّ كفوء ، لم يجالسنا أحد ! ولو لم يُزوّجنا إلاّ كفوء ، لم يزوّجنا أحد !
أشدّ الناس تواضعاً ـ يقصد النبيّ ووصيّه صلوات الله عليهما ـ وأعظمهم حِلماً ، وأنداهم كفّاً وأمنَعهم كنفاً ، ورثَ عنهما أوصياؤهما علمهما ، فاردُد إليهم الأمر وسَلِّم إليهم .
قال فتح : فخرجت ،.. فلمّا كان من الصباح تلطّفتُ في الوصول إليه ، فسلّمت عليه ، فردّ علّي السلام ، فقلت : يا بن رسول الله ، أتأذن لي في مسألةٍ اختلجَ في صدري أمرها الليلة ؟
قال : سَل ، وإن شَرحتها فلي ، وإن أمسَكتها فلي ، فصحِّح نظرك وتثبّت في مسألتك ، واصغِ إلى جوابها سمعك ، ولا تسأل مسألة تعنّتٍ ، واعتنِ بما تعتني به ؛ فإنّ العالم والمتعلّم شريكان في الرشد ، مأموران بالنّصيحة ، منهيّان عن الغش.
وأمّا الذي اختلجَ في صدرك ليلتك ، فإنْ شاء العالِم ـ أي الإمام ـ أنبأكَ :
إنّ الله لم يُظهر على غيبه أحداً إلاّ مَن ارتضى من رسول ، فكلّ ما كان عند رسول الله ، كان عند العالِم ، وكلّ ما اطّلعَ عليه الرسول ، فقد اطّلعَ أوصياؤه عليه ؛ لئلاّ تخلو أرضه من حجّةٍ يكون معه عِلم يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته .
يا فتح ، عسى الشيطان أراد اللّبس عليك فأوهمكَ في بعض ما أودعتك ، وشكّك في بعض ما أنبأتُك ، حتى أرادَ إزالتك عن طريق الله وصراطه المستقيم فقلتَ : متى أيقنتُ أنّهم كذا ، فهم أرباب ؟!
معاذ الله ! إنّهم مخلوقون ، مربوبون ، مطيعون لله ، داخرون ، راغبون ،.. فإذا جاءك الشيطان من قِبل ما جاءك فاقمَعه بما أنبأتك به .
فقلتُ : جُعلت فداك ، فرّجت عنّي ، وكشفتَ ما لبّس الملعون عليّ بشرحك ، فقد كان أوقعَ في خلَدي أنّكم أرباب .
قال : فسجدَ أبو الحسن وهو يقول في سجوده : راغماً لك يا خالقي ، داخراً ، خاضعاً .
قال : فلم يزل كذلك حتى ذهبَ ليلي ، ثمّ قال : يا فتح ، كدتَ أن تَهلك وتُهلك ! وما ضرّ عيسى إذا هَلك مَن هَلك ـ ممّن قالوا بربوبيته ـ فاذهب إذا شئت ، رحمك الله .
قال : فخرجت وأنا فرِح بما كشفَ الله عنّي من اللّبس بأنّهم هم ، وحمدتُ الله على ما قدرت عليه ،.. فلمّا كان في المنزل الآخر دخلت عليه وهو متّكئ وبين يديه حنطة مقلوّة ـ منضجة على النّار ـ وهو يعبث بها ، وقد كان أوقعَ الشيطان في خلَدي أنّه لا ينبغي أن يأكلوا ويشربوا إذ كان ذلك آفةً ، والإمام غير مؤوفٍ ـ غير ذي آفة ـ .
فقال : اجلس يا فتح ، فإنّ لنا بالرُسل أسوة ، كانوا يأكلون ويشربون ، ويمشون في الأسواق ، وكلّ جسم مغذوّ بهذا ، إلاّ الخالق الرازق فإنّه جَسّم الأجسام ، وهو لم يُجسَّم ولم يُجزَّأ بتناهٍ ، ولم يتزايد ولم يتناقص ، مبرّأ من ذاته ما رُكِّبَ في ذات مَن جَسّمه .
الواحد الأحد الصّمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ، مُنشئ الأشياء ، مُجسّم الأجسام ، وهو السّميع العليم ، اللطيف الخبير ، الرؤوف الرّحيم ، تباركَ وتعالى عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً ، لو كان كما وصفَ ولم يُعرف الرّب من المربوب ولا الخالق من المخلوق ، ولا المُنشئ من المنشَأ ، ولكن فَرقٌ بينه وبين مَن جَسّمه ، وشيّأ الأشياء إذ كان لا يشبهه شيء يرى ، ولا يُشبِه شيئاً ) (349) .
ويلاحَظ أنّه سلام الله عليه قد أجابَ الفتح بن يزيد الجرجانيّ عمّا دارَ في خلَده في المرّتين بدون أن يسأله ؛ لأنّه كان مطّلعاً على ما يجول في خاطره من إشكالات بمجرّد دخوله عليه ، فقد أنبأه الله العليم الخبير العالِم بما توسوس به الصّدور ، وعرّفه حالتَي الشكّ عند صاحبه ؛ لتكون حجّته قاطعة ، وليكون قوله الصادق مقبولاً وليثبت أنّه لم يتكلّم من عنده ، بل ذكرَ ما أعلَمهُ به ربّه سبحانه وتعالى بواسطةٍ سماويّة لا قدرة لنا على تحديدها بالدّقة المتناهية ؛ ولذلك فإنّه ( عليه السلام ) نفى في المرّة الأولى ما لبّسَ الشيطان على صاحبه من أنّ الأئمّة أرباب ، وفي المنزلة الثانية ظهرَ لصاحبه جالساً يعبث بالقمح المقلوّ لا بداعي العبث الذي جلّ عنه وسَما ، بل ليبيّن للفتح بن يزيد أنّه يأكل ويشرب ويفتقر إلى الغذاء وما يقيم الأوَد ، في حين أنّ الرّبّ سبحانه يُجلّ عن ذلك ويُتعالى علوّاً كبيراً .

وقال محمد بن عيسى بن عبيد :
( سألتُ أبا الحسن ، عليّ بن محمدٍ العسكريّ ( عليهما السلام ) عن قول الله عزّ وجلّ : ( وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (350) .
فقال : ( ذلك تعبير الله تعالى لِمن شبّهه بخلْقه ، ألا ترى أنّه قال : ( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) (351) إذ قالوا : إنّ ( الأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) (352) كما قال عزّ وجلّ : ( وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ) (353) ، ثمّ نزّه عزّ وجلّ نفسه عن القبضة واليمين فقال ـ في آخر الآية ـ : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ) (354) .
ووردَ في مصدر آخر بهذا اللفظ :
فقال ( عليه السلام ) : ذلك تعبير الله تبارك وتعالى لِمن شبّهه بخلقه ، ألا ترى أنّه قال : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) ؟ ومعناه : ( إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ).. ثمّ نزّه نفسه عن القبضة واليمين فقال : ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ) (355) .
فقد أوضحَ ـ سلام الله عليه ـ أنّ الله تبارك وتعالى كأنّه قال : وما قدّر الله حقّ قدره مَن قال : إنّ الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ، والسماوات مطويّات بيمينه ؛ فإنّ ذلك قول المجسّمة ، وقد تعالى الله سبحانه عمّا يُشركون به .

وقال عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضوان الله عليه :
سمعتُ أبا الحسن ، عليّ بن محمدٍ العسكري يقول : ( معنى الرّجيم : أنّه مرجوم باللّعن ، مطرود من مواضع الخير ، لا يذكرهُ مؤمن إلاّ لعَنه .
وإنّ في عِلم الله السابق ، أنّه إذا خرجَ القائم ( عليه السلام ) ، لا يبقى مؤمن في زمانه إلاّ رَجَمه بالحجارة كما كان قبل ذلك مرجوماً باللّعن ) (356) .
فالشيطان الرّجيم معناه ـ لعنه الله ـ : أنّه المطرود من رحمة الله بعد معصيته حين لم يُطع أمر ربّه بالسجود لآدم ( عليه السلام ) ، وقد صارَ منذئذٍ ملعوناً من سائر المؤمنين بقول الله ، وهم يرجمونه بالحجارة في مِنىً أيام الحج رامزين بذلك إلى طرده ودَحره ؛ لأنّه عدوّ بني آدم الذي يُغريهم بالفساد ، وفي أيام القائم عجّل الله تعالى فرجه يُسلم أهل الأرض ويرجمونه جميعاً بالحجارة بعد الإفاضة من عَرَفات والمُزدلفة ، علامةً على إيمانهم ، بما جاء من عند الله ، وإشارةً إلى عداوته لهم وإلى إبعاده عنهم برمْيه بالحجارة .
وقال العباس بن هلال :
سألتُ أبا الحسن ، عليّ بن محمدٍ ( عليه السلام ) ، عن قول الله عزّ وجلّ : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ.. ) (357) ؟
فقال ( عليه السلام ) : ( يعني : هادي مَن في السّماوات ومَن في الأرض ) (358) .
نعم ، وما الهدى سوى ذلك النّور الذي يقذفه الله سبحانه وتعالى في قلوب عباده لينقذهم من ظلمات الجهل والكفر ، ويهديهم إلى الحقّ والإيمان ،.. الذي يعمر القلب وينير الدّرب ؛ ولذلك قال تبارك وتعالى : ( فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ـ أي التسليم له بالرّبوبيّة والوحدانيّة ـ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ..) (359) فهو يشرح صدر مَن يهديه بنور هداه ، ويُبقي صدر الضالّ مظلماً تائهاً في الضلالة ، لاهثاً وراء جهله ، ضائقاً بأمره ، متعباً كالذي يمشي طلوعاً نحو السماء..

وفي عهده سلام الله عليه ـ عَهدُ الفتن والخلافات حول المذاهب وغيرها ـ كثُر الجدل حول خَلق القرآن أو قِدمه ، وخاضَ النّاس في ذلك أيّ خوض حتى خرجوا عن حدّ المعقول لشدّة ما انحرفَ بهم الكلام ،.. فحذّر إمامنا ( عليه السلام ) شيعته من النزول إلى تلك المعركة التي ضلّ فيها الجدلّيون ضلالاً كبيراً ، فلم يشترك الشيعة في ذلك النزاع حول صُنع الله عزّ وجلّ وحول كلامه الكريم ، وقد قال محمد بن عيسى بن عبيد ـ اليقطيني ـ :
( كتب عليّ بن محمد بن علي بن موسى الرّضا ( عليه السلام ) إلى بعض شيعته ببغداد :
( بسم الله الرّحمن الرّحيم : عَصَمنا الله وإيّاك من الفتنة ، فإنْ يفعل فقد تعظم بها نعمة ، وإلاّ يفعل فهي الهلكة .
نحن نرى أنّ الجدال في القرآن بدعة اشتركَ فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ الله عزّ وجلّ ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام الله ،.. لا تَجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالّين .
جَعلنا الله وإيّاك من ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) ) (360) .
فما أبلغ ما جاء في هذا الكتاب الكريم المختصر الذي يجتثّ تلك البدعة من أصولها ، ويقرّر رأي الإمام ( عليه السلام ) بأوضح بيانٍ وأقوى دليلٍ ؛ إذ الله تعالى وحده هو الخالق وما سواه مخلوق قد فاضَ عن إرادته سبحانه ومشيئته ، والكلام خارج هذا الإطار لغو ولهو وضلالة ، تؤدّي بالسائل إلى الوقوع في المحذورات حين يتكلّم بما هو من شأن الخالق عزّ وجلّ ، وتؤدّي بالمجيب إلى التكلّم رَجماً بالغيب ؛ إذ يقرّر أفعال ربّه سبحانه بحسب موازين عقله المطفّفة ،.. وكلاهما غير مكلّفَين بما يقومان به سواء أكان حقّاً أم لغواً .

