• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

القرآن و الإنسانية



القرآن و العلوم الإنسانية
هذا الموضوع أي موضوع مادة القرآن، أو معرفة القرآن أو علوم القرآن الإنسانية يظل في الواقع من الاتساع بمكان كبير، و لكن في الآن ذاته يتعين علينا أن نتحدث باختصار عن هذا الجانب، و ذلك لجملة أسباب، منها: أن القرآن الكريم يظل كتاباً إرشادياً يتضمن مجموعة من المباديء، الواقع رسمها القرآن الكريم من جانب، و اضطلع الحديث أو السنة الكريمة بتجليتها و توضيحها من جانب آخر و بكلمة أكثر وضوحاً ، إن هذه المباديء التي رسمها الله سبحانه و تعالى ، و طلب منا أن نلتزم بها، هي في الواقع مبادىء مرسومة إما من خلال القرآن الكريم، و إما من خلال السنة الشريفة متمثلة في السّنة الواردة عن الأربعة عشر معصوماً^.
و بما أن كلاً من هذين المصدرين المشكلين لمعرفة مبادىء الله سبحانه و تعالى، يتآزران بنحو لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر مستقلاً حينئذ فإن الحديث عن أحدهما و هو القرآن الكريم ينبغي أن لا ينفصل إذاًَ عن الحديث عن السنة الشريفة.
و لكن بما أن للسنة الشريفة ميادينها المعرفية الواسعة فإن الحديث عن هذا الجانب يظل متضارباً مع ما نستهدفه من الحديث عن القرآن الكريم من حيث معرفته و من حيث تاريخه، لذلك سوف نمر بنحو عابر و سريع جداًَ في الحديث عن هذا الجانب لأن الموضوع هذا ينبغي أن يترك لمختلف أنماط المعرفة التي اضطلع بها المعنيون بالشأن الإسلامي ، حيث أن كلا من المباديء المتصلة‌ بالأحكام الشرعية ، و المبادىء المتصلة بالأحكام العقائدية، و الأحكام المتصلة بالأحكام الأخلاقية، يضطلع كل ضرب من المعرفة أو يتناول في الواقع المعنيون بشؤون هذه المعرفة أو تلك، يتناولون هذه الجوانب كلا بحسب اختصاصه عبر الحقول المتنوعة.
من هنا نكرر ثانية بأننا عندما نتحدث عن المادة القرآنية الكريمة سوف لن نتحدث عنها كمادة ينبغي التحدث عنها تفصيلاًَ بقدر ما هي التحدث عنها عبر الإشارات السريعة كما قلنا، و هنا لا بد أن نكون ملمين بشيء من الجانب المعرفي في القرآن الكريم من حيث مادته و منهجه و لغته، و مما لا شك فيه أن القرآن الكريم بصفته ظاهرة إعجازية لها تميزها و استقلاليتها، كذلك فإن هذا التميز أو هذا الاستقلال و هذه اللغة تظل بدورها منفرزة تماما عما نألفه نحن البشر من لغات و مناهج و مادة معرفية، فبالنسبة إلى اللغة سبق أن لا حظنا كيف أن القرآن الكريم يتميز لغوياً بجملة سمات:
السمة الاُولى منها هي أن اللغة التي يتوكأ عليها ليست هي لغة علمية صرفة، و لا لغة فنية صرفة بقدر ما هي لغة تجمع بين اللغة العلمية بحسب مصطلحاتنا و بين اللغة الفنية، و لكن حتي هذا النمط من الجمع له استقلاليته، و له تميزه و تفرده بحيث أوضحنا في حينه و لا حاجة إلى الإعادة بقدر ما ينبغي علينا الإشارة العابرة و السريعة جداً، نقول: أن اللغة القرآنية الكريمة كما لاحظنا تجسّد نمطاً لغوياً لا يتوكأ على العلم فحسب ولا على اللغة الأدبية فحسب، بل يتوكأ على كليهما و لكن وفق تميز و تفرد لا ينسحب على أي نمط من أنماط التعبير اللغوي الذي يألفه البشر، فهو من جانب ليس علماً و لا فناً ، ومن جانب آخر ليس نمطاً شكليا كالمسرحية أو القصة أو الخاطرة أو المقالة أو الخطبة، و من جانب ثالث ليس الشكل المزيج من هذه الأشكال جميعاً، وفق لغة خاصة تجمع بين العلم و الأدب أو بين كل من الأدب و العلم، بقدر ما هو كما قلنا لغة خاصة لا يمكن أن ننسبها إلى أي من الأشكال المألوفة البشرية.
