طباعة

ماهو السر في ذلك ؟

لقــد حملت هذا السؤال الى بعض الاخوة هنا وهناك قائلا : انه هناك قمما مضيئة في تأريخنا - نحن الموالين لأهل بيت الرسالة - ، ابتداءا من اصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله - الى انصار الامام علي - عليه السلام - الى حواري الامام الحسن - عليه السلام - ، والى اصحاب سائر الائمة المعصومين - عليه السلام - ، وان بينهم الفقهاء والقادة والابطال ، ولكن نور اولئك يخبو إذا سطع أبو الفضل العباس - عليه السلام - . لماذا ؟ كان جواب الأفاضل متقاربا حيث قالوا : ان السر في ذلك ان العباس - عليه السلام - باب الحوائج ، فما من احد طرق هذا الباب إلا قضيت حاجته . وهناك الدعاء المعروف الذي يتلوه المؤمنون حينما تصيبهم ضائقة ، وتحيط بهم بائقة ، يقولون : الهي بحق كاشف الكرب عن وجه اخيه الحسين - عليه السلام - اكشف كربي .

قلت بلى .. واني شخصيا اجرب ذلك دائما ، بل لا يمر علي يوم إلا واشاهد هذه الحقيقة . فكلما اصابتني ازمة ، دعوت الله سبحانه وتعالى ، وتوسلت اليه بأبي الفضل العباس باب الحوائج ونذرت له علي مئة صلاة على النبي وآله لاهدي ثوابها الى روحه الكبير ، فإذا بالكربة تنكشف ، والازمة تتفرج .

ولكن السؤال العريض لماذا خص الله سبحانه وتعالى أبا الفضل عليه السلام بهذه الميزة العظيمة ؟ فما من احد في شرق الارض وغربها ، يدعو الله بكربة أبي الفضل ، إلا ويفرج الله كربته ؟ لماذا ، ماهو السر في ذلك ؟

كان الجواب ما يلي :

لعل احدا من اصحاب الحسين وأهل بيته - عليه وعليهم السلام - لم يمر بلحظة حيرة ، كما عاناها سيدنا العباس في وسط المعركة . حيث كانت امنيته الوحيدة ايصال الماء الى المخيم ، حيث يتلظى الأطفال عطشا . لقد كانت القربة التي حملها ببقايا يديه النازفتين ، كانت أغلى عنده من حياته . وكان عشرات المئات من الرماة يمطروه بوابل من السهام ، فاختار العباس طريقا قريبا الى المخيم بين النخيل ، لعله ينجو من الأعداء بالقربة . ولكن الخيبة الكبرى كانت عندما وجد العباس سهما يخترق القربة ، ويسيل ماءها ، هنالك سالت نفسه مع ذلك الماء فوقف وسط المعركة فلا يدين يذب بهما عن امام زمانه الحسين - عليه السلام - ، ولا أمل له في الحياة . فوقف آيسا من الحياة عازما على الموت .

بلى .. لعل تلك اللحظة التي عاشها أبو الفضل بكل صبر ويقين كانت عظيمة عند الله فعوضه الله عنها بأن جعله بابا للحوائج أوليس قد خابت حاجته في الدنيا .

بلى .. كذلك كان أبو الفضل ، وكذلك يعطي الله سبحانه عباده الصالحين الذين يخلصون العمل له ، يعطي لهم أجرا جزيلا وفضلا كبيرا ، وقد قال تعالى :

انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين (1)

وقال سبحانه :

سلام على ابراهيم كذلك نجزي المحسنين (2)

فاذا اخلد الله ذكر الانبياء ، وجعل السلام عليهم في العالمين ، لانهم كانوا محسنين ، ولانه لا يضيع أجر المحسنين فلم تستغرب اذا أكرم أبا الفضل العباس على موقفه العظيم .

عندما جعل أمنيته سقاية أهل بيت الرسالة ، ولم يبال بقطع يمينه في سبيل الله ، بل قال وبكل صراحه :


والله ان قطعتم يميني            اني احامي أبدا عن ديني
وعن امام صادق اليقين            نجل النبي الطاهر الأمين
ثم قطعت شماله فلم            يبال ، بل انشد يقول :
يا نفس لا تخشي من الكفار        وابشري برحمة الجبار
مع النبي السيد المختار        قد قطعوا ببغيهم يساري


لقد اختصر ذلك الموقف حياة أبي الفضل ، واظهرت شخصيته الرائعة التي كانت نتيجة جملة عوامل تكاملت وتسامت .

