• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

سطور حول زينب الكبرى سلام الله عليها

الاسم الزهي
"زينب".. وهو اختيار من الله تبارك شأنه. قيل: هو اسم لشجر حَسَن المنظر طيّب الرائحة، وقيل: أصلُه زينُ أب، حُذف الألف لكثرة الاستعمال.
كُنيتاها
الاُولى: اُمّ الحسن، والثانية: اُمّ كلثوم.. لذا يُقال لها: زينب الكبرى؛ للتفريق بينها وبين مَن سُمّيت باسمها من أخواتها وكُنيّت بكنيتها "اُمّ كلثوم".
ألقابها السامقة
العالِمة، الفاضِلة، الكاملة.. عابِدةُ آل عليّ، عَقيلة بني هاشم، عقيلة الطالبيّين ـ والعقيلة هي المرأة الكريمة على قومها، العزيزة في بيتها.
وتُلقّب أيضاً بـ : المَوثَّقة، والعارفة.. وكذا بـ "الصِّدّيقة الصغرى"؛ تفريقاً بينها وبين اُمّها الزهراء "الصدّيقة الكبرى" صلوات الله عليها.
ولادتها البهيجة
هي أوّل بنت مباركة وُلِدت لأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء عليهما السّلام.. وذلك في اليوم الخامس من الشهر الخامس (جمادى الأولى)، من السنة الخامسة لهجرة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وكأنّ هذا التاريخ يريد الإشارة إلى أنّ هذه المرأة الطاهرة ستعيش في أكناف الخمسة الأطياب من أهل الكساء صلوات الله عليهم، وستمضي أُختاً وفيّة مخلصة للإمام أبي عبدالله الحسين خامس آل العباء سلام الله عليهم.
وكان مولدها في مهبط الوحي، في بيت أذِنَ اللهُ أن يُرفع ويُذكر فيه اسمُه.. في المدينة. فنشأت في حجُور زاكية ثلاثة: حِجر سيّد الأنبياء، وحِجر سيّد الأوصياء، وحِجر سيّدة النساء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

النسب الأزكى
هو أسمى الأنساب وأطهرها وأشرفها: الجدّ حبيب الله المصطفى محمّد صلّى الله عليه وآله، وجدّها الآخر: شيخ الأباطح وناصر الإسلام ومؤيّد رسوله أبو طالب عليه السّلام. والأب: أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين، ونَفْس أشرف الأنبياء والمرسلين، عليّ سلام الله عليه. والأُمّ: سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخِرين، فاطمة الزهراء عليها سلام ربّنا.
ثمّ يمتّد النسب إلى خيرة بني هاشم، متّصلاً متواصلاً بمَن كان على دين الحنيفيّة مِلّة إبراهيم الخليل عليه السّلام، ومَن خاطب الله تعالى نبيَّه تزكيةً وتشريفاً لهم حيث قال: وتَوكَّلْ علَى العَزيزِ الرَّحيم * الذي يَراكَ حِينَ تَقومُ * وتَقلُّبَكَ في الساجِدين (1).
أمّا جدّتها لأبيها فهي السيّدة الزكيّة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمَناف.. زوجة أبي طالب عليه السّلام. وجدّتها لاُمّها هي اُمّ المؤمنين، وأشرف نساء رسول ربّ العالمين: خديجة بنت خُوَيلد بن أسَد بن عبد العُزى بن قُصيّ بن كلاب. وكلتاهما من بني هاشم.
الإخوة والأخوات
1. الإمام الحسن المجتبى سيّد شباب أهل الجنّة عليه السّلام.
2. الإمام الحسين السِّبط سيّد الشهداء وريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله.
3. العبّاس قمر بني هاشم عليه السّلام.
4. محمّد بن الحَنَفيّة.
5. عبدالله وجعفر وعثمان أبناء اُمّ البنين فاطمة بنت حِزام رضوان الله عليها.. وهم إخوة العبّاس سلام الله عليه.
6. محمّد الأوسط.
7. محمّد الأصغر.
8. عمر الأطرَف.
9. يحيى.
10. عَون.
11. عُبَيدالله.
12. المُحسِن الذي اُسقط جنيناً لستّة أشهر.
13. زينب الصغرى المكنّاة بـ "اُمّ كلثوم".
14. رُقيّة.
15. اُمّ الحسن.
16. رَملة.
17. جُمانة.
18. مَيمونة.
19. خديجة.
20. فاطمة.
21. أُم الكِرام.
22. نَفيسة.
23. أُمّ سَلَمة.
24. أُمامة.
25. أُمّ هاني.
26. رُقيّة بنت اُمّ حَبيب التَّغلِبيّة.
ومنهم من يضيف: عَمْراً، وعبدالله الأصغر، وعمرانَ، وعبدالرحمن، ورَملة الكبرى.

زوجها
ابن عمّها، عبدُالله بن جعفر الطيّار الشهيد بن أبي طالب. وهو ممّن صَحِب النبيَّ صلّى الله عليه وآله، ولازمَ أميرَ المؤمنين عمّه عليه السّلام كما لازم الحسنَ والحسينَ عليهما السّلام، وأخذ العلم الكثير عنهم. وقد عُرِف بالجود والسخاء، والعفّة والخُلُق الرفيع.
وكان الزواج المبارك مقصوداً هادفاً، فقد روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله حين نظر إلى أولاد أمير المؤمنين عليه السّلام وأولاد جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه قال: بَناتُنا لِبَنينا، وبَنُونا لِبناتِنا. وحين تشرّف عبدالله بن جعفر بالزواج من العقيلة المكرّمة زينب عليها السّلام كان مُخبَراً ومُجيزاً أن ترحل زوجته مع أخيها الإمام الحسين عليه السّلام إلى كربلاء.

أولادها
1. محمّد بن عبدالله.
2. أبو الحسن عليّ، المعروف بـ "عليّ الزَّينبيّ".. وذريّة زينب عليها السّلام من هذا الولد.
3. عَون، وقد استُشهد يوم عاشوراء في كربلاء، في نصرة خاله الإمام الحسين عليه السّلام ، ويُعرف بـ "عون الأكبر".
4. عبّاس.
5. أُمّ كلثوم.
6. عبدالله، وهو آخر أولادها.
7. رُقيّة.
قيل: وجعفر. كما قيل: أولادها خمسة: عليّ وعون ومحمّد وعبّاس وأمّ كلثوم.
الحكّام المعاصرون
شهدت السيدة زينب عليها السلام حكم رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة المنوّرة، وحكم أبيها أميرالمؤمنين عليه السلام في الكوفة (35 ـ40 هـ).. كما عاصرت أيام الحكّام التالية أسماؤهم:
1. أبو بكر بن أبي قحافة ( 11 ـ 13 هجريّة ).
2. عمر بن الخطّاب ( 13 ـ 23 هجريّة ).
3. عثمان بن عفّان ( 23 ـ 35 هجريّة).
4. معاوية بن أبي سفيان ( 35 ـ 60 هجريّة).
5. يزيد بن معاوية ( 60 ـ 64 هجريّة ).
أهم الوقائع في حياتها
جُلُّها فجائع أهل البيت عليهم السّلام، وأحداث الإسلام المريرة، حيث شهدت حالة الانكفاء والانقلاب على وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله. وعاشت محنة وفاة جدها النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم. ثمّ كان ما كان.. من شهادة أمّها الصدّيقة الزهراء سلام الله عليها، ودفع أبيها الوصيّ عن مقامه الإلهيّ في قيادة المسلمين حتّى أصبح جليس داره، فإذا دُعي للخلافة الظاهرة قامت في وجهه الفتن، فاضطُرّ إلى دفعها في: الجمل وصفّين والنَّهروان، وما هدأ مناوئوه حتّى غَدروا به في بيت الله، عند محراب السجود لله جلّ وعلا.
وبعد شهادة أبيها أمير المؤمنين عليه السّلام ـ وما كان أشدَّها وأفجعَها عليها! ـ قامت فتن معاوية الذي فضح نفسه بعد عقد الصلح، فعاشت العقيلة زينب عليها السّلام تلك الأحداث العصيبة حتّى كانت المصيبة بشهادة أخيها السِّبط المجتبى أبي محمّد الحسن سلام الله عليه. وما هي إلاّ سنوات وهي ترافق أخاها الإمام الحسين عليه السّلام في ظروفه الصعبة.. حتّى تسنّم يزيد زمام الحكم، فرأى سيّد شباب الجنّة أن يواجه الظلم والانحراف؛ حفاظاً على قيم الإسلام ومبادئه من أن تُشوّه ثمّ تُمحى.
وكانت الرحلة القدسيّة إلى كربلاء الطفّ، لتقف زينب الكبرى عليها السّلام على المشاهد الرهيبة.. فكان منها القلب الصبور، واللسان الشكور، رغم تعاظم المصائب والكروب عليها، وتزاحم النوائب أمام عينيها، فتجرّعت غُصَصَ الآلام والمآسي، وتحمّلت الرزايا العجيبة وهي تنظر إلى أشلاء الضحايا المقدسة مجزرين على صعيد كربلاء، وترى مصارع إخوتها وأبنائها وبني عمومتها، وذويها، وأصحاب أهل بيتها.
ثمّ كان ما كان، من السَّبي والأسر، والسفر المرير في حالٍ من الإعياء والجوع وشماتة الأعداء ومواجهة قتلة أهلها. هذا.. وزينب العقيلة بنت أمير المؤمنين عليه السّلام، تلك العارفة العالمة غير المعلَّمة، والفهِمة غير المفهَّمة.. تعيش المحن التي هجمت على الرسالة وعلى آل الرسول، وتشاهد كيف يكون غصب الحقوق الإلهيّة ثمّ هتك الحُرم القدسيّة، فيُقتل أولياء الله الأعاظم، ويسعى المتسلّطون على رقاب المسلمين فساداً وعبثاً وظلماً وتحريفاً لمبادئ الدين الحنيف.
وهذه المرارات.. كلّ واحدة منها كفيلة بأن تقضي على المرء.. لولا صبرها الذي أعجب ملائكة السماء، ولولا أن قدّر الله تعالى أن تعيش أخطر الوقائع في حياة الرسالة وأهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله، وتقف إلى جنب أخيها سيّد الشهداء أبي عبدالله الحسين صلوات الله عليه، فهي الأليق بعد المعصوم أن تواصل نهضته الشريفة، وأن تنقل تلك الواقعة الرهيبة إلى امتداد التاريخ وانبثاق الأجيال.
وفاتها
لعلّ أوضح سبب لوفاة العقيلة المكرمة زينب عليها السّلام هو تلك الأرزاء العجيبة، والنوائب المذهلة التي أورثت غصصاً لم تنقطع وعبرات اعتصرت قلبها الشريف. وكان غريباً وعجيباً أن تعيش بعد فاجعة الطفّ العظمى، فتلك معجزة واضحة، إلاّ أنّها لم تبقَ بعدها طويلاً، فما مضت سنة ونصف حتّى أوشك الرحيل:
أوّله عن مدينة جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ إذ اُبعدت عنها بأمرٍ من يزيد بعد سِعاية من واليه على المدينة. وآخره عن هذه الحياة؛ لتلتحق بالرفيق الأعلى وبجدها المصطفى واُمّها البتول وأبيها المرتضى وإخوتها الشهداء إذ شاطرتهم الشهادة، بل وفاقتْها في صبرها وتحمّلها ورضاها بقضاء ربّها تبارك وتعالى.
ثمّ قضت نحبها في الشام، حيث مَنفاها، وذلك يوم الأحد الخامس عشر من شهر رجب سنة 62 من الهجرة النبوية الشريفة. فدُفنت في ضواحي دمشق في قبر يناسب جلالها وعظمتها، وشُيّد لها مشهد مهيب يتوافد عليه المسلمون من أقطار الدنيا، يتبرّكون به وينالون الشرف والكرامة بالامتثال عنده، ويشهدون مفاخر المعجزات والبشارات والبركات.
وكان من إكرام الله تعالى لهذه العلويّة الطاهرة أن شُيّد لها مشاهد أخرى، في البقيع (بقيع الغرقد)، وفي مصر، فضلاً عن دمشق في المنطقة المعروفة اليوم بـ "الزينبيّة".. وهي حيّ السيّدة زينب سلام الله عليها، الذي أصبح عامراً ببركتها، فغدا حيّاً مغموراً بدُور الذِّكر والعبادة، والمراسم والشعائر الإسلاميّة
1 ـ سورة الشعراء / 217 ـ 219.

صفات الصديقة زينب عليها السلام
ما الذي قلد زينب الصديقة هذا الدور العظيم؟ إنّها صفاتها المثلى التي نذكرها تباعاً:
1 - الصديقة:
عشية يوم عاشوراء نظرت زينب (عليها السلام) إلى أرض الطف فإذا بها مثخنة بالجثث الطواهر، وهي تتناثر فوق مساحة واسعة كالأضاحى، وقد فصلت الرؤوس وسحقت الأجساد الطاهرة. وفي جانب آخر رمقت بقايا خيم محترقة، وثلة من الأطفال المذعورين والنساء المفجوعات يتراكضون على غير هدى، وأصواتهم ترتفع تارة بالبكاء على ذويهم وأخرى ينادون العطش العطش.. وقد أحاط بهذا الوادي لجب جيش انتشى بالنصر، وتشبّع بروح الهمجية.
إنّ مجرّد تصور هذه الصورة الفجيعة تجعل أكثر الناس حلماً ينهار، ولكن زينب (عليها السلام) صمدت.. ماذا فعلت؟ لملمت الأطفال، وهدّأت النساء وصبرتهم ثم قامت لربّها تصلي، ولعلها كانت تدعو الله بضراعة لكي يمنحها الصبر والاستقامة، وأن يتقبّل من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ذلك القربان، كما كان دعاء أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) في اللحظات الأخيرة من حياته الكريمة حيث قال (عليه السلام): (اللهم أنت متعالِ المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا شكرت، وذكور إذا ذكرت. أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً. احكم بيننا وبين قومنا بالحق، فإنهم غرّونا وخدعونا وخدعونا وخذلونا وغرّروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيّك وولد حبيبك محمد بن عبد الله الذي اصطفيته بالرسالة وأتمنته على وحيك، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً برحمتك يا أرحم الراحمين)).
ثم قال (عليه السلام): (صبراً على قضائك يا رب، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين).
بلى.. هذا الإيمان الخالص الذي تجلى في كلمات السبط الشهيد في تلك اللحظات الحاسمة، وذلك الموقف الذي تجلى عند الصديقة زينب بعد الشهادة طبع المسيرة الحسينية بطابع توحيدي خالص. إن أبرز صفات زينب كان تصديقها بما جاء في الكتاب وبينه الرسول، وهكذا تحمّلت تلك المصائب العظيمة التي احتسبتها عند الله..
ثم عادت (عليها السلام) إلى حيث كان المخيّم فلمّا انتصف الليل أخذت تصلي نافلة الليل، ورمقتها عينا سيد العابدين علي بن الحسين (عليها السلام) فسألها: عمّة لم تصلين صلاتكِ عن جلوس؟
قالت زينب: يا بن أخي؛ إنّ رجلاي لا تحملانني.
قبل أيام حيث نزلت قافلة السبط في أرض الطف جلس الإمام الحسين أمام خيمته، وأخذ يصلح سيفه وهو يتمثل بأبيات كان العرب تنشدها عندما يحسّ الواحد بالخطر الداهم وهو يقول:
كم لك بالإشراق والأصيل والدّهر لا يقنع بالبديل          يا دهر أفٍ لك من خليل من صاحب وطالب قتيل
فلما سمعت أخته الصديقة زينب ذلك صاحت: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة. ثم تجمعت في ذاكرتها مصائبها فقالت: اليوم ماتت أمي فاطمة، وأبي علي، وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين.
فنظر إليها الحسين وقال لها: يا أختاه لا يذهبنّ بحلمك الشيطان. وترقرقت عيناه بالدموع وقال: لو ترك القطا لنام.
فقالت: يا ويلتاه أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي، ثم لطمت وجهها وهوت إلى جبينها فشقته وخرّت مغشياً عليها.
وكل حي سالك سبيلي          وإنما الأمر إلى الجليل
فقال لها الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن أفاقت: يا أختاه اتقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وأن كل شيء هالك إلا وجه الله تعالى الذي خلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده.
ثم قال لها: يا أختاه إني أقسمت عليك فأبري بقسمي لا تشقي عليّ جيباً، ولا تخمشي عليّ وجهاً، ولا تدعي عليّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت.
ومنذ تلك اللحظة عرفت زينب أنّ مسؤوليتها توجب عليها الصبر فتجلدت، واحتسبت الله في صبرها.
2 - الصبر:
لم يشهد التاريخ امرأة أعظم صبراً من زينب (عليها السلام).. لقد ذُبح أبناؤها عون ومحمد، وقيل عبد الله(10) على مشهد منها فلم تجزع، ثم استشهد عبر ساعات وأمام عينها إمامها الحسين وأخوتها وأبناء أخوتها فصبرت، وكانت مثلاً في رباطة الجأش والحكمة في تدبير الأمور، وقيادة الموقف الصّعب.
إنّها كانت أسيرة وربّما مكبّلة، وكانت قد أنهكتها المصائب والمتاعب الروحية والجسدية، ولكنها كانت تقود المعارضة من موقع الأسر، كما تدبّر شؤون الأسارى فيا له من صبر عظيم لا يمكن أن يناله بشر إلاّ بفضل الله، وحسن التوكل عليه. في عشيّة عاشوراء حين أحرقت بنو أمية خيام أهل البيت، جاءت زينب إلى الإمام زين العابدين وكان قد اشتدّ به المرض، فسألته باعتباره إماماً مفترض الطاعة بعد الإمام الحسين (عليه السلام)، سألته عن واجبها فأمرها والنسوة بالفرار. فلما انتشر بقايا آل الرسول في أطراف وادي كربلاء عادت زينب إلى خيمة الإمام، وأنقذته من وسط النيران واطمأنّت على سلامته، ثم أخذت هي وأختها أم كلثوم بالتفتيش عن النساء والأطفال وجمعتهم تحت خباء نصف محترق.. إنّ مثل هذا العمل العظيم لا يصدر من امرأة وجمعتهم مفجوعة بعشرات المصائب العظيمة، إلاّ إذا كانت في قمّة الصبر، وما هذا الصبر إلا بالله العظيم.
وعندما نودي بآل الرسول بالرحيل من وادي كربلاء، ومرّوا بالأسرى على أجساد ذويهم نكاية بهم، فألقى الإمام زين العابدين نظرة وداع أليمة على جسد أبيه المقطع فاستبد به الحزن، ورمقته الصديقة زينب وأحسّت أن حجة الله وإمام زمانها علي بن الحسين (عليه السلام) في خطر، إذ يكاد الحزن يقضي عليه فأدركت الموقف وتوجهت إليه قائلة: ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وأخوتي؟
فقال الإمام زين العابدين (عليه السلام): وكيف لا أجزع وأهلع، وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين، بالعراء مسلبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم أحد، ولا يقربهم بشر كأنهم أهل بيت من الديلم أو الخزر.
فقالت (عليه السلام) : لا يجزعنك ما ترى، فوالله إنّ ذلك بعهد من رسول الله إلى جدك وأبيك وعمك، وقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، ويجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علواً.
وهكذا بعثت السدة زينب روح السكينة في قلب الإمام (عليه السلام). وعندما أدخل أسارى آل الرسول إلى مجلس ابن زياد، وهو العتل الزنيم ابن المرأة الفاجرة وأبوه زياد الذي لم يعرف له أب فقيل زياد بن مرجانة أو زياد بن أبيه. هنالك دخلت زينب (عليه السلام) متنكرة، حيث لبست أرثى ثيابها. فلما توجه إليها ابن زياد قائلاً: من هذه المتنكرة؟
قيل له: إنها زينب بنت علي.
فأراد ابن زياد أن يتشفى منها فقال: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.
فقالت زينب (عليها السلام) : إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فقال ابن زياد: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت (عليها السلام): ما رأيت إلا جميلاً هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينكم وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا بن مرجانة.
فغضب ابن زياد؛ وكأنه همّ بها، فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها.
فقال لها ابن زياد: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك.
فقالت زينب (عليها السلام): لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاءك فقد اشتفيت.
فقال ابن زياد: هذه سجّاعة؛ فلعمري لقد كان أبو سجّاعاً شاعراً.
فقالت: يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة.
وأضافت: وإن لي عن السجاعة لشغلاً، وإني لأعجب ممّن يتشفي بقتل أئمته، ويعلم أنهم منتقمون منه في آخرته.
إنها رباطة جأش، وصبر وعلم وحكمة.. لقد كانت زينب (عليها السلام) تحسّ بأنها مسؤولة بالدرجة الأولى عن حفظ الإمام علي بن الحسين (عليه السلام)، ثم بقية الأسارى من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد قامت بذلك خير قيام.
ففي مجلس يزيد الطاغية عندما طلب أحد الأمراء منه فاطمة بنت علي (عليه السلام) وكانت وضيئة، وقال: يا يزيد هب لي هذه الجارية. فتعلقت بأختها زينب، فدافعت زينب (عليها السلام) عنها، وتوجهت إلى ذلك الشامي وقالت: كذبت والله ولعنت، ما ذاك لك ولا له.
فغضب يزيد وقال: بل كذبت، والله لو شئت لفعلته.
قالت (عليها السلام): لا والله ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.
فغضب يزيد ثم قال إيّاي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!!
فقالت (عليها السلام) : بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك.
قال يزيد: كذبت يا عدوة الله.
قالت: أمير يشتم ظالماً ويقهر بسلطانه.
فكأنه لعنه الله استحى فسكت، فأعاد الشامي لعنه الله فقال: يا أمير المؤمنين هب لي هذه الجارية. فقال له: أعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً
هذه صور من صبر الصديقة زينب (عليها السلام) وشجاعتها، وهي صور تعكس عمق ذلك القلب المؤيد بنور الإيمان.. وحين نقرأ معاً خطاباتها نعرف أنها لا تصدر إلا عن قلب مطمئن بسكينة الإيمان، واثق بالنصر الإلهي، وموقن باستقامة طريقه وسلامة منهجه.
3 - البلاغة:
علم واسع، وحكمة بالغة، وخطاب فصل، وشجاعة ربانية، وأدب نافذ، وتعبير فصيح.. كل ذلك يشكل عناصر بلاغة الصديقة زينب. لقد كانت بنت ثلاث سنوات حين اصطحبت أمها إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حيث خطبت أمها الزهراء (عليها السلام) بذلك الخطاب الهام الذي جمعت فيه كل قيم الرسالة ومعاني الرفض، ثم كانت زينب هي التي تروي لنا ذلك الخطاب العظيم.
وروي أنه سألها أبوها عن مسألة قالت بكل ثقة: بلى أمي قد علمتني إياها.
وقد بلغ من علمها بالله ومعرفته أن أباها أمير المؤمنين (عليه السلام) أجلسها وأخاها العباس إلى جانبيه، وهما صغيران وقال للعباس: قل واحد. فقال واحد. فقال: قل اثنان. قال: استحي أقول باللسان الذي قلت واحد اثنان.
فقبّل علي (عليه السلام) عينيه، ثم التفت إلى زينب وكانت على يساره والعباس على يمينه، فقالت: يا أبتاه أتحبّنا؟
قال: نعم يا بنية، أولادنا أكبادنا. فقالت: يا أبتاه حبّان لا يجتمعان في قلب؛ حب الله وحب الأولاد، وإن كان لابدّ فالشفقة لنا والحب لله خالصاً. فازداد علي بيهما حباً
عرفان زينب بالله لم يشذ عن عرفان جدّها وأبيها وأمها والسبطين، إنها عاشت في بيت الوحي، ومن ذلك العرفان أوتيت بصيرة في الدين حتى شهد لها الإمام زين العابدين (عليه السلام) بالقول: أنت بحمد الله عالمة غير معلمة، وفهمة غير مفهمة.
وقد أوصى الإمام الحسين (عليه السلام) إلى زينب، وكانت في مستوى تحمل أعباء الرسالة، بدلالة أنّ أخاها الحسين أوصى إليها لتكون نائبة عن الإمام زين العابدين في تلك الأيام العصيبة.
أما حكمتها فكفى دليلاً عليها قيادتها للمعارضة في تلك الظروف، وبعد تلك الفاجعة العظيمة.
أما خطابها الفصل، وكلماتها النافذة، فكفى شهادة على ذلك قول حزيم الأسدي عن خطابها في الكوفة حيث قال: فلم أر والله خفرة أنطق منها كأنما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنينلمحات.. من

الكمالات الزينبية
شاء الله تبارك وتعالى أن يسكب من أنواره، على أحب خلقه إليه.. محمّد وآله صلوات الله عليهم، وشاء " سبحانه " ـ ومشيئتُه نافذة ـ أن يُضفي من جلاله على أعزّ خلقه إليه.. محمّد وآله صلوات الله وسلامه عليهم، فتجلّت فيهم معاني العبادة والشرف، ومكارم الاخلاق ومعالي الخصال، توارثوها عن بيت الوحي والرسالة، فكانوا ـ بحق ـ الدعاةَ إلى الله، والأدلاّء على مراضاة الله، والمستقرّين في أمر الله، والتامّين في محبّة الله، والمخلصين في توحيد الله،
والمُظهرين لأمر الله ونهيه.. وكانوا، كذلك عبادَه المُكرَمين، الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وقد بذلوا أنفسهم في مرضاته، وصبروا على ما أصابهم في جَنْبِه.
هذه هي الشجرة النبوية والدوحة الهاشمية، وقد كانت زينبُ عليها السّلام أحدَ غصونها، فاستطالت بأصلها: المحمّدي العلوي الفاطمي، شرفاً وعزّاً وجلالاً، فأكبرَتْها العقول والنفوس، واشرأبّت إليها الأعناق، ورَمَقتْها العيون بنظرات التوقير والاحترام.. حتّى قال الشاعر فيها:
هيَ الحوراء زينبُ عن علاها سليلةُ أحمد مولى المَوالـي فمهما تبلغُ الألبـابُ علمـاً وكم قال ابن عباس فخـوراً:         لَتقصرُ كلُّ ذاتِ يدٍ طويلـةْ ألا نِعَمت لأحمدَ مِن سليلـةْ فلن تُحصي مواهبَها الجليلةْ عقيلتُنا، ويا نِعمَ العقيلة !(1)
أجل، فقد كان عبدُ الله بن عباس إذا تحدث عنها قال: "حدثتني عقيلتُنا زينب بنت عليّ"(2).
وذكرها ابن الأثير فقال: " كانت زينب أمرأة عاقلة، لبيبة جزلة "(3).
وقال السيوطي في رسالته الزينبية:
" وُلدت زينب في حياة جدها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكانت لبيبة جزلة عاقلة، لها قوة جَنان "(4).
بهذا عُرفت زينب بنت عليّ وبنت فاطمة وحفيدة المصطفى صلّى الله عليه وآله. حتّى اشتهرت بأنّها تاليتها في الفضائل والمقامات المعنوية، وكان الإمام الحسين عليه السّلام أخوها ـ وهو إمام معصوم ـ يقوم لها إجلالاً إذا زارته، ويُجلسها في مكانه، كما كان يفعل رسولُ الله صلّى الله عليه وآله مع ابنته الزهراء سلام الله عليها، وذاك مؤشّر واضح على رفعة المنزلة وسموّ المكانة، وجلال القدر الذي كانت تَحظى به.
ويبلغ شأن زينب عليها السّلام أن الإمام الحسين صلوات الله عليه قد ائتمَنَها على أسرار الإمامة(5)..
حتّى أوصى إليها ما أوصى قبل شهادته في كربلاء، فكانت لها نيابة خاصة عنه، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتّى برئ زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام من مرضه(6).
ومن هنا قيل: " يُستفاد من آثار أهل البيت جلالةُ شأن زينب الكبرى ووقارها وقرارها، بما لا مزيد عليه.. وأنّها من كمال معرفتها ووفور علمها وحسن أعراقها وطيب أخلاقها كانت تشبه أمها سيدة النساء فاطمة الزهراء عليها السّلام في جميع ذلك، وكذا في الخَفارة والحياء، وتشبه أباها في قوّة القلب في الشدّة، والثبات عند النائبات، والصبر على الملمّات.. وكانت المهابة الموروثة من سماتها "(7).