إنما نستهدف الآن من ذلك كله أن نشير إلى هذه اللغة تتميز بكونها لغة إعجازية متفردة متميزة و مستقلة كذلك فإن كلا من اللغة القرآنية الكريمة، و المادة القرآنية الكريمة أيضاً تظل كل واحدة منهما متميزة متفردة و تحمل السمة الإعجازية، و إذا أردنا أن نستشهد بالأمثلة ما علينا إلّا أن نذكّر بالضرب المعرفي الموجود أو المألوف بشريا، حتى نستطيع من خلال المقارنة أو نتبين ما هي المعرفة القرآنية الكريمة ، و كيفية طرح هذه المعرفة ، و من ثم كيفية الإفادة منها.
كلنا يعلم أن المعرفة البشرية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنماط: المعرفة البحتة كالرياضيات مثلاً، و المعرفة الطبيعية كالكيمياء و الفيزياء، و المعرفة الإنسانية كالتاريخ و علم النفس و علم الإجتماع و الإقتصاد و ما إلى ذلك، و يمكننا أن نضيف إلى ذلك نمطاً رابعاً هو المعرفة الفنية  متمثلة في جملة أشكال، و منها الفن الأدبي مثلاً، و هذا بدوره ينشطر إلى نمطين، الأدب الموضوعي الذي يتم إلحاقه أيضاً بالعلوم الإنسانية كنظرية الأدب و النقد الأدبي و البلاغة و ما إلى ذلك، و أما الشطر الثاني فهو الفنون الذاتية متمثلة في الشعر و ما إلى ذلك.
و من خلال ذلك يتسم البحث العلمي بتبويب خاص و بترتيب خاص من خلال الأبواب و الفصول و الملاحق و ما إلى ذلك، كل ذلك نعرفه جميعاً، و لكن هل أن القرآن الكريم عندما يطرح مادة معرفية سوف يطرحها وفق هذا المنهج؟ كلا بطبيعة الحال، إذن: للقرآن الكريم استقلاليته تفرده و تميزه، و هذا ما نود أن نؤكده أكثر من مرة لأسباب كثيرة و منها ما نريد أن نطرحه الآن و هو أننا كبشر و ظفنا الله سبحانه و تعالى لممارسة الخلافة في الأرض تبعاً لقوله تعالى: { و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون} ، حينئذ فإن الممارسة العبادية أو الخلافية تقترن دون أدنى شك بعملية اختبار واضحة كقوله تعالى: { الّذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم}  الإبتلاء و الاختبار يظل هو الظاهرة التي تمرر التجربة البشرية من خلالها و هذا أمر من الوضوح بمكان، حينئذ فإن أحد موارد هذا الاختبار هو الاختبار العلمي أو الثقافي حيث أن الله سبحانه و تعالى كان بمقدوره مثلاً أن يرسم لنا مبادءه التي يطالب بأن نلتزم بها، كان بمقدوره تعالى أن يرسمه لنا وفق بنود واضحة كل الوضوح لا يحتاج إلى التأليف العلمي و ألى أية جهود ثقافيه.