ومن جملة المسائل الهامة التي ثارَ الجدل حولها ـ أيضاً ـ في ذلك العصر ، وكثُر الأخذ والردّ : مسألة الجبر والتفويض التي أدّت إلى انقسام المسلمين انقساماً كان ذا خطرٍ دخلَ في صميم العقيدة ، إذ نَسَبت فئة منهم وقوع الذنب من العبد ، إلى الله ـ والعياذ بالله من ذلك ـ محتجّة : بأنّ الذنب يقع بعلمه تعالى وتقديره ، وبإقدار العبد على ذلك بما خَلق له من آلاتٍ يباشر الذنب بواسطتها ، وبأنّ العبد لا اختيار له في تجنّب الذنب ؛ لأنّه محمول عليه قد كتبهُ الله تعالى وقضى به عليه ! ثمّ أنكرت فئة أخرى ذلك ، وقالت بأنّ : للعبد أن يختار ، وهو الذي يرتكب الذنب بتمام إرادته ، وبكامل اختياره ، وبواسطة الآلات الّتي مَنحهُ الله تعالى إيّاها لطاعته لا لمعصيته .
وقد تكلّم إمامنا ( عليه السلام ) في هذا الموضوع الهامّ ـ كما تكلّم آباؤه ـ وجدّاه الصادق والرّضا بالخصوص ( عليهم السلام ) جميعاً ؛ لئلاّ يقع شيعته في فخّ الكفر وزخرف القول الذي يحاول الإقناع بأنّه لا اختيارَ للعبد في تصرّفاته ؛ لأنّها مكتوبة عليه ،.. ولم يَدع شيعته نَهب تلك الفوضى التي تجرّأ فيها القائلون على الله عزّت قدرته جرأةً عظيمةً ، فمالَت بهم الأهواء عن سواء القصد .
ثمّ بدأ حديثه معهم بأنّه إذا لم يكن للعبد اختيار ولا تدخّلّ ، فلِمَ اختاروا خليفة الرسول وانصرفوا عن اختيار الله لهم ، وعن نصّ القرآن الصريح ، وقول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) الفصيح ؟! فإمّا أن يكون العبد مختاراً في كلّ شيءٍ ، وإمّا أن لا يكون له اختيار في شيءٍ ،.. ثمّ تكلّم في الجبر والاختيار كلاماً بليغاً يقطع كلّ جدلٍ ونقاش ، فكان كأنّه يغترف من بحرٍ ، أو أنّه ينهمر كالقطر !
وهذا نصّ رسالته ( عليه السلام ) في الردّ على أهل الجبر والتفويض ، وإثبات العدل بين المنزلة والمنزلتين :
( من عليّ بن محمدٍ : سلام عليكم وعلى مَن اتّبع الهدى ، ورحمة الله وبركاته .
فإنّه وردَ عليّ كتابكم (361) وفهمتُ ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم ، وخوضكم في القدَر ، ومقالة مَن يقول منكم بالجَبر ، ومَن يقول بالتفويض ، وتفرّقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهرَ من العداوة بينكم ، ثمّ سألتموني عنه وبيانه لكم ، وفهمتُ ذلك كلّه .
اعلَموا رحمكم الله أنّا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الأخبار ، فوجدناها عند جميع مَن ينتحل الإسلام ممّن يعقل عن الله عزّ وجلّ ، لا تخلو من معنيين : إمّا حقّ فيُتّبع ، وإمّا باطل فيُجتنب .
وقد أجمَعت الأمّة قاطبةً ، لا اختلاف بينهم : أنّ القرآن حقّ لا ريبَ فيه عند جميع أهل الفِرَق ، وفي حال اجتماعهم ، مقروناً بتصديق الكتاب وتحقيقه ، مصيبون مهتدون ؛ وذلك بقول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لا تجتمع أمّتي على ضلالة ،.. وأخبرَ أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ ، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضاً .
والقرآن حقّ لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه ، فإذا شهدَ القرآن بتصديق خبر وتحقيقه ، وأنكرَ الخبر طائفة من الأمّة ، لزَمهم الإقرار به ضرورةً حين اجتمَعت في الأصل على تصديق الكتاب ، فإنْ هي جَحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملّة .
فأول خبرٍ يُعرف تحقيقه من الكتاب ، وتصديقه والتماس شهادته عليه ، خبر وردَ عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ووجِدَ بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفه أقاويلهم ، حيث قال : إنّي مُخلّف فيكم الثّقَلين : كتاب الله ، وعترتي ـ أهل بيتي ـ لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما ، وإنّهما لن يَفترقا حتّى يَردا عليّ الحوض .
فلمّا وجَدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصّاً مثل قوله جلّ وعزّ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (362) ورَوت العامّة أخباراً لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه تصدّق بخاتمه وهو راكع ، فشكرَ الله ذلك له وأنزلَ الآية فيه ، فوجَدنا أنّ رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) قد أتى بقوله : مَن كنتُ مولاه فعليّ مولاه ، وبقوله : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي ، ووجدناه يقول : عليّ يقضي دَيني ، وينجز موعدي ، وهو خليفتي عليكم من بعدي .
فالجزء الأول الذي استُنبِط منه هذه الأخبار ، خبر صحيح مُجمَع عليه لا اختلاف فيه عندهم ، وهو أيضاً موافق للكتاب .
فلمّا شهدَ الكتاب بصدق الخبر ، وهذه الشواهد الأخَر ، لزِم على الأمّة الإقرار بها ضرورةً ؛ إذ كانت هذه الأخبار شواهدها من القرآن ناطقة ، ووافَقت القرآن والقرآن وافَقها ، ثمّ ورَدت حقائق الأخبار عن رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، عن الصادقَين ( عليهما السلام ) ، ونَقلها قوم ثقات معروفون ، فصارَ الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً واجباً على كلّ مؤمن ومؤمنةٍ ، لا يتعدّاه إلاّ أهل العناد ؛ وذلك أنّ أقاويل آل رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) متّصلة بقول الله ، وذلك مثل قوله في محكَم كتابه : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً ) (363) .
ووجَدنا نظير هذه الآية قول رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : مَن آذى عليّاً فقد آذاني ، ومَن آذاني فقد آذى الله ، ومَن آذى الله يوشك أن ينتقم منه !.. وكذلك قوله ( صلّى الله عليه وآله ) : مَن أحبّ عليّاً فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله ، ومثل قوله ( صلّى الله عليه وآله ) في بني وليعة : لأبعثنّ اليوم رجلاً كنفسي يُحبّ الله ورسوله ، ويُحبّه الله ورسوله ؛ قم يا عليّ فسِر إليهم .
وقوله ( صلّى الله عليه وآله ) يوم خيبر : لأبعثنّ إليهم غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، كرّاراً غير فرّارٍ ، لا يرجع حتّى يَفتح الله عليه ،.. فقضى رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) بالفتح قبل التوجيه ، فاستشرفَ لكلامه أصحاب رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، فلمّا كان من الغد دَعا عليّاً ( عليه السلام ) فبعثهُ إليهم ، فاصطفاه بهذه المنقبة (364) وسمّاه كرّاراً غير فرّارٍ ، فسمّاه مُحبّاً لله ورسوله ، وأخبرَ أنّ الله ورسوله يُحبّانه .
وإنّما قدّمنا هذا الشرح والبيان ؛ دليلاً على ما أردناه ، وقوّةً لِما نحن مبيّنوه من أمر الجبْر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين ، وبالله العون والقوّة ، وعليه نتوكّل في جميع أمورنا .
فإنّا نبدأ من ذلك بقول الصادق ( عليه السلام ) : لا جبر ولا تفويض ، ولكن منزلة بين المنزلتين : وهي صحّة الخلْقة ، وتخلية السّرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد قبلَ الراحلة ، والسبب المهيّج للفاعل على فعله .
فهذه خمسة أشياءٍ جمعَ بها الصادق ( عليه السلام ) جوامع الفضل ، فإذا نقصَ العبد منها خلّةً ، كان العمل عنه مطروحاً بحسبه .
فأخبرَ الصادق ( عليه السلام ) بأصل ما يجب على النّاس مَن طلب معرفته ، ونطقَ الكتاب بتصديقه ، فشهدَ بذلك محكمات آيات رسوله ؛ لأنّ الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، لا يعدو شيء من قوله وأقاويلهم حدود القرآن .
فإذا وردت حقائق الأخبار ، والتُمِست شواهدها من التنزيل ، فوجِدَ لها موافقاً وعليها دليلاً ، كان الاقتداء بها فَرضاً لا يتعدّاه إلاّ أهل العناد ، كما ذكرنا في أول الكتاب .
ولمّا التمسنا تحقيق ما قاله الصادق ( عليه السلام ) من المنزلة بين المنزلتين ، وإنكاره الجبر والتفويض ، وجَدنا الكتاب قد شهدَ له وصدّق مقالته في هذا .
وخبر عنه أيضاً موافق لهذا : أنّ الصادق ( عليه السلام ) سُئل : هل أجبرَ الله العباد على المعاصي ؟
فقال الصادق ( عليه السلام ) : هو أعدل من ذلك .
فقيل له : فهل فَوّض إليهم ؟
فقال ( عليه السلام ) : هو أعزّ وأقهر لهم من ذلك !
ورويَ عنه أنّه قال : النّاس في القَدر على ثلاثة أوجه :
رجل يزعم أنّ الأمر مفوّض إليه ، فقد وهّن الله في سلطانه ، فهو هالك .
ورجل يزعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبرَ العباد على المعاصي وكلّفهم ما لا يطيقون ، فقد ظلمَ الله في حكمه ، فهو هالك .
ورجل يزعم أنّ الله كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون ، فإذا أحسنَ حمدَ الله ، وإذا أساء استغفرَ الله ، فهذا مسلم بالغ .
فأخبرَ ( عليه السلام ) أنّ مَن تقلّد الجبر والتفويض ودانَ بهما ، فهو على خلاف الحقّ .
فقد شرحتُ الجبر الذي مَن دانَ به يلزمه الخطأ ، وأنّ الذي يتقلّد التفويض يلزمه الباطل ، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما .
الصفحة 250
ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( وأضربُ لكلّ بابٍ من هذه الأبواب مَثلاً يُقرّب المعنى للطالب ويُسهّل له البحث عن شرحه ، تشهد به محكمات آيات الكتاب ، وتحقّق تصديقه عند ذوي الألباب ، وبالله التوفيق والعصمة .
فأمّا الجبر الذي يلزم مَن دان به الخطأ : فهو قول مَن زعم أنّ الله جلّ وعزّ أجبرَ العباد على المعاصي وعاقبهم عليها ! ومَن قال بهذا القول فقد ظلمَ الله في حكمه ، وكذّبه وردّ عليه قوله : ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (365) ، وقوله : ( ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) (366) ، وقوله : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَـكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) (367) مع آيٍ كثيرةٍ بذكر هذا ،.. فمَن زعمَ أنّه مجبَر على المعاصي فقد أحالَ بذنبه على الله ، وقد ظلمهُ في عقوبته ، ومَن ظلمَ الله فقد كذّب كتابه ، ومَن كذّب كتابه فقد لزمهُ الكفر باجتماع الأمّة .
ومثل ذلك مثل رجلٍ مَلَك عبداً مملوكاً ، لا يملك نفسه ولا يملك عرضاً من عَرض الدّنيا ، ويعلم ذلك مولاه منه ، فأمَرهُ على علمٍ منه بالمصير إلى السّوق لحاجةٍ يأتيه بها ، ولم يملّكه ثمن ما يأتيه به من حاجته ، وعَلم المالك أنّ على الحاجة رقيباً ، لا يطمع أحد في أخذها منه إلاّ بما يرضى به من الثمن ، وقد وصفَ مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنّصفة وإظهار الحكمة ، ونفي الجَور ، وأوعدَ عبده إن لم يأتِه بحاجته أن يعاقبه ، على علم منه بالرّقيب الذي على حاجته أنّه سيمنعه ، وعَلم أنّ المملوك لا يملك ثمنها ولم يملّكه ذلك .
فلمّا صارَ العبد إلى السوق ، وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها ، وجدَ عليها مانعاً يمنع منها إلاّ بشراءٍ ، وليس يملك العبد ثمنها ! فانصرفَ إلى مولاه خائباً بغير قضاء حاجته ، فاغتاظَ مولاه من ذلك وعاقبهُ عليه ! أليسَ يجب في عدله وحكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أنّ عبده لا يملك عرضاً من عروض الدّنيا ولم يُملّكه ثمن حاجته ؟ فإن عاقبهُ كان ظالماً متعدّياً عليه ، مبطلاً لِما وصفَ من عدله وحكمته ونصْفته ! وإن لم يعاقبه كذّبَ نفسه في وعيده إيّاه حين أوعَده بالكذب والظّلم اللّذين ينفيان العدل والحكمة ! تعالى الله عمّا يقولون علوّاً كبيراً .
فمَن دانَ بالجبر ، أو ما يدعو إلى الجبر ، فقد ظلمَ الله ونَسبه إلى الجَور والعدوان ؛ إذ أوجبَ على مَن أجبره العقوبة ، ومَن زعمَ أنّ الله أجبرَ العباد ، فقد أوجبَ على قياس قوله : إنّ الله يدفع عنهم العقوبة ، ومَن زعمَ أنّ الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب ، فقد كذّبَ الله في وعيده حيث يقول : ( بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (368) ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (369) ، وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً ) (370) ، مع آيٍ كثيرةٍ في هذا الفنّ ممّن كذّبَ وعيد الله ، ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر ، وهو ممّن قال الله : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (371) .
بل نقول : إنّ الله جلّ وعزّ جازى العباد على أعمالهم ، ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي مَلّكهم إيّاها ، فأمَرهم ونهاهم بذلك ـ أي بالاستطاعة وبما يطيقون ـ ونطقَ كتابه : ( مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ) (372) ، وقال جلّ ذكره : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ ) (373) ، وقال : ( الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ ) (374) فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومَن دانَ به .
ومثلها في القرآن كثير ، اختصرنا ذلك لئلاّ يطول الكتاب ، وبالله التوفيق .
وأمّا التفويض الذي أبطله الصادق ( عليه السلام ) ، وخطّأ مَن دانَ به وتقلّده ، فهو قول القائل : إنّ الله جلّ ذكّره فوّض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم ! وفي هذا كلام دقيق لِمن يذهب إلى تحريره ودقّته .
وإلى هذا ذهبَ الأئمّة المهديّون عترة الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، فإنّهم قالوا : لو فوّض إليهم على جهة الإهمال ، لكانَ لازماً له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب ـ به الثواب ـ ولم يكن عليهم فيه العقاب ، إذا كان الإهمال واقعاً.. وتنصرف هذه المقالة على معنيين :
إمّا أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورةً ، كرهَ ذلك أم أحبّ ، فقد لزمهُ الوهن ! أو يكون جلّ وعزّ عجزَ عن تعبّدهم بالأمر والنهي على إرادته ، كرهوا أو أحبّوا ، ففوّضَ أمره ونهيه إليهم ، وأجراهما على محبّتهم إذ عجزَ عن تعبّدهم بإرادته فجعلَ الاختيار إليهم في الكفر والإيمان !
ومَثَلُ ذلك مَثل رجل مَلَك عبداً ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه ، وادّعى مالك العبد أنّه قاهر عزيز حكيم ، فأمرَ عبده ونهاه ووعده على اتّباع أمره عظيم الثّواب ، وأوعدهُ على معصيته أليم العقاب ، فخالفَ العبد إرادة مالكه ، ولم يقف عند أمره ونهيه ، فأيّ أمرٍ أمَرَه ، أو أيّ نهي نهاه عنه ، لم يأته على إرادة المولى ، بل كان العبد يتّبع إرادة نفسه واتّباع أمره ونهيه إليه ، ورضيَ منه بكلّ ما فعله ، على إرادة العبد ، لا على إرادته ، ففوّضَ اختيار حوائجه وسمّى له الحاجة ، فخالفَ على مولاه وقصدَ لإرادة نفسه واتّبع هواه .
فلمّا رجعَ إلى مولاه ، نظرَ إلى ما أتاه به ، فإذا هو على خلاف ما أمرهُ به ! فقال له : لِمَ أتيتني بخلاف ما أمرتك ؟
فقال العبد : اتّكلتُ على تفويضك الأمر إليّ فاتّبعت هواي وإرادتي ؛ لأنّ المفوّض إليه غير محظورٍ عليه ،.. فاستحالَ التفويض .
أوَ ليس يجب على هذا السبب إمّا أن يكون المالك للعبد قادراً يأمر عبده باتّباع أمره ونهيه على إرادته ، لا على إرادة العبد ، ويُملّكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا أمرهُ بأمرٍ ونهاه عن نهيٍ عرّفه الثواب والعقاب عليهما ، وحذّره ورغّبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاه بما مَلّكه من الطاقة ـ من الطاعة ـ لأمره ونهيه وترغيبه وترهيبه ، فيكون عدله وإنصافه شاملاً له ، وحجّته واضحةً عليه للإعذار والإنذار ، فإذا اتّبع العبد أمر مولاه جازاه ، وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقَبه ،.. أو يكون عاجزاً غير قادرٍ ، ففوّضَ إليه أحسنَ أم أساء ، أطاعَ أم عصى ، عاجزاً عن عقوبته وردّه إلى اتّباع أمره .
وفي إثبات العجز نفي القدرة والتّألّه ، وإبطال الأمر والنهي والثواب والعقاب ، ومخالفة الكتاب ؛ إذ يقول : ( وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) (375) ، وقوله عزّ وجلّ : ( آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ) (376) ، وقوله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ ) (377) ، وقوله : ( وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ) (378) ، وقوله : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) (379) .
فمَن دانَ بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطلَ جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده ، وأمره ونهيه ، وهو من أهل هذه الآية : ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) (380) ، تعالى الله عمّا يدين به أهل التفويض علوّاً كبيراً .
لكن نقول : إنّ الله جلّ وعزّ خلقَ الخلق بقدرته ، ومَلّكهم استطاعة تعبّدهم بها ، فأمَرهم ونهاهم بما أراد (381) ، فقبلَ منهم اتّباع أمره ورضي بذلك لهم ، ونهاهم عن معصيته وذمّ مَن عصاه وعاقبه عليها ، ولله الخيرة في الأمر والنهي ، يختار ما يريد ويأمر به ، وينهى عمّا يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التي مَلّكها عباده لاتّباع أمره واجتناب معاصيه ؛ لأنّه ظاهر العدل والنّصفة والحكمة البالغة ، بالغ الحجّة بالإعذار والإنذار ، وإليه الصّفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده ، اصطفى محمداً ( صلّى الله عليه وآله ) وبعثهُ برسالاته إلى خلقه ، فقال مَن قال من كفّار قومه حَسداً واستكباراً : ( لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (382) ، يعني بذلك : أميّة بن أبي الصلت ، وأبا مسعود الثقفي ، فأبطلَ الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول : ( أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) (383) .
ولذلك اختارَ من الأمور ما أحبّ ، ونهى عمّا كره ، فمَن أطاعهُ أثابه ، ومَن عصاه عاقبه ، ولو فوّض اختيار أمره إلى عباده لأجازَ لقريشٍ اختيار أميّة بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي ؛ إذ كانا عندهم أفضل من محمدٍ ( صلّى الله عليه وآله ).
فلمّا أدّبَ الله المؤمنين بقوله : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (384) ، فلم يُجِز لهم الاختيار بأهوائهم ، ولم يقبل منهم إلاّ اتّباع أمره واجتناب نهيه على يدي مَن اصطفاه ، فمَن أطاعه رَشد ، ومَن عصاه ضلّ وغوى ولزَمته الحجّة بما ملّكه من الاستطاعة لاتّباع أمره واجتناب نهيه ، فمن أجل ذلك حَرَمه ثوابه وأنزلَ به عقابه .
وهذا القول بين القولين ليس بجبرٍ ولا تفويض ، وبذلك أخبرَ أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعيّ الأسديّ ، حين سألهُ عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
سألتَ عن الاستطاعة ، تملكها من دون الله أو مع الله ؟
فسكتَ عباية ، فقال له أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : قل يا عباية .
قال : وما أقول ؟
قال ( عليه السلام ) : إن قلت إنّك تَملكها مع الله قتلتُك ! وإن قلت تَملكها دون الله قتلتُك !
قال عباية : فما أقول يا أمير المؤمنين ؟!
قال ( عليه السلام ) : تقول إنّك تملكها بالله الذي يملكها من دونك ، فإن يُملّكها إياّك كان ذلك من عطائه ، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه ،.. هو المالك لِما مَلّكك ، والقادر على ما عليه أقدرك ، أمَا سمعتَ الناس يسألون الحول والقوّة حين يقولون : لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ؟!
قال عباية : وما تأويلها يا أمير المؤمنين ؟
قال ( عليه السلام ) : لا حول عن معاصي الله إلاّ بعصمة الله ، ولا قوّة لنا على طاعة الله إلاّ بعون الله .
قال : فوثبَ عباية فقبّلَ يديه ورجْليه .
ورويَ عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله قال : يا أمير المؤمنين ، بِمَ عرفت ربّك ؟
قال ( عليه السلام ) : بالتمييز الذي خَوّلني ، والعقل الذي دَلّني .
قال : أمجبولٌ أنت عليه ؟
قال : لو كنتُ مجبولاً لمَا كنتُ محموداً على إحسان ، ولا مذموماً على إساءة ، وكان المحسن أَولى باللائمة من المسيء ، فعلمتُ أنّ الله قائم باقٍ ، وما دونه حدَث حائل زائل ، وليس القديم الباقي ، كالحدث الزائل .
قال نجدة : أجدك أصبحتَ حكيماً يا أمير المؤمنين .
قال : أصبحتُ مخيّراً ، فإن أتيتُ السيئة مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها .
ورويَ عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال لرجلٍ بعد انصرافه من الشام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبِرنا بخروجنا إلى الشام ، بقضاءٍ وقدر ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم يا شيخ ، ما عَلوتم تلعةً ، ولا هبطتم وادياً ، إلاّ بقضاءٍ وقَدرٍ من الله .
فقال الشيخ : عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين ؟
فقال : مه يا شيخ ؛ فإنّ الله قد عظّمَ أجركم في مسيركم وأنتم سائرون ، وفي مقامكم وأنتم مقيمون ، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في شيءٍ من أموركم مكرَهين ولا إليه مضطرّين !
لعلّك ظننتَ أنّه قضاء حتم وقدر لازم ؟! لو كان ذلك كذلك لبطلَ الثواب والعقاب ، ولسقطَ الوعد والوعيد ، ولمّا ألزَمت الأشياء أهلها ـ الأسماء أهلها ـ على الحقائق ، ذلك مقالة عَبَدة الأوثان وأولياء الشيطان .
إنّ الله جلّ وعزّ أمرَ تخييراً ، ونهى تحذيراً ، ولم يُطَع مكرهاً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يخلق السّماوات والأرض وما بينهما باطلاً ، ذلك ظنّ الّذين كفروا فويل للّذين كفروا من النّار !
فقامَ الشيخ فقبّلَ رأس أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأنشأ يقول :
أنت الإمام الّذي نرجو بطاعته = يوم النّجاة من الرحمان غفرانا
أوضحتَ من ديننا ما كان مُلتبساً = جزاك ربّك عنّا فيه رضوانا
فليس معذرةً في فعل فاحشةٍ = قد كنت راكبها ظلماً وعصيانا
فقد دلّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) على موافقة الكتاب ، ونفي الجبر والتفويض اللّذين يلزمان مَن دانَ بهما وتقلّدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ، ونعوذ بالله من الضلالة والكفر ، ولسنا ندين بجبرٍ ولا تفويض ، لكنّا نقول بمنزلةٍ بين المنزلتين ، وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي مَلّكنا الله وتعبّدَنا بها على ما شهدَ به الكتاب ، ودانَ به الأئمة الأبرار من آل الرّسول صلوات الله عليهم .
ومثّلَ الاختبار ـ الاختيار ـ بالاستطاعة ، مثلُ رجلٍ مَلَك عبداً ومَلك مالاً كثيراً ، أحبّ أن يَختبر عبده على علمٍ بما يؤول إليه ، فمَلّكه من ماله بعض ما أحبّ ووقفه ـ وافقه ـ على أمورٍ عرّفها العبد ، فأمرهُ أن يصرف ذلك المال فيها ، ونهاه عن أسبابٍ لم يحبّها ، وتقدّمَ إليه ـ أمَرَهُ ـ أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها ، والمال يتصرّف في أيّ الوجهين ،.. فصُرِف في اتّباع نهيه وسخطه ، وأسكنهُ دار اختيارٍ أعلَمهُ أنّه غير دائمٍ له السّكنى في الدار ، وأنّ له داراً غيرها وهو مخرجه إليها ، فيها ثواب وعقاب دائمان .
فإنْ أنفذَ العبد المال الذي مَلّكه مولاه في الوجه الذي أمره به ، جَعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمهُ أنّه مخرجه إليها ، وإن أنفقَ المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه ، جعلَ له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود ، وقد حَدّ المولى في ذلك حدّاً معروفاً وهو المسكن الذي أسكنهُ في الدار الأولى ، فإذا بلغَ الحدّ استبدلَ المولى بالمال وبالعبد ، على أنّه لا يزال مالكاً للمال والعبد في الأوقات كلّها ، إلاّ أنّه وَعَده أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الأولى ، إلى أن يستتمّ سكناه فيها ، فوفى له ؛ لأنّ من صفات المولى : العدل ، والوفاء ، والنّصفة ، والحكمة .
أوَ ليس يجب إن كان العبد صرفَ ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وَعدهُ من الثواب ، وتفضّلَ عليه بأن استعملهُ في دارٍ فانيةٍ وأثابه على طاعته فيها نعيماً دائماً في دارٍ باقيةٍ دائمة ؟!
وإن صرفَ العبد المال الذي مَلّكه مولاه أيّام سكناه تلك الدار الأولى في الوجه المنهيّ عنه وخالفَ أمر مولاه ، كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذّره إيّاها ، غير ظالم له لِما تقدّم إليه وأعلَمه وعرّفه وأوجبَ له الوفاء بوعده ووعيده ، بذلك يوصف القادر القاهر .
وأمّا المولى ، فهو الله جلّ وعزّ .
وأمّا العبد ، فهو ابن آدم ، المخلوق ، والمال قدرة الله الواسعة .
ومحنتهُ ـ أي اختباره ـ إظهاره الحكمة والقدرة ، والدار الفانية هي الدّنيا ، وبعض المال الذي مَلّكه مولاه هو الاستطاعة التي مِلك ابن آدم .
والأمور التي أمرَ الله بصرف المال إليها الاستطاعة لاتّباع الأنبياء ، والإقرار بما أوردوه عن الله جلّ وعزّ .
واجتناب الأسباب التي نهى عنها هي طُرق إبليس ، وأمّا وعده فالنّعيم الدائم ، وهي الجنّة ، وأمّا الدار الفانية فهي الدّنيا ، وأمّا الدار الأخرى فهي الدار الباقية ، وهي الآخرة .
والقول بين الجبر والتفويض ، هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي مِلك العبد .
وشَرحُها في الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق ( عليه السلام ) (385) ، أنّها جَمعت جوامع الفضل ، وأنا مفسّرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء الله .
تفسير صحّة الخلقة :
أمّا قول الصادق ( عليه السلام ) ، فإنّ معناه كمال الخلق للإنسان ، وكمال الحواسّ ، وثبات العقل ، والتمييز ، وإطلاق اللّسان بالنّطق ، وذلك قول الله : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (386) ، فقد أخبرَ عزّ وجلّ عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم ، والسّباع ، ودوابّ البحر ، والطّير ، وكلّ ذي حركةٍ تدركه حواسّ بني آدم بتمييز العقل والنّطق ، وذلك قوله : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (387) ، وقوله : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ ) (388) ، وفي آياتٍ كثيرة .
فأول نعمةٍ على الإنسان : صحّة عقله ، وتفضيله على كثيرٍ من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان ؛ وذلك أنّ كلّ ذي حركة على بسيط الأرض هو قائم بنفسه بحواسّه ، مستكمل في ذاته ، ففضّلَ بني آدم بالنّطق الذي ليس في غيره من الخلق المُدرك بالحواسّ .
فمن أجل النّطق مَلّك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمراً ناهياً ، وغيره مسخّر له كما قال الله : ( كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ) (389) ، وقال : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) (390) ، وقال : ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ... ) (391) .
فمن أجل ذلك دعا الله الإنسان إلى اتّباع أمره ، وإلى طاعته ، بتفضيله إيّاه باستواء الخلق ، وكمال النّطق والمعرفة ، بعد أن مَلّكهم استطاعة ما كان تعبّدهم به بقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا... ) (392) ، وقوله : ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) (393) ، وقوله : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاّ مَا آتَاهَا ) (394) ، وفي آياتٍ كثيرة .
فإذا سَلبَ من العبد حاسّةً من حواسّه رفعَ العمل عنه بحاسّته كقوله : ( لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ..) (395) الآية ، فقد رفعَ عن كلّ مَن كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الأعمال التي لا يقوم بها ، وكذلك أوجبَ على ذي اليسار الحجّ والزّكاة لِما مَلّكه من استطاعة ذلك ، ولم يوجِب على الفقير الزّكاة والحجّ في قوله : ( وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (396) ، وقوله في الظهار : ( وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ـ إلى قوله ـ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ) (397) ؛ كلّ ذلك دليل على أنّ الله تبارك وتعالى لم يكلّف عباده إلاّ ما مَلّكهم استطاعته بقوّة العمل به ، ونهاهم عن مثل ذلك فهذه صحّة الخلْقة .
وأمّا قوله : تخلية السِّرب : فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمرهُ الله به ، وذلك قوله في مَن استضعفَ وحظرَ عليه العمل ، فلم يجد حيلةً ولا يهتدي سبيلاً كما قال الله تعالى : ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ) (398) ، فأخبرَ أنّ المستضعف لم يخلَّ سِرْبه وليس عليه من القول شيء ، إذا كان مطمئنّ القلب بالإيمان .
وأمّا المهلة في الوقت : فهو العمر الذي يُمتّع الإنسان من حدّ ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت ، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحكم إلى أن يأتيه أجله ، فمَن ماتَ على طلب الحقّ ولم يدرِك كماله ، فهو على خير ، وذلك قوله : ( وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ) (399) الآية ، وإن كان لم يعمل بكمال شرائعه لعلّةٍ ما ، لم يُمهله في الوقت إلى استتمام أمره ، وقد حظرَ على البالغ ما لم يحظر على الطّفل إذا لم يبلغ الحُلُم في قوله : ( وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ..) (400) الآية ، فلم يجعل عليهنّ حَرجاً في إبداء الزّينة للطّفل ، وكذلك لا تجري عليه الأحكام .
وأمّا قوله : الزّاد : فمعناه الجِدَة ـ أي الغنى والقدرة ـ والبُلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به ، وذلك قوله : ( مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ..) (401) ، ألا ترى أنّه قَبلَ عُذر مَن لم يجد ما ينفق ، وألزمَ الحجّة كلّ مَن أمكنَته البلغة والراحلة للحجّ والجهاد وأشباه ذلك ؟ وكذلك قَبلَ عذر الفقراء ، وأوجبَ لهم حقّاً في أموال الأغنياء بقوله : ( لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ، فأمرَ بإعفائهم ولم يُكلّفهم الإعداد لِما لا يستطيعون ولا يملكون .
وأمّا قوله في السبب المهيّج : فهو النيّة التي هي داعية الإنسان إلى جميع الأفعال ، وحاسّتها القلب ـ وحاسّته العقل ـ ، فمَن فعلَ فعلاً وكان بدينٍ لم يعقد قلبه على ذلك ، لم يقبل الله منه عملاً إلاّ بصدق النيّة ؛ ولذلك أخبرَ عن المنافقين بقوله : ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) (402) .
ثمّ أنزلَ على نبيّه ( صلّى الله عليه وآله ) توبيخاً للمؤمنين : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ) (403) ، فإذا قال الرجل قولاً واعتقدَ في قوله دَعته النيّة إلى تصديق القول بإظهار الفعل ، وإذا لم يعتقد القول لم تتبيّن حقيقته ، وقد أجازَ الله صدق النيّة وإن كان الفعل غير موافقٍ لها لعلّة مانعٍ يمنع إظهار الفعل في قوله : ( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) (404) ، وقوله : ( لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ ) (405) فدلّ القرآن ، وأخبار الرسول ( صلّى الله عليه وآله ) ، أنّ القلب مالك لجميع الحواسّ ، يُصحّح أفعالها ، ولا يبطل ما يصحّح القلب شيء .
فهذا شرحُ جميع الخمسة الأمثال التي ذكرها الصادق ( عليه السلام ) ، أنّها تجمع المنزلة بين المنزلتين ، وهما الجبر والتفويض ، فإذا اجتمعَ في الإنسان كمال هذه الخمسة الأمثال ، وجبَ عليه العمل كملاً لِما أمرَ الله عزّ وجلّ به رسوله ، وإذا نقصَ العبد منها خلّة كان العمل عنها ـ عنه ـ مطروحاً بحسب ذلك .
فأمّا شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تَجمع القول بين القولين فكثيرة ، ومن ذلك قوله : ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (406) ، وقال : ( سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ) (407) ، وقال : ( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ ) (4078) .
وقال في الفِتن التي معناها الاختبار : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ ) (409) ، وقال في قصّة موسى ( عليه السلام ) : ( فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ) (410) ، وقول موسى : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ) (411) أي : اختبارك ، فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ، ويشهد بعضها لبعض .
وأمّا آيات البلوى بمعنى الاختبار ، قوله : ( لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم ) (412) ، وقوله : ( ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ ) (413) ، وقوله : ( إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ) (414) ، وقوله : ( خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (415) ، وقوله : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) (416) ، وقوله : ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ) (417) ، كلّ ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرحَ أولها فهي اختبار ، وأمثالها في القرآن كثيرة ، فهي إثبات الاختبار والبلوى .
إنّ الله جلّ وعزّ لم يخلق الخلق عَبثاً ، ولا أهملهم سدىً ، ولا أظهرَ حكمته لعباً ، وبذلك أخبرَ في قوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) ؟! (418) .
فإنْ قال قائل : فلَم يَعلم الله ما يكون من العباد حتى اختَبرهم ؟!
قلنا : قد عَلمَ ما يكون منهم قبل كونه ، وذلك قوله : ( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) (419) ، وإنّما اختبرهم ليعلمهم عدله ، ولا يعذّبهم إلاّ بحجّةٍ بعد الفعل ، وقد أخبرَ بقوله : ( وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً ) ًًً(420) ، وقوله : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (421) ، وقوله : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِين ) َ(422) .
فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملّكها عبده ، وهو القول بين الجبر والتفويض ، وبهذا نطقَ القرآن وجَرت الأخبار عن الأئمّة من آل الرّسول ( صلّى الله عليه وآله )
فإن قالوا : ما الحجّة في قول الله : ( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ، و ( يُضِلُّ مَنْ يَشَاء ) ُ(423) وما أشبهها ؟!
قيل : مجاز هذه الآيات كلّها على معنيين :
أمّا أحدهما : فإخبار عن قدرته ، أي أنّه قادر على هداية مَن يشاء ، وضلال مَن يشاء ، وإذا أجبرَهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب ، على نحو ما شرحنا في الكتاب .
والمعنى الآخر : أنّ الهداية منه تعريفه ، كقوله : ( وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ ـ أي عرّفناهم ـ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى ) (424) ، فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلّوا ، وليس كلّما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجّةً على محكم الآيات اللّواتي أُمِرنا بالأخذ بها ، من ذلك قوله : ( مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (425) ، وقال : ( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ـ أي أحكمهُ وأشرحه ـ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) (426) .
وفّقنا الله وإيّاكم إلى القول والعمل لِما يحبّ ويرضى ، وجنّبنا وإيّاكم معاصيه بمَنّه وفضله ، والحمد لله كثيراً كما هو أهله ، وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ) (427) .