العفاف الزينبيّ
نعم، إنها ربيبة بيت النبوّة، وسليلة الإمامة، عاشت يظلّلها العفاف من كلّ طرف، ويطوّقها الشرفُ من كل جهة.. قال يحيى المازنيّ: "كنتُ في جوار أمير المؤمنين عليه السّلام مدّةً مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فوالله ما رأيتُ لها شخصاً، ولا سمعتُ لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله صلّى الله عليه وآله تخرج ليلاً، والحسنُ عن يمينها والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسنُ مرّة عن ذلك فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب"(8).
فإذا كان سلام الله عليها قد خرجت إلى كربلاء مع الركب الحسيني المجاهد؛ فإنّما خرجت لضرورة اقتضتها مصلحة الدين، لتشاطر إمامها الحسين عليه السّلام في نهضته وثورته، وإلاّ فإن السبي كان من النوائب التي لا تطاق، والنوازل التي تتزلزل منها الجبال بعد فاجعة الطفّ بأحداثها المؤلمة، وقد تحمّلتها زينب لتُكمل ما شرع به سيّدُ الشهداء عليه السّلام، فخطبت ـ وهي الخَفِرة ـ في أهل الكوفة، وفي مجلس عبيدالله بن زياد وفي قصر يزيد لتكشف الحقائق، وتبصّر الناس وتعيد الأمّة الضالة إلى طريق الهداية، وإلاّ فانّ الأمر كما حكاه الشاعر:
وانّ مِنْ أدهى الرزايا السُودِ وقوفَهـا بيـن يـدَي يزيـدِ         أتُؤسَرُ الحرّةُ من آل العبـا عند طليقها فيا للعَجَبـا!(9)
ولذا قالت زينب عليها السّلام ليزيد في مجلس قصره:
" ولئنْ جرّتْ عليَّ الدواهي مخاطبتَك، إنّي لأستصغرُ قَدْرك، وأستعظمُ تقريعك، واستكثر توبيخك، لكنّ العيون عبرى، والصدور حرّى "(10).
إنّها المصيبةُ الكبرى التي يقول فيها أحد الأدباء في رثاء سيّد الشهداء عليه السّلام:
له مصائـبٌ تكـلّ الألسـنُ أعظمُها رُزْءاً على الإسـلامِ وأفظعُ الخطوب والدواهـي ولـدغُ حيّـةٍ لهـا بِريقِهـا         عنها، فكيف شاهدتْها الأعينُ سبْـيُ ذراري سيّـد الأنـامِ دخولُها في مجلس الملاهـي دون وقوفها لـدى طليقِهـا

الفصاحة الزينبيّة
إذا كانت النصوص الأدبية لا تتعدّى حدود الوصف والمحسّنات البديعية، ويكاد الكثير منها يخلو من المحتوى الرفيع والمعنى الشامخ والفكرة الراشدة، فيبدو فارغاً من الذوق أحياناً، فإنَّ بيانات أهل البيت عليهم السّلام ـ فضلاً عن بلاغتها وعلوّ فصاحتها ـ قد تضمّنت المعاني الجليلة من الاعتقادات الحقة والوصايا الأخلاقية، والدعوات الموجّهة إلى الخير والجهاد، معبِّرة عن أهداف الشريعة، وعن شجاعة المتحدّثين بها. فمن أحاديث المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّة المكرّمة وخطب أمير المؤمنين عليه السّلام، وخطبتَي مولاتنا فاطمة عليها السّلام.. إلى خطب أمامنا الحسن وأمامنا الحسين سلام الله عليهما.. تأتي هذه السلسلة الشريفة لتُعرب عن حكم الإسلام في صِيَغ هُنّ غُرر الحكم ولوامعُه، ودرر الكَلِم وجوامعُه.
وزينب العقيلة عليها السّلام هي وريثة هذا البيت الطاهر، حتّى جاء في إحدى زياراتها: " السّلام على المولودة في معقل العصمة والتُّقى، ومهبط الوحي والهُدى، والموروثة عظيمَ الفضل والندى. سلام على المرأة الصالحة، والمجاهدة الناصحة، والحرّة الأبيّة، واللّبوة الطالبية، والمعجزة المحمّدية، والذخيرة الحيدرية، والوديعة الفاطمية ". قال الشيخ جعفر النقديّ رضوان الله تعالى عليه:
" في الطراز المُذهَّب، عن ناسخ التواريخ أنّه قال: من معجزات رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه كان يضع لسانه في فم أولاد فاطمة الرضّع فيُغنيهم عن اللبن. قال: والأولاد الرضّع يشمل الذكور والإناث، فزينب وأمّ كلثوم تشاركان الحسنَين عليهما السّلام في هذه الفضيلة.
ومن المعلوم أنَّ من الْتَقَمَ لسانَ رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ عقلِ العقول ووارثِ علوم الأولين والآخرين ـ وارتوى بمصّه، كيف يحصل على المراتب العالية، وكيف يأخذ مقامات العلم والشرف " (11).
كانت فصاحة سيدتنا زينب تجمع ـ إلى قوّة العبارة وحسن الاسلوب ـ عنصرين شريفين: المعرفة والشجاعة، لذا هيمنت كلماتُها على السامعين وجعلتهم حيارى بمَ يُجيبون، والأمثلة في ذلك وافرة:
o قال حذيم الاسدي: " لم أرَ واللهِ خَفِرةً قطّ أنطقَ منها، كأنّها تنطق وتُفْرغ عن لسان عليّ عليه السّلام، وقد أشارت إلى الناس ( أي أهل الكوفة بعد فاجعة كربلاء وقد جيء بها سبيّة ) بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الاجراس، ثمّ قالت: أما بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل الختل، والغدر والخذل، أتبكون.. فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة.. هل فيكم إلاّ الصلف(12)، والعجب، والشنف(13)، والكذب، وملق الإماء، وغمز الأعداء(14)... قد ذهبتم بعارها، ومُنيتُم بشَنارها، ولن ترحضوها(15) أبدا، وأنّى ترحضون قتلَ سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ؟! أتدرون ـ وَيْلَكم ـ أيَّ كبِدٍ لمحمّد صلّى الله عليه وآله فريتُم ؟ وأيَّ حُرمة له هتكتم ؟ وأيَّ دم له سفكتم ؟! لقد جئتم بها شوهاءَ(16) صلعاء، عنقاءَ سوداء، فقماء خرقاء(17).. ثمّ أنشأت تقول:
ماذا تقولون إذ قـال النـبيُّ لكـم بأهـلِ بيتـي وأولادي وتكرمتـي ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لكم         ماذا صنعتم وأنـتم آخـر الأمـمِ منهم أُسارى ومنهم ضُرِّجوا بـدمِ أن تُخْلفوني بسوءٍ في ذوي رَحِمي
قال حذيم: فرأيت الناس حيارى قد ردّوا أيديَهم في أفواههم، فالتفتُّ إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته من البكاء وهو يقول: بأبي وأمي، كهولُهم خير كهول، ونساؤُهم خيرُ نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلُهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم. ثمّ أنشد:
كهولُـكم خيـرُ الكـهول، ونسلُـكم         إذا عُدّ نسلٌ لا يبور ولا يخزى(18)
وحين جيء بالسبايا إلى قصر ابن زياد أخذ يستعرض عائلة رسول الله صلّى الله عليه وآله بالسؤال عن أفرادها، ثمّ سأل: مَن هذه المنحازة عن النساء ؟ فقيل: زينب بنتُ عليّ، فقال: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم، وأكذب أُحدوثتكم. فأجابته سلام الله عليها:
" الحمدُ لله الذي أكرمنا بنبيه محمّد صلّى الله عليه وآله، وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنّما يُفتَضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا "(19). قال ابن زياد: كيف رأيتِ فِعلَ الله بأهل بيتك ؟ قالت: " ما رأيت إلاّ جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتلَ فبرزوا(20) إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجَّ وتُخاصَم. فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة !"(21). فغضب ابن زياد واستشاط من كلامها معه في ذلك المحتشد(22).
وحينما جيء بالسبايا إلى الشام، وأُدخلن إلى قصر يزيد.. سمعت زينب عليها السّلام يزيد يتمثّل بأبيات ابن الزِّبَعرى:
لَعبتْ هاشـمُ بالمُـلْكِ فـلا لستُ من خِنْدَفَ إنْ لم أنتقمْ         خبرٌ جاء ولا وحـيٌ نـزلْ من بني أحمدَ ما كان فعـلْ
فانبرت له العقيلة زينب عليها السّلام وألقت خطبتها المعروفة في مجلسه، وكان منها: " أمِن العدل يا ابن الطلقاء.. تخديرُك حرائرَك وإماءَك، وسوقُك بنات رسول الله سبايا ؟!.. وكيف يُرتجى مراقبة مَن لَفَظَ فوه أكبادَ الأزكياء(23)، ونبت لحمُه من دماء الشهداء.. فوالله ما فريتَ إلاّ جِلْدَك، ولا حززتَ إلاّ لحمك، ولَتَرِدنّ على رسول الله صلّى الله عليه وآله بما تحمَّلت من سفك دماء ذرّيته، وانتهكت من حرمته في عترته ولُحمته.. ألا فالعجبُ كلّ العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذِكرَنا، ولا تُميتُ وحينا، ولا يُرحَض عنك عارها، وهل رأيك إلاّ فَنَد، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بَدَد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.. ".
فقال يزيد:
يا صيحةً تُحـمَدُ مـن صوائـحِ         ما أهونَ النَّوحَ على النوائحِ(24)

العبادة الزينبية
وهي هداية اختص الله بها عباده المخلصين، فوهب لهم الجدَّ في خشيته، والدوام في الاتّصال بخدمته، حتّى سرحوا إليه في ميادين السابقين، وأسرعوا إليه في المبادرين، إذ كانت أعمالهم وأورادهم كلها ورداً واحداً، وحالهم في خدمته سرمداً، فجعل ألسنتهم بذكره لَهِجة، وقلوبهم بحبِّه مُتيَّمة. وكانت منهم فاطمة الزهراء صلوات الله عليها،
وثانيتهما في ذلك ابنتها العقيلة زينب سلام الله عليها، فكانت تؤدّي نوافل الليالي كاملة في أوقاتها، حتّى أنَّ الحسين عليه السّلام عندما ودّع عياله الوداع الاخير يوم عاشوراء قال لها: " يا أختاه، لا تنسيني في نافلة الليل "(25). وصدق ظنه وصدقت هي، طاعة لله، فلم تترك تهجّدها حتّى ليلة الحادي عشر من المحرم وأجساد أهلها مضرجةٌ بدمائها إلى جانبها، فصلّت من جلوس وقد هدّها المصاب ـ كما روى الإمام عليّ بن الحسين عليه السّلام(26)، والعيال في هول وفزع وحزن مرير، وكذا هي في طريق السبي.. قال الإمام زين العابدين عليه السّلام يروي فيها: " إنّ عمّتي زينب مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا إلى الشام ما تَرَكت نوافلها الليلية "(27).
وعنه سلام الله عليه أيضاً أنه قال: " إن عمتي زينب كانت تؤدي صلواتها من قيام: الفرائض والنوافل عند سير القوم بنا من الكوفة إلى الشام، وفي بعض المنازل كانت تصلي من جلوس، فسألتها عن سبب ذلك فقالت: أصلي من جلوس لشدة الجوع والضعف منذ ثلاث ليالٍ. لأنّها كانت تقسّم ما يصيبها من الطعام على الاطفال، لأن القوم كانوا يدفعون لكل واحد منّا رغيفاً من الخبز في اليوم والليلة "(28).

الوفاة
وبعد عمر عاشته بالآلام والأحزان.. مِن فقدها لجدّها المصطفى صلّى الله عليه وآله، إلى وفاة أمها الزهراء عليها السّلام بعد الرزايا، إلى شهادة أمير المؤمنين عليه السّلام بعد ضربه في محرابه، إلى شهادة الإمام الحسن عليه السّلام بالسمّ، إلى شهادة أخيها الحسين وأطفاله وشهادة إخوتها الأربعة: العباس وإخوته، وشهادة وَلَديها وبني عمومتها، وما جرى من المصيبة العظمى في كربلاء وما بعد كربلاء من السبي والأسر وعناء الطريق إلى الكوفة ثمّ إلى الشام، ومنها إلى كربلاء في زيارة قبور الشهداء في العشرين من صفر، ثمّ إلى المدينة.. فجائع متلاحقة، ونكبات وآلام متصلة، لكنها ـ كما ذكر النسابة العُبَيدلي ـ " كانت وهي بالمدينة تؤلّب الناس على القيام بأخذ ثأر الحسين عليه السّلام وخلع يزيد. فبلغ ذلك أهلَ المدينة، فخطبت فيهم تؤلّبهم، فبلغ ذلك عمرَو بن سعيد فكتب إلى يزيد يُعلمه بالخبر، فكتب يزيد إلى أن فرِّق بينها وبين الناس، فأمر أن يُنادى عليها بالخروج من المدينة، فقالت: قد علم الله ما صار إلينا، قُتل خيرُنا، وحُملنا على الأقتاب، فوالله لاخَرَجْنا وإن أُهريقت دماؤنا. فقالت زينب بنت عقيل: طيبي نفساً وقَرّي عيناً، وسيجزي الله الظالمين، أتريدين بعد هذا هَواناً ؟ إرحلي إلى بلد آمن. ثمّ اجتمع عليها نساء بني هاشم وتلطفن معها في الكلام وواسينها "(29).
وقيل: " إنها أُرغمت على الخروج فذهبت إلى الشام، ومرّت بشجرة عُلّق عليها رأس الإمام الحسين عليه السّلام، فتذكرت أيّام الأسر وعادت إليها لواعج الأسى والحزن، فحُمّت وتُوفّيت بالقرب من دمشق في قرية تُّسمى ( راوية )، في الخامس عشر من شهر رجب عام 62 هـ (30)، أي بعد شهادة أخيها الحسين عليه السّلام بعام ونصف تقريباً. فسلام على مَن ناصرت الحسين في جهاده، ولم تضعف عزيمتها بعد استشهاده، سلامٌ على من تضافرت عليها المصائب والكروب، وذاقت من النوائب ما تذوب منها القلوب، سلام على من شاطرت أمَّها الزهراء، في ضروب المِحَن والأرزاء، ودارت عليها رحى الكوارث والبلاء، يوم كربلاء(31)من عظمة السيدة زينب (ع)
أدركت السيدة زينب (عليها السلام) جدها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فهي على الاصطلاح: صحابية .
وأدركت أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) ورأت مصيبتها ، وسمعت خطبتها في المسجد النبوي الشريف، وروت ذلك كما أشرنا إليه في كتاب ( من فقه الزهراء عليها السلام) (32) .. وشاهدت أذى القوم لها، وكسر ضلعها وسقط جنينها واستشهادها وتشييعها ودفنها (عليها السلام) ليلاً .
وأدركت أبيها الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وكانت حاضرة خطبه وجهاده واستشهاده..
وسمعت جبرائيل (عليه السلام) ينادي بين السماء والأرض: ( تهدمت والله أركان الهدى)(33).
وأدركت أخيها الإمام الحسن (عليه السلام)، ومصائبه، وتسميمه ، وقذف كبده من فمه، وتشييعه ، ورمي جنازته بالسهام(34).
وحضرت كربلاء بكل قضاياها الفريدة في العالم.
وأدركها الأسر، ولأول مرة تؤسر بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكانت (عليها السلام) هي التي أوصلت صوت الإمام الحسين (عليه السلام) إلى العالم بأجمعه.
واُحضرت مجلس ابن زياد ومجلس يزيد، ومن ثم عودتها إلى مدينة جدها(صلى الله عليه وآله وسلّم) بكل مآسيها، وفي المدينة المنورة تلقتها نساء أهل البيت ونساء المسلمين بكل لوعة وأسى .
ومن جملة من تلقتها من النساء ( أم لقمان) وكانت صديقة لزينب (عليها السلام) فلما رأتها لم تعرفها، فقالت لزينب (عليها السلام): من أنت يا أُخيَّة؟ بينما لم يكن بُعدها عنها أكثر من أشهر، وإنما لم تعرفها لشدة تأثير المصائب عليها، فرأتها امرأة متحطمة مغبرة الوجه من حر الشمس، مبيضة الشعر… لذا قالت: من أنت يا أخيّة ؟
فقالت زينب (عليها السلام): لك الحق أن لا تعرفيني ، أنا زينب.. فعلا نحيبها وبكت بكاء شديدا قلّ مثيله.
وهكذا تلقت السيدة زينب (عليها السلام) هذه المصائب.
نعم إن رفعة درجات الآخرة رهينة بكثرة الابتلاءات والمشاكل في دار الدنيا، ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأُمها فاطمة (عليها السلام): ( يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غداً)(35).
وقد قالوا (عليهم السلام): ( أفضل الأعمال أحمزها)(36).
ولا فرق في ذلك بين الأحمز طبيعة، كالصيام في الحر بالنسبة إلى الصيام في البرد ، وبين الأحمز اختيارا، ولذا كان الإمام الحسن (عليه السلام) يذهب إلى الحج ماشيا راجلا، والنجائب(37) تساق بين يديه(38)، وقد ذكرنا في (الفقه)(39) الجمع بين هذا الحديث وبين قوله سبحانه: [ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ] (40).
العصمة الصغرى
وهكذا السيدة زينب الكبرى (عليها السلام)، فان التراب لا يأكل اجساد هؤلاء الطاهرين.
فان لها من المقام عند الله سبحانه ما يجعلها في المرتبة الثانية من المعصومين (عليهم السلام).
ولذا صرح بعض العلماء : بأن لها العصمة الصغرى..
ومع كل ذلك فكيف لا يكون لمرقدها الشريف تلك المنزلة؟.
إنها وإن لم نرَ في الروايات هبوط الملائكة على قبرها، كما هو مذكور في متواتر الأحاديث حول قبر أخيها الإمام الحسين (عليهما السلام) لكن استظهار ذلك من بعض الآثار غير بعيد، ولعل المتتبع يجد ما لم نجده(41).
وما أعظمها من كلمة: ( إن الله شاء أن يراهن سبايا)(42).
فالله الذي أعظم من كل عظيم يرى بمشيئته شيئاً كبيرًا لا نتمكن من وصفه، ودرك كنهه..
أليس يحق لها فوق ما نتصوره من العظمة؟،
بلى.. وأكثر..

الشفيعة زينب(ع)
أصبت بشبه أزمة قلبية في وسط محرم الحرام فأحضروا حولي بعض الأطباء.
فقال أحدهم : كيف أحضرتموني على رأس ميت؟!..
وأخيراً قرروا نقلي الى المستشفى، فنقلت على سرير.. وكان وعيي كاملا حيث وضعت على سريري في المستشفى فأخذني النوم، فرأيت في المنام أن السيدة زينب (عليها السلام) واقفة متصلة بسريري وهي تنظر أليَّ!.
وبعد أن صحوت من النوم تعجبت من هذا الحلم، فإني لم أرَ السيدة زينب (عليها السلام) قبل ذلك طيلة عمري، ثم لم يكن يتبادر الى ذهني أن أتوسل بها (عليها السلام)، حتى يحتمل أنه بسبب ذلك …
وبعد ساعة جاء أخي(43) إلى زيارتي فنقلت له الرؤيا، فقال: نعم، لقد طلبت ـ قبل مجيئي ـ من الأهل والأولاد أن يتوسلوا بالسيدة زينب (عليها السلام) في شفائك، فتوسلوا بها وأخذوا يقرؤون القرآن اهداءً لها، ولعل ذلك هو السبب.

كتب في كراماتها
ينبغي أن تكتب عدة كتب في كرامات السيدة زينب (عليها السلام) التي ظهرت منها ، فانها لا تعد ولا تحصى، ولعله يرى منها (عليها السلام) ما لا يقل من كرامة أو كرامات في كل يوم.. ويوم.
فكما أن النور يشع مهما كان ضعيفاً، فأهل البيت (عليهم الصلاة والسلام) بأجمعهم لهم الإشعاع، حتى في الطبقات غير العالية منهم، فكيف بالمستويات الرفيعة كالسيدة زينب (عليها السلام) ومن أشبهها.
وقد ورد في زيارة السيدة المعصومة (عليها السلام): ( من زارها وجبت له الجنة)(44) مع أنا لا نعرف عنها ـ حيث انه لم يصلنا فيها من التواريخ والروايات ـ حتى عشر ما للسيدة زينب (عليها السلام).
نعم الشيء مهما كان كبيراً دنيوياً، لا قيمة له.. فانه يزول، والشيء مهما كان صغيراً، إلا أنه إذا ارتبط بالله سبحانه وتعالى، فهو أكبر من كل كبير.
فإنهم (عليهم الصلاة والسلام) أطاعوا الله تعالى فكانوا مثله كما في الحديث القدسي: ( أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)(45).
هذا بالنسبة إلى كراماتها (سلام الله عليها).
أما مكانتها الكونية: فلا شك أن المعنويات في مكانتها الكونية، أعظم وأجل من الماديات فيها، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): ( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً كان خيراً لك مما طلعت عليه الشمس)(46).
إن ما طلعت عليه الشمس أمور مادية، والأمور المادية لها مدة محدودة، أما الأمور المعنوية فلا زوال لها ولا انقضاء ، ولا يعرف أبعادها إلا الله سبحانه ومن اختارهم.
إن إحاطتهم(47) بالكون فوق ما نتصور، وهي (عليها السلام) وإن كانت في مرتبة أنزل من المعصومين (عليهم السلام) إلا أنها في درجة رفيعة لا نتمكن أن نتصور منزلتها العظيمة، فمن غير المعقول أن يستوعب الظرف الأقل حجما على ما هو أكثر من ذلك، ومن هنا يعرف قوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) لعلي (عليه السلام): ( يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، ولا عرفني إلا الله وأنت، ولا عرفك إلا الله وأنا)(48).
ومن الواضح إن معرفة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ومعرفته (عليه السلام) والرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) لله سبحانه، يراد بذلك القدر الممكن منها ، وإلا فلا يمكن للممكن معرفة الله كما هو هو، مهما كان الممكن رفيعاً، ولو كان سيد الكائنات وأشرف المخلوقات.
التوسل بهؤلاء الأطهار
كانت السيدة زينب (عليها السلام) تملك مرتبة عالية من الذكاء الفطري، بالإضافة إلى مواهبها الإلهية وعلمها الربّاني، وقد حفظت خطبة أمها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في المسجد النبوي الشريف وعمرها حينذاك ما يقارب الخمس سنوات، وهي الناقلة للخطبة التي وصلت إلينا عبر التاريخ(49).
نعم رفعة الأبوين ـ خصوصاً بتلك المنزلة العالية ـ مع شدٌة مواظبتها للطاعات والعبادات وقابليتها التي منحها الله عزوجل، خَلقت منها أنبل شخصية، وأرفع إنسانة مقرَّبة عند الله تبارك وتعالى.
فعلى الإنسان وخاصة رجال الدين أن يتوسلوا بهؤلاء الأطهار(عليهم السلام) فان لهم عند الله مقاماً محموداً ودرجة عظيمة، وقد سبق قوله تعالى: [ وابتغوا إليه الوسيلة ] (50)، وقال (عليه السلام): ( نحن الوسيلة)(51).
إن أحد تلامذة الشيخ مرتضى الأنصاري (قدس سره الشريف) كان لا يفهم درس الشيخ (قدس سره) بصورة جيدة وكان يعاني من ذلك، فتوسل بالإمام أمير المؤمنين عليعليه السلام في أن يتفضل الله سبحانه عليه بالفهم، فإنَّ (العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء)(52).
فرأى الإمام علي عليه السلام في المنام، فلقّنه: [ بسم الله الرحمن الرحيم] فلما قام من منامه أخذ ذهنه يستوعب الشيء الكثير الكثير.
فجاء إلى درس الشيخ (قدس سرٌه) فرأى نفسه يتفهم الدرس بعمق، فأخذ يناقش الأستاذ في بعض المباحث، ولما انتهى الدرس، مرٌ الشيخ (قدس سرٌه) من قربه وهمس في أذنه قائلاً: إن الذي علمك البسملة، قد علمني سورة الحمد بأكملها، إشارة إلى أن ما معي من علم فهو من الإمامعليه السلام ، ولكنه اكثر مما عندك بهذه النسبة فلا تغتر بما عندك.
نعم.. من كان مع الله ومع أوليائه كان الله معه، ومن توجه إليه تعالى وتوسل بأوليائه في أموره كلها، جعل الله له الفرج والمخرج.
إذن من اللازم على طلاب العلوم الدينية خاصة: أن يواظبوا أشد المواظبة على الطاعات والانتباه لعدم الانحراف عن طريقه سبحانه، وإلا كان عاقبة أمره خسراً(53).. والعياذ بالله.
قال الشاعر:
أزمَّةُ الأمورِ طرّاً بيــده والكل مستمدً من مَدَدِه

