• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

حياة العبّاس بن علي علیه السلام

حياة العبّاس بن علي علیه السلام

بسم اللّه الرحمن الرحيم
حمداً لك اللهمّ، وصلاة على خاتم أنبيائك وخلفائه المعصومين، ورضىً بقضائك وتقديرك بأوليائك الذين تحمّلوا المشاقّ في إحياء شرعك الأقدس، فقابلوا الأخطار بكلّ طلاقة وبشاشة حتّى كرعوا حياض المَنون، وانتهلت من دمائهم الزاكية بيض الصفاح، وأمسوا بجوارك متلفّعين بالبرود القانية....
فسلاماً على أرواحهم الطاهرة، وأشلائهم المقطّعة في سبيل مرضاتك ياربَّ العالمين.

مقدّمة
إنّ للنسب مكانةً كبرى في شتّى النواحي، فليس من المستنكر دخله في تهذيب الأخلاق، فإنّ الإنسان مهما كان مولعاً بالشهوات مستهتراً ماجناً، إذا عرف أنّ له سلفاً مجيداً، وأنّ من ينتمي إليهم أُناس مبجّلون ـ كما هو الشأن في جلّ البشر، إن لم نقل كلهم ـ لا يروقه أن يرتكب ما يشوّه سمعتهم، وإنّما يكون جلّ مسعاه أن يكون خلقاً صالحاً لهم، يجدّد ذكرياتهم، ويخلّد ذكرهم الجميل بالتلفّع بمكارم الأخلاق.
ولقد جعل اللّه تعالى أبناء آدم (عليه السلام) شعوباً وقبائل ليتعارفوا(1)، فتشتبك الأواصر، وتتواصل الأرحام، ويحمى الجوار بالتساند والمؤازرة، ويعرفهم من عداهم كتلة واحدة، فيهاب جانبهم ولا تخفر ذمتهم، فيسود بذلك السلام والوئام، ومن هنا نشاهد المردة من قوم شعيب قالوا له لما عتوا عن أمره: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ }(2).
فإذن يكون في مشتبك الأواصر مناخ العزّ ومأوى الهيبة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن: " وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحُك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول، ولا يستغني الرجل عن عشيرته وإن كان ذا مال، فإنّه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطةً من ورائه، وألمّهم لشعثه، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة أو حلّت به مصيبة، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم يداً واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة "(3).
ولقد جاء في الشريعة المقدّسة أحكام منوطة بمعرفة الأنساب خاصّة أو عامّة، كالمواريث والأخماس وصلة الأرحام وديّة قتل الخطأ... إلى غيرها من فوائد النسب التي جعلته في الغارب والسنام من بين العلوم الفاضلة، وأكسبته الأهمية الكبرى.
وجعلت منصّة النسّابة في المحلّ الأسمى عند الديني والاجتماعي والأخلاقي(4)، وهو أحد العلماء الذين لكلٍّ منهم اختصاص في فن من الفنون يرجع إليه في فنه ويستفتى، كما يراجع غيره من العلماء فيما اختصّ به من الفنون; ولقد كان عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) ـ على شرف أصله وقداسة
منبته ومجده الهاشمي الأثيل ـ نسّابة عصره، يعرف أنساب العرب وقبائلها، ويميّز بين منابت المجدّ والخطر، ومناخ السوأة والخزاية، وينوّه بواسع علمه بما تتحلّى به الفصائل والعمائر من المآثر، وما ترتديه البطون والأفخاذ من شية العار.
فكان يُخشى ويُرجى من هاتين الناحيتين، ويراجع للوقوف على لوازم الكفاية عند المصاهرة، تحريّاً للحصول على الدّعة في العشرة بين الزوجين، وكرائم الأخلاق المكتسبة من إرضاع الحرائر الكريمات، وعروق الأخوال الأكارم، والشريعة المطهّرة تقول في نصّها على ذلك: " اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين "(5)، كما حذرت عن خلافه: " إياكم وخضراء الدمن "، وفسّره صاحب الشريعة بأنّها " المرأة الحسناء في منبت السوء "(6).
فكان عقيل ـ كما وصفه الصفدي ـ أحد الذين يتحاكّم إليهم، ويوقف عند قولهم في علم النسبِّ ; لكونه العليم به وبأيّام العرب، وكانت تُبسط له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يصلّي عليها، ويجتمع إليه في معرفة الأنساب وأيّام العرب وأخبارهم مع ما له من السرعة في الجواب والمراجعة في القول(7).
ومن هنا قال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " أُنظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ; لأتزوّجها، فتلد لي غلاماً فارساً ".
فقال له: تزوّج بأُمّ البنيّن الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها(8).
هكذا جاء الحديث، ولكن لا يفوت القارئ أنّا نعتقد في حملة أعباء الإمامة شمول علمهم كُلّ ما ذرأ اللّه ـ سبحانه ـ وبرأ وما جاءت به الأُمم من فضائل ومخازي وأوصاف وعادات في كُلّ حال، وللبرهنة على هذه الدعوى مجال في غير هذا المختصر.
إذن، فأين يقع علم عقيل وغير عقيل من واسع علم أمير المؤمنين، المتدفّق بأحوال قبائل العرب، وبمعرفة الشجعان منهم حتّى يحتاج إلى نظر عقيل؟!
وهل يخفى علم ذلك على من كان يعلم الذّكر والأُنثى من النمّل كما في حديث أبي ذر الغفاري: دخلت أنا وأمير المؤمنين (عليه السلام) وادياً فيه نمل كثير، فقلت: سبحان اللّه محصيه!
فقال (عليه السلام): " لا تقلّ ذلك، وقل: سبحان اللّه باريه، فواللّه إنّي لأحصيه وأعرف الذّكر منه والأُنثّى "(9).
ويقول (عليه السلام): " إنّ شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق آدم.. لا يشذّ منها شاذ ولا يدخل فيها داخل، وإنّي لأعرفهم حين ما أنظر
إليهم.. ولأعرف عدوّي من صديقي "(10).
" وإنّهم لمكتوبون عندنا بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم وأنسابهم "(11).
فمن كان هذا علمه لا يحتاج إلى تعرّف القبائل والبطون من عقيل، مهما بلغ من العلم والمعرفة إلى ذُرَى عالية.
نعم،
وكم سائل عن أمره وهو عالم ..................
فإنّه جرى صلوات اللّه عليه مجرى العادة في أمثاله، وكم لهم من ضرائب في أعمالهم (عليهم السلام) لحكم ومصالح لعلّنا ندرك بعضها، والبعض الآخر منها مطوي لدِيّهم مع أمثالها من غوامض أسرارهم.
فهذا الرسول الأعظم، وهو المسدَّد بالفيض الأقدسّ والإرادة الإلهية ; المستغني عن الاستعانة بأيّ رأيّ، يمشي وراء العادة، فيشاور أصحابه إذا أراد المضيّ في أمر، ولعلّ النكتة فيه ـ مضافاً إلى ذلك ـ تعريف خطأ الاستبداد وإن بلغ الرجل أعلى مراتب العقل، فكانت الصحابة تبصر من أشعة حكمه فوائد الاستشارة كالاستخارة، وتمضي على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أُعجب برأيه ضلّ،
ومن استغنى بعقله زلّ "(12)، و" لا يندم من استشار، ولا خاب من استخار "(13).
ولمّا خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة طالباً عير أبي سفيان، بلغه في (ذفران)(14) أنّ قريشاً خرجت على كُلّ صعب وذلول، شاور أصحابه فقال: " ما تقولون، العير أحبّ إليكم أم النفير "؟
فقال بعضهم: العير، وقال (رجلان): يا رسول اللّه إنّها قريش وخيلاؤها، ما ذلّت منذ عزّت، وما آمنت منذ كفرت، فساءه كلامهما، وتغيّر وجهه، فقام المقداد بن الأسود الكندي وقال: امض يا رسول اللّه لما أمرك به اللّه، ونحن معك، فواللّه لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }(15)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دام منّا عين تطرف، نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغمام (بلاد الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه فضحك رسول اللّه وأشرق وجهه وسرّ بكلامه(16).
ولمّا نزل في بدر بأقرب ماء هناك قال له الحبّاب بن المنذر: أرأيت يا رسول اللّه هذا المنزل، منزلاً أنزلك اللّه به أم هو الرأي والمكيدة والحرب؟
فقال: " هو الرأي والحرب ".
فأشار عليه بأن ينهض ويأتي أدنى منزل من القوم فينزل على الماء، ثُمّ يعمل حوضاً يملأه ماءً يشرب منه المسلمّون ولا يشرب منه أعداؤهم، فأخذ برأيه وارتحل حتّى أتى الماء ونزل عليه(17).
ولمّا قصده الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصين والحارث بن عوف على ثلث أثمار المدينة، ليرجعا بمن معهما من غطفان، فشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن فزارة، فأشاروا عليه ألا يعطيهم شيئاً، فعمل بمشورتهم، وكان الفتح له(18)، كُلّ ذلك إيذاناً وتنبيهاً بما هو اللازم من التريّث والأخذ بحقائق الأُمور.
وسار الأئمة من آله على هذا النهج، فكان الإمام الرضا (عليه السلام)يذكر أباه موسى بن جعفر ويقول: " كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور بعض عبيده فيشير عليه من الضيعة والبستان فيعمل به، فقيل له: أتشاور مثل هذا؟ فقال (عليه السلام): ربما فتح على لسانه "(19).
ولمّا كتب إليه علي بن يقطين بما عزم عليه موسى الهادي من الفتك به وأنّه سمعه يقول: قتلني اللّه إن لم أقتل موسى بن جعفر،
فلمّا ورد الكتاب عليه شاور أهل بيته وشيعته وأطلعهم على الكتاب وقال لهم: " ما تشيرون عليَّ؟ " قالوا: نشير عليك ـ أصلحك اللّه ـ أن تباعد شخصك من هذا الجبّار، فلم يتباعد عن مشورتهم، ولكنّه أوقفهم على غامض أسرار اللّه من هلاك الطاغي، فكان كما قال(20).
وكان الأئمة (عليهم السلام) ـ وهم العالمون بما كان وما يكون ـ يتخذون الوسائل العادية لدفع الأضرار عنهم إذا علموا تأخّر القضاء من مراجعة الطبيب، أو الشخوص نحو المهيمن جلّ شأنّه، أو الشكوى إلى جدّهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما سُقي الإمام الحسن (عليه السلام) العسل المسموم وأعتلّ تداوى بالحليب، فعوفي، وحين عادت إليه العلّة أخذ يسيراً من تربة النّبي ومزجها بالماء فشربه وعوفي(21).
وقال الإمام الهادي (عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري حين مرض بسامراء: " ابعثوا رجلاً إلى (الحائر) يدعو اللّه لي بالشفاء من العلّة ".
فقال علي بن بلال: ما يصنع بالحير، أليس هو الحير؟! فلم يدرِ أبو هاشم ما يجيبه حتّى دخل علي الهادي (عليه السلام) وحكى له قوله، فقال (عليه السلام): " ألا قلت له: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت، ويقبّل الحجر، وحرمة النّبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمره اللّه تعالى أن يقف بعرفات، وإنّما هي مواطن يحبّ
اللّه أن يُذكر فيها، وأنا أحبّ أن يدّعى لي حيث يحبّ اللّه أن يدّعى فيها(22).
والغرض من هذا كلِّه التعريف بأنّه لم يجب في التكوينات إلاّ جري الأُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية، وأنّه لا غناء عنها لأيّ أحد، وأنّ الأئمة من أهل البيت وإن أمكنهم إعمال ما أقدرهم عليه اللّه سبحانه من التصرّفات حسبما يريدون، لكنّهم في جميع أدوارهم مقتدى الأُمّة ومسيروهم إلى ما يراد منهم من أمر الدّين والدنّيا، فعلى نهجهم يسير الناس، وبأفعالهم يتأسى البشر، وبإرشادهم ترفع حُجب الأوهامّ.
وعلى هذا الأساس مشى أمير المؤمنين في اختيار الزوجة الصالحة.
على أنّ التأمّل في كلامه يفيدنا عدم الاستشارة من أخيه، فإنّه قال لعقيل: انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، فهو (عليه السلام) في مقام الطلب من أخيه أن يخطب امرأةً تصلح له، لا أنّه في مقام الاستشارة والاستطلاع منه، لكونه عالماً بأنساب العرب، وعارفاً ببيوتات الشرف والمنعة والفروسيّة.

حياة العبّاس بن علي علیه السلام

بسم اللّه الرحمن الرحيم
حمداً لك اللهمّ، وصلاة على خاتم أنبيائك وخلفائه المعصومين، ورضىً بقضائك وتقديرك بأوليائك الذين تحمّلوا المشاقّ في إحياء شرعك الأقدس، فقابلوا الأخطار بكلّ طلاقة وبشاشة حتّى كرعوا حياض المَنون، وانتهلت من دمائهم الزاكية بيض الصفاح، وأمسوا بجوارك متلفّعين بالبرود القانية....
فسلاماً على أرواحهم الطاهرة، وأشلائهم المقطّعة في سبيل مرضاتك ياربَّ العالمين.

مقدّمة
إنّ للنسب مكانةً كبرى في شتّى النواحي، فليس من المستنكر دخله في تهذيب الأخلاق، فإنّ الإنسان مهما كان مولعاً بالشهوات مستهتراً ماجناً، إذا عرف أنّ له سلفاً مجيداً، وأنّ من ينتمي إليهم أُناس مبجّلون ـ كما هو الشأن في جلّ البشر، إن لم نقل كلهم ـ لا يروقه أن يرتكب ما يشوّه سمعتهم، وإنّما يكون جلّ مسعاه أن يكون خلقاً صالحاً لهم، يجدّد ذكرياتهم، ويخلّد ذكرهم الجميل بالتلفّع بمكارم الأخلاق.
ولقد جعل اللّه تعالى أبناء آدم (عليه السلام) شعوباً وقبائل ليتعارفوا(1)، فتشتبك الأواصر، وتتواصل الأرحام، ويحمى الجوار بالتساند والمؤازرة، ويعرفهم من عداهم كتلة واحدة، فيهاب جانبهم ولا تخفر ذمتهم، فيسود بذلك السلام والوئام، ومن هنا نشاهد المردة من قوم شعيب قالوا له لما عتوا عن أمره: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ }(2).
فإذن يكون في مشتبك الأواصر مناخ العزّ ومأوى الهيبة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن: " وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحُك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول، ولا يستغني الرجل عن عشيرته وإن كان ذا مال، فإنّه يحتاج إلى دفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطةً من ورائه، وألمّهم لشعثه، وأعظمهم عليه إن نزلت به نازلة أو حلّت به مصيبة، ومن يقبض يده عن عشيرته فإنّما يقبض عنهم يداً واحدة وتقبض عنه أيد كثيرة "(3).
ولقد جاء في الشريعة المقدّسة أحكام منوطة بمعرفة الأنساب خاصّة أو عامّة، كالمواريث والأخماس وصلة الأرحام وديّة قتل الخطأ... إلى غيرها من فوائد النسب التي جعلته في الغارب والسنام من بين العلوم الفاضلة، وأكسبته الأهمية الكبرى.
وجعلت منصّة النسّابة في المحلّ الأسمى عند الديني والاجتماعي والأخلاقي(4)، وهو أحد العلماء الذين لكلٍّ منهم اختصاص في فن من الفنون يرجع إليه في فنه ويستفتى، كما يراجع غيره من العلماء فيما اختصّ به من الفنون; ولقد كان عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) ـ على شرف أصله وقداسة
منبته ومجده الهاشمي الأثيل ـ نسّابة عصره، يعرف أنساب العرب وقبائلها، ويميّز بين منابت المجدّ والخطر، ومناخ السوأة والخزاية، وينوّه بواسع علمه بما تتحلّى به الفصائل والعمائر من المآثر، وما ترتديه البطون والأفخاذ من شية العار.
فكان يُخشى ويُرجى من هاتين الناحيتين، ويراجع للوقوف على لوازم الكفاية عند المصاهرة، تحريّاً للحصول على الدّعة في العشرة بين الزوجين، وكرائم الأخلاق المكتسبة من إرضاع الحرائر الكريمات، وعروق الأخوال الأكارم، والشريعة المطهّرة تقول في نصّها على ذلك: " اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين "(5)، كما حذرت عن خلافه: " إياكم وخضراء الدمن "، وفسّره صاحب الشريعة بأنّها " المرأة الحسناء في منبت السوء "(6).
فكان عقيل ـ كما وصفه الصفدي ـ أحد الذين يتحاكّم إليهم، ويوقف عند قولهم في علم النسبِّ ; لكونه العليم به وبأيّام العرب، وكانت تُبسط له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يصلّي عليها، ويجتمع إليه في معرفة الأنساب وأيّام العرب وأخبارهم مع ما له من السرعة في الجواب والمراجعة في القول(7).
ومن هنا قال له أمير المؤمنين (عليه السلام): " أُنظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب ; لأتزوّجها، فتلد لي غلاماً فارساً ".
فقال له: تزوّج بأُمّ البنيّن الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها(8).
هكذا جاء الحديث، ولكن لا يفوت القارئ أنّا نعتقد في حملة أعباء الإمامة شمول علمهم كُلّ ما ذرأ اللّه ـ سبحانه ـ وبرأ وما جاءت به الأُمم من فضائل ومخازي وأوصاف وعادات في كُلّ حال، وللبرهنة على هذه الدعوى مجال في غير هذا المختصر.
إذن، فأين يقع علم عقيل وغير عقيل من واسع علم أمير المؤمنين، المتدفّق بأحوال قبائل العرب، وبمعرفة الشجعان منهم حتّى يحتاج إلى نظر عقيل؟!
وهل يخفى علم ذلك على من كان يعلم الذّكر والأُنثى من النمّل كما في حديث أبي ذر الغفاري: دخلت أنا وأمير المؤمنين (عليه السلام) وادياً فيه نمل كثير، فقلت: سبحان اللّه محصيه!
فقال (عليه السلام): " لا تقلّ ذلك، وقل: سبحان اللّه باريه، فواللّه إنّي لأحصيه وأعرف الذّكر منه والأُنثّى "(9).
ويقول (عليه السلام): " إنّ شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق آدم.. لا يشذّ منها شاذ ولا يدخل فيها داخل، وإنّي لأعرفهم حين ما أنظر
إليهم.. ولأعرف عدوّي من صديقي "(10).
" وإنّهم لمكتوبون عندنا بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم وأنسابهم "(11).
فمن كان هذا علمه لا يحتاج إلى تعرّف القبائل والبطون من عقيل، مهما بلغ من العلم والمعرفة إلى ذُرَى عالية.
نعم،
وكم سائل عن أمره وهو عالم ..................
فإنّه جرى صلوات اللّه عليه مجرى العادة في أمثاله، وكم لهم من ضرائب في أعمالهم (عليهم السلام) لحكم ومصالح لعلّنا ندرك بعضها، والبعض الآخر منها مطوي لدِيّهم مع أمثالها من غوامض أسرارهم.
فهذا الرسول الأعظم، وهو المسدَّد بالفيض الأقدسّ والإرادة الإلهية ; المستغني عن الاستعانة بأيّ رأيّ، يمشي وراء العادة، فيشاور أصحابه إذا أراد المضيّ في أمر، ولعلّ النكتة فيه ـ مضافاً إلى ذلك ـ تعريف خطأ الاستبداد وإن بلغ الرجل أعلى مراتب العقل، فكانت الصحابة تبصر من أشعة حكمه فوائد الاستشارة كالاستخارة، وتمضي على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أُعجب برأيه ضلّ،
ومن استغنى بعقله زلّ "(12)، و" لا يندم من استشار، ولا خاب من استخار "(13).
ولمّا خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة طالباً عير أبي سفيان، بلغه في (ذفران)(14) أنّ قريشاً خرجت على كُلّ صعب وذلول، شاور أصحابه فقال: " ما تقولون، العير أحبّ إليكم أم النفير "؟
فقال بعضهم: العير، وقال (رجلان): يا رسول اللّه إنّها قريش وخيلاؤها، ما ذلّت منذ عزّت، وما آمنت منذ كفرت، فساءه كلامهما، وتغيّر وجهه، فقام المقداد بن الأسود الكندي وقال: امض يا رسول اللّه لما أمرك به اللّه، ونحن معك، فواللّه لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }(15)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دام منّا عين تطرف، نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغمام (بلاد الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه فضحك رسول اللّه وأشرق وجهه وسرّ بكلامه(16).
ولمّا نزل في بدر بأقرب ماء هناك قال له الحبّاب بن المنذر: أرأيت يا رسول اللّه هذا المنزل، منزلاً أنزلك اللّه به أم هو الرأي والمكيدة والحرب؟
فقال: " هو الرأي والحرب ".
فأشار عليه بأن ينهض ويأتي أدنى منزل من القوم فينزل على الماء، ثُمّ يعمل حوضاً يملأه ماءً يشرب منه المسلمّون ولا يشرب منه أعداؤهم، فأخذ برأيه وارتحل حتّى أتى الماء ونزل عليه(17).
ولمّا قصده الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصين والحارث بن عوف على ثلث أثمار المدينة، ليرجعا بمن معهما من غطفان، فشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن فزارة، فأشاروا عليه ألا يعطيهم شيئاً، فعمل بمشورتهم، وكان الفتح له(18)، كُلّ ذلك إيذاناً وتنبيهاً بما هو اللازم من التريّث والأخذ بحقائق الأُمور.
وسار الأئمة من آله على هذا النهج، فكان الإمام الرضا (عليه السلام)يذكر أباه موسى بن جعفر ويقول: " كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور بعض عبيده فيشير عليه من الضيعة والبستان فيعمل به، فقيل له: أتشاور مثل هذا؟ فقال (عليه السلام): ربما فتح على لسانه "(19).
ولمّا كتب إليه علي بن يقطين بما عزم عليه موسى الهادي من الفتك به وأنّه سمعه يقول: قتلني اللّه إن لم أقتل موسى بن جعفر،
فلمّا ورد الكتاب عليه شاور أهل بيته وشيعته وأطلعهم على الكتاب وقال لهم: " ما تشيرون عليَّ؟ " قالوا: نشير عليك ـ أصلحك اللّه ـ أن تباعد شخصك من هذا الجبّار، فلم يتباعد عن مشورتهم، ولكنّه أوقفهم على غامض أسرار اللّه من هلاك الطاغي، فكان كما قال(20).
وكان الأئمة (عليهم السلام) ـ وهم العالمون بما كان وما يكون ـ يتخذون الوسائل العادية لدفع الأضرار عنهم إذا علموا تأخّر القضاء من مراجعة الطبيب، أو الشخوص نحو المهيمن جلّ شأنّه، أو الشكوى إلى جدّهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما سُقي الإمام الحسن (عليه السلام) العسل المسموم وأعتلّ تداوى بالحليب، فعوفي، وحين عادت إليه العلّة أخذ يسيراً من تربة النّبي ومزجها بالماء فشربه وعوفي(21).
وقال الإمام الهادي (عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري حين مرض بسامراء: " ابعثوا رجلاً إلى (الحائر) يدعو اللّه لي بالشفاء من العلّة ".
فقال علي بن بلال: ما يصنع بالحير، أليس هو الحير؟! فلم يدرِ أبو هاشم ما يجيبه حتّى دخل علي الهادي (عليه السلام) وحكى له قوله، فقال (عليه السلام): " ألا قلت له: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت، ويقبّل الحجر، وحرمة النّبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمره اللّه تعالى أن يقف بعرفات، وإنّما هي مواطن يحبّ
اللّه أن يُذكر فيها، وأنا أحبّ أن يدّعى لي حيث يحبّ اللّه أن يدّعى فيها(22).
والغرض من هذا كلِّه التعريف بأنّه لم يجب في التكوينات إلاّ جري الأُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية، وأنّه لا غناء عنها لأيّ أحد، وأنّ الأئمة من أهل البيت وإن أمكنهم إعمال ما أقدرهم عليه اللّه سبحانه من التصرّفات حسبما يريدون، لكنّهم في جميع أدوارهم مقتدى الأُمّة ومسيروهم إلى ما يراد منهم من أمر الدّين والدنّيا، فعلى نهجهم يسير الناس، وبأفعالهم يتأسى البشر، وبإرشادهم ترفع حُجب الأوهامّ.
وعلى هذا الأساس مشى أمير المؤمنين في اختيار الزوجة الصالحة.
على أنّ التأمّل في كلامه يفيدنا عدم الاستشارة من أخيه، فإنّه قال لعقيل: انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، فهو (عليه السلام) في مقام الطلب من أخيه أن يخطب امرأةً تصلح له، لا أنّه في مقام الاستشارة والاستطلاع منه، لكونه عالماً بأنساب العرب، وعارفاً ببيوتات الشرف والمنعة والفروسيّة.

سلسلة الآباء

سلسلة الآباء
هو العبّاس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
إلى هنا يقف الباحث عن الإتيان بباقي الآباء الأكارم الى آدم، بعد ما يقرأ قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا بَلغ نسبي إلى عدنان فامسكوا "(23).
وكأنّه نظر الى غرابة تلكم الأسماء، وتعاصيها على نطق العامة، فكان التصحيف إليها أسرع شيء، فيعود وهناً في ساحة جلالتهم، وخفةً في مقدارهم، وقد ولدوا الرّسول الأعظم والوصي المقدّم صلّى اللّه عليهم أجمعين.
وكيف كان فالمُهمّ الذي يجب الهتاف به هو كون كُلّ واحد من هؤلاء الأنجاب غير مدنّس بشيء من رجس الجاهلية، ولا موصوماً بعبادة وثن، وهو الذي يرتضيه علماء الحقّ، لكونهم صدّيقين بين أنبياء وأوصياء.
وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس: { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }(24)، فإنّه أثبت لهم جميعاً ـ بلفظ الجمع المحلّى باللام ـ السّجود الحقّ الذي يرتضيه لهم.
وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لا بدّ أن يكون من الشريعة المشروعة لهم، أو يكون له معنىً تظهره الدراية والتنقيب.
وليس آزر ـ الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود ـ أبا إبراهيم الخليل(25)، الذي نزل من ظهره، لأنّ أباه اسمه تارخ، وآزد:
إمّا أن يكون عمّه، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز، وجاء به الكتاب المجيد: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ }(26)فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمّه، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه.
وإمّا أن يكون آزر جدّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون، والجد للأُمّ أب في الحقيقة، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ }(27).
فميّزه باسمه، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الأُبوّة عن التسمية بآزر.
وصرّح الرسول بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فقال: " لمّا أراد اللّه أن يخلقنا، صوّرنا عمود نور في صلب آدم، فكان ذلك النور يلمع في جبينه، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث، وفيما أوصاه به ألاّ يضع هذا النور إلاّ في أرحام المطهّرات من النساء،
ولم تزل هذه الوصيّة معمولاً بها يتناقلها كابر عن كابر، فولدنا الأخيار من الرجال والخيرات المطهّرات المهذّبات من النساء، حتّى انتهينا الى صلب عبد المطلب، فجعله نصفين: نصف في عبد اللّه فصار إلى آمنة، ونصف في أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ".
أمّا " عدنان " فقد أوضح في خطبه في ظهور النّبي وأنّه من ذريّته وأوصى باتباعه.
وكان ابنه " معد " صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممّن حاد عن التوحيد، ولم يحارب أحداً إلاّ رجح عليه بالنصر والظفر، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل أمر اللّه أرميا أن يحمله معه على البراق كيلا تصيبه نقمة بخت نصر، وقال سبحانه لارميا: إنّي سأخرج من صلبه نبياً كريماً اختم به الرسل، فحمله الى أرض الشام الى أن هدأت الفتن بموت بختنصّر(29).
وكان السبب في التسمية بـ " نزار " أنّ أباه لمّا نظر إلى نور النبوّة يشع من جبهته سرّه ذلك، فأطعم الناس لأجله وقال: إنه نزر في حقّه(29).
وورد النهي عن سبّ ربيعة ومضر ; لأنّهما مؤمنان، ومن كلام مضر: من يزرع شرّاً يحصد ندامةً.
و" إلياس بن مضر " كبير قومه وسيّد عشيرته، وكان لا يقضى أمر دونه، وهو أوّل من هدى البدن إلى البيت الحرام، وأوّل من
ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح، وكان مؤمناً موحّداً، ورد النهي عن سبّه(30).
وقد أدرك مدركة بن إلياس كلّ عز وفخر كان لآبائه، وكان فيه نور النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و" كنانة " شيخ عظيم القدر حسن المنظر، كانت العرب تحجّ إليه لعلمه وفضله، وكان يقول: قد آن خروج نبيّ من مكة يدعى أحمد، يدعو إلى اللّه وإلى البرّ والاحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفاً وعزاً إلى عزّكم، ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحقّ. وممّا يؤثر عنه: " ربّ صورة تخالف المخبرة قد غرت بجمالها واختبر قبح فعالها، فاحذر الصور واطلب الخبر "، وكان يأنف أن يأكل وحده.
وولده " النضر " (قريش عند الفقهاء) فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي، وإنّما أولاده مثل مالك وفهر، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده فليس بقرشي(31).
وأمّا " فهر " فقد حارب حسّان بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره الناس، فانتصر فهر وأسر حسّان وانهزمت حمير، وبقي حسّان في الأسر ثلاث سنين، ثمّ فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهراً وأعظموه وعلا أمره، خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النبوّة.
ويؤثر عنه قوله لولده غالب: " قليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك "، وكان موحّداً(32).
ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النّبي، ويُعلم قريشاً أنّه من ولده، ويأمرهم باتباعه ويقول: " اسمعوا وعوا وتعلّموا تعلموا وتفهّموا تفهموا، ليل داج ونهار ساج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين، كلّ ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتاً نشر الدار أمامكم؟ والظنّ خلاف ما تقولون، زيّنوا حرمكم وعظّموه وتمسّكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبيّ كريم، ثمّ قال:
نهارٌ وليلٌ واختلاف حوادث سواءٌ عَلينا حلوُها ومريرُها
يؤوبان بالأَحداثِ حتّى تأوّبا وبالنعمِ الضافي علينا ستُورها
على غفلة يأتِي النّبي محمّد فيُخبر أخباراً صدوقاً خبيرها
ثمّ قال:
يَاليتني شاهِد فَحْواء دعوتهِ حتّى العشيرةِ تبغي الحقّ خُذلانا(33)
ولجلالته وشرفه في قومه أرخوا بموته ثمّ أرخوا بعام الفيل، ثمّ بموت عبد المطلب، وهو أوّل من سمّى يوم الجمعة ; لاجتماع قريش فيه، وكان اسمه في الجاهلية العروبة، ولما جاء الإسلام أمضاه(34).
و" كلاب بن مرّة " الجد الثالث لآمنة أُمّ النّبي والرابع لأبيه عبد اللّه، كان معروفاً بالشجاعة، ونور النّبي لائح في جبهته.
ولا تسل عن سيّد الحرم " قصي " فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكة، وأمرهم بالبناء حول البيت ; لتهابهم العرب، فبنوا حول جوانبه الأربعة، وجعلوا لهم أبواباً تخصهم، فباب لبني شيبة، وباب لبني جمح، وباب لبني مخزوم، وباب لبني سهم. وتركوا قدر الطواف بالبيت، وبنى قصي دار الندوة للمشاورة والتفاهم فيما يعرض عليهم من المهمات، وتيمّنت قريش برأيه وسمّي مجمعاً.
وعند مجيء الحاج قال لقريش: " هذا أوان الحجّ، وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كلّ انسان منكم من ماله خرجاً ". ففعلوا وجمع مالاً كثيراً، ولمّا جاء الحاج نحر لهم على كلّ طريق من طرق مكة جزوراً، غير ما نحره بمكة، وأوقد النار بالمزدلفة ليراها الناس(35).
وصنع للناس طعاماً أيام منى، وجرى عليه الحال حتّى جاء الإسلام، فالطعام الذي يصنعه السلطان أيام منى كلّ عام من آثار قصي(36).
ومن هنا خضعت خزاعة لقصي، وسلّمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام، بعد أن كانت عند حليل وعند قصي ابنته وهي أُمّ أولاده.
تولّى قصي سدانة البيت: إمّا بوصاية من حليل عند الموت إليه، أو أنّها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة، فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة، أو أنّ أبا غبشان الخزاعي كان وصيّ حليل على هذه السدانة، فعاوضه عليها قصي بأثواب وأذواد من الإبل.
هذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت، ويتفق مع العقل الحاكم بنزاهة جدّ الرسول الأقدس خاتم الأنبياء عمّا تأباه شريعة إبراهيم الخليل من المعاوضة بالخمر المحرم في جميع الأديان.
أيجوز لجدّ الرسول أن يجعل للخمر قيمة ـ وثمنها سحت ـ وهو المانع عنها، المحذّر قومه منها؟! فإنّه قال لولده وقومه: " اجتنبوا الخمر، فإنّها لا تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان "، فكيف يعاوض بها؟! بل لا يتحيّل إلى مطلوبه بالخمر وهو القائل: " من استحسن قبيحاً نزل إلى قبحه، ومن أكرم لئيماً أشركه في لؤمه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحقّ الحرمان، والحسود هو العدو الخفي "(37).
وقد جمع أطراف المجد والشرف " عبد مناف " بن قصي، ولبهائه وجمال منظره قيل له: " قمر البطحاء "، وكان سمحاً جواداً لا يعدم أحداً من ماله حتّى في أيام أبيه، فقيل له: " الفيّاض ".
ويسمّى مناف ; لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتّى ضربت له الركبان من أطراف الأرض(38)، وكان اسمه عبداً، ثمّ اُضيف إلى
مناف فقيل له: " عبد مناف " وهذا هو الصحيح المأثور.
وأمّا ما أثبته ابن دحلان في السيرة النبوية من أن أُمّه اخدمته صنماً اسمه مناف، بعيد عن الصواب ; إذ لا شكّ في نزاهة آباء النّبي وأُمهاته في جميع أدوار حياتهم من الخضوع للأصنام كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظم، فليس بصحيح ما يقال: من أنّ في آباء النّبي وأُمهاته من يعبد الصنم، أو يخضع له ; لشهادة ما تقدّم من الأحاديث عليه، وإليه أشار البوصيري:
لم تَزل فِي ضَمائِر الكَونِ تَختَارُ لَكَ الأُمهاتَ والآباءَ(39)
على أنّه لم يكن من الأصنام اسمه " مناف "، وإنّما الموجود " مناة " بالتاء المثناة من فوق، ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الأصنام: 32: " لا أدري أين كان هذا الصنم؟ ولمن كان؟ ومن نصبه "(40).
ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير: أنّ أُمه أخدمته مناة (بالتاء المثناة من فوق) فسمي عبد مناة، ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوّله عبد مناف.
وكان بيت عبد مناف أشرف بيوتات قريش(41)، ولسيادته كان عنده قوس إسماعيل ولواء نزار.
ومن وصيّته ما وجد مكتوباً في بعض الأحجار: أوصى قريشاً بتقوى اللّه جلّ جلاله وصلة الرحم(42).
وجرى ابنه هاشم على سيرته حتّى فاق قريشاً وسائر العرب، واذعنوا له، وكان يُطعم الحّاج، كما كان يصنع أبوه. وأصابت قريشاً سنة مُجدِبة، فخرج هاشم الى الشام واشترى الدقيق والكعك، فهشم الخبز، ونحر الجزر، وأطعم الناس حتّى أشبعهم. وكانت مائدته منصوبةً لا ترفع في السّراء والضّراء، وكان يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف، وإذا أهلّ هلالّ ذي الحجّة قام في صبيحته وأسند ظهره الى الكعبة من تلقاء بابها وخطب الناس فقال:
" يا معشر قريش ; إنّكم سادة العرب، أحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً، وأوسطها نسباً، وإنّكم جيران بيت اللّه، أكرمكم اللّه بولايته، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوار اللّه يعظّمون بيته، فهم أضيافه، وحقّ من أكرم أضياف اللّه أنتم ; فأكرموا ضيفه وزواره، فإنّهم يأتونه غبراً من كلّ بلد، على ضوامر كالقداح، فوربَّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوار بيت اللّه وتقويتهم ـ إلاّطيّباً، لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصباً ".
فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم، ويضعونه في دار الندوة(43); وكان هاشم يطعم الحاجّ بمكة ومنى وعرفة وجمع(44).
وهو أوّل من سنّ لقريش الرحلتين ; رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام، وأخذ لهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به(45) ; وذلك إنّ تجار قريش لم تعد تجارتهم نفس مكة وضواحيها، وإنّما تقدّم عليهم الأعاجم بالسلع، فيشترونها، حتّى رحل هاشم إلى الشام ونزل على قيصر، فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر، فلم يحجبه، وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة، وكتب أماناً بينهم، فارتقت منزلة هاشم بين الناس، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام، وجعل له معهم ربحاً، وساق لهم إبلاً مع إبله، وكفاهم مؤونة الأسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، فكان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش بذلك، وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم، وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(46).
وكان يقول في خطبته: " أيُّها الناس نحن آل إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكُلّ في كلّ خلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته، إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم.
يا بني قصي، أنتم كغصني شجرة أيّهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلاّ بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج وأخرجه إلى البغي.
أيّها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام هول، والدهر غيِّر، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرف، وتهدم المجد، وإنّ نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به "(47).
ولنور النبوّة الحالّ في جبهته كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء، ولم يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ ناداه: أبشر يا هاشم، سيظهر من ذريّتك أكرم خلق اللّه مُحمّد خاتم النبيّين.
وأوصاه أبوه ـ عبد مناف ـ بما أوصاه به أبوه قصي: أن لا يضع نور النبوّة إلاّ في الأرحام الطاهرات من النساء، وأخذ عليه العهد بذلك، فقبل.
وقد تقدّم أنّها موروثة من آدم (عليه السلام)، ومن هنا رغب الأشراف من الأكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى، حتّى إذا رأى
في المنام قائلاً يقول: عليك بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث ابن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النجار، فإنّها طاهرة مطهّرة الأذيال، ليس لها مشبه من النساء، فادفع المهر الجزيل، فإنّك ترزق منها ولداً يكون منه النّبي، فمشى هاشم وأخوه المطلب وبنو عمِّه إلى المدينة ومعهم لواء نزار وعليهم أفخر الثيّاب والدروع.
ولمّا اجتمع القوم خطب المطلب بن عبد مناف فقال: " نحن وفد بيت اللّه الحرام، والمشاعر العظام، وإلينا سعت الأقدام، وأنتم تعلمون شرفنا وسؤددنا، وما خصّنا به اللّه من النور الساطع والضياء اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النور إلى عبد مناف، ثُمّ إلى أخينا هاشم، وهو معنا من آدم (عليه السلام)، وقد ساقه اللّه إليكم، وأقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون ".
فأجابه عمرو ـ أبو سلمى ـ بالقبول والإنعام، وساقوا المهر كما أرادوا.
ولمّا تزوّج منها هاشم، ودخل بها، وحملت بعبد المطلب انتقل إليها النور، وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك، إلاّ أنّ هاشماً عرّفها أمر النّبي(48).
فلمّا ولدت عبد المطلب كان يدعى (شيبة الحمد) ; لكثرة حمد الناس له، لكونه مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأُمور، فكان شريف قومه وسيّدهم كمالاً ورفعةً، غير مدافع عن ذلك، وهو من حلماء قريش وحكمائها.
وقد سنّ أشياءً أمضاها له الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدّق به، وسنّ في القتل مائة من الإبل، ولم يكن للطواف عدد عند قريش. فسنّه سبعة أشواط، وقطع يد السارق، وحرّم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يستقسم بالأزلام، ولا يؤكل ما ذبح على النصب(49).
ومما يؤثر عنه: " الظلوم لن يخرج من الدنيا حتّى ينتقم منه، وإنّ وراء هذا الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإذا لم تصب الظلوم في الدنيا عقوبة فهي معدة له في الآخرة "(50).
وقيل له: الفيّاض ; لكثرة جوده ونائله، حتّى إنّ مائدته يأكل منها الراكب، ثُمّ ترفع إلى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطير والوحوش(51).
ولعزّه المنيع وشرفه الباذخ كان يفرش له بإزاء الكعبة، ولم يفرش لأيّ أحد غيره، ولا يجالسه على بساط الأُبهة إلاّ نبيّ العظمة(52)، وإذا أراد أحد أعمامه أن ينحيه صاح به عبد المطلب وقال: " إنّ له لشأناً وملكاً عظيماً "(53).
ولا غرو في ذلك بعد أن كان وصيّاً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية، ولقد أخبر أبو طالب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " كان أبي
يقرأ الكتب جميعاً " وقال: " إنّ من صلبي نبيّاً، لوددت أنّي أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به "(54).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " واللّه ما عَبدَ أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنماً، وإنّما كانوا يعبدون اللّه، ويصلّون إلى البيت على دين إبراهيم، متمسّكين به "(55).
وكان أبو طالب سيّد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد، عالماً بما جاء به الأنبيّاء، وأخبرت به أُممهم من حوادث وملاحم ; لأنّه وصيّ من الأوصياء، وأمين على وصايا الأنبياء حتّى سلّمها إلى النّبي(56).
قال درست بن منصور: قلت لأبي الحسن الأوّل: أكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) محجوجاً بأبي طالب؟
قال: " لا، ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " قلت: دفعها إليه على أنّه محجوج به؟
قال (عليه السلام): " لو كان محجوجاً به ما دفعها إليه ".
قلت: فما كان حال أبي طالب؟
قال: " أقرّ بالنّبي وبما جاء به حتّى مات "(57).
وقال المجلسي: " أجمعت الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قطّ، وأنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) "(58).
وحكى الطبرسي إجماع أهل البيت على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك.
وقال الصدوق: " كان عبد المطلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأنّ النّبي، وكانا يكتمان ذلك عن الجهّال والكفرة "(59).
وممّا يشهد على أنّه كان على دين التوحيد وملّة إبراهيم، أنّ قريشاً لمّا أبصرت العجائب ليلة ولادّة أميّر المؤمنين، خصوصاً لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن بهم ما شاهدوه ارتجّ الجبل، وتساقطت الأصنام، ففزعوا إلى أبي طالب ; لأنّه مفزع اللاجىء، وعصمة المستجير، وسألوه عن ذلك، فرفع يديه مبتهلاً إلى المولّى جلّ شأنه قائلاً: " إلهي أسألك بالمحمّدية المحمّودة، والعلويّة العالّية، والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمّة، فسكن ما حلّ بهم، وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات، وهي لا تعرف حقيقتها "(60).
ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول وخصّه به دون بنيه وقال:
وصيّت من كنيّته بطالّب عبدَ مناف وهو ذو تجارّب
بابنِ الحبيّبِ أكرمِ الأقارّب بابن الّذي قَدْ غابَ غيرَ آئب
فقال أبو طالب:
لا تُوصني بلازم وواجب إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ
من كُلّ حبر عالم وكاتب بأنّ بحمّد اللّه قول الراهبِ(61)
فقال عبد المطلب: " أُنظر يا أبا طالب أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يَشمّ رائحة أبيّه، ولم يذق شفقة أُمّه، أُنظر أن يكون من جسّدك بمنزِّلة كبدك، فإنّي قد تركت بنيّ كُلّهم وخصصتك به، لأنّك من أُمّ أبيّه، وأعلم فإنّ استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنّه واللّه سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيّتي "؟
قال: " نعم، قد قبلتُ، واللّه على ذلكِ شاهد ".
فقال عبد المطلب: " الآن خفف عليَّ الموت "، ولم يزل يقبله ويقول: " اشهد أنّي لم أر أحداً في ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً "(62).
وفرح أبو طالب بهذه الحظوة من أبيه العطوف، وراح يدّخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبيّ الرحمّة، فقام بأمره، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود والعرّب وقريش، وكان يؤثره على أهلّه ونفسه، وكيف لا يؤثره وهو يشاهد من ابن أخيّه ولمّا يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبةً ورجاحة، أكثر ضحكه الابتسام، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع.
وإذا وضع له الطعام والشراب لا يتناول منه شيئاً إلاّ قال: " بسم اللّه الأحد "، وإذا فرغ من الطعام حمِد اللّه وأثنى عليه، وإن رصده في نومه شاهد النور يسطع من رأسه إلى عنان السماء(63).
وكان يوماً معه بذي المجاز، فعطش أبو طالب ولم يجد الماء، فجاء النّبي إلى صخرة هناك وركلها برجله، فنبع من تحتها الماء العذب(64). وزاد على ذلك توفر الطعام القليل في بيته حتّى إنّه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النّبي منه شيئاً(65).
وهذا وحدّه كاف في الإِذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أضف إلى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوّجه من خديجة: " وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل "(66).
وفي وصيته لقريش: " إنّي أوصيّكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكُلّ ما أوصاكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان "(67).
ولمّا جاء العبّاس بن عبد المطلّب يخبره بتألّب قُريش على معاداة الرسول قال له: " إنّ أبي أخبرني أنّ الرسول على حقِّ، ولا
يضرّه ما عليه قريش من معاداة له، وإنّ أبي كان يقرأ الكتب جميعاً، وقال: إنّ من صلّبي نبيّاً لوددت أنّي أدركته فآمنت به، فمن أدركه فليؤمن به "(68).
واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب، مع أنّه كان يقرؤها مثله، يدلّنا على تفنّنه في تنسيق القياس وإقامة البرهان على صحة النبوّة، وأنّ الواجب اعتناق شريعته الحقّة.
أمّا هو نفسه فعلى يقين من أنّ رسالة ابن أخيه خاتمة الرسل، وهو أفضل من تقدّمه قبل أن يشرق نور النبوّة على وجه البسيطة، ولم تجهل لديه صفات النّبي المبعوث.
وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهلِّ العلم من الأحبار حينّما أسرّ إليه بأنّ ابن أخيه محمّد الروح الطيّبة، والنّبي المطهّر على لسان التوراة والانجيل، فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشوا الخبر، ثمّ قال له: " إنّ أبي أخبرني أنّه النّبي المبعوث، وأمر أنّ أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ".
ولو لم يكن معتقداً صدق الدعوة لما قال لأخيه حمزة لما أظهر الإسلام.
فصَبْر أبا يَعلى على دينِ أحمد وكُن مظهراً للدين وُفّقت صابراً
وحطْ من أتى بالدين من عندِ ربِّه بصدق وحقّ لا تكن حمز كافراً
فقد سرّني إذ قلت إنّك مُؤمن فكنْ لرسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصراً
ونادِ قُريشاً بالذي قَدْ أتيته جهاراً وقُلّ ما كان أحمدَ ساحراً(69)
وقال راداً على قريش:
أَلَمْ تَعْلَموا أنّا وجدنا محمّداً نبيّاً كموسى خطَّ في أوّل الكتّب(70)
وقال:
وأَمسى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً على سخط من قَومنا غيرَ معتّب(71)
وقال:
أمينٌ محبّ في العبادِ مسوّم بخاتمِ ربِّ قاهر للخواتمِ
يرى الناسَ بُرهاناً عليه وهيّبة وما جاهل في فعلهِ مثل عالمِ
نبيّ أتاه الوحي من عندِ ربِّه فمَن قال لا يقرع بها سنّ نادم(72)
وممّا خاطب به النجاشي:
تَعْلم خيارُ الناسِ أنّ محمّداً وزيرٌ لموسى والمسيّح بن مريّم
أتى بالهدى مثَلَ الذي أتيَا بهِ فكُلّ بأمر اللّه يهدّي ويَعصِمُ
وإنّكم تتلونه في كتابكم بِصدقِ حديث لا حديثَ المُترجم
فلا تجعلوا للّهِ نداً وأسلموا فإنّ طريق الحقِّ ليس بمُظلِمِ
وقال:
اذهب بُنيّ فمَا عليكَ غَضاضَة اذهب وقرّ بذاك مِنك عيوناً
واللّه لن يَصلوا إليكَ بجمعهِم حتّى أُوسدَ في التّراب دفيناً
ودعوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي ولقد صدقتَ وكُنتَ قَبلُ أميناً
وذكرتَ ديناً لا محالة أنّه من خير أديانِ البريّة ديناً(73)
وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحداً الريبُ في إيمان أبي طالب؟
وهل يجوز على من يقول: " إنّا وجدنا محمّداً كموسى نبياً " إلاّ الاعتراف بنبوته والإقرار برسالته كالأنبياء المتقدّمين؟
وهل يكون إقرار بالنبوّة أبلغ من قوله: " فأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدقاً "؟
وهل فرق بين أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وبين أن يقول:
وإن كانَ أحمد قَدْ جاءَهم بصدق ولم يتهم بالكذبِّ(74)
أو يعترف الرجل بأنّ محمّداً كموسى وعيسى جاء بالهدى والرشاد مثل ما أتيا به ثُمّ يحكم عليه بالكفر؟!
وهل هناك جملة يعبّر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:
وذكرت ديناً لا محالة أنّه من خيرِ أديّان البريّة ديناً؟
كلاّ! ولو لم يعرف أبو طالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله وهو به خبير وجنانه طامن: " يابن أخي اللّه أرسلك "؟
قال: " نعم ".
قال: " إنّ للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية "؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عم ادع تلك الشجرة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبد اللّه: أقبلي بإذن اللّه "! فدعاها أبو طالب فأقبلت حتّى سجدت بين يديه، ثُمّ أمرها بالانصراف فانصرفت، فقال أبو
طالب: " أشهد أنّك صادق "، ثُمّ قال لابنه علي (عليه السلام): " يا بنيّ ألزمه "(75).
وقال يوماً لعلي: " ما هذا الذي أنت عليه "؟
قال: " يا أبة آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، ودخلت معه واتبعته ". فقال أبو طالب: " أما أنّه لا يدعك إلاّ إلى خير فالزمه "(76).
وهل يجد الباحث بعد هذا كُلّه ملتحداً عن الجزم بأنّ شيخ الأبطح كان معتنقاً للدّين الحنيف، ويكافح طواغيت قريش حتّى بالإِتمام مع النّبي في صلابة، وإن أهمله فريق من المؤرّخين رعاية لمّا هم عليه من حبّ الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف، حنقاً على ولده (الإِمام) الذي لم يتسنّ لهم أي غميزة فيه، فتحاملوا على أُمّه وأبيه، إيذاءً له، واكثاراً لنظائر من يرومون إكباره وإجلاله ممّن سبق منهم الكفر، وحيث لم يسعهم الحظّ من كرامة النّبي أو الوصيّ عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات، وربما ستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثاراً لما يروقهم اثباته!!
ويشهد لذلك ما ذكره بعض الكتّاب عند ذكرى أسرى بدر فقال: " وكان من الأسرى عمِّ النّبي، وعقيل ابن عمه (أخو علي) "(77).
فإنّه لو كان غرضه تعريف المأسور لكان في تعريف عقيل بأنّه ابن عمّ النّبي كفاية، كما اكتفى في تعريف العبّاس بأنّه عَمُّ النّبي، ولم يحتج أن يكتب بين قوسين (أخو علي)، وأنت تعرف المراد من ذكر هذه الكلمة بين قوسين، وإلى أيّ شيء يرمز بها الكاتب، ولكن فاته الغرض وهيهات الذي أراد ففشل.
ثُمّ جاء فريق آخر من المؤرّخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض المستهدفة، وأنّ ما جاءوا به حقائق راهنة، فاقتصر على مرويّاتهم ممّا دبّ ودرّج، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة، ومن هنا أُهملت حقائق ورويت أباطيل.