ولا يخفى أنّ التعليق على هذا البيان الكريم يحطّ من شأنه ؛ إذ إنّ أيّ كلامٍ ترعف به الأقلام ، يقصر عن الوصول إلى تحليل بلاغة ما يقول هذا الإمام ( عليه السلام ) ، وكلّ إمامٍ من آبائه وأبنائه..
ولن نعرض إلى ما روي عنه ( عليه السلام ) من أحاديث في مختلف المواضيع وأكثر الأحكام الفقهية ؛ خوف الإطالة ، فإنّه قد أدّى قسطه من نشر أوامر الله تعالى وإحقاق الحقّ ، وإنكار الباطل ، والوقوف في وجه أهل المروق ، ولم يصانع غير وجه ربّه الذي كفاه الوجوه كلّها ، ثمّ أمسكَ بقلوب شيعته ووجّههم نحو الالتفات حول علمائهم ومراجعهم الّذين تفقّهوا في الدّين وكانوا أهل علمٍ ، وفضلٍ ، وتقوى ، وورعٍ ، ليبقوا على الخطّ المستقيم ويكونوا من الفائزين ؛ ولذلك نكتفي بذكر نزرٍ يسيرٍ ممّا روي عنه ( عليه السلام ) في مواضع هامّةٍ ، كقوله :
( لولا مَن يبقى بعد غيبة قائمكم ( عليه السلام ) من العلماء الدّاعين إليه ، والدالّين عليه ، والذابّين عن دينه بحجج الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شِباك إبليس ومَردته ومن فخاخ النّواصب ؛ لمَا بقيَ أحد إلاّ ارتدّ عن دين الله ! ولكنّهم الّذين يمسكون أزمّة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك صاحب السفينة سكّانها ـ أي مَقوَدها الذي يوجّه سَيرها ـ أولئك هم الأفضلون عند الله عزّ وجلّ ) (428) .
ويتضّح من قوله الشريف هذا : أنّه قد افتتحَ عهداً جديداً سيلاقيه شيعته عمّا قريبٍ ، وذلك حين تقع غيبة حفيده الإمام الثاني عشر ( عليه السلام ) وعجّل الله تعالى فرجه ، فيلجأ الشيعة إلى المراجع من علمائهم الربّانيّين ، ليأخذوا عنهم معالم دينهم فلا يضلّون مع مَن ضل ،.. ثمّ أخذَ يهيّئهم لتلك الغيبة والفترة الحيّرة وطول الانتظار ؛ ليكونوا على بصيرةٍ من الأمر قبل وقوعه ، وليكونوا على مستوى المعرفة بعقيدتهم ، والدفاع عنها والبرهنة على صحّتها ، وفي مركز الجدارة لحمل المسؤولية في وجه المنكرين والمكابرين .
وقد نبّه ـ صلوات الله عليه ـ شيعته إلى ما سيفجأهم من عدم رؤية حفيده القائم بالقسط صلوات الله عليه وتحياته وبركاته ؛ لحكمةٍ اقتضاها الله سبحانه وتعالى ، وليهلك مَن هلكَ عن بينةٍ ، ويحيا مَن حيّ عن بينة ، ثمّ هيّأهم للصبر على ما يلقونه ممّن يناصبهم العداء ، ليثبتوا على الحقّ ، وكان من جملة ما قاله في ذلك ( عليه السلام ) :
( الخَلفُ من بعدي ابني الحسن ، فكيف بكم بالخَلف بعد الخَلف ؟!
قيل : ولِمَ ، جُعلنا فداك ؟!
قال : لأنّكم لا ترونَ شَخصه ، ولا يحلّ لكم ذكر اسمه .
فقيل له : كيف نذكره ؟
قال : قولوا : الحجّة من آل محمد ) (429) .
فهو ـ تحيات الله ورضوانه عليه ـ يخبر بذلك ، ويهيّئ الأذهان ، ويُنذر ، ويُخطّط لمستقبل طويلٍ يعانيه الشيعة بعد غيبة حفيده المهديّ المنتظر عجّل الله تعالى فرجه وسهّل مخرجه ؛ ليقيم العدل في الأرض بعد أن مُلئت ظلماً وجوراً ،.. وقضى بقيّة فترة شبابه إرشاداً لأصحابه ، وتطبيعاً لهم على الحياة في ظلّ إمامٍ غائبٍ مستورٍ عن أعين الظّلمة المتربّصين به لقتله إذا ظفروا به ،.. ثمّ أسلمَ ذلك لولده الإمام العسكريّ ( عليه السلام ) ليكمل تلك المرحلة من التهيئة والتطبيع .
وقد سُئل الإمام ( عليه السلام ) عن موعد ظهور حفيده المنتظر ( عليهما السلام ) ؟ فقال :
( إذا رُفِع عِلمكم من بين أظهركم ، فتوقّعوا الفرَج من تحت أقدامكم ) (430) ، وقد رُفِع العلم من الصدور ، وضاعَ الناس في القشور ، وضلّوا عن اللّباب .