السيدة زينب(ع) و الشعائر الحسينية
قد اهتمت السيدة زينب (عليها السلام) بالشعائر الحسينية أكبر اهتمام، فعلاً وقولاً وتقريراً:
فبكت، وأبكت، ولطمت وجهها، ونطحت رأسها بمقدم المحمل حتى جرى الدم، وخطبت خطباً، وأنشأت أشعاراً، وعقدت مجالس العزاء والبكاء على الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
ففي صبيحة عاشوراء حينما كانت عند ابن أخيها الإمام السجاد عليه السلام تمرضه، سمعت أخاها الإمام الحسينعليه السلام يقول:
يا دهر أفٍّ لك من خليـل كم لك بالإشراق و الأصيل إلى أخر الأبيات..
يعيدها المرتين أو الثلاثة، فلم تمتلك نفسها أن وثبت وخرجت حتى انتهت إليه (عليه السلام) منادية:
واثكلاه! ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضين وثمال الباقين..
فنظر إليها الإمام الحسين عليه السلام وترقرقت عيناه بالدموع قائلاً لها: يا أُخيّة.. لو ترك القطا يوماً لنام، فقالت:يا وليتاه … ذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي، ثم لطمت وجهها وهوت إلى جيبها فشقَّته وخرَّت مغشياً عليها(54) ـ كما في رواية الإمام السجاد عليه السلام ـ .
ولما كان اليوم الحادي عشر وأراد ابن سعد حمل النسوة والأسرى من آل بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الكوفة، طلبن النسوة أن يمروا بهن على مصرع أبي عبد الله عليه السلام والشهداء، فمروا بهن، فلما نظرن إلى القتلى صحن ولطمن الوجوه، وأخذت زينب (عليها السلام) تندب أخاها الحسينعليه السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:
يا محمداه، صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينك مرمَّل بالدماء، مقطَّع الأعضاء، وبناتك سبايا، و إلى الله المشتكى… ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس ورفعته نحو السماء وقالت: إلهي تقبَّل منَّا هذا القربان، وفي الحديث: انها أبكت والله كل عدوٍّ وصديق(55).
وعندما أُدخل السبايا من آل البيت (عليهم السلام) الكوفة وأخذت أم كلثوم تخاطب الناس، إذا بضجة قد ارتفعت، فإذا هم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين عليه السلام وهو رأس زهري قمري أشبه الخلق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ولحيته كسواد السبج قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع، والريح تلعب بها يميناً وشمالاً، فالتفتت زينب (عليها السلام) فرأت رأس أخيها فنطحت رأسها بمقدَّم المحمل حتى رأينا الدم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:
يا هلالاً لمّا استتمَّ كمالا غاله خسفه فأبدا غروبا         ما توهَّمتُ يا شقيق فؤادي كان هذا مقدَّراً مكتوبا
إلى آخر الأبيات(56).
وقد خطبت السيدة زينب (عليها السلام) عندما جيء بهنَّ أسارى إلى الكوفة، فأومأت إلى الناس بالسكوت والإنصات، فارتّدت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثم قالت في خطبتها بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله:
أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختر والغدر والحدل…
أتبكون على أخي ؟! أجل والله فابكوا، فإنكم والله أحق بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً… أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فريتم؟ وأي عهد نكثتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي حرمة له هتكتم؟ وأي دم سفكتم؟!…
ثم أنشأت تقول:
ماذا تقولون إذ قال النبي لكم ماذا صنعتم وأنتم آخر الأمم؟         بأهل بيتي وأولادي ومكرمتي منهم أسارى ومنهم ضرَّجوا بدم؟
… إلى آخر الخطبة التي هزت ضمائر الناس وعروش الطواغيت، حتى قال الراوي: فلم أرَ والله خَفِرة أنطق منها، كأنّما تنطق وتفرغ عن لسان أمير المؤمنين عليه السلام ..
وقال مشيراً إلى مدى تأثر الناس يومئذ بخطبتها: فوالله لقد رأيت الناس يومئذٍ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلَّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول وشبابكم خير الشباب ونساؤكم خير النساء ونسلكم خير نسل لا يخزي ولا يبزي.
وهنا قال الإمام زين العابدين عليه السلام : (يا عمة.. ـ أنت بحمد الله ـ عالمة غير معلَّمة، فهمة غير مفهَّمة)(57).
كما وقد أمرتنا السيدة زينب (عليها السلام) بإقامة مآتم البكاء على سيد الشهداء قائلة:
(يا قوم اِبكوا على الغريب التريب…)(58).
وهي (عليها السلام) التي استفادت من كل فرصة تتاح لها في ذلك، حتى أنها (عليها السلام) لما عادت إلى كربلاء مع حرم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) العائدات من الأسر وتراءت لهن القبور، ألقت بنفسها على قبر أخيها ثم أخذت تعدَّد مصائبها لأخيها وهي تبكي كالثكلى وترثيه بأبيات، فأنَّت وبكت بكاءً شديداً حتى أبكت أهل الأرض والسماء، كما ورد في الحديث(59)!!.
وقد تنبَّأت سيدتنا العالمة مستقبل القضية الحسينية، فقالت لابن أخيها الإمام زين العابدينعليه السلام :
( لقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمَّة، لا تعرفهم فراعنة هذه الأمة، وهم معروفون في أهل السماوات، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرَّجة، وينصبون بهذا الطف عَلَمَاً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجهدنَّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه فلا يزداد إلا ظهوراً وأمره إلا علواً)(60).
و قالت ليزيد: (… فإلى الله المشتكى و عليه المعوَّل، فَكِدْ كَيْدك، واسعَ سَعْيَك، وناصِب جُهدك، فوالله لا تمحو ذِكْرنا، ولا تميت وَحْينا، ولا تُدرك أمدنا، ولا ترحض عنك عارها)(61)من كرامات عقيلة الهاشميين السيّدة زينب عليها السّلام
مزار العقيلة زينب عليها السّلام في الشام من البقاع التي يُستجاب فيها الدعاء ويُغاث فيها الملهوف، ويشفى فيها المرضى، وتُقضى فيها الحاجات، فصاحبة المزار سيّدة جليلة من سلالة النبوّة ومن كرائم أهل البيت الذين أذهب الله تعالى عنهم الرجسَ وطهرّهم تطهيراً.
وإذا ما حفّت الرحمة بمثوى هذه السيّدة الجليلة، وكان ضريحها الطاهر مَطافاً للملائكة، فقد سبق لها أن عاشت في بيوتٍ أذِن اللهُ أن تُرفع ويُذكر فيها اسمُه، يُسبحّ له فيها بالغدوّ والآصال رجالٌ لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذِكر الله وإقام الصلاة، وفي بيوتِ ألِفَ أهلُها تردّد الملائكة وسمعوا هَينَمتهم.
فلا غزو إذاً إن قَصَد هذا المزارَ المبارك ذو معضلة وتوسّل إلى الله عزّوجلّ بحقّ نبيّه وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ففرّج الله عنه وكشف ما به من ضُرّ.
ولا يرتاب المؤمن أنّ الكرامات من جُمل المواهب الإلهيّة التي يمنّ بها الله تبارك وتعالى على عباده المخلَصين المطيعين، الذين بلغوا الذروة في الطاعة واليقين؛ ومَن أولى بهذا اللطف وبهذه المواهب من خاتمِ المرسلين حبيبِ الله وصفوتهِ من خلقه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله.. ومعه أهلُ بيته الأطهار الذين صرّح صلوات الله عليه وآله بأنّهم معه في درجته يوم القيامة.
ومن هؤلاء العباد المطهّرين المخلَصين: عقيلة الهاشميين السيّدة زينب بنت أمير المؤمنين سلام الله عليها؛ فقد ورثت أمَّها سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السّلام في التقوى والفضيلة، وترعرعت في بيت أمير المؤمنين عليه السّلام وسيّد الموحّدين، أوّلِ الخلق إسلاماً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكَبُرت مع سِبطَي نبيّ الهُدى: الحسنِ المجتبى والحسينِ الشهيد بكربلاء سلام الله عليهما، فاشتهرت ـ بعد أمّها ـ بأنّها سيّدةُ بني هاشم في العبادة والطاعة والتقوى، ولُقّبت لكمالها وعلمها وحِلمها ووفور عقلها بـ " عقيلة بني هاشم ".
وروي أنّها لم تترك تلاوةَ القرآن ونافلة الليل حتّى ليلة الحادي عشر من المحرّم سنة 61 هـ، على الرغم من أنّها عايَنَت إخوتها وابنَيها وأهل بيتها مُجزَّرين على رمضاء كربلاء كالأضاحي تَصهرهم الشمس وتسفي عليهم رمالُ الصحراء.
فكانت هذه المرأة الجليلة في إيمانها وتسليمها وعبادتها مدعاةً لمباهاة النساء المؤمنات، وفخراً تفتخر به العابدات الصالحات الموقنات.. ومَبعثاً لدهشة الرجال من أولي الصبر والرضى.
وكان من الطبيعيّ لمثل هذه السيرة العطرة والعبوديّة المخلصة، أن تستمطر شآبيب الرحمة الإلهيّة، فتنهمر وتتدفّق لترفع منزلةَ هذه السيّدة إلى أعلى عِلّيّين، وتجعل مزارَها مناراً في بلدٍ أرادت فيه عُصبة أُمويّة أن تُطفئ نور الله جاهدةً، فأبى الله إلاّ أن يُتمّ نورَه ولو كره المشركون.
وهكذا تحوّل مزار السيّدة التي ساقها الظَلَمة أسيرةً منكوبة محزونة، إلى محلّ قدسٍ تتلألأ منه أنوار القُدس، وتُشَدّ إليه رحالُ الزوّار والوافدين، وتتشرّف بلثم أعتابه وفودُ محبّي أهل البيت من أقاصي البلاد.
فيض الكرامات
ـ السيّدة تشفي صبيّاً باكستانيّاً مُقعَداً:
نشرت جريدة " الزمان " الصادرة في دمشق مقالةً بمناسبة وصول ضريح فضّيّ من مدينة كراجي الباكستانيّة، أهداه أحد وجهاء كراجي ـ واسمه الحاج محمّد علي حبيب ـ ليكون ضريحاً لعقيلة الهاشميّين السيّدة زينب عليها السّلام بدل الضريح السابق، ونقلت عن مُهدي الضريح الجديد قوله:
تزوّجت قبل مدّة، وكان الثمرة الوحيدة لزواجي طفلاً جميلاً مَنّ الله تعالى عليَّ به، وقد شَبّ هذا الطفل وترعرع، وكنت وزوجتي نُحيطه برعايتنا، ونُغدِق عليه ألوانَ المحبّة، وكان يَحظى بحبِّ ورعاية جميع أفراد العائلة.
ثمّ شاء التقديرُ الإلهيّ لهذا الطفل أن ينشب المرضُ فيه أظفارَه، فلزم الفراش بُرهة من الزمن ثمّ تحسنّت حاله تدريجاً لكنّه ظلّ يلازم الفراش لا يبرح، وبعد ذلك اكتشفنا ـ ويا لَلْهَول ـ أن الطفل الجميل قد أُصيب بالشلل في ساقَيه، فغدا مُقعَداً لا يقوى على النهوض على قدميه!
وهالَتني الصَّدمة، لكنّني لم أيأس، وسُرعانَ ما صَحِبتُه إلى أبرع أطبّاء الهند والباكستان، فاتّفقَتْ كلمتُهم على أنّ الأمر خارج من أيديهم، وأنّ علاج مثل هذه الحالات يعجز عنه الطبّ، فلا فائدة في استمرار المعالجة.
أمّا عاطفة الأب والأم فهيهات لها أن تستسلم لنصيحة طبيب أو لقول مختص حاذق! وسُرعانَ ما شَدَدتُ الرحال إلى أوروبا، فقد قيل إنّ فيها إمكانات لا تتوفّر في بلادنا.
في أوروبا
حملتُ طفلي الوحيد ودُرتُ به على أمهَر أطباء أوروبا، فأخضعوه لأدقِّ الفحوصات، وبَقِيتُ أتأرجح بين اليأس والأمل مدّةَ عامين كاملين لم يهدأ لي فيهما قرار، ولم يَطِب لي فيهما نوم! كيف وأنا أرى هذا البناء الذي كنت آمل أن يكون امتداداً لحياتي وهو يتهاوى، وأرى العينين البريئتين الواسعتين تنضحان ألماً وعذاباً مع كلّ حركة وسكنة.
وتصرّم العامان دون أن أُلقي بالاً إلى تكاليف علاج، أو التفتَ إلى تمشية أموري التجاريّة، ثمّ أعلن الأطباء ـ بعد لأيٍ ـ إفلاسَهم وعجزهم، فلم أجد بُدّاً من أن أحمل الطفل المُقعد وأعود به إلى كراجي وفوق كتفيّ جبالٌ من ضَنىً وعذابٍ وألم لا يعلمها إلاّ الله تعالى.
اللجوء إلى أعتاب السيّدة
ثمّ اتّفق لي أن سافرتُ إلى أوروبا مُجدّداً للتجارة، فعرّجت في عودتي على مدينة دمشق، وأومَضَ في خاطري فجأة خاطر: سأزور قبرَ السيّدة زينب عليها السّلام! وبسرعة توجّهت إلى الزيارة، ولَفَّ وجودي خشوع عجيب وأنا أُتَمتم بكلماتِ الزيارة، وأفتح أبوابَ القلب المُضنى على مِصراعَيها لكريمةِ أهلِ البيت عليهم السّلام. هؤلاء قومٌ ضَرَبت جذورُهم في النُّبل والكرم؛ قومٌ إذا ذُكر الخير كانوا أوَّلَه وآخره وغايته ومُنتهاه، قومٌ شأنُهم الرِّفقُ والحِلمُ والكرم.
أذلَلتُ دموعي على أعتابِ السيّدة الكريمة، وأرخَيتُ العِنانَ لعَبراتي كي تنهمر سخيّة وأنا أتمثّلُ وقوفَ العقيلة عليها السّلام ضارعةً أمام بَدَنٍ زكي مسلوب العمامة والرّداء، محزوزِ الرأس من القَفا.
هيهاتَ لأحدٍ غير هؤلاء القوم أن يَضع على جُرحي النازف بَلسماً، وأنّى لسواهم أن يجد لعظمي الكسير مَرهماً! تكلّمتُ مع السيّدة وبَثَثتُها همّي وحزني دون أن أنطق بكلمة، فقد تَرجَمَت الدموعُ الحرّى مقالتي، وتكفّلتْ آهاتي وزفراتي ببيان بُغيتي.
لم أدرِ كيف تَصرَّم الليل وأنا أتوسّلُ إلى الله تعالى وأُقسِم عليه بحُرمةِ صاحبة هذا القبر النورانيّ المحفوف بالملائكة أن يكشف عنّي ما قد تكّأدَني ثِقلُه وأبهَضَني حَمْلُه.
البشارة
أعادني إلى نفسي أذانُ الفجر، واستمعتُ لصوت المؤذّن وهو يشهد في دمشق بالنبوّةِ لخيرِ خلق الله، وبالولاية لوصيّهِ خيرِ البريّة بعد رسول الله، وعُدت إلى كراجي وفي قلبي نورٌ خَلَّفتْه زيارةُ كريمة أمير المؤمنين عليه السّلام، وفي صدري براعمُ آمالٍ زَرَعتها يداها الطاهرتان.
وتطلّعت من بعيد في وجوه المستقبِلِين.. الواحد تلو الآخر، كانت وجوههم تضجّ بالبُشرى... ولم أجد طفلي بينهم، وسرعان ما داهمتني البشارة السارّة: لقد نهض الطفلُ العليل الكسيح في نفس الليلة التي بِتُّ فيها عند ضريح كريمةِ أهل البيت عليها السّلام، وصرخَ ينادي أمَّه، ثمّ قال للممرّضات اللاتي هُرِعنَ نحوه بأنّه يريد أن يسير، فهناك قوّة دَبّت في عظامه الكسيحة، أحسّ معها أنّ حمل هذا البدن الصغير لم يَعُد عسيراً. وهكذا خَطا الطفل خطواتٍ وخطوات... ثمّ أُخبِرت الأمّ، فجاءت على جناحِ السرعة لترى المعجزة!
ويومها صَمّمتُ ـ والكلامُ للحاج محمّد علي حبيب ـ على إهداء هذا الضريح الفضّي عِرفاناً منّي للجميل الذي غَمَرتني به عقيلةُ الهاشميّين عليها السّلام، وأرجو أن تحظى هذه الهديّةُ اليسيرة بالقبول، وقد عمل في صُنع هذا الضريح عدد من أصحاب المهارة الحذق والفنّ(62).
السيّدة العقيلة عليها السّلام تُشفي امرأة لبنانيّة مُقعدة
تناقلت الجرائد والمجلاّت الصادرة في لبنان كرامةً للسيّدة عقيلة بني هاشم عليها السّلام، شُفيت على أثرها امرأةٌ لبنانيّة مُقعدة تدعى ( فوزية بنت سليم زيدان )، من أهالي قرية " جوَيّا " التابعة لمدينة صُور، وكانت هذه المرأة قد أُصيبت بروماتيز مُزمن مدة 13 سنة ألزمها الفراش، وكان الأطباء قد أعلنوا يأسهم من علاجها.
في أحد أيّام محرّم الحرام.. قالت المرأة المقعدة لأخيها: خُذني إلى قبر مولاتي زينب عليها السّلام في الشام! فاعتذر أخوها منها بأعذارٍ شتّى، وكان حَملُها أمراً غير يسير بطبيعة الحال.
قالت المرأة في محاولة لإثارة حميّة أخيها الهامدة: سأستأجر امرأتين تحملاني إلى سيّدتي!
ردّ الأخ ـ محاولاً صرفَ أخته العليلة عن عزمها ـ بمنطقه المشكّك: لو شاءت السيّدة أن تشفيك فلا فرق في الأمر أن تكوني هنا في بيتك أو في حرمها في الشام!
ما الذي بإمكان امرأة كسيحة وحيدة أن تفعله في مقابل من لا يَعي لغة القلب ؟!
وإذا كان بإمكان هذه الروماتيز أن تأسر الأرجل وتقيّد البدن، فإنّها ـ لا ريب ـ عاجزة أن تقيّد القلب النابض لينطلق فيطوي المسافات ويختزل الحُجب...
عادت المرأة تتوسّل: فلتحملوني إلى باب الدار لأتفرّج على مراسم العزاء في المسجد المقابل!
ألقَت العينانِ الكئيبتانِ نظراتٍ تحملُ الكثير من المعاني على الجمهور المتوافد على المسجد.. وأحسّت من أعماق قلبها المُضنى أنّها تُشاطر أصحابَ العزاء عزاءهم، وذَرَفت الدموعَ السِّخان لمصابِ قتيلِ الطفِّ المظلوم: سيّدِ الشهداء الحسين عليه السّلام، وعَزَّت جدَّه المصطفى صلّى الله عليه وآله وأباه المرتضى وأمَّه الزهراء وأخاه المجتبى وأختَه العقيلة عليهم السّلام في مصابهم بخامسِ أهلِ الكساء الشهيد المُرمَّل بالدماء... ونادت تندب سيّدتها العقيلة عليها السّلام: يا مولاتي، يا أختَ الحسين، يا مظلومةَ كربلاء!
حين يبكي القلب يتوقّف الزمن، وتندهش الملائكة... فقد طرقت أسماعها لُغةُ الإخلاص... لغةٌ تتجاوز الحدود والشكليّات...
طلبت الأم من فوزية الكسيحة أن تدخل البيت، فقد حلّ الظلام... لكنّ فوزية استأذنت أمَّها أن تسمح لها بالبقاء ريثما تنتهي مراسم العزاء...
كانت المرأة العليلة تشاطر سيّدتها العقيلة عزاءها بأخيها المذبوح عطشاناً على شاطئ الفرات. ترى.. كيف ينصرف أصحاب العزاء، والمعزُّون لم يبرحوا بعد ؟!
حلّ الفجر... وانتصبت فجأة سيّدةٌ جليلة عليها سيماء الوَقار، تلفّها نورانيّةٌ عجيبة... تقدّمت السيّدة نحو فوزيّة المسجّاة ونادتها برفق: انهضي على قَدَمَيك! أنا زينبُ ابنةُ أمير المؤمنين عليّ!
ثمّ أردفت السيّدة ـ وهي تضع يديها تحت كتفَي المريضة الكسيحة: قولي لأخيك: إنّ ما نفعله مرهونٌ بإذنِ الله تبارك وتعالى!
تقول فوزيّة التي عُوفِيت على يد السيّدة العقيلة عليها السّلام:
أحسست فجأة أنّ قوّةً لم أعهدها مِن قَبلُ قد تغلغلت في ساقَيّ الكسيحتين، فنهضتُ وصرختُ: أُمّاه! هلمّي لاستقبال مولاتِنا زينب!
وهُرعت أمّي وهي تمسح عن عينيها بقايا النوم، لكنّ السيّدة الجليلة كانت قد اختفت عن ناظري.
ورافقتني أمّي في تلك الساعة إلى بيت أخي حسن، وطَرَقنا البابَ لنُبلِغه النبأَ السعيد، فاستبق أخي وزوجته ( كريمة السيّد نور الدين ) أيُّهما يفتح الباب، ومَسحَ أخي عينيه غير مرّة وهو يُحدِّقُ في دهشة، وتلقّى نبأ شفائي على يدِ كريمةِ أهل البيت السيّدة زينب عليها السّلام.
هذا، وقد تقاطَر أهلُ القرية على بيتِ هذه المرأة التي شُفيت بكرامة السيّدة العقيلة عليها السّلام، وقَدِم لزيارتها أطباؤها الذين تولَّوا علاجَها طوال سنواتِ مرضها، وعاينوا الكرامة التي تحقّقت على يدَي كريمة أهل البيت عليهم السّلام(63).
هكذا تحدّثوا في.. زينَب الكبرى عليها السّلام
يكفي زينبَ الكبرى سلام الله عليها شرفاً أنّها سليلة النبوّة وربيبة الإمامة، وفخر الطالبيّين، وعمّة الأئمّة الميامين صلوات الله عليهم أجمعين. ويكفيها شأناً وعزّاً أن الأمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام خاطبها بقوله: أنتِ ـ بحمد الله ـ عالمة غير مُعلَّمة، وفَهِمةٌ غير مُفهَّمة(64).
ثمّ كلّ من جاء بعد الإمام عليه السّلام يُثني على زينب العقلية صلوات الله ويطري فضائلها ومناقبها.. فذلك شرف له وكرامة وتوفيق وحظوة إلهيّة عزيزة، وفخر يكتسبه ويتباهى به على مدى التاريخ. وكان منهم:
1. ابن عبّاس،إذا تحدّث عنها قال: حدّثَتْني عقيلتُنا زينب بنت عليّ(65).
2. بشير بن حُذَيم الأسديّ: لم أرَ خَفِرةً أنطقَ منها، كأنّما تنطق عن لسان أمير المؤمنين عليها السّلام وتُفرغ عنه(66).
3. الشيخ الصدوق:كانت لها نيابة خاصة عن الحسين عليه السّلام، وكان الناس يرجعون إليها في الحلال والحرام حتّى برئ زين العابدين عليه السّلام(67).
4. ابن الأثير: كانت زينب امرأةً عاقلة لبيبة جزلة(68).
5. الشيخ عبدالله المامقاني:حازت من الصفات الحميدة ما لم يَحُزه بعد أُمّها أحد، حتّى حقَّ أن يُقال: هي الصدّيقة الصغرى.. وهي من الصبر والثبات وقوّة الإيمان والتقوى وحيدة(69).
6. محمّد فريد وجدي:من فُضلَيات النساء وجليلات العقائل(70).
7. الدكتور علي إبراهيم حسن:هي أشهر نساء العرب فصاحةً، وأكثرهنّ تعبّداً... النقيّة القلب، الشُّجاعة(71).
8. عمر أبو النصر:أظهرت أنّها من أكثر أهل البيت جرأةً وبلاغة... حتّى ضُرب بها المثل، وشهد لها المؤرّخون والكُتاب(72).
9. خير الدين الزِّرَكْليّ:كانت ثابتة الجَنان، رفيعة القَدْر، فصيحة(73).
10. عمر رضا كحّالة:سيّدة جليلة، ذات عقل راجح، ورأيٍ وفصاحة وبلاغة(74).
11. السيّد عبدالحسين شرف الدين: كانت في الهاشميّات كالتي أنجبتها ( أي الزهراء عليها السّلام ).. تنطق الحكمةُ والعصمة من محاسن خلالها، ويتمثّلان وما إليها من أخلاق في منطقها وأفعالها... آية من آيات الله في صفاء النفس، وثبات الفؤاد، في أروع صورة من صور الشجاعة والإباء والترفّع(75).
12. محمّد عليّ المصري: هي ابنة سيّد سادات الأمّة عليّ كرّم الله وجهه، وابنة السيّدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله. وهي من أجلّ أهل البيت حسَباً، وأعلاهم نسباً. خيرة السيّدات الطاهرات.. فاقتِ الفوارسَ في الشجاعة، واتّخذت طول حياتها تقوى الله بضاعةَ... لُقِّبت بـ " صاحبة الشورى "، وكفاها فخراً أنّها فرعٌ من شجرة أهل بيت النبوّة الذين مدحهم الله في كتابه العزيز(76).
13. الدكتورة بنت الشاطئ: كانت زينب عقيلةُ بني هاشم في تاريخ الإسلام وتاريخ الإنسانيّة بطلةً استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم، وأن تسلّط معاول الهدم على دولة أُميّة، وأن تغيّر مجرى التاريخ(77).
14. خالد محمّد خالد: السيّدة زينب.. التي جلست تستقبل الضحايا، وتبصر المصائر في تفويضٍ لله ورضىً بقضائه(78).مشهد السيدة زينب عليها السلام
المشهد الزينبي في دمشق
تقوم روضة السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في أرض منبسطة فيحاء في خراج قرية ( راوية ) في الغوطة الجنوبية من دمشق، وهي تعرف اليوم بقرية ( قبر السِّت )، وتبعد نحو سبعة كيلومترات عن مدخل دمشق.
إن المشهد كائن في الجهة الغربية من القرية، وهو مؤلَّف من صحن واسع وحرم. وللصحن مدخلان: غربي وشمالي؛ فالغربي أمام سوق القرية وإليه تصل السيارات. والمدخلان يوصلان إلى الصحن ومنه إلى الحرم الذي يحتوي على الضريح، وأبعاد البناء الخارجية 90 × 90 متراً وعلى يمين المدخل الغربي ويساره غرف للإدارة والاستقبال. وبعد اجتياز المدخل إلى الصحن الذي عرضه 18 متراً في طرفه الغربي والشمالي غرف لمبيت الزائرين عددها الآن حوالي 45 غرفة، ويُنتَظر أن تصل إلى 80 غرفة. وهذه الغرف مبنية بتبرعات المحسنين الذين تُقرأ أسماؤهم فوق أبوابها.
ويتقدم الغرف من الداخل رواق عرضه ( 5 , 4 ) متر مسقوف بالإسمنت المسلّح المرتكز على أعمدة من الحجر البازلتي الأسود.
وفي وسط الصحن: الحرم، وله باب ذو رتاج مُصفّح بالنحاس الأصفر المنقوش، وأمام الباب مصطبة بطول الجدار الغربي يعلوها رواق محمول على دعائم من الحجر البازلتي أيضاً. وفي طرفَي الحرم من الناحية الغربية مأذنة متوسطة العلو مدورة ذات أحجار بيض جميلة حديثة التجديد.
أما الحرم فمبني بالحجر والإسمنت المسلح والأرض مفروشة بالرخام الإيطالي الأبيض، وفوقه قبة راكبة على ثمان دعائم ضخمة، ويحوي أيضاً 26 نافذة وله أربعة أبواب من جميع الجهات، وزيّن داخل الحرم بثريّات ذات أنوار ساطعة.
والضريح المقدس تحت القبة يحيط به قفص جديد أبعاده 5, 3 ـ 5 , 4 متر، وهو من طراز الدرابزون ذي الحلقات الصغيرة مصنوع من الفضة الخالصة بمنتهى الإتقان، أهدته أسرة حبيب الباكستنية سنة 1954م. وفي الداخل:الصندوق الخشبي الموضوع كغطاء فوق قبر السيدة زينب عليها السّلام وهو من خشب الأبنوس المقطّع كالفسيفساء والمطعّم بالعاج وأسلاك الذهب، وهو من أروع التحف الفنية وأجملها، صنعه أكبر فنان في طهران وأهداه بعض وجهاء إيران. أما قيمته فلا تقدر بثمن وقد جُلب ووضع في مكانه سنة 1955 باحتفال كبير، وقد أحيط بقفص من ألواح البلور.
أما الحرم فيعج بالزوار من دمشق ومختلف الأقطار الإسلاميّة كجبل عامل وبعلبك والعراق وإيران وباكستان والبحرين، ويبيت بعض هؤلاء في الغرف التي حول الصحن أياماً معدودات عددها سبعة أيّام كحد أقصى خاصة في المواسم مثل: العاشر من المحرم، العشرين من صفر، المولد النبوي الشريف، النصف من شعبان.
وفي الطرف الغربي من المشهد مسجد حديث بُني سنة 1955 بالحجر والإسمنت، وهو مربع الشكل وأبعاده 20 × 20 متر ذو سقف حجري منوّر ومغطّى بألواح البلّور.
وقد كان العامل على قيام البناء في المشهد على ما هو عليه الآن من الفخامة بعد أن ظل قروناً عديدة على بساطته، هو أن السيّد محسن الأمين خلال إقامته في دمشق وجّه رسائل إلى أشخاص معينين في مختلف المدن الإيرانية دعاهم فيها إلى التعاون على جمع التبرعات لتشييد مقام يليق بالسيدة زينب عليها السّلام، فلم تلبث أن وردت عليه مبالغ على عدة دفعات، فلمّا رأى هذه الاستجابة ألّف لجنة خاصة تتلقى هي هذه التبرعات وتنظّم أمورها وتباشر أعمال تجديد البناء، وهكذا استمر العمل واتسع بتوجيهه وإشرافه.
وقد كان قيام ما قام مشجعاً على الاستمرار بعد وفاته، وهكذا وصل المقام إلى ما وصل إليه اليوم.
المشهد الزينبي في القاهرة
كان ضريح السيدة زينب يقع في الجهة البحرية من دار مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلي مصر من قبل يزيد بن معاوية، وكانت هذه الدار تُشرف على الخليج وجماميز السعدية.
وبمرور السنين والعهود على هذه الدار، اندثر جزء كبير منها إلا ما كان من الضريح الطاهر، فإنه كان معظّماً مقصوداً بالزيارة، وموضع تبجيل واحترام الخاصة والعامة من الناس، الذين كانوا يتعاهدونه بالتعمير والإصلاح وبناء كل ما يتصدع من جدرانه.
وكان هذا المقام الكريم، من جملة المشاهد المعدودة التي يتناوب خدمتَها أناس انقطعوا لهذا العمل الطيب الجليل، وكان يُصرَف عليهم من وجوه الخير ومن ريع الأعيان والممتلكات التي أُوقفت على هذا الضريح الطاهر.
وفي زمن دولة أحمد بن طولون ( 254 ـ 293 هـ / 868 ـ 905 م ) أجرى هذا على هذا المشهد الطاهر، ما أجرى على المشاهد الأخرى من عمارة وترميم.
فلما جاءت الدولة الفاطمية ( 358 ـ 567 هـ / 969 ـ 1171 م )، كان أول من بنى عمارة جليلة عظيمة على هذا المشهد الطاهر من خلفاء الفاطميين؛ أبو تميم معد نزار بن المعزّ، وذلك في سنة 369 هجرية.
وقد ذكر الرحالة الأديب أبو عبدالله محمد الكوهيني الفارسي الأندلسي، أنه دخل القاهرة في 14 من المحرم سنة 396، وأنه دخل مشهد السيّدة زينب بنت علي، فوجده داخل دار كبيرة وهو في طرفها البحري يشرف على الخليج، قال: فنزلنا إليه في مدرج، وعاينّا الضريح، وشَمَمنا منه رائحة طيبة، ورأينا بأعلاه قبّة من الجص، وفي صدر الحجرة ثلاثة محاريب، وعلى كل ذلك نقوش في غاية الإتقان، ويعلو باب الحجرة زليخة قرأنا فيها بعد البسملة: وأنّ المساجدَ للهِ فلا تَدْعوا مع اللهِ أحداً ، هذا ما أمر به عبدالله ووليّه أبو تميم أمير المؤمنين الإمام العزيز بالله صلوات الله تعالى عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه المكرمين، أمر بعمارة هذا المشهد على مقام السيدة الطاهرة بنت البتول، زينب بنت الإمام عليّ بن أبي طالب، صلوات الله تعالى عليها وعلى آبائها الطاهرين وأبنائها المكرمين ).
وفي أيّام الحاكم بأمر الله، أمر بإثبات المساجد والمشاهد التي لا غلّة لها ولا رَيع، وأوقف عليهَا عدّةَ ضِياع وقَيساريات( أي أسواق ومحالّ تجارية ). وقد خُصّ المشهد الزينبي بنصيب وافر من هذه الأوقاف، وما برح كذلك إلى أن زالت الدولة الفاطمية ودالت دولتها.
وظل هذا المقام الطاهر الذي يضم هذه البضعة الطاهرة موضع عناية جميع الدول التي تعاقبت على الحكم في مصر، كما قام عديد من أهل الفضل والعلم والولاية يتناوبون خدمة هذا المسجد. ومن أجلّ هؤلاء قَدْراً وأعظمهم ذكراً: السيّد العارف بالله محمد بن أبي المجد القرشي المعروف بسِيدي محمد العِتْريس المتوفّى في أواخر القرن السابع الهجري، وهو شقيق القطب الكبير العارف بالله سيدي إبراهيم الدَّسُوقي صاحب المقام الكبير المشهور بمدينة دَسُوق بمحافظة كَفْر الشيخ، وكذلك السيّد العارف بالله سيدي محمد العَيدَروس المتوفى ليلة الثلاثاء ثاني عشر من المحرم سنة 1192 هجرية، وقد دُفن كلاهما أمام المقام الزينبي الطاهر من الجهة البحرية. وفي القرن السادس الهجري أيّام الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب، أجرى الشريف فخر الدين ثعلب الجعفري أمير القاهرة ونقيب الإشراف الزينبيين بها وصاحب البساتين التي عرفت بمنشأة ابن ثعلب ومنشئ المدرسة الشريفية التي تعرف الآن بجامع العربي بالجودرية بالقاهرة، عمارةً وإصلاحاً على هذا المشهد الكبير. وظلت تلك العمارة قائمة على هذا المشهد المبارك، إلى أن كان القرن العاشر الهجري، فاهتم الأمير علي باشا الوزير والي مصر من قبل السلطان سليمان خان بن السلطان سليم الفاتح بتعمير المشهد وتشييده، وجعل له مسجداً يتصل به، وكان ذلك في سنة 956 هجرية.
وفي سنة 1174 هجرية، أعاد الأمير عبدالرحمن كَتْخُدا القازدوغلي بناء المسجد وتشييد أركانه، وأنشأ به ساقية وحوضاً للطهارة والوضوء، وبنى كذلك مقام سيدي محمد العتريس.
وفي سنة 1210 هجرية جُدّدت المقصورة الشريفة التي تحيط بالتابوت الطاهر المقام فوق القبر، وصنعت من النحاس الأصفر، ووضع فوق بابها لوحة نحاسية كُتب عليها: ( يا سيدة زينب يا بنت فاطمة الزهراء مَدَدَكِ 1210 )، وما زالت اللوحة على الضريح الشريف حتّى اليوم.
وحَدث في سنة 1212 هجرية أن تصدّعت جدران المسجد، فانتدبت حكومة المماليك عثمان بك المرادي لتجديده وإعادة بنائه، فابتدأ في هدمه وشرع في بنائه وارتفع بجدرانه وأقام أعمدته، إلاّ أن العمل ما لبث أن توقف بسبب الحملة الفرنسية على مصر. وبعد خروج الفرنسيين من البلاد استُؤنف العمل، إلا أنّه لم يتم، فأكمله بعد ذلك يوسف باشا الوزير سنة 1216 هجرية، وأرّخ ذلك بأبيات من الشعر خُطّت على لوح من الرخام نصها:
نورُ بنتِ النـبيِّ زينـبَ يَعـلو قد بناهُ الوزيرُ صـدرُ المعـالي زادَ إجلالَـهُ كـمـا قُلـتُ أرِّخْ          مسجداً فيـه قَبرُهـا والمـزارُ يوسـفٌ وهـو للعُـلى مُختـارُ مسجدٌ مشرقٌ به أنوارُ (1216)
وبعد ذلك أصبح هذا المسجد محل رعاية حكام مصر من أسرة محمد علي، فظل التعمير والتجديد يدخلان عليه. ففي سنة 1270 هجرية، شرع الخديوي عباس باشا الأول في إصلاحه ووضع حجر الأساس، ولكن الموت عاجله. فقام الخديوي محمد سعيد باشا في سنة 1276 هجرية بإتمام ما بدأه سلفه، وأنشأ مقام العتريس والعيدروس، وكتب على باب المقام الزينبي هذا البيت من الشعر:
يا زائريها قِفوا بالبابِ وابتَهِلـوا          بنتُ الرسولِ لهذا القُطرِ مِصباحُ
كما كتب على باب الطهارة الأبيات الآتية:
ظـلِّ أيّـام الـسـعـيـد محـمّـدٍ من فائضِ الأوقـافِ أتْحـفَ زينـبا مَن يأتِ يَنوي للـوضـوء مؤرِّخـاً:          ربِّ الفَخارِ مليـكِ مصـرَ الأفـخمِ عَونَ الورى بـنـتَ النـبيِّ الأكـرمِ يَسعَدْ فإنّ وضوءه مِن زَمزمِ (1276)
وفي سنة 1291 هجرية أمر الخديوي إسماعيل بتجديد الباب المقابل لباب القبة وجعله من الرخام. وفي هذه المناسبة قال السيّد عليّ أبو النصر مؤرخاً تجديد هذا الباب:
مـقـامٌ بـه بـنتُ الإمـامِ كـأنّـما على بـابِـها لاحَ الـقَـبولُ لـزائـرٍ بأمر الخـديـوي جَـدَّدَتـهُ يـدُ العُـلا وفي حِليـةِ التجديـد قلـتُ مؤرّخـاً:          هو الروضةُ الفيحاء بالـيُمـنِ مُـونِـقَـه ونـورُ الـهدى أهـدى سـناهُ ورَونَـقَـه فكانت بأسبـابِ الـرِّضا مُـتَـوَثِّـقَـه شموسُ الحُلى في بابِ زينبَ مُشرِقَه (1294)
وفي نفس العام أي سنة 1294 هجرية جُدّد الباب المقابل لباب الضريح على الهيئة الموجودة الآن.
أما المسجد القائم حالياً فقد تم بناؤه على مراحل ثلاث، فبُني الجزء الأول منه وهو المطل على الميدان المعروف باسم ميدان السيدة في عهد الخديوي توفيق، فتمّ ذلك في سنة 1302 هجرية أي ( 1884 / 1885 م )، وكتب على أبواب القبة الشريفة التي تضم الضريح الطاهر للعقيلة السيدة زينب رضي الله عنها أبيات من الشعر، فعلى الباب المواجه للميدان وهو الباب المخصص حالياً لدخول السيدات لزيارة الضريح كُتب ما يأتي:
قِـفْ تَوَسَّـلْ بـبـابِ بنـتِ عـلـيٍّ تَـحْـظَ بـالـعـزِّ والـقَبـولِ وأرِّخْ:          بِخـضـوعٍ وسَـل إلـهَ الـسـمـاءِ بابُ أختِ الحسينِ بابُ العَلاءِ (1302)
وكُتب على أعلى الباب المطل على المسجد، وهو الباب الذي يغلق نهاراً بباب حديدي أثناء زيارة السيدات، ما يأتي:
رَفعوا لزينـبَ بنـتِ طه قبّـةً نورُ القَبولِ يقولُ في تاريخِـها:          علياءَ مُحَكمَةَ البـنـاءِ مُشَيَّـدَة بابُ الرضى والعدلِ بابُ السيِّدَة
أما الباب المعروف باسم باب الفَرَج ويؤدي إلى الضريح من الناحية القِبلية للمسجد، فقد كُتب في أعلاه ما يأتي:
بابٌ لبنتِ المصطفى صَفوتِهْ كـمـالُه بـزينـبٍ أرَّخَـهُ:          يدخل من يشاء في رحـمتِه توفيقُ باني العزِّ في دولتِـه