لقد كان بمقدور القرآن الكريم مثلاً أن يطرح في نطاق ما هو عقائدي المسائل التي تردم كل خلاف. و هكذا بالنسبة إلى المسائل الأخلاقية. إلا أنه سلك طرائق متنوعة تركها لنا نحن المعنيين بالشأن الثقافي أن نتوفر على دراستها من حيث اللغة والمنهج و المادة و ما إلى ذلك، على سبيل المثال إن كل واحد منا يعرف أن الأحكام الفقهية التي رتبت حاليا كالباب المتصل مثلاً بالطهارة و الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و ما إلى ذلك ، هذه الأبواب لم ترد مباشرة عن الكتاب (و السّنة) و لكن المعنيين بالشأن الثقافي إنما تلقفوا مادتها الأصلية من الكتاب والسنة ثم اضطلعوا بصياغتها بهذا النحو العلمي الذي نعرفه، و كما قلنا كان بإمكان أن يتوفر القرآن الكريم أو الحديث الشريف على صياغة هذه المباديء علمياًَ و لكنه تركها لنا نحن المعنيين بهذا الشأن ليشكل هذا النمط من التكليف واحداً‌من أشكال الاختبار الإلهي، هنا لا نجد معنىً البتة لأن نتحدث عن المادة المعرفية في القرآن الكريم، لا نجد معني لأن نتحدث عن العلم أو المنهج  و ما إلى ذلك، بقدر ما ينبغي أن نتحدث عن المبادئ فحسب، وكما قلنا إنّ المبادئ المعرفية في القرآن الكريم تصب في أنحاء مختلفة. إلا أن هناك ثلاثة محاور هي المحور الفقهي، و المحور العقائدي، و المحور الأخلاقي، و هذه المحاور كما هو واضح تجسد في الواقع أسلوب تعاملنا مع الظواهر المشار إليها، أي المبادىء التي رسمها الله سبحانه و تعالى لنا حتى نلتزم بتنفيذها، و لكن مقابل هذه المحاور الثلاثة مادة معرفية لها حيادها، بيد أن هذا الحياد العلمي ينبغي أيضاً أن يوظف عبادياً بالنحو الذي يوظف أيضاً إلى المحور الأخلاقي أو المحور الفقهي أو المحور العقائدي.
و هذه المادة العلمية المحايدة تتمثل كما أشرنا سابقاً تتمثل في ضروب من المعرفة التي اعتاد البشر أن يقسمها إلى علوم بحتة و علوم طبيعية، إذ أن هذه الأنماط من العلوم تحمل طابعاً حيادياً كعلم الفلك مثلاًَ أو علم الطب و حيئذ فإن التعامل مع هذه المادة المعرفية سظل حاملاًَ طابعه الحيادي. بيد أن الوظيفة العبادية للشخصية الإسلامية ينبغي دون أدنى شك أن توظف حتى هذا المبدأ الحيادي، توظفه من أجل المبدأ الإسلامي، أي توظف المعرفة الفلكية أو الطبية توظفها من أجل تمرير الأهداف الإسلامية المتمثلة في تقديم الخدمة البشرية من خلال الاستثمار أو الإفادة من هذه العلوم.
على أية حال في هذا النطاق و هو النطاق العلمي الصرف نجد أن القرآن الكريم طرح ظواهر متنوعة تتصل بهذا الجانب، و قد توفر كثير من المعنيين أو المختصين بشؤون هذه المعرفة توفروا على دراستها من خلال القرآن الكريم، و أثبتوا بما لا يتطرق الشك إلى الظاهرة الإعجازية، أي الظاهرة المتصلة بالإعجاز العلمي الصرف، و في هذا لانطاق يمكننا أن نقول بأن المعنيين بالبحث القرآني الكريم عندما تناولوا علوم القرآن و تاريخه أيضاً طرحوا هذه المسألة و جعلوها جزءاً من المسائل المتصلة بعلوم القرآن، بيد أن الملاحظ بأن المعنيين بهذا الشأن قد انشطروا إلى نمطين، أحد هذين النمطين يذهب إلى تخطئة هذا النحو من البحث العلمي و الضرب الآخر يقف على ضده تماماً، حيث يرى هذا الفريق الأخير أن الإعجاز العلمي من القرآن الكريم ينبغي أن نتوفر عليه حتي نثبت المشروعية التامة لرسالة الإسلام، وذلك من خلال الإشارات العلمية التي تضمنها القرآن في مختلف الميادين، و هذا ما يحقق تعميقاً لإيمان الشخصية بالإسلام و لكن مقابل هذا النفر من الباحثين وقف نمط آخر منهم يقرر بأن العلم ما زال خاضعاً للتطور و أن إثبات حقيقة علمية من الحقائق إذا تمت في جيل ما فسيأتي جيل آخر ويلاحظها، و حينئذ إذا قدر لنا أن نطبق المباديء العلمية الموجودة كونياً نطبقها في ضوء ما ورد في القرآن الكريم حينئذ فإن العلم إذا خطّأ هذه النظرية أو تلك، حينئذ فإن الطعنة تقع في القرآن دون أدنى شك ، و يستشهدون على سبيل المثال بالظاهرة الفلكية التي كانت بالسبة إلى علم الهيئة أو الفلك قديماً تختلف تماماًَ عما اكتشفه الفلك أو العلم الحديث، و هكذا بالنسبة إلى مسائل مختلفة تحقق خطؤها في الجيل المعاصر بالنسبة إلى الجيل الماضي و هكذا.