وممّا روي عنه ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، قوله :
( قال رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) : لمّا أُسريَ بي إلى السماء الرابعة نظرتُ إلى قبّةٍ من لؤلؤ لها أربعة أركان ، وأربعة أبواب ، كلّها من استبرقٍ أخضر ، قلت : يا جبرائيل ما هذه القبّة التي لم أرَ في السماء الرابعة أحسن منها ؟!
فقال : حبيبي محمد ، هذه صورة مدينةٍ يقال لها : قمّ ، يجتمع فيها عباد الله المؤمنون ، ينتظرون محمداً وشفاعته للقيامة والحساب ، يجري عليهم الغمّ والهمّ والأحزان والمكاره .
قال ( الراوي ) : فسألت عليّ بن محمدٍ العسكريّ ( عليه السلام ) : متى ينتظرون الفرَج ؟
قال : إذا ظهرَ الماء على وجه الأرض ) (431) .
وظهور الماء على وجه الأرض يكون عند فيضانٍ عظيم لنهر دجلة تغرق فيه أزقّة الكوفة ، وقد أشارت إليه أخبار أخرى بالتفصيل ليس هنا محلّ ذكرها .
فما أقوى إيمان هذا الإمام الذي يروي ذلك عن آبائه ، عن جدّه الأكبر أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) جميعاً ، بشأن بلدةٍ نائيةٍ عنه ، كانت غارقةً في المجوسية ـ يومئذٍ ـ إلى ما فوق قمّة رأسها ، وهو يقول ـ باطمئنانٍ ـ : ( يجتمع فيها عباد الله المؤمنون المنتظرون ) !
وإنّه ليقولها فما يُصدّقه يوم قالها إلاّ مَن امتحنَ الله قلبه للإيمان ،.. أمّا الأكثرية الساحقة من سواد الناس فتقول : هذا كلام غير مسؤول.. ورجْم بالغيب ! فما هو رأيُنا ـ اليوم ـ بهذا القول ، بعد أن فسّرته لنا الأيّام فيما فسّرت من أقوال أئمّتنا الصادقين صلوات الله وسلامه عليهم ؟!
الجواب : عند مَن مَنحهُ الله تعالى القدرة على الإذعان للحقّ.. فقط ؛ لأنّ مدينة قمّ ـ التي كانت بؤرة مجوسيّةٍ يومذاك ـ أصبحت اليوم منارة علمٍ ومنار هدىً ومركزاً للمرجعية الإسلامية الواسعة ، ومكان انتظارٍ للفرج القريب إن شاء الله تعالى .

ومن حِكمه وأقواله الكريمة ( عليه السلام ) :
( مَن رضيَ عن نفسه ، كثرَ السّاخطون عليه ) .
( راكب الحَرون أسير نفسه ، والجاهل أسير لسانه ) .
( النّاس في الدّنيا بالأموال ، وفي الآخرة بالأعمال ) .
( المصيبة للصابر واحدة ، وللجازع اثنتان ) .
( الهزَل ـ الهزء ـ فكاهة السفهاء وصناعة الجهّال ) !
( السهر ألذّ المنام ، والجوع يزيد في طيب الطعام ) ـ يريد ( عليه السلام ) بالسّهر الحثّ على قيام الليل بالعبادة ، وصيام النّهار ـ .
( اُذكر مصرعك بين أهلك ، فلا طبيب يمنعك ، ولا حبيب ينفعك ) .
( المقادير تريك ما لا يخطر ببالك ) .
وقال ( عليه السلام ) لرجل ، وقد أكثر من إفراط الثناء عليه :
( أقبل على شأنك ؛ فإنّ كثرة المَلَق يهجم على الظّنة ، وإذا حللتَ من أخيك في محلّ الثقة فاعدل عن المَلق إلى حُسن النيّة ) ـ والمَلق : التودّد والتذلّل باللسان دون القلب
( الحكمةُ لأنجع في الطّباع الفاسدة ) .
( إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجَور ، فحرام أن تظنّ بأحدٍ سوءاً حتى تعلم ذلك ، وإذا كان زمان الجَور فيه أغلب من العدل ، فليس لأحدٍ أن يظنّ بأحدٍ خيراً حتى يرى ذلك منه ) (432) .

وقال سهل بن زياد : ( كتبَ إليه بعض أصحابنا يسأله دعوةً جامعةً للدّنيا والآخرة ، فكتبَ إليه :
( أكثِر من الاستغفار والحمد ؛ فإنّك تدرك بذلك الخير كلّه ) .

وقال للمتوكل في جواب كلامٍ دارَ بينهما :
( لا تطلب الصفاء ممّن كدّرتَ عليه ، ولا الوفاء ممّن غدرتَ به ، ولا النّصح ممّن صرفتَ سوء ظنّك إليه ، فإنّما قلب غيرك كقلبك له ) .

قال ( عليه السلام ) لبعض مواليه : ( عاتِب فلاناً وقل له : إنّ الله إذا أرادَ بعبدٍ خيراً ، إذا عوتِبَ قَبِلَ ) (433) .
وقال ( عليه السلام ) :
( إنّ لله بقاعاً يَحبّ أن يُدعى فيها فيستجيب لِمن دعاه ، والحَيْر ـ كربلاء ـ منها ) .
( مَن اتّقى الله يُتّقى ، ومَن أطاعَ الله يُطاع ، ومَن أطاع الخالق لم يبالِ سخط المخلوقين ، ومَن أسخطَ الخالق فليوقِن أن يحلّ به سخط المخلوقين ) .
( مَن أمنَ مكر الله وأليم أخْذه ، تكبّرَ حتى يَحلّ به قضاؤه ونافذ أمره ، ومَن كان على بيّنةٍ من ربّه هانَت عليه مصائب الدّنيا ولو قُرّض ونُشر..) .
( الشاكر أسعد بالشّكر منه بالنّعمة التي أوجبت الشّكر ؛ لأنّ النِعَم متاع ، والشكر نِعم وعُقبى ) .
( إنّ الله جعلَ الدّنيا دار بلوى ، والآخرة دار عقبى ، وجعلَ بلوى الدّنيا لثواب الآخرة سبباً ، وثواب الآخرة من بلوى الدّنيا عوضاً ) .
( إنّ الظالم الحالم يكاد أن يُعفى على ظلمه بحِلمه ، وإنّ المحقّ السّفيه يكاد أن يطفئ نور حقّه بسفهه ) .
( مَن جَمعَ لك ودّه ورأيه ، فاجمَع له طاعتك ) .
( مَن هانت عليه نفسه ، فلا تأمن شرّه ) .
( الدّنيا سوق ، ربحَ فيها قوم ، وخسرَ آخرون..) .

وقال أبو هاشم الجعفريّ رحمه الله تعالى :
( دخلتُ على أبي الحسن ، صاحب العسكر ( عليه السلام ) ، فجاء صبيّ من صبيانه فناولهُ وردةً أو ريحانةً ووضَعها على عينيه ، ثمّ ناولنيها وقال : ( يا أبا هاشم مَن تناولَ وردة أو ريحانة فقبّلها ووضعها على عينيه ، ثمّ صلّى على محمد والأئمة صلوات الله عليهم ، كتبَ الله له من الحسنات مثل رمل عالِج ، ومَحا عنه من السيئات مثل ذلك ) (434) .
وقال ( عليه السلام ) : ( إنّ أكل البطّيخ يورث الجذام .
فقيل له : أليس قد أمنَ المؤمن إذا أتى عليه أربعون سنةً من الجنون والجذام والبرص ؟
قال ( عليه السلام ) : نعم ، ولكن إذا خالفَ المؤمن ما أُمرَ به ممّن آمنهُ ، لم يأمن أن تصيبه عقوبة الخلاف ) !

الزيارة الجامعة
هذه الزيارة من المرويّات عن إمامنا عليّ الهادي ( عليه السلام ) ، وهي من الفصاحة والبلاغة على جانب عظيمٍ يكاد لا يبلغ شأوه ، ومن الإحاطة والشمول بمكانٍ قلّ نظيره ؛ لأنّ فيها من المعاني الكريمة ما يجعل الإنسان يتعجّب من هذا البحر ، وذلك النّحت من الصّخر ، إذ يحار وهو يقرأها من القريحة الفيّاضة التي ابتدعتها ، ومن القلب الكبير الذي احتوى معانيها ، ومن الفكر الحصيف الذي أنشأها لمجرّد اقتراحها عليه !
بل إنّه ليقف دهشاً أمام اللفظ الذي يزري بالجواهر ، والمعاني الأبكار التي يقف الفكر أمامها مبهوراً يُسبّح الله تعالى ويقدّسه ، حين يرى ما وهبَ الله تبارك وتعالى أئمّة أهل هذا البيت صلوات الله عليهم من سَنيّ العطاء ، وسخيّ الفضل ، وجزيل العلم والمعرفة ،.. وهي ـ كما وصفها راويها ـ تحتوي ( قولاً بليغاً كاملاً ) يتجلّى فيه التوحيد بأصدق معاني التوحيد ، والشهادة للرسول بأحقّ الشهادة وأرسخها إيماناً ،.. وقد صرّح العلاّمة المجلسيّ أعلى الله مقامه بأنّ : ( هذه الزيارة هي أرقى الزيارات الجامعة متناً وسنداً ) .
فقد روى الصّدوق في ( الفقيه ) و( العيون ) عن موسى بن عبد الله النخعيّ ، أنّه قال للإمام عليّ النقيّ ( صلّى الله عليه وآله ) : عَلِّمني يا بن رسول الله قولاً أقوله بليغاً كاملاً ، إذا زرتُ واحداً منكم .
فقال : ( إذا صرتَ إلى الباب فقِف واشهد الشهادتين ، أي قل :
( أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً صلّى الله عليه وآله عبده ورسوله ) ، وأنت على غُسل .
فإذا دخلتَ ورأيت القبر ، فقف وقل : ( الله أكبر ) ثلاثين مرةً .
ثمّ امشِ قليلاً ، وعليك السكينة والوقار ، وقارب بين خُطاك ، ثمّ قف وكبّر الله عزّ وجلّ ثلاثين مرة ، ثمّ اُدنُ من القبر وكبّر الله أربعين مرةً ، تمام مئة تكبيرة ، ثمّ قل :
( السّلام عليكم يا أهل بيت النّبوّة ، وموضع الرّسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الوحي ، ومعدن الرّحمة ، وخزّان العلم ، ومنتهى الحِلم ، وأصول الكرَم ، وقادة الأُمم ، وأولياء النِّعم ، وعناصر الأبرار ، ودعائم الأخيار ، وساسة العباد ، وأركان البلاد ، وأبواب الإيمان ، وأُمناء الرحمان ، وسلالة النّبيّين ، وصفوة المرسلين ، وعترة خيرة ربّ العالمين ، ورحمة الله وبركاته .
السّلام على محالّ معرفة الله ، ومساكن بركة الله ، ومعادن حكمة الله ، وحَفظة سرّ الله ، وحَملة كتاب الله ، وأوصياء نبيّ الله ، وذرّيّة رسول الله ( صلّى الله عليه وآله ) ، ورحمة الله وبركاته .
السّلام على الدّعاة إلى الله ، والأدلاّء على مرضاة الله ، والمستقرّين ـ والمستوفرين ـ في أمر الله ، والتّامّين في محبّة الله ، والمخلصين في توحيد الله ، والمظهرين لأمر الله ونهْيِه ، وعباده المكرَمين الّذين لا يسبقونه بالقول ، وهم بأمره يعملون ، ورحمة الله و بركاته .
السّلام على الأئمة الدّعاة ، والقادة الهداة ، والسّادة الولاة ، والذّادة الحماة ، وأهل الذّكر ، وأولي الأمر ، وبقيّة الله وخيرته وحزبه ، وعَيبة علمه وحجّته وصراطه ونوره وبرهانه ، ورحمة الله وبركاته .
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، كما شهدَ الله لنفسه ، وشهدت له ملائكته ، وأولو العلم من خلقه ، لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم ، وأشهد أنّ محمّداً عبده المنتجب ، ورسوله المرتضى ، أرسلهُ بالهدى ودين الحقّ ، ليظهره على الدّين كلّه ولو كره المشركون .
وأشهدُ أنّكم الأئمّة الرّاشدون ، المهديّون المعصومون ، المكرّمون المقرّبون ، المتّقون الصّادقون ، المصطفَون المطيعون لله ، القوّامون بأمره ، العاملون بإرادته ، الفائزون بكرامته ، اصطفاكم بعلمه ، وارتضاكم لغيبه ، واختاركم لسرّه ، واجتباكم بقدرته ، وأعزّكم بهداه ، وخَصّكم ببرهانه ، وانتَجبكم لنوره ـ بنوره ـ وأيّدكم بروحه ، ورضيَكم خلفاء في أرضه ، وحججاً على بريّته ، وأنصاراً لدينه ، وحَفظةً لسرّه ، وخَزنةً لعلمه ، ومستودعاً لحكمته ، وتراجمةً لوحيه ، وأركاناً لتوحيده ، وشهداء على خلقه ، وأعلاماً لعباده ، ومناراً في بلاده ، وأدلاّء على صراطه .
عَصَمكم الله من الزّلل ، وآمَنكم من الفتن ، وطهّركم من الدّنس ، وأذهبَ عنكم الرّجس وطهّركم تطهيراً ، فعظّمتم جلاله ، وأكبرتُم شأنه ، ومجّدتم كرمه ، وأدَمتم ـ وأدمنتم ـ ذِكره ، ووكّدتم ـ وذكّرتم ـ ميثاقه ، وأحكَمتم عقْد طاعته ، ونَصحتم له في السّرّ والعلانية ، ودعوتم إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبَذلتم أنفسكم في مرضاته ، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه ـ حبّه ـ وأقمتم الصّلاة وآتيتم الزّكاة ، وأمَرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر ، وجاهدتم في الله حقّ جهاده ، حتّى أعلنتم دعوته ، وبيّنتم فرائضه ، وأقمتم حدوده ، ونشرتم ـ وفسّرتم ـ شرائع أحكامه ، وسَننتم سنّته ، وصَبرتم في ذلك منه إلى الرّضا ، وسَلّمتم له القضاء ، وصدّقتم من رُسله مَن مضى ، فالرّاغب عنكم مارِق ، واللاّزم لكم لاحق ، والمقصّر في حقّكم زاهق ، والحقّ معكم وفيكم ، ومنكم وإليكم ، وأنتم أهله ومعدنه ، وميراث النّبوّة عندكم ، وإياب الخَلق إليكم ، وحسابهم عليكم ، وفَصلُ الخطاب عندكم ، وآيات الله لديكم ، وعزائمه فيكم ، ونوره وبرهانه
عندكم ، وأمرهُ إليكم ، مَن والاكم فقد والى الله ، ومَن عاداكم فقد عادى الله ، ومَن أحبّكم فقد أحبّ الله ـ ومَن أبغضكم فقد أبغضَ الله ـ ومَن اعتصمَ بكم فقد اعتصم بالله ، أنتم الصّراط الأقوَم ، وشهداء دار الفناء ، وشفعاء دار البقاء ، والرّحمة الموصولة ، والآية المخزونة ، والأمانة المحفوظة ، والباب المبتلى به النّاس ، مَن أتاكم نجا ، ومَن لم يأتكم هَلك ، إلى الله تَدعون ، وعليه تدلّون ، وبه تؤمنون ، وله تُسلّمون ، وبأمره تعملون ، وإلى سبيله ترشدون ، وبقوله تحكمون .
سعدَ مَن والاكم ، وهلكَ مَن عاداكم ، وخابَ مَن جحدكم ، وضلّ مَن فارقكم ، وفاز مَن تمسّك بكم ، وأمِن مَن لجأ إليكم ، وسلمَ مَن صدّقكم ، وهُدي مَن اعتصمَ بكم .
مَن اتّبعكم فالجنّة مأواه ، ومَن خالفكم فالنّار مثواه ، ومَن جَحدكم كافر ، ومَن حاربكم مشرك ، ومَن ردّ عليكم في أسفل دركٍ من الجحيم .
أشهد أنّ هذا سابق بكم فيما مضى ، وجارٍ لكم فيما بقي ، وأنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة طابت وطهُرت بعضها من بعض ، خَلَقكم الله أنواراً ، فَجعلكم بعرشه مُحدقين حتّى مَنّ علينا بكم ، فجَعلكم في بيوتٍ أذِنَ الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه ، وجعلَ صلاتنا ـ صلواتنا ـ عليكم وما خصّنا به من ولايتكم طيباً لخلقنا ، وطهارةً لأنفسنا ـ وتزكيةً ـ وبركةً لنا ، وكفّارةً لذنوبنا ، فكنّا عنده مُسلّمين بفضلكم ، ومعروفين بتصديقنا إيّاكم ، فبلغَ الله بكم أشرفَ محلّ المكرّمين ، وأعلى منازل المقرّبين ، وأرفع درجات المرسلين ، حيث لا يلحقه لاحق ، ولا يفوته فائت ، ولا يسبقه سابق ، ولا يطمع في إدراكه طامع ، حتّى لا يبقى مَلكٌ مقرّب ، ولا نبيّ مرسل ، ولا صدّيق ولا شهيد ، ولا عالِم ، ولا جاهل ، ولا دنيّ ، ولا فاضل ، ولا مؤمن صالح ، ولا فاجر طالح ، ولا جبّار عنيد ، ولا شيطان مريد ، ولا خَلق فيما بين ذلك شهيد ، إلاّ عرّفهم جلالة أمرِكم ، وعِظم خطرِكم وكِبر شأنكم ، وتمام نوركم ، وصِدق مقاعدكم ، وثبات مقامكم ، وشرفَ مَحلّكم ومنزلتكم عنده .
بأبي أنتم وأمّي ، وأهلي ومالي وأُسرتي ، أُشهدُ الله وأُشهدكم أنّي مؤمن بكم وبما آمنتم به ، كافر بعدوّكم وبما كفرتم به ، مستبصر بشأنكم وبضلالة مَن خالفكم ، موال لكم ولأوليائكم ، مبغض لأعدائكم ومعادٍ لهم ، سِلمٌ لِمن سالمكم ، وحرب لِمن حاربكم ، محقّق لِما حقّقتم ، مبطل لِما أبطلتم ، مطيع لكم ، عارف بحقّكم ، مقرّ بفضلكم ، ـ محتملٌ لعلمكم ـ محتجب بذمّتكم ، معترف بكم ، مؤمن بإيابكم ، مصدّق برجعتكم ، منتظر لأمركم ، مرتقب لدولتكم ، آخذ بقولكم ، عامل بأمركم ، مستجير بكم ، زائر لكم ، لائذ عائذ بقبوركم ، مستشفع إلى الله عزّ وجلّ بكم ، ومتقرّب بكم إليه ، ومُقدّمكم أمام طلِبتي وحوائجي وإرادتي في كلّ أحوالي وأموري ، مؤمن بسرّكم وعلانيتكم ، وشاهدكم وغائبكم ، وأوّلكم وآخركم ، ومفوّض في ذلك كلّه إليكم ، ومُسلّم فيه معكم ، وقلبي لكم مُسلّم ـ سِلم ـ ورأيي لكم تَبَع ، ونُصرتي لكم مُعدّة ، حتّى يُحيي الله تعالى دينهُ بكم ، ويَردّكم في أيّامه ، ويظهركم لِعدله ، ويُمكّنكم في أرضه .
فمعكم معكم ، لا مع غيركم ، ـ لا مع عدوّكم ـ آمنتُ بكم ، وتولّيت آخركم بما تولّيت به أوّلكم ، وبرئت إلى الله عزّ وجلّ من أعدائكم ، ومن الجبت والطّاغوت ، ومن الشّياطين وحزبهم الظّالمين لكم ـ و ـ الجاحدين لحقّكم ، والمارقين من ولايتكم ، والغاصبين لإرثكم ـ و ـ الشّاكّين فيكم ـ و ـ المنحرفين عنكم ، ومن كلّ وليجةٍ دونكم ، وكلّ مطاعٍ سواكم ، ومن الأئمّة الّذين يدعون إلى النّار .
فثبّتني الله أبداً ما حييتُ على موالاتكم ومحبّتكم ودينكم ، ووفّقني لطاعتكم ، ورَزقني شفاعتكم ، وجَعلني من خيار مواليكم التّابعين لِما دعوتم إليه ، وجَعلني ممّن يقتصّ آثاركم ، ويَسلك سبيلكم ، ويهتدي بهداكم ، ويُحشر في زمرتكم ، ويكِرّ في رجعتكم ، ويُملّك في دولتكم ، ويُشرّف في عافيتكم ، ويُمكّن في أيامكم ، وتَقرّ عينه غداً برؤيتكم .
بأبي أنتم وأمّي ، ونفسي وأهلي ومالي ، مَن أرادَ الله بدأ بكم ، ومَن وحّده قبِلَ عنكم ، ومَن قصدهُ توجّه بكم .
مواليّ ، لا أُحصي ثناءكم ، ولا أبلغ من المدح كنهكم ، ومن الوصف قَدركم ، وأنتم نور الأخيار ، وهداة الأبرار ، وحجج الجبّار .
بكم فتحَ الله ، وبكم يختم ـ الله ـ وبكم يُنزّل الغيث ، وبكم يُمسك السّماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ، وبكم يُنفّس الهمّ ويكشف الضّرّ ، وعندكم ما نَزلت به رسله ، وهبَطت به ملائكته ، وإلى جدّكم (435) بُعث الرّوح الأمين ، آتاكم الله ما لم يؤتِ أحداً من العالمين ، طَأطأ كلّ شريف لشرَفكم ، وبخعَ (436) كلّ متكبّر لطاعتكم ، وخضعَ كلّ جبّار لفضلكم ، وذلّ كلّ شيءٍ لكم ، وأشرَقت الأرض بنوركم ، وفاز الفائزون بولايتكم ، بكم يُسلك إلى الرّضوان ، وعلى مَن جحدَ ولايتكم غضب الرحمان .
بأبي أنتم وأمّي ، ونفسي وأهلي ومالي ، ذِكركم في الذّاكرين ، وأسماؤكم في الأسماء ، وأجسادكم في الأجساد ، وأرواحكم في الأرواح ، وأنفسكم في النّفوس ، وآثاركم في الآثار ، وقبوركم في القبور .
كلامُكم نور ، وأمرُكم رشد ، ووصيّتكم التّقوى ، وفعلكم الخير ، وعادتكم الإحسان ، وسجيّتكم الكرم ، وشأنكم الحقّ والصّدق والرّفق ، وقولكم حُكم وحتمٌ ، ورأيكم عِلم وحِلم وحَزم ، إنْ ذُكر الخير كنتم أوّله وأصلهُ وفرعه ، ومعدنه ومأواه ومنتهاه .
بأبي أنتم وأمّي ونفسي ، بموالاتكم عَلّمنا الله معالم ديننا ، وأصلحَ ما كان فسدَ من دنيانا ، وبموالاتكم تمّت الكلمة ، وعظُمت النّعمة ، وائتلفت الفُرقة ، وبموالاتكم تُقبل الطّاعة المفترضة ، ولكم المودّة الواجبة ، والدّرجات الرّفيعة ، والمقام المحمود ، والمكان ـ والمقام ـ المعلوم عند الله عزّ وجلّ ، والجاه العظيم ، والشّأن الكبير ، والشّفاعة المقبولة .
ربّنا آمنّا بما أنزلتَ واتّبعنا الرّسول ، فاكتبنا مع الشّاهدين ، ربّنا لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ، وهَب لنا من لدُنك رحمةً ، إنّك أنت الوهّاب ، سبحان ربّنا ، إن كان وعدُ ربّنا لمفعولاً .
يا وليّ الله (437) ، إنّ بيني وبين الله عزّ وجلّ ذنوباً لا يأتي (438) عليها إلاّ رضاكم ، فبحقّ مَن ائتمنكم على سرّه ، واسترعاكم أمرَ خلْقه ، وقرنَ طاعتكم بطاعته ، لمّا استوهبتم ذنوبي وكنتم شفعائي ، فإنّي لكم مطيع .
مَن أطاعكم فقد أطاعَ الله ، ومَن عصاكم فقد عصى الله ، ومَن أحبّكم فقد أحبّ الله ، ومَن أبغضكم فقد أبغضَ الله .
اللّهمّ إنّي لو وجدتُ شفعاء أقرب إليك من محمّدٍ وأهل بيته الأخيار ، الأئمّةِ الأبرار ، لجَعلتهم شفعائي ، فبحقّهم الّذي أوجبتَ لهم عليك ، أسألك أن تُدخلني في جملة العارفين بهم وبحقّهم ، وفي زُمرة المرحومين بشفاعتهم ، إنّك أرحم الرّاحمين .
وصلّى الله على محمّدٍ وآله ـ الطّاهرين ـ وسلّم ـ تسليماً ـ كثيراً ، وحَسبنا الله ، ونِعم الوكيل .