ماذا كانت تلك العوامل ؟ وكيف صاغت شخصية أبي الفضل العباس - عليه السلام - ؟ وكيف نقتبس منها لحياتنا لكي نتجاوز ذواتنا المحدودة ؟ ونحلق في آفاق سامية من المثل العليا ؟

نجيب عن هذه الاسئلة انشاء الله في الفصل التالي .

النشأة الهادفة

الربانيون من عباد الله يتميزون بانهم لا يمارسون نشاطا ، إلا ابتغاء مرضاة ربهم . قال الله سبحانه :

قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (3)

حركات عباد الله الربانيين تتجه الى قبلة واحدة ، هي رضوان الرب ، وهكذا تجدهم إذا تزوجوا او ابتغوا ذرية فلغاية ربانية . فمثلا أمرأة عمران تنذر ما في بطنها محررا لله سبحانه ، فيتقبل الله سبحانه مريم بقبول حسن ، وينبتها نباتا حسنا ، ويكفلها زكريا .

وكانت تلك الدعوة ذات أثر بالغ على مستقبل جنينها ، فاذا بها تلد مريم ، التي جعلها الله تعالى وابنها المسيح - عليه السلام - آية للعالمين .

وكان الهدف الأسمى للامام علي - عليه السلام - من زواجه من فاطمة بنت حزام الكلابية - أم العباس - ان يرزقه الله منها ولدا ينصر نجله الحسين - عليه السلام - في كربلاء .

تقول الرواية التأريخية ؛ لقد قال الامام أمير المؤمنين علي - عليه السلام - لاخيه عقيل - وكان عالما بالانساب - : انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارسا .

فقال له : تزوج بأم البنين الكلابية ، فانه ليس في العرب اشجع من آبائها . (4)

واضافت رواية اخرى بعد قوله ؛ فتلد غلاما فارسا ، هذه الكلمة : ينصر الحسين بطف كربلاء . (5)

لقد رسم الامام صورة واضحة لهدفه من الزواج حتى قبل انتخاب الزوجة ، وهكذا رزقه الله سبحانه ذلك البطل الوفي المواسي لأخيه ، والناصح لامام زمانه .

اما فاطمة الكلابية فقد كانت مثلا رائعا في المثل الاخلاقية ، فعندما دخل بها الامام علي - عليه السلام - سألها حاجتها ، حسب عادة الزيجات يومئذ ، طلبت حاجة وحيده - حسب رواية تاريخية - بألا يناديها باسمها فاطمة !

لماذا وقد سمتك أمك فاطمة ؟!

قالت بلى .. أخشى انه كلما تناديني بهذا الاسم ( فاطمة ) ان يتذكر اولاد فاطمة الزهراء - عليها السلام - أمهم فتتجدد احزانهم . فكناها الامام بأم البنين .

ثم بعد عشرات السنين وبعد واقعة كربلاء تقول الرواية التاريخية حينما قدم الامام زين العابدين - عليه السلام - وسائر الاسارى الى المدينة المنورة ، أمر بشرا وكان شاعرا ان يتقدم الركب وينعى الحسين - عليه السلام - لأهل المدينة فاستقبلته أم البنين وأخذت تسأله عن الامام الحسين - عليه السلام - .

اما بشر فقال لها : يا أم البنين ؛ آجرك الله في ولدك عبد الله .

قالت : اخبرني عن الحسين ؟

فقال بشر : آجرك الله في ولدك جعفر .

قالت أم البنين : اخبرني عن الحسين يا بشر ؟

قال بشر : آجرك الله في ولدك عثمان .

عادت أم البنين تسأل بشرا : اخبرني عن الحسين يا بشر ؟

فقال بشر : آجرك الله في ولدك العباس ..

وبالرغم من الحب العظيم الذي كانت تكنه أم البنين لولدها البكر أبي الفضل العباس ، فان بشرا عندما أخبرها عن مقتل العبــاس عادت وسألت عن الحسين ، وهي تقول اخبرني يا بشر عن سيدي ومولاي الحسين . فلما قال بشر آجرك الله يا فاطمة في الحسين ، هنالك انهارت ولطمت وجهها وصاحت واويلاه واحسيناه .

ان هذه المرأة كانت تحب ابناءها أشد الحب كأي امرأة مؤمنة ، ولكنها كانت أشد حبا لله ولامامها الحسين - عليه السلام - وهكذا تفتديه باولادها . هذه الأم وذلك الأب ربيا معا العباس منذ نعومة اظفاره ، وذلك لتحقيق تلك المسؤولية ، ألا وهي الدفاع عن الحسين - عليه السلام - .