وظَلَّ المسجد على تلك الحال حتّى أُدخلت عليه إضافات جديدة وذلك بتوسعته من الجهة القبلية تبلغ مساحتها حوالي 1500 متر مربع تقريباً، وقد تم ذلك في عهد الملك فاروق وافتُتح للصلاة في يوم الجمعة 19 من ذي الحجة 1360 هجرية ( 1942 ميلادية ).
ولما زادَ إقبالُ الناس على هذا المسجد حتّى ضاق عن أن يتسع للآلاف منهم خاصة في أيّام الجمع والأعياد، أُجريت توسعة عظيمة على هذا المسجد من الجهة القبلية أيضاً، وضُمَّت إليه مساحة تقدّر بحوالي ألفين وخمسمائة متر مربع.
وبذلك اتصل المسجد الزينبي بمسجد الزعفراني المجاور له من الناحية القبلية من ناحية شارع السد، كما أقيمت به دورة مياه كبيرة للطهارة والوضوء، بها تسعون صنبوراً للمياه. وأُعدّت كذلك مكتبة كبيرة تضمّ عشرات الآلاف من المجلدات، من بينها العديد من المخطوطات النادرة، وأُلحق بها قاعة فسيحة للمطالعة.
وصف المسجد على حالته الحاضرة
يقع المسجد الزينبي في ميدان السيدة زينب، وكان هذا الحي يعرف سابقاً باسم ( قنطرة السباع ) نسبة إلى نقش السباع على قنطرة كانت موجودة وقتئذ على الخليج الذي كان يخرج من النيل عند فم الخليج وينتهي عند السويس. وكانت السباع شارة الظاهر بيبرس الذي أقام تلك القنطرة.
وفي عام 1215 هجري، تم رَدمُ الجزء الأوسط من الخليج، وبردمه اختفت القناطر، ومع الردم تم توسيع الميدان.
وتبلغ مساحة المسجد وملحقاته حالياً حوالي سبعة آلاف من الأمتار المربعة، وتشرف واجهته الرئيسية على ميدان السيدة زينب. وبهذه الواجهة ثلاثة أبواب تؤدي إلى داخل المسجد مباشرة، وقد زُيّنت تلك الأبواب من كلا جانبيها وفي مستوى قامة الإنسان ونظره بآيات من القرآن الكريم منقوشة على الحجر بخط الثلث الجميل، كما زُيّن أعلا الأبواب بأبيات من الشعر.
فخُص جانبا الباب الشرقي للمسجد والمواجهة للميدان وأقرب الأبواب إلى المحراب، بالآية الشريفة:
إنما وليُّكُمُ اللهُ ورسولُهُ والذينَ آمَنوا الذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ ويُؤتونَ الزكاةَ وهُم راكعون. ومَن يَتَولَّ الله وَرسولَهُ والذينَ آمَنوا فإنَّ حِزبَ اللهِ هُمُ الغالِبون .
" للهِ مُلكُ السماوات والأرضِ وما فيهنّ وهو على كلِّ شيءٍ قدير ".
كما كتب في أعلى هذا الباب ما يأتي:
لزينبَ الـحـرمِ المـصـريّ جَـدَّدَهُ نورُ الكريمة يحـكـي حيـن أرَّخـه          خديويُّ مصرٍ بترتيـبٍ وتـنـسـيـقِ لي بَيتُ سعدٍ عليه بابُ توفيقِ (1302)
وخصّ جانبا الباب الأوسط المواجهة للميدان كذلك بالآية الشريفة:
لَمسجدٌ أُسِّسَ علَى التقوى مِن أوّل يومٍ أحَقُّ أن تَقومَ فيه فيهِ رجالٌ يُحبّونَ أن يَتَطّهروا واللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرين .
أقم الصلاةَ لدلوكِ الشمسِ إلى غَسَق الليلِ وقرآنَ الفجرِ إن قرآنَ الفجرِ كانَ مَشهوداً * ومِن الليلِ فتَهجَّدْ بهِ نافلةً لك عسى أن يَبعثَكَ ربُّكَ مَقاماً محموداً .
كما كتب في أعلى هذا الباب:
بتوفيقِ الـعـزيـزِ بنـاءُ بـيـتٍ فَزُرْ واقرأ وصَـلِّ وسَـلْ وأرِّخ:          وقبّة مَـن بِهـا تُرجـى المَنـافِعْ به سِرٌّ لكلِّ الخيرِ جامِعْ (1302)
ومن دقة صنع هذا الباب عند بنائه الحجر أن كُتب عليه لفظ الجلالة ( الله ) ضمن البناء في الجزء الأعلى المقعَّر منه، فظهر بوضوح الحجر الذي يميل لونه إلى الاحمرار قليلاً، ذلك أن الحجارة التي استعملت في بناء جدران المسجد كانت من لونين مختلفين.
أما الباب الغربي ويعرف بباب الطرقة، وهو أقرب الأبواب المؤدية إلى الضريح، فقد كتب على جانبي مدخله الآية الشريفة:
رحمةُ الله وبركاتُه علَيكُم أهلَ البيتِ إنّهُ حميدٌ مجيد ". " وأقِمِ الصلاةَ طَرَفَيِ النهارِ وزُلَفاً من الليلِ إن الحسناتِ يُذهبنَ السيئاتِ ذلكَ ذكرى للذاكرينَ * واصِبرْ فإن الله لا يُضيعُ أجرَ المحسنين .
كما كتب في أعلاه:
يــا مـسـجـداً قـد شــادَهُ قـد قـيـلَ فـي تـاريـخِـه:          توفيقُ لابـنـةِ خيـرِ شـافِـع بابُ القربى لخير جامِع (1302)
ثمّ ترتد إلى وراء هذه الواجهة المطلة على الميدان عند طرفها الغربي، وفي هذا الارتداد باب آخر مخصص لدخول السيدات ويؤدي إلى الضريح، وتقوم المئذنة على يسار هذا الباب الذي يعرف بباب العتريس. وقد خُصّ هذا الباب من على جانبيه بالآية الكريمة:
والذينَ صَبروا ابتغاءَ وجهِ ربِّهم وأقاموا الصلاةَ وأنفقوا ممّا رزقناهُم سِرّاً وعلانيةً ويدرأُونَ بالحسنةِ السيئةَ أولئكَ لهم عُقبى الدار. جنّات عَدْنٍ يَدخُلونَها ومن صَلَحَ من آبائهم وأزواجِهم وذُريّاتِهم والملائكةُ يدخلونَ عليهِم مِن كلِّ بابٍ سلامٌ عليكُم بما صَبَرتمُ فنِعمَ عُقبى الدار .
كما كتب في أعلاه:
ربُّ الشفاعة عنـد قـبـة زيـنـبٍ مِن يُمنِ تـوفيـق العزيـز مـؤرّخٌ:          يـلـقـاهُ غـادٍ للـمقـامِ ورائحُ نورٌ على بابِ الشفاعةِ لائحُ (1302)
وقد تميز جدار هذا الجزء من المسجد بإضافات من الشعر ليست على باقي الجدران. فكتب في أعلى وسطه ما يأتي:
نحـنُ آل البيـتِ بيـتِ الهـدى بيتُنا سـامـي الـذرى أرِّخـوا:          نَسلُ طه المصطفـى المرتضـى بابنا المقبول بابُ الرضا (1302)
وكُتب على الجزء الأيمن من هذا الجدار وهو الذي تليه المئذنة ما يأتي:
بنى المسجد العالي العزيز لزينب بناؤه بانـيـه فـي الله مخلص          وفيه لنا نـورُ العـنايـةِ بَـرزَخُ بتكميلِ توفيق ببر يـؤرَّخُ (1307)
وفي هذا دليل على أن المئذنة استمر العمل فيها بعد افتتاح المسجد في سنة 1302 هجرية حتّى تم تشييدها كاملة في سنة 1307 هجرية.
كما كتب على الجزء الأيسر منه ما يأتي:
لمسجدِ ذاتِ الخِدرِ والستر زينبٍ فقل للذي يرنـو إليـه مـؤرّخٌ:          بها قد علا نورُ البدور تطـاولا بتوفيقِ مولانا البنـاءُ تكـامَـلا
أما المئذنة التي تعتبر فريدة في نوعها لما تتحلى به من نقوش وزخارف عربية جميلة، فإنها ترتفع عن سطح الأرض بما يقرب من خمسة وأربعين متراً وبها ثلاث شرفات تحيط بها، وأحيطت جدرانها بآيات من القرآن الكريم. فجاء في الجزء الأعلى ما يأتي:
ما كانَ محمدٌ أبا أحدٍ مِن رجالِكم ولكنْ رسولَ الله وخاتَمَ النبيّين وكانَ الله بكلِّ شيءٍ عليماً. يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً. وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً. هو الذي يُصلّي عليكم وملائكتُه ليخرجَكم مِن الظلماتِ إلى النورِ وكان بالمؤمنين رحيماً. تحيّتُهم يومَ يَلقَونَهُ سلامٌ وأعدَّ لَهُم أجراً كريماً. يا أيها النبيُّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشِّراً ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه وسِراجاً منيراً. وبَشِّرِ المؤمنين بأنّ لهم مِن اللهِ فضلاً كبيراً.
وجاء في الجزء الأسفل ما يأتي:
يا أيّها الذينَ آمنوا إذا نُودِيَ للصلاةِ مِن يومِ الجمعةِ فاسعَوا إلى ذكرِ اللهِ وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قُضِيتِ الصلاةُ فانتشِروا في الأرضِ وابتغوا مِن فضلِ اللهِ واذكروا اللهَ كثيراً لعلّكم تُفلِحون. وإذا رأوَا تجارة أو لهواً انفضُّوا إليها وتركوك قائماً قلْ ما عند الله خيرٌ من اللهوِ ومن التجارةِ واللهُ خيرُ الرازقين.
ويحيط بالركن الغربي البحري للمسجد سور من الحديد يقع بداخله قبتان صغيرتان ملتصقتان ومحمولتان على ستة أعمدة رخامية بواسطة سبعة عقود. وقد أقيمت هاتان القبتان على قبرَي: العتريس والعيدروس رضي الله عنهما، وكتب عليهما:
أولاً: من الناحية المواجهة للميدان:
قد شاد سيّد العصر في مصره مِن نور آل البيـت تـاريخُـه          خيرَ مَقام قد زهـا كالعـروسْ به سنا العتريسُ والعيـدروسْ
ثانياً: من ناحية باب العتريس أي الباب المؤدي للضريح:
بسر ابن أبي المجد الدسوقي وصنوه          محمد العتريـس كـن متـوسّـلا
وتقع الواجهة الغربية للمسجد على شارع السد، وبها مدخلان أحدهما يتوسط التجديد والتوسيع الأول الذي تم في سنة 1360 هجرية ( 1942 ميلادية ). ويوجد في أعلى جدار هذه الواجهة ساعة كبيرة دقاقة.
وللمسجد واجهتان أخريان، أحدهما على شارع العتريس وهي الواجهة الشرقية وبها مدخل يؤدي إلى المكتبة وقاعة الاطلاع وباقي ملحقات المسجد، والأخرى تطل على الفِناء الواقع بين دورة مياه المسجد والجدار البحري لمسجد الزعفراني المجاور.
وقد أُنشئت واجهات المسجد ومنارته وقبة الضريح على الطراز المملوكي، وهي حافلة بالزخارف العربية والمقرنصات والكتابات.
والمسجد من الداخل مسقوف جميعه، وحُمل سقفه المنقوش كله بزخارف عربية على عقود مرتكزة على أعمدة بعضها من الرخام الأبيض وذلك في القسم الذي أنشئ في سنة 1302 هجرية، والبعض الآخر مرتكز على أعمدة من الموازيكو، وذلك في الإضافات التي تم بها توسيع المسجد. ويبلغ عدد الأعمدة التي تحمل السقف 124 عموداً بالإضافة إلى 30 قاعدة حجرية وهي التي يعبر عنها بالأكتاف، أي أن السقف كله محمول على 154 عموداً وقاعدة. ويوجد بالمسجد محرابان، أحدهما أقيم عند إنشاء المسجد الحالي في سنة 1302 هجرية، أي قبل الإضافتين اللتين ضُمّتا إليه، وهو المحراب المواجه للضريح الشريف. ويعلو هذا المحراب لوحة تذكارية نُقشت فوق الجدار بحروف مذهبة تبين تاريخ إنشاء
المسجد نصّها:
(أمر بإنشاء هذا الجامع الشريف والمقام الزينبي المنيف: خديوي مصر المفخم محمد توفيق).
(وقد باشر العمل وأتمه حسب الأمر: محمد زكي باشا مدير الأوقاف في سنة 1302).
ويعلو الجزء الواقع أمام هذا المحراب، مَنْوَر ( شخشيخة ) بها نوافذ زجاجية. وقد زُيِّنتْ جدرانها الداخلية الأربعة بالنقوش العربية الملونة، وكتبت حولها آيات شريفة من القرآن الكريم، وكذلك بعض أبيات شعر من قصيدة بُردة المديح للإبي عبدالله محمد البوصيري، وكل ذلك داخل عشرين إطاراً بكل جدار خمسة إطارات على الوجه الآتي وفقاً لما اتسع له كل إطار:
الجدار الشرقي فوق المحراب
إنما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عنكمُ الرجسَ
أهلَ البيتِ ويُطهِّرَكم تطهيراً
" نبيُّنا الآمرُ الناهي فلا أحدٌ "
" أبرُّ في قول: لا منه ولا نَعَمِ "
" هو الحبيب الذي تُرجى شفاعته "
الجدار البحري
" لكل هولٍ من الأهوال مقتحمِ "
" دعا إلى الله فالمستمسكون به "
" مستمسكون بحبلٍ غيرِ منفصمِ "
" ولن يَضيقَ رسولَ الله جاهُك بي "
" إذا الكريم تحلّى باسم منتقمِ "
الجدار الغربي
" فإن مِن جودك الدنيا وضرتها "
" ومن علومك علمُ اللوح والقلمِ "
" يا نفسُ لا تقنطي من زلة عظمت "
" إن الكبائرَ في الغفران كاللَّمَمِ "
" لعلّ رحمة ربي حين يَقسِمُها "
الجدار القبلي
" تأتي على حسبِ العصيان في القِسَمِ "
" يا ربِّ واجعَلْ رجائي غيرَ منعكسٍ "
" لديك واجعَل حسابي غيرَ منخرِمِ "
" والطُفْ بعبدك في الدارينِ إنّ له "
" صبراً متى تَدْعُه الأهوالُ ينهزمِ "
وكذلك يعلو الجزء الأوسط من المسجد والمواجه للمحراب السابق الإشارة إليه، شخشيخة ( مَنوَر ) كبيرة جداً وهي الشخشيخة الثانية، وبها نوافذ زجاجية، وتتوسط قبة صغيرة فُتح بدائرها نوافذ من الجص المفرغ المحلى بالزجاج الملون ومعلق في مركزها ثريا ( نجفة ) عظيمة.
وقد زينت جدران هذه الشخشيخة بآيات كريمة من سورة النور، بدأت هكذا:
بسم الله الرحمن الرحيم. الله نور السماوات والأرض... " إلى " يقلّب اللهُ الليلَ والنهارَ إن في ذلك لَعبرةً لأوُلي الأبصار
وجاءت بعد ذلك العبارة التالية:
( كتبه عبدالكريم فايق تحت نظر سعادة محمد زكي باشا مدير عموم الأوقاف حالاً في عهد العزيز خديوي مصر الأفخم توفيق الأول سنة اثنتين وثلاثمائة بعد الألف من هجرةِ خير خلق الله وعلى أكمل وصف وعليه أفضل الصلاة وأزكى التحية ).
أما الشخشيخة الثالثة المواجهة لنفس المحراب، وهي الواقعة أمام الضريح الشريف، فقد كتب على جدرانها الأربعة الآيات الشريفة الآتية داخل عشرين إطاراً موزعة بالتساوي بينها كالشخشيخة الأولى:
المؤمنون والمؤمناتُ بعضُهم أولياءُ بعضٍ يأمرونَ بالمعروفِ ويَنْهَون عن المنكرِ ويُقيمون الصلاةَ ويُؤتون الزكاةَ ويُطيعون اللهَ ورسولَه أُولئك سيرحمُهمُ اللهُ إنّ اللهَ عزيزٌ حكيم .
وَعَدَ اللهُ المؤمنين والمؤمناتِ جناتٍ تجري مِن تحتِها الأنهارُ خالدينَ فيها ومساكنَ طيّبةً في جناتِ عدنٍ ورضوانٌ مِن اللهِ أكبرُ ذلك هو الفوز العظيم .
إن الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ يَهديهم ربُّهم بإيمانهم تجري من تحتِهمُ الأنهارُ في جنات النعيم. دَعْواهُم فيها سبحانَكَ اللهمَّ وتحيّتُهم فيها سلامٌ وآخِرُ دَعواهم أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين .
وما تكونُ في شأنٍ وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عملٍ إلاّ كنّا عليكم شهوداً إذ تُفيضون فيه وما يَعزُبُ عن ربِّك من مثقالِ ذرّةٍ في الأرضِ ولا في السماءِ ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ إلاّ في كتابٍ مبين. ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
ويقع الضريح الطاهر بالجهة الغربية من المسجد، وبه مثوى الطاهرة البتول السيدة زينب رضي الله تعالى عنها، تحيط به مقصورة من النحاس الأصفر، وتعلو المقصورةَ قُبّة من الخشب زُيّنت كذلك من الداخل بالنقوش العربية الملونة وبإطارات تضم آيات من القرآن الكريم ونبذة عن تاريخ صاحبة المقام الطاهر. ويحيط برقبة هذه القبة نوافذ من الخشب الخرط المعروف باسم الخرط الميموني الدقيق الصنع.
ويعلو الضريح قبة مرتفعة ترتكز في منطقة الانتقال من المربع إلى الاستدارة على أربعة جدران من المقرنص المتعدد الحطات، ويحيط برقبتها نوافذ جصية مفرغة بزجاج ملون. ونقشت جدران هذه القبة بالنقوش العربية الملونة، وكتب عليها في خطين متوازيين أحدهما يعلو الآخر، آيات من القرآن الكريم، فضلاً عن نبذة عن تاريخ إنشاء المسجد، فجاء في الجزء الأعلى منهما ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. إنّا فَتَحْنا لك فَتْحاً مُبيناً... إلى قوله تعالى: بل كانَ اللهُ بما تعملون خبيراً ( كتبه عبدالكريم فايق المولوي في عهد خديوي مصر ).
أما الجزء الأسفل وهو أكبر مساحة من الأعلى، فقد كتب فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. سَبِّحِ اسمَ ربِّكَ الأعلى. الذي خَلَق فسوّى... إلى آخر السورة. ثم:
بسم الله الرحمن الرحيم. الله لا إله إلا هو الحيُّ القَيّوم... إلى آخر آية الكرسي. ثمّ:
بسم الله الرحمن الرحيم. قل هو اللهُ أحَد. اللهُ الصَّمَد. لم يَلِدْ ولم يُولَد. ولم يكنْ له كُفُواً أحد . ثمّ نبذة أخرى عن تاريخ إنشاء المسجد جاء فيها:
( كتب عبدالكريم فايق المولوي تحت نظر محمد زكي باشا مدير عموم الأوقاف المصرية حالاً في عهد صاحب الدولة خديوي مصر الأفخم محمد توفيق، وذلك في سنة 1302 من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسّلام ).
هذا فيما يتعلق بالقسم القديم من المسجد وهو الذي تم بناؤه في سنة 1302 هجرية، أما التوسعة التي تمت في سنة 1360 هجرية ( 1942 ميلادية )، وهي التوسعة التي أقيم فيها المحراب الجديد الذي وضع المنبر بجواره، فيوجد في وسطها شخشيخة ذات نوافذ زجاجية ومعلق بوسطها ثريا من البلور الثمين القيمة، وكتب على جدرانها الأربعة ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ وهُوَ على كلِّ شيءٍ قدير... إلى قوله تعالى: وأسِرّوا قولَكم أو اجْهَروا به إنه عليم بذاتِ الصدور .
ويلي هذه الشخشيخة من الناحية الغربية، شخشيخة أخرى تقع أمام أول مدخل للمسجد من ناحية شارع السد، وهو الذي يطلق عليه باب القبول كذلك، فقد كتب عليها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. الله نورُ السماواتِ والأرض... إلى قوله تعالى: ليجزيَهم اللهُ أحسنَ ما عَمِلوا ويَزيدَهم من فضله واللهُ يرزق مَن يشاء بغير حساب . صدق الله العظيم.
ثمّ إذا انتقلنا إلى التوسعة الأخيرة الكبيرة التي تمت سنة ( 1389 هجرية / 1969 ميلادية ) نجد أنّها تحوي أربع ( شخشيخات ) زُيّنت جدرانها كلها بالآيات الشريفة والنقوش العربية على الوجه الآتي:
أولاً: الشخشيخة الكبيرة في وسط التوسعة، ويعلوها قبة صغيرة ويحيط برقبتها نوافذ جصية مفرغة بزجاج ملون، وقد كتب عليها:
بسم الله الرحمن الرحيم. تبارك الذي جَعَلَ في السماءِ بُروجاً وجَعَل فيها سِراجاً وقَمَراً مُنيراً... إلى آخر سورة الفرقان. (تم بعون الله تعالى في سنة 1387 هجرية).
ثانياً: الشخشيخة التي تلي السابقة من الناحية الغربية وتقع أمام المدخل الثاني للمسجد من ناحية شارع السد، وتعلوها قبة من الحجر الصناعي، فقد كُتب عليها نفس ما كتب على القبة السابقة.
ثالثاً: ويلي ذلك قبتان تقعان في آخر المسجد من الناحية القبلية منه، وهما أصغر مساحةً من سابقاتهما، فقد نقشتا كذلك بالنقوش العربية الملونة، وزُيِّنتا بالآيات الشريفة الآتية من القرآن الكريم على الوجه الآتي على التوالي: بسم الله الرحمن الرحيم. إنّا فَتَحْنا لك فتحاً مُبيناً ... " إلى قوله تعالى: " وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً .
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهُ نورُ السماواتِ والأرض... " إلى قوله تعالى: " رجالٌ لا تُليهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذِكْرِ الله وأقام الصلاة .
وقد تُوِّجت جدران المسجد من الخارج من النواحي الشرقية والقبْلية والبحرية بآيات شريفة من القرآن الكريم نقشت فوق الحجر داخل إطارات منقوشة كذلك وكتبت بالخط الثلث الجميل الذي يدل على دقة الصنع وحسن الذوق.
فكُتب على الواجهة الشرقية المطلّة على شارع العتريس الآيات الكريمة الآتية:
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجُدوا واعبُدوا ربَّكُم وافعلوا الخيرَ لعلكم تُفلحون. وجاهِدوا في الله حقَّ جهادِه هو اجتباكم وما جعلَ عليكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ ملةَ أبيكُم إبراهيمُ هُوَ سَمّاكمُ المسلمين مِن قبلُ وفي هذا ليكون الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شهداءَ على الناسِ فأقيموا الصلاةَ وآتُوا الزكاة واعتصِمُوا باللهِ هو مَولاكم فنِعمَ المولى ونعمَ النصير .
لَمسجدٌ أُسِّس على التقوى مِن أوّلِ يوم أحقُّ أن تقوم فيه، فيه رجالٌ يُحبّون أن يتطهّروا واللهُ يُحبّ المُطَّهِّرين. أفمن أسّس بنيانَه على تقوى مِن الله ورضوانٍ خيرٌ أم مَن أسّس بُنيانَه على شفا جُرفٍ هارٍ فانهارَ به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين .
أما الجهة القبلية المطلة على الفِناء الذي يفصل بين المسجد الزينبي ومسجد الزعفراني المجاور، فقد كُتب على جدارها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم. إنما يَعمُرُ مساجدَ الله مَن آمنَ باللهِ واليومِ الآخِرِ وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاةَ ولم يَخْشَ إلاّ اللهَ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين صدق الله العظيم.
أما الواجهة البحرية المطلة على الميدان فقد كتب عليها فوق الباب الأوسط ما يأتي:
هو الذي يُصلّي عليكم وملائكتُه ليُخرجَكم مِن الظلماتِ إلى النورِ وكان بالمؤمنين رحيماً. تحيّتُهم يومَ يلقَونه سلامٌ وأعدَّ لهم أجراً كريما .
إنما يَعمُرُ مساجدَ الله مَن آمن باللهِ واليومِ الآخِرِ وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاةَ ولم يخش إلا اللهَ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .
يا أيها النبيُّ إنا أرسلناك شاهداً ومُبشِّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وبشّر المؤمنينَ بأن لهم من الله فضلاً كبيرا .
وكان اللهُ غفوراً رحيما
مشهد السيدة زينب في سنجار ( شمال العراق )
سنجار مدينة معروفة من مدن العراق الشمالي تقع في جنوبي نَصيبين عن يمين الطريق إلى الموصل، على اتصال بمعظم مدن الجزيرة. اشتهرت بكونها مدينة الطرق والقوافل منذ القديم لأنها سيطرت على الطريق بين العراق وسورية، وتقع فيها جبال سنجار التي يبلغ ارتفاعها نحو 4800 قدم، وتُعدّ من أعظم الجبال الشرقية في بلاد الجزيرة.
واشتهر في سنجار الكثير من المراقد والأضرحة المنسوبة لآل البيت، وقد أقيمت منذ القرون الهجرية الأولى أي منذ خضوع سنجار للدول الشيعية كالفاطميين والبويهيين والحمدانيين والعقيليين، فقد شجع ملوك تلك الدول بناء هذه الأضرحة واستخدموا من أجلها أمهر البنّائين والصنّاع فجاءت أبنيتها آية في الروعة والمتانة.
وتخضع هذه الأضرحة الآن لنفوذ اليزيديين، وهؤلاء لهم ديانة معروفة خاصة بهم وقد حافظوا على احترامهم لهذه المقامات، ومن تلك المشاهد: المرقد المنسوب إلى السيدة زينب الكبرى بنت عليّ بن أبي طالب عليها السّلام، والذي ابتدأ أمره بمرور سبايا واقعة الطف في هذه المنطقة. وهذه تفصيلات كتبها الدكتور حسن كامل شميساني وهو من المتخصصين في تاريخ سنجار وتراثها:
أ ـ موقعه: يقوم هذا الضريح على ربوة عالية في مدخل المدينة. ويُنسَب إلى السيدة زينب بنت الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليهما(1).
ب ـ أوصافه ومحتويات بنائه: استناداً إلى المشاهدات والنصوص الحديثة نقول: إن هذا الضريح يتكون من فِناء واسع يدخل إليه من باب صغير، وهذا الفناء اتُّخِذ بأكمله مقبرة. ينزل إلى البناء من مدخل يقع إلى اليمين بدرجتين تؤديان إلى غرفة مربعة الشكل تقريباً، أبعادها ـ كما حددها المهتمون بالآثار ـ 40 , 3 × 62 , 3 م. والمسافة بين المدخل والغرفة هي عبارة عن ممر يبلغ طوله: 30 , 4 م × 30 , 3 م. على جانبيه غرف مربعة مداخلها من الرخام.
في جدار الغرفة المربعة الجنوبي محراب مصنوع من الحجر والجص ـ سيأتي الكلام عنه ـ وغطيت هذه الغرفة بقبة مظهرها الخارجي نصف كروية، تقوم فوقها قبة أخرى محارية الشكل. يتوسط الجدارين الشرقي والغربي مدخلان شُيِّدا من الحجر.
يؤدي المدخل الذي إلى يمين الداخل ( المدخل الأيمن ) إلى غرفة صغيرة مربعة الشكل أبعادها: 40 , 3 م × 30 , 3 مك وهي خالية من النقوش.
على عقادة الباب يوجد عبارة: ( راجي رحمة ربه المعروف بالرشيد ). أما المدخل الذي يوجد إلى يسار الداخل ( المدخل الأيسر ) فيعلوه عقد مزخرف بنقوش نباتية محفورة في الحجر، وهو يؤدي إلى غرفة الضريح. وهذه الغرفة هي مستطيلة الشكل أبعادها: 40 , 5 م × 73 , 3 م. وفي وسطها القبر المشيد من الحجر والجص. ويوجد على بعض قِطَعه كتابات من آية الكرسي وضاعت بقية الكلمات، وفي هذه الغرفة أيضاً محراب صغير مصلح خال من النقوش، وتغطّيها قبة مظهرها الخارجي مضلع مخروطي الشكل.
ج ـ تاريخ بنائه: إنّ الكلمات المنقوشة على مدخل الرواق ـ إلى يسار غرفة الضريح ـ تدل على أن هذا البناء هو من قبل الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ أيّام ملكه لبلاد سنجار( 637 ـ 657 هـ / 1239 ـ 1259 م ). وهذه الكلمات هي: ( عز مولانا السلطان الملك الرحيم بدر... ). وبدر الدين هذا كان قد أكثر من إقامة المنشآت العمرانية في أطراف مملكته من قصور ودور وحمامات وخانات ومشاهد، وسعى إلى إعادة تجديد أو ترميم الأسوار والقلاع والجسور والمساجد والأضرحة، وخصوصاً الشيعية منها. فالمعلومات كانت قد أفادت أنه كان قد تقرّب من هذه الطائفة وأعلن موالاته لأئمتها وأخذ ينشر مذهبها ويدعو إليه. وعمل على رعاية شؤونها وصيانة مؤسساتها والعناية بها، فقيل إنه لُقِّب بوليّ آل محمد. وقيل أيضاً أنه ـ رغبة منه في إظهار موالاته لهذه الطائفة وأئمتها ـ كان يرسل في كل سنة إلى مشهد الإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه في النجف الأشرف قنديلاً مذهّباً زِنته ألف دينار.
إن ما ذكرناه من أقسام لهذا البناء يمثل في الواقع الأجزاء الأصلية منه، والتي ينحصر تاريخها بين سنة استيلاء بدر الدين لؤلؤ على سنجار سنة ( 637 هـ / 1239م ) وأخذِها من صاحبها الملك الأيوبي يونس بن مودود، وبين سنة تشييده للأقسام الأخرى المضافة وهي سنة ( 644 هـ / 1246 م ) ـ كما هو مثبت على إحدى مداخل غرف الضريح.
والأقسام الأخرى المضافة هذه تقع إلى يسار وخلف غرفة الضريح. وتتكون من ممر يؤدي إلى غرفة مربعة تقريباً، صغيرة مقببة، تؤدي بدورها إلى غرفة مستطيلة غير منتظمة وبصيانات جديدة. طُليت الغرفة المربعة المذكورة وجدران الممر بالإسمنت بحيث أنمحت غالبية الزخارف الرخامية الموجودة. أما باطن القبة فلم يعد يبدو منها شيء. والغرفة المربعة الموجودة في نهاية الممر فعقد الباب من داخلها يحتوي على ألواح رخامية معشّقة، عليها كتابة بخط اليد تذكر اسم المؤسس ـ بدر الدين لؤلؤ ـ وتاريخ إضافة هذا القسم. أو لعله ـ كما ورد في كتاب القباب المخروطية ـ تاريخ البناء الأصلي وهو سنة أربع وأربعين وستمائة هـ. ولعل الألواح هذه كانت قد قُلعت من الأجزاء الرئيسية من البناء وأضيفت إلى هذا القسم. كما أن الزخارف الموجودة في الممر قُلعت هي أيضاً من البناء الأصلي واستُخدمت في تجميل هذه الغرفة حيث لا يوجد تناسق في الزخارف، ولم تعد تبدو بعد أن طليت بالإسمنت.
ويبدو أن هذا الضريح كان قد أصابه الهدم والتخريب مرات ومرات، وكان في كل مرة يُعاد تجديده أو ترميمه، وإذا سلّمنا جوازاً بما أفاد به ابن شداد من كون هذا الضريح أو المشهد هو للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وليس لابنته السيدة زينب، فإنه قد خُرّب مع جملة المباني على أيدي التتار الذين استولوا على سنجار في سنة (660 هـ / 1262 م ) كما قال ابن شداد نفسه. ويظهر أنّه قد جدد فيما بعد ومن قبل نائب التتر وهو من العجم، ويقال له قوام الدين محمد اليزدي، ورجع إلى سابق عهده ومجده حيث عادت تقام فيه صلاة الجمعة من كل أسبوع(2).
وذكر أيضاً أن التجديد عاد ولحقه مرة أخرى كما يتضح ذلك من نص مكتوب على لوحة رخامية موجودة على جدار غرفة الضريح من خارج البناء يقول: (... جُدِّد مزار الست زينب بنت علي، العبد الفقير سيدي باشا بن خداد... ثمان عشر شهر ربيع الآخر سنة 1105 هـ ). ومن بين القباب التي لا تزال تُشاهَد في سنجار وينظر إليها بإعجاب:
د ـ قبتا ضريح الست زينب: إحدهما نصف كروية، تغطي غرفة من غرف الضريح المتعددة وهي الغرفة المربعة الشكل. تقوم على ثلاثة صفوف من المقرنصات، وتقوم فوقها القبة المحاربة الشكل، وتحت قاعدتها ( أي قاعدة القبة نصف الكروية ) يدور شريط كتابي هو تتمة الآية التي تعلو المحراب، أي تتمة الآية التالية: بسم الله الرحمن الرحيم، إنما يَعْمُرُ مَساجدَ اللهِ مَن آمَنَ بالله ثم اسم المتولي على البناء. وترتفع المقرنصات التي تقوم عليها القبة مقدار 5, 4 م عن الأرض. ويبلغ ارتفاع القبة الكلي حوالي سبعة أمتار، ومن الخارج تكون هذه القبة بل وتظهر بشكل نصف كروية.
والقبة الثانية مخروطية، وهي قبة غرفة الضريح. لم يبق من مقرنصات الزوايا فيها سوى أربع دخلات مستطيلة في الجدار الشمالي، وواحدة في الجدار الغربي. كما توجد أيضاً أربع زوايا رُمِّمت بالجص بحيث مَحَت المقرنصات التي كانت فيها. أما القبة من الأعلى فقد طليت بالجص بحيث فقدت أيضاً كامل معالمها تقريباً. أما من الخارج فالقبة تبدو مضلعة مخروطية الشكل.
هـ ـ محاريب مرقد السيدة زينب: يوجد في مرقد السيدة زينب سلام الله عليها محاريب عدة، أشهرها المحراب الموجود في جدار القبلة من المصلى الصغير الذي يقع بين غرفة الضريح والغرفة المقابلة لها.
شيد هذا المحراب من الحجارة والجص، وغطيت واجهته بطبقة من الجص أيضاً. هو مستطيل الشكل في داخله مستطيلان، الخارجي منهما ارتفاعه 76 , 3 م وعرضه 28 , 2 م، ويضم في داخله أعمدة ارتفاعها 69, 1 م، وارتفاع عقده 18, 1 م، وسعة فتحته 28, 1 م وعمقه 37 , 0 م. أما المستطيل الداخلي فارتفاعه 28, 1 م وعرضه 83 , 0 م. ومن الملاحظ أن هذا المحراب يحتل ما يقارب جدار القبلة بكاملة.
إذن يتألف المحراب من مستطيلين متداخلين، يمتد في أعلى المستطيل الخارجي شريط كتابي عرضه 60 , 0م مسجل عليه بخط الثلث على أرضية مُزهَّرة يقرأ عليها الآية القرآنية التالية: بسم الله الرحمن الرحيم، إنّما يَعْمُر مساجدَ اللهِ مَن آمَنَ بالله... وتساقطت بقية الحروف. والشريط يحيط بجدران الغرفة من جهاتها الأربع.
وفي هذا الشريط إطار زخرفي عرضه 5 , 8 سم يحيط بالمحراب من جهاته الثلاث وقد حُفر عليه أشكال وريقات صغيرة وأنصاف الأوراق النخيلية وأزهار مغلقة، وتربط هذه الأوراق فروع نباتية. وهذه الزخارف بارزة عن مستوى المحراب قليلاً. ويلي هذا شريط كتابي عرضه 30 , 0 م يحيط بالمحراب من جهاته الثلاث مسجل عليه بالخط النسخي الآية القرآنية التالية وتبدأ من أسفل الجهة اليمنى: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهُ لا إلهَ إلا اللهُ الحيُّ القيومُ لا تأخذُه سِنةٌ ولا نومٌ، له ما في السمواتِ وما في الأرض .
وعلى القسم العُلوي من المحراب تستمر تكملة الآية: مَن ذا الذي يَشفعُ عندَه إلاّ بإذنهِ يَعلمُ ما بينَ أيديهِم وما خَلْفَهم.. وعلى الجهة اليسرى: ولا يُحيطونَ بشيءٍ مِن علمهِ إلاّ بما شاءَ وَسِعَ كرسيُّه السمواتِ والأرضَ ولا... . أما تكملة الآية فقد زالت.
ويلاحظ على جانبيَ تجويف المحراب شكل عمودين يعلو كلاً منهما تاج ناقوسي. وليس له قاعدة، وإنما يرتكز على الأرض مباشرة. والعمودان خاليان من الزخرفة، ويستقر عليهما عقد مدبب مطول شبيه بالعقد المنفرج. وقد حفرت زخارف متعددة منها ما يشبه العقد المفصص، وحفرت أشكال خطوط متقاطعة. وفي قمة العقد ورقة من ثلاث شحمات وأنصاف الأوراق النخيلية وأزهار مغلقة. ويتراوح بروز هذه الزخارف بين 2 و 6 سم. ويحيط بالعقد من خارجه أشكال نباتية تشبه ما هو موجود بداخله. ويدنو من العقد شريط كتابي عرضه 25 , 0 م من الصعب قراءته لأن أكثر حروف كلماته زائلة. وتخطيط أرضية المحراب بشكل مستدير عمقه الكلي 37 , 0 م.
والمحراب هذا ليس مؤرَّخاً، وأغلب الظن أن تاريخه يرجع إلى زمن الملك بدر الدين لؤلؤ ( 637 ـ 644 هـ / 1239 م ـ 1246 م ) أي إلى زمن تشييد بناء الضريح بكامله، لأن الزخارف النباتية والقنديل والتيجان ( تيجان الأعمدة ) شبيهة ـ كما يقول صاحب كتاب المحاريب العراقية ـ بالتي على محرابَي يحيى بن القاسم والإمام عون الدين في الموصل، وهما من مخلفات بدر الدين نفسه، وإن كان هناك اختلاف من حيث مادة البناء. فمحراب السيدة زينب سلام الله عليها بُني بالحجارة والجص، وغُطّيت واجهته بطبقة سميكة من الجص، بينما المحرابان السابقان بُنيا من الرخام الأزرق.
1 ـ ذكر الهروي المتوفى سنة ( 611 هـ / 1214 م ) عند وصوله إلى سنجار ما يلي: " ... وبها مشهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه على الجبل "، ولم يذكر أنه مزار السيدة زينب. الإشارات إلى معرفة الزيارات ص 66. وكرّر ابن شداد المتوفى سنة 684 ما قاله الهروي: " ... وبسنجار مشهد كان ملاصقاً للسور يعرف مشهد عليّ عليه السّلام ". الأعلاق الخطيرة، لابن شدّاد ج 3 : ق1 ص 155. ويقع الضريح في مكان على جانب كبير من الجمال والروعة. ويروي سكان المدينة المسيحيون أن أصل هذه العمارة كان ديراً للنصارى، وقد كان فيها صُلبان منقوشة أزالها المسلمون عندما أثروا عليهم. وأخذ بعض السكان المسلمين هذه الرواية عن المسيحيين، وهذا الاعتقاد الشائع، مَرّده إلى ظاهرة أوسع من هذه وهي أن جميع المنشآت الدينية كانت تنتقل من دين إلى دين آخر حسب هوية المسيطرين. إلا أنّه في هذه القضية بالذات ليس هناك دليل عمراني يثبت صحة هذا الاعتقاد، وقد يجوز في غيره. هذا وينفي الدملوجي وجود أيّة علامة للصليب المعكوف الذي قيل إنه على أحد جدران العمارة حين زار المكان واطّلع على محتوياته في زمن سابق. اليزيدية 188. وتجدر الملاحظة أن بعض عشائر اليزيديين الذين يُعرَفون بالبابوات ( بابوات الست زينب ) تُجلّ هذا الضريح وتعظمه.
2 ـ الأعلاق الخطيرة، لابن شدّاد ج3 : ق 1 ص 155.