بعضُ أصحابه ورجاله ( عليه السلام )
بابه ( عليه السلام ) وبوّابه : عثمان بن سعيدٍ العمريّ ، وابنه محمد بن عثمان ، وقد بَقيا في أعلى مراتب الولاء وأسمى درجات الثّقة ، حتى كانا من رجال ابنه الإمام العسكريّ ، وحفيده الحجّة المنتظر عجّل الله تعالى فرجه ، ومن نوّابهما ، رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما .

ومن وكلائه : جعفر بن سهيل الصيقل (439) ، وأبو علي بن راشد ، فعن محمد بن عيسى قال :
( كتبَ أبو الحسن العسكريّ إلى المَوالي ببغداد والمدائن والسواد وما يليها :(437) يخاطب بقوله : يا وليّ الله ، الإمام الذي يزوره إن كان مفرداً ، ويمكن أن ينوي بهم الأئمة ( عليهم السلام ) كلّهم على سبيل البدليّة ، أو على إرادة الجنس من الكلمة ، والأحسن إذا كانت الزيارة للجميع أن يقول : يا أولياء الله ، كما نُقل عن شرح المجلسيّ رحمه الله .
(438) لا يأتي عليها : لا يمحوها ويزيلها .
(439) بحار الأنوار : ج 50 ص 216 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 402 .
الصفحة 277
( قد أقمتُ أبا عليٍّ بن راشدٍ مقام عليّ بن الحسين بن عبد ربّه ومَن قَبله من وكلائي ، وقد أوجبتُ في طاعته طاعتي ، وفي عصيانه الخروج إلى عصياني ، وكتبتُ بخطّي ) (440) .
كما أنّه وردَ بحقّه رحمه الله ما عن محمد بن الفرج الذي قال :
كتبَ إليه يسأله عن أبي عليّ بن راشد ، وعن عيسى بن جعفر ، وعن بن بند ؟
وكتبَ إليّ : ( ذكرتَ ابن راشدٍ رحمه الله ، إنّه عاشَ سعيداً ، ومات شهيداً ، ودعا لابن بند ، والعاصميّ ، وابن بند ضُرب بعمودٍ وقُتل ، وابن عاصم ضُرب بالسّياط على الجسر ثلاثمئة سوطٍ ، ورُمي به في نهر دجلة ! ) (441) .
فتصوّر هذا الظّلم الغاشم لأولياء الله وحَملة كلمة الحقّ إلى الناس !!
وقال محمد بن عيسى اليقطينيّ :
كتبَ ( عليه السلام ) إلى عليّ بن بلال في سنة اثنتين وثلاثين ومئتين :
( بسم الله الرحمن الرحيم ، أحمدُ الله إليك ، وأشكر طَوله وعَوده ، وأُصلّي على محمدٍ النبيّ وآله صلوات الله ورحمته عليهم ، ثمّ إنّي أقمتُ أبا عليّ مقام حسين بن عبد ربّه ، فائتمنهُ على ذلك بالمعرفة بما عنده والذي لا يقدمه أحد .
وقد أعلم أنّك شيخ ناحيتك ، فأحببتُ إفرادك وإكرامك بالكتاب بذلك ، فعليك بالطاعة له ، والتسليم إليه جميع الحقّ قِبلك ، وأن تَحضّ مواليّ على ذلك ، وتُعرّفهم من ذلك ما يصير سبباً إلى عونه وكفايته ، فذلك توفير علينا ومحبوب لدينا ، ولك به جزاء من الله وأجر ، فإنّ الله يعطي مَن يشاء أفضل الإعطاء والجزاء برحمته ،.. أنت في وديعة الله ، وكتبتُ بخطّي ، وأحمدُ الله كثيراً ) (442) .
وعن أحمد بن محمد بن عيسى قال :
( نسخة الكتاب مع ابن راشدٍ إلى جماعة الموالي الذين هم ببغداد ، المقيمين بها ، والمدائن ، والسواد ، ما يليها :
( أحمدُ الله إليكم ما أنا عليه من عافيته وحسن عائدته ، وأُصلّي على نبيّه وآله أفضل صلواته وأكمل رحمته ورأفته ، وإنّي أقمتُ أبا عليّ بن راشد مقام الحسين بن عبد ربّه ومَن كان قبله من وكلائي ، وصارَ في منزلته عندي ، ولّيته ما كان يتولاّه غيره من وكلائي قِبلكم ، ليقضي حقّي ، وارتضيته لكم ، وقدّمتهُ في ذلك ، وهو أهله وموضعه .
فصيروا رحمكم الله إلى الدفع إليه ذلك وإليّ ، وأن لا تجعلوا له على أنفسكم علّة ، فعليكم بالخروج عن ذلك والتسرّع إلى طاعة الله ، وتحليل أموالكم والحقن لدمائكم ، وتعاونوا على البرّ والتّقوى ، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، واتّقوا الله لعلّكم تُرحمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ، ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون (443) ، فقد أوجبتُ في طاعته طاعتي ، والخروج إلى عصيانه الخروج إلى عصياني فالزموا الطريق يأجركم الله ، ويزدكم من فضله ؛ فإنّ الله بما عنده واسع كريم متطوّل على عباده رحيم ، نحن وأنتم في وديعة الله ، وكتبتهُ بخطّي ، والحمد لله كثيراً ) (444) .
( وفي كتابٍ آخر ـ جاء عنه ( عليه السلام ) ـ :
( وأنا آمرُك يا أيوب بن نوح ، أن تقطع الإكثار بينك وبين أبي عليّ ، وأن يلزم كلّ واحدٍ منكما ما وكِّل به وأُمر بالقيام فيه بأمر ناحيته ؛ فإنّكم إنْ انتهيتم إلى كلّ ما أُمّرتم به استغنيتم بذلك عن معاودتي ، وآمرُك يا أبا عليّ بمثل ما آمرك به يا أيوب ، أن لا تقبل من أحدٍ من بغداد والمدائن شيئاً يحملونه ، ولا تلي لهم استئذاناً عليّ ، ومُر مَن أتاك بشيءٍ من غير أهل ناحيتك أين يصيّره إلى الموكّل بناحيته ، وآمرك يا أبا عليّ بمثل ما أمرتُ به أيوب ، وليقبل كلّ واحدٍ ما أمرتهُ به ) (445) .

فمِن المحمودِين عنده ( عليه السلام ) : أيوب بن نوح بن درّاج المذكور ، فقد قال عمرو بن سعيد المدائني ـ الذي كان فطحّياً ـ : ( كنتُ عند أبي الحسن العسكريّ بِصَريا إذ دخلَ أيوب بن نوح ووقفَ قدّامه ، فأمرهُ بشيء ، ثمّ انصرف .
والتفتَ إليّ أبو الحسن ( عليه السلام ) فقال : ( يا عمرو ، إن أحببتَ أن تنظر إلى رجلٍ من أهل الجنّة فانظر إلى هذا ) (446) .
ومنهم عليّ بن جعفر الهمدانيّ الذي كان فاضلاً مرضيّاً من وكلائه ووكلاء ابنه العسكريّ ( عليهما السلام ) .
( وقد روى أحمد بن عليّ الرازي ، عن عليّ بن مخلّد الأيادي ، قائلاً :
حدّثني أبو جعفر القمّي ، قال : حجّ أبو طاهر بن بلال ، فنظرَ إلى عليّ بن جعفر وهو ينفق النفقات العظيمة ، فلمّا انصرفَ كتبَ بذلك إلى أبي محمدٍ ( عليه السلام ) .
فوقّعَ في رقعته : ( قد كنّا أمَرنا له بمئة ألف دينار ، ثمّ أمَرنا له بمثلها فأبى قبولها إبقاءً علينا ، ما للنّاس والدخول من أمرنا فيما لم ندخلهم فيه ) ؟!
قال : ودخل ـ أي عليّ بن جعفر ـ على أبي الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) ، فأمرَ له بثلاثين ألف دينار ) (447) .
فتصوّر هذه الثقة الوطيدة بعليّ بن جعفر رضوان الله عليه الذي كان من مشايخ الطالبيين وأفاضل فقهائهم ، وهو عمّ جدّ إمامنا الهادي ( عليه السلام ) .

أمّا منازل هؤلاء الأصحاب المقرّبين منه ، فكانت في غاية الإجلال والاحترام ، فمِن ذلك أنّه دخلَ أبو عمرو ، عثمان بن سعيد ، وأحمد بن إسحاق الأشعري ، وعليّ بن جعفر الهمدانيّ على أبي الحسن العسكريّ ـ وهؤلاء من أجلّ أصحابه وأصحاب أبيه وابنه وحفيده ( عليهم السلام جميعاً ) ـ فشكا إليه أحمد بن إسحاق دَيناً عليه .
فقال : ( يا أبا عمرو ـ وكان وكيله حينذاك ـ ، ادفَع إليه ثلاثين ألف دينار ، وإلى عليّ بن جعفر ثلاثين ألف دينار ، وخُذ أنت ثلاثين ألف دينار ) .
فهذه عطايا لا يَقدر عليها إلاّ الملوك ، وما سَمعنا بمثل هذا العطاء (448) .

وقد حدّث أبو تراب ، عبيد الله بن موسى الرويّاني ، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ ، قال : ( دخلتُ على سيّدي عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب ( عليهم السلام ) ، فلمّا بصُر بي قال لي :
( مرحباً بك يا أبا القاسم ، أنت وليّنا حقّاً .
فقلت : يا بن رسول الله ، إنّي أريد أن أعرض عليك دِيني ، فإن كان مرضيّاً أثبتُ عليه حتى ألقى الله عزّ وجلّ .
فقال : هات يا أبا قاسم .
فقلت : إنّي أقول : إنّ الله تبارك واحد ليس كمثله شيء ، خارج عن الحدّين : حدّ الإبطال ، وحدّ التشبيه ، وأنّه ليس بجسمٍ ، ولا صورةٍ ، ولا عرض ، ولا جوهر ، بل هو مُجسّم الأجسام ومصوّر الصور ، وخالق الأعراض والجواهر ، وربّ كلّ شيءٍ ومالكه ، وجاعله ومُحدِثه ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، خاتم النّبيّين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة .
وأقول : إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر من بعده أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، ثمّ الحسن ، ثمّ الحسين ، ثمّ عليّ بن الحسين ، ثمّ محمد بن عليّ ، ثمّ جعفر بن محمدٍ ، ثمّ موسى بن جعفر ، ثمّ عليّ بن موسى ، ثمّ محمد بن عليٍّ ، ثمّ أنت يا مولاي .
فقال ( عليه السلام ) : ومن بعدي الحسن ابني ، فكيف للناس بالخَلف من بعده ؟!
فقلت : وكيف ذاك يا مولاي ؟
قال : لأنّه لا يُرى شخصه ، ولا يَحلّ ذِكره باسمه ، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً .
فقلت : أقررتُ ، وأقول : إنّ وليّهم وليّ الله ، وعدوّهم عدوّ الله ، وطاعتهم طاعة الله ، ومعصيتهم معصية الله ، وأقول : إنّ المعراج حقّ ، والمساءلة في القبر حقّ ، وأنّ الجنّة حقّ ، والنّار حقّ ، والصّراط حقّ ، والميزان حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريبَ فيها ، وأنّ الله يبعثُ مَن في القبور ، وأقول : إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية ، الصلاة ، والزكاة ، والصوم ، والحجّ ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
فقال عليّ بن محمد ( عليه السلام ) : يا أبا القاسم ، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده ، فاثبت عليه ثبّتكَ الله بالقول الثابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ) (449) .