واذا كانت واقعة الطف مقدرة معروفة في بيت الرسالة ، فلابد ان تكون أم البنين ممن تعرف عنها شيئا . فتعرف - مثلا - ان العباس سيكون نصير الحسين الأول ، ولابد ان ارهاصات كانت تبدر في الافق تدلها على ذلك ، وهي تلك المرأة الحكيمة الشجاعة فتعد أبناءها لها .

من ذلك - مثلا - ما ذكره البعض من ان أم البنين رأت أمير المؤمنين - عليه السلام - في بعض الايام قد أجلس أبا الفضل - عليه السلام - في حجره ، وشمر عن ساعديه ، وقبلها وبكى ، فتعجبت وسألت زوجها الامام عن سبب بكاءه ؟ فأخبرها بإن هاتين اليدين سوف تقطعان في سبيل الحسين - عليه السلام - فبكت ثم بشرها بمقام ولدها عند الله ، وان الله سوف يعوضه عن يديه جناحين يطير بهما في الجنة - كما فعل بعمه جعفر الطيار - ، فاطمأنت نفسها . (6)

وقد ذكر البعض صورا شتى لمدى تعلق العباس بالحسين - عليه السلام - ، وانه منذ الطفولة كان سريع الاستجابة لطلبات أخيه . فإذا أبدى الحسين - عليه السلام - العطش ، انطلق العباس يسرع الى كأس ماء ويأتي به ويقدمه اليه . وفي طول حياته لم يخاطب أخاه بالأخوة . لماذا ؟ أوليس العباس ابن أمير المؤمنين وهو الشجاع البطل ، فلماذا لا يخاطب أخاه بكلمة يا أخي ؟

ان العباس ليعلم ان الحسين ابن بنت رسول الله ، ابن فاطمة وما ادراك مافاطمة ، وانه حجة الله عليه وعلى العالمين ، وانه سبط الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة . فلذلك لم يكن يخاطبه إلا باحترام بالغ ؛ يقول مثلا يا ابن رسول الله ، يا سيدي ، يا مولاي ..

بلـى .. انه نادى أخاه بالاخوة مرة واحدة ، وذلك حينما ضربه ذلك اللعين على أم رأسه ، فخر من الجواد على الارض فنادى : يا أخاه ادرك اخاك .

لماذا ناداه في تلك اللحظة بهذه الكلمة ؟

لعله كان يحقق رغبة كامنة في نفسه ، ان يدعو أخاه - ولو مرة واحدة - في العمر بتعبير يا اخي . أوليس ذلك فخر عظيم للعباس ان يكون له أخ مثل الحسين - عليه السلام - . فاذا كان الحياء قد منعه من ذلك من قبل ، او منعه احترامه لأخيه ، فالآن حيث حان ميعاد الفراق لا بأس ان يناديه بذلك .

وكما كان العباس يحترم الامام الحسين ، فان الامام الحسين - عليه السلام - كان شديد الحب والاحترام لأخيه . ففي عشية اليوم التاسع من محرم عام 61 هـ عندما زحف عسكر بني أمية على مخيم أهل البيت - عليهم السلام - خاطب سيد الشهداء أخاه العباس بهذه الكلمات :

اركب بنفسي أنت يا أخي حتى تلقاهم وتسألهم كما جاءهم .

انظر الى التعبير بنفسي أنت انها كلمة كبيرة تصدر من امام معصوم .

وهكذا استقبلهم العباس في عشرين فارسا فيهم حبيب وزهير و.... وسألهم عن ذلك ، فقالوا : ان الأمير يأمر اما النزول على حكمه او المنازلة .. فأخبر ( العباس ) الحسين ، فأرجعه يرجئهم الى غد (7) .

___________________
(1) يوسف / 90
(2) الصافات / 110
(3) الانعام / 162
(4) عبد الرزاق المقرم - في كتابه العباس عن عمدة الطالب وسر السلسلة لأبي النصر ص 357
(5) المصدر ص 194 عن كتاب : الكبريت الأحمر / ج 3 / ص 144 ، وكتاب : اسرار الشهادة ص 387
(6) العباس للمقرم ص 138 - عن كتاب قمر بني هاشم ص 21
(7) المصدر عن تاريخ الطبري ج 6 - ص 237