فعزوا إلى أبي طالب قوله: " إنّي لا أحبّ أن تعلوني أستي "!(78)

خلافه

خلافه
يضاف إلى ذلك تناقض آخر ; إذ ذكروا أنّ أبا طالب مات مشركاً، لا لأجل هذه المقوله: " إنّي لا أحبّ أن تعلوني أُستي "، بل لأجل ما ذكروا من قول أبي طالب: " إنّي لا أعلم أنّ ما يقوله ابن أخي لحقّ، ولولا أنّي أخاف أن تعيّرني نساء قريش لاتبعته ".
فيكون عدم الاتباع لأجل هذا، لا ما تقدّم.
فاذن الحديث ضعيف سنداً، ومن الجهة الأخرى فيه مشاكل مقنية تأبى قبوله أو التصديق به، فيكون من مختلقات العثمانيين.
ثُمّ رووا عنه أنّه قال لرسول اللّه: " ما هذا الدّين "؟
قال رسول اللّه: " دين اللّه، ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم، بعثني اللّه به إلى العباد، وأنت أحقّ من دعوته إلى الهدى وأحقّ من أجابني ".
فقال أبو طالب: " إنّي لا استطيع أن أُفارق ديني ودين آبائي، واللّه لا يخلص إليك من قريش شيء تكرهه ما حييت "(79).
فحسبوا من هذا الكلام أنّ أبا طالب ممّن يعبد الأوثان، كيف! وهو على التوحيد أدلّ!
وجوابه: هذا من أنفس التورية وأبلغ المحاورة، فإنّ مراده من قوله لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عقيب قوله: " أنت أحق من دعوته ": " إنّي لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي " الاعتراف بإيمانه، وأنّه باق على الملّة البيضاء، وحنيفية إبراهيم الخليل الذي هو دين الحقّ والهدى، وهو دينه ودين آبائه، ثُمّ زاد أبو طالب في تطمين النّبي بالمدافعة عنه مهما كان باقياً في الدنيا.
نعم، من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواصّ التورية يحسب أنّ أبا طالب أراد بقوله: " إنّي لا أُفارق ديني... إلى آخره " الخضوع للأصنام، فصفق طرباً، واختال مرحاً.
وجاء الآخر يعتذر عنه بأنّه كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش، ليتمكّن من كلائة النّبي وتمشية دعوته.
نحن لا ننكر أنّ شيخ الأبطح كان يلاحظ شيئاً من ذلك ويروقه مداراة القوم في ما يمسّ بكرامة الرسول للحصول على غايته الثمينة، لكنّا لا نصافقهم في كلّ ما يقولون: من انسلاله عن الدّين الحنيف إنسلالاً باتاً، فإنّه خلاف الثابت من سيرته حتّى عند رواة تلكم المخزيات، ومهملي الحقائق الناصعة، حذراً عمّا لا يلائم خطتهم، فلقد كان يراغم أُولئك الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والائتمام بالصلاة مع النّبي.
وإنّ شعره الطافح بذكر النبوّة والتصديق بها سرت به الركبان، وكذلك أعماله الناجعة حول دعوة الرسالة:
ولولاَ أبُو طَالب وابنِهِ لمّا مَثُلَ الّدِين شَخصاً فَقامَا
فَذاكَ بِمَكةَ آوى وحَامَا وهذا بيثرِبَ جَسّ الحِمامَا
تَكفّل عَبدُ مُناف بِأمر وأَودىَ فَكَان عليٌ تَمامَا
فللِّه ذا فَاتِحُ للهُدَى وللّه ذا للمَعالِي خِتامَا
وما ضَِرّ مَجدُ أبي طَالب عَدو لغا أو جَهول تعامى(80)
وأمّا أمير المؤمنين فيخرس البليغ عن أن يأتي على صفاته، ويقف الكاتب متردّداً وما عساه أن يقول في من قال فيه أبوه أبو طالب، لمّا فزعت قريش إليه ليلة ولادة أمير المؤمنين إذا أبصروا عجائب لم يروها ولم يسمعوا بها:
" أيّها الناس سيظهر في هذه الليلة ولّي من أولياء اللّه، يكمّل فيه خصال الخيّر، ويتمّ به الوصيّين، وهو إمام المتقين، وناصّر الدّين، وقامع المشركين، وغيّظ المنافقين، وزيّن العابدين، ووصيّ رسول ربِّ العالمين، إمام هدىً، ونجم علا، ومصباح دجىً، ومبيد الشرك والشبهات، وهو نفسّ اليقيّن ".
ولم يزل يكرّر هذا القول وهو يتخلّل سكك مكة وأسواقها حتّى أصبح(81).
ويقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ضربة علي عمرو بن ود تعدل عِبادة الثقلين "(82).
وقال يوم خيبر: " لأعطينّ الراية رجلاً يُحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله، لا يرجع حتّى يفتح فأعطاها لعلي (عليه السلام)، وكان الفتح على يده "(83).
وبعد هذا فلنقف عن الاتيان بما أودع اللّه فيه من نفسيات وغرائز، شكرها لَهُ الإسلام.
نعم، يجب أن نلفت القارئ إلى شيء أكثر البحث فيه رواة الحديث وهو: الإسلام حال الصغر، وتردّدت الكلمة في الجوامع،
وتضاربت فيها الأقوال، ولا يهمنا إطالة القول فيها:
1 ـ فإنّا لا نقول: إنّ أمير المؤمنين أوّل من آمن وإن كان هو أوّل من وافق الرسول على مبدأ الإسلام لمّا صدع بالأمر، ولكنّا نقول: متى " كفر " علي حتّى يؤمن!! وإنّما كان هو وصاحب الدعوة الإلهية عارفين بالدّين وتعاليمه، معتنقين له، منذ كيانهما في عالم الأنوار قبل خلق الخلق، غير أنّ ذلك العالم مبدأ الفيض الأقدس ووجودهما الخارجي مجراه، فمحمّد نبيّ وعلي وصيّ وآدم بين الماء والطين صلّى اللّه عليهم أجمعين.
2 ـ على أنّ نبيّ الإسلام، وهو العارف بأحكامه، والذي خطّط لنّا التكاليف قبل إسلام ابن عمِّه، وأنجز له جميع ما وعده به من الإخوّة والوصاية والخلافة، يوم أجاب دعوته وآزره على هذا الأمرّ وقد أُحجم عنه عندما نزلت آية: { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ }(84).
وهل ترى أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يومئذ يجد في شريعته عدم الجدوى بإسلام مثل علي (عليه السلام) لصغره، إلاّ أنّه حاباه، كلاّ وحاشا...!
وإنّما قابله بكلّ ترحيب، وخوّله ما لا يخوّل أحداً صحة إسلامه عنده، بحيث كان على أساس رصين، فاتخذه ردءاً، كمن اعتنق الدين عن قلب شاعر، ولبّ راجح، وعقلية ناضجة يغتنم بذلك محاماته ومرضاة أبيه في المستقبل:
وإذا أكبرنا النّبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كلّ مداهنة ومصانعة، فلا نجد مسرحاً في المقام لأيّ مقال إلاّ أن نقول: إنّ إسلام علي (عليه السلام)كان عن بصيرة وثبات مقبول عند اللّه ورسوله وكان ممدوحاً منهما عليه.
كما تمدّح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) غير مرّة وهو أعرف الأُمّة بتعاليم الدّين بعد النّبي الكريم فقال: " أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي الاّ كاذب مفتر، صلّيت مع رسول اللّه قبل الناس بسبع سنين "(85).
وقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنت أوّل المؤمنين إيماناً واسلاماً "(86).
كما مدحته الصحابة بذلك، وهم أبصر من غيرهم يوم كانوا يغترفون من مستقى العلم ومنبع الدين.
وعلى هذا الأساس تظافر الثناء عليه من العلماء والمؤلّفين والشعراء وسائر طبقات الأُمّة بأنّه أوّل من أسلم، لكن هناك ضالع في سيره حسب شيئاً فخانته هاجسته وهوى إلى مدحره الباطل فقال: إنّ علياً أسلم وهو صغير!! يريد بذلك الحطّ من مقامه وليس هناك.
3 ـ ولو تنازلنا عن جميع ذلك فمن أين علمنا أن اشتراط البلوغ في التكليف كان مشروعاً في أوّل البعثة، فلعلّه كبقية الأحكام التدريجية نزل به الوحي فيما بعد، ولقد حكى الخفاجي
في شرح الشفا ج3 ص125 في باب دعاء النّبي على صبي عن البرهان الحلبي والسبكي: أنّ اشتراط الأحكام بالبلوغ إنّما كان بعد واقعة أحد، وعن غيرهما أنّه بعد الهجرة، وفي السيرة الحلبية ج1 ص304 أنّ الصبيان يومئذ مكلّفون وإنّما رفع القلم عن الصبي عام خيبر. وعن البيهقي أنّ الأحكام إنّما تعلّقت بالبلوغ في عام الخندق أو الحديبية وكانت قبل ذلك منوطة بالتمييز(87)(88).
4 ـ على أنَّا معاشر الإمامية نعتقد في أئمة الدّين بأنّهم
حاملون أعباء الحجّة، متحلّون بحلّي الفضائل كُلّها، منذ الولادة، كما بعث عيسى في المهد نبيّاً، وأُوتي الحكم يحيى صبيّاً، غير أنّهم بين مأمور بالكلام أو مأمور بالسكوت حتّى يأتي أوانه، فلهم أحكام خاصّة غير أحكام الرعيّة، ومن أقلّها قبول إجابة الدعوة ونحوها.
فإذن، لا مساغ لأيّ أحد البحث في المسألة.
هذه هي السلسلة الذهبية التي تحلّى بها أبو الفضل وهي (آباؤه الأكارم)، وقد اتحد مع كُلّ حلقة منها الجوهر الفرد، لاثارة الفضائل، فما منهم إلاّ من أخذ بعضادتي الشرف، وملك أزمة المجد والخطر، قد ضَمّ إلى طيب المحتد عظمة الزعامة، وإلى طهارة العنصر نزاهة الإيمان، فلاترى أيّاً منهم إلاّ منارَ هدىً، وبحرَ ندىً، ومثالَ تُقىً، وداعية إلى التوحيد وإلى بسالة وبطولة وإباء وشمم، وهم الّذين عرقوا في سيّدنا العبّاس (عليه السلام) هذه الفضائل كُلّها، وإن كان القلم يقف عند انتهاء السلسلة إلى أمير المؤمنين، فلا يدري اليراع ما يخطّ من صفات الجلاّلّ والجمالّ، وأنه كيف عرّقها في ولدِهِ المحبوب (قمر الهاشميين).

الأعمام

الأعمام
هلمّ معي أيّها القارئ لنقرأ صحيفة بيضاء مختصرة من حياة أعمام أبي الفضل، الّذين هُم أغصان تلك الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فإنّ للعمّومة عِرقاً يضرب في نفسيّات المولّود من فضائل وفواضل، وقد جاء في الحديث: " الولّد كما يشبه أخواله يشبه أعمامه "(89).
وقبل الإتيان على ما حباهم به المولّى من الآلاء نستعرض اليسير من حياة عَمِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الّذي لم يزل يفتخر به في مواطن شتّى، ألا وهو الحمزة بن عبد المطلب.
وما أدراك ما حمزة؟ وما هو! وهل تعلم ماذا عنى نبيّ العظمة من وصفه " بأسد اللّه وأسد رسوله "(90)؟ وهل أنّه أراد الشدّة والبسالة فحسب؟!
لا ; لأنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أفصح من نطق بالضّاد، وكلامه فوق كلام البلغاء، فلو كان يريد خصوص الشجاعة لكان حق التعبير أن يأتي بلفظ " الأسد " مجرّداً عن الإضافة إلى اللّه سبحانّه وإلى رسولّه، كما هو المطّرد في التشبيه به نظماً ونثراً.
وحيث أضافه الرسول إلى ذات الجلاّلة والرسالة فلا بدّ أن يكون لغاية هناك أُخرى، وليست هي إلاّ إفادة أنّ ما فيه من كرّ وإقدام وبطش وتنمّر مخصوص في نصرة كلمة اللّه العليا ودعوة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا أربى من غيره وأرقى، فكان سلام اللّه عليه من عمد الدّين، وأعلام الهداية، ولذلك وجب عليه الاعتراف بفضله، وبما حباه المولّى سبحانه من النزاهة التي لا ينالها أحد من الشهداء، وكان ذلك من مكمّلات الإيمان، ومتمّمات العقائد الحقّة.
يشهد له ما في كتاب " الطرف " للسيد ابن طاووس: أنّ رسول اللّه قال لحمزة في الليلة التي أُصيب في يومها: " إنّك ستغيب غيبة بعيدة، فما تقول لو سألك اللّه عن شرائع الإسلام وشروط الإيمان "؟
فبكى حمزة وقال: أرشدني وفهّمني.
فقال النّبي: " تشهد للّه بالوحدانية، ولمحمّد بالرسالة، ولعليّ بالولاية، وأنّ الأئمة من ذرية الحسين، وأنّ فاطمة سيدة نساء العالمين، وأنّ جعفر الطيار مع الملائكة في الجنّة ابن أخيك، وأنّ محمّداً وآله خير البريّة ".
قال حمزة: آمنت وصدّقت.
ثُمّ قال رسول اللّه: " وتشهد بأنّك سيّد الشهداء، وأسد اللّه وأسد رسوله ".
فلمّا سمع ذلك حمزة أدهش وسقط لوجهه، ثُمّ قبّل عيني رسول اللّه وقال: أشهدَك على ذلك وأُشهِدُ اللّه وكفى باللّه شهيداً(91).
وإنّ التأمّل في الحديث يفيدنا منزلة كبرى لحمزة من الّدين والإيمان لا تحدّ، وإلاّ فما الفائدة في هذه البيعة والاعتراف بعد ما صدر منه بمكة من الشهادة للّه بالوحدانية ولرسوله بالنبوّة؟! ولكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد لهذه الذات الطاهرة، التي حلّقت بصاحبها إلى ذروة اليقين التحلّي بأفضل صفات الكمال، وهو التسليّم لأمير المؤمنين بالولاية العامّة، ولأبنائه المعصومين بالخلافة عن جدّهم الأمين.
وهناك مرتبة أُخرى لا يبلغ مداها أحد، وهي اعتراف حمزة وشهادته بأنّه سيّد الشهداء، وأنّه أسد اللّه وأسد رسوله، وأنّ ابن أخيه الطيار مع الملائكة في الجنّة. وهذه خاصّة لم يكلّف بها العباد فوق ما عرفوه من منازل أهل البيت المعصومين، وإنمّا هي من مراتب السلوك والكشف واليقين.
وإذا نظرنا الى إكبار الأئمة لمقامه ـ وهم أعرف بنفسيات الرجال، حتّى إنّهم احتجوا على خصومهم بعمومته وشهادته دون الدين، كما احتجّوا بنسبتهم إلى الرسول الأقدس، مع أنّ هناك رجالاً بذلوا أنفسهم دون مرضاة اللّه تعالّى. استفدنا درجة عالّية تقرب من درجاتهم (عليهم السلام) فهذا أمير المؤمنين يقول: " إنّ قوماً استشهدوا في سبيل اللّه من المهاجرين، ولكلّ فضل، حتّى إذا استشهد شهيدنا قيل: سيّد الشهداء، وخصّه رسول اللّه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه "(92).
وفي يوم الشورى احتجّ عليهم به فقال: " أنشدكم اللّه هل فيكم أحد له مثل عمّي حمزة أسد اللّه وأسد رسوله "(93)؟!
وقال الإمام المجتبى في بعض خطبه: " وكان ممّن استجاب لرسول اللّه عمّه حمزة وابن عمّه جعفر، فقتلا شهيدين في قتلى كثيرة معهما من أصحاب رسول اللّه، فجعل حمزة سيّد الشهداء "(94).
وقال سيّد الشهداء أبو عبد اللّه يوم الطفّ: " أوليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي "(95)؟!
إلى غير ذلك ممّا جاء عنهم في الإشادة بذكره حتّى إنّ رسول اللّه لم يزل يكرّر الهتاف بفضله، ويعرّف المهاجرين والأنصار بما امتاز به أسدُ اللّه وأسد رسوله من بينهم، كي لا يقول قائل ولا يتردّد مسلم عن الإذعان بما حبا اللّه تعالّى سيّد الشهداء من الكرامة، فيقول (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يا معشر الأنصار، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد
المطلب، أنا محمّد رسول اللّه، ألا أنّي خلقت من طيّنة مرحومة في أربعة من أهل بيتي: أنا، وعلي، وحمزة، وجعفر "(96).
والغرض من هذا ليس إلاّ التعريف بخصوص فضلّ عمّه وابن عمّه، فلذلك لم يتعرّض لخلق الأئمة، بل ولا شيعتهم المخلوقين من فاضل طينتهم ـ كما في صحيح الآثار ـ وإنّما ذكر نفسه ووصيّه لكونهما من أُصولّ الإسلام والإيمان.
كما أنّ أمير المؤمنين يوم فتح البصرة لمّا صرّح بفضل سبعة من ولد عبد المطلب قال: " لا ينكر فضلهم إلاّ كافر، ولا يجحده إلاّ جاحد، وهم: النّبي محمّد، ووصيّه، والسبطان، والمهدي، وسيّد الشهداء حمزة، والطيّار في الجنان جعفر "(97)، لم يقصد
بذلك إلاّ التنويه بفضل عمّه وأخيه، فقرن شهادتهما بمن نهض في سبيل الدّعوة الإلهية وهم أركان الإسلام والإيمان.
ولو لم تكن لسيّد الشهداء حمزة وابن أخيه الطيار كلّ فضيّلة سوى شهادتهما للأنبيّاء بالتبلّيغ وأداء الرسالة، لكفى أن لا يتطلب الإنسان غيرهم.
قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام): " إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه ـ تبارك وتعالّى ـ الخلائق كان نوح (صلّى اللّه عليه) أوّل من يدعى به فيقال له: هل بلّغت؟
فيقول: نعم.
فيقال له: من يشهد لك؟!
فيقول: محمّد بن عبد اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال: فيخرج نوح (صلّى اللّه عليه) ويتخطّى الناس حتّى يأتي إلى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو على كثيّب المسّك، ومعه علي (عليه السلام)، وهو قول اللّه عزّ وجلّ: { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا }(98)، فيقول نوح لمحمّد (صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد إنّ اللّه ـ تبارك وتعالّى ـ سألني هل بلغت؟ فقلت: نعم، فقال: من يشهد لك؟ قلت: محمّد! فيقول: يا جعفر، يا حمزة اذهبا واشهدا أنّه قد بلّغ.
فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) فحمزة وجعفر هما الشاهدان للأنبياء (عليهم السلام) بما بلّغوا ".
فقال الراوي: جعلت فداك فعلي (عليه السلام) أين هو؟
فقال: هو " أعظم منزلة من ذلك "(99).
وهذه الشهادة لا بدّ أن تكون حقيقية، بمعنى أنّها تكون عن وقوف بمعالّم دين نوح (عليه السلام) وأديان الأنبياء الّذين هما الشاهدان لهم بنصّ الحديث، وإحاطة شهودية بها، وبمعارفها، وبمواقعها، وبوضعها في الموضع المقرّر له، وإلاّ لما صحّت الشهادة. وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن من الشهادة عند إطلاقها، فهي ليست شهادة علميّة، بمعنى حصول العلم لهما من عصمة الأنبياء بأنّهم وضعوا ودائع نبواتهم في مواضعها، ولو كان ذلك كافياً لما طُولبوا بمن يشهد لهم، فإنّ جاعل العصمة فيهم ـ جلّ شأنه ـ أعرف بأمانتهم، لكنّه لضرب من الحكمة أراد سبحانه وتعالّى أن يجري الأمر على أُصول الحكم يوم فصل القضاء.
ثُمّ إنّ هذه الشهادة ليست فرعيّة، بمعنى إنّهما يشهدان عن شهادة رسول اللّه، فإنّ المطلوب في المحاكم هي الشهادة الوجدانية فحسب.
فإذا تقرّر ذلك فحسب حمزة وجعفر من العلم المتدفق خبرتهما بنواميس الأديان كُلّها، والنواميس الإلّهية جمعاء، أو وقوفهما بحقِّ اليقين، أو بالمعايّنة في عالم الأنوار، أو المشاهدة في عالم الأظلة والذكر لها في عالم الشهود والوجود، ومن المستحيل بعد تلك الإحاطة أن يكونا جاهلين بشيء من نواميس الإسلام.
طالب
إنّ الثابت عند المحقّقين إسلام طالب بن أبي طالب من أوّل الدعوة، فإنّ المتأمّل إذا نظر بعين البصيرة إلى أبي طالب، وقد ضَمّ أولاده أجمع والنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معهم، لا يفارقونه في جميع الأحوال، مع ما يشاهدونه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات الباهرات ; لا يرتاب في صدق الدعوى، وقد أفصح عنه شعره(100):
إذا قِيلَ مَنْ خَيرُ هذا الوَرى قَبيِلاً وأكرَمَهم أُسرَة
أناف بعَبِدِ مُناف أبٌ وفَضلّه هَاشِمٌ الغَرة
لَقَد حَلّ مَجدُ بَنِي هَاشِم مَكانَ النَعائِمِ والنَثرةِ
وخَيرُ بَنِي هَاشِم أحمد رَسولُ الإلهِ عَلى فَترة
وإنّ في حديث جابر الأنصاري ما يفيد منزلة أرقى من مجرّد الإسلام يقول قلت لرسول اللّه: أكثر الناس يقولون: إنّ أبا طالب مات كافراً؟
قال: " يا جابر، ربّك أعلم بالغيّب، إنّه لمّا كانت اللّيلة التي أُسرِيَ بِي فيها إلى السماء انتهيت إلى العرش، فرأيت أربعة أنوار، فقلت: إلهي ما هذه الأنوار؟
فقال: يا محمّد، هذا عبد المطلب، وهذا أبو طالب، وهذا أبوك عبد اللّه، وهذا أخوك طالب.
فقلت: إلهي وسيدي، فِيم نالوا هذه الدرجة؟
قال: بكتمانهم الإيمان والصبر على ذلك حتّى ماتوا "(101).
وروى الكليني في روضة الكافي عن الصادق (عليه السلام): " كان طالب مسلماً قبل بدر، وإنّما أخرجته قريش كرهاً، فنزل رجَّازوهم يرتجزوُن، ونزل طالب يرتجز:
يا ربِّ إمّا يغزونَ بطالب في مقنب منَ هذهِ المقانبِ
في مَقنَب المُحاربِّ المُغالبِ يَجعلهُ المَسلُوبَ غَيرَ السالبِ(102)
وروى محمّد بن المثنى الحضرمي أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لقي
أبا رافع مولى العبّاس ابن عبد المطلب يوم بدر، فسأله عن قومه؟ فأخبره أنّ قريشاً أخرجوهم مكرهين(103).
ويشهد له ما رواه ابن جرير أنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم بدر: " إنّي لأعرف رجالاً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً منهم فلا يقتله، ومن لَقِيَ العبّاس بن عبد المطلب فلا يقتله، إنّما خرج مستكرهاً "(104).
وقد اختلف في موت طالب فقيل: إنّه لمّا خرج إلى بدر فُقد ولم يعرف خبره، وقيل: أقحمه فرسه في البحر فغرق. وليس من البعيد أنّ قريشاً قتلته حينما عرفت منه الإسلام، وعرفت مصارحته بالتفاؤل بمغلوبيتهم، وكان حاله كحال سعد بن عبادة لمّا رماه الجن
ـ لو صدقت الأوهام ـ(105).
عقيل
كان عقيل بن أبي طالب أحد أغصان الشجرة الطيّبة، وممّن رضي عنهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإنّ النظرة الصحيحة في التاريخ تفيدنا اعتناقه الإسلام أوّل الدعوة، وكان هذا مجلبة للحبّ النبوي حيث اجتمعت فيه شرائط الولاء من: رسوخ الإيمان في جوانحه، وعمل الخيرات بجوارحه، ولزوم الطاعة في أعماله، واقتفاء الصدق في أقواله، فقول النّبي له: " إنّي أُحبّك حبين: حبّاً لك، وحبّاً لحبِّ أبي طالب لك "(106) إنّما هو لأجل هاتيك المآثر، وليس من المعقول كون حُبّه لغاية شهوية أو لشيء من عرض الدنيا.
إذن، فحسب عقيل من العظمة هذه المكانة الشامخة. وقد حدته قوة الإيمان إلى أن يسلق أعداء أخيه أمير المؤمنين بلسان حديد، خلّده عاراً عليهم مدى الحقب والأعوام(107).
على أن حُبَّ أبي طالب له لم يكن لمحض النبوّة، فإنّه لم يكن ولده البكر، ولا كان أشجع ولده، ولا أوفاهم ذمّة، ولا ولده الوحيد، وقد كان في ولده مثل أمير المؤمنين وأبي المساكين جعفر الطيار، وهو أكبرهم سنّاً، وإنّما كان " شيخ الأبطح " يظهر مرتبة من الحُبِّ له مع وجود ولده (الإمام) وأخيه الطيار لجمعه الفضائل والفواضل، موروثة ومكتسبة.
وبعد أن فرضنا أنّ أبا طالب حجّة وقته، وأنّه وصيّ من الأوصياء لم يكن يحابي أحداً بالمحبّة، وإن كان أعزّ ولده، إلاّ أن يجده ذلك الإنسان الكامل الّذي يجبَ في شريعة الحقِّ ولاءه.
ولا شكّ أنّ عقيلاً لم يكن على غير الطريقة التي عليها أهل بيته أجمع من الإيمان والوحدانية للّه تعالّى، وكيف يشذّ عن خاصته وأهله وهو وإيّاهم في بيت واحد، وأبو

طالب هو المتكفل
تربيته وإعاشته، فلا هو بطارده عن حوزته، ولا بمبعده عن حومته، ولا بمتضجّر منّه على الأقل؟
وكيف يتظاهر بحُبِّه ويدنيه منه ـ كما يعلمنا النصّ النبوّي السابق ـ لو لم يتوثق من إيمانه، ويتيقّن من إسلامه، غير أنّه كان مبطناً له، كما كان أبوه من قبل وأخوه طالب؟، وان كُنّا لا نشكّ في تفاوت الإيمان فيه وفي أخويه الطيّار وأمير المؤمنين.
وحينئذ لم يكن عقيل بدعاً من هذا البيت الطاهر الّذي بني الإسلام على علاليه، فهو مؤمن بما صدع به الرسول منذ هتف داعية الهدى.
كما لبّت هذا الهتاف أُختهم أُم هاني، فكانت من السابقات إلى الإيمان، كما عليه صحيح الأثر، وفي بيتها نزل النّبي عن معراجه، وهو في السنّة الثالثة من البعثة، وحدّثها بأمره قبل أن يخرج إلى الناس، وكانت مصدّقة له غيّر أنّها خشيت تكذيب قريش إياه، وعليه فلا يعبأ بما زعم من تأخّر إسلامها إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة(108).
وما عسى أن يقول القائل في أُمهم، زوج شيخ الأبطح، بعد شهادة الرسول الأمين بأنّها من الطاهرات الطيّبات المؤمنات في جميع أدوار حياتها.
والعجب! ممّن اغتر بتمويه المبطلين فدوّن تلك الفرية، زعماً منه أنّها من فضائل سيّد الأوصياء وهي: إنّ فاطمة بنت أسد دخلت البيت الحرام وهي حاملة بعلي (عليه السلام) فأرادت أن تسجد لهبل فمنعها علي وهو في بطنها(109).
وقد فات المسكين أنّ في هذه الكرامة طعناً بتلك الذات المبرّأة من رجّس الجاهلية ودنس الشرك.
وكيف يكون أشرف المخلوقات بعد خاتم الأنبيّاء المتكوّن من النور الإلهي مودعاً في وعاء الكفر والجحود؟!
كما أنّهم أبعدوها كثيراً عن مستوى التعاليم الإلهية، ودروس خاتم الأنبياء الملقاة عليها كُلّ صباح ومساء، وفيها ما فرضه المهيمن ـ جلّ شأنه ـ على الأُمّة جمعاء من الإيمان بما حبى ولدها والوصي بالولاية على المؤمنين حتّى أختصّ بها دون الأئمة من أبنائه، وإن كانوا نوراً واحداً وطينة واحدة، ولقد غضب الإمام الصادق (عليه السلام) على من سمّاه أمير المؤمنين وقال: " مه لا يصلح هذا الاسم إلاّ لجدّي أمير المؤمنين ".
فرووا أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف على قبرها وصاح: " ابنك علي لا جعفر ولا عقيل " ولما سُئل عنه أجاب: " أنّ الملك سألها عمّن تدين بولايته بعد الرسول، فخجلت أن تقول ولدي "(110).
أمن المعقول أن تكون تلك الذات الطاهرة الحاملة لأشرف الخلق بعد النبوّة بعيدة عن تلك التعاليم المقدّسة؟ وهل في الدين حياء؟
نعم أرادوا أن يزحزحوها عن الصراط السوي ولكن فاتهم الغرض وأخطأوا الرمية، فإن الصحيح من الآثار ينصّ على أنّ النّبي لمّا أنزلها في لحدها ناداها بصوت رفيع: " يا فاطمة أنا محمّد سيّد ولد آدم ولا فخر، فإذا أتاك منكر ونكير فسألاك من ربّك فقولي: اللّه ربّي، ومحمّد نبيّي، والإسلام ديني، والقرآن كتابي، وابني إمامي ووليّي "، ثمّ خرج من القبر وأهال عليها التراب "(111).
ولعلّ هذا خاصّ بها ومن جرى مجراها من الزاكين الطيّبين، وإلاّ فلم يعهد في زمن الرسالة تلقين الأموات بمعرفة الولّي بعده، فإنّه كتخصيصها بالتكبير أربعين، مع أنّ التكبير على الأموات خمس.
وبالرغم من هاتيك السفاسف التي أرادوا بها الحطّ من مقام والدة الإمام، أظهر الرسول أمام الأُمّة ما أعرب عن مكانتها من الّدين، وأنّها بعين فاطر السماء حين كفّنها بقميصه الذي لا يبلى، لتكن مستورة يوم يعرى الخلق، وكان الاضطجاع في قبرها إجابة
لرغبتها فيه عند ما حدثها عن أهوال القبر وما يكون فيه من ضغطة ابن آدم.
فتحصّل: إنّ هذا البيت الطاهر (بيت أبي طالب) بيت توحيد وإيمان وهدى ورشاد، وإنّ من حواه البيت رجالاً ونساء كُلّهم على دين واحد منذ هتف داعية الهُدى وصَدعَ بأمر الرسالة، غير أنّهم بين من جاهر باتّباع الدعوة، وبين من كتم الإيمان لضرب من المصلحة.