المهم أن هذين المحورين أو هذين الفريقين من الباحثين اللذين يقف كل واحد منها ضد الآخر يجعلنا نتحفظ في الإشارة إلى هذه الجوانب، ولكن مع ذلك يكفي من حيث التوكأ على الظاهرة العلمية أن يعتمد مثلاً على الظواهر التي تحققت علمياً في الأجيال جميعاً بالرغم من التطور العلمي، حيث أن التطور العلمي لا يعني أن كل ظاهرة هي خاضعة للتطور بالضرورة، إن هناك ظواهر أخذت طابع الثبات و هناك ظواهر تأخذ طابع التغير.
و في ضوء هذا من الممكن أن يتوفر المختص بهذا الضرب من المعرفة على الإشارة فحسب على ما هو يمثل ثابتاً ما مقابل ما يمثل المتغير. واذا تركنا هذا الجانب العلمي و اتجهنا إلى الجوانب الاُخرى نجد أن من بين الظواهر التي يتوفر الباحثون على دراستها هو الجانب الإنساني، أي العلوم الإنسانية المتمثلة في علم التاريخ و الاجتماع و النفس و الاقتصاد و السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك.
و نحن نعتقد أن الحديث عن هذه الجوانب سوف يكتسب أهمية خاصة على عكس ما لا حظناه بالنسبة للجوانب العلمية البحتة و ذلك بسبب ارتباط هذه العلوم ارتباطاًَ وثيقاً بما يطرحه الإسلام من مبادىء تتصل بالمحاور الثلاثة التي أشرنا إليها، بصفة أن كلا من علم النفس مثلاً يتناول التركيبة البشرية و طريقة استجابتها للظواهر و أن علم الاجتماع يتناول المجتمع الإنساني، و هكذا بالنسبة إلى علم السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك كل هذه الضروب من المعرفة تظل متصلة اتصالآً وثيقاً بالمحاور الثلاثة التي وظفنا بالالتزام لها.
من هنا يكتسب هذا الحديث طابعاً له أهميته، لذلك نجد أن المعنيين بهذا الشأن قد توفروا بدورهم على دراسة القرآن الكريم من خلال هذه الضروب من المعرفة الإنسانية، من هنا إذاً اُتيح لنا أن نتحدث عن المعرفة القرآنية الكريمة، أو المادة المعرفية في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتناولها من خلال هذه المحاور الثلاثة أي المحور الفقهي و العقائدي و الاخلاقي على أن نصل بينها و بين ضروب المعرفة الإنسانية، التي أشرنا إليها متمثلة في علوم النفس و الاجتماع و التاريخ و .. الخ، حيث أن الباحثين الذين تناولوا موضوعات القرآن الكريم  إنما تناولوها من خلال هذه المحاور، إما مباشرة من خلال البحث المختص بالفقه أو العقائد أو الأخلاق أو يتناولها المعنيون بالمعرفة الإنسانية في العلوم المشار إليها بحيث يتعرضون للنصوص القرآنية الكريمة، التي تتناول جانب النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد و ما إلى ذلك، من هنا سوف نمر عابراً أيضاً و لا نفصل الحديث عن هذه الجوانب لأن الحديث عن كل جانب من هذه الضروب من المعرفة من الممكن أن يتناول من خلال عشرات المؤلفات كما هو واضح، على سبيل المثال في ميدان علم النفس نجد إن علم النفس عندما يتناوله باحث في القرآن الكريم يمكنه أن يتناول الخطوط العامة التي تعرض لها النص القرآني الكريم في التركيبة البشرية، ولكن الباحث في هذا المجال لا يكتفي بالإشارة العابرة التي ورد القرآن الكريم عبرها بقدر ما ينبغي عليه أن يفصل كل ما يرتبط بهذا الموضع من تفصيلات متنوعة يتناولها عشرات المؤلفات و ليس مجرد سطور أو صفحات تتناول هذا الشكل أو ذاك، و الأمر نفسه بالنسبة إلى ما يرد في سياق علم الاجتماع و علم السياسة و علم الإدارة و علم الاقتصاد ... الخ.