ومن ثِقاته : أحمد بن حمزة بن اليسع ، وصالح بن محمد الهمداني ، ومحمد بن جزك الجمّال ، ويعقوب بن يزيد الكاتب ، وأبو الحسين بن هلال ، وإبراهيم بن إسحاق ، وخيران الخادم ، والنّضر بن محمد الهمداني .
وشاعراه : العوفيّ ، والديلمي .
ومن مواليه المقرّبين : السيد الشريف عبد العظيم بن عبد الله الحسنيّ ، الذي مرّ ذّكره وكان من أجلّ الأصحاب (450) .

أمّا أشهر رجاله ، فهم بحسب الترتيب الهجائيّ :
إبراهيم بن محمد الهمداني ، إبراهيم بن مهزيار الأهوازي وهو من أصحاب أبيه ( عليه السلام ) ، إبراهيم بن داود اليعقوبي ، أبو سليمان ( سليم ) زنكان ، أيوب بن نوح بن درّاج ، أحمد بن إسماعيل بن يقطين ، أحمد بن حمزة بن اليسع القمّي ، أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمّي ، وهو من أصحاب جدّه وأبيه ( عليهما السلام ) ، أحمد بن إسحاق الرازي ، أحمد بن هلال العبرتائي ، أحمد بن محمد السيّاري .
بشر بن بشار النيسابوري الشاذاني .
جعفر بن محمد بن إسماعيل بن الخطاب .
الحسن بن علي الوشا ، وهو من أصحاب جدّه ( عليه السلام ) ، الحسين بن سعيد الكوفي الأهوازي ، الحسن بن راشد ( يكنّى : أبا علي البغدادي ) .
الحسين بن محمد المدائني .
خيران الخادم .
داود بن القاسم الجعفري ( أبو هاشم ) ـ داود بن يزيد ـ .
الريّان بن الصلت البغدادي .
سليم ( سليمان ) بن جعفر المروزي ، سهل بن يعقوب .
صالح بن محمد الهمداني ، صالح بن عيسى .
عبد العظيم الحسني ، عيسى بن أحمد بن عيسى ، علي بن مهزيار الأهوازي ، علي بن الحسين بن عبد ربّه ، علي بن بلال البغدادي ، علي بن محمد النوفلي ، علي بن جعفر ( وكيله المذكور ) ، علي بن معد بن معبد ( محمد ) البغدادي ، عبدوس العطار الكوفي ، عثمان بن سعيد العمري ( يكنّى : أبا عمرو السمّان ، الزيّات ، خَدمهُ منذ الحادية عشرة من عمره الشريف ( عليه السلام ) ) .
الفتح بن يزيد الجرجاني ، الفضل بن شاذان النيشابوري .
قاسم الصيقل .
كافور الخادم .
مسافر ( مولاه ( عليه السلام ) ) ، محمد بن الفرج الرُّخجي وهو من أصحاب أبيه ( عليه السلام ) ، محمد بن سعيد بن كلثوم ( وكان متكلّماً ) ، محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، محمد بن أحمد بن مطهّر ، محمد بن مروان الجلاّب ، محمد بن القاسم بن حمزة بن موسى العلوي ، موسى بن عمر الحضيني ، معاوية بن حكيم بن عمار الكوفي .
النضر بن محمد الهمداني .
يحيى بن محمد ، يعقوب بن يزيد الكاتب ، يعقوب بن منقوش ، يعقوب بن إسحاق .. وغيرهم ، وغيرهم .
ومن النساء : كلثم الكرخية .

قال مُقبل الديلمي : ( كنتُ جالساً على باب دارنا بسرّ مَن رأى ، ومولانا أبو الحسن راكبٌ إلى دار المتوكل الخليفة ، فجاء فتح القلانسيّ ، وكانت له خِدمة لأبي الحسن ( عليه السلام ) ، فجلسَ إلى جانبي وقال : إنّ لي على مولانا أربعمئة درهم ، فلو أن أعطانيها لانتفعتُ بها .
قال : قلت : ما أنت صانع بها ؟
قال : كنتُ أشتري بمئتي درهم خِرَقاً تكون في يدي أعملُ فيها قلانس ، ومئتي درهم أشتري بها تمراً فأنبذهُ نبيذاً .
قال : فلما قال لي ذلك أعرضتُ بوجهي فلم أكلّمه لِما ذكرَ لي ، وسكتُّ .
وأقبلَ أبو الحسن ( عليه السلام ) على أثر هذا الكلام ، ولم يسمع هذا الكلام أحدٌ ولا حضرهُ .
فلمّا بصرتُ به قمتُ قائماً ، فأقبلَ حتى نزلَ بدابته في دار الدواب وهو مقطّب الوجه ، أعرفُ الغضب في وجهه .
فحين نزلَ عن دابته قال لي : ( يا مُقبل ، اُدخل فأخرِج أربعمئة درهم ادفعها إلى فتْح الملعون وقل له : حقّك فخذهُ فاشترِ به خِرَقاً ، واتّقِ الله فيما أردتَ أن تفعله بالمئتي درهم الباقية ) .
فأخرجتُ الأربعمئة درهم فدفعتُها إليه وحدّثته القصة ، وبكى وقال : والله لا شربتُ نبيذاً ولا مسكراً أبداً ، وصاحبك يَعلم ما تعلم ) (451) .

ومن المذمومين ـ في أهل عصره ( عليه السلام ) ـ : فارس بن حاتم بن ماهويه القزويني ، على ما رواه عليّ بن جعفر الحميري ، قال :
( كتبَ أبو الحسن العسكريّ ( عليه السلام ) إلى عليّ بن عمرو القزوينيّ بخطّه : ( اعتَقِد فيما تدين الله به أنّ الباطن عندي حسب ما أظهرتُ لك فيمن استنبأت عنه ، وهو فارس لعنه الله ؛ فإنّه ليس يسعك إلاّ الاجتهاد في لعنه ، وقصده ومعاداته ، والمبالغة في أكثر ما تجد السبيل إليه .
ما كنتُ آمر أن يُدان الله بأمرٍ غير صحيح ، فجِدّ وشدّ في لعْنه وهتْكه وقَطع أسبابه ، وسدّ أصحابنا عنه ، وإبطال أمره ، وأبلغهم ذلك منّي ، واحكِه لهم عنّي ، وإنّي سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكّد ، فويل للعاصي والجاحد ! وكتبتهُ بخطّي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة خمسين ومئتين ، وأنا أتوكّل على الله وأحمده كثيراً ) (452) .
وبشأن فارس الملعون هذا ( قال أبو جنيد : أمرَني أبو الحسن العسكريّ بقتل فارس بن حاتم القزوينيّ ، فناوَلني دراهم وقال : ( اشترِ بها سلاحاً واعرِضه عليّ .
فذهبتُ فاشتريت سيفاً فعرضتهُ عليه .
فقال : ردّ هذا ، وخذ غيره .
ورددتهُ وأخذتُ مكانه ساطوراً فعرضتهُ عليه .
فقال : هذا ، نعم ) .
فجئتُ إلى فارس وقد خرجَ من المسجد بين الصّلاتين : المغرب والعشاء الآخرة ، فضربتهُ على رأسه فسقطَ ميتاً ، ورميتُ الساطور .
واجتمعَ الناس ،.. وأُخذتُ إذ لم يوجد هناك أحد غيري ، فلم يروا معي سلاحاً ، ولا سكّيناً ، ولا أثر الساطور ، ولم يروا بعد ذلك ، فخُلّيت ) .
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الملعون ـ الذي قُتل بأمر الإمام ـ قد كان ضالاًّ مضلاًّ قُتل بحقّ ؛ لأنّه من المفسدين في الأرض .
والحمد لله ربّ العالمين..


المصادر

---------------------------------------------------------------------------------
1 ـ القرآن الكريم .
2 ـ الإرشاد : الشيخ المفيد ، طبع إيران 1358 هـ .
3ـ إعلام الورى : الطبرسي ، بيروت سنة 1338 هـ .
4 ـ الأنوار البهيّة : الشيخ عباس القمّي ، طبع بيروت 1405 هـ ، و1985 م .
5 ـ بحار الأنوار : المجلسي ، طبع بيروت 1404 هـ ، و1985 م .
6 ـ بصائر الدرجات : الصفّار ، الطبعة الثانية ـ إيران .
7 ـ تاريخ الأمم والملوك : الطبري ، طبع مصر 1358 هـ ، 1939 م .
8 ـ تُحف العقول : الحرّاني ، طبع إيران 1379 هـ .
9 ـ تذكرة الخواص : سبط بن الجوزي ، طبع النجف الأشرف 1369 هـ .
10 ـ التوحيد : الصّدوق ، طبع النجف الأشرف 1386 هـ ، 1969 م .
11 ـ الاحتجاج : الطبرسي ، طبع بيروت 1401 هـ ، 1981 م .
12 ـ حلية الأبرار : السيد هاشم البحراني ، طبع إيران سنة 1356 هـ .
13 ـ الاختصاص : الشيخ المفيد ، طبع إيران سنة 1379 هـ .
14 ـ رجال الكشّي .
15 ـ الصواعق المحرقة : ابن حجر الهيثمي ، طبع مصر 1365 هـ .
16 ـ عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ، طبع النجف 1390 هـ ، و 1970 م .
17 ـ فرائد السّمطين : الجويني الخراساني ، طبع بيروت 1400 هـ ، و 1980 م .
18 ـ الكافي : الكليني ، طبع إيران سنة 1388 هـ .
19 ـ الكامل في التاريخ : ابن الأثير ، طبع مصر 1303 هـ .
20 ـ كشف الغمّة : الأربلي ، طبع إيران سنة 1382 هـ .
21 ـ مدينة المعاجز : السيد هاشم البحراني ، طبع حجري إيران 1290 هـ .
22 ـ مروج الذهب : المسعودي طبع بيروت .
23 ـ معاني الأخبار : الصدوق ، طبع إيران سنة 1379 هـ .
24 ـ مفاتيح الجنان : الشيخ عباس القمّي ، طبع بيروت سنة 1983 م .
25 ـ مناقب آل أبي طالب : ابن شهر آشوب ، طبع بيروت سنة 1985 م .
26 ـ مهج الدعوات : طبع إيران 1323 هـ .
27 ـ الوسائل : الحُرّ العاملي ، طبع بيروت 1391 هـ .
28 ـ ينابيع المودّة : القندوزي الحنفي ، طبع إيران 1301 هـ .  

(1) انظر مفاتيح الجنان ، وأكثر كتب الزّيارات .
(2) بصائر الدرجات : ج 2 ص 3 .
(3) الروم : 43 .
(4) بصائر الدرجات : ج 2 ص 3 .
(5) توحيد الصدوق : ص 55 ، وهو في الاحتجاج للطبرسي .
(6) الكافي : م 1 ص 394 .
(7) حلية الأبرار : ج 2 ص 341 .
(8) الأنعام : 29 .
(9) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 400 .
(10) بصائر الدرجات : ج 1 ص 5 ، ورويَ عن ابنه زين العابدين ( عليه السلام ) مثله مع تفصيل أكثر في نفس المصدر ونفس الصفحة .
(11) الحشر : 18 .
(12) بصائر الدرجات : ج 2 ص 31 .
(13) المصدر السابق : ص 10 .
(14) الإسراء : 71 .
(15) بصائر الدرجات : ج 2 ص 10 .
(16) البقرة : 200 .
(17) بصائر الدرجات : ج1 ص 17 و 18 .
(18) المصدر السابق .
(19) المصدر السابق .
(20) التكوير : 19 .
(21) الشورى : 23 .
(22) طه : 123 .
(23) مناقب آل أبي طالب : ج4 ص 400 .
(24) الكهف : 88 .
(25) بصائر الدرجات : ج 2 ص 35 وأكثر مصادر بحثنا ، والآية الكريمة في النحل ، ولفظها الشريف : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ) ، ولم يقرأها الإمام ( عليه السلام ) بنصّها ، بل ذكرَ معناها .
(26) بصائر الدرجات : ج 3 ص 67 .
(27) المصدر السابق : نفس الجزء ص 35 .
(28) قد فصّلنا الكلام حول هذا الموضوع في كتابنا ( الإمام الجواد ( عليه السلام ) ) ، ومَن شاء فليراجع الأخبار والتعليق عليها .
(29) بصائر الدرجات : ج3 ص 35 .
(30) عيون أخبار الرّضا : ج 2 ص 200 .
(31) انظر بحار الأنوار : ج 14 ص 86 ، والآية الأولى في ص : 39 ، والثانية في الحشر : 7 .
(32) بصائر الدرجات : ج6 ص 83 ، وعدّة مصادر إسلامية .
(33) المصدر السابق نفس الجزء : ص86 .
(34) كشفُ الغمّة : ج 3 ص 172 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 176 ، والكافي : م 1 ص 230 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 406 ، ومدينة المعاجز : ص 544 وص 560 .
(35) الحجر : 21 .
(36) بصائر الدرجات : ج 6 ص 76 ، وهو موجود في كثير من مصادرنا في هذا الكتاب .
(37) مدينة المعاجز : ص 545 .
(38) بحار الأنوار : ج 50 ص 185 ، ومدينة المعاجز : ص 546 .
(39) آل عمران : 33 - 34 .
(40) بحار الأنوار : ج 50 ص 185 ، ومدينة المعاجز : ص 546 .
(41) الكافي : م 1 ص 484 ، وبصائر الدرجات : ج 6 ص 77 .
(42) الإسراء : 20 .
(43) مدينة المعاجز : ص 552 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 468 .
(44) الكافي : م 1 ص 389 .
(45) المصدر السابق .
(47) انظر المصادر السابقة .
(48) وقيل : إنّه استشهدَ في آخر مُلك المعتمد خطأً ؛ لأنّه لم يَدرك عهد المعتمد ، وقد جاء الاشتباه عن طريق أنّ المعتمد هو الذي انتدبهُ المعتزّ للصلاة عليه ، وانظر في كلّ ما سبق الأنوار البهية : ص 270 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 164 إلى ص 189 ، وإعلام الورى : ص 339 وص 349 ، والإرشاد : ص 314 ، وبحار الأنوار : ج 50 من ص 113 إلى ص 116 وص 192 وص 198 ومن ص 203 إلى ص 232 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 401 ، وقيل : في مروج الذهب : ج 4 ص 19 - 20 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 209 - 210 : قُتِل المتوكل في سبع وعشرين سنة من إمامة أبي الحسن ( عليه السلام ) ، وبويعَ المنتصر.. إلخ .
(49) الأنوار البهيّة : ص 145 وبعض المصادر السابقة .
(50) انظر أكثر المصادر السابقة .
(51) الصواعق المحرقة : ص 207 وبعض المصادر السابقة .
(52) وقيل : إنّها تُدعى سوسن ، فانظر بعض المصادر السابقة ومدينة المعاجز : ص 539 .
(53) انظر بعض المصادر السابقة والأنوار البهيّة : ص 345 ، ومدينة المعاجز : ص 539 بصورة خاصة .
(54) انظر الرقم السابق
(55) الصواعق المحرقة : ص 207 .
(56) بحار الأنوار : ج 50 ص 114 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 410 .