السيدة زينب (عليها السلام) حضارة خالدة
عندما يتأمل الرائي البحر.. يتيه بين أسراره وعجائبه، وإذا ما ارتمى بين أحضانه يغرق، دون أن يحلّ أيّ لغز فيه! فتراه يضطرب غضباً تارة.. وحنيناً تارة أخرى، وعلى بساط الأمل يبقى متربّعاً عله يفيق من سكرة سحر الجمال (ثمَّ يَهيجُ فتراهُ مُصْفراً ثمَّ يَكُون حُطاماً) فيهشّ وجهه ويكمد، ليخلع على ذاته من مصون الأسرار ما أكنته الضمائر. لذا وذاك عرجتُ بروحي إلى شواطئ البحر.. ساكناً بعد حراك، وصامتاً بعد نطق لأتعض بهدوّه، وخفوت أطرافه وسكونه..
فلقيته (مَوْجٌ مِنْ فوْقِهِ مَوْج)، والملائك تطوف من حوله، وقبل أن أقدح الزناد لأطلق من فوهة فمي السؤال عن ماهية هذه الأمواج.. خرقت مسامعي ألحان الملائكة وهي ترتل نشيدها:
لــــــــي خـــــــمسة أطـفي بـهم حـــــرّ الجــــــــحيم الـــحاطمة         المصطــــــفى والــــمرتـــــضى وابنـــــيــــهما والـــفـاطــــــمة
فانسابت دموعي لترقص على خدّي طرباً بذكر آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، وراحت الأعاصير التي زحفت بعسكرها على فؤادي تذوب كالملح في الماء.. حيث انصهر الظلام، وتوهّجت بصيرتي بنور اضطمّت عليه جوانحي يسمو بالهداية.. بعد أن برزت هويّة البحر فعلمت أنه محمداً وآله (صلى الله عليه وآله). ثم هويت لأجلس كالعبد بين يدي هذا البحر العظيم الذي لا يدرك قعره، ورحت أنعطف عليه لأغترف منه ما يفيض به عليّ من إشراق وتوقد.. فالتحمت كلتا يديّ وصرن تحت بضعة من جسمه البرّاق، فرفعتها لأغسل بها عوالق الهموم، وأشفي جراحاتي التي لم تندمل بعد.. وإذا بقلبي قد أخذ ينعصر، وطافت سحب الحزن عليه فرحت أستعبر منقباً عن قداستها، وما هي إلاّ هنيهة وإذا بصوت شجي:
هـي صفوة الهادي الشفيع وبضعة         مـــــن حـــــيدر وســـلالة الزهراء
فارتعدت مفاصلي، وخشع شعري وبشري، ولحظت أنفاسي كأنها تنخلع في حالة نزع.. من الخبر الملتهب الذي أجّج صراخاتي الصامتة على شفاهي الذابلة من فم القروح، فصرت أتمرغ بين السائل والمجيب في ذاتي المعذبة.. وفرجت بين أصابعي لأضع ما اغرفته على صخرة جاورت أخواتها إلى جانبي فاضطربن اضطراباً شديداً.. فأخذتني الرعدة، وقد اندلع لسان الألم مستفهماً؟!! من هذه البضعة التي أثارت عطف الصخور؟!! وما اسمها؟ وما شأن ارتباطها بالسلسلة الذهبيّة الفاطمية؟.. وإذا الصوت بجسمه يعود بشجوه:
هـي زيـنب الكبرى عقيلة حيدر         بثـــــباته فــــــي وجه كلّ بلاء
فعلمت حينها أنّ اسمها زينب وهي سبطة النبي (صلى الله عليه وآله) وبضعته من بضعته، ونور قد انبثق من علي وفاطمة فكانت هي فألبسه الله هيبته، وعلى مائدة التاريخ جلست لأعلم أنّ الله من فاض عليها قداسة ذا الاسم، وبانت جوانب حياتها مشرقة بعد أن رضعت لبان الوحي، وخصّت بتلكم التربية الروحانيّة، ونشأت أسمى نشأة قدسية، فتجلببت جلابيب الجلال والعظمة وتزاحمت السطور المترجمة لها في خزانة التاريخ وهي متخمة بحقائق عملاقة.. متلهفة على حسراتها التي قضت بها، وهي من ألمع نجوم الإنسانية في رسالة الإصلاح والحرية التي حمل لوائها قمر زان سماء العقيدة ببهائه وجماله.
وكلما غربت شمس للرسالة أو أفل فيها نجم نراها تزداد تألقاً، وتروح لتزوي الجروح والمحن في جيوب الآلام لتكمل المسيرة التي اعتنقت مبادئها منذ الولادة، فلأي جانب نقصد من حياتها العظيمة يبهرنا سحر إثماره وغزارته.. فعلمها بحر لا ينفد وصبرها موج لا يرتدْ وفي كلّ فجّ لها سيل عارم ومنهلها فيهنّ العبادة.. حين الولادة وإلى الشهادة.. فلها بالله قربى.. كأني بها لا تذوق النوم إلاّ غرارا أو مضمضة متقلبة متضرّعة بين يديه ترتعد مفاصلها هيبة وإجلالاً، وتناجي بلسان أبيها ولئالي الدموع تنهمر من كريمتيها على خزانة أسرار العصمة حتى زانت بتهجّدها أركان المحراب آمرة ناهية، ذائبة في اغتنام الفرصة ورفع الغصّة مؤكدة لقول أبيها (ألا ومن أكل الحقّ فإلى الجنة ومن أكل الباطل فإلى النار)، خافضة بالعلم جناحها ملينة للجانب باسطة للوجه بوجه كلّ يتيم مآسية بينهم في اللحظة والنظرة محذرة للأمة من مبلبل أجسام الملوك وسالب نفوس الجبابرة، لينقلبوا عن الدنيا بالزّاد المبلغ والمتجر الرابح لذا قيل فيها:
فكــــــانت كـــــالأئمة في هداها         وإنـــــقاذ الأنـــــام من الضلال
وهكذا تنشر الفضيلة بأخلاقها النابعة من حديقة الكمال التي غرسها الله ثمّ ليشطرها إلى نصفين في عليّ وفاطمة وتعود لتجتمع مكللة بالزهور في تاج الكرامة والوقار تتوّج به زينب العقيلة من آل هاشم:
وكـــم قال ابن عــباس فخوراً:         عقــــــيلتنا ويـــــــا نعم العقيلة
لتكون البدر بلا خسوف والشمس دون كسف، ولنعم ما قيل فيها:
بنفسي من حوت أسمى المزايا ومــــن يسمو الثناء بها ويَحلو فإن كــــــثرت مدائحها وفاضت         ومن للـــــمكرمات غدت خليله وأجــــــدر بالنّعوت المستطيله تُعـــــدّ بشــــأنها السامي قليله
وبعد فقد صارت بأبي هي وأمي غرض الأسقام ورهينة الأيام ورمية المصائب، وانثالت عليها المحن الواحدة تلو الأخرى، فقدُ جدّها ثم أبيها بعد أمها وسمّ أخيها حتى ينتهي بها العزاء إلى كربلاء لتمنع العذب وتحلس الخوف مع فتية نحتوا في الصّخور نصر الجيد ولولاهم ما قام عمود الدين ولا أخضر عود الإيمان، ولتتحمّل ما عجزت عنه جبال رضوى:
فأبـــــــدت بعد يوم الطفّ حزماً وحلمــــاً لا يقاس بثقل رضوى لقد وثــــق الحســـين بها لكيما         ومــــا مــن حرّة أبـــــت مثيله محال بـأن يرى رضوى عديله تقوم بحــــمل أعـــــباء ثقـــيله
ثمّ راحت لتكمل مسيرة الجهاد بخطبها الرنانة في مجالس الظالمين:
وكان جـــــهادها بالقول أمضى         من البيض الصــوارم والنضال
فليس لها من نظير بصبرها على مضض الألم، وإليها تشخص أبصار الغوّاصين في خزائن العظمة والمتاحف والإنسانية، وفي بحر صبرها السلوى لكلّ متأوّه وذات أنين:
يـــــا قلــــــب زينب ما لاقيت من محن لو كان ما فيــــــك من صبر ومن محن يكفـــــيك صبراً قـــــلوب الناس كــلّهم         فيـــــك الـــرزايا وكلّ الصّبر قـد جمعا فـي قلب أقوى جبال الأرض لانصدعا تـــــــفطّرت للذي لاقـــــيته جــــــزعــاً
وقد أكملت بناء ثورة أخيها الحسين (عليه السلام) إلى القمة لتبقى شاهقة تناطح السحاب، وتتكسّر عند أعتابها أحلام الطغاة، وهي النجم لم يأفل بتجلببها الصبر وتجلدها للعبادة.. لنحيى نحن فنكون بدراً يجدّد أرضاً غرّسوها جثثاً وسقوها بدم.. يفوح عطراً بالولاء.. وهو يصدح نشيداً على مائدة الحروف.. الناطقة من سكون صمت كلمة حسين، مستلهمين النهج الزينبي بنصّه المعبّر: إن في إبراز المظلومية حقيقة الانتصار.
وهكذا براكين الضمائر تغلي.. لنمشي على الجروح.. لتحال منا أفواج العبرات.. دمع ينزف.. وصوت يهتف ملتحماً بصوت العقيلة في مجلس يزيد: (فوالله لا تمحو ذكرنا).. لنقول:
نحن أبكينا الدموع.. ما بكينا.. وابتسمنا.. رغم أنف الظالمين
وانتصرنا.. في السجون.. تحت السياط.. بعد ما نحن صبرنا
وانتصرنا.. بالحياة.. حيثما خط العلم.. نحن أنصار الحسين
لوديعة الكبرى
يـا آتِيـاً ومِـنَ الغَـريِّ بـوجـهِهِ قُـلْ للعقيـلةِ حـيـن تَدخُـلُ بيتَـها يا بِنتَ مَـن حَمَل اللِّواءَ ومَـن لَـهُ يا بضـعةَ الزهــراءِ يا مـن أُمُّـها يا أُختَ مَـن نَضَحَت عُـروقُ جَبينهِ حَتّـى تَحَـضَّـنَهُ التُّـرابُ كـأنّـهُ أنتِ الأميرةُ فـي الشّـآمِ وهذهِ الـ تَهوِي الجِبـاهُ علــى ترابِكِ مِثلـما فكـأنّ ذاك القَـيـدَ حيـنَ حَمَلتِـهِ وَكَـأَنَّ ذَاكَ الدَّمْــعَ حِيـنَ نَثَـرِتهِ فَفَـرَيتِ لَحـمَ الظَّالمـينَ ومُـزِّقَتْ وبَقـيتِ أنت كمـا الخُـلودُ وَديعـةً أنـا مِـن مَعينِكِ لا تَزالُ مَراشِـفي لو كـانَ مِـن جَمـرٍ مَعينُكِ لاشتَهى يـا صـرخةً مِـن كربـلاءَ تَرَدَّدَت أنـا جِئتُ فـي جَسَـدٍ إليـكِ يهُـزُّهُ عهـداً تَـوارثـهُ الجُـدودُ وقبلـهم جَسَـداً هَوَيتُ علـى يدَيك تَلُـمُّـني طَيفٌ يلـوحُ وهـاتـفٌ بـدَمٍ هَتَـفْ مُتَلمِّسـاً صَرحَ الفضـيلةِ والشَّـرَفْ قـامَ الخُـلودُ بكـلِّ إجـلالٍ وَقَـفْ أُمُّ الأئـمّـةِ وهـي دُرٌّ لا صَـدَفْ عِـزّاً وجُـرحُ فُـؤادِهِ بـدَمٍ نَـزَفْ حُورُ الجِنـانِ لها المنـازلُ والغُرَفْ دُّنيا على أعتـابِ دارِكِ فـي شَغَفْ تَهوِي القُلوبُ فـلا غُلُوَّ ولا سَـرَفْ مفتـاحُ سِــرٍّ للخُـلودِ ومُـزدلَفْ غَيظُ الجَـحيمِ بـه تَقَـطَّرَ وانْـذَرَفْ أوصـالُهُم مِزَقـاً بـهـا وغَدَوا نُتَفْ كُبرى تَحاشـاها الصُّـدودُ أو الجَنَفْ نَشْوى، وَغيرَكِ لي لسـانٌ ما ارْتَشَفْ قلـبـي مَـواردَهُ وحَـوَّمَ واغْتَـرَفْ أصـداؤُهـا فـي كُلِّ مُعتَـرَكٍ وطَفْ عشقٌ تَجدّدَ في الدِّمـاءِ وفـي النُّطَفْ سَلَـفٌ تَنـاولـهُ ليَحفـظَهُ الخَـلَفْ ونَسِـيتُ قلبي فـوقَ أسـوارِ النَّجَفْ
(عن مجلة النجمة المحمدية ص 51 ـ 52 / العدد الثالث)زواج السيدة زينب عليها السلام
لمّا بَلَغت السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) مَبلَغ النساء ، خطَبَها ـ فيمَن خطَبَها ـ ابنُ عمّها : عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
وكان الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يَرغَبُ أن يتزوّج بناته من أبناء عُمومتهنّ : أولاد عقيل وأولاد جعفر ، ولعلّ السبب في ذلك هو كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ حينَ نظر الى أولاد الإمام علي وأولاد جعفر بن أبي طالب ـ فقال : ـ « بَناتُنا لبَنينا ، وبَنونا لبَناتنا ». (79)
وحصلت الموافقة على الزواج ، وتمّ العقد المبارك في جوّ عائلي يَغمره الودّ والمحبّة ، وزُفّت السيدة زينب ( عليها السلام)
العلاقات الودّية بين السيدة زينب وأخيها الإمام الحسين
إن روابط المحبة ، والعلاقات الودية بين الإخوة والأخوات كانت من قديم الزمان ، حتى صارت يضرب بها المثل في المحبة والمودة بين اثنين ، فيقال : كأنهما أخوان ، أو كأنهما أخ وأخت.
ولكن العلاقات الودية وروابط المحبة بين الإمام الحسين وبين أخته السيدة زينب ( عليهما السلام ) كانت في القمة وكانت تمتاز بمزايا ، ولا أبالغ إذا قلت : لا يوجد ولم يوجد في العالم أخ وأخت تربطهما روابط المحبة والوداد مثل الإمام الحسين وأخته السيدة زينب. فإن كلاً منهما كان قد ضرب الرقم القياسي في مجال المحبة الخالصة ، والعلاقات القلبية.
وكيف لا يكونان كذلك وقد تربيا في حجر واحد وتفرعا
من شجرة واحدة ؟!
ولم تكن تلك العلاقات منبعثة عن عاطفة القرابة فحسب ، بل عرف كل واحد منهما ما للآخر من الكرامة ، وجلالة القدر وعظم الشأن.
فالسيدة زينب تعرف أخاها بأنه :
سيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتعلم بأن الله تعالى قد أثنى على أخيها في آيات كثيرة من القرآن الكريم ، كآية المباهلة ، وآية المودة ، وآية التطهير ، وسورة « هل أتى » ، وغيرها من الآيات والسور.
بالاضافة إلى أنها عاشت سنوات مع اخيها في بيت واحد ، وشاهدت ما كان يتمتع به اخوها من مكارم الأخلاق والعبادة والروحانية ، وعرفت ما لأخيها من علو المنزلة وسمو الدرجة عند الله عزوجل.
وتعلم انه إمام منصوب من عند الله تعالى ، منصوص عليه بالإمامة العظمى والولاية الكبرى من الرسول الأقدس صلى الله عليه وآله وسلم.
مع توفر شروط الإمامة ولوازمها فيه ، كالعصمة ، والعلم بجميع أنواع العلوم ، وغير ذلك.
وهكذا يعرف الإمام الحسين ( عليه السلام ) أخته السيدة زينب
حق المعرفة ، ويعلم فصائلها وفواضلها وخصائصها.
ومن هنا يمكن لنا أن نطلع على شيء من مدى الروابط القوية بين هذا الأخ العظيم وأخته العظيمة.
وقد جاء في التاريخ : أن الإمام الحسين ( عليه اسلام ) كان يقرأ القرآن الكريم ـ ذات يوم ـ فدخلت عليه السيدة زينب ، فقام من مكانه وهو يحمل القرآن بيده ، كل ذلك احتراماً لها. (80)
مروان يَخطب بنت السيدة زينب عليها السلام
ليزيد بن معاوية
لقد كان البيت الأموي معقّداً بعُقدة الحِقارة النفسيّة ، بالرغم من السلطة الزمنيّة التي اغتصبوها زوراً وبهتاناً ، وظلماً وعدوانا.
فقد كانت صفحات تاريخهم ـ خَلَفاً عن سَلَف ـ سوداء مظلمة مُدلَهمّة ، ملوّثة مشوّهة من مساويهم ومَخازيهم.
فتلك ( حمامة ) وهي مِن جَدّات معاوية ، وكانت مِن بغايا مكّة ومن ذوات الأعلام ، أي : كان العَلَم يُرفرف على دارها ( بيت الدعارة ) لِيَعرف الزُناة ذلك ، ويقصدوها للفجور بها. (81)
وتلك هند ـ والدة معاوية ـ السافلة القذرة ، ذات السوابق العَفِنة ، والملَفّ الأسود ، آكلة الأكباد ، المُمتلئة حِقداً وعداءً على الإسلام والمسلمين.
وذاك أبو سفيان : قُطب المشركين ، وشيخ المُلحدين ، ورأس كلّ فتنة ، وحامل كلّ راية رُفعت لحرب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقائد كلّ جيش خرج لقتال المسلمين في أيام النبي الكريم.
وهذا معاوية ، خَلَفُ هذا السلف ، وحصيلة هذه الجراثيم ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، وهو يعلم أنّ الناس يعلمون هذه السوابق ، ويَعرفون معاوية حقّ المعرفة. (82)
فكيف يَجبر هذا الشعور بالنقص .. الذي لا يُفارقه ؟!
وكيف يستر هذه العيوب التي أحاطت به وغَمرته ؟
كان الإحساس والشعور ـ بهذه السوابق العفنة ، والملفّات الوسخة ـ يحُزّ في صدر معاوية.
صلابـة أعـلاكِ الذي بَلَلُ الحيـا بَنـي عبد شمسٍ لا سقى الله حفرةً ألِمّـا تكونـي فـي فُجورك دائماً وراءَك عنهـا لا أبـاً لـكِ إنّمـا عجِبـتُ لمـن في ذلّة النعل رأسه دَعوا هاشمـاً و الفخـر يعقِد تاجه ودونكمـوا والعار ضُمـّوا غِشاءَه يُرَشّـح لكن لا لشيء سـوى الخَنا وتتـرف لكن للبغـاء نسـاؤكـم و يَسقـي بمـاءٍ حَرثكم غير واحد ذهبتـم بها شنعـاء تبقى وصومها         به جفّ ، أم فـي لين أسفَلكِ الندي تضُمـّكِ والفحشـاء في شرّ مَلحَدِ بمشغلةٍ عـن غَصـب أبناء أحمد تَقـدّمتِهـا لا عـن تقـدّم سـؤدد بـه يتـراءى عاقـداً تـاج سيـّد على الجبهات المستنيرات في الندي إليكم إلى وجهٍ مـن العـار أسـود وَ ليـدكم فيمـا يـروح ويغتـدي فيُـدنَس منها فـي الدجى كلّ مرقد فكيـف لكم تُرجـى طهارة مـولد لأحسابكم خزيـاً لـدى كلّ مشـهد
المصدر : ديوان السيد حيدر الحلي ، طبع لبنان عام 1404 هـ ، ص 70.      المحقق
إستعراض موجَز لحياة السيدة زينب الكبرى
بمقدار ما كانت حياة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) مشفوعة بالقداسة والنزاهة ، والعفاف والتقوى ، والشرف والمجد ، كانت مليئة بالحوادث والمآسي والرزايا ، منذ نعومة أظفارها وصِغر سنّها إلى أواخر حياتها.
فلقد فُجعت بجدّها الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان لها من العمر ـ يومذاك ـ حوالي خمس سنوات ، ولكنّها كانت تُدرك هول الفاجعة ومُضاعفاتها.
ومن ذلك اليوم تغيّرت معالم الحياة في بيتها ، وخيّمت الهموم والغموم على أسرتها ، فقد هجم رجال السقيفة على دارها لإخراج أبيها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) من البيت لأخذ البيعة منه ، بعد أن أحرقوا باب الدار وكادوا أن يُحرقوا الدار بمَن فيها.
وقد ذكرنا في كتاب : ( فاطمة الزهراء من المهد الى اللحد ) شيئاً من تلك المصائب التي انصبّت على السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من الضرب المبرّح وإسقاط الجنين ، وغير ذلك ممّا
يطول الكلام بذكره.
وكانت جميع تلك الحوادث بمرأى من السيدة زينب ومَسمَع ، فلقد سمعت صراخ أمّها من بين الحائط والباب ، وشاهدت الأعداء الذين أحاطوا بها يضربونها بالسوط والسيف المغمَد ، وغير ذلك ممّا أدّى إلى إسقاط إبنها المحسن ، وكسر الضلع ، وتورّم العضُد الذي بقي أثره إلى آخر حياتها.
و ـ بعد شهور ـ فُجعت السيدة زينب بوفاة أمّها ( سلام الله عليها ) وهي في رَيَعان شبابها ، لأنّها لم تبلغ العشرين من العمر ، ودُفنت ليلاً وسرّاً ، في جوّ من الكتمان ، وعُفّي موضع قبرها إلى هذا اليوم.
ومنذ ذلك الوقت كانت السيدة زينب ترى أباها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) جليس الدار ، مسلوب الإمكانيات ، مدفوعاً عن حقّه ، صابراً على طول المدة وشدّة المحنة.
وبعد خمس وعشرين سنة ـ وبعد مقتل عثمان ـ أكرهوه أن يوافق على بيعة الناس له ، فبايعوه بالطوع والرغبة ، وبلا إجبار أو إكراه من أحد ، وكان أول من بايعه : الطلحة والزبير ، وكانا أوّل مَن نكث البيعة ونقض العهد ، والتحقا في مكّة بعائشة ، وحرجوا طالبين بدم عثمان ، وقادا الناكثين ( للبيعة ) من المناوئين للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وقصدا البصرة وأقاما مجزرة رهيبة ـ في واقعة الجمل المعروفة ـ وكانت حصيلتها خمسة وعشرين ألف قتيل.
وبعد فترة قصيرة أقام معاوية واقعة صفّين ، وقاد القاسطين ، واشتدّ القتال وكاد نسل العرب أن ينقطع من كثرة القتلى ، وتوقّف القتال لأسباب معروفة مفصّلة.
ثمّ أعقبتها واقعة النهروان التي قُتل فيها أربعة آلاف.
وتُعتبر هذه الحروب من أهمّ الإضطرابات الداخلية في أيام خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
وانتهت تلك الأيام المؤلمة بشهادة الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ومَقتله على يد عبد الرحمن ابن ملجم !
ولمّا قام اخوها : الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ) بأعباء الإمامة تخاذل بعض أصحابه في حربه مع معاوية ، وصدرت منهم الخيانة العظمى التي بقيت وصمة عارها إلى هذا اليوم ، فاضطرّ الإمام الحسن ( عليه السلام ) إلى إيقاف القتال حِقناً لدماء مَن بقي من أهل بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
وخلا الجوّ لمعاوية بن أبي سفيان وعُملائه ، وظهر منهم أشدّ أنواع العداء المكشوف للإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وسنّ معاوية لعن الإمام على المنابر في البلاد الاسلامية ، وأمر باختلاق الأحاديث في ذمّ الإمام والمسّ بكرامته.
كلّ ذلك بمرأى من السيدة زينب ومسمع.
وطالت مدّة الإضطهاد عشر سنين ، وانتهت إلى دسّ السمّ إلى
الإمام الحسن ( عليه السلام ) بمكيدة من معاوية ، وقضى الإمام نحبه مسموماً ، ورشقوا جنازته بالسهام حتى لا يدفن عند قبر جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. (83)
وهكذا امتدّت سنوات الكبت والضغط ، وبلغ الظلم الأموي القمّة ، وتجاوز حدود القساوة ، وانصبّت المصائب على الشيعة في كلّ مكان ، بكيفيّة لا مثيل لها في التاريخ الإسلامي يومذاك ، مِن قطع الأيدي والأرجل ، وسمل العيون ، وصلب الأجساد ، وأمثال ذلك من الأعمال الوحشيّة البربريّة ! (84)
وعاصر الإمام الحسين ( عليه السلام ) تلك السنوات السود التي انتهت بموت معاوية واستيلاء إبنه يزيد على منصّة الحكم.
هذه عُصارة الخلاصة للجانب المأساوي في حياة السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) المليء بالكوارث والحوادث ، طيلة نيّف وأربعين سنة من عمرها.
وأعظم حادثة ، وأهمّ فاجعة حدثت في حياة السيدة زينب هي فاجعة كربلاء التي أنست ما قبلها من الرزايا ، وهوّنت ما بعدها من الحوادث والفجائع.
عبد الله بن جعفر
لا أراني بحاجة إلى التحدّث عن حياة جعفر الطيّار ـ رضوان الله عليه ـ والد عبد الله ، ولا أجدُ ضرورة إلى التحدّث عن حياة سيدنا أبي طالب ( عليه السلام ) أو عقيل أو بقيّة رجالات وسيّدات هذه الأسرة ، الذين يَنحدرون عن سيّدنا أبي طالب.
وإنّما المقصود ـ هنا ـ هو التحدّث عن حياة عبد الله بن جعفر ، وذلك لكونه زوج السيدة زينب الكبرى عليها السلام.
كان عبد الله شخصيّة لامعة في عصره ، يمتاز عن غيره نسباً وحسباً ، وجوداً وكرماً ، فقد ذكره أرباب التراجم ـ من الفريقين ( السُنّة والشيعة ) في كتب التاريخ والحديث والرجال ـ بكلّ ثناء وتقدير ، وعدوّه من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والإمام أمير المؤمنين ، والإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجاد ( عليهم السلام ).
وقد كان رابِط الجأش (85) قويّ القلب ، شُجاعاً ، شملته ـ في طفولته ـ بركة دعاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وامتدّت إلى آخر حياته.
فقد ذكر سبطُ إبن الجوزي في كتابه ( تَذكرة الخواص ) في ذِكر أولاد جعفر بن أبي طالب :
« عبد الله ، وبه كان يُكنّى (86) ، ومحمد ، وعَون ، وأمّهم : أسماء بنت عميس ، ولدتهم بأرض الحبشة (87) وكان جعفر قد هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية.
وأشهرهم : عبد الله ، وكان من الأجواد ، وهو من الطبقة الخامسة (88) ممّن توفّي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو
حَدث ، ولمّا ولدته أمّه أسماء بالحبشة ، وُلد ـ بعد ذلك بأيّام ـ للنجاشي وَلَد (89) فسمّاه عبد الله ، تبرّكاً باسمه ، وأرضعت أسماءُ عبد الله بن النجاشي بلَبَن ابنها عبد الله. (90)
وقال ابن سعد في كتاب ( الطبقات ) (91) :
حدّثنا الواقدي ، عن محمد بن مسلم ، عن يحيى بن أبي يعلى ، قال :
سمعت عبد الله بن جعفر يقول : « أنا أحفظُ حينَ دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على أمّي فنعى إليها أبي ، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي وعيناه تَذرفان ـ أو تهرقان ـ بالدموع حتّى تقطر لحيته.
ثم قال : « اللهم إنّ جعفراً قد قَدم إلى أحسن الثواب ، فاخلفه في ذريّته بأحسن ما خلفت أحداً مِن عبادك في ذريّته ».
الذين حضروا يوم بدر قِسماً خاصاً وطبقة اولى ، وهكذا ... وحسب تقسيمه جعل عبد الله بن جعفر من الطبقة الخامسة.
ثمّ قال : « يا أسماء ! ألا أُبشّركِ ؟ »
قالت أمّي : بلى ، بأبي انت وأمّي يا رسول الله !
قال : « فإن الله قد جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة ».
فقالت : يا رسول الله فأعلم الناس بذلك.
فقام رسول الله فأخذ بيدي ومسح برأسي ، ورقى المنبر ، فاجلسني أمامه على الدرجة السفلى ـ والحزن يُعرف عليه ـ (92) فتكلّم وقال :
« إنّ المرء كثير بأخيه وابن عمّه ، ألا : إنّ جعفراً قد استشهد ، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنّة ».
ثم نزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ودخل بيته وأدخلني معه ، وأمر بطعام فصُنع لأهلي.
ثمّ أرسل إلى أخي ، فتغدّينا عنده غذاءً طيّباً مباركاً ...
وأقمنا ثلاثة أيام ، ندور معه في بيوت أزواجه ثم رجعنا إلى بيتنا.
فأتانا رسول الله وأنا أُساوم بشاة أخاً لي (93) ، فقال : « اللهم
بارِك له في صفقته » (94) ، فما بِعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه ». (95)
ولعبد الله بن جعفر حوار وكلام في مجلس معاوية بن أبي سفيان ، يدلّ على ما كان يتمتّع به عبد الله من قوّة القلب ، وثَبات الجَنان ، والإيمان الراسخ بالمبدأ والعقيدة ، وعدم الإكتراث بالسلطات الظالمة الغاشمة.
أضف إلى ذلك الفصاحة والبلاغة ، والمستوى الأدبي الأعلى الأرقى. فقد ذكر إبن أبي الحديد في ( شرح نهج البلاغة ) عن المدائني :
قال : بينا معاوية ـ يوماً ـ جالس ، وعنده عمرو بن العاص إذ قال الآذِن (96) : قد جاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
فقال عمرو : والله لأسوأنّه اليوم !
المُشتري التَخفيض في ذلك. وقيل : هو الكلام الذي يَسبق المُعاملة التجارية. « المحقق »
فقال معاوية : لا تفعل يا أبا عبد الله ، فإنّك لا تنتصف منه ، ولعلّك أن تُظهر لنا من مغبّته ما هو خفيّ عنّا ، (97) وما لا نحبّ ان نعلمه منه !!
وغشيهم عبد الله بن جعفر (98) فأدناه معاوية وقرّبه.
فمال عمرو إلى جُلساء معاوية فنال مِن علي ( عليه السلام ) جهاراً غير ساترٍ له ، وثلبه ثلباً قبيحاً !! (99)
فالتمع لون عبد الله ، واعتراه الأفكَل (100)
حتى أرعدت خصائله (101) ثم نزل عن السرير كالفنيق (102) فقال عمرو : مَه يا أبا جعفر ؟
فقال له عبد الله : مَه ؟ لا أمّ لك ؟ ثم قال :
أظنّ الحِلمَ دلّ عليّ قومي         وقد يتجهّل الرجل الحليم
ثمّ حسَر عن ذراعيه (103) ، وقال :
يا معاوية ! حتى متى نتجرّع غيظك ؟
وإلى كم الصبر على مكروه قولك ، وسيّئ أدبَك ، وذَميم أخلاقك ؟
هَبَلَتك الهبول !! (104)
أما يَزجُرك ذمامُ المجالسة من القَذع لجليسك (105) إذا لم يكن له حرمة من دينك تَنهاك عمّا لا يَجوز لك ؟!
أما : والله لو عطفتك أواصر الأرحام ، أو حاميتَ عن سهمك من الإسلام ما أرخَيتَ ـ لبني الإماء المُتك (106) والعَبيد المُسك (107) ـ أعراض قومك.
وما يَجهل موضع الصَفوة إلا أهل نَجوة (108).
وإنّك لتعرف وشائط قريش (109) ، وصقوة عوائدها ، فلا يَدعوّنك تصويبُ ما فَرط مِن خَطاك في سفك دماء المسلمين ، ومُحاربة أمير المؤمنين ، إلى التمادي فيما قد وضح لك الصواب في خلافه ، فاقصد لمنهج الحقّ ، فقد طال عمهُك عن سبيل الرشد (110) ، وخَبطُك في دَيجور ظلمة الغيّ ، فإن أبَيت إلا أن تُتابعَنا في قُبح اختيارك لنفسك فاعفِنا عن سوء القالة فينا إذا ضمّنا وإيّاك الندي (111) ، وشأنُك وما تريد إذا خلَوت ، والله حسيبُك ، فوالله لولا ما جعل الله لنا في يديك لما أتيناك.
ثم قال : إنّك إن كلّفتني ما لم أُطِق ساءك ما سرّك منّي مِن خُلق.
فقال معاوية : يا أبا جعفر : اقسمتُ عليك لَتجلسنّ ، لعن الله من أخرجَ ضبّ صدرك مِن وجاره (112) ، محمولٌ لك ما قلتَ ، ولكَ
عندنا ما أمّلت ، فلو لم يكن مَجدك ومَنصِبُك لكان خَلقُك وخُلُقك شافِعَين لك إلينا ، وأنت إبن ذي الجناحين وسيد بني هاشم.
فقال عبد الله : كلا ، بل سيّدا بَني هاشم حسنٌ وحسين ، لا يُنازعهما في ذلك أحَد.
فقال معاوية : يا أبا جعفر أقسمتُ عليك لما ذكرتَ حاجة لك قضيتها كائنةً ما كانت ، ولو ذهبت بجميع ما أملك.
فقال : أمّا في هذا المجلس فلا.
ثمّ انصَرف ، فأتبعه معاوية بصُرّة. (113) فقال : والله لَكأنّه رسول الله ، مشيُه وخَلقه وخُلقه وإنّه لمن شكله ، ولودَدتُ أنّه أخي بنفيس ما أملك.
ثمّ التفت إلى عمرو فقال : أبا عبد الله ما تَراه منَعَه مِن الكلام معك ؟
قال : ما لا خفاء به عنك.
قال : أظنّك تقول : إنّه هابَ جوابك ، لا والله ولكنّه ازدَراك (114) واستحقَرك ولم يَرك للكلام أهلاً ، أما رأيت إقباله عليَّ
دونَكَ ، زاهداً بنفسه عنك.
فقال عمرو : هل لك أن تَسمع ما أعددته لجوابه ؟
قال معاوية : إذهب ، إليك أبا عبد الله ، فلاتَ حين جواب سائر اليوم (115) ، ونهض معاوية وتفرّق الناس. (116)
لماذا لم يخرج عبد الله مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) ؟
هناك سؤال قد يتبادر إلى بعض الأذهان وهو : لماذا لم يَخرج عبدالله بن جعفر مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) في رِحلته إلى العراق ؟
لإجابة هذا السؤال : هناك أكثر من إحتمال ، لأنّنا لا نَعلم ـ بالضبط ـ الجواب الصحيح ، لكنّ الذي يتبادر إلى ذهني ـ والله العالم ـ : أنّه كان من اللازم أن تَبقى بقيّة من أهل البيت في المدينة المنوّرة ، لكي لا يَنجح بنو أميّة في إكمال خطّتهم الرامية إلى استئصال شجرة آل الرسول الكريم ، وكان اللازم أن تكون تلك البقيّة في مستوى رفيع من قوّة
الشخصية والمكانة الإجتماعية .. رجالاً ونساءً ، لكي يستطيعوا المحافظة على امتداد خط الإسلام الأصيل الذي يَنحصر في آل محمد وعلي ( عليهما وآلهما الصلاة والسلام ) ولكي يكونوا على درجة جيّدة بحيث يَحسب لهم الأعداء ألف حساب ، ولا يَسهُل عليهم إبادة تلك البقيّة.
من هنا .. فاننا نقرأ ـ اسماء ثلة من الذين بقوا في المدينة المنورة ، ولم يخرجوا مع الامام الحسين (ع). ومن جملة هذه الثلة الطيبة نقرا في القائمة.
1 ـ عبد الله بن جعفر ، مع الانتباه الى علاقاته الديبلوماسية الظاهرية المُسبَقة مع الطاغية معاوية ، والاحترام الفائق الذي كان معاوية يُظهره له.
2 ـ محمد بن الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) المشهور بـ « ابن الحنفيّة ».
3 ـ السيدة أم سلمة ، زوجة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
4 ـ أمّ هاني ، أخت الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
5 ـ السيدة أم البنين ، قرينة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ووالدة أشباله الأربعة.
6 ـ السيدة المكرّمة ليلى ، قرينة الامام الحسين ( عليه السلام ) بناءً على القول بعدم وجودها في رحلة كربلاء.
7 ـ السيدة فاطمة بنت الإمام الحسين ( عليه السلام ) حيث كانت مريضة .. مرضاً يَصعُب معه السفر.
هذا .. وهناك احتمال بأنّ سبب عدم ذهاب عبد الله بن جعفر كان كِبَر السنّ ، ولكن قد يُضعّف هذا الاحتمال ما ثَبت ـ تاريخيّاً ـ من أن عمره ـ يومذاك ـ كان حوالي خمس وخمسين سنة ، ولا يُعتبر هذا المقدار من العمر كثيراً ، إلا إذا كانت الحياة مقرونة بعواصف نفسيّة أو جسميّة تُسرع الشيخوخة والهرم إلى الانسان.
وهناك إحتمال ثالث ذكره البعض : أن عبد الله بن جعفر كان قد فقد بصره قبل رحلة كربلاء ، وهذا الاحتمال يَصلح سبباً وجيهاً لعدم ذهابه ، لكن بشرط أن يَثبت تاريخياً. والله العالم بحقائق الأمور.خطبة السيدة زينب في الكوفة
تعتبر خطبة السيدة زينب ـ في الكوفة وفي مجلس يزيد في الشام ـ في ذروة الفصاحة ، وقمة البلاغة ، وآيةً في قوة البيان ، ومعجزة في قوة القلب والأعصاب ، وعدم الوهن والانكسار أمام طاغية بني أمية ومن كان يحيط به من الحرس المسلحين ، والجلاوزة والجلادين الذين كانوا على أهبة الإستعداد ينتظرون الأوامر كي ينفذوها بأسرع ما يمكن من الوقت.
وهنا سؤال قد يتبادر إلى الذهن وهو :
إن السيدة زينب كانت سيدة المحجبات المخدرات ، ولم يسبق لها أن خطبت في مجلس رجال أو معجم عام ، وليس من السهل عليها أن ترفع صوتها وتخطب في تلك الأجتماعات ، فلماذا قامت السيدة بإلقاء الخطب على مسامع الجماهير مع تواجد الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) ؟
ومع العلم أن الإمام زين العابدين كان أقوى وأقدر منها على فنون الخطابة ، وأولى من التحدث في جموع الرجال ؟
لعل الجواب هو : أن الضرورة أو الحكمة إقتضت أن يسكت الإمام زين العابدين طيلة هذه المسيرة كي لا يجلب إنتباه الناس إلى قدرته على الكلام ، وحتى يستطيع أن يصب جام غضبه كله على يزيد ، في الجامع الأموي ، بمرأى ومسمع من آلاف المصلين الذين حضروا يومذاك لأداء صلاة الجمعة خلف يزيد.
فلو كان الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) يخطب في أثناء هذه الرحلة .. في الكوفة وغيرها ، فلعله لم وين يكن يسمح له بالخطابة في أي مكان آخر ، فكانت تفوته الفرصة الثمينة القيمة ، وهي فرصة التحدث في تلك الجماهير المتجمهرة في الجامع الأموي ، علماً بأنه لم يبق من آل الرسول في تلك العائلة رجل سوى الإمام زين العابدين.
ولهذا السبب كانت السيدة زينب تتولى الخطابة في المواطن والأماكن التي تراها مناسبة.
وليس معنى ذلك أنها فتحت الطريق أمام النساء ليخطبن في جموع الرجال ، أو المجتمعات العامة كالأسواق والساحات وغيرها ، بل إن الضروري القصوى كانت وراء خطبتها عليها السلام.
هذا أولاً.
ثانياً : لقد كانت حياة الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) مهددة بالخطر طوال هذه الرحلة ـ وخاصة في الكوفة ـ فكم من مرة
حكموا على الإمام بالقتل والإعدام ، لولا أن دفع الله تعالى عنه شرهم ؟!
فما ظنك لو كان الإمام ( عليه السلام ) يخطب في شارع الكوفة أو في مجلس الدعي بن الدعي عبيد الله بن زياد ، والحال هذه ؟!
هل كان يسلم من القتل ؟
طبعاً : لا.
إنهم أرادوا أن يقتلوه وهو ـ بعد ـ لم يخطب شيئاً ، فكيف لو كان يخطب في الناس ويكشف لهم عن مساوئ بني أمية ومخازيهم ، ويبين لهم أبعاد ومضاعفات جريمة مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته ؟؟!
نص خطبة السيدة زينب في الكوفة
والآن .. نذكر نص الخطبة ، ثم نشرح بعض كلماتها :
قال بشير بن خزيم الأسدي (117) :
ونظرت إلى زينب بنت علي ( عليه السلام ) يومئذ فلم أر خفرةً ـ والله ـ أنطق منها (118) ، كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (119) ، وقد أومأت إلى الناس أن اسكتوا.
فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ، ثم قالت :
« الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار.
أما بعد :
يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر !!
أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة.
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم.
ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف ؟ والصدر الشنف ؟ وملق الإماء ؟ وغمز الأعداء ؟
أو كمرعى على دمنة ؟ أو كفضة على ملحودة ؟
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون ؟ وتنتحبون ؟
إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً.
فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً.
وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهلا الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ،
ومنار حجتكم ، ومدرة سنتكم ؟؟
ألا ساء ما تزرون ، وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
وَيلكم يا أهل الكوفة !
أتدرون أيّ كبدٍ لرسولا لله فَرَيتُم ؟!
وأيّ كريمةٍ له أبرزتم ؟!
وأي دم له سفكتم ؟!
وأيّ حرمةٍ له هتكتم ؟!
لقد جئتم بها صَلعاء عَنقاء سَوداء فَقماء ، خَرقاء شَوهاء ، كطِلاع الأرض وملء السماء.
أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وأنتم لا تُنصَرون.
فلا يَستَخفّنكم المُهَل ، فإنّه لا يَحفِزُه البِدار ، ولا يَخافُ فَوتَ الثار ، وإنّ ربّكم لبالمرصاد ». (120)
قال الراوي : « فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حَيارى
يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم. ورأيت شيخاًَ واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي !! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ». (121)
شرح خطبة السيدة زينب في الكوفة
قبل أن أبدأ بشرح بعض كلمات الخطبة أجلب إنتباه القارئ الذكي إلى بعض ما يرويه الراوي لهذه الخطبة ، وهو قوله :
« فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها »
يقال : خفرت الجارية : إذا استحت أشد الحياء ، فهي خفرة. ومن الطبيعي أن المرأة الخفرة يمنعها حياؤها من أن ترفع صوتها ، أو تخطب في مكان مزدحم ، فمن الواضح أنها إذا لم تمارس الخطابة لا تقوى على النطق والتكلم كما ينبغي ، ولكن راوي هذه الخطبة يقول : « فلم أر خفرة ـ والله ـ أنطق منها » أي : لم أر أقوى منها على التكلم ، وأقدر على الخطابة ، رغم كونها شديدة الحياء.
« كأنها تفرغ عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب »
إن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) هو إمام الخطباء والبلغاء والمتكلمين ، وقد كان له أسلوب خاص ، ومستوى رفيع في كلامه وخطبه ، يمتاز عن كلام غيره ، وفي أعلى قمة الفصاحة والبلاغة ، وجودة التعبير ، وعلو المستوى الأدبي والعلمي.
فمن ناحية : كان يسترسل في كلام .. دون أي توقف أو شرود ذهني ، وكان ينطق بالحروف .. دون أي تلكؤ في التلفظ ، فقد كان في غاية التمكن من الكلام والخطابة.
ومن ناحية أخرى : كانت الكلمات الأدبية الرفيعة منقادة له بشكل عجيب ، فهي تنبع من لسانه نبعاً طبيعياً .. دون أي تكلف أو تحضير مسبق ، وكان لصوته نبرة معينة.
وراوي هذه الخطبة كان ممن رأى الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) وسمع كلامه ، وها هو الآن .. يستمع إلى كلام السيدة زينب ( عليها السلام ) وبالمقارنة بين الكلامين يظهر له أن خطبة السيدة زينب صورة طبق الأصل لكلام أبيها ، من ناحية الأسلوب والبيان والمستوى وغير ذلك.