السفر إلى الشام

السفر إلى الشام
لقد كانت الروايات في سفر عقيل إلى الشام، في أنّه على عهد أخيه الإمام أو بعده متضاربة، واستظهر ابن أبي الحديد في شرح النهج ج3 ص82 أنّه بعد شهادة أمير المؤمنين، وجزم به العلاّمة الجليل السيّد علي خان في الدرجات الرفيعة، وهو الذي يقوي في النظر بعد ملاحظة مجموع ما يؤثر في هذا الباب، وعليه تكون وفادته كوفود غيره من الرجال المرضيين عند أهل البيت إلى معاوية في تلك الظروف القاسية بعد أن اضطرتهم إليه الحاجة، وساقهم وجه الحيلة في الإبقاء على النفس والكف من بوادر الرجل، فلا هم بملومين بشيء من ذلك، ولا يحطّ من كرامتهم عند الملأ الديني، فإنّ للتقية أحكاماً لا تنقض ولا يلام المضطرّ على أمر اضطرّ إليه.
على أنّ عقيلاً لم يؤثر عنه يوم وفادته على معاوية إقرار له بإمامة ولا خضوع له عند كرامة، وإنّما المأثور عنه الوقيعة فيه، والطعن في حسبه ونسبه، والحطّ من كرامته، والإصحار بمطاعنة، مشفوعة بالإشارة إلى فضل أخيه أمير المؤمنين.
من ذلك أنّ معاوية قال له: يا أبا يزيد أخبرني عن عسكري وعسكر أخيك؟
فقال عقيل: أخبرك، مررت واللّه بعسكر أخي فإذا ليل كليل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهار كنهار رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلاّ أن رسول
اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس في القوم، ما رأيت إلاّ مصلياً، ولا سمعت إلاّ قارئاً. ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممّن نفر برسول اللّه ليلة العقبة(112).
وقال له معاوية: إنّ علياً قطع قرابتك وما وصلك؟
فقال له عقيل: واللّه لقد أجزل العطية وأعظمها، ووصل القرابة وحفظها، وحسن ظنّه باللّه إذ ساء به مثلك، وحفظ أمانته، وأصلح رعيته إذ خنتم وأفسدتم وجرتم ; فاكفف لا أباً لك ; فإنّه عمّا تقول بمعزل(113).
ثُمّ صاح: يا أهل الشام، عنّي فاسمعوا لا عن معاوية، إني أتيت أخي علياً فوجدته رجلاً قد جعل دنياه دون دينه، وخشي اللّه على نفسه، ولم تأخذه في اللّه لومة لائم... وإنّي أتيت معاوية فوجدته قد جعل دينه دون دنياه، وركب الضلالة، واتبع هواه، فأعطاني ما لم يعرق فيه جبينه، ولم تكدح فيه يمينه، رزقاً أجراه اللّه على يديه، وهو المحاسب عليه دوني، لا محمود ولا مشكور.
ثُمّ التفت إلى معاوية فقال: أما واللّه يابن هند ما تزال منك سوالف يمرها منك قول وفعل، فكأنّي بك وقد أحاط بك ما الذي منه تحاذر.
فأطرق معاوية ساعة ثُمّ قال: من يعذرني من بني هاشم، ثُمّ أنشد يقول:
أُزيدهم الإكرام كي يشعبوا العصا فيأبوا لدى الإكرام أن لا يكرموا
وإذا عطفتني رقتان عليهم نأوا حسداً عنّي فكانوا هم هم
وأعطيهم صفو الإخا فكأنّني معاً وعطاياي المباحة علقم
وأغضي عن الذنب الذي لا يقيله من القوم إلاّ الهزبري المقمم
حبّاً واصطباراً وانعطافاً ورقةً وأكظم غيظ القلب إذ ليس يكظم
أمّا واللّه يابن أبي طالب لولا أن يقال: عجّل معاوية لخرق ونكل عن جوابك، لتركت هامتك أخف على أيدي الرجال من حواي الحنظل.
فأجابه عقيل:
عذيركَ منهم من يلوم عليهم ومن هو منهم في المقالة أظلم
لعمرك ما أعطيتهم منك رأفة ولكن لأسباب وحولك علقم
أبى لهم أن ينزل الذلّ دارهم بنو حرّة مزهر وعقل مسلم
وإنّهم لم يقبلوا الذلّ عنوة إذا ما طغا الجبّار كانوا هم هم
فدونك ما أسديت فأشدد يداً به وخيركم المبسوط والشرّ فالزموا
ثُمّ رمى المائة ألف درهم ونفض ثوبه وقام ومضى، فلم يلتفت إليه. فكتب إليه معاوية:
أمّا بعد ; يابني عبد المطلب أنتم واللّه فروع قصي، ولباب عبد مناف، وصفوة هاشم، فأين أحلامكم الراسية، وعقولكم الكاسية، وحفظكم الأواصر، وحبكم العشائر، ولكم

الصفح

الصفح
الجميل، والعفو الجزيل، مقرونان بشرف النبوّة وعزّ الرسالة، وقد واللّه ساءني ما كان جرى ولن أعود لمثله إلى أن أغيب في الثرى.
فكتب إليه عقيل:
صدقتَ وقلتَ حقّاً غير أنّي أرى ألا أراك ولا تراني
ولستُ أقول سوءاً في صديقي ولكنّي أصدّ إذا جفاني
فكتب إليه معاوية وناشده في الصفح وأجازه مئة ألف درهم حتّى رجع(114).
فقال له معاوية: لِمَ جفوتنا يا أبا يزيد؟
فأنشأ عقيل:
وإنّي امرؤ منّي التكرّم شيمةً إذا صاحبي يوماً على الهون أضمرا
ثُمّ قال: أيم اللّه يا معاوية، لئن كانت الدنيا أفرشتك مهادها، وأظلّتك بسرادقها، ومدّت عليك أطناب سلطانها، ما ذاك بالذي يزيدك منّي رغبة ولا تخشعاً لرهبة.
فقال معاوية: لقد نعتها أبو يزيد نعتاً هشّ له قلبي، وأيم اللّه يا أبا يزيد لقد أصبحت كريماً وإلينا حبيباً وما أصبحت أضمر لك إساءة(115).
هذا حال عقيل مع معاوية، وحينئذ فأيّ نقص يلمّ به والحالة هذه؟!
وعلى الوصف الذي أتينا به تعرف أنّه لا صحة لما رواه المتساهلون في النقل من كونه مع معاوية بصفين، فإنّه ممّا لم يتأكد إسناده، ولا عرف متنه، ويضاده جميع ما ذكرناه، كما يبعده كتابه من مكة إلى أمير المؤمنين حين أغار الضحّاك على الحيرة وما والاها، وذلك بعد حادثة صفين، وهذه صورة الكتاب:
لعبد اللّه أمير المؤمنين، من عقيل بن أبي طالب:
سلام عليك، فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد ; فإنّ اللّه حارسك من كُلّ سوء، وعاصمك من كُلّ مكروه، وعلى كُلّ حال فإنّي خرجت إلى مكة معتمراً فلقيت عبد اللّه بن أبي سرح مقبلاً من " قديد "، في نحو من أربعين شاباً من أبناء الطلقاء، فعرفت المنكر في وجوههم، فقلت: إلى أين يا أبناء الشانئين، أبمعاوية لاحقون عداوة للّه منكم غير مستنكرة تريدون إطفاء نور اللّه وتبديل أمره؟
فأسمعني القوم وأسمعتهم، فلمّا قدمت مكة سمعت أهلها يتحدّثون أنّ الضحّاك بن قيس أغار على الحيرة فاحتمل من أموالها ما شاء، ثُمّ انكفأ راجعاً سالماً، وإنّ الحياة في دهر جرّأ عليك الضحّاك لذميمة، وما الضحّاك إلاّ فقع بقرقر، وقد توهّمت حيث بلغني ذلك أن شيعتك وأنصارك خذلوك، فاكتب إليّ يابن أبي برأيك، فإن كنت الموت تريد تحملت إليك ببني أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا متّ، فواللّه ما أحبّ أن أبقى في الدنيا بعدك فواق ناقة، وأُقسم بالأعزّ الأجلّ أن عيشاً نعيشه بعدك لا هنأ ولا مرأ ولا نجيع والسلام.
فكتب إليه أمير المؤمنين (عليه السلام):
" من عبد اللّه علي أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبي طالب:
سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، أما بعد ; كلأنا اللّه وإياك كلأة من يخشاه بالغيب إنّه حميد مجيد.
وقد وصل إليّ كتابك مع عبد الرحمن بن عبيد الأزدي تذكر فيه أنّك لقيت عبد اللّه بن أبي سرح مقبلاً من " قديد "، في نحو من أربعين فارساً من أبناء الطلقاء، متوجّهين إلى جهة المغرب، وإن ابن أبي سرح طالما كاد اللّه ورسوله وكتابه، وصدّ عن سبيله، وبغاها عوجاً، فدع عنك ابن أبي سرح، ودع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، ألاّ وإنّ العرب قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب النّبي قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقّه، وجحدوا فضله، وبادروه بالعداوة، ونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه كُلّ الجهد، وجروا إليه جيش الأحزاب. اللهمّ فاجز قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعت رحمي، وتظاهرت عليّ، ودفعتني عن حقّي، وسلبتني سلطان ابن أُمي، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلي في قرابتي من الرسول، وسابقتي في الإسلام، ألا يدّعي مدّع ما لا أعرفه، ولا أظنّ اللّه يعرفه، والحمد للّه على كُلّ حال.
فأمّا ما ذكرته من غارة الضحّاك على أهل الحيرة، فهو أقلّ وأزل من أن يلم بها أو يدنو منها، ولكنّه قد أقبل في جريدة خيل، فأخذ على السماوة حتّى قربوا من واقصة(116) وشراف(117)
والقطقطانة(118) وما وإلى ذلك الصقع، فوجّهت إليه جنداً كثيفاً من المسلمين، فلمّا بلغه ذلك فرّ هارباً، فاتبعوه ولحقوه ببعض الطريق وقد أمعن، وكان ذلك حين طفلت الشمس للإياب، فتناوشوا القتال قليلاً، فلم يبصر إلاّ بوقع المشرفية، وولى هارباً، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلاً ونجا مريضاً بعد ما أخذ منه المخنق، فلأيّ بلاء ما نجا.
فأمّا ما سألتني أن أكتب إليك برأيي فيما أنا فيه، فإنّ رأيي جهاد المحلين حتّى ألقى اللّه، لا تزدني كثرة الناس عزّة، ولا تفرقّهم عنّي وحشة، لأني محقّ واللّه مع الحقّ، وواللّه ما أكره الموت على الحقّ، وما الخير كُلّه إلاّ بعد الموت لمن كان محقّاً.
وأمّا ما عرضت به من مسيرك إلى بنيك وبني أبيك، فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشداً محموداً، فواللّه ما أحبّ أن تهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الناس متخشّعاً ولا متضرّعاً، إنّه لكما قال أخو بني سليم:
فإن تسأليني كيف أنت فإنّني صبور على ريب الزمان صليب
يعزّ عليّ أن ترى بي كآبة فيشمت باغ أو يساء حبيب "(119)
وهذا الكتاب من عقيل المروى بطرق متعدّدة، يدلّنا على أنّه كان مع أخيه الإمام في حياته غير مفارق له، فإنّ الكتاب الذي كتبه إليه بعد غارة الضحّاك على أطراف أعماله وذلك قرب شهادة أمير المؤمنين.
اذن فالقول بأنّ وفادة عقيل على معاوية بعد أخيه متعيّن، كما اختاره السيّد المحقّق في الدرجات الرفيعة، وجعله ابن أبي الحديد الأظهر عنده، وقد وضح من ذلك أنّه لم يكن مع معاوية بصفين.
الحديدة
أما حديث الحديدة المحماة التي أدناها منه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فليس فيها ما يدلّ على اقترافه إثماً أو خروجاً عن طاعة، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أراد بذلك تهذيبه بأكثر ممّا تتهذّب به العامّة، كما هو المطلوب من مثل عقيل والمناسب لمقامه.
فعرّفة " سيّد الأوصياء " أنّ إنساناً بلغ من الضعف إلى أن يئنّ من قرب الحديدة المحماة بنار الدنيا من دون أن تمسّه، كيف يتحمّل نار الآخرة في لظى نزّاعة للشوى وهو مضطرم بين أوارها، فمن واجب الإنسان الكامل التبعّد منها بكبح النهمة وكسر سورة الجشع والمكابدة للملمّات القاسية، فهي مجلبة لمرضاة الربِّ ومكسبة لغفرانه، وإن كان غيره من أفراد الرعية يتبعّد عنها بترك المحرّمات فحقيق بمثله ـ وهو ابن بيت الوحي ورجالات عصبة الخلافة ـ التجنّب حتّى عن المكروهات، وما لا يلائم مقامه من المباحات، ويروّض نفسه بترك ذلك كُلّه حتّى تقتدي به الطبقات الواطئة بما يسعهم، أو يسلون أنفسهم بمقاسات مثل عقيل الشدائد في دنياه، فلا يبهضهم الفقر الملم والكرِّب المدّلهم فربّ مباح ينقم عليه من مثله ولا يلام من هو دونه بارتكابه فإنّ " حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ".
وأمير المؤمنين أراد أن يوقف أخاه على هذا الخطر الممنع الذي حواه، وقد ذهل عنه في ساعته تلك.
افتراء
قال الصفدي: " لقد بغض عقيل إلى الناس ذكره مثالب قريش، وما أُوتي من فضل وعلم بالنسب والسرعة في الجواب، حتّى قالوا فيه الباطل ونسبوه إلى الحمق "(120).
واختلقوا عليه أحاديث كان بعيداً عنها، فوضعوا على لسان أمير المؤمنين ما ينقص من قدره ويحطّ من كرامته، زعماً منهم أنّ في ذلك تشويهاً لأهل هذا البيت الطاهر ـ بيت أبي طالب ـ بإخراجهم عن مستوى الإنسانية فضلاً عن الدين، بعد أن أعوزتهم الوقيعة في سيّد الأوصياء بشيء من تلك المفتريات، فطفقوا يشوّهون مقام أبيه وحامته، ولكن لا ينطلي ذلك على الجيل المنقب، حتّى كشف عن تلك النوايا السيئة، وعرف الملأ افتعال الحديث وبعده عن الصواب.
قالوا في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ما زلت مظلوماً منذ ولدتني أُمي، حتّى إن كان عقيل ليصيبه رمد فيقول: لا تذروني حتّى تذروا علياً، فيذروني وما بي رمد "(121).
لا أقرأ هذا الحديث إلاّ ويأخذني العجب، كيف رضي المفتعل بهذه الفريّة البيّنة! فإنّ أمير المؤمنين ولد ولعقيل عشرون سنة، وهل يعتقد أحد أو يظنّ أنّ إنساناً له من العمر ذلك المقدار، إذا اقتضى صلاحه شرب الدواء، يمتنع منه إلاّ إذا شرب مثله أخوه البالغ سنة واحدة أو سنتين؟! كلاّ لا يفعله أي أحد وإن بلغ الغاية في الخسّة والضعف، فكيف بمثل عقيل المتربّي بحجر أبي طالب والمرتضع درّ المعرفة! خصوصاً مع ما يشاهد من الآيات الباهرة من أخيه الإمام منذ ولادته.
نعم، الضغائن والأحقاد حبّذت لمن تخلّق بها التردّد في العمي والخبط في الضلال من دون رويّة أو تفكير { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ }(122).
نعم، كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول غير مرّة: " ما زلت مظلوماً "(123) من دون تلك الزيادة، يعني بذلك دفعه عن حقّه الواجب على الأُمّة القيام به والميل عنه، وتعطيل أحكام اللّه بالأخذ من غيره، وتقديم من ليس له قدم ثابت في كُلّ مكرمة، ولا نصّ من صاحب الشريعة، ولا فقه ناجع ولا إقدام في الحروب.
وحيث إنّ في هذه الكلمة حطّاً بمن ناوأه، زحزحوها عنهم وألصقوها بذلك السيّد الكريم، وما أسرع أن عاد السهم فكان كالباحث عن حتفه بظلفه.
الخلف عن عقيل
الخلف الصالح يخلّد ذكر سلفه، فلا يزال ذكره حيّاً بعمره الثاني من ذكر جميل، وثناء جزيل، وترحّم متواصل، واستغفار له منه وممّن تعرف به، وفي الحديث: إن ابن آدم إذا مات انقطع عمله من الدنيا إلاّ من ثلاث، وعدّ منها الولد الصالح.
ومن أجلى الواضحات أنّ هذا التذكير يختلف حسب تدرّج الأولاد في المآثر، فمهما كان قسطهم منها أكثر فهم لمجد آبائهم أخلد، وكذلك الأسلاف فكُلّما كانوا في الشرف والسؤدد أقرب فانتشار فضلهم بصالحي خلفهم أسرع.
إذاً فما ظنّك بمثل عقيل بن أبي طالب ذلك الشريف المبجّل، وقد خلّفه " شهيد الكوفة " وولده الأطايب " شهداء الطفّ "(124)، الذين لم يسبقهم ولا يلحقهم لاحق، فلو لم يكن لعقيل شيء من الخطر والعظمة لتسنم بهؤلاء الأكارم أوج العلى والرفعة.
وكَم أب قد عَلا بابنِ ذُرى شَرف كَما عَلا برسُولِ اللّه عَدنانِ
وكيف به وهو من أشرف عنصر في العالم كُلّه؟!
ولم يزل له ذكر خالد في أحفاده المتعاقبين، فإنّهم بين علماء أعاظم، وفقهاء مبرزين، وشعراء، ومحدّثين، وأُمراء صالحين، ونسّابين، وقد انتشروا في مصر ونصيبين واليمن وحلب وبيروت والمدينة والكوفة والحلّة وطبرستان وخراسان وجرجان وكرمان وقم وإصفهان.
وكان القاسم بن محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب فاضلاً تقياً وأخوه عقيل جليل ثقة ثبت صاحب حديث، وعمّهما عقيل بن عبد اللّه نسابةً مشجّراً، وحفيد عقيل هذا جعفر بن عبد اللّه الأصفهاني عالم نسّابة شيخ شبل ابن نكبن مات سنة 334 هـ.
ومحمّد بن مسلم بن عقيل بن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب، يعرف بابن المزينة، كان أمير المدينة قتله ابن أبي الساج.
وابنه أبو القاسم أحمد بن محمّد المذكور كان له أدب وفضل، مات سنة 330 هجرية.
والعبّاس بن عيسى الأوقص، ولي القضاء للداعي الكبير الحسن بن زيد على جرجان، وقد أولد بكرمان(125).
ومن أحفاد عقيل العلاّمة الجليل السيّد إسماعيل بن أحمد النوري الطبرسي، من علمائنا الأعاظم، شارح نجاة العباد لشيخ الطائفة المحقّق الحجة " صاحب الجواهر " (قدس سره)، طبع منها جزءان إلى آخر الزكاة، وله كفاية الموحدين مطبوعة.
وكان في كربلاء المشرّفة بيت كبير وطائفة جليلة يعرفون بالعقيلين، لهم أوقاف كثيرة، وقد انقرضوا وبقي منهم رجل واحد.
الطيّار
وأما جعفر بن أبي طالب، فحسبه من العظمة شهادة الرسول الأقدس بأنّه يشبهه خلقاً وخلقاً، ذلك الخلق الكريم الموصوف في الذكر الحكيم بقوله عز شأنه: { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُق عَظِيم }(126). وحيث لم ينصّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على صفة خاصة من أخلاقه، فلا جرم من شمول تلك الكلمة الذهبية: " أشبهت خَلقي وخُلقي " لجميع ما اتصف به الرسول حتّى الدنس من الرِّجس والآثام.
ولو تنازلنا عن القول بعموم التشبيه لهذه الخاصة فلا بدّ من القول بتحقّق أظهر صفات المشبّه به للمشبه، ولا شكّ في أنّ ذلك المعنى أظهر ما في خلقه الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
وغير خاف أنّ هذه الكلمة قالها النّبي لما تنازع عنده أمير المؤمنين وجعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة في ابنة حمزة بن عبد المطلب، وكان كُلّ منهم يريد القيام بتربيتها.
وذلك أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج من مكة بعد انقضاء الأجل بينه وبين أهل مكة في عمرة القضاء الواقعة في السنة السابعة للهجرة، تبعته ابنة حمزة تقول: يا عم خذني معك، فأخذها أمير المؤمنين ودفعها إلى فاطمة (عليها السلام)، وفي المدينة جرى ذلك النزاع بينهم، فقال رسول اللّه لزيد: " أنت أخوها ومولانا "، وقال لجعفر:
" اشبهت خَلقي وخُلقي "، وقال لأمير المؤمنين: " أنت منّي وأنا منّك "، ثُمّ قضى بها للخالة وهي أسماء بنت عميس(127).
هذا هو الحديث المذكور في الجوامع، والنظرة الصادقة فيه تفيدنا معرفة السرّ في اختلاف خطاب النّبي مع ابني عمّه، وكُلّ منهما نصح له في التلبية على الدعوى الإِلهية، وأخلص في المفاداة في سبيل تبليغ الرسالة خصوصاً مع معرفته بأساليب المحاورة ; لأنّه سيّد البلغاء { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى }(128)، فلا جرم حينئذ من كون الوجه فيه هو الإشارة إلى صفة سامية تحلّى بها أمير المؤمنين وتخلّى عنها جعفر، وليست هي إلاّ خلافة اللّه الكبرى، فإنّ علياً (عليه السلام) حامل ما عند رسول اللّه الأعظم من علم متدفّق، وفقه ناجع، وخبرة شاملة، وتأمّل فيّاض، وخلق عظيم لا يستطيع البشر القيام به.
وهذا هو الذي تفيده المنزلة في قوله: " أنت منّي وأنا منك "، بعد فرض المباينة بينهما في الحدود الشخصية. والنّبي لا ينطلق ساهياً ولا لاهياً، فلا بدّ أن يكون قاصداً تلك المنزلة الكبرى التي لم يحوها جعفر وإن بلغ في خدمة الدين كُلّ مبلغ.
وهذا النزاع إنّما هو في الحضانة التي هي سلطنة وولاية على تربية الطفل وإدارة شؤونه، وقد كان لابنة حمزة يومئذ أربع سنين.
وهذا القضاء ـ كما يفيدنا سقوط حضانة الأُم إذا تزوجت ـ يُفيدنا أولوية الخالة على العمّة، فإنّ عمّتها صفية كانت موجودة يومئذ وأُمها سلمى متزوجة بشداد بن الهادي الليثي حليف بني هاشم.
ويرشدنا طلب أمير المؤمنين الحضانة إلى أنّ أولوية الخالة على غيرها من الأقارب إنّما هو عند المخاصمة، وإلاّ فلم يخفِ الحكم على سيّد الوصيين، وهو مستقى الأحكام وينبوعها، وقد امتزجت ذاته المقدّسة بالمعارف الإلهية والأسرار الربوبية واستمدّ من اللوح المحفوظ.
ولعلّ السرّ الدقيق في مخاصمته معهما تعريف الأُمة مقامه الرفيع ومنزلته الكبرى التي لا يدانيها كُلّ أحد، والواجب عليه ـ بما أنّه المنقذ الأكبر وإمام الأُمة ـ إرشادها إلى الطريق اللاحب بأيّ نحو من أنحاء الكلام.
لقد كان جعفر ملازماً لصاحب الرسالة ملازمة الظلّ لديه، يرقب أفعاله وتروكه، ويسمع تعاليمه وعظاته، ويبصر أعماله وحكمه، ويقتصّ أثره منذ كان يصل جناح الرسول الأيسر في الصلاة بعد أمير المؤمنين وخديجة الكبرى.
وكانت قريش تخبط في غلواء جحودها، وتغلي مراجل بغضائها على الصادع بالدين الحنيف، وعلى كُلّ ذلك تمرّنه التعاليم النبويّة الخاصّة به، وتكهَربه تهذيبات المشرّع الأطهر، ولا تدعه جاذبة الدعوة الإلهية يلوي يميناً ولا شمالاً.
ومن هنا أئتمنه صاحب الرسالة على نشر كلمة التوحيد وعلى ضعفاء المسلمين يوم بعثه إلى الحبشة في السنة الخامسة من الهجرة، فأدّى النصيحة، ونهض بالدعوة حتّى استمال النجاشي إلى الإسلام، فآمن غير أن منيته حالت دون أُمنيته.
ولو لم يكن جعفر بتلك المنزلة الرفيعة لما تعاقبت مفاخرات أئمة الدين به، كما افتخروا بعمّه أسد اللّه وأسد رسوله في كثير من مفاخراتهم:
ففي احتجاج الطبرسي: أنّ أمير المؤمنين احتجّ على أهل الشورى بأنّ أخاه جعفر المزيّن بجناحين في الجنّة، يحلّ فيها حيث شاء، فلم يردّ عليه أحد، بل قابلوه بالتسليم والقبول.
وفي نهج البلاغة فيما كتب به إلى معاوية: أنّ قوماً قطعت أيديهم في سبيل اللّه، ولكُلّ فضل، حتّى إذا فعل بواحدنا ما فعل بواحدهم قيل له: الطيار في الجنّة وذو الجناحين.
فلو لم يكن كفاحه عن الدين عن بصيرة نافذة ويقين ثابت لما افتخر به المعصومون والعارفون بمآل العباد، حتّى جعلوا مواقفه في الدين ذريعة إلى التوسّل إلى مطلوبهم.
ولحزمه الثابت، ومواقفه المحمودة، وإصابته في الرأي، وقديم إيمانه أمّره النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة مؤتة على المسلمين، ولم يجعل عليه أميراً، فإذا قتل فالأمير زيد بن حارثة، فإن قتل فالأمير عبد اللّه بن رواحة(129).
فما ذهب إليه فريق من المؤرّخين من تقديم زيد وابن رواحة عليه، يدفعه صحيح الأثر والاعتبار الصادق.
وهذه العظمة هي التي تركت قدومه من الحبشة يوم فتح خيبر أعظم موهبة منح اللّه تعالى بها نبيّه، تعادل ذلك الفتح المبين، حتّى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أدري بأيّهما أُسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر "، ثُمّ قال له: " ألا أحبوك، ألا أمنحك "؟ فظنّ الناس أنّه يعطيه ذهباً وفضّة ; لما فتح اللّه عليه من خيبر، فقال له جعفر: بلى يا رسول اللّه، فعلّمه صلاة التسبيح وهي المعروفة بصلاة جعفر(130).
وهذه الحبوة من الرسول الكريم لابن أخيه حيث علم أنّ من فرط قداسته لا يروقه إلاّ ما كان من عالم القدس، فخلع عليه بها، وجعله وسام شرف له، وهي من المتواترات بين العامّة والخاصّة، كما نصّ عليه المجلسي في البحار(131).
ولكن شرذمة من مناوئي أهل البيت لم يرق لهم ثبوت تلك المنحة لأخي أمير المؤمنين، وحيث لم يسعهم أن يلصقوها بواحد منهم زحزحوها إلى العبّاس بن عبد المطلب كما في شفاء السقام للسيّد جعفر الكتاني صفحة 20.
وقد كشفت الحقيقة عن نفسها، وأماطت ستار التمويه بافتعال هذه النسبة من عكرمة مولى ابن عباس الكذّاب بنصّ الذهبي في الميزان، وياقوت في المعجم، وابن خلكان في الوفيات بترجمته(132).
أُخوته
إنّ حاجة الباحث في تاريخ أبي الفضل (عليه السلام) ماسّة إلى معرفة أُخوته الأكارم لمناسبات هناك، فإنّ منهم من يعدّ قربه منه فضيلة رابية وشرفاً باذخاً فضلاً عن الأُخوة، وهما الإمامان على الأُمة إن قاما وإن قعدا(133).
وإذا كانت بنوتهما لأمير المؤمنين معدودة من فضائله، مع ما له من الفضائل التي لا يأتي عليها الحصر، كما يظهر من قوله (عليه السلام) يوم الشورى: " أنشدكم باللّه هل فيكم أحد له سبطان مثل سبطاي الحسن والحسين ابني رسول اللّه، وسيّدي شباب أهل الجنّة غيري "؟ قالوا: لا(134).
كما أنّه (عليه السلام) افتخر بهما يوم كتب إليه معاوية أنّ لي فضائل ; كان أبي سيّداً في الجاهلية، وصرت ملكاً في الإسلام، وأنا صهر رسول اللّه، وخال المؤمنين، وكاتب الوحي.
فكتب إليه أمير المؤمنين أبياتاً سبعة ذكر فيها مصاهرته من
رسول اللّه، وأن عمّه سيّد الشهداء، وأخاه الطيّار مع الملائكة في الجنان، وسبقه إلى الإسلام، وأخذ البيعة له (يوم الغدير)، وأن ولديه سبطا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)(135).
وحينئذ فأخوة العبّاس لهما أولى أن تعقد منهما مآثره وفضائله. أضف إلى ذلك ما استفاده منهما من العلوم والمعارف الإلهية.
ومنهم من يجمعه وإياه جامع العقب، فإنّ المعقّبين من أولاد أمير المؤمنين الإِمامان والعبّاس ومحمّد بن الحنفية وعمر الأطرف.
ومنهم من شاركه في موقف الطفّ.
ومنهم من يعدّ هو وإياه تحت جامع الأمومة.
ومنهم من شاركه في الاسم.
وعليه فأولاد أمير المؤمنين الذكور ستة عشر:
الحسن والحسين والمحسن، أُمهم سيّدة نساء العالمين.
محمّد بن الحنفية، أُمّه خولة.
العبّاس وعبد اللّه وجعفر وعثمان، أُمّهم أُم البنين.
عمر الأطرف والعبّاس الأصغر، أُمهما الصهباء.
محمّد الأصغر، أُمه إمامة بنت أبي العاص.
يحيى وعون، أُمهما أسماء بنت عميس.
عبد اللّه وأبو بكر، أُمهما ليلى بنت مسعود.
محمّد الأوسط، أُمّه أُم ولد(136).
أمّا الإِمامان فالأحرى أن نجعجع اليراع عن التبسّط في فضلهما وموقفهما من القداسة ومحلهما من الزلفى، وما أُوتيا من حول وطول، والبسطة في العلم، فإن الوقوف على كنه ذلك فوق مرتكز العقول.
وأما المُحَسّن ـ بتشديد السين كما في تاج العروس بمادة شبر(137)، والإصابة بترجمته(138) ـ وضمّ الميم، وسكون الحاء كما في حاشية السيّد محمّد الحنفي على شرح ابن حجر لهمزية البويصري ص 251.
فعند الإمامية أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمّاه باسم ابن هارون مشبر كمحدث كما في القاموس(139) وغيره، وكان حملاً، وبعد وفاته أسقطته فاطمة الزهراء لستة أشهر، والروايات التي ذكرها ابن طاووس في (الطرف)(5) وغيره في غيرها تساعدهم.
ابن الحنفية
وأمّا محمّد الأكبر، الذي يجمعه وإياه جامع العقب، فيكنّى بابن الحنفية، وهي أُمه خولة بنت جعفر بن قيس من بني الدئل بن حنيفة بن لجيم، وأُمها بنت عمرو بن أرقم الحنفي.
واختلف في أمرها أنّها سبية أيام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما بعث علياً إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد، وقد ارتدّوا مع عمرو بن معد يكرب، وكانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم.
وقيل: إنّ خالد بن الوليد قاتل أهلها أيام أبي بكر فسباهم، فهي من جملة السبايا، فدفعها أبو بكر من سهمه في المغنم.
وقيل: إنّ بني أسد أغارت على بني حنيفة أيام أبي بكر فسبوا خولة وباعوها من علي (عليه السلام)، فبلغ قومها خبرها فجاءوا إلى علي (عليه السلام) فعرّفوه أنّها ابنتهم، فاعتقها وأمهرها وتزوّجها(140).
وقيل: إنّها سبيت أيام أبي بكر، فاشتراها أُسامة بن زيد وباعها من علي (عليه السلام).
وفي حديث أسماء بنت عميس: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام)اشتراها من سوق ذي المجاز أوان مقدمه من اليمن، فوهبها فاطمة (عليها السلام)، فباعتها من مكمل الغفاري، فولدت منه عونة، ثُمّ باعها من علي (عليه السلام).
ويحكي ابن خلكان في الوفيات قولاً أنّها سندية، أمة لبني حنيفة، سوداء(141).
وحكاه الشيخ الجليل ابن إدريس الحلّي في مزار السرائر عن ابن حبيب النسابة وقال: إنّه جهل منه وقلّة تأمل(142).
ويروي القطب الراوندي في الخرائج: أنّها سبيت أيام أبي بكر، وأنّ الزبير وطلحة طرحا عليها ثوبيهما طلباً للاختصاص بهما، فصاحت: لا يملكني إلاّ من يخبرني بالرؤيا التي رأتها أُمي، وعن اللوح الذي كتبت فيه الرؤيا، وما قالته لي، فعجزوا عن معرفته إلاّ أمير المؤمنين أوضح لها في ملأ من المسلمين أمراً غيبياً، عجب منه الحاضرون، فعندها قالت: من أجلك سُبينا ولحبّك أصابنا ما أصابنا(143).
ولم يعبأْ السيّد المرتضى في (الشافي) بجميع ذلك فقال: " لم تكن الحنفية سبية على الحقيقة، ولم يستبحها (عليه السلام) بالسبا ; لأنّها بالإسلام قد صارت حرّة مالكة أمرها، فأخرجها من يد من استرقها، ثُمّ عقد عليها عقد النكاح "(144).
وما ذكره هو الصحيح المقبول، فإنّ الردّة المزعومة لا توجب أحكام الكفر ومنع الزكاة وأمثالها على التأويل، فليس فيه خروج عن ربقة الإسلام.
وأمّا ولادة محمّد فقيل: إنّها أيام أبي بكر، وقيل: أيام عمر، وخصّها ابن خلكان بأوّل المحرم لسنتين بقيتا من خلافة عمر(145). وإذا علمنا أنّ عمر مات سنة ثلاث وعشرين، كانت ولادته سنة إحدى وعشرين.
وأمّا على رأي ابن كثير في البداية ج9 ص38 وسبط ابن الجوزي في التذكرة من وفاته سنة أحدى وثمانين عن خمس وستين تكون ولادته سنة ستة عشر للهجرة(146).
وأما قبره فعند ابن قتيبة بالطائف(147)، وفي تذكرة الخواص بايلة مدينة مما يلي الشام، وفي حلية الأولياء ج3 ص173(148) وتهذيب التهذيب ج9 ص355(149) بالمدينة المنورة وعينه ابن كثير بالبقيع(150).
وفي معجم البلدان ج3 ص387(151): إن أهل جزيرة خارك ـ التي هي في وسط البحر الفارسي ـ يزعمون أنّ بها قبر محمّد بن الحنفية يقول الحموي: وقد زرت هذا القبر فيها ولكن التواريخ تأباه.
واعتقاد الكيسانية حياته في جبل رضوى يأتيه رزقه وله عودة، من الخرافات ; للاتفاق على موته.
وإنّ كلمة الإمام الحسن السبط تدلّنا على فضله الشامخ، وورعه الثابت، ونزاهته عن كُلّ دنس، ومعرفته بالإمام الواجب اتباعه قال الشيخ الجليل الطبرسي من أعلام القرن السادس في (أعلام الورى):
" أرسل الحسن بن أمير المؤمنين قنبراً خلف محمّد بن الحنفية، فلمّا مثل بين يديه قال له: " اجلس " فليس يغيب مثلك عن سماع كلام يحيى به الأموات ويموت به الاحياء ; كونوا أوعية العلم ومصابيح الدجى، فإنّ ضوء النهار بعضه أضوء من بعض، أما علمت أنّ اللّه عزّ وجلّ جعل ولد إبراهيم (عليه السلام) أئمة، وفضّل بعضهم على بعض، وآتى داوود زبوراً، وقد علمت بما استأثر اللّه تعالى محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
يا محمّد بن علي، لا أخاف عليك الحسد، وإنّما وصف اللّه به الكافرين فقال تعالى: { كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ }(152) ولم يجعل اللّه للشيطان عليك سلطاناً.
يا محمّد بن علي، ألا أخبرك بما سمعت من أبيك (عليه السلام) فيك؟ قال: بلى.
فقال: سمعت أباك يقول يوم البصرة: من أحبّ أن يبرّني في الدنيا والآخرة فليبرّ محمّداً.
يا محمّد بن علي، لو شئت أن أُخبرك وأنت في ظهر أبيك لأخبرتك.
يا محمّد بن علي، أما علمت أنّ الحسين بن علي بعد وفاة نفسي ومفارقة روحي جسمي إمام من بعدي عند اللّه في الكتاب، وراثة النبي أضافها في وراثة أبيه وأُمه، علم اللّه أنكم خيرة خلقه فاصطفى منكم محمّداً، واختار محمّد علياً، واختارني علي للإِمامة، واخترت أنا الحسين ".
فقال له محمّد بن علي: أنت إمامي وسيدي، ألا وإنّ في رأسي كلاماً لا تنزفه الدلاء، ولا تغيّره الرياح، كالكتاب المعجم في الرقّ المنمنم، أهم بابدائه، فأجدني سبقت إليه سبق الكتاب المنزل، وما جاءت به الرسل، وإنه لكلام يكُلّ به لسان الناطق ويد الكاتب حتّى لا يجد قلماً، ويؤتوا بالقرطاس حمماً، ولا يبلغ فضلك وكذلك يجزي المحسنين ولا قوة إلاّ باللّه ; الحسين أعلمنا علماً، واثقلنا حلماً، وأقربنا من رسول اللّه رحماً، كان إماماً قبل أن يخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم اللّه أنّ أحداً خيراً منّا ما اصطفى محمّداً، فلمّا اختار اللّه محمّداً واختار محمّداً علياً إماماً، واختارك عليّ بعده واخترت الحسين بعدك، سلمنا ورضينا بمن هو الرضا وممّن نسلم به من المشكلات(153).
وهذه الوصية تفيدنا عظمة ابن الحنفية من ناحية الإيمان وأنّه من عياب العلم ومناجم التقى، فأيّ رجل يشهد له إمام وقته بأنّ اللّه لم يجعل للشيطان عليه سلطاناً، وأنّه لا يخشى عليه من ناحية الحسد الذي لا يخلو منه أو من شيء من موجباته، أيّ أحد لم يبلغ درجة الكمال ثُمّ أي رجل أناط أمير المؤمنين البرّ به بالبرّ بنفسه التي يجب على كافة المؤمنين أن يبرّوا بها.
على أنّ الظاهر من قول المجتبى: " أما علمت أنّ الحسين " هو أنّ علم محمّد بالإمامة لم يكن بمحض النصّ المتأخّر وإن أكده ذلك، وإنّما هو بعلم مخصوص برجالات بيت الوحي، مكنون عندهم بالإحاطة بالكتاب الماضي والقدر الجاري. ويرشدنا إلى هذا قول ابن الحنفية: " إنّ في رأسي... "، فإنّه أظهر من سابقه فيما قلنا، وكلماته الذهبية في الاعتراف بحقّ الإمامين تدلنا على ثباته المستقى من عين صافية بارشية من الحقّ، وما هي إلاّ ذلك اللوح المحفوظ.
أضف إلى ذلك ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) من قوله: " تأبى المحامدة أن يعصى اللّه، وهم: محمّد بن الحنفية، ومحمّد بن جعفر الطيار، ومحمّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وهو ابن خال معاوية بن أبي سفيان "(154).
وهذه شهادة من سيّد الأوصياء في حقّ ولده الكريم محمّد، قد أخذت مأخذها من الفضيلة وأحلّت محمّداً المحلّ الأرفع من الدين، وأقلّته سنام العزّ في مستوى الإيمان.
وإن شهادة أمير المؤمنين بأنّه ممّن يأبى أن يُعصى اللّه، تعرّفنا عدم ادعائه الإمامة لنفسه بعد الحسين، فإنّ تسليمه الإمامة للسجاد لا يختلف فيه اثنان، واستدعاؤه الإمام للمحاكمة عند الحجر الأسود من أكبر الشواهد على تفننه في تنبيه الناس لمن يجب عليهم الانقياد له.
وعدم حضوره مشهد الطفّ: إمّا لما يقوله العلاّمة الحلّي في أجوبة المسائل المهنائية من المرض، أو لما يروي محمّد بن أبي طالب في المقتل من إذن الحسين له في البقاء بالمدينة، يعرّفه بما يحدث هناك، فهو معذور مقبول.
ولبسالته المعلومة وموقفه من الحقّ أنزله أبوه يوم (الجمل) منزلة يده، فكان يخوض الغمرات أمامه ويمضي عند مشتبك الحرب قدماً، وكان يقول له عند أمره لمنازلة الأقران دون الإمامين: إنّهما عيناي وأنت يدي، أفلا أدفع بيدي عن عيني(1).
وناهيك من بلاغته المزيجة بالشجاعة خطبته يوم صفين، وقد برز بين الصفين فأومى إلى عسكر معاوية وقال:
" يا أهل الشام اخسئوا يا ذرية النفاق وحشو النار وحطب جهنم... "(156) إلى آخر كلامه المروي في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص167، ومناقب الخوارزمي ص134(157).
فكان لهذه الخطبة البليغة موقع تام في ذلك الجيش اللجب والجمع المتكاثف، ولم يبق في الفريقين إلاّ من اعترف بفضله.
الأطرف
وأما عمر الأطرف، فكما شاركه في العقب، وقع الخلاف من أهل النساء في أيهما أسبق في الولادة، فالذي عليه ابن شهاب العكبري وأبو الحسن الاشناني وابن جداع تقدّم ولادة عمر، وعند شيخ الشرف العبيدلي والبغدادي وأبي الغنائم العمري تقدّم ولادة العبّاس (عليه السلام)(158).
ولا يمكننا الحكم بشيء بعد جهالة السنة التي توفّي فيها، وذكرها على الإجمال في زمن عبد الملك أو ابنه الوليد لا يغني، وإن عرفوا مقدار عمره بخمس وثمانين أو خمس وسبعين.
نعم، يظهر من المؤرّخين عند ذكر أولاد أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ العبّاس أكبر منه ; لأنّهم يقدّمون ذكر العبّاس وأخوته على عمر، على أن الداودي في العمدة ص354 يقول: كان عمر آخر من ولد من بني علي (عليه السلام).
وعلى كُلّ حال فالوجه في تسميته بالأطرف إنّما هو بعد ولادة عمر الأشرف ابن الإمام السجّاد (عليه السلام) أخو زيد الشهيد لأُمه، فإنّه سُمّي بالأشرف لجمعه الفضيلة من ولادة علي وفاطمة (عليهما السلام)، والأطرف حاز الفضل من طرف أبيه(159).
ولم يحضر مع الحسين في الطفّ، ولا مع مصعب بن الزبير، وقد وهم من ذكره في المستشهدين يوم الطفّ، كما أخطأ الدينوري في الأخبار الطوال ص297 في عدّه من جملة من قُتل مع مصعب في الحرب القائمة بينه وبين المختار.
وأغرب منه عدّ اليافعي له في مرآة الجنان ج1 ص143 في جملة المقتولين مع المختار ; لأنّ المشهور بين المؤرّخين بقاؤه إلى بعد الحسين حتّى نازع السجّاد في الصدّقات إلى عبد الملك، فلم ينجح، كما نازع الحسن المثنى فيها عند الحجاج فطرده عبد الملك عنها(160).
ويروي السيّد ابن طاووس أنّه أشار على الحسين بالبيعة ليزيد، فقال له: إنّ أبي حدّثني عن رسول اللّه بقتله وقتلي، وإنّ تربتي إلى جنب تربته، أتظنّ أنك تعلم ما لم أعلمه، فواللّه لا أعطي الدنيّة من نفسي(161).
ولا أعلم السبب في تأخّره عن الطفّ، والظنّ لا يغني عن الحقّ شيئاً، وليس لنا إلاّ التسليم ما لم يقم دليل قطعي على المعاندة والمخالفة، خصوصاً بعد ما جاء الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وفيه: " لا يخرج أحدنا من الدنيا حتّى يقرّ لكُلّ ذي فضل فضله ولو بفواق ناقة "(162).
فإنّه صريح في توبة من كان ظاهره الخلاف لأهل البيت (عليهم السلام)عند الممات، ولا إشكال في أنّ التوبة مكفّرة لما صدر من العصيان
كما في صريح الكتاب المجيد وإجماع المسلمين والأخبار المتواترة التي توجب القطع بمضمونها، فالتهجّم على آل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمجرد تلك الأحاديث التي لا يعرف مأخذها، خروج عن طريقة الأئمة الطاهرين.
وأمّا عبيد اللّه بن النهشلية فلم يحضر الطفّ وجاء إلى المختار يطلب الرفد فلم يصله، فالتحق بمصعب، وجاء معه، فلمّا وصل المنار من سواد البصرة وجد في فسطاطه مذبوحاً ولم يعلم قاتله(163).
والمشارك معه في يوم الطفّ أبو بكر، وأُمه ليلى بنت مسعود النهشلية، قال ابن جرير: وابن الأثير شكّ في قتله(164).
وفي نفس المهموم ص173: وجد في ساقية قتيلاً لا يعلم قاتله(165).
وكأنّه لمّا حمل آل أبي طالب بعد قتل عبد اللّه بن مسلم بن عقيل جملة واحدة فصاح بهم الحسين: " صبراً على الموت يا بني عمومتي، فواللّه لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً "(166).
سقط فيهم عون بن الطيار، وأَخوه محمّد وعبد الرحمن بن
عقيل، وأَخوه جعفر ومحمّد بن مسلم بن عقيل وأبو بكر هذا، فلذلك لم يعرف قاتله.
ومحمّد الأوسط، وأُمه أم ولد، قتله رجل من بني أبان بن دارم واحتزّ رأسه(167).
وعبد اللّه المولود سنة 36 هـ، وجعفر المولود سنة 33 هـ، وعثمان المولود سنة 40 هجرية، فقتل هاني بن ثبيت الحضرمي عبد اللّه وجعفر، ورمى خولي بن يزيد الأصبحي عثمان واحتزّ رأسه رجل من بني أبان بن دارم(168) وهؤلاء جمعهم وإياه الأُمومة أيضاً.
والمشارك له في الاسم عباس الأصغر، نصّ عليه النسابة السيّد محمّد كاظم اليماني في النفحة العنبرية، قال: وكان شقيقاً لعمر الأطرف، وفي ناسخ التواريخ ذكر العبّاس الشهيد والعبّاس الأصغر، ويؤيّده أنّ النسابة العمري في المجدي وابن شهرأشوب في المناقب والشبلنجي في نور الأبصار والمحبّ الطبري في ذخائر العقبى وصفوا الشهيد بالعبّاس الأكبر(169).
وهذا التعبير في عرف النسّابين يقع لمن يكون له أخ أصغر منه شاركه في الاسم لا فيمن هو أكبر أُخوته مطلقاً ولو لم يشاركه في الاسم، والظاهر أنّ العبّاس الأصغر درج في أيام أبيه ; لأنّه ليس له ذكر في الوارثين لأمير المؤمنين من ولده.
أخواته
كانت أخوات العبّاس من أبيه ثمان عشرة(170)، فمنهنّ من توفّيت أيام أبيهنّ كزينب الصغرى، وجمانة، وأُمامة، وأُم سلمة، ورملة الصغرى(171).
ومنهنّ من لم يُذكر خروجهن إلى أزواج.
والذين خرجن إلى أزواج: فالعقيلة زينب الكبرى كانت عند عبد اللّه بن جعفر الطيّار، فأولدت له جعفر الأكبر، وعباساً، وعلياً المعروف بالزينبي، وعوناً الأكبر قُتل يوم الطفّ في حملة آل أبي طالب.
وأُمّ كلثوم، وهي التي زوّجها الحسين من ابن عمّها القاسم ابن محمّد الطيّار وأنحلها البغيبغات(172).
ورقيّة عند ابن عمّها الشهيد مسلم بن عقيل، ولدت له عبد اللّه وعلياً ومحمّداً.
وفي العمدة تزوّج مسلم أُم كلثوم بنت علي (عليه السلام) فولدت له حميدة(173)، تزوجها الفقيه الجليل عبد اللّه بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب، أولدها محمّداً منه العقب.
ولا يتمّ هذا إلاّ بعد وفاة إحداهنّ ; إذ لا يجوز الجمع بين الأُختين.
وكانت فاطمة عند أبي سعيد بن عقيل، ولدت له حميدة.
وخديجة كانت عند عبد الرحمن بن عقيل، ولدت له سعيداً.
وأُم هاني تزوّجها عبد اللّه الأكبر بن عقيل، ولدت له عبد الرحمن ومحمّداً.
وأُمّ الحسن خرجت إلى جعدة بن هبيرة المخزومي.
وأُمامة كانت عند الصلت بن عبد اللّه بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ولدت له نفيسة(174).