المهم يمكننا أن نتحدث عن هذه المحاور الثلاثة و أن نربطها بما توفر عليها الباحثون من طرح خاص على أن يتم العرض سريعاً لهذه الجوانب و نبدأ ذلك بالحديث عن الجانب الفقهي و هذا ما ندرجه ضمن عنوان:
القرآن و المحور الفقهي
يمكن الذهاب إلى أن القرآن الكريم يحتوي من حيث المادة الفقهية على ما قدره المعنيون بشؤون البحث الفقهي حوالي الخمسمائة آية ترتبط بمختلف الأحكام الفقهية، و من البين أن النص القرآني الكريم حينما يطرح مادة فقهية فإن هذا الطرح يظل بالشكل الذي أوضحناه سابقاً، من أن النص القرآني الكريم لا يطرح المادة وفق الترتيب الذي يطرحه المعنيون بالبحث الفقهي بقدر ما يطرح المادة ضمن سياق خاص و يترك لنا نحن المعنيين بالبحث الفقهي أن نمارس عملية خاصة لا ستخلاص الحكم الفقهي سواء أكان ذلك من خلال النص القرآني الكريم و نذكّر بأن القرآن الكريم عندما يطرح المادة الفقهية لا يطرحها بجميع مستوياتها من جانب و لا يدخل في التفصيلات من جانب ثان، لذلك فإن المادة الموجودة في القرآن الكريم فقهياً ينبغي أن تعرض في ضوء السنة الشريفة متمثلة في ما يرد عن الأربعة عشر معصوماً^ بالإضافة إلى أدلة اُخرى رئيسة أو ثانوية لا نريد أن نتحدث عنها الآن.
إنما نستهدف الإشارة فحسب إلى أن ثمة صلة مهمة جداًَ بين المادة الفقهية في القرآن الكريم و بين المادة الحديثية الشريفة و أن هذه الصلة بينهما من الوثاقة بمكان حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. و بما أن الدخول في تفصيلات هذا الجانب ، يندرج ضمن البحث الاُصولي مما لا نعنى به الآن، حينئذ ندع هذا الجانب لنكتفي بالإشارة فحسب لوجود هذه الصلة. هذا من جانب، و من جانب آخر ثمة صلة أيضاً بين النص القرآني الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الناسخ و المنسوخ، وصلة هذين الموضوعين بتكييف الحكم الشرعي وسواهما من علوم القرآن.
و من جانب ثالث هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الأداة الاُصولية التي تتوكأ عليها حيناً من حيث استخلاصها من مادة القرآن الكريم ذاته، و أخيراً هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من خلال عرض الأخبار المتضاربة على القرآن الكريم و الأخذ بما يوافق النصوص القرآنية الكريمة.
و بالنسبة إلى المحور الأول و نقصد به علاقة النص القرآني الكريم بالمادة الفقهية نقول أن هذا المحور يتمثل كما أشرنا إلى وجود مئات الآيات التي تتناول حكماً فرعياً ما، بيد ‌أن هذه الآيات الكريمة إما أن نتناول بشكل عابر و مجمل جداً مثل الآيات المتصلة بالصلاة و بالخمس و ما إلى ذلك، أو التي تتناول ذلك بشيء من التفصيل كآية المواريث مثلاً، و خلال ذلك يظل الحديث عن صلة المادة الفقهية للقرآن الكريم مرتبطاً كما قلنا بالسنة الشريفة حيث تتكفل السنة الشريفة بتوضيح ما هو مجمل و بتخصيص ما هو عام أو بتقييد ما هو مطلق... الخ.
و أما بالنسبة إلى المحور الثاني من العلاقة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية، و هي المادة المتصلة بما هو ناسخ و منسوخ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن المعنيين بشؤون التفسير و بشؤون الفقه عندما يعرضون لآيات النسخ حينئذ ثمة اختلاف نجده بين هؤلاء الباحثين أي من حيث ذهاب بعضهم إلى أن النسخ هو متمثل في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة قبالة من يذهب إلى أن ثمة آيات معدودة جداً هي المنسوخة و بين من يذهب إلى الوسطية.