« وقد أومات إلى الناس أن اسكتوا ، فارتدت الأنفاس ، وسكنت الأجراس ».
في ذلك المجتمع المتدفق بالسيل البشري ، وفي ذلك الجو المملوء بالهتافات والأصوات المرتفعة من الناس ، وأصوات الأجراس المعلقة في أعناق الإبل.
في بلدة إنتشر في جميع طرقها الآلاف من الشرطة كي يخنقوا كل صوت يرتفع ضد السلطة ، ويراقبوا حركات الناس وسكناتهم بكل دقة ، ويقضوا على كل إنتفاضة متوقعة.
في هذه الظروف وصل موكب آل رسول الله إلى الكوفة ، محاطاً بالحرس ، عملاء بني أمية ، وشر طبقات البشر ، وأرجس جميع الأمم.
في تلك الأجواء والظروف أشارت السيدة زينب الكبرى ( عليها السلام ) إلى الناس أن اسكتوا. فتصرفت في الانسان والحيوان والجماد. إحتبست الانفاس في صدور الناس ، ووقفت الإبل وسكنت عن الحركة ، وسكنت الأجراس المعلقة فوق الإبل.
نعم ، بإشارة واحدة ، وبتلك الروح القوية ، والنفس المطمئنة استولت على الموقف.
فقالت :
« الحمد الله ، والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار »
افتتحت كلامها بحمد الله ، ثم الصلاة على أبيها ، رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وهذا منتهى البلاغة ، فإنها ـ بهذا الإفتتاح ـ عرّفت نفسها ـ لتلك الجماهير المتجمهرة ـ بأنها بنت رسول الله ، فالحفيدة تعتبر بنتاً ، كما إن الجد يعتبر أباً ، ولهذا قالت : الصلاة على أبي : محمد ( صلى الله عليه واله وسلم )
ومما يستفاد من هذا التعبير هو التأكيد على مسألة مهمة جداً وهي مسألة بنوّة أولاد السيدة فاطمة لرسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) كما هو صرح آية المباهلة في قوله تعالى « قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ... » (122)
وقد كان أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) يؤكدون على هذه النقطة ، كما أن أعداءهم النواصب كانوا يحاولون ـ دائماً ـ التشكيك والمناقشة فيها ، وقد ذكرنا كلمة موجزة حول هذه النقطة في كتابنا : فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من المهد إلى اللحد.
« أما بعد ، يا أهل الكوفة ! يا أهل الختل والغدر »
الختل : الغدر (123) ، وقال البعض : هو الخدعة عن غفلة (124). وفي نسخة : « والختر » : وهو شبه الغدر (125) ، لكنه أقبح أنواع الغدر (126).
لقد كانت لهذه الكلمات أشد الأثر في نفوس أهل الكوفة ، فإنها قد أوجدت فيهم اليقظة والوعي بصورة عجيبة ، حتى شعروا أن ضمائرهم بدأت تؤنبهم ، وان وجدانهم صار يوبخهم على جرائمهم الفجيعة وجناياتهم العظيمة.
فقد ذكرتهم كلمات السيدة زينب ( عليها السلام ) بماضيهم المخزي وتاريخهم الأسود ، حيث صدر منهم الغدر مرات عديدة ، فمنها :
1 ـ في يوم صفين عند تحكيم الحكمين ، غدر أهل الكوفة بالإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( عليه السلام )
الذي كان الحق يتجسد فيه بأكمل وجه ، وخذلوه بتلك الكيفية المؤلمة !
2 ـ وحينما قتل الإمام أمير المؤمنين تهافت أهل الكوفة على مبايعة إبنه الإمام الحسن المجتبى ( عليه السلام ). وعندما خرج معاوية لحرب الإمام الحسن ، خذله أهل الكوفة وقعدوا عن نصرته غدراً منهم ، فخلا الجو لمعاوية وفعل ما فعل ، وضرب الرقم القياسي في الجريمة واللؤم !
3 ـ وبعد موت معاوية أرسل أهل الكوفة إثني عشر ألف رسالة إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) أيام إقامته في مكة ، يطلبون منه التوجه إلى العراق لينقذهم من الإستعمار الأموي الغاشم. وضمنوا رسائلهم الأيمان المغلظة ، والعهود المؤكدة .. لنصرة الإمام والدفاع عنه بأموالهم وأنفسهم.
فبعث إليهم سفيره مسلم بن عقيل ، فبايعه الآلأاف من أهل الكوفة ، ثم تفرقوا عنه وغدروا به ، وفسحوا المجال للدعي بن الدعي : عبيد الله بن زياد أن يلقي القبض على مسلم بن عقيل ويقتله ، واجتمع أطفال الكوفة وشدوا حبلاً برجل مسلم ، وجعلوا يسحبون جثمانه الطاهر في أسواق الكوفة .. بمرأى من الناس !!!
4 ـ وحينما لبى الإمام الحسين ( عليه السلام ) رسائل أهل الكوفة وجاء إلى العراق ، ووصل إلى أرض كربلاء ، ومعه عائلته والصفوة الطيبة من رجال أهل بيته ، خرج أهل الكوفة ، وقتلوا جميع من كان مع الإمام ، وأخيراً .. قتلوا الإمام الحسين عطشاناً وبتلك الكيفية المقرحة للقلوب ، ثم أحرقوا خيام الإمام ، وأسروا عائلته ونساءه وأطفاله ، وقطعوا الرؤوس من الأبدان ورفعوها على رؤوس الرماح ، وجاءوا بها من كربلاء إلى الكوفة.
هذا هو الملف الأسود ، المليء بالغدر والخيانة.
فحينما نظرت السيدة زينب ( عليها السلام ) إلى دموع أهل الكوفة ، وسمعت أصوات بكائهم لم تنخدع بهذه المظاهر الجوفاء ، بل وجهت خطابها إلى جميع الحاضرين هناك ، ولعلها كانت تقصد بكلامها الذين إشتركوا في جريمة فاجعة كربلاء .. بشكل أو بآخر ، ولم تقصد كل من كان حاضراً وسامعاً لخطابها :
« أتبكون ؟! »
إعتبرت السيدة زينب ( عليها السلام ) بكاءهم ـ لدى المقايسة مع ما قاموا به من الجرائم ـ نوعاً من النفاق والتلون المشين ، فإن رجالهم الذين باشروا الجريمة ـ وهي مجزرة كربلاء الدامية ـ ونساءهم هن اللواتي قمن بتربية
أولئك الرجال .. على الغدر ، وهاهم يبكون !!
يبكون وهم يشاهدون تلك الرؤوس المقدسة على رؤوس الرماح ، ويشاهدون حفيدات الرسالة وبنات الإمامة على النياق .. بتلك الحالة المقرحة للقلوب !
من الطبيعي أن يبكي كل من يشاهد هذه المشاهد ، ولكن ..
ما هي فائدة هذا البكاء ؟!
ولماذا عدم القيام بتغيير أنفسهم ؟!
لماذا عدم بناء نفوسهم ونفسياتهم ؟!
لماذا عـدم الهجوم على مـن أصدر الأوامر وهـو الطاغية ابن زياد وحاشيته الفاسدة ؟!
إن الحاكم الطاغي لا يستطيع الظلم والتعدي إلا مع وجود الأرضية المساعدة والأجواء الملائمة للظلم والطغيان. والناس ـ بنفاقهم وخذلانهم لآل الرسول الكريم ـ هم الذين مهدوا للظالمين القيام بتلك الفاجعة المروعة !
وهذا درس لكل مجتمع يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويريد أن يعيش في ظل حكومة عادلة.
« فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ».
رقأت الدمعة : سكنت (127) أو إنقطعت بعد جريانها وجفت. الرنة : الصوت الحزين عند البكاء.
لما رأت السيدة زينب ( عليها السلام ) ذلك البكاء الذي كله نفاق .. دعت عليهم ، ومن ذلك القلب الملتهب بالمصائب والأحزان ، دعت أن تمر عليهم ظروف وأحوال تجعل بكاءهم متواصلاً ودموعهم مستمرةً في الجريان ، لا تهدأ ولا تنقطع ، ولا تهدأ رنتهم ، أي : بكاءهم المصحوب بالنحيب والعويل ، بعد أن قاموا بتلك الأعمال الإجرامية.
وهنا .. نقطة مهمة يجب أن لا نغفل عنها ، وهي :
رغم أن في أغلب المجتمعات يوجد الأخيار والأشرار ، والطيبون وغيرهم ، ومدينة الكوفة كانت كذلك إلا أن الطابع العام عليهم في ذلك اليوم كان هو التلون كل يوم بلون ، والغدر ، وقلة الإلتزام بالأسس الدينية.
من هنا .. فإذا جاءهم حاكم طاغ ، وعرف منهم هذه الطبائع والصفات المذمومة يسهل عليه التسلط عليهم واتخذاهم مساعدين وأعواناً له في تحقيق أهدافه الإجرامية
الفاسدة.
وهم ـ أيضاً ـ يتسارعون إلى التجاوب والتعاطف معه ، غير مبالين بنتائج ذلك.
وعلاج هذا المجتمع هو التكلم معهم بكل صراحة ، وبالكلام اللاذع ، فالملف الأسود لأهل الكوفة كان يقتضي أن تواجههم السيدة زينب ( عليها السلام ) بهذه الشدة وبأعلى درجات التوبيخ والشجب والمؤاخذة إزاء ما اقترفوه من جرائم متتالية ، كل واحدة منها تهتز منها الجبال.
نعم .. لم يكن ينفع معهم ـ يومذاك ـ إلا هذا الأسلوب من الكلام اللاذع ، فلم تعد النصائح والمواعظ تؤثر فيهم !
والسيدة زينب ـ بملاحظة أنها إمرأة (128) ، وأنها بنت الإمام أمير المؤمنين ـ كانت لها القدرة على التعنيف في الكلام مع الناس ، ولإمتلاكها القدرة العظيمة على البيان والخطابة ، فقد كانت مؤهلة للقيام بهذا الدور الكبير ، لإيقاظ بعض تلك الضمائر الميتة من سباتها
العميق.
ولا نعلم ـ بالضبط ـ كيفية إلقائها للخطبة من ناحية درجة الحماس والحرارة ، ولكننا نعلم أنها ورثت الخطابة من جدها رسول الله إمام الفصاحة ، ومن والدها : إمام نهج البلاغة !!
« إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ».
شبهت السيدة زينب أهل الكوفة بالمرأة التي نقضت غزلها ، وهذا التشبه مستقى من القرآن الكريم ـ ويا له من مستوى رفيع في البلاغة والأدب الراقي ـ وإليك بعض التوضيح :
قال الله تعالى ـ في القرآن الكريم ـ : « ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ». (129)
وقد جاء في كتب تفسير القرآن الكريم أن امرأةً حمقاء من قريش ، تسمى بـ « ريطة بنت عمرو بن كعب » (130) كانت تغزل ـ
مع جواريها ـ الصوف والشعر ـ من الصباح إلى نصف النهار ـ وتصنع بذلك خيوطاً جاهزة للنسيج ، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن طوال هذا الوقت ، ولا يزال دأبها ذلك. (131)
« من بعد قوة » أي : كانت تنكث غزلها من بعد إحكام وإتقان وإستحكام وفتل للغزل ، في المرة الأولى وكأنها تريد أن تصنع من ذلك الغزل أقمشة. فبعد النكث والنقض كان يفقد الصوف معظم قوته.
« انكاثاً » جمع نكث ، وهو الصوف والشعر ، يبرم ـ ويعمل منه الخيوط ـ ثم ينكث : أي : ينقض ويفل ليغزل مرةً ثانية.
وقد شبه الله تعالى ناقض العهد بتلك المرأة التي نقضت غزلها من بعد قوة وإتقان.
« تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم »
أيمان ـ جمع يمين ـ : وهو القسم والحلف.
الدخل : المكر والخيانة.
أي : كانوا يحلفون بالوفاء بالعهد ، ويضمرون في أنفسهم الخيانة. وكان الناس يطمئنون إلى عهدهم ..
لكن أولئك كانوا ينقضون العهد.
وبعد هذا التمهيد .. نقول : لقد شبهت السيدة زينب ( عليها السلام ) أهل الكوفة بتلك المرأة الحمقاء ، من ناحية عدم الوفاء بعهودهم ونقضهم لها. بسبب صفة الغدر المتجذرة في نفسياتهم اللئيمة ، البعيدة عن الإنسانية ، وعن التفكير في نتائج الأمور ومضاعفاتها.
« ألا وهل فيكم إلا الصلف النطف »
الصلف : صلف الرجل : تمدح بما ليس عنده ، إعجاباً بنفسه وتكبراً (132).
ويقال : أصلفت الرجل إذا أبغضته ومقته ، ويعبر عن البخيل ـ أيضاً ـ بهذه الكلمة. (133)
هذا ما ذكره علماء اللغة ، ولكن الذي يتبادر إلى الذهن ـ من كلمة الصلف ـ : هو الوقح ، ولا مانع من تفسير الكلمة بهذا المعنى .. فبكاؤهم بعد ارتكابهم تلك الجرائم يدل على شدة وقاحتهم وقلة حيائهم.
النطف : المتلطخ بالعيب. (134)
« والصدر الشنف »
الشنف : شدة البغض (135). والشنف : المبغض. (136) والمعنى : الصدر الذي يحتوي على شدة البغض والعداء لأهل البيت ( عليهم السلام ). « وملق الإماء »
الملق ـ بفتح اللام ـ الود واللُطف ، وأن تعطي باللسان ما ليس في القلب والفعل (137).
والمعنى : أنكم مجتمع للصفات الرذيلة ، ففيكم حالة التملق والتذلل لمن لا يستحق ذلك من الحكام الخونة أمثال : يزيد وابن زياد اللئيمين ، وحاشيتهما القذرة ، فكما أن الإماء ـ جمع أمة ـ : وهي العبدة. يتملقن إلى المالك لجلب مودته ، ويعطينه باللسان من الود
والمشاعر ما ليس في قلوبهن ، بل يفكرن في مصالحهن حتى لو استوجب ذلك لهن التذلل والتملق والخضوع لمن ليس أهلاً لذلك ، أنتم ـ يا أهل الكوفة ! كذلك تتملقون إلى حكامكم .. من منطلق المصالح ، لا الإخلاص والوفاء ! « وغمز الأعداء »
الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب (138) ولعل السيدة زينب ( عليها السلام ) تقصد من هذه الكلمة : أنكم يا أهل الكوفة انتم غمز الأعداء ، أي : إن الأعداء ( وهم : ابن زياد وحاشيته ) ينظرون إليكم من جانب عيونهم غمزاً .. ويتعاملون معكم بمنتهى التحقير والإذلال ، فلا كرامة لكم عندهم ، بل يريدونكم عبيداً وخدماً وجسوراً للوصول إلى أهدافهم .. من دون أن يكنوا إليكم أية محبة أو تقدير أو إحترام. فيعتبر هذا الكلام ـ من السيدة زينب ـ تنبيهاً لأهل الكوفة على مدى فقدان عزة النفس لديهم ، حيث جعلوا أنفسهم أدوات طيعة وذليلة بيد أفراد لؤماء ، وهم ناسين للكرامة التي أرادها الله تعالى للبشر.
إننا نرى ـ في زماننا هذا ـ أن الموظفين المتكبرين
لا يرفعون رؤوسهم ليستمعوا إلى ما يقوله المراجع لهم ، بل ينظرون إليه بجانب عيونهم تحقيراً وإذلالاً له !!
وهكذا كانت نظرة الحكام إلى أعوانهم والمتعاطفين معهم.
ثم ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) مثالاً آخر لبيان حقيقة أهل الكوفة والكشف عن واقعهم ، وأن ظاهرهم يختلف ـ تماماً ـ عن باطنهم ، وأن ما يقولونه بألسنتهم ، فشبهتهم بالأعشاب التي تنبت وتنمو في أماكن وسخة وغير صحية ، فقالت ( عليها السلام ) :
« أو كمرعى على دمنة »
المرعى : محل العشب الذي يسرح فيه القطيع.
الدمنة : المحل الذي تتراكم فيه أرواث الحيوانات وابوالها وتختلط مع التراب في مرابضهم ، فتتلبد وتتماسك الأوساخ المتكونة من الروث والبول والتراب ، ثم ـ بسبب الرطوبة الموجودة ـ ينبت هناك نبات أخضر ، جميل المنظر واللون ، ولكن الجذور نابتة في مكان وسخ مليء بالجراثيم والميكروبات ! (139)
كذلك أهل الكوفة كان لهم ظاهر حسن ، وكانت لهم حضارة عريقة ، لكن باطنهم وواقعهم كان قبيحاً ، يشتمل على الخبث والغدر ، والخيانة والكذب والنفاق ، والجرأة على الله تعالى ، وسحق القيم والمفاهيم ، وعدم التخلق بالفضائل ، والتي من أبرزها : الوفاء بالعهد ، وترجيح الدين على كل شيء.
هذا .. ونعود لنذكر ـ مرةً أخرى ـ أنه كان في الكوفة جمع غفير من المؤمنين الأخيار الطيبين ، لكن الأشرار ـ بتعاونهم مع الحكم الفاسد ـ كانوا قد شكلوا هذه الواجهة القبيحة ، وكونوا هذه السمعة السيئة لجميع أهل البلد !!
ثم ذكرت السيدة زينب ( عليها السلام ) مثالاً آخر فقالت :
« وكفضة على ملحودة »
اللحد : القبر. الملحودة : الجثة الموضوعة في القبر.
إذا وضعت علامة مصنوعة من الفضة على قبر رجل منحرف دينياً ، فسوف يكون ظاهر القبر جميلاً ، لكن الجثة التي في داخل القبر جيفةً متعفنة. كذلك أهل الكوفة كانوا أهل التمدن والحضارة والثقافة ، لكنهم في
الباطن كانوا بمنزلة الجيفة ، حيث تجمعت فيهم المساوئ الأخلاقية ، كنقض العهد والغدر والخيانة وغيرها ، فكونت لهم سوء الملف والسوابق المخزية.
وفي نسخة : « كقصة على ملحودة »
والقصة : هي : الجص : وهي البودرة والتراب المطبوخ الذي يخلط مع الماء فيصير طيناً ابيض اللون ، ويوضع ذلك الطين ما بين الطابوق ويكون سبباً لتماسك أجزاء البناء (140).
فما فائدة ذلك القبر الذي يجصص ـ ليكون جميل الظاهر ـ ، لكنه يتضمن جثماناً نتناً لرجل خبيث أو إمرأة منحرفة ؟!!
وقد يستفاد ـ من بعض كتب التاريخ ـ أن المتفرجين والمستمعين لخطاب السيدة زينب ( عليها السلام ) إنقسموا إلى ثلاث أقسام :
1 ـ قوات الشرطة التابعين لابن زياد.
2 ـ المحايدين.
3 ـ الأفراد الذين تفاعلوا مع كلمات خطبة السيدة زينب
( عليها السلام ) وتأثروا بكلامها ، وبدأوا يبكون !!
كيف لا .. وهم يسمعون صوتاً يشبه صوت الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من ابنته الشجاعة !
ولعلها كانت تخطب في ساحة كبيرة من ساحات مدينة الكوفة ، حيث كانت تستوعب أكبر قدر ممكن من الجماهير : المستمعين والمتفرجات ، الذين وقفوا على جانبي الطريق ، أو على سطوح دورهم ينظرون ويستمعون.
« ألا : ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون »
هذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى : « ترى كثيراً منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ». (141)
والمعنى : بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة ، أن سخط الله اليهم. والمعنى ـ هنا ـ يا أهل الكوفة : إن أعمالكم قد أوجبت عليكم غضب الله وسخطه ، والبقاء الدائم في نار جهنم.
« أتبكون وتنتحبون » ؟!
الإنتحاب : رفع الصوت بالبكاء الشديد.
« إي والله ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً »
إشارة إلى قوله تعالى : « فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً » (142) ، والمعنى : فليضحك هؤلاء المنافقون قليلاً ، لأن الضحك ـ حتى لو إستمر ـ فإنه ينتهي بفناء الدنيا ، وهو قليل لدى المقايسة مع بكائهم الدائم في يوم القيامة ، لأن ذلك : « يوم كان مقداره خمسين ألف سنة » (143) وهم يبكون فيه كثيراً .. وباستمرار.
وهذا تهديد وإنذار من السيدة زينب لأهل الكوفة ، وليس أمراً لهم بالضحك ، بل أمر بالتقليل من الضحك ، ـ وتهديد ضمني ـ أن لا مبرر لضحك وفرح يتعقبه بكاء طويل وعذاب مستمر.
« فلقد ذهبتم بعارها وشنارها »
يقال : ذهب بها : أي إستصحبها. والعار : كل شيء
يلزم منه عيب (144) أو كل ما يعير به الإنسان من قول أو فعل ، أو يلزم منه عيب أو سب. (145)
والشنار : العيب والعار (146) والأمر المشهور بالشنعة. (147)
« ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً »
ترحضوها : تغسلوها.
غسل : ما يغسل به ، كالماء والمواد المنظفة المزيلة للأوساخ.
قد يقوم الإنسان بجريمة صغيرة يستطيع محاصرة مضاعفاتها ، وقد تكون الجريمة كبيرة جداً تأبى أن يحاصر أحد مضاعفاتها وآثارها ، أو ينسب الغفلة أو السهو والإشتباه إلى مباشر تلك الجريمة ، ويجعل الإعتذار سبباً وطريقاً للعفو عن ذلك المجرم وإغلاق ملفه. فالمعنى : لا يمكن لكم التخلص من مضاعفات هذه الجناية العظمى ، فقد تعلقت الجريمة بأعناقكم ، وسجلت
في التاريخ .. بحيث لا يمكن تغطيتها أو إنكارها !! أو ذكر توجيهات واهية وسخيفة لهذا الجرم العظيم والذنب الجسيم !
« وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ؟ »
رحض : رحض الثوب : غسله.
أي : كيف تغسلون عن أنفسكم ، وتمحون وتمسحون عن ملفكم هذه الفاجعة العظيمة ، وهي قتل ولد رسول الله خاتم الأنبياء ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟!
وبعبارة أخرى :
كيف وبأي وجه يمكن لكم أن تبرروا قتل سليل خاتم النبوة ؟! والسليل : هو الولد.
كيف يمكن لكم غسل هذا الذنب العظيم عن أنفسكم ؟!
وهل هناك مجال للإعتذار في ارتكاب جريمة بهذا الحجم ومع تلكم الكيفية والملحقات ؟؟!!
« ومعدن الرسالة ؟ وسيد شباب أهل الجنة ؟ »
إن الإمامة : هي إمتداد للرسالة ، وكما أن الرسول يختاره الله تعالى .. لا الناس ، كذلك الإمام والخليفة ..
يختاره الله تعالى أيضاً .. وليس الناس
والإمام الحسين ( عليه السلام ) هو الخليفة الشرعي الثالث لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في أمته.
فلم يكن الإمام الحسين ( عليه السلام ) رجلاً مجهولاً خامل الذكر ، غير معروف عند الناس ، بل كان مشهوراً عند جميع المسلمين بكل ما للعظمة والجلالة والقداسة من معان ، وأحاديث رسول الله في مدحه والثناء عليه .. كانت محفوظة في ذاكرة الجميع ، وآيات القرآن الكريم كانت تمجده بما هو أهل لذلك ، فـ « آية التطهير » تشهد له بالعصمة والطهارة عن كل رجس ، وآية « إطعام الطعام » تنبئ عن نفسيته التي بلغت القمة في الإخلاص وحب الخير للآخرين ، و « آية القربى » جعلت إظهار المحبة ومشاعر الود له أجراً لبعض أتعاب الرسول الكريم ، و « آية المباهلة » اعلنت أنه الإبن المميز للرسول الأقدس ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنه واحد من « أهل البيت » الذين بدعائهم يغير الله تعالى الموازين الكونية.
وأحاديث النبي العظيم حول مكانته ومنزلة أخيه الإمام الحسن .. كانت أشهر من الشمس في رائعة النهار ، كقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة » ، « الحسن والحسين إمامان .. إن
قاما وإن قعدا » « حسين مني وأنا من حسين ، أحب الله من أحب حسيناً » (148).
وكانت هذه الأحاديث وأمثالها قد ملأت آذان صحابة الرسول وتابعيهم .. المنتشرين في كل البلاد .. وخاصة الكوفة.
فجريمة قتل الإمام الحسين لا يمكن أن تقاس بجريمة قتل غيره من الأبرياء ، لأن المقتول ـ هنا ـ عظيم فوق كل ما يتصور ، فيكون حجم جريمة قتله أكبر وأعظم من جريمة قتل أي بريء ، فلا يمكن لأهل الكوفة أن يغسلوا عن أنفسهم هذه الجريمة الكبرى.
ثم استمرت السيدة زينب بذكر سلسلة من جوانب العظمة المتجمعة في أخيها سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) لتبين ـ للناس ـ حجم الخسارة الفادحة ، ومضاعفات هذا الفراغ الذي حصل في كيان الأمة الإسلامية ، وهو قتل الإمام المنتخب من عند الله تعالى لهداية البشر ، فقالت ( عليها السلام ) :
« وملاذ خيرتكم »
الملاذ : الملجأ ، والحصن الآمن الذي يحتمى به
ويلجأ إليه في الشدائد.
خيرتكم : المؤمنين الأبرار ، المتفوقين في درجة إيمانهم بالله تعالى ، وفي جوانبهم الأخلاقية والإيمانية ، كالتقوى ، والعقيدة الراسخة ، وحماية وحراسة الدين ، تقديم الدين على كل مصلحة .. مادية كانت أو غيرها !!
« ومفزغ نازلتكم »
المفزع : من يفزع إليه ، ويلتجأ إليه.
النازلة : الشديدة من شدائد الدهر .. تنزل بالقوم (149) وقيل : النازلة : هي المصيبة الشديدة. (150)
« ومنار حجتكم »
المنار : محل إشعاع النور. والحجة : الدليل والبرهان للإستدلال على حقيقة شيء.
المنار : محل على سطح الدار ، كان الإنسان الكريم يشعل النار فيه ليلاً ليعلن للناس أن هنا محلاً للضيافة ، فيستدل بنور تلك النار التائهون عن الطريق ، أو المسافرون الذين وصلوا إلى البلد لتوهم ، وهم يبحثون عن مأوى
يلجأون إليه حتى يحين الصباح.
وتطلق هذه الكلمة ـ حالياً ـ على الأضواء الكشافة القوية في درجة الإضاءة التي توضع على أبراج المراقبة في مطارات العالم ، لإرشاد الطائرات إلى محل المطار ، وخاصةً في الليالي التي يخيم الضباب على سماء المدينة.
لقد جعل الله تعالى الإمام الحسين ( عليه السلام ) مصباح الهدى ، ينير الدرب لكل تائه أو متحير ، ولكن الناس تجمعوا عليه وكسروا المصباح ، وهم غير مبالين بما ينتج عن ذلك من مضاعفات ، ففي الظلام تقع حوادث السرقة والسطو على المنازل والبيوت ، وجرائم الإغتصاب والقتل ، والضياع عن الطريق ، والسقوط في الحفائر ، وغير ذلك.
أما مع وجود المصباح فلا تحدث هذه الجرائم والمآسي.
ولم يكن الإمام الحسين مناراً مادياً فقط .. بل كان مناراً لمن يبحث عن الحقيقة ، ويسأل عن الدين ، ويريد الحصول على رد الشبهات ، وما يتبادر إلى بعض الأذهان من تشكيكات. ولذلك فقد عبرت السيدة زينب عن الإمام الحسين بـ « منار حجتكم ».
« ومدرة سنتكم »
السنة : العام القحط (151) ، وقيل : السنة المجدبة (152) وقيل : غلب إطلاق كلمة « السنة » على القحط ، مثل ما غلب إطلاق كلمة « الدابة » على الفرس (153).
هذا هو معنى السنة.
ولم أعثر ـ في المعاني التي ذكرت في كتب اللغة معنى لكلمة « مدرة » ـ يتناسب مع كلمة « سنتكم » ، ويحتمل أن يكون تصحيفاً لكلمة « ومدد » أي : من يزودكم بالمؤن المادية في سنوات القحط والجدب ، ويخلصكم من المجاعة والموت. أو يزودكم بالأدلة المعنوية حينما تحتارون في قضاياكم الدينية ، ومشاكلكم العائلية ، وتتلاعب بأفكاركم التشكيكات والأفكار المنحرفة أو المستحدثة ، فتعيشون في ضياع .. لا تفرقون بين السنة والبدعة ، وبين القول الحق والأقوال الباطلة المصبوغة بصبغة الدين !
ثم زادت السيدة زينب ( عليها السلام ) من درجة توبيخ
الناس ، محاولة منها لإيقاظ تلك الضمائر ، ولتعلن لهم أنهم سوف لا يصلون إلى أي هدف تحركوا من أجله فقاموا بهذه الجريمة النكراء. فقالت :
« ألا ساء ما تزرون »
أي : بئس ما حملتم على ظهوركم من الذنوب والجرائم ، فهي من نوع لا يبقي أي مجال لشمول غفران الله وعفوه .. لكم.
« وبعداً لكم وسحقاً »
بعداً : أي : أبعدكم الله تعالى .. بعداً عن رحمته وغفرانه.
سحقاً : هلاكاً وبعداً ، يقال : سحق سحقاً : أي : بعد أشد البعد. (154)
« فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي »
خاب : لم ينل ما طلب ، أو إنقطع رجاؤه. (155)
تبت الأيدي ، التب : الخسران والهلاك (156) وقيل : القطع والبتر.
« وخسرت الصفقة »
الصفقة : معاملة البيع أو أية معاملة أخرى. والمعنى أنكم ـ يا أهل الكوفة ـ خسرتم المعاملة ، معاملة بيع الدين والآخرة في قبال الدنيا ، فمن الجنون أن يبيع الإنسان ذلك في قبال عذاب مستمر مزيج بالإهانة والتحقير ، وبثمن قتل إبن رسول الله ، كل ذلك وهو يدعي أنه مسلم !!