العقيلة

العقيلة
وكيف ما كان، فالمهم في هذا العنوان النظر في العقيلة الكبرى التي هي أعظمهنّ قدراً، وأجلّهن شأناً، فإنّها شظية من شظايا النبوّة، وفلذة من أفلاذ الإمامة، وهي الجوهرة الفردة التي ضمّها إليه صدف القداسة (الزهراء الطاهرة (عليها السلام) وأنجب بها سيّد الأوصياء.
بجِلالِ أحمدَ فِي مهابةِ حَيدر قَدْ أنجبتِ أُم الأَئِمةِ زَينباَ
فكانت شريكة الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة في ذلك المرتكض الطاهر، والحجر الزاكي، والصلب القادس، واللبان السائغ، والتربية الإلهية.
أضف إلى ذلك العلم المتدفّع والفقه الناجع، وقد شهد لها ابن أخيها السجّاد (عليه السلام): " بأنّها عالمة غير معلّمة، وفاهمة غير مفهّمة "(175)، وحسبها من الخطر أن ما انحنت عليه الأضالع هو ذلك العلم المفاض عليها من ساحة القدس الإلهي، لا بإرشاد معلّم أو تلقين مرشد، مع البلاغة في المنطق، والبراعة في الإفاضة، كأنّها تفرغ عن لسان أبيها الوصي:
وعن الوصي بلاغة خصّت بها أعيت برونقها البليغ الأخطبا
ما استرسلت إلاّ وتحسب أنّها تستلُ من غُرر الخطابة مقضبا
أو أنّها اليزني في يد باسل أخلا به ظهراً وأوهى منكبا
أو أنّها تقتاد منها فيلقا وتسوق من زمر الحقائق موكبا
أو أنّ فِي غاب الإمامة لبوة لزئيرها عنت الوجوه تهيّبا
أو أنّها البحر الخضم تلاطمت أمواجُه علماً حجى بأساً أبا
أو أنّ من غضب الإله صواعقاً لم تلف عنها آل حرب مهربا
أو أنّ حيدرة على صهواتها يفنيِ كراديس الضلال ثباثبا
أو أنّه ضمّته ذروة منبر فأنار نهجاً للشريعة ألحبا
أو أنّ في اللاؤي عقيلة هاشم قد فرّقت شمل العمى أيدي سبا(176)
ولم تكن هذه البراعة والاسترسال في القول إلاّ عمّا انطبع فيها من النفسيات القوية، والملكات الفاضلة، ممتزجة بثبات جأش وطمأنية نفس وشجاعة، إن شئت فسمّها بالأديبة، وإلاّ فهي فوق ذلك، وكانت تلقي خواطرها بين تلك المحتشدات الرهيبة، أو فقل بين الناب المخلب، غير متعتعة، ولا متلعثمة، وتقذفها كالصواعق على مجتمع خصومها، فكانت أعمالها وخطبها الجزء الأخير للعلّة من نهضة السبط الشهيد، وأصبحت تمام الفضيحة للأمويين بما نشرته بين الملأ من صحيفتهم السوداء، حتّى ضعضعت عرش دولتهم، وفكّكت عرى سلطانهم، وألصقت بهم العار من كُلّ النواحي، فكانت شريكة الإمام الشهيد في هذه الفضيلة:
وتشاطرت هي والحسين بدعوة حتم القضاء عليهما أن يندبا
هذا بمشتبك النصول وهذه في حيث معترك المكاره في السبا(177)
وهذه النفسية التي حوتها والثبات الذي انطوى عليه أضالعها، أوجب لأخيها الشهيد أن يصحبها في سفره إلى مشهد الطفّ، علماً منه بلياقتها، لتلقّي الأسرار كما هي، وأدائها في مورد الأداء كما يجب، وهذا هو الذي أهّلها لتحمّل شطر ممّا يحمله الإمام بعد حادثة الطفّ، حفظاً للسجّاد عن عادية الأعداء، فكان يُرجع إليها في معرفة الأحكام الشرعية، وإن كان المرجع إليها زين العباد (عليه السلام).
ففي الحديث عن أحمد بن إبراهيم قال: دخلتُ على حكيمة بنت الجواد(179) أُخت أبي الحسن الهادي..، فكلّمتها من وراء حجاب، وسألتها عن دينها، فسمّت لي من تأتم به، ثمّ قالت: فلان بن الحسن بن علي، فسمّته.
فقلت لها: جعلني اللّه فداك معاينة أو خبراً؟
فقالت: خبراً عن أبي محمّد (عليه السلام) كتب به إلى أُمه.
فقلت لها: فأين المولود؟
فقالت: مستوراً.
فقلت: إلى من تفزع الشيعة؟
فقالت: إلى الجدّة أُمّ أبي محمّد (عليه السلام).
فقلت لها: اقتدي بمن وصيّته إلى المرأة؟
فقالت: اقتداء بالحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، إنّ الحسين بن علي (عليهما السلام) أوصى إلى أُخته زينب بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الظاهر، وكان ما يخرج عن علي بن الحسين من علم ينسب إلى زينب بنت علي تستّراً على علي ابن الحسين(178).
ولليقين الثابت والبصيرة النافذة لم تكترث بشيء من الأهوال ولا راعها الهزاهز، منذ مشهد الطفّ إلى حين وصولها المدينة، وكان بمنظر منها مصارع آلِ اللّه نجوم الأرض من آل عبد المطلب، وبينهم سيّد شباب أهل الجنّة، بحالة تنفطر لها السموات، وتنشق الأرض، وتخرّ الجبال هدّا.
وليس معها من حماتها حميّ، ولا من رجالها وليّ غير الإمام المضني، الذي أنهكته العلل، ونسوة في الأسر، مكتنفة بها، بين شاكية وباكية، وطفل كظّه العطش، إلى أُخرى أقلقها الوجل.
وأمامها الجيش الفاتح الجذر، بسكرة الظفر، وبشر الشماتة، ودعة السلام، والفرح بالغنيمة، ومخيم آل بيت اللّه طنّبت عليه الكوارث والمحن، فقد الحماة، والخوف من الأعدا، والأوام المبرح، ونحيب ونشيج، وشراخ وعولة.
والعقيلة في كُلّ هذه الأحوال هي المُهدّئة لفورتهن، والمُسّكنة لروعتهنّ، فلم يشاهد منها عزم خائر، ولا جأش مائر، ولا صرخة عالية، ولا ذهول عن أمر الحرم.
كيف وهي بقية أمير المؤمنين، ونائبة الحسين على تلكم الأحوال، والناهضة الكريمة إلى مغزى أخيها، والمتمّمة لقصده الراقي وأمره الرشيد.
نعم، أهمها من بين ذلك شيء رأته ; نظرت إلى ابن أخيها السجّاد يجود بنفسه حينما شاهد تلك الجثث الزواكي تصهرها الشمس، فعظم عليها أمر الإمام، فأخذت تصبّره وتسلّيه، وهو الذي لا توازن بصبره الجبال، وفيما قالت له:
" مالي أراك تجود بنفسك يا بقية جدّي وأبي وإخوتي؟
فقلت: وكيف لا أجزع ولا أهلع وقد أرى سيّدي وإخوتي وعمومتي وولد عمّي وأهلي مصرّعين بدمائهم، مرمّلين بالعراء، مسلّبين لا يكفنون ولا يوارون، ولا يعرج عليهم ولا يقربهم بشر، كأنهم أهل بيت من الديلم والخزر.
فقالت: لا يجزعنك ما ترى، فواللّه إنّ ذلك لعهد من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جدّك وأبيك وعمّك، ولقد أخذ اللّه ميثاق أُناس من هذه الأُمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السماوات، إنّهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة فيوارونها وهذه الجسوم المضرّجة، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيّد الشهداء (عليه السلام)، لا يدرس أثره، ولا يعفو رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ ظهوراً، وأمره إلاّ علوّاً "(180).
وهل بعد هذا يبقى مجال للشكّ في موقفها من الثبات، ومحلّها من الطمأنينة، ومبوئها من العظمة؟!
وإنّ حديث الرواة لمّا وقفت على جسد أخيها وقالت: " اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان "(181) يدلّنا على تبوّئها عرش الجلالة، وأنّها المأخوذ عليها الميثاق بتلك النهضة المقدّسة كأخيها الحسين، وإن كان التفاوت محفوظاً بينهما، حتّى إنّ أحدهما لمّا أتمّ النهوض بالعهد وخرج عن العدة بإزهاق نفسه المطهّرة، نهض الآخر بما وجب عليه ومنه تقديم (الذبيح) إلى ساحة الجلال الربوبي والتعريف به، ثُمّ طفقت سلام اللّه عليها ناهضة ببقية الشؤون التي وجبت عليها، ولا استبعاد في ذلك بعد وحدة النور، وتفرّد العنصر.
ثُمّ هلمّ معي لنقرأ موقفها أمام ابن مرجانة، وقد احتشد المجلس بوجوه الكوفة وأشرافها، وهي امرأة عزلاء ليس معها إلاّ
مريض يعاني ألم القيود، ونساء ولهى، وصبية تئن، فأفرغت عن لسان أبيها بكلام أنفذ من السهم وأحدّ من شبا السيوف، وألقمت ابن مرجانة حجراً إذ قالت له: " هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل.. وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتُحاج وتُخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، هبلتك أُمك يابن مرجانة "(182).
وأوضحت للملأ المتغافل خبثه ولؤمه، وأنّه لن يرحض عنه عارها وشنارها، كما أنّها أدهشت العقول وحيّرت الفكر في خطبتها بالناس، والناس يومئذ حيارى يبكون لا يدرون ما يصنعون، وأنى يرحض عنهم العار بقتلهم سليل النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وباؤوا بغضب من اللّه وخزي في الآخرة، ولعذاب اللّه أكبر لو كانوا يعلمون.
كما أنّها أظهرت أمام ابن ميسون أسرار نهضة أخيها الحسين، وعرّفت الأُمة طغيان يزيد، وضلال أبيه، وفظاعة أعمالهم، وعظيم ما اقترفوه، وفيما قالت له: " أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تُساق الأُسارى، أنّ بنا على اللّه هواناً وبك عليه كرامة "(183) إلى آخر كلامها.
ولهذه الفصاحة الدقيقة جاء بها شهيد العزّ والإباء إلى العراق، لعلمه أنّ الغاية التي يُضحّي بنفسه لأجلها ستذهب أدراج السلطة الغاشمة، وتبقى الحقيقة مستورة على السذج لو لم يتعقّبها لسان ذرب، وأنّ كُلّ أحد لا يستطيع في ذلك الموقف الحرج الذي
تحفّه سيوف الظلم أن يتكلّم بالحقيقة، مهما بلغ من المنعة في عشيرته إلاّ العقيلة، فإنّها التي تعلن بموبقات ابن مرجانة وابن معاوية، وإنّ ما جرى على ابن عفيف الأزدي شاهد له.
كما أنّه (عليه السلام) كان على يقين وثقة بإخبار جدّه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّ القوم ـ وإن بلغوا الخسّة والغواية وتناهوا في الخروج عن سبيل الحميّة ـ لا يمدّون إلى النساء يد السوء، وقد أنبأ سلام اللّه عليه عن هذا بقوله لهنّ ساعة الوداع:
" البسوا أزركم، واستعدوا للبلاء، واعلموا أنّ اللّه حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم "(184).
فكان في مجيء الحسين (عليه السلام) بالعقيلة فوائد أهمها: تنزيه دين النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمّا ألصقوه بساحته من الأباطيل، ولا قبح فيه عقلاً، كما لا يستهجنه العرف ويساعد عليه الشرع.
والمرأة وإن وضع اللّه عنها الجهاد ومكافحة الأعداء، وأمرها سبحانه أن تقرّ في بيتها، فذلك فيما إذا قام بتلك المكافحة ودافع عن قدس الشريعة غيرها من الرجال، وأمّا إذا توقّف إقامة الحقّ ونصرة الدين عليها فقط، كان الواجب النهوض بعبء ذلك كُلّه ; كي لا تندرس آثار الحقّ، وتذهب تضحية أُولئك الصفوة دونه أدراج التمويهات، ولذلك نهضت سيّدة نساء العالمين للدفاع عن خلافة اللّه الكبرى حين أُخذ العهد على سيّد الأوصياء بالسكوت.
على أنّ الخضوع لناموس عصمة الإمام في جميع أقواله وأفعاله الصادرة عنه طيلة حياته يُحتّم علينا الإذعان بأنّ ما صدر منه منبعث عن حكم إلهي، قرأه في الصحيفة الخاصّة به التي يخبر الصادق (عليه السلام) عنها: " إنّ لكُلّ واحد منّا صحيفة يعمل بما فيها "(185).
ويقول الإمام الباقر (عليه السلام): " فبتقدم علم إليهم من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام علي والحسن والحسين، وبعلم صمت من صمت منّا.. "(186).
كما أنّه (عليه السلام) أعلم بذلك جابر الأنصاري حين قال له: ألا تصالح كما صالح أخوك الحسن؟ فقال: " إنّ أخي فعل بأمر من اللّه ورسوله، وأنا أفعل بأمر من اللّه ورسوله "(187).
فهذه الأحاديث تفيدنا نموذجاً من الاهتداء إلى معرفة سير الإمام في جميع أفعاله، وأنّها ناشئة عن حكم ربانية لا يتطرّق إليها الشكّ والريب، وليس الواجب علينا إلاّ التصديق بكُلّ ما يصدر منه، من دون أن يلزمنا الشرع أو العقل بمعرفة المصالح الباعثة على تلك الأفعال الصادرة منه، سواء كانت الأفعال في العرف والعادة فظيعة جداً أم لا.
أُمّ البنين
هي فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن(188).
1 ـ وأُمّها ثمامة(189) بنت سهيل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.
2 ـ وأُمّها عمرة بنت الطفيل بن مالك الأخرم بن جعفر بن كلاب.
3 ـ وأُمّها كبشة بنت عروة الرحّال بن جعفر بن كلاب.
4 ـ وأُمّها أُمّ الخشف بنت أبي معاوية فارس الهرّار بن عبادة بن عقيل بن كلاب.
5 ـ وأُمّها فاطمة بنت جعفر بن كلاب(190).
6 ـ وأُمّها عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وسمّاها في العمدة فاطمة(191).
7 ـ وأُمّها آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن ذودان بن أسد بن خزيمة.
8 ـ وأُمّها بنت جحدر بن ضبيعة الأغر بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار.
9 ـ وأُمّها بنت ملك بن قيس بن ثعلبة.
10 ـ وأُمّها بنت ذي الرأسين، وهو خشين بن أبي عصم بن سمح بن فزارة، وفي القاموس: خشين بن لاي(192)، وفي تاج العروس(193): لاي بن عصيم.
11 ـ وأُمّها بنت عمر بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان.
هذا ما ذكره أبو الفرج في المقاتل(194) من جدّات أُمّ البنين والدة العبّاس (عليه السلام)، ومنه عرفنا آباءها وأخوالها، ويعرّفنا التاريخ أنّهم فرسان العرب في الجاهلية، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسية والبسالة، مع الزعامة والسؤدد، حتّى أذعن لهم الملوك، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب بقوله: " ليس في العرب أشجع من آبائها "(195) ولا أفرس.
وذلك مراد أمير المؤمنين من البناء على امرأة ولدتها الفحولة من العرب، فإنّ الآباء لا بدّ وأن تعرف في البنين ذاتياتها وأوصافها، فإذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة، وإن كانت أُنثى بانت في أولادها، وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقّة بقوله: " الخال أحد الضجيعين، فتخيّروا لنطفكم "(196).
وقد ظهرت في أبي الفضل الشجاعتان الهاشمية التي هي الأربى والأرقى، فمن ناحية أبيه سيّد الوصيّين، والعامرية فمن ناحية أُمّه أُمّ البنين.
فإنّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، جدّ ثمامة والدة أم البنين، وهو الجدّ الثاني لأُمّ البنين، قيل له: ملاعب الأسنّة، لفروسيته وشجاعته، لقّبه بذلك حسّان لما رآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به قال: ما هذا إلاّ ملاعب الأسنة. وقيل: إنّ أوس بن حجر قال فيه:(197)
يلاعب أطراف الأسنّة عامرُ فَراح لَهُ حظُ الكتائِبِ أجمعُ
وهو الذي استعانه ابن أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثه ابن عوف بن الأحوص، لمّا تفاخرا على أن يسوق كُلّ منهما مائة ناقة تكون لمن يحكم له، ووضع كُلّ منهما رهناً لمن أبنائهم على يد رجل من بني الوحيد، فسمّي الضمين إلى اليوم، وهو الكفيل، ولما استعانه عامر دفع إليه نعليه وقال له: استعن بهما في منافرتك، فإنّي قد ربعت بهما أربعين مرابعاً(198).
والمرباع: ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه، خالصاً لنفسه، وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهلية(199)، وهذان النعلان من مختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصّة، وإلاّ فلا مزية لهما حتّى يستعين بهما على المنافرة.
ومنهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو أخو عمرة، الجدّة الأوّلى لأُمّ البنين، كان عامر أسود أهل زمانه، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً، حتّى بلغ أنّ قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فإنّ ذكر نسباً عظم عنده وأرفده، وإلاّ أعرض عنه.
وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، قال له قيصر: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة، ثُمّ إنّه دخل على ملك الروم فقال له: انتسب؟ فانتسب له، قال الملك: أنت ابن عمّ عامر بن الطفيل؟ فغضب وخرج عنه(200).
ومنهم عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، والد كبشة، الجدّة الثانية لأُمّ البنين، كان وفّاداً على الملوك، وله قدر عندهم، ومن هنا سُمّي الرحّال، وهو الذي أجاز لطيمة النعمان التي كان يبعث بها كُلّ عام إلى سوق عكاظ، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير، وبسببه هاجت حرب الفجار بين حي خندف وقيس(201).
ومنهم الطفيل، فارس قرزل، وهو والد عمرة، الجدّة الأُولى لأُمّ البنين، كان معروفاً بالشجاعة والفروسية، وهو أخو ملاعب الأسنّة، وربيعة وعبيدة ومعاوية بنو جعفر بن كلاب يقال لأُمهم: أُمّ البنين، وإياها عنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب لما وفد بنو جعفر على النعمان بن المنذر، وكان سميره الربيع بن زياد
العبسي، فاتهموه بالسعي عليهم، فلمّا غدوا على النعمان كان معهم لبيد وهو أصغرهم، فرأوا النعمان يأكل مع الربيع فقال لبيد:
يا واهبَ الخير الجزيل من سعة نحنُ بنو أُم البنين الأربعة
ونحنُ خير عامر بن صعصعة المطعمون الجفنة المدعدعة
الضاربون الهام وسط الخيضعة إليك جاوزنا بلاداً مُسبعة
تخبر عن هذا خبيراً فاسمعه مهلاً أبيتَ اللعن لا تأكل معه
إنّ أُسّته من برص ملمّعة وإنّه يُولج فيها إصبعه
يُولجها حتّى يواري اشجعه كأنّما يطلب شيئاً ضيّعه
فلم ينكر عليه النعمان ولا أحد من العرب ; لأنّ لهم شرفاً لا يدافع، ولذلك طرد النعمان الربيع عن مسامرته وقال له:
شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا تكثر عليّ ودع عنكَ الأباطيلا
قد قيل ذلك إنّ حقاً وإن كذباً فما اعتذارك في شيء إذا قيلا(202)

الزواج

الزواج
تزوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة ابنة حزام العامرية، إمّا بعد وفاة الصديقة سيّدة النساء كما يراه بعض المؤرّخين(203)، أو بعد أن تزوّج بأُمامة بنت زينب بنت رسول اللّه كما يراه البعض الآخر(204). وهذا بعد وفاة الزهراء (عليها السلام) ; لأنّ اللّه قد حرّم النساء على علي ما دامت فاطمة موجودة(205).
فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العبّاس، وعبد اللّه، وجعفر، وعثمان، وعاشت بعده مدّة طويلة ولم تتزوّج من غيره، كما أنّ أُمامة وأسماء بنت عميس وليلى النهشلية لم يخرجن إلى أحد بعده. وهذه الحرائر الأربع توفى عنهنّ سيد الوصيين(206).
وقد خطب المغيرة بن نوفل أُمامة، ثُمّ خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت، وروت حديثاً عن علي (عليه السلام): إنّ أزواج النّبي والوصيّ لا يتزوّجن بعده، فلم يتزوجن الحرائر وأُمهات الأولاد عملاً بالرواية(207).
وكانت أُمّ البنين من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت (عليهم السلام)، مخلصة في ولائهم، ممحّضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تزورها أيام العيد.
وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصّرها بمقام أهل البيت (عليهم السلام)، أنّها لمّا أُدخلت على أمير المؤمنين ـ وكان الحسنان مريضين ـ أخذت تُلاطف القول معهما، وتُلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تُحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأُم الحنون.
ولا بدع في ذلك فإنّها ضجيعة شخص الإيمان، قد استضاءت بأنواره، وربّت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدّبت بآدابه، وتخلّقت بأخلاقه.

الولادة
لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من أُفق المجد العلوي، مرتضعاً ثدي البسالة، متربيّاً في حجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامة بعرق نابض، فترعرع ومزيج روحه الشهامة والإباء والنزوع عن الدنايا، وما شوهد مشتداً بشبيبته الغضة إلاّ وملء اهابه إيمان ثابت، وحشو ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.
فلم يزل يقتصّ أثر السبط الشهيد (عليه السلام) الذي خلق لأجله، وكوّن لأن يكون ردءاً له، في صفات الفضل، ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة، والسؤدد والخطر. فإن خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإن قال فعن الهُدى والرشاد، وإن رمق فإلى الحقّ، وإن مال فعن الباطل، وإن ترفّع فعن الضيم، وإن تهالك فدون الدين.
فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية ; لأنّه كان يستفيد بلج هاتيك المآثر من شمس فلك الإمامة (حسين العلم والبأس والصلاح)، فكان هو وأخوه الشهيد (عليه السلام) من مصاديق قوله تعالى في التأويل: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا }(208)، فلم يسبقه بقول استفاده منه، ولا بعمل أتبعه فيه، ولا بنفسية هي ظلّ نفسيته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس، المنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.
وقد تابع إمامه في كُلّ أطواره حتّى في بروز هيكله القدسي إلى عالم الوجود، فكان مولد الإمام السبط في ثالث شعبان، وظهور أبي الفضل العبّاس إلى عالم الشهود في الرابع منه(209) سنة ست وعشرين من الهجرة(210).
وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا أحضر أمامه ولده المحبوب ليقيم عليه مراسيم السنّة النبويّة التي تقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد، الذي كان يتحرّى البناء على أُمه أن تكون من أشجع بيوتات العرب ; ليكون ولدها ردءاً لأخيه السبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجلل، فكان بطبع الحال يطبق على كُلّ عضو يشاهده مصيبة سوف تجري عليه، يقلّب كفيه اللذين سيقطعان في نصرة حجّة وقته، فتهمل عيونه.
ويبصر صدره عيبة العلم واليقين فيشاهده منبتاً لسهام الأعداء، فتتصاعد زفرته، وينظر إلى رأسه المطهّر فلا يعزب عنه أنّه سوف يقرع بعمد الحديد، فتثور عاطفته، وترتفع عقيرته، كما لا يبارح فاكرته حينما يراه يسقي أخاه الماء ما يكون غداً من تفانيه في سقاية كريمات النبوّة، ويحمل إليهنّ الماء على عطشه المرمض، وينفض الماء حيث يذكر عطش أخيه، تهالكاً في المواساة، ومبالغة في المفادات، وإخلاصاً في الأُخوة، فيتنفس الصعداء، ويكثر من قول: " مالي وليزيد "(211)، وعلى هذا فقس كُلّ كارثة يقدر سوف تلمّ به وتجري عليه.
فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامته كُلّما سرّ أبوه اعتدال خلقته، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السعادة منه ; ساءه ما يشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادح ينوء به، من جرح دام، وعطش مجهد، وبلاء مكرب.
وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أعطف الناس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الأُم الحنون.
إذن فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحد على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميته واضطهاده.
وذكر صاحب كتاب " قمر بني هاشم " ص21 أنّ أُمّ البنين رأت أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض الأيام أجلس أبا الفضل (عليه السلام) على فخذه، وشمّر عن ساعديه، وقبلهما وبكى، فأدهشها الحال ; لأنّها لم تكن تعهد صبيّاً بتلك الشمائل العلوية ينظر إليه أبوه ويبكي، من دون سبب ظاهر، ولمّا أوقفها أمير المؤمنين (عليه السلام) على غامض القضاء، وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين (عليه السلام) ; بكت وأعولت وشاركها مَن في الدار في الزفرة والحسرة، غير أنّ سيّد الأوصياء بشّرها بمكانة ولدها العزيز عند اللّه جلّ شأنه، وما حباه عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد، والسعادة الخالدة.