(57) الإرشاد : ص 307 .
(58) الأنوار البهيّة : ص 269 .
(59) الأنوار البهيّة : ص 260 - 261 .
(60) كشف الغمّة : ج 3 ص 174 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 175 - 176 ، ومدينة المعاجز : ص 543 - 544 .
(61) بحار الأنوار : ج 50 ص 135 - 136 نقلاً عن بصائر الدرجات ، وهو في مدينة المعاجز : ص 541 ، والكافي : م 1 ص 381 .
(62) مدينة المعاجز : ص 544 .
(63) بحار الأنوار : ج 50 ص 123 نقلاً عن عيون المعجزات .
(64) الإرشاد : ص 308 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 166 - 167 ، وإعلام الورى : ص 339 - 340 ، والكافي : م 1 ص 323 - 324 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 118 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 408 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 476 .
(65) بحار الأنوار : ج 50 ص 118 نقلاً عن كمال الدين : ج 2 ص 50 في حديث ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 477 - 478 ، وهو في عدّة مصادر ذكرناها في كتابنا ( يوم الخلاص ) .
(66) عيون أخبار الرضا : ج 1 ص 32 - 33 و ص 36 - و ص 206 ، وانظر بحار الأنوار : ج 51 ص 77 و ج 52 ص 277 و ص 312 ، وإعلام الورى : ص 372 ، وينابيع المودة : ج 3 ص 160 ، والنّص موجود في مصادر كثيرة باختلاف في اللفظ ، وقد ذكرنا ذلك في كتابنا ( يوم الخلاص ) .
(67) موسى هو ابنه ( عليه السلام ) الأصغر ، الملقّب بالمبرقع ، المدفون في قمّ .
(68) بحار الأنوار : ج 50 ص 122 ، والكافي : م 1 ص 325 .
(69) الحجرات : 12 .
(70) الكافي : م 1 ص 324 ، وإعلام الورى : ص 340 - 341 ، والإرشاد : ص 308 - 309 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 167 - 168 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 121 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 476 - 477 .
(71) انظر بحار الأنوار : ج 50 ص 216 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 402 وغيرهما من مصادر المسلمين المعتبرة .
(72) التوبة : 115 .
(73) البقرة : 106 .
(74) مدينة المعاجز : ص 554 و ص 558 .
(75) الكافي : م 1 ص 379 .
(76) بحار الأنوار : ج 50 ص 224 - 225 ، والكافي : م 1 ص 567 - 568 .
(77) مادَت : اضطربت ، وآدت : ثقلت ، والعرواء : قرّة الحمّى ومسّها أوّل ما تأخذ بالرعدة .
(78) نضو : مهزول من الضّعف .
(79) غارت : غابت .
(80) مُنيتَ : أُصبتَ ، وحسم الداء : برؤه والشفاء منه .
(81) آسي : طبيب ، والأبيات في إعلام الورى : ص 348 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 222 ، والأنوار البهيّة : ص 248 - 249 .
(82) بحار الأنوار : ج 50 ص 208 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 85 - 86 .
(83) انظر مروج الذهب : ج4 ص 86 ، وتذكرة الخواص : ص 375 ، والأنوار البهية : ص 269 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 401 وأكثر مصادر بحثنا هذا .
(84) الأنوار البهيّة : ص 270 - 272 .
(85) بحار الأنوار : ج 50 ص 191 ، ورجال الكشّي : ص 479 وص 480 .
(86) المصدر السابق نفسه .
(87) مدينة المعاجز : ص 559 .
(88) مروج الذهب : ج 4 ص 84 ، والأنوار البهيّة : ص 270 .
(89) بحار الأنوار : ج 50 ص 214 .
(90) الإرشاد : ص 314 ، وكشف الغمّة : ج 3 من ص 165 إلى ص 189 ، وإعلام الورى : ص 349 ، وينابيع المودة : ج 2 ص 263 وأكثر المصادر السابقة .
(91) الصواعق المحرقة : ص 207 .
(92) مروج الذهب : ج 4 ص 19 - 20 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 209 - 210 .
(93) ينابيع المودّة : ج 2 ص 263 - 264 ، ومَن شاء زيادة المعلومات في ذمّه فليراجع بحار الأنوار : ج 47 من ص 47 فما فوق ، وقد ذكرنا عنه شيئاً في كتابنا ( يوم الخلاص ) .
(94) بحار الأنوار : ج 50 ص 231 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 175 ، ومدينة المعاجز : ص 546 .
(95) بحار الأنوار : ج 50 ص 224 ، ومنهج الدعوات : ص 272 .
(96) انظر المصدر السابق ، وهذا الدعاء موجود في أكثر كتب الأدعية مع اختلافٍ قليلٍ في النادر من ألفاظه الشريفة .
(97) حلية الأبرار : ج 2 ص 435 - 436 .
(98) البقرة : 90 .
(99) إعلام الورى : ص 347 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 410 ، وفي بحار الأنوار : ج 50 ص 190 روي هذا الخبر عن سعيد بن سهل ، وهو بلفظه في حلية الأبرار : ج 2 ص 463 .
(100) نوح : 7 .
(101) الكافي : م 1 ص 496 ، وبحار الأنوار : ج 50 في هامش الصفحة 221 .
(102) مروج الذهب : ج4 ص 19 ـ 20 ، وبحار الأنوار : ج 50 في هامش الصفحة 221 ، والكامل لابن الأثير : ج 5 ص 269 باختصار ، وص 280 .
(103) تاريخ الأمم والملوك : ج 7 ص 347 .
(104) الإرشاد : ص 311 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 170 ، وإعلام الورى : ص 342 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 140 ـ 141 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 409 وص 414 ، ومدينة المعاجز : ص 540 ـ 541 .
(105) انظر مصادر الرقم السابق جميعها .
(106) توفي الواثق سنة 232 هـ ، وقال ابن الأثير : إنّه قد أحسنَ إلى الناس ، واشتملَ العلويّين وبالغَ في إكرامهم والإحسان إليهم والتعهّد لهم بالأموال.. انظر الكامل : ج 5 ص 276 ـ 277 ، ومع ذلك كان يُناصب الإمام العداوة ؛ لأنّه يقول الحقّ ولا يرضى بالباطل الذي هُم عليه .
(107) الإرشاد : ص 309 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 168 ، وإعلام الورى : ص 341 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 151 ـ 152 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 410 ، والكافي م 1 ص 498 ، ومدينة المعاجز : ص 539 ـ 540 .
(108) كان ذلك سنة 232 هـ ، كما في الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 270 .
(109) تأمّر المتوكل سنة 232هـ بعد وفاة الواثق الذي كان ابنه صغيراً وقصيراً ، ولم يتلاءم قوامه مع ثوب الخلافة ، فقام أحمد بن أبي دؤاد وألبسَ الثوب والعمامة للمتوكل وقبّل بين عينيه وقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، فصار بذلك أميراً للمؤمنين !!!
انظر الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 278 ، ومن جميل المفارقات ـ وصُنع الله تعالى ـ : أنّ المتوكل غضبَ على قاضيه المتزلّف أحمد بن أبي دؤاد وقبضَ ضِياعه وأملاكه ، وحَبسَ ابنه أبا الوليد وسائر أولاده ، فحملَ أبو الوليد مئةً وعشرين ألف دينارٍ وجواهر قيمتها عشرون ألف دينار ، ثمّ صولِح بعد ذلك على ستة عشر ألف درهم . انظر الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 389 وتَصوّر هذه النوعيّة من قضاة المسلمين الشرفاء ! ومن هذه البيعة بإمارة المؤمنين وأمثالها .
(110) الصواعق المحرقة : ص 207 .
(111) بحار الأنوار : ج 50 ص 209 ، وانظر حلية الأبرار : ج 2 ص 463 .
112) الإرشاد : ص 313 ـ 314 ، والكافي : م 1 ص 501 ، والأنوار البهيّة : ص 259 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 463 .
(113) الإرشاد : ص 313 ـ 314 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 172 ـ 173 ، وهو في إعلام الورى : ص 347 ـ 348 باختصار ، وانظره بتمامه في بحار الأنوار : ج 50 ص 200 ـ 202 ، والكافي : م 1 ص 501 ـ 502 ، وتذكرة الخواص : ص 373 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 463 .
(114) تذكرة الخواص : ص 373 ـ 374 ، وبحار الأنوار : ج 5 ـ ص 201 في الهامش ، وص 207 وص 208 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 84 ـ 85 ، والأنوار البهيّة : ص 259 ـ 260 ، ومدينة المعاجز : ص 553 .
(115) كشفة الغمّة : ج 3 ص 181 ـ 182 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 143 ـ 144 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 209 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 547 ـ 548 .
(116) بحار الأنوار : ج 50 ص 173 ، ومناقب آل أبي طالب : ج1 ص 413 ، ومدينة المعاجز : ص 554 .
(117) بحار الأنوار : ج 50 ص 156 ـ 157 عن مختار الخرائج والجرائح : ص 212 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 551 و ص 552 .
(118) الكافي : م 1 ص 498 ، والأنوار البهية : ص 261 ، والإرشاد : ص 314 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 173 ، وإعلام الورى : ص 348 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 1 ص 411 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 133 وص 202 ـ 203 نقلاً عن بصائر الدرجات : ص 406 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 540 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 463 ـ 464 .
(119) الزمر : 67 .
(120) الأنوار البهيّة : ص 261 ـ 262 .
(121) إبراهيم : 15
(122) الدخان : 45 و 46 .
(123) كشفة الغمّة : ج 3 ص 184 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 147 .
(124) الطارق : 15 و 16 .
(125) التوبة : 48 .
(126) الصواعق المحرقة : ص 205 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 146 وص 204 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 86 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 416 ، وحلية الأبرار : ج 2 من ص 468 إلى ص 473 بتفصيل وافٍ .
(127) مدينة المعاجز : ص 550 .
(128) مروج الذهب : ج 4 ص 86 .
(129) الصواعق المحرقة : ص 207 .
(130) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 416 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 149 و ص 204 ، ومدينة المعاجز ص 549 ، والقصة مكرّرة بلفظ آخر في ص 550 ، وهي في حلية الأبرار : ج 2 من ص 468 إلى ص 473 بتفصيل وافٍ .
(131) المصدر السابق .
(132) فرائد السمطين : ج 2 ص 208 ـ 209 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 149 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 54 ص 518 .
(133) الأحزاب : 25 .
(134) بحار الأنوار : ج 50 ص 124 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 417 ، ومدينة المعاجز : ص 541 .
(135) المنافقون : 8 .
(136) حلية الأبرار : ج 2 ص 446 نقلاً عن تفسير القمّي : ج 2 ص 298 .
(137) المصدر السابق .
(138) بحار الأنوار : ج 50 ص 125 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 413 ، ومدينة المعاجز : ص 541 .
(139) الشورى : 23 .
(140) الحديد : 14
(141) كشف الغمّة : ج 3 ص 166 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 206 ، والأنوار البهية : ص 265 ـ 266 .
(142) مروج الذهب : ج 4 ص 10 ـ 11 ، والأنوار البهية : ص 265 ـ 266 .
(143) آل عمران : 199 .
(144) حلية الأبرار : ج2 ص 461 ـ 462 ، ومدينة المعاجز : ص 560 ـ 561 .
(145) هو من وِلْد محمد بن الحنفيّة بن عليّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
(146) الحج : 13 .
(147) الشورى : 23 .
(148) بحار الأنوار : ج 50 ص 213 ـ 214 .
(149) بحار الأنوار : ج 50 ص 148 ـ 149 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 184 وباختصار ، وهو في مدينة المعاجز : ص 549 .
(150) الأنوار البهيّة : ص 253 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 183 ـ 184 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 146 ـ 147 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 210 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 549 و ص 560 ، وحلية الأبرار : ج2 من ص 473 إلى ص 475 بتفصيل .
وقد حدَثت قصّة مثلها مع جدّه الإمام الرّضا ( عليه السلام ) ، حين سلّط صورة أسَدين كانت على مسند المأمون ، فنزلتا وصارتا أسدين حقيقيّين ، مَزّقا جسد حميد بن مهران ( لعنه الله ) حين هَزئ بالإمام ، وتحدّى قدرة الله تعالى فيه بين يدي المأمون ووزرائه وقضاته ومجلسه العام . انظر بحار الأنوار : ج 49 ص 183 ـ 184 .
(151) بحار الأنوار : ج 50 ص 211 ، ومدينة المعاجز : ص 547 ، وانظر حلية الأبرار : ج 2 من ص 473 إلى ص 475 .
(152) مدينة المعاجز : ص 559 ـ 560 .
(153) الحج : 11 .
(154) النساء : 78 .
(155) بحار الأنوار : ج 50 ص 183 ـ 184 ، ورجال الكافي : ص 505 .
(156) بحار الأنوار : ج 50 ص 184 ، ورجال الكشّي : ص 506 .
(157) إعلام الورى : ص 346 ـ 347 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 188 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 172 و ص 182 ـ 183 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 وص 414 ـ 415 وص 416 ـ 417 ، ومدينة المعاجز : ص 546 .
(158) انظر مصادر الرقم السابق .
(159) المصدر السابق .
(160) بحار الأنوار : ج 50 ص 127 ـ 128 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 410 ـ 411 ، باختصار آخره ، وهو في مدينة المعاجز : ص 542 .
(161) بحار الأنوار : ج 50 ص 173 ـ 174 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 413 ـ 414 ، ومدينة المعاجز : ص 553 .
(162) هود : 81 .
(163) بحار الأنوار : ج 50 ص 187 ـ 188 ، ومدينة المعاجز : ص 553 .
(164) المصدر السابق .
(165) في سنة 240 هـ ، عُزِل يحيى بن أكثم عن القضاء ، وقُبض منه ما مبلغه خمسة وسبعون ألف دينار وأربعة آلاف جريب في البصرة ، كما في الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 294 ، وهذه هي نوعيّة قضاة الشرع الذين كانوا يأكلون مال الله ومال عباده .
(166) وقيل أعطاها لابن السّكّيت ، فأملَى الإمام ( عليه السلام ) أجوبتها عليه ، وما ذكرناه هو الأصح .
(167) النمل : 40 .
(168) يوسف : 100 .
(169) يونس : 94 .
(170) لقمان : 27 .
(171) الزخرف : 71 .
(172) الشورى : 50 .
(173) الطلاق : 2 .
(174) النمل : 40 .
(175) يوسف : 101 .
(176) يونس : 94 .
(177) آل عمران : 61 .
(178) لقمان : 27 ، وفي مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 404 : أنّ يحيى بن أكثم سألَ أبا الحسن ( عليه السلام ) عن قوله : ( سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ) قال : ( وهو كذلك.. ) إلخ ، وكذلك في الاحتجاج : ج 2 ص 454 .
(179) طه : 115 .
(180) الشورى : 50 .
(181) الفرقان : 69 و70 .
.(183) ص : 39 .
(184) بحار الأنوار : ج 50 من ص 164 إلى ص 172 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 من ص 403 إلى ص 405 ، وتُحف العقول : من ص 476 إلى ص 481 ، وحلية الأبرار : ج 2 من ص 441 إلى ص 446 .
(185) المصدر السابق .
(186) النساء : 108 .
(187) البقرة : 15 .
(188) الفرقان : 27 .
(189) بحار الأنوار : ج 50 ص 214 نقلاً عن كتاب الاستدراك عن ابن قولويه .
(190) الأعراف : 118 و119 .
(191) محمد : 24 .
(192) براءة : 25 .
(194) الآيتان في غافر : 84 – 85 ، وانظر الاحتجاج : ج 2 ص 454 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 172 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 405 ـ 406 ، وحلية الأبرار : ج 4 ص 447 .
(195) المصدر السابق .
(196) الوسائل : م 18 ص 16 .
(197) المصدر السابق .
(198) الوسائل : م 18 ص 7 .
(199) محمد : 14 .
(200) الوسائل : م 18 ص 11 .
(201) الوسائل : م 18 ص 157 .
(202) طه : 72 .
(203) الإرشاد : ص 312 ، وكشف الغمّة : ج3 ص 171 ، وإعلام الورى : ص 345 ـ 346 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 159 ـ 160 ، والكافي : م 1 ص 502 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 409 ـ 410 ، ومدينة المعاجز : ص 541 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 458 ـ 459 (204) بحار الأنوار : ج 50 ص 128 وص 203 بلفظ قريب ، وهو في مدينة المعاجز : ص 542 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 406 ـ 407 ملخّصاً .
(205) ص : 36 .
(206) بحار الأنوار : ج 50 ص 203 ـ 204 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 .
(207) النساء : 108 .
(208) هو الحمّانيّ ، من تميم ، من العدنانية : أبو زكريّا ، يحيى بن عبد الرّحمان بن ميمون الكوفي .
(209) بحار الأنوار : ج 50 ص 128 ـ 129 وص 190 ـ 191 ، ومناقب آل أبي طالب : ج4 ص 406 ، ومدينة المعاجز : ص 542 .
(210) الأنوار البهية : ص 253 ـ 254 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 185 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 155 ـ 156 ، ومدينة المعاجز : ص 551 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 475 ـ 476 .
(211) البطحائي هو : محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وهو وأبوه وجدّه ، كانوا مظاهرين لبني العباس على سائر أولاد أبي طالب .
(212) الآية الكريمة في الشعراء : 227 ، وانظر الإرشاد : ص 309 إلى ص 311 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 168 ـ 169 ، وإعلام الورى : ص 344 ـ 345 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 199 ـ 200 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 415 ـ 416 ، والكافي : م1 ص 499 ـ 500 ، والأنوار البهيّة : ص 263 ، ومدينة المعاجز : ص 540 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 456 ـ 457 .
(213) ينابيع المودّة : ج 2 ص 469 ـ 470 .
(214) مروج الذهب : ج4 ص 181 ـ 182 ، وينابيع المودّة : ج 2 ص 474 .
(215) بحار الأنوار : ج 50 ص 194 ـ 195 ، وهو مكرّر في ص 196 عن أبي سليمان ، عن ابن أرومة ، وكذلك هو في كمال الدين : ج 2 ص 54 ، وهو في معاني الأخبار : ص 123 ـ 124 ، وإعلام الورى : ص 411 ، ومدينة المعاجز : ص 555 ، وفي حلية الأبرار : ج2 ص 465 روي نصفه الأخير عن ابن أرومة .
(216) العلق : 4 ـ 5 .
217) تُحف العقول : ص 482 ـ 483 .