ولعل المعنى : أنكم بعتم الحياة في ظل حكومة الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالحياة في ظل سلطة يزيد ، وذهبتم إلى حرب الإمام الحسين لتحافظوا على كرسي يزيد من الإهتزاز ، ولكن معاملتكم هذه .. خاسرة ، فسوف لا تتهنؤون في ظل حكومته ، فلا كرامة ولا أمان ولا مستقبل زاهر !!
إن الدين والإنضواء تحت لواء من اختاره الله تعالى هو الذي يوفر للإنسان الحياة السعيدة والعزة والكرامة.
أما الإعراض عن ذلك فسوف يجر الويلات لكم ،
فتتوالى عليكم حكومات جائرة ، فتعيشون حياةً ممزوجة بالتعاسة والذل ، الشامل لجميع جوانب حياتكم الدينية والاقتصادية والسياسية والأمنية وغيرها.
وهنا أدمجت السيدة زينب ( عليها السلام ) كلامها بالقرآن الكريم واستلهمت منه ذلك فقالت :
« وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة »
قال تعالى : « وضـربت عليهم الذلـة والمسكنـة ، وبـاؤا بغضـب مـن الله ... ». (157)
« وبؤتم بغضب من الله » أي رجعتم وقد احتملتم معكم غضباً من الله تعالى ، وسوف يسبب لكم هذا الغضب العقاب الأليم والبعد عن رحمة الله وغفرانه ، بكل تأكيد.
وإن الجريمة .. مهما كان حجمها أكبر فسوف يكون غضب الله أشد ، وبالتالي يكون العذاب أكثر إيلاماً وأشد إهانةً وتحقيراً ، ويكون بعد المجرم عن عفو الله وغفرانه أكثر مسافة !
« وضربت عليكم الذلة والمسكنة »
ضربت : أي كتبت : فلقد كتب الله تعالى لكم الذل ، وقدر لكم المسكنة ، بسبب كفرانكم بنعمة وجود الإمام الحسين ( عليه السلام ) والغدر به.
الذلة والذل : يعني الهوان ، وهو العذاب النفسي المستمر ، بسبب الشعور بالحقارة والنقص والخوف من إعتداء الآخرين !
المسكنة : الفقر الشديد والبؤس والتعاسة.
ثم بدأت السيدة زينب ( عليها السلام ) بوضع النقاط على الحروف ، وذلك بالتحدث عن الأبعاد الأخرى لحجم هذه الجريمة ـ أو الجرائم ـ النكراء فقالت :
« ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ».
الكبد : كناية عن الولد ، وقد روي عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنه قال : « أولادنا أكبادنا ... ». (158)
فريتم : الفري : تقطيع اللحم.
لقد شبهت السيدة زينب الإمام الحسين بكبد رسول الله ،
وشبهت جريمة قتل الإمام بقطع كبد الرسول الكريم ، وكم يحمل هذا التشبيه في طياته من معان بلاغية ، وحقائق روحانية ، إذ من الثابت أن مكانة الكبد في الجسم لها غاية الأهمية.
فكم يبلغ الإنحراف بمن يدعي أنه مسلم أن يقتل إماماً هو بمنزلة الكبد من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
« وأي كريمة له أبرزتم » ؟
كريمة الرجل : إبنته ، فالسيدة زينب ( عليها السلام ) بنت السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهي ـ إذن ـ حفيدة الرسول الكريم ، والحفيدة تعتبر بنتاً للرجل ، وقد كان النبي الكريم يعبر عن السيدة زينب ـ منذ الأيام الأولى من ولادتها ـ بكلمة « بنتي ».
وكانت هذه البنت المكرمة المحترمة تعيش في دارها خلف ستار الحجاب والعفاف وتحافظ على حجابها اكثر من محافظتها على حياتها ، ولكن أهل الكوفة هجموا على خدرها وخيامها ، وسلبوا حجابها ، ثم أسروها وأبرزوها إلى الملأ العام ! وكانت هذه المصيبة أشد من جميع المصائب وقعاً على قلبها .. بعد مصيبة مقتل أخيها الإمام السحين ( عليه السلام ).
أيها القارئ الكريم .. توقف قليلاً لتفكر وتعرف عظم الفاجعة : إذا كان سلب الحجاب عن إمرأة مؤمنة عفيفة عادية أصعب عليها من ضربها بالسكاكين على جسمها .. فما بالك بسلب الحجاب عن سيدة المحجبات وفخر المخدرات : زينب الكبرى عليها السلام ؟!
فهذه الجريمة ـ لوحدها ـ تعتبر من أعظم الجرائم التي ارتكبها أهل الكوفة تجاه بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) !!
فكل ضمير حر لا يمكن له أن ينسى هذه الجريمة !!
ولم تقتصر هذه المصيبة على السيدة زينب ( عليها السلام ) بل شملت أخواتها الطاهرات من آل رسول الله ، والنسوة اللواتي كن معها في قيد الأسر.
« وأي دم له سفكتم »
أتعلمون ـ يا أهل الكوفة ـ أي دم لرسول الله سفكتم !!
لقد اعتبرت السيدة زينب ( عليها السلام ) الدم الذي سفك من الإمام الحسين ـ يوم عاشوراء ـ هو دم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ من الثابت أن الدم الذي كان يجري في عروق الإمام الحسين ( عليه السلام ) لم يكن كدماء سائر الناس ، لأن الإمام الحسين لم يكن رجلاً عادياً كبقية البشر ،
فكل قطرة من دمه الطاهر كان جزءاً من دم رسول الله ، فالإمام الحسين : هو من « أهل البيت » ، وأهل البيت : كتلة واحدة ، وقد صرح النبي الكريم بهذا المعنى يوم قال : « اللهم : إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي ، لحمهم لحمي ودمهم دمي ، يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم ، انا سلم لمن سالمهم ، وحرب لمن حاربهم ... إنهم مني وأنا منهم ... » (160)
فالذين أراقوا دم الإمام الحسين هم ـ في الواقع ـ قد أ راقوا دم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهم يدعون أنهم مسلمون !!
« وأي حرمة له هتكتم »
حرمة الرجل : ما لا يحل إنتهاكه ، وحرم الرجل أهله. (160)
وهتك الحرمة : يعني إهانة كرامة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في قتل إبنه الحسين وسبي كريماته وبناته ، والهجوم عليهن في خيامهن .. بكل وحشية !
وأي إهانة أكبر من هذه الإهانة ؟!
لقد كانت المرأة تمتاز في الإسلام بصيانة معينة ، وكان كل من يهينها يستحق الذم واللوم من الجميع ، ولكن أهل الكوفة ـ وبأمر من يزيد الطاغية وابن زياد اللعين ـ قاموا بأبشع أنواع الجرائم في مجال إهانة رسول الله وإهدار كرامته !!
ولذلك نقرأ في كتاب واحد من أبرز علماء أهل السنة هذا الكلام : « إذا دافعنا عن يزيد ، واعتذرنا له في قتله الإمام الحسين بأنه كان يرى منه منافساً له في الخلافة ، فبماذا وكيف نعتذر له في سبيه لبنات رسول الله وأسرهن بتلك الكيفية المؤلمة ، ثم الإنتقال بهن من بلد إلى بلد ؟ ».
ثم استمرت السيدة زينب ( عليها السلام ) تصف فاجعة كربلاء الدامية وملحقاتها من سبي النساء الطاهرات .. بهذه الأوصاف المتتالية :
« أي بهذه الجريمة التي لا مثيل لها في »
تاريخ البشر
« صلعاء » : وهي الداهية الشديدة (161) ، أو الأمر الشيدد. ولعل المراد : الجريمة المكشوفة التي لا يمكن تغطيتها بشيء.
« عنقاء » : الداهية (162) وقيل : عنق كل شيء بدايته. (163)
فلعل المعنى أن هذه الجريمة سوف تكون بداية لسلسلة من الأزمات والويلات لكم ، فلا تتوقعوا خيراً بعد عملكم الشنيع هذا.
« شوهاء » قبيحة (164) وفي نسخة : سوداء.
: العظيمة (165) أو الشديدة (166) هذا بعض ما ذكره اللغويون ، ولعل معنى « فقماء » أي معقدة بشكل لا يمكن
معرفة طريق إلى حلها أو التخلص من مضاعفاتها. (167)
« خرقاء ، كطلاع الارض » أي ملؤها. (168)
« وملء السماء » لعل المعنى أن حجم هذه الجريمة أكبر من أن تشبه أو توصف بمساحة أو حجم معين ، بل هي بحجم الأرض كلها ، والسماء والفضاء كليهما. أي : أن حجمها أكبر من أن يتصور.
فإن قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وفقدان الأمة إياه يعني :
أولاً : إبتلاء كل حر في العالم ـ في جميع الأجيال القادمة ـ بالحزن والأسى حينما يقرأ تفاصيل فاجعة كربلاء ، فحتى لو لم يكن مسلماً يشعر بالحزن وتتسابق دموع عينيه بالهطول ، ويشعر بالإنزعاج والتذمر من الذين ارتكبوا هذه الجريمة النكراء.
ثانياً : لقد حرم البشر .. ـ بمختلف دياناتهم وطبقاتهم
وأعمارهم وأجيالهم وبالادهم ـ من بركات وجود الإمام الحسين ( عليه السلام ) والتي كانت تبقي آثاراً إيجابية مستمرةً ودائمةً إلى آخر عمر الدنيا !
ثالثاً : إن هذه الجريمة ـ بحجمها الواسع ـ فتحت الطريق أمام كل من يحمل نفساً خبيثة في أن يقوم بكل ما تسول له نفسه وتمليه عليه نفسيته في مجال الظلم والإعتداء على الآخرين ، وعدم التوقف عند أي حد من الحدود في مجال الطغيان وسحق كرامة الآخرين.
وقد صرح الإمام الحسين ( عليه السلام ) بهذا المعنى ـ حينما كان يقاتل أهل الكوفة بنفسه ـ فقال : « ... أما إنكم لن تقتلوا بعدي عبداً من عباد الله فتهابوا قتله ، بل يهون عليكم عند قتلكم إياي ... ». (169)
« أفعجبتم أن مطرت السماء دما »
إن المصادر والوثائق التاريخية التي تصرح بأن السماء أمطرت دماً بعد قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) كثيرةً جداً.
وكان ذلك المطر أحمر يشبه الدم في لونه وغلظته .. وهذه الحقيقة الكونية مذكورة في كتب الشيعة
1 ـ ذكر الحافظ محب الدين الطبري الشافعي ـ المتوفى سنة 694 هـ ـ في كتابه : ذخائر العقبى ، طبع مصر ، عام 1356 هـ ، صفحة 145 قال : « وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب « دلائل النبوة » عن نضرة الأزدية أنها قالت : لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دماً ، فأصبحنا وجبابنا ( أي : آبارنا ) وجرارنا ( جمع : جرة ) مملوءةً دماً ».
وعن مروان مولى هند بنت المهلب ، قال : حدثني بواب عبيد الله بن زياد أنه لما جيء برأس الحسين بين يديه رأيت حيطان دار الإمارة تسايل دماً. خرجه ابن بنت منيع. وعن جعفر بن سليمان قال : « حدثني خالتي أم سالم : قالت : لما قتل الحسين مطرنا مطراً كالدم على البيوت والجدر. قالت : وبلغني أنه كان بخراسان والشام والكوفة. خرجه ابن بنت منيع. وعن أم سلمة قالت : « لما قتل الحسين مطرناً دماً ». وعن ابن شهاب قال : « لما قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ لم يرفع أو لم يقلع حجر بالشام إلا عن دم » خرجهما ابن السري.
2 ـ ذكر العلامة الشيخ المحمودي في كتابه : عبرات المصطفين في مقتل الحسين عليه السلام ، طبع إيارن عام 1417 هـ ، ص 169 : « ذكر أبو بكر محمد بن أبي بكر التلمساني ـ المتوفى بعد عام 644 هـ في ترجمة الإمام الحسين ، في كتاب الجوهرة ج 2 ص 218 ، طبع الرياض ،
قال : روى البخاري ـ في ترجمة سليم القاص تحت الرقم 2202 من القسم الثاني من المجلد الثاني من التاريخ الكبير ، ج 4 ص 129 قال : وعن سليم القاص : مطرنا يوم قتل الحسين دماً ».
3 ـ وروى ذلك ابن حجر الهيثمي في كتابه : الصواعق.
4 ـ وروى ذلك القندوزي الحنفي في كتابه : ينابيع المودة ج 2 ص 320.
5 ـ وروى ذلك : سبط ابن الجوزي في كتاب ( مرآة الزمان ) ص 102.
6 ـ وروى البلاذري في الحديث 52 في كتابه ( أنساب الأشراف ) طبع بيروت ج 3 ص 209 قال : حدثني عمر بن شبة ، عن موسى بن اسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سليم القاص قال : مطرنا أيام قتل الحسين دماً.
7 ـ وروى الشيخ المحمودي ـ أيضاً ـ عن ابن العديم ، عن هلال بن ذكوان قال : لما قتل الحسين مطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا مثل الدم.
وعن قرط بن عبد الله قال : مطرت ذات يوم بنصف نهار فأصاب ثوبي فإذا دم ، فذهبت الإبل إلى الوادي فإذا دم فلم تشرب ، وإذا هو يوم قتل الحسين.
8 ـ وذكر القرطبي ـ المتوفى سنة 671 هـ ، في تفسيره المسمى بـ « الجامع لأحكام القرآن » ج 16 ص 141 ، طبع بيروت عام 1405 هـ : « ... قال سليمان القاضي : مطرنا دماً يوم قتل الحسين ».
وكان هذا المطر الأحمر كإعلان سماوي ـ على مستوى الكون ـ لفظاعة حادث قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) واستنكاراً لهذه الجريمة النكراء ، ولكن .. « ما أكثر العبر وأقل الإعتبار ».
وقد بقيت آثار تلك الدماء من ذلك المطر على جدران مدينة الكوفة وحيطانها وعلى ثياب أهلها مدة تقرب من سنة كاملة.
لقد كان ذلك المطر تنديداً بفظاعة الجريمة ، وإنذاراً للعاقبة السيئة لأهل الكوفة في يوم القيامة.
« ولعذاب الآخرة أخزى »
أي : إن العقاب الصارم لقتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) سوف لا يقتصر ولا ينحصر بالعذاب الدنيوي ، والصفعات الدنيوية المتتالية ، بل إن العذاب الإلهي ينتظرهم في الآخرة.
إن الدنيا سوف تنتهي ويخرج كل إنسان من قاعة
9 ـ وروى ذلك الحافظ إبن عساكر الشافعي ـ المتوفى عام 571 هـ ـ في كتابه : تاريخ مدينة دمشق قال : حدثتنا أم شرف العبدية ، قالت : حدثتني نضرة الأزدية قالت : لما قتل الحسين بن علي مطرت السماء دماً ، فأصبحت كل شيء لنا ملآن دماً.      « المحقق »
الإمتحان ، وعندها يكون المجرمون في قبضة محكمة العدالة الإلهية ، فمن يخلصهم ـ في ذلك اليوم ـ من رسول الله جد الحسين ؟!
« وأنتم لا تنصرون »
أي : لا تجدون من ينصركم يوم القيامة ، ومن ينجيكم من العذاب الأليم ، لأن طرف النزاع : هو الإمام المظلوم البريئ المقتول : الإمام الحسين ( عليه السلام ) ذاك الرجل العظيم الذي زين الله تعالى العرش الأعلى باسمه « إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة » ومن الواضح أنه سوف لا يتنازل عن حقه .. مهما كانت نفسيته المقدسة عالية وفوق كل تصور. لأن المجرمين ضربوا أرقاماً قياسية في اللؤم والخبث والغدر والجناية !
والمخاصم لأهل الكوفة : هو أشرف الخلق وأعز البشر عند الله تعالى : وهو سيدنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو أيضاً لا يتنازل عن دم إبنه الحبيب العزيز ، وعن سبي بناته الطاهرات !
والمحامي : هو جبرئيل سيد أهل السماء ، حيث يقف ظهراً لرسول الله في قضية ملف مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ).
ونوعية الجريمة وحجمها ومضاعفاتها .. تأبى شمول الغفران والعفو الإلهي لها ، لعدم وجود الفوضى في أجهزة القضاء الإلهية ، فاللازم إعطاء كل ذي حق حقه.
هذا أولاً ..
وثانياً : إن من آثار هذه الجريمة النكراء : هو أنها تمنع المجرم من التوفيق للتوبة والإنابة إلى الله ، كما صرح بذلك الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام.
ويجب علينا أن لا ننسى أن كبار قواد جيش الكوفة .. كانوا من الذين قد كتبوا إلى الإمام الحسين بأن يأتي إليهم في الكوفة ، ووعدوه بالنصر .. حتى لو آل الأمر إلى القتل والقتال ، وإلى التضحية ببذل دمائهم وأرواحهم ، وختموا رسائلهم بتوقيعاتهم وأسمائهم الصريحة.
إلى درجة أن البعض منهم أعطى لنفسه الجرأة في أن يكتب إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) هذه الكلمات : « إن لم تأتنا فسوف نخاصمك غداً ـ يوم القيامة ـ عند جدك رسول الله » !!
فهم ـ إذن ـ كانوا يعرفون الإمام الحسين ، « وليس من يعرف كمن لا يعرف » والأحاديث الشريفة تقول : « إن الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً .. قبل أن يغفر للعالم ذنباً واحداً ».
« فلا يستخفنكم المهل »
المهل ـ بضم الميم ـ جمع المهلة : وهي بمعنى الإنظار والإمهال وعدم العجلة. (171)
أي : لا يصير الإمهال والتأخير في الإنتقام سبباً لخفة نفوسكم وانتعاشها من الطرب والفرح ، وبذلك تأخذكم سكرة الإنتصار والظفر. فالإنتصار الذي يتعقبه العذاب الأليم ـ مع فاصل زمني قصير ـ لا يعتبر إنتصاراً حقيقياً ، بل هو سراب مؤقت ، لا يعترف به العقلاء ، فـ « لا خير في لذة وراءها النار » !
إن الإمهال ليس دليلاً على الإهمال ، فإن الله تعالى قد يمهل ، ولكنه ( سبحانه ) لا يهمل.
وبناءً على هذا .. فلا يكون الإمهال سبباً لتصور خاطئ منكم بأن علة تأخير العقاب هي أن الجريمة قد تم التغاضي والتغافل عنها ، ولسوف تنسى بمرور الأيام ، لأنها شيء حدث وانتهى .. بلا مضاعفات لاحقة ، أو أن الإنتقام غير وارد حيث أن الأمور قد فلتت من اليد.
كلا..ليس الأمر كذلك ، بل شاء الله تعالى أن يجعل الدنيا دار إمتحان لجميع الناس : الأخيار والأشرار ، وقرر أن يدفع كل من يخالف أوامر الله ضريبة مخالفته .. إن عاجلاً أو آجلاً.
فعدم تعجيل العقوبة لا يعني أن الأمور منفلتة من يد الله الغالب القاهر العلي القيدر ، فهو المهمين على العالم كله. لكنه قد يؤخر الجزاء لأسرار وحكم يعلمها سبحانه ، فهو لا يعجل العذاب للعاصين ـ أحياناً أو غالباً ـ ولكنه بالمرصاد ، فكما أن الجندي الذي يجلس وراء المتراس يراقب ساحة الحرب ، وينتظر الوقت المناسب للهجوم أو لإطلاق القذيفة ، كذلك العذاب الإلهي ينزل في التوقيت المناسب .. مع ملاحظة سائر أسرار الكون. ولا مناقشة في الأمثال.
قال تعالى : « ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ». (172)
وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) أنه قال : « ولئن أمهل الله الظالم فلن يفوت أخذه ، وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه وبموضع الشاجا من مساغ ريقه ». (173)
« فإنه لا يحفزه البدار »
« يحفزه » يقال : تحفز في مشيه : أي جد وأسرع (174) فهو محتفز : أي : مستعجل (175) والحفز : الإعدال في الأمر للبطش وغيره.
« البدار » يقال : بدر إلى الشيء مبادرةً وبداراً : أسرع (176) وبدر فلاناً بالشيء : عاجله به. (177)
تقول السيدة زينب ( عليها السلام ) : إعلموا ـ يا أهل الكوفة ـ : أن عدم نزول العذاب الإلهي عليكم .. ليس سببه الإهمال ، فإن الله تعالى لا تدفعه العجلة إلى إنزال العذاب ، لأن الحكمة الإلهية تجعل إطاراً للمقدرات الكونية ، ومنها : إختيار التوقيت المناسب لنزول العذاب ، وإختيار نوعيته.
هذا أولاً ..
وثانياً .. لقد جاء في الحديث الشريف أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سأل ربه أن لا يعاجل أمته
بالعذاب في الدنيا ، واستجاب الله تعالى لرسوله ذلك ، فجعل من القوانين الكونية عدم نزول العذاب الغيبي على الأمة الإسلامية ـ في الدنيا ـ كرامةً واحتراماً لرسول الله ، وهذه الكرامة لم تكن لغير نبي الإسلام ، من الأمم السالفة ، والأنبياء السابقين في الزمن.
فمعنى قول السيدة زينب ( عليها السلام ) : « فإنه لا يحفزه البدار » أي : لا يحث الله ـ سبحانه ـ شيء على تعجيل العقوبة والإنتقام ، لوجود أسباب وأسرار كونية ، ولعدم خوف إنفلات المجرم من قبضة العدالة الإلهية. ونقرأ في الدعاء : « ولا يمكن الفرار من حكومتك ».
« ولا يخاف فوت الثار ، وإن ربك لبالمرصاد »
فسوف يأتي الإمام المهدي المنتظر ( عجل الله ظهوروه ) وينتقم من قتلة الإمام الحسين .. في الدنيا ، أما في الآخرة .. فستكون أول دفعة ـ من البشر ـ يؤمر بهم إلى نار جهنم : هم قتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ).
المرصاد : المكمن ، وهو المكان الذي يختفى فيه عن أعين الأعداء ، بانتظار التوقيت المناسب للهجوم أو الدفاع
قال الراوي :
« فوالله لقد رأيت الناس ـ يومئذ ـ حيارى يبكون ، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم (178). ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته ، وهو يقول : « بأبي أنتم وأمي !! كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى ».
إلى هنا إنتهى ما هو مذكور في الكتب حول نص الخطبة ، وللقارئ الكريم أن يتساءل : ماذا حدث بعد ذلك ؟
الجواب : هذا ما ستقرؤه في الصفحات القادمة إن شاء الله.
كيف ولماذا قطعوا
على السيدة زينب خطابها ؟
كانت السيدة زينب ( عليها السلام ) الشجاعة المفجوعة تتكلم بصوت شجي ، وكل كلمة منها تلهب احاسيس الحزن والأسى والندم في الناس ، حتى ضج الناس بالبكاء والعويل ، وارتبكت قوات الأمن والشرطة ، وصار كل إحتمال للتمرد والإنتفاضة وارداً ، فكيف يتصرفون ؟!
وماذا يصنعون حتى يقطعوا على السيدة زينب خطابها ، ويصرفوا أذهان الناس إلى شيء آخر ؟!
هناك من يقول : أمروا بحركة القافلة ، وجاؤا بالرمح الذي عليه رأس الإمام الحسين ( عليه السالم ) وقربوه من محمل السيدة زينب ، وتعالت صرخات الناس : هذا رأس الحسين .. هذا رأس الحسين !!
وكانت عينا الإمام مفتوحتين ، وهو ينظر نظرةً فريدة ، وصفها المؤرخون بقولهم : « شاخص ببصره
نحو الأفق » !
وهنا لم تستطع السيدة زينب أن تستمر في الخطبة رغم شجاعتها وانطلاقها بالكلام ، فهاج بها الحزن من ذلك المنظر الذي وتر أعصابها ، وأوشك أن يقضي عليها .. بسبب الألم الذي بدأ يعصر قلبها العطوف عصرةً يعلم الله درجتها.
فكان رد الفعل منها أنها نطحت جبينها بمقدم المحمل .. وبكل قوة ، حتى سال الدم من رأسها وجبهتها ، وأومأت ( أي : أشارت ) إليه بخرقة ـ حسب العادة ، العشائرية المتبعة يومذاك ، عند رؤية جنازة الفقيد الغالي ـ ، وشاهدت أن الناس يشيرون بأصابع أيديهم إلى رأس الإمام الحسين ، كما يشيرون إلى مكان وجود الهلال في أول ليلة من الشهر !
فنادت السيدة زينب ( عليها السلام ) :
يـا هلالاً لمـا استتم كمالا ما توهمت يا شقيق فؤادي         غالـه خسفه فأبدى غروبا كـان هذا مقـداراً مكتوبا
ويتصور أحد الشعراء ـ وهو الحاج هاشم الكعبي ـ ذلك
الموقف الحزين ويقول : كانت مع السيدة زينب ( عليها السلام ) في محملها بنت صغيرة للإمام الحسين ( عليه السلام ) فحينما رأت رأس أبيها بدأت تناديه : يا أبه .. يا أبه .. كلمني أين كنت ! ولما لم تسمع جواباً إنفجرت بالبكاء الشديد ، فنادت السيدة زينب مخاطبةً رأس أخيها العزيز :
أخي : فاطم الصغيرة كلمها         فقـد كاد قلبهـا أن يذوبـا
الإحتمال الثاني : أن الإمام علي بن الحسين ( عليه السلام ) تقدم إلى عمته ـ ولعل ذلك كان بأمر من الشرطة ـ وقال : يا عمة ! اسكتي ، ففي الباقي من الماضي إعتبار ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، إن البكاء والحنين لا يردان من قد أباده الدهر ، فسكتت. (179)
نص خطبة السيدة زينب
برواية أخرى
وروى الشيخ الطبرسي في كتاب « الإحتجاج » نص الخطبة مع وجود بعض الفروق بين النسختين ، ونحن نذكر ذلك ، تتميماً للفائدة :
قال حذيم الأسدي : لم أر ـ والله ـ خفرةً قط انطق منها ، كأنها تنطق وتفرغ على لسان علي ( عليه السلام ) وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا ، فارتدت ، الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت ـ بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله ـ : « أما بعد ، يا أهل الكوفة ، يا أهل الختل والغدر والخذل. (180)
ألا فلا رقأت العبرة ولا هدأت الزفرة.
إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ، هل فيكم إلا الصلف والعجب ، والشنف ، والكذب ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة ، أو كفضة على ملحودة ، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.
أتبكون أخي ؟!
أجل ـ والله ـ فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء ، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فقد أبليتم بعارها ، ومنيتم بشنارها ، ولن ترحضوها أبداً ، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ حربكم ، ومعاذ حزبكم ومقر سلمكم وآسي كلمكم ، ومفزع نازلتكم ، والمرجع إليه عند مقاتلتكم ، ومدرة حججكم ، ومنار محجتكم.
ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ، وساء ما تزرون ليوم بعثكم ، فتعساً تعساً !! ونكساً نكساً !! لقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ..
أتدرون ـ ويلكم ـ أي كبد لمحمد ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) فرثتم ؟!
وأي عهد نكثتم ؟!
وأي كريمة له أبرزتم ؟!
وأي حرمة له هتكتم ؟!
وأي دم له سفكتم ؟!
لقد جئتم شيئاّ إداً ، تكاد السماوات يتفطرن منه ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال هداً ؟!
لقد جئتم بها شوهاء ، صلعاء ، عنقاء ، سوداء ، فقماء ، خرقاء ، كطلاع الأرض ، أو ملء السماء.
أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ، ولعذاب الآخرة أخزى ، وهم لا ينصرون.
فلا يستخفنكم المهل ، فإنه ( عز وجل ) لا يحفزه البدار ، ولا يخشى عليه فوت الثار ، كلا إن ربك لنا ، ولهم لبالمرصاد ، ثم أنشأت تقول ( عليها السلام ) :
مـاذا تقـول إذ قـال النبي لكم بأهـل بيتـي وأولادي وتكرمتي                 مـاذا صنعتـم وأنتم آخر الأمم منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان ذاك جزائي إذ نصحت لكم إنـي لأخشى عليكم أن يحـل بكم         أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي مثـل العذاب الذي أودى على إرم
ثم ولت عنهم ... » إلى آخر الرواية.