صفاته
لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياء، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق، وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر ووضاءة في المحيا من ثغر باسم ووجه طلق تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرة جبهته أنوار الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائح المجد، متأرّجة من طيب العنصر.
ولمّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل له: " قمر بني هاشم "(212)، حيث كان يشوء بجماله كُلّ جميل، وينذ بطلاوة منظره كُلّ أحد، حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة:
" كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له: قمر بني هاشم "(213).
وقد وصفته الرواية المحكية في مقاتل الطالبيين بان " بين عينيه أثر السجود "، ونصّها:
" قال المدائني: حدّثني أبو غسّان هارون بن سعد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجه، وكنت أعرفه جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك؟ قال: إنّي قتلت شاباً أمرد مع الحسين، بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني، فيأخذ بتلابيبي حتّى يأتي جهنم، فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى في الحي إلاّ سمع صياحي. قال: والمقتول هو العبّاس بن علي (عليه السلام) "(214).
وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: " لما أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علق في لبب فرسه رأس غلام أمرد، كأنّه القمر ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت: رأس من هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي، قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي(215).
قال: فلبثت أياماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟ فبكى وقال: واللّه منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلة إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نار تؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال "(216).
ويمنع الإذعان بما في الروايتين من تعريف المقتول بأنّه العبّاس بن علي (عليه السلام)، عدم الالتئام مع كونه شاباً أمرد، فإنّ للعباس يوم قتله أربعاً وثلاثين سنة، والعادة قاضيّة بعدم كون مثله أمرد، ولم ينصّ التاريخ على كونه كقيس بن سعد ابن عبادة لا طاقة شعر في وجهه.
وفي دار السلام للعلاّمة النوري ج1 ص114 والكبريت الأحمر ج3 ص52 ما يشهد للاستبعاد، واصلاحه كما في كتاب " قمر بني هاشم " ص126 بأنّه رأس العبّاس الأصغر بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطفّ وشهادته، وهذا كاصلاحه بتقدير المقتول: " أخ العبّاس " المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المستشهد على رواية ابن شهرآشوب، فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.
ولعلّ النظرة الصادقة فيما رواه الصدوق منضماً إلى رواية ابن جرير الطبري تساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.
قال الصدوق: " وبهذا الاسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسين، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغير لونك؟ قال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين، يبصر بين عينيه أثر السجود وجئت برأسه.
فقال القاسم: لقد رأيته على فرس له مرحاً، وقد علّق الرأس بلبانها، وهو يصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟ فقال: يا بني ما يصنع به أشد، لقد حدّثني قال: ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي
حتّى يأخذ بكتفي فيقودني ويقول: انطلق، فينطلق بي إلى جهنم، فيقذف بي، فأصيح، قال: فسمعت جارة له قالت: ما يدعنا ننام شيئاً من الليل من صياحه، قال: فقمت في شباب من الحي فأتينا امرأته فسألناها فقالت: قد أبدى على نفسه قد صدقكم "(217).
وقد اتفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فعل بالرأس الطاهر.
وتفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجل لا شاب، وأنّه من أصحاب الحسين (عليه السلام)، ولا إشكال فيها، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر ـ في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطاهرة ـ أمكننا أن ننسب الاشتباه إلى الروايتين السابقتين، خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنسبة إلى العبّاس، وتوقّف التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.
قال ابن جرير في ج6 ص252 من التاريخ: " وقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله، وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: إنّي لشريكك في قتله! فقال الآخر: واللّه ما قتله غيري! فقال الحصين: أعطنيه أُعقله في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعد فامض به إلى
عبيد اللّه بن زياد، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه، فأبى عليه، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا، فرفع إليه رأس حبيب بن مظاهر، فجال به في العسكر، قد علّقه في عنق فرسه، ثُمّ دفعه بعد ذلك إليه، فلمّا رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيباً فعلّقه في لبان فرسه، ثُمّ أقبل به إلى ابن زياد في القصر، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب، وهو يومئذ قد راهق، فأقبل مع الفارس، لا يفارقه كُلمّا دخل القصر دخل معه، وإذا خرج خرج معه، فارتاب به، فقال: ما لك يا بني تتبعني؟ قال: لا شيء! قال: بلى يا بني أخبرني؟
قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتّى أدفنه؟
قال: يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً!
قال له الغلام: لكن اللّه لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب، أما واللّه لقد قتلته خيراً منك وبكى.
فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همة إلاّ اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة فيقتله بأبيه، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب باجمير ادخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد... "(218).
نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس فيقول: " قلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس.. إلى آخره ".
وهو يدلّ على حياة الأصبغ ذلك اليوم، وعليه فلم يعرف الوجه في تأخّره عن حضور المشهد الكريم، مع مقامه العالي في التشيّع، وإخلاصه في الموالاة لأمير المؤمنين وولده المعصومين (عليهم السلام)، ومشاهدته هذا الفعل من الطاغي يدلّ على عدم حبسه عند ابن زياد كباقي الشيعة الخلّص، ولا مخرج عنه إلاّ بالوفاة قبل تلك الفاجعة العظمى كما هو الظاهر ممّا ذكره أصحابنا عند ترجمته، من الثناء عليه، والمبالغة في مدحه، وعدم الغمز فيه.
فتلك الجملة: " قلت لأبي "، لا يعرف من أين جاءت. ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السنّة فيه كما في اللألئ المصنوعة ج1 ص213، فإنّه بعد أن ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري " أنّهم أُمروا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي "، قال: " لا يصحّ الحديث، لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً "(219).
وفيه ص195 ذكر عن ابن عباس حديث الركبان يوم القيامة رسول اللّه وصالح وحمزة وعلي قال: " رجال الحديث بين مجهول وبين معروف بعدم الثقة "(220).
ولقد طعنوا في أمثاله من خواصّ الشيعة بكُلّ ما يتسنّى لهم، وما ذكر في تراجمهم يشهد لهذه الدعوى، ولا يتحمّل هذا المختصر التبسط في ذكرها، ومراجعة ما كتبه السيّد العلاّمة محمّد بن أبي عقيل في " العتب الجميل على أهل الجرح والتعديل " ص40 في الباب الثاني فيه كفاية، فإنّه ذكر جملة من أتباع أهل البيت طعنوا فيهم بلا سبب إلاّ لموالاة أمير المؤمنين وولده (عليهم السلام).

كنيته
اشتهر أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) بكُنى وألقاب، وُصف ببعضها في يوم الطفّ، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل، فمن كناه: أبو قربة(212) ; لحمله الماء في مشهد الطفّ غير مرّة، وقد سدّت الشرائع، ومنع الورود على ابن المصطفى وعياله، وتناصرت على ذلك أجلاف الكوفة، وأخذوا الاحتياط اللازم، ولكن أبا الفضل لم يرعه جمعهم المتكاثف، ولا أوقفه عن الإقدام تلك الرماح المشرعة، ولا السيوف المجرّدة، فجاء بالماء وسقى عيال أخيه وصحبه.
ولم ينصّ المؤرّخون وأهل النسب على كنيته بأبي القاسم ; إذ لم يذكر أحد أنّ له ولداً اسمه القاسم.
نعم، خاطبه جابر الأنصاري في زيارة الأربعين بها قال: " السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عباس بن علي "(222)، وبما أنّ هذا الصحابي الكبير المتربّي في بيت النبوّة والإمامة خبير بالسبب الموجب لهذا الخطاب، فهو أدرى بما يقول.
وقد اشتهر بكنيته الثالثة " أبي الفضل " من جهة أنّ له ولداً اسمه الفضل(223)، وكان حرياً بها فإنّ فضله لا يخفى، ونوره لا يطفى. ومن فضائله الجسام نعرف أنّه ممّن حبس الفضل عليه، ووقف لديه، فهو رضيع لبانه، وركن من أركانه، وإليه يشير شارح ميمية أبي فراس:
بذلتَ أيا عباس نفساً نفيسة لنصرِ حُسين عزّ بالنصر من مثلِ
أبيتَ التذاذ الماء قبل التذاذهِ فحسن فعال المرء فرع عن الأصلِ
فأنتَ أخو السبطين في يوم مفخر وفي يوم بذل الماء أنت أبو الفضلِ(224)

اللقب
اشتهر بين العامّة والخاصّة بأنّه سلام اللّه عليه باب الحوائج ; لكثرة ما صدر منه من الكرامات وقضاء الحاجات ومن هنا قيل فيه(225):
للشوس عباس يريهم وجهَهُ والوفد يَنظِرُ باسِماً محتاجَها
باب الحوائجِ مَا دَعتهُ مروعةً في حاجة إلاّ ويُقضِي حَاجَها
بأبِي أبيِ الفضلِ الذِي مِنْ فَضلهِ السامِي تَعلّمتِ الوَرى منهاجَها
وقيل له: " قمر بني هاشم "(226) ; لوضاءته وجمال هيئته وإنّ اسرة وجهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء.
وأمّا " الشهيد " فلم ينصّ عليه أحد إلاّ أنّه الظاهر من عبارات أهل النسب، ففي المجدي لأبي الحسن العمري قال ـ بعد ذكر أولاده ـ: " هذا آخر نسب بني العبّاس الشهيد السقا ابن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) "(227).
وفي سرّ السلسلة لأبي نصر البخاري: " والشهيد أبو الفضل العبّاس بن علي أُمه أُمّ البنين "(228).
ثُمّ روى عن معاوية بن عمّار الزيدي قال: " قلت للصادق (عليه السلام): كيف قسمتم نحلة فدك بعد ما رجعت عليكم؟ قال: " أعطينا ولد عبيد اللّه بن العبّاس الشهيد الربع والباقي لولد فاطمة، فأصاب بني العبّاس بن علي أربعة أسهم، الحصة أربعة نفر، ورثوا علياً (عليه السلام) "(229).
وكان الحريّ بأرباب المقاتل والنسب أن يدوّنوا له هذا اللقب المعرب عن أسمى منزلة له، وهو " العبد الصالح " كما خاطبه الإمام الصادق في الزيارة المخصوصة به التي رواها أبو حمزة الثمالي حيث يقول: " السلام عليك أيّها العبد الصالح "(230).
فإنّك جدّ عليم بأنّ هذه الصفة أرقى مراتب الإنسان الكامل ; لأنّها حلقة الوصل بين المولّى والعبد، وأفضل حالات أيّ فاضل، حيث يجد نفسه الطرف الرابط لموجد كيانه جلّ وعلا، وإن من أكمل مراتب الوجود فيما إذا التأم المنتهى مع المبدأ بنحو الصلة، وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغ العبد أرقى مراتب الإنسانية التي تلحقه بعالم البساطة، وتنتهي به إلى صقع التجرّد، فتؤهّله لأن يتصل
بالمبدأ الأعلى، فلو فقد الإنسان تلك الملاءمة دحره عن حضيرة القدّاسة انقطاع النسبة، وبعد المرمى، وشسوع المسافة.
ولا نعني بهذه المرتبة أن يكون العبد مواظباً على العبادات البسيطة المسقطة للخطاب والرافعة للتعزير فحسب، وإنّما نقصد منه ما إذا عبد اللّه سبحانه حقّ عبادته، الناشئة عن فقه وبصيرة ومعرفة بالمعبود الذي يجب أن يعبد، من دون لحاظ مثوبة أو عقوبة، حتّى يكون المولى هو الذي يسمّيه عبداً له، ويصافقه على تصديق دعواه بالعبودية له.
وما أسعد العبد حيث يبصر ما بيده من سلك الطاعة، ويعرف أنّ مولاه قابض على طرفه الآخر، تزلفه إليه جاذبة الصلة، وأشعة القرب.
وعلى ما قلناه كانت هذه المرتبة عند الأنبياء (عليهم السلام) أرقى مراتبهم، وأرفع منصاتهم ; لأنّ طرف عبوديتهم أمنع وأشرف من طرف رسالتهم، فالطرف الأعلى في العبودية " مبدأ الحقّ سُبحانه وتعالى "، والطرف الأسفل منته إلى شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا النبوة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الأُمة(231).
ولولا أنّ هذه الصفة أسمى الصفات التي يتصف بها العبد لما خصّ اللّه تعالى أنبياءه، بها فقال سبحانه: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ }(232).
وقال تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى }(233).
وقال عزّ شأنه: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ }(234).
وقال جلّ وعلا: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(235).
وقال تعالت أسماؤه: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(236).
وقال عزّ سبحانه: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ }(237).
وقال عظم ذكره: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَاب }(238).
وقد كان في وسع المولى تعالت أسماؤه أنّ يقول في خطاب نبيّه الكريم: " وإن كُنتم في ريب ممّا نزلنا على رسولنا.. " ونحوه ممّا يدل على النبوّة والرسالة، ولكن حيث كان حبيب اللّه وصفيّه متجرّداً عمّا يحجبه عن مشاهدة المهيمن سبحانه، فانياً في سبيل خدمة المولّى، لا يرى في الوجود غير منشئ الأكوان ; استحقّ أن يهبه البارئ تعالى أرقى صفة تليق بهذا المقام.
ومن هنا نرى الرسول المسيح قدّم عبوديته على رسالته فقال: { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }(239).
وأنت لا تفتأ في جميع الفرائض والنوافل في اليوم والليل تشهد بأنّ محمّداً عبده ورسوله، ولم تقل: خاتم الأنبياء، أو علّة الكائنات، أو سرّ الموجدات، أو حبيب اللّه وصفيّه، مع أنّها صفات لا تليق إلاّ بذات اشتقت من نور القدّس، ولكنّك عرفت أن أسمى هذه الصفات وأجلّ ما يليق بالعبد حال اتصاله بالمبدأ الأعلى هو وصفه بالعبودية لمولاه.
ومن هنا ظهر لنا أنّ من أجلى الحقائق وأرقى مراتب الفضلّ الّذي لا يُحلّق إليهِ طائر الفكر، ولا يدرك مداه أي تصوّر، غير أنّ من الواجب التصديق به على الجملة، هو وصف سيّدنا العبّاس (عليه السلام)بهذه الصفة الكاملة " العبد الصالح " التي أضافها اللّه تعالى إلى أنبيائه، ومبلّغي شريعته، وأمنائه على وحيه، ومنحه بها الإمام الصادق (عليه السلام).

السقا
الماء حياة العالم، وليست حاجة أي جزء من أجزائه أمسّ من الآخر، فلا جزء ولا جزيء في الكون إلاّ وهو خاضع له، في وجوده، وفي نشوئه وبقائه، وقد أعرب عنه سبحانه بقوله: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ }(240).
وإليه استند ابن عباس في حلّ لغز ملك الروم، فإنّه وجّه إلى معاوية قارورة يطلب منه أن يضع فيها من كُلّ شيء، فتحيّر معاوية واستعان بابن عباس في كشف الرمز، لعلمه بأنّه يستقي من بحر أمير المؤمنين (عليه السلام) المتموّج بالحكم والأسرار، فقال ابن عباس: " لتملأ له ماء، فإنّ اللّه يقول { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيء حَيّ }، فأدهش ملك الروم وتعجّب وقال: للّه أبوه ما أدهاه "(241).
فلا يخالج اليقين بأهمّيته الكبرى في دور الحياة أي شكّ.
وإن من يكون معروفه الذي تندى به أنامله، وتسوقه إليه جبلته، هذه المادة الحيوية، لعلى جانب ممنع من الفضل، وقد عرقت فيه شائج الرقة، وتحلّى بغريزة العطف، ونبض فيه عرق الحنان، ولا يكون إسداء مثله إلاّ عن لين ورأفة على الوجود، وإن تفاوتت المراتب بالنسبة إلى الموجدات الشريفة وما دونها، ولا
يعدو الشرف والشهامة هذا المتفضّل بسرّ الحياة، فهو شريف يحب الإبقاء على مثله، أو عطوف لا يجد على الاغاثة منه، ولا على قدرته في الإعانة لسائر الموجودات جهداً ولا عطباً.
وإذا كانت الشريعة المطهّرة حثّت على السقاية ذلك الحثّ المتأكد، فإنّما تلت على الناس أسطراً نوريّة، ممّا جبلوا عليه، وعرفت الأُمة بأنّ الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتّب على سقي الماء في الدار الآخرة، ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان اللّه وزلفى للمولّى سبحانه، يستتبع الأجر الجزيل، وليس هو طبيعي محضّ.
وهذا ما جاء عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام)، من فضل بذل الماء في محلّ الحاجة إليه وعدمها، كان المحتاج إليه حيواناً، أو بشراً، مؤمناً كان، أو كافراً.
ففي حديث النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أفضل الأعمال عند اللّه أبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها(242)، ولو كان على الماء، فإنّه يوجب تناثر الذنوب كما تنتثر الورق من الشجر(243)، وأعطاه اللّه بكُلّ قطرة يبذلها قنطاراً في الجنّة، وسقاه من الرحيق المختوم، وإن كان في فلاة من الأرض ورد حياض القدّس مع النبيّين(244).
وسأله رجل عن عمل يقرّبه من الجنّة فقال: " اشتر سقاء جديداً ثُمّ اسق فيه حتّى تخرقه، فإنّك لا تخرقه حتّى تبلغ به عمل الجنّة "(245).
وقال الصادق (عليه السلام): " من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن أعتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء كان كمن أحيى نفساً، ومن أحيى نفساً فكأنّما أحيى الناس أجمعين "(246).
وقد دلّت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار، فلا يختصّ اللطف منه جلّ وعلا بطائفة دون طائفة.
وقد كشف الإمام الصادق (عليه السلام) السرّ في جواب من قال له: ما طعم الماء؟ فقال (عليه السلام): " طعم الحياة "(247).
فالسقاية أشرف شيء في الشريعة المطهّرة، تلك أهميتها عند الحقيقة، ومكانتها من النفوس، ولهذه الأهمية ضرب المثل " بكعب بن مامة الأيادي "(248).
وأضحت السقاية العامة لا ينوء بعبئها إلاّ من حلّ وسطاً من السؤدد والشرف وأعالي الأُمم لاساقتها، ولذا أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج، فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المُحلّى كما كان يسقيهم اللبن(249).
وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها، ثُمّ حفر بئراً اسمها (العجول) في الموضع الذي كانت دار أُم هاني فيه، وهي أوّل سقاية حفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا:
نروي على العجول ثُمّ نَنطلق إنّ قصياً قد وفى وقد صدق(250)
ثُمّ حفر قصي بئراً سمّاها (سجلة) وقال فيها(251):
أنا قُصّي وحَفرتُ سِجلة تروي الحجيج زغلة فزغلة
وكان هاشم أيام الموسم يجعل حياضاً من آدم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم، وهو يومئذ قليل(252).
ثُمّ إنّه حفر بئراً سمّاها (البندر)(253) وقال: " إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً "(254).
وأمّا عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج، وزاد على ذلك أنّه لمّا حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة، لمكانها من المسجد الحرام، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل(255)، وبنى عليها
حوضاً، فكان هو وابنه الحرث ينزعان الماء ويملأن الحوض، فحسدته قريش على ذلك، وعمدوا إلى الحوض بالليل فكسروه، فكان عبد المطلب يصلحه بالنهار وهم يكسرونه بالليل، فلمّا أكثروا عليه إفساده دعا عبد المطلب ربّه سبحانه وتعالى، فرأى في المنام قائلاً يقول: " قل لقريش إنّي لا أحلّها لمغتسل، وهي لشارب حلّ وبل "، فنادى في المسجد بما رأى، فلم يفسد أحد من قريش حوضه إلاّ رمي بداء بجسده حتّى تركوا حوضه وسقايته(256)، وفي ذلك يقول خويلد بن أسد(257):
أقولُ ومَا قَولِي عَليهمُ بسبّة إليكَ ابنُ سَلمّى أنتَ حَافِرُ زَمزَمُ
حَفيرةُ إبراهِيمَ يَومَ ابنِ هَاجَر وَركضَةَِ جِبريِل عَلى عَهد آدَمِ
ولمّا وافق قريشاً على المحاكمة عند كاهنة بني سعد بن هذيم، وكان بمشارف الشام، وسار عبد المطلب بمن معه من قومه، حيث إذا كانوا بمفازة لا ماء فيها ونفد ماؤهم استسقوا ممّن كان معهم من قريش، فأبوا أن يسقوهم، حفظاً على الماء، فأمر عبد المطلب أصحابه أن يحفروا قبوراً لهم ويدفن من يموت منهم عطشاً في حفرته ويبقى واحد، فضيعة واحد أيسر من ضيعة جماعة، وبعد أن فرغوا من الحفر قال عبد المطلب: " إنّ هذا منّا لعجز، لنضربنّ في الأرض عسى اللّه أن يرزقنا ماءً، فركب راحلته،
فلمّا انبعث نبع من تحت خفها ماء عذب، فكبّر عبد المطلب، وشرب أصحابه وملؤوا أسقيتهم، ودعا قريشاً أن يستقوا من الماء، فأكثروا منه، ثُمّ قالوا: إنّ اللّه قد قضى لك علينا ولا نخاصمك في زمزم، إنّ الذي سقاك في هذه الفلاة هو الذي سقاك زمزم، فارجع راشداً.
وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه، وكان يحلب الإبل، فيضع اللبن مع العسل في حوض من ادم عند زمزم، لسقاية الحاج "(258).
ثُمّ قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج(259)، وكان يجعل عند رأس كُلِّ جادة حوضاً فيه الماء ليستقي منه الحاج، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم، ووفّره في المشاعر فقيل له: (ساقي الحجيج).
أمّا أمير المؤمنين فقد حوى أكثر ممّا حواه والده الكريم من هذه المكرمة، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها، وذلك يوم بدر، وقد أجهد المسلمين العطش، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طلب الماء، فرقاً من قريش، لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء، وثار به كرمه المتدفق، فلبّى دعاء الرسول، وانحدر نحو القليب، وجاء بالماء حتّى أروى المسلمين(260).
ولا ينسى يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كُلِّ غيور، فإنّ معاوية لمّا نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء، حتّى كضهم الضمأ، فأنفذ إليه أمير المؤمنين صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي، يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه اللّه تعالى لجميع المخلوقات، وكُلّهم فيه شرع سواء، فأبى معاوية إلاّ التردي في الغواية والجهل، فعندها قال أمير المؤمنين: " ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء "(1)، ثُمّ أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشام حملة واحدة، فحمل الأشتر والأشعث في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول:
مِيعَادُنَا اليَومَ بَياضُ الصُبْحِ هَل يَصلُحُ الزَادُ بغَيرِ مِلحِ؟
والأشعث يقول:
لأورِدنّ خَيلِي الفُرَاتَا شِعثَ النَواصِي أو يُقَالَ مَاتَا
فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه، أبى صاحب النفسية المقدّسة التي لا تعدوها أي مأثرة، أن يسير على نهج عدوه، حتّى أباح الماء لأعدائه، ونادى بذلك في أصحابه(2)، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدوّ بأيّ صورة.
هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة، متبوّئين على منصّات المجد والخطر، متكئين على أرائك العزّ
والمنعة، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم، وطهارة أعراقهم، أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.
وأنت إذا استشففت الخصوصيات المكتنفة بكُلِّ منها، فإنّ الصراحة لا تدعك إلاّ أن تقول بتفاوت المراتب فيها من ناحية الفضيلة.
كما لا تجد منتدحاً عن تفضيل الحسين على غيره يوم سقى الحر وأصحابه في " شراف "(263)، وهو عالم بحراجة الموقف، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم، ووخامة المستقبل، وإنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس، وتشق المرائر، لكن العنصر النبوّي، والأصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلاّ أن يحوز الفضل.
وأني أحسب أنّ ما ناء به أبو الفضل (عليه السلام) في أمر السقاية لا يوازنه شيء من ذلك، يوم ناطح جبالاً من الحديد ببأسه الشديد، حتّى اخترق الصفوف، وزعزع هاتيك الألوف، وليس له هَمّ في ذلك المأزق الحرج إلاّ إغاثة شخصيّة الرسالة، المنتشرة في تلك الأمثال القدّسية من الذرية الطيّبة، ولم تقثعه هذه الفضيلة حتّى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذّ بشيء من الماء قبل أن يلتذّ به أخوه الإمام وصبيته الأزكياء.
هنالك حداه إيمانه المشفوع باليقين، وحنانه المرتبط بالكرم إلى أن ينكفىء إلى المخيّم ولا يحمل إلاّ مزادة من ماء، يدافع عنها بصارمه الذكر، ويزينه المثقف ولواء الحمد يرفّ على رأسه، غير أنّ ما يحمله هو أنفس عنده من نفسه الكريمة، بلحاظ ما يريده من المحافظة على تلك المزادة الملأى.
وراقه أن تكون هي الذخيرة الثمينة، مشفوعة بما هو أعظم عند اللّه تعالى، فسمح بيمينه وشماله ـ وكلتاهما يمن ـ أن تقطعا بعين اللّه، في كلاءة ما يتهالك دونه، لينال الأُمنيّة قبل المنيّة، وما خارت عزيمة العبّاس (عليه السلام) إلاّ حين أحبّ أن لو كانت المراقة نفسه لا القربة. فيا أبعد اللّه سهماً أسال ماءها، ولم يكن " سعد العشيرة " طالباً للحياة بعده لو لم يأته العمود الطائش، ألا لعنة اللّه على الظالمين.
ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في الأيام العشرة سُمّي " السقا "، نصّ عليه أبو الحسن في المجدي، والداودي في عمّدة الثالب، وابن إدريس في مزار السرائر، وأبو الحسن الديار البكري في تاريخ الخميس ج2 ص317، والنويري في نهاية الأرب ج2 ص341، والشبلنجي في نور الأبصار ص93، والعلاّمة الحجة محمّد باقر القايني في الكبريت الأحمر ج2 ص34(264).
ولصاحب هذا اللقب فيوضات على الأُمة لا تحد، وبركات لا تحصر:
هو البَحرُ مِن أيّ النَواحِي أتَيتَهُ فِلجتُهُ المَعرُوفِ والجُودِ سَاحِله
ومن ذلك ما ذكره العلاّمة السند السيّد محمّد بن آية اللّه السيّد مهدي القزويني (قدس سره) في كتاب " طروس الإنشاء " قال:
" في سنة 1306 هـ انقطع نهر الحسينية، وعاد أهل كربلاء يقاسون شحّة الماء، وكضّة الظمأ، فأمرت الحكومة العثمانية بحفر نهر في أراضي السيّد النقيب السيّد سلمان، فمنع النقيب ذلك، واتفق أن زرت كربلاء، فطلب أهلها أن أكتب إلى النقيب، فكتبت إليه ما يشجيه، وعلى حالهم يبكيه:
في كَربلا لَك عُصبةُ تَشكُوا الظَمَا مِن فَيضِ كَفِّكَ تستمِدُ رَوُاءهَا
وأراكَ يَا سَاقِي عُطَاشى كَربَلا وأبوُكَ سَاقِي الحَوضَ تَمنعُ مَاءَها(265)
فأجاز النقيب حفر النهر، وانتفع أهل كرلاء ببركة هذا اللقب الشريف (السقا).

نشأته
ممّا لا شكّ فيه أنّ لنفسيات الآباء ونزعاتهم وكمياتهم من العلم والخطر أو الانحطاط والضعة دخلاً تاماً في نشأة الأولاد وتربيتهم، إنّ لم نقل إنّ مقتضاهما هو العامل الوحيد في تكيّف نفسيات الناشئة، بكيفيات فاضلة أو رذيلة، فلا يكاد يرتأي صاحب أي خطة إلاّ أن يكون خلفه على خطته، ولا أن الخلف يتحرّى غير ما وجد عليه سلفه، ولذلك تجد في الغالب مشاكلة بين الجيل الأول والثاني في العادات والأهواء والمعارف والعلوم، اللهمّ إلاّ أن يوسد هناك تطوّر يكبح ذلك الاقتضاء.
وعلى هذا الناموس يسعنا أن نعرف مقدار ما عليه أبو الفضل (عليه السلام) من العلم والمعرفة وحسن التربية بنشوئه في البيت العلوي، منبثق أنوار العلم، ومحط أسرار اللاهوت، ومختبأ نواميس الغيب، فهو بيّت العلم والعمل، بيت الجهاد والورع، بيت المعرفة والإيمان:
بَيّتُ عَلاَ سَمكُ الضِراحُ رِفعَةً فَكانَ أعَلاَ شَرفَاً وأمَنعَا
أعزَهُ اللّهُ فَما تَهبِطُ فِي كَعبَتهِ الأملاكُ إلاّ خَضعَاً
بَيّتُ مِن القدّس ونَاهيِك بِهِ مَحطُ أسرِارِ الهُدى ومَوضِعَا
وكَان مأوى المُرتَجي والمُلتَجى فَما أعزّ شَأنهُ وأرفَعَا(266)
وبسيف صاحب هذا البيت المنيع انجلت غواشي الإلحاد، وببيانه تقشّعت غيوم الشبّه والأوهام.
إذن، فطبع الحال يدلّنا على أنّ سيّد الأوصياء لم يبغِ بابنه بدلاً في حسن التربية الإلهية، ولا أنّ شظية الخلافة يروقه غير اقتصاص أثر أبيه الأقدّس، فلك هاهنا أن تحدّث عن بقيّة أمير المؤمنين في أيّ ناحية من نواحي الفضيلة، ولا حرج.
لم تكن كُلِّ البصائر في أبي الفضل (عليه السلام) اكتسابية، بل كان مجتبلاً من طينة القدّاسة التي مزيجها النور الإلهي، حتّى تكونت في صُلّب من هو مثال الحقّ، ذلك الذي لو كشف عنه الغطاء ما ازداد يقيناً، فلم يصل أبو الفضل (عليه السلام) إلى عالم الوجود إلاّ وهو معدن الذكاء والفطنة، وأُذن واعية للمعارف الإلهية، ومادة قابلة لصور الفضائل كُلّها، فاحتضنه حجر العلم والعمل، حجر اليقين والإيمان، وعادت أرومته الطيّبة هيكلاً للتوحيد، يغذّيه أبوه بالمعرفة، فتشرق عليه أنوار الملكوت، وأسرار اللاهوت، وتهب عليه نسمات الغيب، فيستنشق منها الحقائق.
دعاه أبوه (عليه السلام) في عهد الصبا وأجلسه في حجره وقال له:
" قل واحد! فقال: واحد، فقال له: قل إثنين! قال: استحي أن أقول إثنين باللسان قلت واحداً إثنان "(267).
وإذا أمعنّا النظر في هذه الكلمة ـ وهو على عهد نعومة من أظفاره في حين أنّ نظراءه في ألسن لا يبلغون إلى ما هو دون ذلك الشأو البعيد ـ فلا نجد بدأ من البخوع بأنّها من أشعة تلك
الإشراقات الإلهية، فما ظنّك إذن حينما يلتقي مع المبادئ الفيّاضة من أبيه سيّد الوصيين، وأخويه الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة، فلا يقتني من خزائن معارفهم إلاّ كُلّ دُرّ ثمين، ودرّي لامع.
وغير خفيّ ما أراده سيّدنا العبّاس، فإنّه أشار إلى أنّ الوحدانية لا تليق إلاّ بفاطر السموات والأرضين، ويجلّ مثله المتفرّع من دوح الإمامة أن يجري على لسانه الناطق بالوحدانية لباري الأشياء صفة تنزّه عنها سبحانه وتعالى وعنها ينطق كتابه المجيد: { لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا }(268).
وممّا زاد في سرور أبيه أمير المؤمنين أنّ زينب العقيلة كانت حاضرة حينذاك وهي صغيرة فقالت لأبيها أتحبّنا؟ قال: بلى، فقالت: لا يجتمع حبّان في قلب مؤمن: حبّ اللّه، وحبّ الأولاد، وإن كان ولا بدّ فالحبّ للّه تعالى والشفقة للأولاد، فأعجبه كلامها وزاد في حُبّه وعطفه عليهما(269).
أمّا العلم ; فهو رضيع لبانه، وناهيك في حجر أبيه مدرسة يتخرّج منها مثل أبي الفضل (عليه السلام)! وما ظنّك بهذا التلميذ المصاغ من جوهر الاستعداد، وذلك الأُستاذ الذي هو عيّبة العلم الإلهي، وعلبة أسرار النبوّة، وهو المقيّض لنشر المعارف الربوبية، وتعلم الأخلاق الفاضلة، ونشر أحكام الإسلاّم، ودحض الأوهام والوساوس.
وإذا كان الإمام (عليه السلام) يُربّي البعداء الأجانب بتلك التربية الصحيحة المأثورة، حتّى استفادوا منه آسار التكوين، ووقفوا على غامض ما في النشأتين، وكان عندهم بواسطة تلك التربية علم المنايا والبلايا، كحبيب بن مظاهر، وميثم التمّار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، وأمثالهم ; فهل من المعقول أن يذر قرّة عينّه، وفلذة كبده خلواً من أي علم؟!
أو أن قابلية المحلّ تربى بأولئك الأفراد دون سيّدنا العبّاس (عليه السلام)؟
لا واللّه، ما كان سيّد الأوصياء يضنّ بشيء من علومه، لا سيّما على قطعة فؤاده، ولا أنّ غيره ممّن انضوى إلى أبيه علم الهداية يشقّ له غباراً في القابلية والاستعداد.
فهنالك التقى مبدأ فيّاض، ومحلّ قابل للإفاضة، وقد ارتفعت عامّة الموانع، فذلك برهان على أنّ " عباس اليقين " من أوعيّة العلم، ومن الراسخّين فيه.
ثُمَّ هلمّ معي إلى جامعتين للعلوم الإلهية، ملازمتين للجامعة الأُولى في نشر المعارف، وتقيضهما لإفاضة التعاليم الحقّة لكُلِّ تلميذ، والرقي به إلى أوج العظمة في العلم والعمل، ألا وهما " كليّتا " السبطين الحسن والحسين (عليهما السلام). وانظر إلى ملازمته لأخويه بعد أبيه سيّد الأوصياء، ملازمة الظلّ لديه، فهناك يتجلّى لكَ أنّ سماء علمهما لم تهطل وبالاً إلاّ وعاد لؤلؤاً رطباً في نفسه، ولا أنفقا شيئاً من ذلك الكنز الخالد إلاّ واتخذه ثروة علميّة لا تنفد.
أضف إلى ذلك ما كان يرويه عن عقيلة بيت الوحي، زينب الكبرى، وهي العالمة غير المعلّمة بنصّ الإمام زين العابدين(270).
وبعد هذا كُلِّه، فقد حوى أبو الفضل من صفاء النفس، والجبلّة الطيّبة، والعنصر الزاكي، والإخلاص في العمل، والدؤوب على العبادة ; ما يفتح له أبواباً من العلم، ويوقفه على كنوز المعرفة، فيتفرّع من كُلِّ أصل فرع، وتنحلّ عنده المشكلات.
وإذا كان الحديث ينصّ على أنّ مَن أخلص للّه أربعين صباحاً انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، إذن فما ظَنّك بمن أخلص للّه سبحانه طيلة عمره، وهو متخلّ عن كُلِّ رذيلة، ومتحلِّ بكُلِّ فضيلة، فهل يبقى إلاّ أن تكون ذاته المقدّسة متجلّية بأنوار العلوم والفضائل، وإلاّ أن يكون علمه تحقّقاً لا تعلّقاً؟!
وبعد ذلك فما أوشك أن يكون علمه وجدانياً، وإن برع في البرهنة وتنسيق القياس، ومن هنا جاء المأثور عن المعصومين (عليهم السلام): " إنّ العبّاس بن علي زُقَّ العِلمُ زقاً "(271).
وهذا من أبدع التشبيه والاستعارة، فإنّ الزقّ يستعمل في تغذية الطائر فرخه حين لم يقوِ على الغذاء بنفسه، وحيث استعمل الإمام (عليه السلام) ـ وهو العارف بأساليب الكلام ـ هذه اللفظة هنا، نعرف أنّ أبا الفضل (عليه السلام) كان محلّ القابلية لتلقي العلوم والمعارف، منذ كان طفلاً ورضيعاً، كما هو كذلك بلا ريب.
فلم يكن أبو الفضل بِدْعَاً من أهل هذا البيت الطّاهر الذي حوى العلم المتدفّق منذ الصغر، كما شهد بذلك أعداؤهم، ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام):
أنّ رجلاً مرّ بعثمان بن عفان وهو قاعد على باب المسجد، فسأله، فأمر له بخمسة دراهم، فقال له الرجل: أرشدني، قال عثمان: دونك الفتية الذين تراهم، وأومأ بيده إلى ناحية من المسجد فيها الحسن والحسين وعبد اللّه بن جعفر، فمضى الرجل نحوهم وسألهم، فقال له الحسن: يا هذا، المسألة لا تحلّ إلاّ في ثلاث: دم مفجع، أو دين مقرح، أو فقر مدقع، أيّتها تسأل؟ فقال: في واحدة من هذه الثلاث، فأمر له الحسن بخمسين ديناراً، والحسين بتسعة وأربعين ديناراً، وعبد اللّه بن جعفر بثمانية وأربعين، فانصرف الرجل ومرّ بعثمان، فحكى له القصّة وما أعطوه، فقال له: ومَن لك بمثل هؤلاء الفتية، أولئك فطموا العلم فطماً، وحازوا الخير والحكمة.
قال الصدوق بعد الخبر: " معنى (فطموا العلم): أي قطعوه عن غيرهم وجمعوه لأنفسهم "(272).
وجاء في الأثر: أنّ يزيد بن معاوية قال في حقّ السجاد: " إنّه من أهل بيت زقوا العلم زقاً ".
ومن أجل ذلك قال العلاّمة المحقّق الفقيه المولى محمّد باقر ابن المولى محمّد حسن ابن المولى أسد اللّه ابن الحاج عبد اللّه ابن
الحاج علي محمّد القائني، نزيل برجند، في كتاب الكبريت الأحمر ج3 ص45: " إنّ العبّاس من أكابر وأفاضل فقهاء أهل البيت، بل إنّه عالم غير متعلّم، وليس في ذلك منافاة، لتعليم أبيه (عليه السلام) إياه ".
وكان هذا الشيخ الجليل ثبتاً في النقل، منقّباً في الحديث، يشهد بذلك كبريته، تتلمذ (رحمه الله) في العراق على الفاضل الإيرواني، وميرزا حبيب اللّه الرشتي، والسيّد الشيرازي، وفي خراسان على السيّد مرتضى القائني، والعلاّمة محمّد تقي البجنردي، وكان له أربعة وثلاثون مؤلفاً.
ومن مستطرف الأحاديث ما حدّثني به الشيخ العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُردبادي، عن حجّة الإسلاّم السيّد ميرزا عبد الهادي آل سيّد الأُمة الميرزا الشيرازي (قدس سره)، عن العالم البارع السيّد ميرزا عبد الحميد البجنردي، أنّه شاهد في كربلاء المشرّفة رجلاً من الأفاضل قد اغترّ بعلمه، وبلغ من غلوائه في ذلك أنّه كان في منتدى من أصحابه وجرى ذكر أبي الفضل، وما حمله من المعارف، الإلهية التي امتاز بها على سائر الشهداء، فصارح الرجل بأفضليته على العبّاس! واستغرب من حضر هذه الجرأة، وانكروا عليه، ولا موه على هذه البادرة، فطفق الرجل يبرهن على تهيئته بتعداد مآثره وعلومه، وما ينوء به من تهجّد وتنفل وزهادة، وقال: إن كان أبو الفضل العبّاس يفضل بأمثال هذه فعنده مثلها، والشهادة يوم الطفّ لا تقابل ما تحمله من العلوم الدينية وأُصولها ونواميسها.
فقام الجماعة من المجلس والرجل على ذلك الغرور والغلواء، غير نادم ولا متهيب.
ولمّا أصبحوا لم يكن لهم هَمّ إلاّ معرفة خبر الرجل، وأنّه هل بقي على غيّه أو أنّ الهداية الإلهية شملته؟ فقصدوا داره وطرقوا الباب، فقيل لهم: إنّ الرجل في حرم العبّاس، فتوجّهوا إليه ليستبروا خبره، فإذا الرجل قد ربط نفسه في الضريح الأقدّس بحبل شدّ طرفه بعنقه والآخر بالضريح، وهو تائب نادم ممّا فرط.
فسألوه عن شأنه وخبره؟ فقال: لمّا نمت البارحة، وأنا على الحال الذي فارقتكم عليه، رأيت نفسي في مجتمع من أهل الفضل، وإذا رجل دخل النادي وهو يقول: إنّ أبا الفضل قادم عليكم، فأخذ ذكره من القلوب مأخذاً حتّى دخل (عليه السلام) والنور الإلهي يسطع من أسارير جبهته، والجمال العلوي يزهو في محيّاه، فاستقرّ على كرسي في صدر النادي، والحضور كُلّهم خاضعون لجلالته، وخصتني من بينهم رهبة عظيمة، وفرق مقلق، لما أتذكّره من تفريطي في جنّب ولي اللّه، فطفق (عليه السلام) يحيّي أهل النادي واحداً واحداً حتّى وصلت النوبة إليّ.
ثُمّ قال لي: ماذا تقول أنت؟ فكاد أن يرتجّ عليّ القول، ثُمّ راجعت نفسي وقلت: في المصارحة منتدحاً عن الارتباك وفوزاً بالحقيقة، فأنهيت إليه ما ذكرته لكم بالأمس من البرهنة.
فقال (عليه السلام): أمّا أنا فقد درست عند أبي أمير المؤمنين وأخوي الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام)، وأنا على يقين من ديني بما تلقّيته من مشيختي من الحقائق ونواميس الإسلاّم، وأنت شاكّ في دينك، شاك في إمامك، أليس الأمر هكذا؟ فلم يسعني إنكار ما يقوله.
ثُمّ قال (عليه السلام): وأمّا شيخك الذي قرأت عليه، وأخذت منه فهو أتعس منك حالاً، وما عسى أن يكون عندك من أُصول وقواعد مضروبة للجاهل بالأحكام، يعمل بها إذا أعوزه الوصول إلى الواقع، وإنّي غير محتاج إليها، لمعرفتي بواقع الأحكام من مصدر الوحي الإلهي.
ثُمّ قال (عليه السلام): وفيّ نفسيات كريمة، وأخذ يعددها: من كرم، وصبر، ومواساة، وجهاد إلى غيرها، ولو قسّمت على جميعكم لما أمكنك حمل شيء منها.
على أنّ فيك ملكات رذيلة من حسد، ومراء، ورياء، ثُمّ ضرب بيده الشريفة على فمّ الرجل، فانتبه فزعاً نادماً، معترفاً بالتقصير، ولم يجد منتدحاً إلاّ بالتوسل بهِ، والإنابة إليه، صلوات اللّه عليه وعلى آبائه.