(218) وردَ في الأصل ( المعتز ) وهو خطأ ؛ لأنّه المنتصر .
(219) المصدر السابق .
(220) الأنوار البهية : ص 264 ـ 265 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 185 ـ 186 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 196 ـ 197 عن مختار الخرائج والجرائح : ص 512 ـ 513 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 551 ـ 552 بتغيير بعض ألفاظه ، وهو أيضاً في حلية الأبرار : ج 2 ص 465 ـ 466 .
(221) كشف الغمّة : ج 3 ص 188 ، وإعلام الورى : ص 343 ـ 344 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 137 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 ، والأنوار البهيّة : ص 247 ، ومدينة المعاجز : ص 545 .
(222) إبراهيم : 43 .
(223) مروج الذهب : ج 4 ص 11 ـ 12 ، وهو في تذكرة الخواص : ص 374 ـ 375 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 211 ـ 212 ـ بلفظ قريب جدّاً ـ ، والأنوار البهيّة : ص 267 ـ 268 ، وينابيع المودّة : ج 2 ص 463 ما عدا الشِعر الذي تلاه .
(224) انظر مروج الذهب : ج 2 ص 40 .
(225) كشف الغمّة : ج3 ص 184 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 155 ـ 156 ، ومدينة المعاجز : ص 551 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 465 .
(226) مدينة المعاجز : ص 543 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 4 .
(227) بحار الأنوار : ج 50 ص 152 ـ 153 ، ومدينة المعاجز : ص 560 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 4 ، وانظر حلية الأبرار : ج 2 ص 466 ـ 467 .
(228) يوسف : 47 و 48 و 49 ، وانظر بحار الأنوار : ج 50 ص 186 ، ومدينة المعاجز : ص 547 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 467 .
(229) هود : 65 .
(230) بحار الأنوار : ج 50 ص 209 ـ 210 ، ومدينة المعاجز : ص 547 .
(231) انظر مروج الذهب : ج 4 ص 19 ـ 20 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 209 ـ 210 .
(232) انظر المصدرين السابقين .
(233) هود : 65 .
(234) إعلام الورى : ص 346 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 189 وص 204 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 ، ومدينة المعاجز : ص 546 ـ 547 .
(235) إبراهيم : 24 ـ 26 .
(236) بحار الأنوار : ج 50 ص 218 ـ 219 ، ومروج الذهب : ج 4 ص 76 ـ 77 .
(237) هود : 65 .
(238) بحار الأنوار : ج 50 ص 147 ـ 148 ، والأنوار البهيّة : ص 268 ـ 269 ، ومدينة المعاجز : ص 547 و ص 560 ، وحلية الأبرار : ج2 ص 467 .
(239) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 418 .
(240) هود : 65 .
(241) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 204 .
(242) النحل : 34 .
(243) هود : 65 .
(244) مهج الدعوات : من ص 261 إلى ص 271 ، والخبر في بحار الأنوار : ج 50 ص 94 .
(245) تاريخ الأُمم والملوك : ج 7 ص 365 .
(246) تاريخ الأمم والملوك : ج7 ص 365 .
(247) الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 287 ـ 288 .
(248) الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 310 ـ 311 .
(249) الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 302 وص 305 .
(250) المصدر السابق .
(251) مدينة المعاجز : ص 552 ـ 553 .
(252) مدينة المعاجز : ص 552 ـ 553 .
(253) الإرشاد : ص 311 ـ 312 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 170 ـ 171 ، وإعلام الورى : ص 342 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 139 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 238 ، وهو في مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 407 ، والكافي : م 1 ص 501 ، ومدينة المعاجز : ص 541 .
(254) المصدر السابق .
(255) انظر مروج الذهب : ج 4 ص 48 وص 51 و ص 52 ، والكامل لابن الأثير : ج 5 ص 269 و ص 287 .
(256) التحريم : 6 .
(257) انظر مروج الذهب : ج 4 ص 48 و ص 51 و ص 52 ، والكامل لابن الأثير : ج5 ص 269 و 287 .
(258) التوبة : 34 .
(259) آل عمران : 23 .
(260) المجادلة : 11 .
(261) الزمر : 9 .
(262) الاحتجاج : ج 2 ص 455 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 454 ـ 455 .
(263) المؤمنون : 101 ـ 102 .
(264) انظر الكامل لابن الأثير : ج 5 ص 311 وص 320 .
(265) الأنعام : 37 .
(266) الأنعام : 109 .
(267) الرعد : 38 ، والمؤمن : 78 .
(268) يس : 15 .
(269) التغابن : 6 .
(270) التغابن : 6 .
(271) كشف الغمّة : ج 3 ص 185 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 155 .
(272) المصدر السابق .
(273) مدينة المعاجز : ص 543 .
(274) المصدر السابق .
(275) مدينة المعاجز : ص 554 .
(276) كشف الغمّة : ج 3 ص 189 ـ 180 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 142 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 209 ، وهو في الأنوار البهية : ص 249 ـ 250 ، ومدينة المعاجز : ص 547 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 464 ـ 465 .
(277) بحار الأنوار : ج 50 ص 161 ـ 162 ، ومدينة المعاجز : ص 548 .
(278) كشف الغمّة : ج 3 ص 182 ـ 183 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 144 ـ 145 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 210 ، وهو في الأنوار البهيّة : ص 251 ـ 252 .
(279) بحار الأنوار : ج 50 ص 185 نقلاً عن مشارق الأنوار ، وهو في مدينة المعاجز : ص 547 .
(280) بحار الأنوار : ج 50 ص 126 ، ومدينة المعاجز : ص 542 ـ 543 .
(281) بحار الأنوار : ج 50 ص 186 ـ 187 ، ومدينة المعاجز : ص 543 .
(282) بحار الأنوار : ج 50 ص 185 ـ 186 ، ومدينة المعاجز : ص 546 .
(282) مدينة المعاجز : ص 559 .
(283) بحار الأنوار : ج 50 ص 174 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 416 ـ 417 ، ومدينة المعاجز : ص 554 .
(284) إبراهيم : 38 .
(285) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 414 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 126 ـ 127 ، ومدينة المعاجز : ص 542 ، والأنوار البهيّة : ص 246 ـ 247 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 455 ـ 456 نقلاً عن الأمالي : ص 187 .
(286) يونس : 99 .
(287) الإسراء : 89 ، والفرقان : 50 .
(288) الإرشاد : ص 312 ـ 313 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 171 ـ 172 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 150 ـ 151 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 408 ، والكافي : م 1 ص 502 ، ومدينة المعاجز : ص 541 .
(289) كشف الغمّة : ج 3 ص 183 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 145 ـ 146 ، ومدينة المعاجز ص 548 ـ 549 .
(290) المائدة : 110 .
(291) الأنوار البهيّة : ص 252 ـ 253 .
(292) الأنبياء : 27 .
(293) بحار الأنوار : ج 50 ص 130 نقلاً عن بصائر الدرجات : ص 249 .
(294) بحار الأنوار : ج 50 ص 132 نقلاً عن بصائر الدرجات : ص 406 ، وهو في مناقب أل أبي طالب : ج 4 ص 411 ، والكافي : م 1 ص 498 ـ 499 ، ومدينة المعاجز : ص 540 .
(295) كشف الغمّة : ج 3 ص 188 ، وإعلام الورى : ص 343 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 138 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح  : ص 238 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 545 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 409 باختصار شيءٍ من آخره .
(296) بحار الأنوار : ج 50 ص 172 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 409 ، ومدينة المعاجز : ص 554 .
(297) أبو هاشم الجعفري هو : داود بن القاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ( عليهما السلام ) ، البغداديّ الثقة ، وكان عظيم المنزلة عند الأئمة ( عليهم السلام ) ، عالي القدر ، وهو من أصحاب الرّضا ، والجواد ، والهادي ، والعسكري ، والإمام الحجة المنتظر ( عليهم السلام ) جميعاً ، ويكفيه بذلك توفيقاً وشرفاً وكرامة..
(298) إعلام الورى : ص 345 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 137 ـ 138 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 237 ، وهو في مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 409 ، والأنوار البهية : ص 247 ـ 248 ، ومدينة المعاجز : ص 545 .
(299) محمد : 25 .
(300) الحج : 46 .
(301) بحار الأنوار : ج 50 ص 129 نقلاً عن أمالي الصدوق : ص 412 ، وهو في الأنوار البهيّة : ص 262 دون آخره .
(302) بحار الأنوار : ج 50 ص 129 ـ 130 ، ومدينة المعاجز : ص 555 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 417 مع زيادة بيت من الشِعر هو :
دَخَلنا كارهينَ لها فلمّا     ألِفناها خَرَجنا مُكرَهينا
(303) بحار الأنوار : ج 50 ص 153 .
(304) كشف الغمّة : ج 3 ص 174 ـ 175 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 176 ـ 177 ، ومدينة المعاجز : ص 543 .
(305) الكافي : م 1 ص 355 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 184 ـ 185 ، ومدينة المعاجز : ص 544 .
(306) الكافي : م 1 ص 355 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 184 ـ 185 ، ومدينة المعاجز : ص 544 .
(307) بحار الأنوار : ج 50 من ص 153 إلى ص 155 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص 211 ، وهو في مدينة المعاجز : ص 550 .
(308) بحار الأنوار : ج50 ص130 وص131 نقلاً عن بصائر الدرجات : ص333 ، وهو في مدينة المعاجز : ص554 .
(309) كشف الغمّة : ج3 ص179 ، وبحار الأنوار : ج50 ص130 نقلاً عن بصائر الدرجات : ص333 ، وانظر مناقب آل أبي طالب : ج4 ص408 – 409 .
(310) كشف الغمّة : ج3 ص187 ، وإعلام الورى : ص343 ، وبحار الأنوار : ج50 ص136 نقلاً عن مختار الخرائج والجرائح : ص237 ، وهو في مناقب آل أبي طالب : ج4 ص408 ، ومدينة المعاجز : ص545 .
(311) سورة الأنعام : 124 .
(312) كشف الغمّة : ج 3 ص 178 ـ 179 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 180 ـ 181 .
(313) كشف الغمّة : ج 3 ص 174 وص 176 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 177 .
(314) المصدر السابق .
(315) كشف الغمّة : ج 3 ص 175 و ص 176 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 177 .
(316) البقرة : 255 .
(317) كشف الغمّة : ج 3 ص 184 ـ 185 .
(318) بحار الأنوار : ج 50 ص 176 ـ 177 ، وكشف الغمة : ج 3 ص 175 .
(319) سبأ : 3 .
(320) بحار الأنوار : ج 50 ص 181 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 179 ، وتحف العقول : ص 483 .
(321) مناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 417 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 157 ـ 158 ، ومدينة المعاجز : ص 555 .
(322) الأنوار البهيّة : ص 255 ـ 256 ، وكشف الغمّة : ج 3 ص 164 ـ 165 ، وبحار الأنوار : ج 50 ص 175 ، والصواعق المحرقة : ص 217 باختلافٍ يسيرٍ في اللفظ ، وهو في حلية الأبرار : ج 2 ص 459 ـ 460 .
(323) الأنوار البهيّة : ص 256 ـ 257 .
(324) الكافي : م 1 ص 86 .
(325) الكافي : م 1 ص 25 .
(326) الكافي : م 1 ص 105 .
(327) توحيد الصدوق : ص 62 .
(328) توحيد الصدوق : ص 20 .
(329) الكافي : م 1 ص 126 .
(330) الاحتجاج : ج 2 ص 449 ـ 450 .
(331) توحيد الصدوق : ص 66 .
(332) الأنعام : 103 .
(333) الاحتجاج : ج 2 ص 449 .
(334) الكافي : م1 ص 102 ، وتوحيد الصدوق : ص 59 وص 60 إلى ص 61 .
(335) المصدر السابق .
(336) الكافي : م1 ص 107 ، وتوحيد الصدوق : ص 98 .
(337) الكافي : م 1 ص 107 ـ 108 .
(338) وفي هامش الكافي : م1 ص 119 علّق قائلاً : فالوحدة في المخلوق ، هي الوحدة الشخصيّة التي تجتمع مع أنواع التكثرات ، وليست إلاّ تألّف أجزاء ، واجتماع أمورٍ متكثرة ، ووحدته سبحانه هي النفي للتجزّؤ والكثرة والتعدّد عنه سبحانه مطلقاً .
(339) الكافي : م1 ص 118 إلى ص 120 ، وتوحيد الصدوق : ص 135 ـ 136 .
(340) الكافي : م1 ص 151 .
(341) انظر الكافي : م1 ص 151 في هامش الصفحة رقم (341) .
(342) تجده في الكافي : م1 ص 137 ـ 138 ، وفي تحف العقول : ص 482 مع اختلاف يسير في اللفظ .
(343) التوبة : 74 .
(344) الأحزاب : 66 .
(345) النساء : 59 .
(346) النساء : 83 .
(347) النساء : 58 .
(348) الأنبياء : 7 .
(349) كشف الغمّة : ج 3 من ص 176 إلى ص 178 ، وبحار الأنوار : ج 50 من ص 177 إلى ص 180 .
(350) الزمر : 67 ونصّ الآية الكريمة : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .
(351) الزمر : 67 .
(352) المصدر السابق .
(353) الأنعام : 91 .
(354) معاني الأخبار : ص 14 .
(355) توحيد الصدوق : ص 112 .
(356) معاني الأخبار : ص 139 .
(357) النور : 35 ، والخبر في الاحتجاج : ج2 ص 450 .
(358) المصدر السابق .
(359) الأنعام : 125 .
(360) توحيد الصدوق : ص 174 ، والآية في الأنبياء : 49 .
(361) هذه الرسالة رواها الطبرسي في الاحتجاج : ج2 ص 450 مجملةً تحت عنوان : رسالته إلى أهل الأهواز ، حين سألوه عن الجبر والتفويض ، ولم نذكر ما رواه هنا لوجوده ضمن ما ذكرناه ، وخوف التكرار والإطالة .
(362) المائدة : 55 ـ 56 .
(363) الأحزاب : 57 .
(364) وفي بعض النّسخ : بهذه الصفة .
(365) الكهف : 49 .
(366) الحج : 10 .
(367) يونس : 44 .
(368) البقرة : 81 .
(369) النساء : 10 .
(370) النساء : 56 .
(371) البقرة : 85 .
(372) الأنعام : 160 .
(373) آل عمران : 30 .
(374) المؤمن : 17 .
(375) الزمر : 7 .
(376) آل عمران : 102 .
(377) الذاريات : 56 - 57 .
(378) النساء : 36 .
(379) الأنفال : 20 .
(380) البقرة : 85 .
(381) في الاحتجاج : وملّكهم استطاعة ما تَعبّدهم به من الأمر والنهي .
(382) الزخرف : 31 .
(383) الزخرف : 32 .
(384) الأحزاب : 36 .
(385) أي : صحة الخلقة ، وتخلية السّرب ، والمهلة في الوقت ، والزاد ، والسبب المهيّج .
(386) الإسراء : 70 .
(387) التين : 4 .
(388) الانفطار : 6 - 7 - 8 .
(389) الحج : 37 .
(390) النحل : 14 .
(391) النحل : 5 ـ 7 .
(392) التغابن : 16 .
(393) البقرة : 286 .
(394) الطلاق : 7 .
(395) النور : 61 ، والفتح : 17 .
(396) آل عمران : 97 .
(397) المجادلة : 3 ـ 4 .
(398) النساء : 98 .
(399) النساء : 100 .
(400) النور : 31 .
(401) التوبة : 91 .
(402) آل عمران : 167 .
(403) الصف : 2 .
(404) النحل : 106 .
(405) البقرة : 225 .
(406) محمد : 31 .
(407) الأعراف : 182 ، والقلم : 44 .
(408) العنكبوت : 1 ـ 2 .
(409) ص : 34 .
(410) طه :85 .
(411) الأعراف : 155 .
(412) المائدة : 48 ، والأنعام : 165 .
(413) آل عمران : 152 .
(414) القلم : 17 .
(415) الملك : 2 .
(416) البقرة : 124 .
(417) محمد : 4 .
(418) المؤمنون : 115 .
(419) الأنعام : 28 .
(420) طه : 134 .
(421) الإسراء : 15 .
(422) النساء : 165 .
(423) إبراهيم : 4 ( فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ، والنحل : 93 ( وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ، وفاطر : 8 ( فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) ، والمدّثر : 31 ( كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) .
(424) فصّلت : 17 .
(425) آل عمران : 7 .
(426) الزمر : 17 ـ 18 .
(427) تُحف العقول : من ص 458 إلى ص 475 ، وحلية الأبرار : ج 2 من ص 448 إلى ص 453 نقلاً عن الاحتجاج .
(428) إعلام الورى : ص 410 ، وبحار الأنوار : 51 ـ ص 158 ، والكافي : م 1 ص 321 بلفظ آخر ، ومصادره الباقية مذكورة في كتابنا ( يوم الخلاص ) ، وهو كذلك في حلية الأبرار : ج 2 ص 445 ، والاحتجاج للطبرسي : ج 2 ص 259 .
(429) الكافي : م 1 ص 341 وهو في عدّة مصادر أخرى .
(430) المصدر السابق .
(431) الاختصاص : ص 102 ـ 103 ، وقد رواه الحسن بن محمد بن الحسن القمّي المتوفّى سنة 378 هجرية ، وفي ( تاريخ قم ) : ص 96 [ من ترجمته المطبوعة ] عن أبي مقاتل شبل الديلمي نقيب الري ، عن أبي الحسن عليّ بن محمد ( عليهما السلام ) ، ونقله المجلسيّ ـ عن الاختصاص ـ : في بحار الأنوار : ج 14 ص 377 ، وهو في مصادر كثيرة ونصوص مختلفة ذكرنا بعضها في كتابنا ( يوم الخلاص ) .
(432) الأنوار البهيّة : ص 257 ـ 258 .
(433) جميع الكلمات القصار ، تجدها في تحف العقول : من ص 481 إلى ص 483 .
(434) عالج : مكان كثير الرمال ، والخبر في حلية الأبرار : ج 2 ص 457 .
(435) وإن كانت الزيارة لأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فَعِوض : وإلى جدّكم ، قل : وإلى أخيك بُعِث الرّوح الأمين .
(436) بخعَ : أذعنَ وأقرّ ، خضعَ .
(440) بحار الأنوار : ج 50 ص 220 ، وغيبة الشيخ : ص 227 .
(441) بحار الأنوار : ج 50 ص 221 ، ورجال الكشّي : ص 502 .
(442) بحار الأنوار : ج 50 ص 222 ـ 223 ، ورجال الكشّي : ص 432 .
(443) هذه ليست آية واحدة ، ولا هي آيات متتابعات ، بل هي من الآيات المتفرّقة التي ذكرَ سلام الله عليه منها اللازم فقط .
(444) بحار الأنوار : ج 50 ص 223 ، ورجال الكشّي : ص 433 .
(445) بحار الأنوار : ج 50 ص 224 ، ورجال الكشي : ص 433 .
(446) بحار الأنوار : ج 50 ص 220 .
(447) بحار الأنوار : ج 50 ص 216 ، ومناقب أل أبي طالب : ج 4 ص 402 .
(448) بحار الأنوار : ج 50 ص 173 ، ومناقب آل أبي طالب : ج4 ص 409 ، ومدينة المعاجز : ص 554 ، وحلية الأبرار : ج 2 ص 459 .
(449) توحيد الصدوق : ص 43 ـ 44 .
(450) بحار الأنوار : ج 50 ص 216 ، ومناقب آل أبي طالب : ج 4 ص 402 .
(451) مدينة المعاجز : ص 544 .
(452) بحار الأنوار : ج 50 ص 221 ـ 222 ، ومدينة المعاجز : ص 555 . 


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page