الهوامش
--------------------------------------------------
1 ـ للأديب الفاضل الشيخ حسن الحاج وهج.
2 ـ مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الاصبهاني 60.
3 ـ في أُسد الغابة 469:5.
4 ـ عن كتاب " زينب الكبرى "، للشيخ جعفر النقدي 45.
5 ـ إكمال الدين وإتمام النعمة، للشيخ الصدوق 275.
6 ـ إكمال الدين واتمام النعمة 275.
7 ـ رياض الأحزان وحدائق الاشجان، للمولى محمد حسن القزويني، عنه النقدي 49.
8 ـ زينب الكبرى 39.
9 ـ من أرجوزة الفقيه الشيخ محمد حسين الإصفهاني.
10 ـ مقتل الحسين عليه السّلام، للخوارزمي 64:2.
11 ـ زينب الكبرى 42.
12 ـ المدح بما ليس في الممدوح.
13 ـ البغض بغير حق.
14 ـ الطعن.
15 ـ لن تغسلوها.
16 ـ قبيحة.
17 ـ حمقاء.
18 ـ الاحتجاج، لأبي منصور أحمد بن عليّ الطبرسي 31:2.
19 ـ أي أنتم.
20 ـ لعلّ المعنى أنّ الله كلفهم بالجهاد فلبَّوا داعيَ الله " سبحانه ".
21 ـ وكانت معروفة بانحرافها.
22 ـ اللهوف في قتلى الطفوف، لابن طاووس 90.
23 ـ وهي جدّته هند التي لفظت كبد حمزة رضوان الله عليه بعد شهادته في أُحد.
24 ـ الاحتجاج 34:2.
25 ـ كما ذكر البيرجندي في ( وقائع الأيّام ).
26 ـ زينب الكبرى 81.
27 ـ زينب الكبرى 81.
28 ـ زينب الكبرى 81.
29 ـ كتاب ( زينب )، للاستاذ حسن محمد قاسم.
30 ـ ذهب إلى ذلك: ابن عساكر في تاريخه، وابن طولون في الرسالة الزينبية. والشيخ محمد صبّان في إسعاف الراغبين، والشبلنجي في نور الأبصار.. وغيرهم.
31 ـ قطعة من الزيارة الزينبية.
32- راجع (من فقه الزهراء عليها السلام) ج2 ص59.
33- بحار الأنوار: ج42 ص282 ب127 ح58.
34- حيث جندت عائشة مروان وبعضاً من بني أمية وقادتهم على بغلة شهباء لمنع دفن الإمام الحسن (عليه السلام) في حجرة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) راجع تاريخ اليعقوبي ج2 ص124 وغيره من كتب التاريخ.
35- بحار الأنوار: ج16 ص143 ب7 ح9.
36- بحار الأنوار: ج70 ص191 ب53 ح2، والبحار ج70 ص237 ب54 ح6.
37- الخيول العربية الأصيلة.
38- راجع بحار الأنوار: ج43 ص351 ب6 ح27 وفيه: (عن أبي عبد الله (عليه السلام): كان الحسن بن علي (عليه السلام) يحج ماشيا وتساق معه المحامل والرحال).
39- راجع موسوعة الفقه، كتاب القواعد الفقهية، ص 177 قاعدة التيسير، وفيه: (ان المراد بالأحمز: الأصعب ذاتاً، لا الأصعب فرداً، وانهم (عليهم السلام) حيث كانوا بيدهم الحكم والاسوة، كان اللازم ان يسلكوا ذلك المسلك).
40- سورة البقرة: 185.
41- كما لا يخفى على المتتبع في مختلف الروايات أن بيوت المؤمنين تكون مهبطا ومزارا للملائكة الكرام، وخاصة البيوت التي تقام فيها صلاة الليل ويكثر فيها قراءة القرآن والدعاء و التهجد في الليل.. فكيف ببقعتها الطاهرة.
42- راجع بحار الأنوار ج44 ص346 ب37 ح2.وفيه: (إن الله قد شاء أن يراهن سبايا).
43- هو آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله).
44- بحار الأنوار ج48 ص317.
45- راجع بحار الأنوار ج90 ص376 ب24 ح16 وفيه: (يا ابن آدم أنا أقول للشيء كن فيكون، اطعني فيما أمرتك أجعلك تقول للشيء كن فيكون).
46- راجع بحار الأنوار ج21 ص3 ب22 وفيه: (لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير من أن يكون لك حمر النعم).
47- أي السيدة زينب (عليها السلام) ومن شابهها من الأولياء (عليهم السلام)
48- تأويل الآيات ص145 سورة النساء.
49- راجع كتاب (من فقه الزهراء عليها السلام) ج2 ص 57 الهامش وص 59، وعوالم العلوم (فاطمة الزهراء عليها السلام):
ج2 ص652-697 ب5ح1، وص744-748 ب6ح2.
50- سورة المائدة: 35.
51- بحار الأنوار ج25 ص22 ب1 ح38.
52- مصباح الشريعة: ص16 وشبهه في منية المريد: ص 167.
53- إشارة إلى قوله تعالى: [ فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسراً] سورة الطلاق: 9.
54- عوالم العلوم.. سيدة النساء : ج2 ص962 .
55- راجع بحار الأنوار : ج45 ص58 . عوالم العلوم: سيدة النساء: ج2 ص964. مقتل الإمام الحسين عليه السلام للسيد المقرم: ص396.
56- بحار الأنوار: ج45 ص115 وهذه بقية الأبيات:
يا أخي فاطم الصغيرة كلَّمها يا أخي قلبك الشفيق علينا يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر كلّما أوجعوه بالضرب ناداك يا أخي ضُمّه إليك وقرِّبه ما أذل اليتم حين ينادي          فقد كاد قلبها أن يذوبا ماله قد قسى وصار صلبا مع اليتم لا يطيق وجوبا بذلّ بغيض دمعاً سكوبا وسكّن فؤاده المرعوبا بأبيه، ولا يراه مجيبا
57- بحار الأنوار:ج45 ص162، اللهوف على قتلى الطفوف:ص64.
58- ناسخ التواريخ: ج2 ص522 . و(رياض الشهادة)، و(مفتاح البكاء).
59- ناسخ التواريخ: ج2 ص504 .
60- كامل الزيارات: ص263 .
61- اللهوف: ص79 .
62 ـ نقلاً عن مجلّة الغري الصادرة في النجف الأشرف، العدد الثالث، السنة الحادية عشرة.
63 ـ نقل هذه الكرامة السيّد جواد شبر في كتابه " ما تشتهي " الأنفس 176، نقلاً عن السيّد عمران السيّد أحمد الذي نقلها له في أحد المجالس الحسينية في ليلة الحادي عشر من شهر محرّم لسنة 1391 هـ.
64 ـ زينب الكبرى، للشيخ النقدي 34.
65 ـ مقاتل الطالبيّين، لابي الفرج الإصفهانيّ.
66 ـ مقتل الحسين عليه السّلام، للخوارزمي 40:2.
67 ـ عن: زينب الكبرى عليها السّلام 35.
68 ـ أُسد الغابة 469:5.
69 ـ تنقيح المقال 79:3.
70 ـ دائرة معارف القرن العشرين 795:4.
71 ـ نساء لهنّ في التاريخ الإسلاميّ نصيب 48 ، 52.
72 ـ فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله.
73 ـ الأعلام 108:3.
74 ـ أعلام النساء 91:2.
75 ـ عقيلة الوحي 24.
76 ـ عن: زينب الكبرى 33.
77 ـ بطلة كربلاء 154.
78 ـ أبناء الرسول في كربلاء 178.
79 ـ كتاب ( مناقب آل أبي طالب ) لابن شهرآشوب المتوفى عام 588 للهجرة ، ج 3 ص 305 ، فصل : في أزواجه وأولاده ، وذكره الشيخ المجلسي في ( بحار الأنوار ) ج 42 ص 92 ، باب 120.
80 ـ كتاب ( ذخيرة المعاد ) للشيخ زين العابدين المازندراني.
81 ـ جاء ذلك في كتاب ( الطرائف في معرفة مَذاهب الطوائف ) للسيد علي بن موسى بن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ. ص 501 ، طبع ايران عام 1400 هـ. وهو يَحكي ذلك عن كتاب ( المثالب ) لهشام بن محمد الكلبي ـ وهو مِن مؤلّفي العامّة ـ. وهذا نصّ كلامه : « وأمّا حمامة فهي من بعض جدّات معاوية ، وكان لها راية بـ ( ذي المجاز ) يعني مِن ذَوي الرايات في الزنا ».      المحقق
82 ـ ويَجدُر ـ هنا ـ أن نذكر ما نظمه الشاعر العظيم السيد حيدر الحلّي رحمة الله عليه ، المتوفّى سنة 1305 هـ حيثَ ينظر إلى الملفّ الأسود لبني أميّة ـ رجالاً ونساءاً ، فيُخاطبهم بقوله :
أميّة غوري في الخُمول وأنجِدي هبوطاً إلى أحسابكم وانخفاضها تطاولتموا لا عن عُلاً فتراجعوا قديمكم ما قـد علمتـم ومِثلـه فماذا الذي أحسابكم شَرُفـت به         فمـا لكِ في العَلياء فـوزةُ مشهدِ فلا نسـب زاكٍ ولا طيـبُ مولد إلى حيث أنتم ، و اقعدوا شرّ مقعد حديثكـم في خـزية المُـتجـدّد فأصعدكم في الملك أشرف مصعد
83 ـ كتاب المناقب ، لابن شهرآشوب ج 4 ، ص 42 و44.
84 ـ كتاب سُليم بن قيس الهلالي ، طبع بيروت ، مؤسسة البعثة ، ص 165 ـ 166.
85 ـ الجأش : النَفس ، والقَلب. يُقال : هو رابط الجأش أي : ثابتٌ عند الشدائد ، وقويّ القلب في الحروب والمنازعات.      المحقق
86 ـ أي : وكان جعفر يُكنّى بـ « أبي عبد الله ».
87 ـ بلاد الحبشة : هي دولة « إثيوبيا » المعاصرة ، وعاصمتها « اديس آبابا » ، وهي تَقع في قارّة إفريقيا ، يَحُدّها من الشمال والغرب : جمهورية السودان ، ومِن الشرق : البحر الأحمر وجمهورية الصومال ، ومن الجنوب : الصومال وكينيا.      المحقق
88 ـ لقد قسّم مؤلّف كتاب « الطبقات الكبرى » صحابة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى تقسيمات خاصّة ، وبكيفيّة معيّنة تَبادرت إلى ذِهنه ، وعبّر عن كلّ قسم بـ « الطبقة » فجعل ـ مثلاً ـ الصحابة
89 ـ النجاشي : لقب مَلِك الحبشة يومذاك ، واسمه : الاصحَم بن أبجر.
90 ـ المصدر : كتاب « تذكرة الخواص » لسبط ابن الجوزي ، ص 189.
91 ـ على ما حكاه عنه سبط إبن الجوزي في كتابه « تذكرة الخواص » ص 189 ـ 190.
92ـ أي : والحزن ظاهر على ملامح وجهه الكريم.
93 ـ أساوم : المساومة : طلب البائع المُغالاة في الثمن ، طلب
94 ـ الصفقة : ضرب اليد على اليد في البيع. وكان العرب إذا أرادوا إنهاء معاملة البيع ضَرَب أحدهما يده على يد صاحبه. والمعنى : اللهم بارك له في صفقاته التجارية ومعاملاته. « المحقق »
95 ـ تذكرة الخواص ، لسبط ابن الجوزي ، ص 189 ـ 190.
96 ـ الآذِن : الحاجِب ، ويُعبّر عنه ـ حاليّاً ـ بالسكرتير والبَوّاب.
97 ـ مغبّته : عاقبة أمره. وفي نسخة : من منقبته ما هو خفيّ عنا.
98 ـ غشيَهم : دخل عليهم.
99 ـ ثلبه : تنقّصه وذكر معايبه. ومن الواضح أنّه لم يكن في الإمام أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) عيب أو منقصة ، لكنّ الأكاذيب لها دورها ، والنفسيات اللئيمة القذرة تُعبّر عن هويّتها ونواياها ، وتظهر عن طريق تصرّفات الإنسان وسلوكه. وكلّ من يدير ظهره للحق لابدّ له أن يَسحق وجدانه ، ويُسكّت إرسالات تأنيب الضمير .. بالأكاذيب والتُهم التي يعلم ـ بنفسه ـ زيفَها. ثمّ إنّ محاولة التزلّف إلى معاوية تجعل القبيح حَسناً والحسن قبيحاً.      المحقّق
100 ـ الأفكَل : رَجفة شديدة تعتري الإنسان عند شدّة الغضب أو شدّة الخوف أو البرد.
101 ـ ذُكر في أكثر كتب اللغة : أنّ الخصائل ـ جمع خصيلة ـ : كلّ لحمة فيها عصَب. والظاهر أنّ شدة الغضب جَعلت الرجفة تظهر على ملامح عبد الله وعلى يديه وأعضاء جسمه. المحقق
102 ـ الفنيق ـ من الناقة ـ : الفحل المُقرم الذي لا يؤذي ولا يُركَب. كما عن كتاب « العين » للخليل بن أحمد ، وجاء فيه ـ أيضاً ـ ناقة فَنَق : جَسيمة وحَسَنة الخَلق.
ولعلّ تشبيه عبد الله بالفنيق .. لأنّه كان ضخم الجسم. المحقق
103 ـ أي : رَفَع أكامم ثوبه وكشف عن ذراعيه ، إستعداداً للمواجهة الشديدة والحرب الكلاميّة مع معاوية ، الذي سكت عن الموقف العدواني لعمرو ، حيث إنّ المتكلّم الذي يريد استعمال إشارات يديه أثناء الكلام الجادّ .. يَرفع أكمامه ، مع الإنتباه إلى الأكمام الواسعة الطويلة التي كانت مُتعارفة في ملابس ذلك الزمان.      المحقق
104 ـ هبلتك الهَبول : هَبَلَت الأمّ ولدها : ثكلته ، فهي هَبول. كما في المعجم الوسيط.
105 ـ أي : أما يَمنعُك آداب المجالسة مَن منع مَن يريد إهانة جليسك وجَرح مشاعره ؟!
106 ـ الإماء ـ جَمع أمَة ـ : العَبدة. المُتك ـ بضمّ الميم ـ : جَمع متكاء : المرأة المُفضاة : وهي التي تَمزّق منها الغشاء الفاصل بين مخرج البول ومجرى دم الحيض ـ بسبب كثرة إستقبالها للرجال !! ـ وقيل : هي المرأة التي لا تستطيع ضَبط نفسها من البول. قال الخليل بن أحمد ـ في كتاب « العين » ـ : يُقال في السبّ : يابن المَتكاء. المحقق
107 ـ المُسَك ـ جَمع مَسيك ـ : البَخيل.
108 ـ لعلّ المعنى : وما يَجهل مكانة الشرفاء إلا أصحاب النفوس الدنيئة ، ونَجوة : المحل الذي يُتغوّط فيه. وفي نسخة : وما يجهل موضع الصفوة إلا أهل الجفوة.      المحقق
109 ـ وشائظ : السَفَلة ، أو الدُخَلاء في القوم ، لَيسوا مِن صَميمهم. كما في « لسان العرب » لابن منظور.
110 ـ عَمهُك : تَرَدّيك في الضلالة. كما يُستفاد من كتاب « العَين » للخليل بن أحمد.
111 ـ النَديّ والنادي : مجلس القوم ، والجمعُ : أندية. ويُعبّر عنه حاليّاً بـ « الديوان » و « الديوانيّة ». المحقق
112 ـ أي : أخرَج غَيظ صدرك من مكانه ، أو : مِن حلقِك. يقال : وَجَرَ فُلاناً : أي : أسمعه ما يَكره. كما في كتاب المعجم الوسيط.
113 ـ وفي نسخة : ببَصَره.
114 ـ إزدراك : إحتَقَرك واستخفّ بك.
115 ـ أي : ليس الآن وقتُ ذكرك للجواب. أو : لا أريد أن أسمع جوابك الآن .. إلى آخر النهار.
116 ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، طبع مصر ، عام 1385 هـ ، ج 6 ص 295 ـ 297.
117 ـ المصادر التي تذكر خطبة السيدة زينب في الكوفة كثيرة ، ونحن اعتمدنا على كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ( رضوان الله عليه ).
118 ـ خفرةً : المرأة الشديدة الحياء.
119 ـ تفرغ : تصب ، الإفراغ « الصب ، قال تعالى : « أفرغ علينا صبراً ».
120 ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، المتوفّى سنة 664 هـ ، ص 192 ـ 193.
121 ـ كتاب « الملهوف » للسيد ابن طاووس ، ص 193 ـ 194. وسوف نذكر نص الخطبة على رواية كتاب « الإحتجاج » للشيخ الطبرسي ، وذلك لوجود بعض الفروق وزيادة بعض الإضافات ، ـ بعد الفراغ من شرح هذه الخطبة ـ إن شاء الله تعالى. المحقق
122 ـ سورة آل عمران ، الآية 61.
123 ـ الخاتل : الغادر. أقرب الموارد للشرتوني.
124 ـ المعجم الوسيط. وقال ابن عباد ـ في « المحيط » ـ الختل : الخدعة عن غفلة.
125 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
126 ـ كما في كتاب « القاموس » للفيروز آبادي.
127 ـ كتاب الصحاح للجوهري.
128 ـ لا يسمح بمؤاخذتها ولا يمكن للمجرمين قتلها بسهولة لوجود صيانة خاصة لكل امرأة في العرب.      المحقق
129 ـ سورة النحل ، الآية 92.
130 ـ ولعل إسمها : زيطة ! لكي يتطابق الإسم مع المسمى.      المحقق
131 ـ « والجنون فنون ».      المحقق
132 ـ كما في كتاب ( أقرب الموارد ) للشرتوني.
133 ـ كما في كتاب ( المحيط في اللغة ) للصاحب بن عباد.
134 ـ كما في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد الفراهيدي ، و « الصحاح » للجوهري.
135 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد ، والمحيط في اللغة ، لابن عباد.
136 ـ المنجد في اللغة.
137 ـ القاموس المحيط ، للفيروز آبادي.
138 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد
139 ـ ذكر هذا المعنى في أكثر كتب اللغة بعبارات مختلفة والمضمون واحد ، ونحن ذكرنا ذلك بتعبيرنا.      « المحقق »
140 ـ قال الخليل في كتاب « العين » القصة : لغة في الجص. وجاء في القاموس المحيط : « القصة : الجصة ».
141 ـ سورة المائة ، الآية 80.
142ـ سورة التوبة ، الآية 82.
143ـ سورة المعارج ، الآية 4.
144 ـ القاموس للفيروز آبادي.
145 ـ أقرب الموارد للشرتوني.
146 ـ مجمع البحرين ، للطريحي. وكتاب « العين » للخليل بن أحمد.
147 ـ أقرب الموارد للشرتوني.
148 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 43 ، ص 261.
149 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
150 ـ المعجم الوسيط.
151 ـ كتاب « العين » للخليل بن أحمد.
152 ـ لسان العرب ، لإبن منظور.
153 ـ أقرب الموارد للشرتوني ، مع تصرف في بعض الألفاظ.
154 ـ المعجم الوسيط. وقال الخليل في كتاب « العين » السحق : البعد. ولغة أهل الحجاز : بعد له وسحق ، يجعلونه إسماً ، والنصب على الدعاء عليه ، أي : أبعده الله وأسحقه.
155 ـ معجم لاروس.
156 ـ كتاب « العين » للخليل ، ومجمع البحرين للطريحي.
157 ـ سورة البقرة ، الآية 61.
158 ـ كتاب « بحار الأنوار » ج 104 ، ص 97.
159 ـ جاء ذلك في الحديث المشهور بـ « حديث الكساء » المروي في كتاب العوالم ، للمحدث الكبير الشيخ عبد الله البحراني ج 2 ص 930 ، والحديث مروي عن الشيخ الكليني بأسناده المعتبرة عن الصحابي جابر بن عبد الله ألانصاري ، عن السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ).
160 ـ المعجم الوسيط.
161 ـ ذكر ذلك « المحيط في اللغة » لابن عباد ، وكتاب « العين » للخليل بن أحمد.
162 ـ القاموس المحيط ، ولسان العرب.
163 ـ أقرب الموارد للشرتوني.
164 ـ المعجم الوسيط.
165 ـ المنجد في اللغة ، وأقرب الموارد للشرتوني.
166 ـ المعجم الوسيط.
167 ـ المحقق.
168 ـ المعجم الوسيط ، والقاموس المحيط ، وقال في « لسان العرب » طلاع الأرض : ما طلعت عليه الشمس ، طلاع الشيء ملؤه.      المحقق
169 ـ كتاب معالي السبطين ، ج 2 ، الفصل العاشر ، المجس الثالث. وكتاب « تظلم الزهراء » ص 222.
170 ـ إليك الآن بعض ما كتبه المؤرخون حول هذه الظاهرة الغريبة التي حدثت يوم عاشوراء عند مقتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) :
171 ـ كما يستفاد ذلك من « مجمع البحرين » للطريحي.
172 ـ سورة إبراهيم ، الآية 42 و 43.
173 ـ نهج البلاغة ، طبع لبنان ، المطبوع مع تعليقات صبحي الصالح ، ص 141 ، خطبة 97.
174 ـ المعجم الوسيط.
175 ـ مجمع البحرين للطريحي.
176 ـ نفس المصدر.
177 ـ المعجم الوسيط.
178 ـ لعل وضع أيديهم في أفواههم كان من أجل حبس أصوات بكائهم كي لا تغطي على صوت السيدة زينب ( عليها السلام ) وبذلك يستمروا في الإستماع إلى خطبتها ، أو كان ذلك لعض أصابعهم بسبب شدة الندم والتأثر للجريمة التي ارتكبوها ، أو المصيبة الكبرى التي نزلت بالإسلام والمسلمين. المحقق
179 ـ الإحتجاج للشيخ الطبرسي ، طبع لبنان ، عام 1403 هـ ، ج 2 ص 305.
180 ـ الخذل : ترك النصرة والإعانة. مجمع البحرين للطريحي.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page