اليقين
لقد كان أبو الفضل (عليه السلام) أحد الأفذاذ العلويين الذين لم تكن المفاخر مزايا زائدة على ذاتّياتهم وإن مدحوا بآثارها ; لأنهم زبد المخض، حازوا شرف النبوّة، وفضيلة الخلافة، تتنضد بهم حمل العلم، وتعتدل موازين العمل، وتترنّح بهم صهوات المنابر.
فكان سلام اللّه عليه متربّعاً على منصّة المجد، ومِلْءُ الندي هيبة، ومِلْءُ العيون بهجة، ومِلْءُ المسامع ذكره الجميل، ومِلْءُ القلوب محبة، وحشو اهابه علم وعمل، وحشو الردى سؤدد وشرف.
وإن الإحاطة بما حواه من اليقين الثابت والبصيرة النافذة بأحد طريقين!
الأوّل: سبر أحواله، ومواقع إقدامه وإحجامه، ومواضع بطشه وإناته، وموارد صفحه وانتقامه. ولا بدّ أن يكون المنقّب عند ذلك مميزاً بين مدراج الرأي ومساقط الخطل، بصيراً بمراقي الحلم ومهاوي البطش.
والثاني: إخبار مَن وقف على ذلك، بمباشرة وافية، وعلم متسع، تم شكله وظهر إنتاجه، أو تعليم إلهي، أو أخذ عمّن له صلة بذلك التعليم.
وغير خفي أنّ قمر بني هاشم ملتقى ذينك الطرفين، في البصيرة واليقين، في دينه وعقله، في معارفه وأخلاقه، في حلّه
وارتحاله، وكان ينظر إلى جملة الأحوال بين البصيرة التي تخرق الحجب وتبصر ما وراءها من أسرار وخبايا، لا بناظر البصر الذي تحجبه الحواجز، وتمنعه السدول، فيرد عن الإدراك خاسئاً، فلا يكون أمر تهالك دونه إلاّ بعلم ثابت، ويقين راسخ، وإيمان لا يشوبه شك، فإنّه:
سِرّ أبيهِ وهَوُ سرّ البَاريِ مَلِيكُ عَرش عَالِمُ الأسَرارِ
وارِثُ مَن حَازَ مَواريِثَ الرُسلِ أبَوُ العُقُولِ والنَفُوسِ والمُثُلِ
وكَيفَ لا وَذاتُهُ القُدّسيةِ مَجمُوعةُ الفَضائِلِ النفسيّةِ
لقد كان أبو الفضل يعرف العراقيين ونزعات أهل الكوفة، منذ عهد أبيه وأخيه السبط المجتبى، بالتجارب الصحيحة، وإنّهم تجمعهم الأماني، وتفرّقهم الرضائخ، ويشاهد الأمويين وقوّة سلطانهم، وتوغّلهم في إراقة الدماء، وبطشهم في الناس، وطيشهم في الأُمور، ويرى ضعف جانب (أبي الضيم (عليه السلام))، وقلّة أنصاره، وطبع الحال يحدو مثله إلى التحيّز إلى فئة أُخرى، والأقل من التقاعد عن أيّ الفريقين، وما كان مثله لو سالم الأمويين يعدم ولاية أو قيادة لجيوشهم، أو عيشة راضية يقضي بها أيامه.
لكنّ " عباس اليقين " لم يكن له طمع في شيء من حطام الدنيا، فلم يرقه إلاّ الالتحاق بأخيه سيّد الشهداء، موطناً نفسه الكريمة لأي كارثة أو شدّة مؤلمة.
هذا والتكهّن بمصير أمر الحسين (عليه السلام) في مسيره نصب عينه، والمغّيبات المأثورة عن رسول اللّه وأمير المؤمنين والمسموعات من أخويه الإمامين مِلْءُ أُذنه، فلم يبرح مع " أخيه الشهيد " يفترع ربوة ويسف إلى واد، لا يرى في هاتيك الثنايا والعقبات إلاّ تصديقاً
لما عرفه، ويقيناً بمنتهى أمره وغايته، حتّى بلغهم نبأ فاجعة مسلم بن عقيل، فعرف القوم انثيال الكوفيين عن الحقّ ورضوخهم إلى حكم الطاغية، هنالك خارت العزائم، وأخفقت الظنون، وطفق أهل المطامع والشره يتفرّقون عن السبط المقدّس، يميناً وشمالاً(273)، إلاّ من حداهم إلى المسير حقّ اليقين، وفي الطليعة منهم سيّدنا العبّاس، فإنّه لم يزدد إلاّ بصيرة في النهضه الكريمة، وسروراً بأزوف الغاية المتوخّاة.
فسار به وبهم " شهيد العظمة "، وهو لايشاهد، كما أنّهم لايرون كُلّما قربوا من الكوفة إلاّ تدبّر الناس وتألبّهم عليهم، وتتوارد عليهم الأنباء بما هو أشدّ، لكن لم يثن ذلك من عزائمهم شيئاً ولا يكدي أملاً، بل كانوا يخفّفون الخطا، ويسرعون السير، لينتهوا إلى معانقة الرماح، ومصافحة الصفاح، أكثر ممّا يسرع الصب إلى الخود الرداح، ومرشدهم إلى ذلك بعد إمام الهدى (أبو الفضل).
رَكبُ حِجَازيِوُنَ بَينَ رِحَالِهم تَسرِي المَنَايَا انجَدوُا أو اتهَمُوا
يَحدُونَ فِي هَزجِ التِلاوُةِ عَيسهِم والكُلِّ فِي تَسَبِيِحهِ يَترَنّمُ

الأصحاب

الأصحاب
هبط موكب العظمة عراص الغاضريات، وهو يضمّ الفتية من آل عبد المطلب، والأُباة الصفوة من الأصحاب، فكانوا فرحين بما أتاهم المولى من فضله، واختصّهم به من المنحة الكبرى، حيثُ جعل أثر ميتتهم حياة للدين ومدحرة للأضاليل، فكانوا رضوان اللّه عليهم بما أودع اللّه تعالى فيهم من النيات الصادقة لايهابون في سبيل السير إليه تعالى عقبة كأداء، أو نبأً موحشاً ; من تخاذل القوم، وتدابر النفوس، وتضاءل القوى، لما عرفوه من أنّها موهبة لا يحظى بها إلاّ الأمثل فالأ مثل، فقابلوا الأخطار بجأش طامن، وجنّان ثابت، لا تزجره أيّ هائلة، وكُلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً وانبساطاً، بين ابتسامة ومداعبة، ومن فرح إلى نشاط.
وَمُذ أخَذَت فِي نَينَوى مِنهُم النَوُى ولاَحَ بِهَا للغَدرِ بَعضُ الَعلاَئِمِ
غَدا ضَاحِكَاً هَذَا وذَا مُتبّسماً سُروُراً ومَا ثَغرُ المَنُونِ بَبِاسِمُ(274)
هازل برير بن خضير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: " ما هذه ساعة باطل! فقال برير: واللّه لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولا كهلاً، ولكنّي لمستبشر بما نحن لاقون، واللّه ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أن يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددت أنّهم مالوا علينا الساعة "(275).
وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين: " ما هذه ساعة ضحك! قال حبيب: وأيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا؟! ما هو إلاّ أن يميل علينا هؤلاء الطغاة بسيوفهم فنعانق الحور "(276).
وناهيك بعباس بن أبي شبيب الشاكري حينما برز إلى الحرب، وقد أحجم القوم عنه ; لأنّهم عرفوه بالإقدام والبسالة، فلمّا رأى أنّه لم يبارزه أحد ألقى ما عليه من درع ولامة، فاغتنمها القوم فرصة، ومع ذلك لم يبرز إليه أحد، يكنّهم رموه بالسهام والحجارة، وأنّه ليطرد أكثر من مائتين، فرحاً مبتهجاً بما يلاقيه من حبور ونعيم.
وإنّي لأعجب من الرواة حملة التاريخ إذا توسّعوا في النقل وقذفوا أُولئك الأُباة الصفوة، والغلب المصاليت، بما تندى منه وجه الإنسانية، ويأباه الوجدان الصادق، فقيل: " كان القوم بحالة ترتعد فرائصهم، وتتغيّر ألوانهم، كُلِّما اشتدّ الحال، وضاق المجال، إلاّ الحسين فإنّ أسرّة وجهه تشرق كالبدر المنير "(277).
وذلك بعد أن أعوزتهم الوقعة في شهيد الإباء، فلم يجدوا للغمز فيه نصيباً، فمالوا على أصحابه وأهل بيته الذين قال فيهم الإمام (عليه السلام): " إنّي لا أعلم أصحاباً خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ وأوفى من أهل بيتي "(278)، " وقد استلمتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني، استيناس الطفل إلى محالب أُمه "(279).
وليس ذلك إلاّ من الداء الدفين بين أضالع قوم دافوا السمَّ في الدّسم، إلى سذج آخرين حسبوه حقيقة راهنة، فشوّهوا وجه التاريخ، غير أنّ البصير الناقد لا تخفى عليه نفسية القوم، ولا ما جاؤوا به.
وأعجب من ذلك قول محفر ليزيد: " إنّا أحطنا بهم، وهم يلوذون عنّا بالآكام والحفر، لواذ الحمام من الصقر "(280).
بفيك الكثك أيّها القائل، كأنّك لم تشاهد ذلك الموقف الرهيب، فترى ما للقوم من بسالة وإقدام ومفادات دون الدين الحنيف، حتّى أغفل يومهم مع ابن المصطفى أيام صفّين وما شاكلها من حروب دامية، ووقائع هائلة، وحتّى أخذت أندية الكوفة لا تتحدّث إلاّ عن شجاعتهم.
أجل، إنّ تلك الأهوال أدهشتك، فلم تدرِ ما تقول، أو إنّ الشقّة بعدت عليك فنسيت ما كان، ولكن هل غاب عن سمعك
صراخ الأيامى، وعويل الأيتام في دور الكوفة، حتّى طبق أرجاءها من جراء ما أوقعه أُولئك الصفوة بأعداء اللّه ورسوله، بسيوفهم الماضيّة. والعذر لك أنّك أدركت ساعة العافية، فطفقت تشوّه مقامهم المشكور، طلباً لمرضاة (يزيد الخمور).
ولقد صرّح عن صدق نيّاتهم وإخلاصهم في التضحية عدوهم الألدّ عمرو بن الحجّاج محرّضاً قومه: " أتدرون من تقاتلون؟! تقاتلون فرسان المصر، وأهل البصائر، تقاتلون قوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه، على قلتهم، واللّه لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: قد صدقت الرأي، ما رأيت أرسل في الناس من يعزم عليهم أن لا يبارزهم رجل منهم "(281)، " ولو خرجتم إليهم وحداناً لاتوا عليكم "(282).
وقيل لرجل شهد يوم الطفّ مع عمر بن سعد: " ويحك أقتلتم ذرية رسول اللّه؟
فقال: عضضت بالجندل، إنّك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها كالأُسود الضارية، تحطّم الفرسان يميناً وشمالاً، وتلقي أنفسها على الموت، لا تقبل الأمان، ولا ترغب في المال، ولا يحول حائل بينها وبين حياضّ المنيّة، أو الاستيلاء على الملك، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها، فما كنّا فاعلين لا أُم لك؟ "(283).
وأيّ فرد منهم أقلقه الحال حتّى ارتعدت فرائصه؟! أهو زهير بن القين الذي وضع يده على منكب الحسين وقال مستأذناً:
إقدِم هُدِيتَ هَادِياً مَهدِيا فَاليَومَ أَلقى جَدّكَ النَبّيا!
أم ابن عوسجة الذي يوصي حبيب بن مظاهر بنصرة الحسين وهو في آخر رمق من الحياة، فكأنّه لم يقنعه عن المفادات كُلّ ما لاقاه من جهد وبلاء؟!
أم أبو ثمامة الصائدي الذي لم يهمّه في سبيل السير إلى ربِّه سبحانه، كُلّ ما هناك من فوادح وآلام إلاّ الصلاة التي دنا وقتها، فقال للحسين: " نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه لا تُقتل حتّى أُقتل دونك، وأحب أن ألقى اللّه وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها، فقال الحسين: " ذكرت الصلاة جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين "(284)؟!
أم سعيد الحنفي الذي تقدّم أمام الحسين وقت الصلاة واستهدف لهم، فأخذوا يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً، حتّى سقط لكثرة نزف الدم(285)، فقال للحسين: أوفيت يابن رسول اللّه؟! قال: " نعم، أنت أمامي في الجنّة "؟!
أم ابن شبيب الشاكري الذي ألقى جميع لامته لتقرب منه الرجال، فيموت، في حين نرى الكماة الأبطال المعروفين بالشجاعة والإقدام يتدرعون للحرب كي لا يخلص إليهم ما يزهق نفوسهم؟!
أم الغفاريان اللذان استأذنا الحسين في الحملة وهما يبكيان، فقال (عليه السلام) لهما: " ما يبكيكما، فواللّه إنّي لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين "؟!
فقالا: ما على أنفسنا نبكي، ولكن نبكي عليك أبا عبد اللّه، نراك قد أُحيط بك ولا نقدر على الدفع عنك، والذب عن حرمك "(286)، فجزّاهما الحسين خيراً؟!
وإذا تأمّلنا قول الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام): " إنّ أصحاب جدّي الحسين لم يجدوا ألم مسّ الحديد "(287)، وضحَ لنا ما عليه أُولئك الأطايب من الثبات، وأنّهم غير مكترثين بما لاقوه من ألم الجراح، ولعاً منهم بالغاية، شوقاً إلى جوار المصطفى.
ولا يستغرب هذا من يعرف حالة العاشق، وأنّه عند توجّه مشاعره نحو المحبوب لا يشعر بكُلِّ ما يلاقيه من عناء ونكد، حكى المؤرّخون أنّ عزّة دخلت على كثير الشاعر وهو في خبائه يبري سهاماً له، ولما نظر إليها أدهشه الحال، وأبهره الجمال، فأخذ يبري أصابعه، وسالت الدماء، وهو لا يحسّ بالألم(288).
وأكبر مثال على ذلك حكاية الكتاب المجيد حالة النسوة حينما شاهدن جمال الصدّيق يوسف (عليه السلام)، فقال تعالى: { فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ }(289).
وإذا كانت النسوة لم يشعرن بألم قطع المدية أيديهنّ، لمحض جمال الصديق، فليس من الغريب ألا يجد أصحاب الحسين (عليه السلام) ـ وهم زبد العالم كُلِّه ـ ألم مسِّ الحديد عند نهاية عشقهم لمظاهر الجمال الإلهي، ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة بعد التكهرب بولاء سيّد الشهداء (عليه السلام).
هذا ما عليه الأصحاب من سرّ المفادات، وقد كان مُرشدهم إلى ذلك، والمقدّم فيهم (حامل اللواء)، إذا لم يكن هياباً بما شاهده من لغط، وصخب، وضوضاء، وصهيل، وجحفل مجر، يتبعه جيش لجب، وقد أخذ ابن ميسون عليهم أقطار الأرض وآفاق السماء.
بِجَحافِل بالطّف أُولهَا وأخيرُهَا بالشّامِ مُتصلِّ
فلا يرى إلاّ وجوهاً عابسة، كُلّ يتحرّى استئصال شأفة الإمامة، وإزهاق من يجنح إليها، و" قمر الهاشميين " أسرة وجهه، تشرق كالبدر المنير ; لأنّه (عليه السلام) يجد ببصيرته الهادية له إلى المفادات قرب الأجل المضروب، وحصول الضالة المنشودة، وهذا كُلّه بعد العلم بأنّه إذا فارق أخاه في ذلك الموقف يكون في سعة من الخطر.
وأنا لكبر موقفه وثباته حينما قال لهم أبو عبد اللّه (عليه السلام): " هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، فأنتم في إذن منّي، فإنّ القوم لم يطلبوا غيري، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري، وليأخذ كُلِّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، وتفرّقوا في سوادكم هذا "(290).
هنا كان لعبّاس الشرف والحفاظ موقفه المشهود الذي أظهر فيه من قوّة الإيمان، وغزارة العلم، وعوامل الشهامة، ما أوقف جوالة الفكر، وحيرة نفاذة الحلم، حيث ابتدر الجماعة بقوله: " ولِمَ نفعل ذلك لا أبقانا اللّه بعدك "؟! وتابعه الهاشميّون الصفوة والصحب الأكارم، متخذين قوله حقيقة راهنة، من معلم هذّبته المعرفة، وبصّرته التجارب، وإنّه لم يرد بقوله إلاّ التضحية الخالّصة، والسعادة الخالدة، فأجابوا بما انحنت عليه الأضالع من إيثار موتة العزّ دون سبط الرسول على حياة مخدجة بعده، وإن كانت محفوفة بنعومة من العيش.
فقال آل عقيل: " قبّح اللّه العيش بعدك، نفديك بأنفسنا وأهالينا ".
وقال ابن عوسجة: " لو لم يكن معي سلاح لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت دونك ".
وقال سعيد الحنفي: " أنحن نخلّي عنك؟! لا واللّه حتّى يعلم اللّه أنا قد حفظنا وصيّة رسول اللّه فيك، ولو علمت أنّي أُقتل ثُمّ أُحيى، ثُمّ أُقتل، ثُمّ أُحرق حيّاً، ثُمّ أُذرى يفعل بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك. وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثُمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً ".
وتكلم الجماعة بما يشبه ذلك(291).
فأجَادُوا الجَوابَ واختَرطُوا البيـ ـضَ اهتَياجَاً إلى جِلادِ الأعَادِي
وانثَنَوا للوغَى غِضَابَ أُسود عَصِفتْ فِي العَديِ بصَرصِر عَادِ
حَرسِوُه حتّى احتسُوا جُرعِ المَو تِ ببيضِ الضَبَا وسُمرِ الصِعَادِ
سَمحَوُا بالنُفُوسِ فِي نُصرةِ الدِ ينِ وأدّوا فِي اللّهِ حَقّ الجِهَادِ
وبعد أن عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفادات أوقفهم على غامض القضاء، وقال: " إنّي أُقتل وكلّكم تقتلون، حتّى القاسم وعبد اللّه الرضيع، إلاّ السجّاد، فإنّه أبو الأئمة "، ثُمّ كشف عن أبصارهم، فرأوا ما حباهم اللّه من نعيم الجنّان، وعرفهم منازلهم فيها(292).
وليس ذلك في القدرة الإلهية بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، ولقد حكى المؤرّخون وقوع نظير هذا لسحرة فرعون لمّا آمنوا بموسى (عليه السلام) وأراد فرعون قتلهم، فإنّهم شاهدوا منازلهم في الجنّة(293).

الأمان
لم تزل هذه الفضيلة نفسية أبي الفضل في جميع مواقفه عند ذلك المشهد الرهيب، لاسيّما حين بلغه كتاب عبيد اللّه بن زياد بالأمان له ولإخوته الذي أخذه عبد اللّه بن أبي المحل بن حزام، وكانت أُم البنين عمّته، وبعثه مع مولاه كزمان، فلمّا قدم كربلاء قال للعباس وإخوته: " هذا أمان من ابن زياد، بعثه إليكم خالكم عبد اللّه! فقالوا له: أبلغ خالنا السلام وقل له: لا حاجة لنا في أمانكم، أمان اللّه خير من أمان ابن سميّة "(294).
كيف يتنازل أبو الفضل للدنية وهو ينظر بعين غير أعين الناس، ويسمع بأُذنه الواعية غير ما يسمعونه، يشاهد نصب عينه الرضوان الأكبر مع " خلف النّبي المرسل "، ويسمع هتاف الملكوت من شتى جوانبه بالبشرى له بذلك كُلِّه عند استمراره مع أخيه الإمام.
نعم، وجد " عباس المعرفة " نفسه المكهربة بعالم الغيب، المجذوبة بجاذب مركز القدّاسة إلى التضحية دون حجّة الوقت لا محالة، فرفض ذلك الأمان الخائب إلى أمان الرسول الأعظم.
وهنالك طمع الشمر فيه وفي إخوته أن يفصلهم عن مستوى الفضيلة، فناداهم: أين بنو أُختنا؟ أين العبّاس وإخوته؟ فاعرضوا
عنه، فقال الحسين: " أجيبوه ولو كان فاسقاً ".
قالوا: ما شأنك؟ وما تريد؟
قال: يا بني أُختي، أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد.
فقال له العبّاس: لعنك اللّه ولعن أمانك، تؤمننا وابن رسول اللّه لا أمان له(295)؟! وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء، فرجع الشمر مغضباً(296).
إنّ هذا الجلف الجافي قد أساء الظنّ بهؤلاء الفتية نجوم الأرض من آل عبد المطلب، فحسب أنّهم ممّن يستهويهم الأمن والدعة، أو تروقهم الحياة مع أبناء البغايا، هيهات! خاب الرّجس ففشل، واخفق ظنّه، وأكدى أمله، ولم يسمع في الجواب منهم إلاّ لعنك اللّه، وتبّت يداك، ولعن ما جئت به.
وحيث إنّ ابن ذي الجوشن يفقد البصيرة التي وجدها أبو الفضل، والنفسية التي يحملها، والسؤدد المتحلّي به، والحفاظ اللائح على وجناته ; طمع أن يستهوي رجل الغيرة ويجرّه إلى الخسف والهوان والحياة مع الظالمين.
أيظنّ أن أبا الفضل ممن يستبدل النور بالظلمة، ويستعيض عن الحقّ بالباطل، ويدع علم النبوّة، وينضوي إلى راية ابن مرجانة؟!
كلاّ
ولمّا رجع العبّاس وإخوته إلى الحسين واعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القين إلى العبّاس حدّثه بحديث، قال فيه:
إنّ أباك أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب من أخيه عقيل ـ وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها ـ أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وذوو الشجاعة منهم، ليتزوّجها، فتلد غلاماً فارساً شجاعاً، ينصر الحسين بطفّ كربلا، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية إخوتك ".
فغضب العبّاس وقال: " يا زهير، تشجّعني هذا اليوم، فواللّه لارينّك شيئاً ما رأيته "(297).
فجدل أبطالاً، ونكّس رايات في حالة لم يكن همّه من القتال، ولا منازلة الأبطال، بل كان همّه إيصال الماء إلى أطفال أخيه، ولكن لا مردّ للقضاء، ولا دافع للأجل المحتوم.
ولا يَهمّهُ السّهامُ حَاشَا مَِن هَمّه سِقايَةُ العُطَاشَا
فَجادَ باليَمِينِ والشِمَالِ لِنُصرةِ الدِينِ وحِفظِ الآلِ
المواساة
لا يسع الباحث في حديث مشهد الطفّ المقدر فيه (قمر بني هاشم) حقّ قدره إلاّ البخوع له بتحقيق هذه الغريزة الكريمة، أعني المواساة بأجلى مظاهرها، وأنت إذا أعرت لما أفضنا القول في البصيرة أُذناً واعية عرفت كيف كان مقامه مع أخيه سيّد شباب أهل الجنّة، وإيثاره التفاني معه على الحياة الرغيدة، وتهالكه في المفادات، منذ مغادرته الحجاز إلى هبوطه أرض كربلا، وحتّى لفظ نفسه الأخير تحت مشتبك النصول، فلا تجد مناصاً عن الإذعان بأنّه (عليه السلام) كان على أعلا ذروة من المواساة لأخيه الإمام، يربوا على المواسين معه جميعاً ; لأنّ مواساته كانت عن بصيرة، هي أنفذ البصائر يومئذ، بشهادة الإمام الصادق (عليه السلام): " كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صلب الإيمان "(298).
وقد شهد له بهذه المواساة إمامان معصومان، واقفان على الضمائر، ويعرفان مقادير الرجال، فيقول الحجة عجّل اللّه فرجه في زيارة الناحية: " السلام على أبي الفضل العبّاس، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الواقي له، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه. لعن اللّه قاتله يزيد بن الرقاد الجهني، وحكيم بن الطفيل السنبسي الطائي ".
ويقول الصادق (عليه السلام) في الزيارة المتلوة عند ضريحه الأقدّس: " أشهد لقد نصحتَ للّه ولرسوله ولأخيك، فنعم الأخ المواسي " فجعل (عليه السلام) الشهادة له بالمواساة المنعم بها نتيجة نصحه للّه الذي هو مقتضى دينه ويقينه، ونصحه لرسول اللّه الذي هو تمام التوحيد، والنصح لأخيه الإمام الذي هو الجزء الأخير للعلّة، وبه كمال الدين وتمام النعمة { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي }(299)، وبه قبول الأعمال.
" لو أنّ عبداً صام وصلّى وزكّى ولم يأتِ بالولاية ما قبل اللّه له عملاً أبداً "، فرضى الربّ والرسول وطاعتهما منوطان بطاعة ولي الأمر { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }(300).
فأراد الإمام الصادق بذلك الخطاب أنّ نصح " عباس الهداية " لأخيه المظلوم على حدّ نصحه للّه ولرسوله، مع حفظ المرتبة في كُلِّ منهما، فالطاعة شرع سواء في الثلاثة، تحت جامع واحد، هو وجوب الخضوع لهم، والتسليم لأمرهم، غاية الأمر تختلف المراتب، فإنّه تجب الطاعة أولاً وبالذات بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، وبما أنّ الرسول مبعوث من قبله وجبت بالنسبة إلى الرسول، وبما أنّ الإمام خليفة لهذا المبعوث المرسل لعدم بقائه إلى الأبدّ، وعدم إهمال العباد كالبهائم، وعدم وضوح الكتاب المجيد، لوجود المخصص والمقيد، والناسخ والمتشابه، وعدم
وفائه بالأحكام الشرعية بالبداهة ; وجب على الأُمة إطاعة هذا الإمام، فالمراد من المؤمنين في هذه الآية ومن أُولي الأمر في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ }(301)، شيء واحد، وقد انحصر مصداقه في سيّد الوصيين وأبنائه المعصومين الأحد عشر بالتواتر عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
فالنصح الذي أشار إليه الإمام في الزيارة هو لازم تلك الطاعة ومقتضى الولاية، تحت جامع واحد، وهو لزوم مناصرة الدين والصادع به، المنبسط على ذات الباري تعالى والرسول والإمام كُلِّ في مرتبته.
وقد أفادنا هذا الخطاب أنّ مفادات أبي الفضل ومواساته لم تكن لمحض الرحم الماسة والإخاء الواشج، ولا لأنّ الحسين (عليه السلام)سيّد أُسرته، وكبير قومه، وإن كان في كُلّ منها يمدح عليه هذا الناهض، لكنّها جمعاء كانت مندكة في جنّب ما أثاره " عباس البصيرة " من لزوم مواساة صاحب الدين، والتهالك دون دعوته، سواء كانت المفادات بعين المشرع سبحانه، أو تحت راية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو إمام الوقت، وكُلّ بعين اللّه وعن مرضاته جلّ شأنه، وقد اجتمعت في مشهد الطفّ تحت راية الحسين (عليه السلام).
إنّ من الواجب إمعان النظر في عمله الناصع حين ملك الشريعة فاغترف غرفة من الماء ليشرب، ولكن الزمه حقّ اليقين، وقوّة الإيمان أن ينفض الماء من يده، حيث لم يَر له مساغاً في التأخير عن سقاية حجّة الوقت الإمام المعصوم، وحرم النبوّة، ولو
بمقدار التروي من الماء هنيئة، بل عرف أنّ الواجب عليه الإبقاء على مهجة خليفة الرسول بسقايته ولو في أن يسير، إذ الحالة شرع سواء بين قليل الزمان وكثيره، ولذلك نسب فعله هذا إلى الدين حيث يقول: " تاللّه ما هذا فعال ديني ".
على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي يحدّث في النقد النزيه ج1 ص100 عن فخر الذاكرين الثقة الثبت الشيخ ميرزا هادي الخراساني النجفي نقلاً عن " عدّة الشهور " أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) دعا العبّاس وضمّه إليه، وقبّل عينيه، وأخذ عليه العهد إذا ملك الماء يوم الطفّ أن لا يذوق منه قطرة وأُخوه الحسين عطشان. فقول أرباب المقاتل: نفضَ الماء من يده ولم يشرب إنّما هو لأجل الوصيّة من أبيه المرتضى.
لَم يَذُق الفُراتَ أُسوةُ بِهِ ميمَمَاً بمائِهِ نَحوُ الخِبَا
لَم يَرَ فِي الدِينِ يَبلُ غُلةِ وصُنُوه فيِهِ الظَمَا قَد الهَبَا
والمُرتَضى أَوصَى إليهِ فِي ابنِهِ وصيّة صَدّتُهُ عَن أن يَشرَبَا
لذَاكَ قَد أسنَدَهُ: لِديِنِه وعَن يَقيِنِ فِيهِ لَن يَضطَرِبَا
هَذا مِن الشّرعِ يَرى فِعلتَهُ ومِن صِراطِ أحمَدَ مَا ارتَكَبَا
وَمِثلُه الحُسيِنُ لَمّا مَلكَ المَاءَ فَقِيلَ رَحلُه قَد نُهِبَا
أمَّ الخِيّامَ نَافِضَاً لِمضائهِ إذ عَظُمَ الأمرُ بِهِ واعَصُوصَبَا
فَكانَ للعَبّاس فِيهِ أُسوةٌ إذ فَاضَ شَهمَاً غَيرَ مَفلُولِ الشِبَا

عثرة التأريخ

عثرة التأريخ
لقد كان من نفوذ بصيرة العبّاس أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه، والجهاد البالغ حدّه، حتّى راقه أن يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج، والدعوة إلى السعادة الخالدة في رضوان اللّه الأكبر، وأن يحظى بأُجور الصابرين، على ما يَلمّ به من المصاب بفقد الأحبة، فدعا أُخوته من أُمه وأبيه وهم " عبد اللّه، وجعفر، وعثمان " وقال لهم: " تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم "(302).
فإنّه أراد بذلك تعريف أُخوته حقّ المقام، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكن مصروفاً إلاّ إلى جهة واحدة وهي: المفادات والتضحية في سبيل الدين، إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا، من مراقبة أمر الأولاد بعدهم، ومَن يرأف بهم ويربيهم، فاللازم حينئذ السير إلى الغاية الوحيدة وهي: الموت دون حياة الشريعة المقدّسة، فكانوا كما شاء ظنّه الحسن بهم، حيث لم يألوا جهداً في الذب عن قدس الدين، حتّى قضوا كراماً متلفّعين بدم الشهادة.
لكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ ج6 ص257 قال: " وزعموا أنّ العبّاس بن علي قال لأخوته من أُمّه وأبيه عبد اللّه وجعفر وعثمان: يا بني أُمي تقدّموا حتّى أرثكم، فإنّه لا ولد لكم، ففعلوا وقتلوا "(303).
وقال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين: " قدّم أخاه جعفر بين يديه، لأنّه لم يكن له ولد ليحوز ميراثه العبّاس، فشدّ عليه هاني بن ثبيت فقتله "(304).
وفي مقتل العبّاس قال: " قدّم أُخوته لأُمه وأبيه، فقتلوا جميعاً، فحاز مواريثهم، ثُمّ تقدّم وقتل فورثهم وإياه عبيد اللّه، ونازعه في ذلك عمّه عمر بن علي، فصولح على شيء رضي به "(305).
هذا غاية ما عندهما، وقد تفرّدا به من بين المؤرّخين وأرباب المقاتل، ولا يخفى على من له بصيرة وتأمّل بعده عن الصواب.
وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العبّاس ميراث أُخوته مع وجود أُمهم أُم البنين، وهي من الطبقة المتقدّمة على الأخ، ولم يجهل العبّاس شريعة تربّى في خلالها؟!
على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى الناس، سيّما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله، فأيّ شخص كان يدور في خُلدهِ ذلك اليوم حيازة المواريث بتعريض ذويه وأخوته للقتل؟! وعلى الأخصّ يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم ولا يتهنّأ بمالهم، بل يكون فعله لمحض أن تتمتّع به أولاده.
بئست الكلمة القبيحة التي راموا أن يلوثّوا بها ساحة ذلك السيّد الكريم.
فهل ترغب أنت أن يقال لك: عرضت أُخوتك وبني أُمك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أم أنّ هذا من الدناءة والخسّة، فلا ترضاه لنفسك، كما لا يرغب به سوقة الناس وأدناهم، فكيف ترضى أيّها المنصف ذلك لمن علّم الناس الشهامة وكرم الأخلاق، وواسى حجّة وقته بنفسه الزاكية؟!
وكيف ينسب هذا لخرّيج تلك الجامعة العُظمى، والمدرسة الكبرى، جامعة النبّوة، ومدرسة الإمامة، وتربّى بحجر أبيه، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الامامين؟!
ولو تأمّلنا جيداً في تقديمه إياهم للقتل لعرفنا كبر نفسه، وغاية مفاداته عن أخيه السبط، فلذة كبد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومهجة البتول، فإنّ من الواضح البيّن أنّ غرضه من تقديمهم للقتل:
1 ـ إمّا لأجل أن يشتدّ حزنه، ويعظم صبره، ويرزأ بهم، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة، إذ لا ولد لهم يطالبون بهم.
2 ـ وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من المفادات دون الدين، أمام سيّد الشهداء، ويشهد له ماذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، وابن نما في مثير الأحزان من قوله لهم: " تقدّموا حتّى أراكم قد نصحتم للّه ولرسوله، فإنّه لا ولد لكم "، ولم يقصد بهم المخايل، وإنمّا رام أبو الفضل أن يتعرّف مقدار ولائهم لقتيل العبرة. وهذا منه (عليه السلام) إرفاق بهم، وحنان عليهم، وأداء لحقّ الأُخوة بإرشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.
3 ـ وإمّا لأجل أن يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه، والتجهيز للجهاد بتقديم أُخوته ليثاب أيضاً بأجر الصابرين، ويحوز كلتا السعادتين، وربما يدلّ عليه ماذكره أبو الفرج في مقتل عبداللّه من قول العبّاس له: " تقدّم بين يدي حتّى أراك قتيلاً واحتسبك، فكان أول من قتل من أُخوته ".
وذكر أبو حنيفة الدينوري أنّ العبّاس قال لأُخوته: " تقدموا بنفسي أنتم وحاموا عن سيّدكم حتّى تموتوا دونه، فتقّدموا جميعاً وقتلوا ".
ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم ـ وحاشاه ـ لم يكن لاحتساب أخيه عبداللّه معنى، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في الأخبار الطوال(306).
وهناك مانع آخر من ميراث العبّاس لهم وحده، حتّى لو قلنا على بعد ومنع بوفاة أُم البنين يوم الطف، فإنّ ولد العبّاس لم يكن هو الحائز لمواريثهم، لوجود الأطراف وعبيد اللّه بن النهشلية، فإنهّما يشتركان مع العبّاس في الميراث، كما يشاركهم سيّد شباب أهل الجنّة، وزينب العقيلة، وأم كلثوم، ورقية، وغيرهنّ من بنات أمير المؤمنين، فكيف والحال هذا يختصّ العبّاس بالميراث وحده؟!
هذا كُلّه إن قلنا بوفاة أُم البنّين يوم الطف، ولكن التاريخ يثبت حياتها يومئذ وأنّها بقيت بالمدينة، وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.
والذي أظنّه أن منشأ ذلك التقوّل على العبّاس أنّه أوقفهم السير على قوله لأخوته: " لا ولد لكم "، من غير رويّة وتفكير في غرضه ومراده، فحسبوه أنّه يريد الميراث، فنّوه به واحد باجتهاده أو احتماله، وحسبه الآخرون رواية، فشوّهوا به وجه التاريخ، ولم يفهموا المراد، ولا أصابوا شاكلة الغرض، فإنّ غرضه من قوله: " لا ولد لكم " تراقبون حاله بعدكم، فاسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.
على أنّ شيخنا العلاّمة الشيخ عبد الحسين الحلّي في النقد النزيه ج1 ص99 احتمل تصحيف (إرثكم) من (أُرزأ بكم) أو (أرزأكم)، وليس هذا ببعيد.
وأقرب منه احتمال شيخّنا الحجّة الشيخ آغا بزرك مؤلّف كتاب (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) تصحيف (إرثكم) من (أرثيكم)، فكأنّه (عليه السلام) أراد أولاً: أن يفوز بالإرشاد إلى ناحية الحقّ، وثانياً: تجهيز المجاهدين، وثالثاً: البكاء عليهم ورثائهم، فإنّه محبوب للمولى تعالى.
ويشبه قول العبّاس لأُخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر: " يا شوذب ما في نفسك أنّ تصنع؟ قال: أُقاتل معك دون ابن بنت رسول اللّه حتّى أقُتل! فقال: ذلك الظنّ بك، فتقدّم بين يدي أبي عبداللّه حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتّى احتسبك أنا، فإنّه لو كان معي الساعة أحدُ أنا أولى به منك لسرّني أن يتقدّم بين يدي حتّى أحتسبه، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكُلِّ ما قدرنا عليه، فإنّه لا عمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب "(307) (الطبري ج6 ص254).


حديث الصادق
إنّ ما يتعرّف منه منزلة أبي الفضل العالية وإثبات الخصال الحميدة له، إخبار أئمة الدين العارفين بضمائر العباد وسرائرهم، الواقفين على نفسيّات الأُمة على كثب بتحقّقها فيه، وقد عبثت أيدي التلف في أكثرها، فإنّ الصدوق يحدّث في الخصال ج1 ص35 بعد ذكره حديث السجّاد في فضل العبّاس أنّه أخرج الخبر بتمامه، مع أخبار في فضائل العبّاس في كتاب مقتل الحسين (عليه السلام).
وظاهره أن هناك أخباراً كثيرة في فضل أبي الفضل رويت عنّا ككتابه المقتل، ولا غرو فلقد اندثر بتعاقب الحوادث الكثير من المؤلّفات.
وكيف كان، فلعلّ من تلك الأخبار ما رواه في عمدة الطالب، عن الشيخ الجليل أبي نصر البخاري النسّابة، عن المفضّل بن عمر أنّه قال: " قال الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام): كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبداللّه وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً "(308).
وكذلك قوله (عليه السلام) فيما علّم شيعته أن يخاطبوه به من لفظ الزيارة، المرورية بسند صحيح متفق عليه، فإنّه عند التأمّل فيما
خاطبه به الإمام العارف بأساليب الكلام ومقتضيات الأحوال، تظهر لنا الحقيقة، ونعرف منزلة للعبّاس سامية لاتعد ومنزلة المعصومين، فقال (عليه السلام) في صدر سلام الإذن:
" سلام اللّه، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، الزاكيات الطيّبات، فيما تغتدي وتروح عليك يا بن أمير المؤمنين ".
فإنّه أشار بهذا إلى مصبّ سلام اللّه الذي هو رحمته المتواصلة والعطف الغير محدود الذين لا انقطاع لهما.
وسلام الملائكة المشاهدين لمقادير الرجال في ملأ القدس وحظيرة الجلال.
وسلام الأنبياء الذين لا يعدون مرضات اللّه ووحيه في أفعالهم وتروكهم.
وسلام الصالحين والشهداء الذين أدركوا بفضل الاتصال بالرسل وأوصيائهم أو بالتجرّد ومشاهدة الحقائق الثابتة في عالم الغيوب، زيادة على ما عرفوه من مقام أبي الفضل وفضله.
فكُلّ هؤلاء يتقرّبون إلى اللّه تعالى بالدعاء له، واستنزال الرحمة منه سبحانه، وإهداء التسليمات إليه، لمّا عرفوا أنّه من أقرب الوسائل إليه، وحيث كانت خالصة للزلفة، ماحضة في التقرّب إليه جلّ ذكره، عادت زاكية طيّبة بنصّ الزيارة: " الزاكيات الطيّبات ".
وأمّا على رواية ابن قولويه في كامل الزيارة من زيادة (واو العطف) قبل الزاكيات الطيّبات، فيراد بهما العنايات الخاصّة التي ليست بدعاء من أحد، ولا بأسباب عادية، ولا يعدم هذه الأنبياء
والأوصياء والأقلّون ممّن اقتفوا أثرهم، وليست هي شرعة لكُلّ وارد، وإنّما يحظى بها الأفذاذ ممّن كهربتهم القداسة الإلهية، وجذبتهم جاذبة الصقع الربوبي، وهكذا المقرّبون والأفذاذ عند صعودهم.
وإذا قرأنا زيارة الصادق (عليه السلام) لجدّه الحسين: " سلام اللّه وسلام ملائكته فيما تروح وتغدو، والزاكيات الطاهرات لك وعليك، سلام الملائكة المقرّبين والمسلمين لك بقلوبهم والناطقين بفضلك... "(309) وضح لنا أنّ منزلة أبي الفضل تضاهي منزلة الحسين، حيث أثبت له مثل هذا السلام.
ثُمّ قال (عليه السلام): " أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النّبي المرسل "(310).
هاهنا أثبت لأبي الفضل منزلة التسليم التي هي من أقدس منازل السالكين، وفوق مرتبة الرضا والتوكّل، فإنّ أقصى مرتبة الرضا أن يكون محبوب المولى سبحانه محبوباً له، موافقاً لطبعه، فالطبع ملحوظ فيه.
وأقصى مراتب التوكّل أن ينزل نفسه بين يدي المولى سبحانه وتعالى منزلة الميت بين يدي الغاسل، بحيث لا إرادة له إلاّ ما يفعله الغاسل به، فصاحب التوكّل مسلوب الإرادة، وأمّا صاحب التسليم فلا يرى لغير اللّه وجوداً مع اللّه فضلاً عن نفسه، ولا يكون له طبع يوافق أو يخالف في الإرادة، أو نفساً قد تنفّست بالإرادة، فهو قريب من عالم الفناء.
وهذه المرتبة فوق مرتبة التوكّل التي هي فوق مرتبة الرضا لا تحصل إلاّ بالبصيرة النافذة، والوصول إلى أعلى مراتب اليقين، تلك المرتبة التي أخبر عنها أمير المؤمنين (عليه السلام): " لو كُشِف الغطاء ما ازددت يقيناً ".
أمّا العناوين الثلاثة وهي: " التصديق، والوفاء، والنصيحة " فلا شكّ أنّ الإمام يريد أن أبا الفضل في أرقى مراتبها، لانبعاثها عن التسليم، وهو حقّ اليقين، فإنّه المناسب لتصديقه بأخيه الحجّة، وبنهضته في ذلك الموقف الحرج، وهكذا وفاؤه ونصيحته، فإنّ وفاء شخص لآخر كما يمكن أن يكون لأجل الأُخوة والرحم والصحبة ويمكن أن يكون لأجل المعرفة التامّة، بما أوجب اللّه له من الحرمة والحقّ على الأُمة.
وحيث إنّ الإمام أثبت لأبي الفضل أرقى مرتبة السالكين، وهي التسليم اللازم لحقّ اليقين، فلا بدّ أن يكون ما صدر منه من التصديق بنهضة أخيه والوفاء لحقّه والمناصحة في العمل، منبعثاً عن حقّ اليقين بذلك الأمر الواجب، لا لأجل أنّ الحسين أخوه أو رحمه أو ابن رسول اللّه، فإنّ هذه المرتبة وإن مُدح عليها الشخص إلاّ أنّ المرتبة الأُولى أرقى وأرفع، ولا ينالها إلاّ ذوو النفوس القدسيّة ممّن وجبت لهم العصمة.
ويؤيّد ذلك تعقيب العناوين الثلاثة بقوله (عليه السلام): " لخلف النّبي المرسل "، فإنّه لو لم يرد هذا لقال في الخطاب: (لأخيك) أو (للحسين) أو (لابن أمير المؤمنين)، فالتعبير بخلف النّبي لا يُراد منه إلاّ أنّ الدافع لأبي الفضل على التسليم والتصديق والوفاء والنصيحة بالمفادات إلاّ كون الحسين إماماً مفروض الطاعة، وهذا
مغزى لا يبعث إليه إلاّ البصيرة المميّزة لشرف الغايات المتحرّية لكرائمها.
ثُمّ إنّ من تخصيص الإمام الخطاب له دون غيره من الشهداء بقوله: " لعن اللّه من جهل حقّك واستخفّ بحرمتك " نعرف أنّ غيره من الشهداء لم يُدرك هذا المدى، وإن كان لكُلّ منهم حقّاً وحرمة، إلاّ أنّ شبل أمير المؤمنين كانت معارفه أوسع، وإيمانه أثبت، فكان له حقّ في الدين، وحقّ على الأُمة لا ينكر، فاستحقّ بكُلّ منهما اللعن على جاهله والمستخف به، فالشهداء وإن أخلصوا في التضحية والمفادات، وكان منبعثاً عن طهارة الضمائر والمعرفة بحقّ الإمام، فلهم حقوق وحرمات، لكن لحق العبّاس منعة بين هاتيك الحقوق، ولحرمته بذخ بين تلك الحرمات، بعد ما ثبت منهما لأخيه الإمام المظلوم، لنفوذ بصيرته، وصلابة إيمانه بنصّ الصادق.
ثُمّ قال الصادق (عليه السلام) في الزيارة المتلوة داخل الحرم: " أَشهد وأُشهد اللّه أنّك مضيت على ما مضى به البدريّون "(311).
لقد جرى التشبيه بالبدريّين مجرى التقريب إلى الأذهان، في الإشادة بموقف أبي الفضل من البصيرة، فإنّ أهل بدر أظهر أفراد أهل البصائر ; لأنّهم قابلوا طواغيت قريش على حين ضعف في المسلمين، وقلّة في العدّة والعتاد، فلم يملكوا إلاّ فرسين أحدهما: لمرثد بن أبي مرثد الغنوي، والآخر: للمقداد بن الأسود الكندي، وكانوا يتعاقبون على سبعين بعير، الاثنان والثلاثة(312).
لكنّهم خاضوا غمرات الموت تحت راية النبوّة، بقوّة الإيمان، وعتاد البصيرة، إلاّ من استولى الرين على قلبه، فردّوا سيوف قريش مفلولة، ورماحهم محطّمة، وجموعهم بين قتلى وأسرى ومشرّدين، فحظوا بأوّل فتح إسلامي، قويت به دعائمه وشيّدت معالمه من الإمداد { بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ }(313).
وأعظم من ذلك مشهد الطفّ الذي التطمت فيه أمواج الموت، وكشفت الحرب عن ساقها، وكشفت عن نابها.
وللأخَطَارِ وَجهٌ مُكفَهِر يُشيِبُ لِهَولِه المُردِي الغُلاّمِ
تَرى الأبطَال مِن فَرِق سُكَارَى يُدَارُ مِن الرَدَى فِيهم مُدَام
فقابلهم عصبة الحقّ من غير مدد يأملونه، أو نصرة يرقبونها، والعطش معتلج بصدورهم، ونشيج الفواطم من ورائهم، فتلقّوا جبال الحديد بكُلِّ صدر رحيب، وجنان طامن، فلم تسل تلك النفوس الطاهرة إلاّ على قتل أُميّة المنقوض، ولا أُريقت دماؤهم الزاكية إلاّ على حبلهم المنتكث، فلم تبرح آل حرب إلاّ كلعقة الكلب أنفه، حتّى اكتسحت معرتهم من أديم الأرض، وتفرّقوا أيدي سبا، فيوم الطفّ فتح إسلامي بعد الجاهلية المستردة من جراء أعمال الأمويين(314).
وإليه أشار الإمام الشهيد في كتابه إلى بني هاشم لمّا حلّ أرض كربلاء: " من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح "(315).
فإنّه (عليه السلام) لم يرد بالفتح إلاّ ما ترتّب على نهضته المقدّسة وتضحيته الكريمة، من نقض دعائم الإلحاد، وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإحياء دين جدّه الصادع به، الذي لاقى المتاعب في تأييده وتشييده.
وأنت أيّها البصير إذا استشففت الحادثة من وراء نظارة في التنقيب تجد سيّدنا أبا الفضل سيّد القوم بعد أخيه السبط، وهو المسدد لهم في النضال.
كما أنّ الباحث إذا أعطى النظر حقّه يجد ضحايا (الطفّ) أشدّ انقطاعاً عن المدّد من مجاهدي يوم بدر، وأبلغ بأساً، وأقلّ عدداً، مع اكتناف الكوارث بهم، واعواز الملجأ أكثر ممّا احتفّ بأهل بدر.
مع أنّ المناوئين لشهداء (الطفّ) أوفر عدداً، وأقوى عتاداً، وأوثق مدداً. وإنّ لهم دولة مؤسسة، تنضّددت جحافلها، وخفقت بنودها، وتواصلت قواتها بخلاف الحالة يوم بدر.
فلقد كان المحاربون للمسلمين شتات، من طواغيت العرب، حداهم إلى الحرب بواعث الحقد والنخوة، ومن المحتمل القريب انحلال جامعتهم إذا ضربت الحرب عليهم بجرانها لأنّهم كانوا يفقدون أيّ مدد من القبائل، ولم يخرجوا متأهّبين للاستمداد، حيث ظنّوا خوراً في المسلمين، وحسبوا استئصال شأفتهم وأنّهم كشربة ماء (ولكن لا مبدّل لحكم اللّه تعالى).
فالموقف يوم الطفّ أحرج، والكرب أكثر، والمقاسات أصعب، وبقدر المشقّة تجري الأُجور، وتقسم الفضائل، فشهداء كربلاء أولى بالفضيلة.
وضَرب الإمام (عليه السلام) المثل لهم بأهل بدر إذ يقول: " إنّك مضيت على ما مضى به البدريون " لا يوجب فضيلة أهل بدر عليهم، كما هي قاعدة التشبيه، وإنّما ذلك من باب التقريب إلى الأفهام، كما في قوله تعالى: { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاة فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ... }(316).
وأين من النور الإلهي المشكاة ومصباحها، ولكن لمّا لم تدرك الأبصار ذلك النور الأقدس، وإنّما تُدركه البصائر، ضرب اللّه تعالى المثل بما يدركونه ; تقريباً للأذهان، وهكذا الحال فيما نحن فيه.
وإلى هذه الدقيقة وقع الإيعاز منه (عليه السلام) فيما بعد هذه الفقرة من الزيارة بقوله (عليه السلام): " فجزاك اللّه أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره "(317).
فلو كان في المجاهدين من هو أوفر فضلاً من أبي الفضل العبّاس لكان هذا الدعاء، أو الإخبار عن أمره شططاً من القول، خارجاً عن ميزان العدل، تعالى عنه كلام المعصوم، فإذن لم يكن غيره من المجاهدين مطلقاً أوفر فضلاً، ولا أكثر جزاءً، ولا أوفى بيعة إلاّ من أخرجه الدليل من الأئمة المعصومين.
ثُمّ إنّ هناك مرتبة أُخرى ثبتت لأبي الفضل، خصّه بها الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: " أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود، فبعثك اللّه في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً "(318).
فإنّ المبالغة في أمثال المقام عبارة عن بلوغ الأمر إلى حدوده اللازمة، وكم له من نظير في استعمالات العرب ومحاوراتهم. ولا شكّ أنّ كُلِّ واحد من شهداء الطفّ قد بالغ في النصيحة، ولم يأل جهداً في أداء ما وجب عليه، ولكُلِّ منهم في ذلك المشهد الدامي شواهد من أقواله وأعماله.
ومن المسلّم أنّ المعروف بقدر المعرفة كماً وكيفاً، فصاحب السنام الأرفع في العرفان المتربّع على أعلى منصّة من الإيمان لا بدّ وأن يقاسي أشد ضروب الجهاد، ويتظاهر بأجمل مظاهرها، من الدؤوب على الحرب والضرب، وإن طال المدى، وبعد الأمد، إن كان الجهاد نضالاً، كما لا بدَّ له من المثابرة على مكافحة النفس
الأمارة، وكسر شوكتها، وردّ صولتها، وكبح جماحها، وترويض النفس بالطاعة، وإلزامها بلوازمها الشاقة طيلة حياته، إن كان الجهاد نفسياً.
وفي هذين الحالتين لا بدّ وأن يكتنف العمل المقارنات المطلوبة، مثل: نيّة القربّة، والإخلاص فيها، المنبعث عن حبِّ المولى سبحانه، الهادي إلى معرفة تؤهله إلى الطاعة، وعن معرفة نعم الباري عزّ وجلّ الواجب شكرها، وعن الهيبة الناشئة عن لحاظ عظمته، إلى أمثال هذه من الملحوظات.
وقصارى القول: كما أنّ مراتب الإيمان والمعرفة متفاوتة مقولة بالتشكيك، كذلك مراتب العمل متفاوتة حسب تفاوت تلك المراتب، فصاحب عمل كُلِّ مرتبة محدود بحدودها.
وحينئذ فلا شكّ أنّ كُلّ واحد من شهداء الطفّ، وإن بلغ الغاية في الجهاد، وأدّى حقّ النصيحة، لكن (شهيد العلقمي) لمّا كانت بصيرته أنفذ، وعلمه أوفر، وإيمانه أثبت، كان مداه أبعد، وغايته أسمى، وحدوده أوسع، ولذلك خاطبه الصادق (عليه السلام) بهذا الخطاب، وخصّه بالمبالغة في التضحية، فكان هذا كفضيلة مخصوصة به ; لأنّ هاتيك المراتب الراقية لم توجد في غيره.
ولعلّ من ناحية هذه المراتب الثلاث ثبت له (عليه السلام) حقّ في الدين، وحقّ على الأُمة، وحرمة لا تنكر، فاستحقّ أن يخاطبه الإمام في سلام الإذن بقوله: " لعن اللّه من جهل حقّك واستخفّ بحرمتك "(319).
وهناك درجة أربى وأربع أشار إليها الصادق بقوله: " ورفع ذكرك في علّيين "(321).
فإنّ " حامى الشريعة " لم يبرح مواصلاً في الخدمات، حتّى أقبل إلى اللّه تعالى متلفّعاً بدم الشهادة، شهادة صكّ نبؤها مسامع الملكوت، حتّى أشرأب له هنالك من أنبياء، ومرسلين، وحجج معصومين، وملائكة مقرّبين، وحور، وولدان، وأرواح مقدّسة، ومقدّسات زاكيات طيّبات، فلم يلق (عليه السلام) في صعوده إليهم إلاّ ثغوراً باسمه، ووجوهاً مستبشرة، وايذاناً له بالبشرى الخالدة، ونعيم الأبدّ، فطفق يرف بين ذلك الجيل القدسي، الزاهر بنور العصمة، ورونق العلم، وهيبة العظمة، وسمات الجلالة، وشارات النزاهة، وبهجة العطف الإلهي، وبهاء النظر إلى الجلال السرمدي، والاتصال بالرضوان الأكبر، وعليه أُبهة الولاء، وجلالة الطاعة، وبلج التضحية، وزلفى المفادات، وزهو العلم والعمل، ولذكره في ذلك المنتدى الرهيب رفعة ومنعة، وإليه يشير الإمام الصادق (عليه السلام) في لفظ الزيارة: " ورفع ذكرك في علّيين ".
فإنّ الغرض من هذا التعبير ليس إلاّ ما شرحناه، لا مجرّد صعود ذكره الطيّب إلى ذلك الملأ الأرفع، شأن كُلِّ صالح في عالم الوجود، لكن الشأن كُلِّه إن يكون لذكر ما لمجيد هنالك بذخ، واكبار فيرمقه كُلّ طرف بنظر الاجلال، ويسمع الهتاف به بإذن التقدير، وتنعقد الضمائر على تقديسه، ولو أراد الإمام مجرّد ذكره إلى ذلك العالم القدسي لقال في الخطاب: " ورفع ذكرك إلى
عليين "، ولكن حيث إنّه أراد رفع الذكر بين أفراد أُولئك الذين أختصّ محلّهم فيه جاء بفاء الظرفية فقال: " في علّيين ".
وأما قوله (عليه السلام) في الزيارة التي رواها المجلسي في مزار البحار ص165 عن مزار الشيخ المفيد وابن المشهدي: " لعن اللّه أُمة استحلّت منّك المحارم، وانتهكت فيك حُرمة الإسلام "(322) ; فيرشدنا إلى مكانة سامية لأبي الفضل، تصعد به إلى فوق مرتبة العصمة، فإنّا لم نجد مثل هذا الخطاب في أي واحد من الشهداء، مع بلوغهم أعلى مرتبة الفضل التي لم يحزها أي شهيد غيرهم، حتّى استحقّوا أن يخاطبهم الإمام في زيارة النصف من رجب بقوله: " السلام عليكم يا مهديون، السلام عليكم يا طاهرون من الدنس "(2)، ويقول أيضاً: " طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم "(323).
بل لم يخاطب بمثل ذلك علياً الأكبر الذي لا شكّ في عصمته، ومنه يظهر أنّ للعبّاس منزلة ومقاماً يشارف مقام الحجج المعصومين (عليهم السلام)، تناط به حرمة الإسلام، كما تناط بهم صلوات اللّه عليهم، وإنّها تنتهك بمثله كما تنتهك بمثلهم (عليهم السلام)، وهذا مقام فوق العصمة المرجوّة له.

الهوامش

الهوامش
(1) (خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: 13.
(2) هود: 91.
(3) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده 3: 57، من وصيّة له لابنه الحسن (عليهما السلام).
(4) ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه دخل المسجد، فإذا جماعة قد طافوا برجل، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما هذا "؟
فقيل: علاّمة. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما العلاّمة "؟
فقالوا: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها.
فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ".
ثمّ قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل ".
انظر: الكافي 1: 32، ح ، وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار: 37، الفصول المهمة في أصول الأئمة للعاملي: 679.
(5) الكافي 5: 332، باب اختيار الزوجة، ح2.
(6) الكافي 5: 332، باب اختيار الزوجة، ح4.
(7) نص ّ عبارة الصفدي عن ابن عقيل هكذا: " وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم، ولكنّه كان يعدّ مساوئهم، وكانت له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب، وكان أسرع الناس جواباً، وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك، وكان الذين يتحاكم إليهم ويوقف عند قولهم في علم النسب أربعة: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبا جهم بن حذيفة العدوي، وخويطب بن عبد العزي العامري، وعقيل أكثرهم ذكراً لمثالب قريش.
راجع عبارة الصفدي في الوافي بالوفيات 20: 63، وأُسد الغابة 3: 423، والاستيعاب 3: 178.
(8) عمدة الطالب لابن عنبة: 357.
(9) مدينة المعاجز 2: 160.
(10) مدينة المعاجز 2: 195. والنص كالتالي: " إن شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام، لا يشذّ منها شاذّ، ولا يدخل فيها داخل، وإني لأعرفهم حين ما أنظر إليهم ; لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تفل في عيني وكنتُ أرمد قال: اللهمّ أذهب عنه الحرّ والبرد، وأبصر صديقه من عدوه، فلم يُصبني رمد ولا حر ولا برد، وإني لاعرف صديقي من عدوي ".
(11) الاختصاص: 217.
(12) في تفسير القرطبي 4: 251 ورد هكذا: " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار "، وأمّا في مصادرنا فوردت هكذا: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: " ما حار من استخار، ولا ندم من استشار ". وسائل الشيعة 8: 265 ح8، الأمالي للطوسي: 136، كشف الغمة 3: 173.
(13) نهج السعادة 7: 275، الفائدة السادسة.
(14) قال في لسان العرب 1: 157 " ذفران: موضع عند بدر ".
(15) المائدة: 24.
(16) أُسد الغابة 4: 410، تاريخ الطبري 2: 140، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 52، والوارد في آخر الرواية: " فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له.. ".
(17) أُسد الغابة 1: 365، تاريخ الطبري 2: 144، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 53، الثقات لابن حبّان 1: 162، إمتاع الاسماع للمقريزي 9: 243.
(18) تاريخ الإسلام 3: 348، امتاع الإسماع للمقريزي 1: 239.
(19) المحاسن للبرقي 2: 602 بلفظ: " وربما شاور الأسود من سودانه ".
(20) بحار الأنوار 48: 151.
(21) الكامل للبهائي: 453.
(22) الكافي 4: 567، 568، ح3، كامل الزيارات: 459، ح [697] 1، وسائل الشيعة 14: 538 ح (19775)3، ونص الرواية كالتالي: " عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليّ أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه، وإلى محمّد بن حمزة، فسبقني إليه محمّد بن حمزة وأخبرني محمّد مازال يقول: " ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير!
فقلت لمحمّد ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثمّ دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك: أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: " انظروا في ذاك "، ثمّ قال لي: " إنّ محمّداً ليس له سرّ من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك ".
قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع [بـ] الحير وهو الحير.
فقدمت العسكر، فدخلت عليه فقال لي: " إجلس " حين أردت القيام، فلمّا رأيته أنس بي، ذكرت له قول علي بن بلال.
فقال لي: " ألا قلت له: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر، وحرمة النّبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمره اللّه عزّ وجلّ أن يقف بعرفة، وإنّما هي مواطن يحبّ اللّه أن يُذكر فيها، فأنا أحبّ أن يُدعى [اللّه] لي حيث يحب اللّه أن يدعى فيها.. ".
(23) مناقب آل أبي طالب 1: 134، كشف الغمة 1: 15.
(24) الشعراء: 219.
(25) اختلفوا في أنّ الذي قيل له: (عرق الثرى) إبراهيم أم إسماعيل، فالذي عليه السهيلي في الروض الآنف 1: 8، أنّه إبراهيم، وعلّله: بأنّ الثرى لا تأكله النار، وإبراهيم لا تأكله النار.
ويظهر من الصادق (عليه السلام): لما تخطّى النار وقال: " أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الرحمن، الإشارة إليه [الكافي 1: 473 في نوادر المعجزات لابن جرير: 154].
ونصّ عليه في البحار 35: 41 في باب نسب أبي طالب قال: وإبراهيم (عرق الثرى).
وفي 44: 104 عند قول الإمام الحسن (عليه السلام): " انا وهو اين ابن أعراق الثرى "، قال: رأيت في بعض الكتب أنّ عرق الثرى إبراهيم، لكثرة ولده في البادية.
ولعلّ عبد اللّه بن أيوب الخريبي الشاعر في مرثية الإمام الرضا يشير إليه كما في البحار 49: 325 في باب مراثيه.
يابن الذَبيِحِ ويَابنَ أعراقِ الثرّى طَابَت أروُمَتَه وطَابَ عُروُقها
ولكن في نصّ الطبري 2: 28، والبداية والنهاية 2: 245، والبحار 15: 105 عن أم سلمة: أنّ عرق الثرى إسماعيل.
وقد جاء ذكر الثرى في شعر امرئ القيس والفرزدق، ولم يعلم منه المراد، قال امرؤ القيس على ما في أمالي المرتضى 1: 119
فبعض اللوم عاذلتي فأنّي ستغنيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي
وقال الفرزدق كما في كامل ابن الأثير 3: 469
أنا ابن الجبال الشمّ في عدد الحصى وعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه
وفي أخبار الزمان: 80 عدنان بن عرق الثرى.
[وأيضاً تجده في: أُسد الغابة لابن الأثير 1: 379، حياة الإمام الحسن للقرشي: 130].
(26) البقرة: 133.
(27) الأنعام: 74.
(28) السيرة الحلبية 1: 20.
(29) الروض الآنف 1: 8.
(30) الروض الآنف 1: 8.
(31) السيرة الحلبية 1: 61.
(32) السيرة الحلبية 1: 26.
(33) السيرة الحلبية 1: 25، السيرة النبوية لابن كثير 1: 167.
(34) السيرة الحلبية 3: 169.
(35) السيرة الحلبية 1: 21.
(36) تاريخ الطبري 2: 185.
(37) السيرة الحلبية 1: 21.
(38) إثبات الوصيه: 75.
(39) السيرة الحلبية 1: 71.
(40) معجم البلدان للحموي 5: 203 والعبارة التي فيه: " ولا أدري أين كان؟ ولا من كان نصبه ".
(41) سبل الهدى والرشاد 1: 272.
(42) السياسة الشرعية لابن تيمية 1: 57.
(43) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 211، السيرة الحلبية 1: 9، سبل الهدى والرشاد 1: 270.
(44) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 211، تاريخ الطبري 2: 12.
(45) تاريخ الطبري 2: 12، الكامل في التاريخ 2: 16.
(46) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 210.
(47) جمهرة خطب العرب، لأحمد زكي صفوت 1: 73، نقلاً عن آباء الأنبياء كلهم مؤمنون، مركز المصطفى.
(48) بحار الأنوار 15: 40.
(49) الخصال: 313، الدر النظيم: 798.
(50) الغدير 7: 353، عقيدة أبي طالب للرفاعي: 72.
(51) السيرة الحلبية 1: 6.
(52) تاريخ اليعقوبي 2: 12.
(53) المصدر السابق.
(54) بحار الأنوار 35: 147.
(55) كمال الدين وتمام النعمة: 175، بحار الأنوار 15: 144 وغيرها من المصادر.
(56) بحار الأنوار 35: 74.
(57) الكافي 1: 445، ح18.
(58) بحار الأنوار 35: 138، والعبارة فيها تقديم وتأخير.
(59) كمال الدين وتمام النعمة: 171، الخرائج والجرائح 3: 1074، وفي آخر الحديث: " عن الجهّال، وأهل الكفر والضلال ".
(60) روضة الواعظين: 78، مناقب آل أبي طالب 2: 22، الدر النظيم: 231.
(61) مناقب آل أبي طالب 1: 34، بحار الأنوار 35: 85، الدر النظيم: 211.
(62) كمال الدين وتمام النعمة: 172، وعنه المجلسي في بحار الأنوار 15: 143.
(63) انظر مناقب آل أبي طالب 1: 36 ـ 37، وعنه المجلسي في بحار الأنوار 15: 235.
(64) السيرة الحلبية 1: 191.
(65) المصدر السابق 1: 189.
(66) السيرة الحلبية 1: 226، إمتاع الاسماع للمقريزي 6: 29، تفسير البحر المحيط 3: 110.
(67) السيرة الحلبية 2: 49، الغدير 7: 366. وقد ذكر المصادر الموردة للحديث.
(68) الفتوح لابن أعثم الكوفي 2: 557، الغدير 7: 348. وقد ذكر المصادر الموردة للحديث ثمّ قال: " قال الأميني: أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئناً به، وينشط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا التنشيط لأوّل يومه، ويأمره بإرشاد أمره والإشادة بذكر اللّه، وهو مخبت بأنّه هو ذلك النّبي الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة، ويتكهن بخضوع العرب له ; أتراه سلام اللّه عليه يأتي بهذه كلّها ثُمّ لا يؤمن به؟! إنّ هذا إلاّ اختلاق.
(69) مناقب آل أبي طالب 1: 56، كنز الفوائد للكراجكي: 79، الغدير 7: 357، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 76.
(70) مناقب آل أبي طالب 1: 57، كنز الفوائد للكراجكي: 79، البداية والنهاية لابن كثير 3: 108، السيرة النبوية لابن هشام 1: 235.
(71) مناقب آل أبي طالب 1: 58، سيرة ابن إسحاق: 145، الدر النظيم للعاملي: 216.
(72) كنز الفوائد للكراجكي: 79، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 73.
(73) مناقب آل أبي طالب 1: 301، بحار الأنوار 35: 87، الغدير 7: 334، فتح الباري 7: 148، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي 1: 435، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري 2: 12، تفسير الثعلبي 4: 141، تفسير البغوي 2: 91، زاد المسير لابن القيم 2: 17، تاريخ الإسلام للذهبي 1: 150، البداية والنهاية لابن كثير 3: 56، السيرة الحلبية 1: 462، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نقلت هذا الشعر بتمامه أو بعض المقاطع منه.
(74) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 62، سيرة ابن إسحاق: 144.
(75) بحار الأنوار 35: 115، الغدير 7: 396.
(76) مناقب آل أبي طالب 1: 301، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 200، تفسير الثعلبي 5: 85، تاريخ الطبري 2: 58، السيرة الحلبية 1: 436، سبل الهدى والسلام للصالحي الشامي 2: 301.
(77) تاريخ الاُمّة العربية: 84، مطبعة الحكومة، بغداد، 1939م.
(78) مسند أحمد 1: 99، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 102 وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى باختصار، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن "، مسند أبي داود الطيالسي: 26، السيرة الحلبية 1: 436.
والجدير بالذكر أنّ الحديث ورد عن طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبّة العرني، عن علي وعليه فالكلام يقع في مقامين:
الأوّل: في سند الحديث والثاني: في متن الحديث.
أمّا سند الحديث فلا يحتاج إلى كثير مؤونة ; لأنّ يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 4: 381/9527: " يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه:
قال أبو حاتم وغيره: منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك.
وقال عباس عن يحيى: ليس بشيء، لا يكتب حديثه.
وقال محمّد بن إبراهيم بن أبي العنس: أخبرني يحيى بن سلمة قال: كان سفيان الثوري يجيء إلى أبي وهو غلام عليه أقبية يسمع منه، فكان أبي يعيّرني به ويقول: أُنظر إلى هذا الغلام يجيء من بني ثور رغبة في الحديث، وأنت هاهنا لا ترغب فيه... ".
وارجع إلى غيره تجد ترجمته كما ذكرنا.
وأمّا الناحية الثانية المتعلقة بمتن الحديث، فنقول: إنّ صاحب السيرة الحلبية 1: 436 قال بعد أن ذكر الحديث: " وهذا ـ كما لا يخفى ـ ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدّم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك، وصل على يساره، لما رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي وعلي على يمينه.. ".
فاذن لا بدّ من تخطّي هذا الأمر وإثبات أنّ هذا القول صدر بعد ما أوصى جعفر بالصلاة مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنى له إثبات ذلك، مع ما عرفته من حال السند.
أضف إلى ذلك أنّه قال: " وذكر أنّ أبا طالب قال لعلي: أي بني ما هذا الذي أنت عليه؟
فقال: يا أبتِ آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته! فقال: إما إنّه لم يدعك إلاّ إلى خير فالزمه ".
وعليه فيكون الحديث المتقدّم باطلاً ; لأنّ المعروف
(79) تاريخ الطبري 2: 58، الكامل في التاريخ 2: 58.
(80) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 84، قال ابن أبي الحديد المعتزلي: " وصنّف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب وبعثه إليّ، وسألني أن أكتب عليه بخطي نظماً أو نثراً، أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلّة عليه، فتحرّجت أن أحكم بذلك حكماً قاطعاً، لمّا عندي من التوقّف فيه، ولم استجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإنّي أعلم أنّه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلم أنّ حقّه واجب على كلّ مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت على ظاهر المجلد: ولولا أبو طالب وابنه... ".
على أنا نقول: إن الأدلّة على إيمانه كثيرة، بينما الأدلّة المنقولة عن عدم إيمانه فيها ما هو مرفوض ; لأنّ في أسانيدها من كان يبغض علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كحديث الضحضاح من النار ; فإنّه رواية المغيّرة بن شعبة، وهو معلوم البغض والعداوة لأهل البيت (عليهم السلام) ولعلي (عليه السلام) بالخصوص، حيث كان يسبّه على المنابر، ويقيم خطباء على سبّه، فمثل هذا الشخص لا تحلّ عنه الرواية مطلقاً فضلاً عن روايته عن حال أهل البيت (عليهم السلام).
والخلاصة: إنّ أبا طالب مؤمن باللّه وبرسوله لعدة أدلّة لا مطعن لها، ولا تحتاج إلى تأويل وهي كالتالي:
1 ـ الأشعار الكثيرة التي أطلقها أبو طالب في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي فيها الصريح بإيمانه وتصديقه برسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ إنّ فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب من المسلمات الأوليات وقد بقيت على نكاح أبي طالب، إلى أن مات، ولم يفرقها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أمر بتفريقهما.
3 ـ بعض الأحاديث المنقولة عن أبي طالب والتي تدلّ على إسلامه.
4 ـ محبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي طالب معلومة مشهورة، فهذا يدلّ على إيمانه لأنّ اللّه تعالى أمرّ ببغض المشركين والتبري منهم، فلو كان مشركاً لابغضه.
السنن الكبرى للبيهقي 9: 131، مجمع الزوائد للهيثمي 6: 150 و151 وقال عقيبه: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح "، و9: 120 و123 و124 و371، مسند أبي داود الطيالسي: 320، المصنّف للصنعاني 11: 228، ح20395، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 7: 496، ح 15 و500، ح 33 وح 35 وح 37 و504، ح 56 و8: 520، ح 2 وح 7 و522، ح 10 وح 22، مسند ابن راهويه 1: 253، ح 219، مسند سعد بن أبي وقاص: 51، ح 19، كتاب السنّة لابن عاصم: 594، ح 1379 وح 1380، السنن الكبرى للنسائي 5: 46، ح 8149 و8151 و108، ح 8399 وح 8400 وح 8401 وح 8402 وح 8403 وح 8404 وح 8405 وح 8406 وح 8407 وح 8408 وح 8409 و123، ح 8439 و145، ح 8511، و172، ح 8587 و178، ح 8601 و179، ح 8602 و180، ح8603، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 49 و50 و51 و52 و53 و55 و56 و57 و58 و59 و60 و61 و62 و82 و116، صحيح ابن حبان 15: 379 و380 و382، المعجم الأوسط للطبراني 1: 239، و6: 59، المعجم الصغير للطبراني 2: 11، المعجم الكبير للطبراني 6: 127 و7: 13 و17 و35 و77، الاستيعاب لابن عبد البر 2: 787 و3: 1099، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر: 198 و199 و200، رياض الصالحين للنووي: 108 و145.
(81) روضة الواعظين للنيسابوري: 78، بحار الأنوار 35: 102.
(82) ورد بهذا اللفظ في عوالي اللئالئ لابن جمهور الاحسائي 4: 86، وورد بلفظ: " ضربة علي يوم الخندق أفضل من أعمال أُمتي إلى يوم القيّامة " وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 32، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2: 14، تاريخ بغداد للبغدادي 13: 19، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 50: 333.
وكلا الحديثين معناهما واحد ; لأنّ الأفضليّة في الأعمال تعني المعادلة إن لم تكن أكثر، والأُمّة شاملة للثقلين معاً: الإنس، والجنّ.
(83) ورد الحديث بألفاظ مختلفة في: مسند أحمد 1: 185 و331 و2: 384 و4: 52 و5: 333 و358، صحيح البخاري 4: 12 و20 و207 و5: 76، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، صحيح مسلم 5: 195، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، و7: 120 و121 و122، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي (رضي الله عنه)، سنن ابن ماجه 1: 44، ح117، سنن الترمذي 5: 302 ح3808، فضائل الصحابة للنسائي: 15 و16، المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 38 و109 و132 و437.
(84) الشعراء: 214. وحديث الإنذار ورد في مصادر متعدّدة، وبأسانيد لابأس بها، فورد بلفظ: " إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوه " في: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 211، شواهد التنزيل للحسكاني 1: 486، تفسير البغوي 3: 400، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 49، مناقب علي بن أبي طالب وما نزل من القرآن في علي لابن مردويه الاصفهاني: 290، تاريخ الطبري 2: 63 ـ وقد حذفه في تفسير فقال في جامع البيان 19: 149: " فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي وكذا وكذا "!! وكذلك فعل ابن كثير في البداية والنهاية 3: 53 ـ، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 63.
وبلفظ: " فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي.. " في: مسند أحمد 1: 159، مجمع الزوائد للهيثمي 8: 302 وقال: " رواه أحمد ورجاله ثقات "، السنن الكبرى للنسائي 5: 126، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 86، تفسير ابن كثير 3: 363، الطبقات الكبرى لابن سعد 1: 187، تهذيب الكمال المزي 9: 147، أمتاع الاسماع للمقريزي 5: 178.
(85) سنن ابن ماجه 1: 44، وقال محقق السنن الشيخ محمّد عبد الباقي: " في الزوائد: إسناده صحيح. رواه الحاكم في المستدرك عن المنهال، وقال: صحيح على شرط الشيخين "، المستدرك للحاكم 3: 112، المصنف لابن أبي شيبة 7: 498، كتاب السنة لابن أبي عاصم: 584، السنن الكبرى للنسائي خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 46، تفسير الثعلبي 5: 85.
ومن يقول بأن علياً أسلم صغيراً؟!
نرد عليه فنقول: قد رووا كما في صحيح مسلم 1: 133، وفتح الباري 10: 354 أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت عليه (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) دعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)قريشاً وقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار..
يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإنّي لا أملك لكم من اللّه شيئاً.. " مع أن فاطمة سلام اللّه عليها كانت صغيرة، إذ هذه الآية في بدء الدعوة العلنية، وفاطمة سلام اللّه عليها لا يتجاوز عمرها ثمان سنين، ومع ذلك دعاها النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)إلى الإسلام وهي لم تكلف بعد، وتصحيح دعوتها بإعتبار كونها مميزة تفهم فلذلك خاطبها، فكذلك علي بن أبي طالب فاسلم وهو يعرف ما يقول فلذلك يصح إسلامه ويكون أوّل المسلمين، وإلاّ أن رفض ذلك، فيلزم سقوط رواية الصحاح حول فاطمة سلام اللّه عليها، إذ كيف يقبل مخاطبتها ودعوتها إلى الإسلام وهي صغيرة، ولا يقبل إسلام علي ابن أبي طالب لكونه صغيراً، فإنّ ذلك قسمة ضيزى.
ومن هذا تندفع جميع الإشكالات الموجودة على صغر إسلام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
(86) الأمالي للشيخ الصدوق: 25.
(87) هامش مصباح الفقاهة للسيد الخوئي 2: 511.
(88) السيرة الحلبية 1: 435 وقال عقيب هذا الكلام: " وقد ذكروا أنّ الزبير بن العوام أسلم وهو ابن ثمان سنين، وقيل: ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ابن اثنتي عشرة شنة، وقيل: ابن ستة عشرة سنة.
وممّا يدل للأوّل ما جاء عن بعضهم كان علي والزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص ولدوا في عام واحد..
وممّا يدلّ ـ أيضاً ـ ما جاء في كلام بعض آخر: أسلم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وهما ابنا ثمان سنين، وإجماعهم على أنّ علياً لم يكن يبلغ الحلم برد القول بأنّ عمره كان إذ ذاك عشر سنين، أي بناءً على أنّ سن إمكان الاحتلام تسع سنين كما تقول به أئمتنا.
ثمّ قال: أقول: قال بعض متأخري أصحابنا: وإنّما صحت عبادة الصبي المميز ولم يصح إسلامه ; لأنّ عبادته نفل والإسلام لا يتنفل به، وعلى هذا مع ما تقدّم يشكل ما في الامتاع.
وأمّا علي بن أبي طالب فلم يكن مشركاً باللّه أبداً ; لأنّه كان مع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كفالته، كأحد أولاده، يتبعه في جميع أُموره، فلم يحتج أن يدعي الإسلام، فيقال: أسلم.
ثُمّ رأيت في الحديث ما يدلّ لما في الامتاع وهو: ثلاثة ما كفروا باللّه قط: مؤمن آل ياسين، وعلي بن أبي طالب، وآسية إمرأة فرعون.
والذي في العرائس روي عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا باللّه طرفة عين: حزقيل مؤمن آل فرعون، وحبيب النجار صاحب ياسين، وعلي بن أبي طالب ـ رضي اللّه تعالى عنهم ـ وهو أفضلهم.. ".
(89) ورد في كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 314، حدّثنا أبي ومحمّد بن الحسن ـ رضي اللّه عنهما ـ قالا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه.. عن أبي جعفر الثاني محمّد بن علي (عليه السلام) قال: " أقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) ذات يوم ومعه الحسن بن علي وسلمان الفارسي (رضي الله عنه)، وأمير المؤمنين (عليه السلام) متكىء على يد سلمان، فدخل المسجد الحرام، فجلس، إذ أقبل رجل حسن الهيئه واللباس، فسلّم على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فرد عليه السلام فجلس ثُمّ قال:
يا أمير المؤمنين أسألك عن ثلاث مسائل، إن أخبرتني بهن علمت أنّ القوم ركبوا من أمرك ما أقضي عليهم أنّهم ليسوا بمأمونين في دنياهم ولا في آخرتهم، وإن تكن الأخرى علمت أنّك وهم شرع سواء.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): سلني عمّا بدا لك؟
فقال: أخبرني عن الرجل إذا نام أين تذهب روحه؟ وعن الرجل كيف يذكر وينسى؟ وعن الرجل كيف يشبه ولده الأعمام والأخوال؟
فالتفت أمير المؤمنين إلى أبي محمّد الحسن فقال: يا أبا محمّد أجبه، فقال: أمّا ما سألت عنه من أمر الإنسان إذا نام أين تذهب روحه، فإنّ روحه متعلّقة بالريح والريح متعلّقة بالهواء إلى وقت ما يتحرك صاحبها لليقظة، فإن أذن اللّه عزّ وجلّ يرد تلك الروح إلى صاحبها جذبت تلك الروح الريح، وجذبت تلك الريح الهواء، فرجعت الروح، فاسكنت في بدن صاحبها...
وأمّا ما ذكرت من أمر المولود الذي يشبه أعمامه وأخواله ; فإنّ الرجل إذا أتى أهله فجامعها بقلب ساكن، وعروق هادئة، وبدن غير مضطرب، فاسكنت تلك الروح النطفة في جوف الرحم خرج الولد يشبه أباه وأُمّه، وإن هو أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرب أضطربت تلك النطفة فوقعت في حال إضطرابها على بعض العروق، فإنّ وقعت على عرق من عروق الأعمام أشبه الولد أعمامه، وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه الرجل أخواله ".
(90) الكافي للكليني 1: 224، ح2، كامل الزيارات لابن قولويه: 62، الأمالي للشيخ الصدوق: 547، المستدرك للحاكم 2: 119 و3: 198، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 268 وقال: " ورجاله إلى قائله رجال الصحيح "، فتح الباري 7: 286 بلفظ: " إنّ حمزة مكتوب في السماء أسد اللّه وأسد رسوله " وغيرها من المصادر الكثيرة.
(91) بحار الأنوار 65: 395.
(92) الاحتجاج 3: 259، بحار الأنوار 22: 272 و23: 58 و78: 348، نهج السعادة للمحمودي 4: 192، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 181، جواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب: 372، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي 3: 446.
(93) الخصال للشيخ الصدوق: 555، الأمالي للشيخ الطوسي: 554، بحار الأنوار 22: 280، المناقب للخوارزمي: 314، الدر النظيم: 33، كتاب الولاية لابن عقدة: 163، الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف لابن طاووس: 412، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 42: 434، ميزان الاعتدال للذهبي 1: 442، لسان الميزان لابن حجر 2: 157، وغيرها من المصادر.
(94) الأمالي للشيخ الطوسي: 563، حلية الأبرار للبحراني 2: 74، بحار الأنوار 10: 141 و22: 283، كتاب الولاية لابن عقدة: 185.
(95) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 97، مثير الأحزان للحلي: 37، تاريخ الطبري 4: 322، الكامل في التاريخ لابن الأثير 4: 62، الدر النظيم: 552.
(96) الأمالي للشيخ الصدوق: 275، التوحيد للشيخ الصدوق: 204، الأمالي للشيخ الطوسي: 410، بحار الأنوار 11: 380 و22: 374، غاية المرام للبحراني 5: 117.
(97) الكافي 1: 450، ح34، عنه بحار الأنوار 22: 282، ح41.
والمؤلّف نقل مضمون الرواية ونصّ الرواية كالتالي: " عن أصبغ بن نباته الحنظلي، قال: رأيت أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم افتتح البصرة، وركب بغلة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثُمّ قال: " أيّها الناس ألا أخبركم بخير الخلق يوم يجمعهم اللّه "؟
فقام إليه أبو أيوب الأنصاري فقال: بلى يا أمير المؤمنين حدّثنا، فإنّك كنت تشهد ونغيب.
فقال: " إنّ خير الخلق يوم يجمعهم اللّه تعالّى سبعة من ولد عبد المطلب، لا ينكر فضلهم إلاّ كافر، ولا يجحد به إلاّ جاحد ".
فقام عمّار بن ياسر (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين، سمّهم لنا لنعرفهم!
فقال: " خير الخلق يوم يجمعهم اللّه الرُسّل، وإنّ أفضل الرسل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنّ أفضل كُلّ أُمة بعد نبيّها وصيّ نبيّها حتّى يدركه نبي، ألا وإنّ أفضل الأولياء وصيّ محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ألاّ وإنّ أفضل الخلق بعد الرسل الشهداء، ألاّ وإنّ أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب وجعفر ابن أبي طالب، له جناحان يطير بهما في الجنّة، لم ينحل أحد من هذه الأُمّة جناحان غيره. شيء أكرم اللّه به محمّداً(صلى الله عليه وآله وسلم)وشرّفه، والسبطان الحسن والحسين والمهدي (عليهم السلام)، يجعله اللّه من شاء منّا أهل البيت ". ثُمّ تلا هذه الآية: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً) النساء: 69.
(98) الملك: 27.
(99) الكافي للكليني 8:267، ح 392، وعنه بحار الأنوار للمجلسي 7:283، ح4.
(100) إيمان أبي طالب للشيخ المفيد: 35، بحار الأنوار 35: 165، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 78.
(101) روضة الواعظين: 81، وعنه في بحار الأنوار 35: 16، ح12، الدر النظيم للعاملي: 234.
(102) روضة الكافي للكليني 8: 375، عمدة الطالّب لابن عنية: 30، وعن الكافي في بحار الأنوار 19: 294، ح38، المجدّ في أنساب الطالبيين للعلوي: 318، تاريخ الطبري 2: 144، الكافي في التاريخ 2: 121، الوافي بالوفيات 16: 222، البداية والنهاية 3: 325، السيرة النبّوية لابن هشام الحميري 2: 451، السيرة النبوية لابن كثير 2: 400.
(103) الأُصول الستة عشر من الأُصول الأولية: 259، وفي مجمع الزوائد للهيثمي 7: 10: " عن ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ قال: كان ناس من أهل مكة قد أسلموا، وكانوا مستخّفين بالإسلام، فلمّا خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم مكرهين..
قلت: أخرج البخاري بعضه، رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير محمّد بن شريك، وهو ثقة " أقول: وفي إخفاء الأسماء عادة قديمة عند القوم، ولهم تضلّع كبير فيها يعرفها من سير كلماتهم، ولاحظ أقوالهم. وللّه مع ما يسمّون بـ (أهل السنّة والحديث) شؤون لا تخفى.
(104) بحار الأنوار 19: 304، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 183، تفسير القرطبي 8: 49، تفسير ابن كثير 2: 340، الطبقات الكبرى لابن سعد 4: 10، تاريخ الطبري 2: 151، الكامل في التاريخ 2: 128، تاريخ الإسلام 2: 58 و120، البداية والنهاية 3: 348، السيرة النّبوية لابن هشام الحميري 2: 458، السيرة النّبوية لابن كثير 2: 436، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 4: 49، السيرة الحلبية للحلبي 2: 413.
(105) لم يُعرف حال طالب بن أبي طالب بشيء، غير ذكر له من خرج مكرها من بني هاشم إلى معركة بدر، وأمّا حاله بعدها فهو مجهول عند المحدّثين والمؤرّخين.
قال ابن سعد في الطبقات الكبرى 1: 121: " كان اسم أبي طالب عبد مناف، وكان له من الولد طالب بن أبي طالب، وكان المشركون أخرجوه وسائر بني هاشم إلى بدر كرهاً.. فلمّا انهزموا لم يوجد في الأسرى، ولا في القتلى ولا رجع إلى مكة، ولا يدرى ما حلّ به، وليس له عقب ".
ومثله في تاريخ الطبري 2: 143، والكامل في التاريخ لابن الأثير 2: 121.
وقال ابن عبد البرّ في الاستيعاب 2: 817: " وذكروا أنّ ثلاثة نفر ذهبوا على وجوههم فهاموا، ولم يوجد ولم يسمع لهم بأثر: طالب بن أبي طالب ".
ومثله في أُسد الغابة 3: 112، وغيرها من المصادر الكثيرة التي اتفقت على جهالة حال طالب بعد معركة بدر، وهذا شيء غريب ملفت للنظر، خصوصاً وأنّ المؤرّخين ركزوا على بني هاشم وذكر أخبارهم وسيرهم.
ثُمّ إنّ المؤلّف شبهه ـ على بعد ـ بسعد بن عبادة الأنصاري، المعروف في وقعة السقيفة، وموقفه من أبي بكر وعمر، من معارضته وعدم مبايعته لهم، وهذا الصحابي اختلف في موته.
قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب 2: 599: " ولم يختلفوا أنّه وجد ميتاً في مغتسله، وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتّى سمعوا قائلاً ـ ولا يرون أحداً ـ:
قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده رميناه بسهم فلم يخطئ فؤاده
ويقال: إن الجنّ قتلته " قال السيّد الأمين في أعيان الشيعة 7: 225: " وقيل: إن الذي رماه المغيّرة بن شعبة، وقيل: شخصاً غيره، رماه كلّ واحد بسهم. وأُشيع أنّ الجنّ رمته وقالت البيتين، ويحكى عن بعض الأنصار أنه قال:
وما ذنب سعد أنه بال قائماً ألاّ ربما خفقت فعلك بالغدر
يقولون سعد شقت الجنّ بطنه ولكن سعداً لم يبايع أبا بكر
وفي الاستيعاب: لم يختلفوا أنه وجد ميتاً في مغتسله وقد أخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلاً يقول ـ ولا يرون أحد ـ: نحن قتلنا.. البيتين، ويقال: إنّ الجن قتله اهـ.
وياليت شعري وما ذنبه إلى الجن حتّى تقتله الجنّ؟!
وينقل عن محمّد بن جرير الطبري، وكأنه الشيعي، وفي مؤلّفه عن أبي علقمة، قلت لابن عبادة، وقد مال الناس إلى بيعة أبي بكر: ألا تدخل فيما دخل فيه المسلمون؟
قال: إليك عنّي، فواللّه لقد سمعت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إذا أنا مت تضلّ الأهواء ويرجع الناس على أعقابهم، فالحقّ يومئذ مع علي "، وكتاب اللّه بيده، لا نبايع أحداً غيره فقلت له: هل سمع هذا الخبر أحد غيرك من رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: أناس في قلوبهم أحقاد وضغائن.
قلت: بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس؟
فحلف أنه لم يهم بها ولم يردها، وأنّهم لو بايعو علياً لكان أول من بايعه ".
(106) ورد هذا الحديث بألفاظه المختلفة في المصادر التالية: بحار الأنوار 35: 157 و42: 115، المستدرك للحاكم 3: 576، مجمع الزوائد 9: 273، المعجم الكبير للطبراني 17: 191، الاستيعاب 3: 1078، الطبقات الكبرى 4: 44، معرفة الثقات للعجلي 1: 383، تاريخ مدينة دمشق 20: 55 و41: 18، أُسد الغابة 3: 422، سير أعلام النبلاء 1: 219، تاريخ الإسلام للذهبي 4: 84، الوافي بالوفيات 20: 63، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11: 25 و14: 70، السيرة الحلبية 1: 432.
قال المؤلّف: ولكنّه في المجالس ـ مجلس 27 ـ روى عن ابن عباس: أن علياً قال لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): " أتحب عقيلاً"؟
قال: " أي واللّه إني لأحبّه حبين: حبّاً لرسول اللّه، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقرّبون، ثُمّ بكى رسول اللّه حتّى جرت دموعه على صدره، وقال: إلى اللّه أشكو ما تلقى عترتي بعدي".
وهو في الأمالي للشيخ الصدوق: 191 ح201/3، وعنه بحار الأنوار 22: 288، ح58.
(107) قال العلاّمة الأميني في الغدير 10: 261: قال معاوية لعقيل بن أبي طالب: إنّ علياً قد قطعك، وأنا وصلتك، ولا يرضيني منك إلاّ أن تلعنه على المنبر.
قال: أفعل، فصعد المنبر ثُمّ قال ـ بعد أن أحمد اللّه، وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم): أيّها الناس إنّ معاوية بن أبي سفيان قد أمرني أن العنّ علي بن أبي طالب فالعنوه، فعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين.
ثُمّ نزل فقال له معاوية: إنّك لم تبيّن من لعنت منهما، بيّنه.
فقال: واللّه لا زدت حرفاً ولا نقصت حرفاً، والكلام إلى نيّة المتكلّم.
العقد الفريد 2: 144، المستطرف 1: 54.
والكلام فيه تورية لطيفة ولعن لمعاوية من قبل عقيل.
(108) " في مناقب ابن شهرآشوب 1: 110 أنّها ماتت في أيام النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولكن ابن حجر في تقريب التهذيب 2: 673/8821 نصّ على وفاتها في خلافة معاوية، وعليه فليست هي المعنيّة بما في كامل الزيارة: 195 واقبلت إليه بعض عمّاته تقول: أشهد يا حسين لقد سمعت قائلاً يقول:
وإن قَتيلَ الطّفِ مِن آلِ هَاشم أذّلَ رِقَاباً مِنَ قُريش فَذّلتِ
انتهى كلام المؤلف.
أقول: مضافاً إلى ذلك، فإنّ المحدّثين ذكروا أنّ قائل هذه الأبيات سليمان بن قتة الخزاعي، وارجع إلى: مناقب آل أبي طالب 3: 263، ومثير الاحزان لابن نما الحلّي: 89، الإستيعاب عبد البرّ 1: 394، نظم درر السمطين: 226، تاريخ مدينة دمشق 14: 259، أُسد الغابة 2: 22، تهذيب الكمال 6: 447، سير أعلام النبلاء 3: 318، تاريخ الإسلام 5: 108، البداية والنهاية 8: 230.
(109) السيرة الحلبية للحلبي 1: 422، شرح احقاق الحق للمرعشي 8: 70.
(110) الفضائل لابن شاذان: 103، مستدرك الوسائل 2: 342.
(111) روضة الواعظين للنيسابوري: 142، بحار الأنوار 78: 351، ح 22 عن مجالس الصدوق، بشارة المصطفى للطبري: 372.
(112) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2: 125.
(113) الدرجات الرفيعة: 161.
(114) الدرجات الرفيعة: 163 ـ 164.
(115) الدرجات الرفيعة: 164.
(116) منزل في طريق مكة.
(117) شراف موضع قريب من مكة.
(118) موضع قرب الكوفة.
(119) شرح نهج البلاغة 2: 120، الإمامة والسياسة: 54، بحار الأنوار 34: 24، جواهر المطالب 1: 366.
(120) نكت الهميان: 200.
(121) علل الشرائع 1: 45.
(122) المجادلة: 19.
(123) علل الشرائع 1: 45، الاعتقادات في دين الامامية للصدوق: 105، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9: 306.
(124) في كامل الزيارة: 241: كان علي بن الحسين يميل إلى ولد عقيل فقيل له: " ما بالك تميل إلى بني عمّك هؤلاء دون آل جعفر؟
فقال (عليه السلام): " إنّي لاذكر يومهم مع أبي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) فأرقّ لهم ".
(125) أُنظر ذلك في عمدة الطالب: 35.
(126) القلم: 4.
(127) صحيح البخاري 3: 168، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، المستدرك للحاكم 3: 120، السنن الكبرى للنسائي 8: 5، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 258.
(128) النجم: 3.
(129) مناقب آل أبي طالب 1: 176، إعلام الورى: 212.
(130) الكافي 3: 365، من لا يحضره الفقيه 1: 552، النوادر: 160، جمال الاسبوع: 182.
(131) بحار الأنوار 88: 212.
(132) ميزان الاعتدال 3: 94، ضعفاء العقيلي 3: 373، تاريخ الإسلام 7: 18، وغيرها من المصادر.
(133) كشف الغمة 2: 156، إعلام الورى: 407، روضة الواعظين: 156، الإرشاد 2: 30.
(134) الخصال: 555.
(135) روضة الواعظين: 87، الاحتجاج 1: 265، مناقب آل أبي طالب 2: 19، الغدير 2: 26، تاريخ مدينة دمشق 42: 521، الوافي بالوفيات 21: 184، البداية والنهاية 8: 9.
(136) تاريخ الطبري 4: 119، الكامل في التاريخ 3: 398، مع تفاوت يسير في بعض الابناء واسمائهم.
(137) تاج العروس 3: 289.
(138) الإصابة 6: 191.
(138) القاموس 2: 55.
(139) الطرف 1: 335.
(140) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 244.
(141) وفيات الأعيان 4: 169.
(142) السرائر 1: 657 والعبارة: " وهذا خطأ منه، وتغفيل، وقلة تحصيل ".
(143) الخرائج والجرائح للراوندي 2: 564، والكلام منقول بالمعنى في عامة الفاظه.
(144) الشافي للسيّد المرتضى 3: 371.
(145) وفيات الأعيان 4: 172.
(146) البداية والنهاية 9: 46.
(147) المعارف: 95.
(148) حلية الأولياء 3: 205.
(149) تهذيب التهذيب 9: 354.
(150) البداية والنهاية لابن كثير 9: 32.
(151) معجم البلدان 2: 337.
(152) البقرة: 109.
(153) إعلام الورى بأعلام الهدى: 423.
(154) رجال الكشي 1: 226 النصّ منقول بالمعنى. وفيه إنّ محمّد بن أبي حذيفة كان من أنصار علي وخيار الشيعة، وبعد شهادة علي حبسه معاوية دهراً حيث لم يتبرأ من المشايعة لعلي وولده، وبعد أنّ أخرجه حمله على البراءة منه والموالاة لعثمان فقال له: إنّي لا أعلم أحداً شرك في دم عثمان غيرك حيث استعملك وخالف المسلمين في رأيهم عليه بعزلك حتّى جرى عليه ما كان، وإنّ طلحة والزبير وعائشة هم الذين ألّبوا عليه وشهدوا عليه بالجريمة، وإنّي أشهد أنّك منذ عرفت في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ما زاد الإسلام فيك شيئاً، وعلامته أنّك تلومّني على حبّي لعلي وقد خرج معه كُلّ صوّام قوّام من المهاجرين والأنصار، كما خرج معك أبناء المنافقين والطلقاء. واللّه يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ولا خفي عليهم ما صنعوا، إذ أحلوا أنفسهم سخط اللّه بطاعتك، وإنّي لا أزال أحبّ علياً للّه ورسوله وأبغضك في اللّه ورسوله أبداً ما بقيت، ثُمّ ردّه إلى السجن فمات فيه. رجال الكشي 1: 228 والنصّ منقول بالمعنى.
(155) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 244: " قيل لمحمّد: لم يغرر بك أبوك في الحرب، ولا يغرر بالحسن والحسين (عليهما السلام)؟ فقال: إنّهما عيّناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه ".
(156) والنصّ باختلاف ألفاظه موجود في مناقب آل أبي طالب 3: 334، وعنه بحار الأنوار 46: 318.
(157) المناقب للخوارزمي: 210.
(158) عمدة الطالب: 328.
(159) عمدة الطالب: 281.
(160) عمدة الطالب (عند ذكر الحسن المثنى): 90.
(161) اللهوف في قتلى الطفوف: 20، والنصّ منقول بالمعنى.
(162) هذان حديثان ملفقان منقولان بالمعنى وهما في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 602، وقرب الإسناد للحميري: 24.
(160) عمدة الطالب (عند ذكر الحسن المثنى): 90.
(161) اللهوف في قتلى الطفوف: 20، والنصّ منقول بالمعنى.
(162) هذان حديثان ملفقان منقولان بالمعنى وهما في كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: 602، وقرب الإسناد للحميري: 24.
(163) قال ابن إدريس الحلّي في السرائر 1: 656: " وقد ذهب أيضاً شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد إلى أنّ عبيد اللّه بن النهشلية قتل بكربلاء مع أخيه الحسين (عليه السلام). وهذا خطأ محض بلا مراء ; لأنّ عبيد اللّه بن النهشلية كان في جيش مصعب بن الزبير، ومن جملة أصحابه، قتله أصحاب المختار.
(164) تاريخ الطبري 4: 351، الكامل في التاريخ 4: 92.
(165) مقاتل الطالبيين: 57.
(166) بحار الأنوار 45: 36 والعبارة: " صبراً يا بني عمومتي، صبراً يا أهل بيتي، لا رأيتم هواناً بعد هذا اليوم أبداً ".
(167) الكامل في التاريخ 4: 92.
(168) مقاتل الطالبيين: 55.
(169) أنساب الأشراف: 192، المجدي في أنساب الطالبيين: 232، الجريرة في أصول أنساب العلويين: 12.
(170) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول: 313.
(171) مناقب السروي 2: 76.
(172) المصدر السابق 2: 171.
(173) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 32.
(174) بحار الأنوار 42: 93، المجدي في أنساب الطالبيين: 18، إعلام الورى بأعلام الهدى: 398.
(175) الاحتجاج 2: 31، في أنساب الطالبيين: 48، بحار الأنوار 45: 164.
(176) من قصيدة للعلاّمة ميرزا محمّد علي الأوردبادي طُبعت في كتاب (زينب الكبرى).
(177) ليلة عاشوراء في الحديث والأدب: 156.
(178) في المصدر: " بنت محمّد بن علي الرضا ".
(179) كمال الدين وتمام النعمة: 501، الغيبة للشيخ الطوسي: 230.
(180) بحار الأنوار 28: 57 نقلاً عن كامل الزيارات.
(181) شجرة طوبى: 393، حياة الإمام الحسين (عليه السلام) للقرشي: 301.
(182) مثير الأحزان لابن نمّا الحلّي: 71.
(183) بحار الأنوار 45: 133، مقتل الحسين للخوارزمي 2: 47.
(184) الدمعة الساكبة 4: 346.
(185) الكافي 1: 283، ح4.
(186) الكافي 1: 262، ح4.
(187) الثاقب في المناقب لابن حمزة الطوسي: 322، مع اختلاف بعض الألفاظ.
(188) عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: 356، قاموس الرجال 12: 195.
(189) سمّاها الوافي بالوفيات 18: 344 (ليلى).
(190) سمّاها في إكمال الاكمال 7: 111 (خالدة).
(191) عمدة الطالب لابن عنبة: 356.
(192) القاموس المحيط 2: 218.
(193) تاج العروس 8: 298 ولا خلاف بينهما بعد المراجعة.
(194) مقاتل الطالبيين: 53.
(195) عمدة الطالب لابن عنبة: 357.
(196) الكافي 5: 332، ح2 والحديث: " اختاروا لنطفكم فإنّ الخال أحد الضجيعين ".
(197) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 26: 101.
(198) الأعلام للزرگلي 3: 355، الإصابة 3: 485.
(199) لسان العرب 7: 415، تاج العروس 11: 112.
(197) تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 26: 101.
(198) الأعلام للزرگلي 3: 355، الإصابة 3: 485.
(199) لسان العرب 7: 415، تاج العروس 11: 112.
(200) قسم من الكلام موجود في الإصابة 4: 458، وخزانة الأدب 3: 80.
(201) الطبقات الكبرى 1: 127، الأعلام للزركلي 2: 47.
(202) معجم البلدان 1: 386، خزانة الأدب 4: 10.
(203) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 121، الدر النظيم للعاملي: 411.
(204) السيرة النبوية لابن كثير 4: 581، السيرة الحلبية 2: 452، الكنى والألقاب للقمي 1: 115.
(205) مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب 3: 110، الأمالي للشيخ الطوسي: 43، بشارة المصطفى للطبري: 381.
(206) عمدة القارئ 8: 41، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: 305.
(207) مناقب آل أبي طالب 3: 90.
(208) الشمس: 1 ـ 2.
(209) أنيس الشيعة للعلاّمة السيّد محمّد عبد الحسين بن السيّد محمّد عبد الهادي المدارسي الهندي قال شيخنا الحجّة في الذريعة إلى مصنفات الشيعة 2: 45: رأيت الكتاب في النجف عند العالم السيّد اقا التستري من أحفاد السيّد نعمة اللّه الجزائري، والكتاب في وقائع الأيام، من موجبات السرور والأحزان، من مواليد الأئمة ووفياتهم ومعاجزهم..، رتّبه على الأشهر، بدأ بربيع الأول وختم في شهر صفر، وله مقدّمه في نسب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنة جلوس الوصي (عليه السلام)وخاتمة في أحوال الحجة المنتظر (عليه السلام).
وذكر العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي أنّه قرأ بخطّ المؤلّف على ظهر الكتاب إنّه أهداه إلى السلطان فتح علي شاه يوم الجمعة أول شعبان سنة 1244 هـ، وللمؤلّف كتب منها: زاد المؤمنين، وتذكرة الطريق، وعناية الرضا.
(210) المجدي والأنوار النعمانية: 124، وحكاه في كتاب قمر بني هاشم: 22 عن وقائع الأيام لشيخ محمّد باقر البيرجندي.
(211) مثير الأحزان لابن نما الحلّي: 12.
(212) كان يقال لعبد مناف: (قمر البطحاء)، ولعبد اللّه والد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (قمر الحرم).
(213) مقاتل الطالبيين: 55.
(214) مقاتل الطالبيين: 79. الأصبغ هنا ابن نباتة ; لأنّ بني مجاشع بطن من حنظلة من تميم كما في نهاية الإرب للقلقشندي: 334، والأصبغ ابن نباتة حنظلي تميمي كما نصّ عليه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 362.
(215) في تاريخ الطبري 4: 359:حرملة بن الكاهن، وفي الفصول المهمة لابن الصباغ: 845: حرملة بن الكاهل. والأمر سهل.
(216) تذكرة الخواص: 291.
(217) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 219.
(218) تاريخ الطبري 4: 335.
(219) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1: 374، ونصّ العبارة: " لا يصحّ، وأصبغ متروك لا يساوي فلساً ".
(220) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 4: 344، ونصّ العبارة: " رجاله فيهم غير واحد مجهول وآخرون معروفون بغير الثقة ".
(221) تهذيب الكمال للمزي 20: 479، شرح إحقاق الحق 32: 679.
(222) بحار الأنوار 98: 330.
(223) الجريدة في أصول أنساب العلويين: 318.
(224) أعيان الشيعة 9: 259.
(225) من قصيدة لسيد الذاكرين السيّد صالح الحلّي (رحمه الله).
(226) مقاتل الطالبيين: 56، مناقب آل أبي طالب 3: 256، بحار الأنوار 45: 39.
(227) المجدي في أنساب الطالبيين: 243.
(228) سرّ السلسلة العلوية: 88.
(229) سرّ السلسلة العلوية: 89.
(230) كامل الزيارات: 440.
ولم يلقبوه بذلك ; لأن هذا المعنى صفة وليست اسماً ليجعل لقباً لشخص، وأهل السير غرضهم من ذكر الألقاب التمييز لا أطلاق الأوصاف، فتدبر.
(231) لكن حقيقة الرسالة راجعة إلى العبودية وداخلة في ضمنها، فهي منه وبه وإليه.
نعم، مانعية الرسالة من جهة اشتغال الرسول بتبليغ الرسالة والدخول في عالم الكثرة، وهذا فيه نوع حجب على النور الصافي فيما لو انقطع مع اللّه، ولكنّه بالتالي عبادة أقلّ من غيرها، فتدبّر.
(232) البقرة: 23.
(233) الإسراء: 1
(234) الأنفال: 41.
(235) ص: 17.
(236) ص: 30.
(237) ص: 45.
(238) ص: 41.
(239) مريم: 30.
(240) الأنبياء: 30.
(241) الكامل للمبرد 1: 308، والعبارة فيها تقديم وتأخير.
(242) بحار الأنوار 71: 369.
(243) تذكرة الموضوعات للفتني: 147.
(244) مستدرك الوسائل للنوري 7: 253.
(245) الأمالي للشيخ الطوسي: 310، الكافي للكليني 4: 57، ح3، من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق 2: 64.
(246) المعجم الكبير للطبراني 12: 82، مجمع الزوائد للهيثمي 3: 132.
(247) الكافي 6: 381، ح7، مناقب آل أبي طالب 2: 203.
(248) الأعلام للزركلي 5: 229، معجم البلدان للحموي 3: 266.
(249) السيرة الحلبية 1: 21.
(250) معجم البلدان 4: 88، فتوح البلدان للبلاذري 1: 56، سبل الهدى والرشاد 1: 275.
(251) معجم ما استعجم للأندلسي 3: 724.
(252) السيرة الحلبية 1: 22.
(253) معجم البلدان 1: 361، تاج العروس 6: 68 وقال: " قالوا: هو من التبذير وهو التفريق، فلعل ماءها كان يخرج متفرقاً من غير مكان واحد.. ".
(254) في معجم البلدان 1: 361، ومعجم ما استعجم 1: 235: " وقال حين حفرها: انبطت بذراً بماء قلاس جعلت ماءها بلاغاً للناس.
(255) تاريخ الطبري 2: 12، تاريخ ابن الأثير 2: 12، سيرة ابن إسحاق: 5، السيرة الحلبية 1: 51.
(256) المصنّف للصنعاني 5: 114، تاريخ اليعقوبي 1: 247، تاريخ ابن خلدون 2: 338، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 216، السيرة النبوية لابن كثير 1: 173، السيرة الحلبية 1: 57.
(257) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 217، معجم البلدان للحموي 3: 149، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 1: 191.
(258) السيرة الحلبية 1: 55، السيرة النبوية لابن هشام 1: 94، السيرة النبوية لابن كثير 1: 169، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 1: 189، الكامل في التاريخ 2: 13، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 229.
(259) السيرة الحلبية 3: 52.
(260) مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب 2: 80.
(261) مناقب آل أبي طالب 2: 351.
(262) المعيار والموازنة للاسكافي: 146، الفتوح لابن أعثم الكوفي 3: 5.
(263) موضع، وقيل: ماء لبني أسد. راجع لسان العرب 9: 174، ويذكر المؤرّخون ـ كالطبري 4: 302، وابن الأثير في الكامل 4: 46 وغيرها ـ أنّه التقى مع جيش الحرّ بعد الخروج من (شراف).
(264) عمدة الطالب لابن عنبة: 356، مقاتل الطالبيين: 55، الأنوار العلوية للنقدي: 441، السرائر 1: 656.
(265) نقل جزء من القصة السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة 10: 72.
(266) من قصيدة للعلاّمة السيّد محمّد حسين الكيشوان (رحمه الله).
(267) مستدرك الوسائل 15: 215، مقتل الحسين للخوارزمي 1: 179.
(268) الأنبياء: 22.
(269) مقتل الحسين للخوارزمي 1: 179 ; باختلاف الألفاظ، وفي مستدرك الوسائل 15: 215 قال: " وقيل: بل القائل الحسين (عليه السلام) ".
(270) الاحتجاج للطبرسي 2: 31.
(271) أسرار الشهادة: 324.
(272) الخصال: 135 باختلاف في بعض الألفاظ.
(273) اللهوف في قتلى الطفوف: 45.
(274) من قصيدة للشيخ صالح الكواز الحلّي، وقيل: للتميمي. راجع أعيان الشيعة 7: 371.
(275) تاريخ الطبري 4: 321، الكامل في التاريخ 4: 60، مثير الأحزان لابن نما: 39.
(276) رجال الكشّي 1: 293، تفسير جوامع الجامع 1: 130.
(277) تاريخ الطبري 4: 310.
(278) تاريخ الطبري 4: 317.
(279) الدمعة الساكبة: 325.
(280) تاريخ الطبري 4:351، تاريخ مدينة دمشق 18: 445، الكامل في التاريخ 4: 83، الوافي بالوفيات 14: 127، البداية والنهاية 8: 208 الفتوح لابن أعثم 5: 127.
(281) تاريخ الطبري 4: 331، الكامل في التاريخ 4: 67.
(282) بحار الأنوار 45: 19.
(283) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 363.
(284) تاريخ الطبري 4: 334، الكامل في التاريخ 4: 70.
(285) تاريخ الطبري 4: 336، الكامل في التاريخ 4: 71 إلى قوله: " حتّى سقط ".
(286) تاريخ الطبري 4: 337، الكامل في التاريخ 4: 72.
(287) الخرائج والجرائح للراوندي 2: 848، والعبارة بمعناها.
(288) الأغاني لأبي الفرج الاصفهاني 9: 22.
(289) يوسف: 31.
(290) تاريخ الطبري 4: 317، الكامل في التاريخ 4: 57، البداية والنهاية لابن كثير 8: 191.
(291) تاريخ الطبري 4: 317 ـ 318، الكامل في التاريخ 4: 58، البداية والنهاية لابن كثير 8: 191.
(292) الخرائج والجرائح 1: 255، بحار الأنوار 45: 89، علل الشرائع 1: 229، والنصّ منقول بالمعنى.
(293) تفسير ابن أبي حاتم 5: 1536، تفسير ابن كثير 3: 166، الدر المنثور للسيوطي 3: 107، تفسير الألوسي 9: 28، البداية والنهاية لابن كثير 1: 296.
(294) تاريخ الطبري 4: 314، الكامل في التاريخ 4: 56.
(295) الإرشاد للشيخ المفيد 2: 89، بحار الأنوار 44: 391، تاريخ الطبري 4: 315، الكامل في التاريخ 4: 56.
(296) مثير الأحزان لابن نما الحلّي: 41، اللهوف في قتلى الطفوف: 54، لواعج الأشجان: 116.
(297) الأنوار العلوية للنقدي: 444، أسرار الشهادة للدربندي 2: 497.
(298) سرّ السلسلة العلوية لأبي نصر البخاري: 89.
(299) المائدة: 3.
(300) المائدة: 55.
(301) النساء: 59.
(302) الارشاد للشيخ المفيد 2: 209، مثير الأحزان لابن نما: 50، لواعج الأشجان: 178.
(303) تاريخ الطبري 4: 342، الكامل في التاريخ 4: 76.
(304) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 54.
(305) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج: 55.
(306) الأخبار الطوال: 257.
(307) تاريخ الطبري 4: 338.
(308) عمدة الطالب لابن عنبة: 356، مقتل الحسين لأبي مخنف: 176. الأنوار العلوية للنقدي: 442.
(309) كامل الزيارات: 358، بحار الأنوار 98: 148.
(310) كامل الزيارات: 440.
(311) المزار للشيخ المفيد: 122، المزار للمشهدي: 166، بحار الأنوار 97: 427.
(312) الطبقات الكبرى لابن سعد 2: 12، تاريخ الطبري 2: 172، سبل الهدى والرشاد للصالحي الشامي 4: 24، تفسير البغوي 1: 283.
(313) آل عمران: 125، قال تعالى: (بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ).
(314) لقد أجاد العلاّمة السيّد باقر نجل آية اللّه السيّد محمّد الهندي (رحمه الله) إذ يقول:
لَو لَم تَكُن جمعت كُلّ العلا فينا لكَانَ مَا كَانَ يَومَ الطّفِ يَكفيِنَا
يَومٌ نَهضنَا كأَمثالِ الأُسودِ بهِ وأَقبلَت كالدِّبا زَحفَاً أَعاديِنَا
جَاؤُوا بسبعيِن أَلفاً سُلّ بقيِتَهم هَل قَابلوَنا وَقد جِئنَا بِسبعِنَا
(315) بصائر الدرجات للصفّار: 502، دلائل الامامة للطبري الشيعي: 188، الخرائج والجرائح للراوندي 2: 771، مثير الأحزان لابن نما: 27.
(316) النور: 35.
(317) كامل الزيارات: 441، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 6: 66، المزار للمفيد: 122، المزار للمشهدي: 178.
(318) كامل الزيارات: 441، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 6: 66، المزار للمفيد: 122،المزار للمشهدي: 178.
(319) المزار للشهيد الأوّل: 165.
(320) كامل الزيارات: 441، المزار للشهيد الأوّل: 133.
(321) بحار الأنوار 98: 219، المزار للمفيد: 124، المزار للمشهدي: 391.
(322) بحار الأنوار 98: 330، والوارد في الزيارة: "... السلام عليكم يا طاهرون، السلام عليكم يا مهديون... "، نعم ورد في زيارات أُخرى قوله (عليه السلام): " وطهّركم من الدنس " كامل الزيارات: 527.
(323) المزار للشهيد الأوّل: 129، المزار للمشهدي: 465.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page