المهم يمكننا بنحو سريع أن نتحدث عن هذا الجانب فنقول: إن الحديث عن الناسخ و المنسوخ يظل مطبوعاً بجملة سمات، منها أن بعضا من الآيات التي يتحدث الباحثون عن كونها منسوخة أو غير منسوخة، لا تترتب عليها أحكام مهمة، و منها أن بعضا منها يحمل على التخيير أو الندب أو مطلق الجمع العرفي، و منها أن الكثير بخاصة الآيات التي تحدث الأقدمون عنها ترتبط بعملية التخصيص بحيث خلط أولئك بين مفهوم التخصيص و بين مفهوم النسخ، و لذلك نجد أن الباحثين المعاصرين لم يدرجوا العنصر المتقدم ضمن بحوثهم.
لكن في سياق ما نحن في صدده يمكننا الذهاب كما قلنا إلى أن قسماً من الآيات المنسوخة لا ثمرة عملية للبحث عنها و منها مثلاً آية: { اتّقوا الله حقّ تقاته}  المنسوخة كما يقال بقوله تعالى: { فاتّقوا الله ما استطعتم}  فسواء أقلنا بنسخها أو بعدم ذلك، فإن النص الشرعي و العقلي يحكمان بأن الشخص إنّما يمارس التقوى بقدر ما يطيق ذلك و لا يمكن أن يتجاوزه لما هو حق التقاة إلا من اصطفاهم الله، بل يمكننا أن نذهب إلى ما ورد عن الأئمة المعصومين أنفسهم حينما قالوا إن الله لا يعبد حق عبادته لأن الطاقة البشرية محدودة قبال لا محدودية النعم العظيمة التي يتسم بها الله سبحانه و تعالى.
و من الآيات الخاصة لهذا الجانب قوله تعالى: { و للّه المشرق و المغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم} حيث نسخت كما يقال بقوله تعالى: { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} ، و قد أشار المعنيون بشؤون التفسير إلي أنّ النبي‎’كان في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدّس، و عندما هاجر إلى المدينة عيرته اليهود حيث تحجّجوا بأن ذلك قبلتهم فاستاء النبي’ فأنزل الله عليه تعالى: { قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم} .
فهنا نجد أن الباحثين يتفاوتون في ذهابهم إلى كون هذه الآية منسوخة حيث ذهب البعض كما قلنا إلى نسخها، و ذهب البعض الآخر إلى أنها غير منسوخة ذاهبا إلى أن الله سبحانه و تعالى أراد أن يوضح للمجتمع الرسالي آنئذ بأن الآفاق جميعاً لله سبحانه و تعالى ، لا يفترق غربها عن شرقها و أن الله سبحانه و تعالى أمر أولاً بالتوجه إلى البيت المقدس و له أن يأمر ثانياَ بالتوجه إلى‌البيت الحرام و هكذا.
و ذهب نمط ثالث إلى أن آية (لله المشرق و المغرب) تحمل على النافلة. لا الفريضة، لنلاحظ هنا أن البحث عن هذه المسألة يظل في الواقع يقترن باللاجدوى، ما دمنا جميعاً نعرف بأن الفريضة في الحالات جميعاً ينبغي أن تكون متجهة إلى البيت الحرام، إلا في حالات خاصة و يكفينا أن النصوص الواردة عن المعصومين^ سمحوا لنا بأن نصلي النافلة كيف شئنا، و من ثم فأن السماح بالنافلة بهذا النحو مقابل الفريضة التي ينبغي أن يكون التوجه فيها إلى البيت الحرام، نقول: إن هذا المستوى من التوجه في سياق ما هو فريضة و ما هو نافلة يظل محكماً من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت^ و حينئذ فإن الحديث عن النسخ و عدمه لا يحمل أهمية كبيرة كما قلنا.
و الآن: إذا تجاوزنا هذا الجانب الذي قلنا عنه أنه لا يترتب عليه آثار ذات أهمية، إذا تجاوزنا هذا الجانب أو هذا القسم من البحوث المتصلة بالناسخ و المنسوخ، و اتجهنا إلى قسم آخر و هو ضئيل بدوره، و لكنه في الواقع غير خاضع لعملية النسخ دون أدنى شك، و هذا من نحو الآية التي تتحدث عن كفارة الصوم لمن يلاقي الشدة كالشيوخ و سواهم ممن يعاني من العطش الشديد، حيث تقول الآية الكريمة: {و على الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ، حيث ذهب قسم من الباحثين إلى نسخها من خلال آية : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}، معللين ذلك بظاهرة التخيير بين الفدية في حالة عدم الصيام و بين الصيام، و هذا بالإضافة إلى من يحاول أن يلجإ إلى اللغة ليفرق بين عبارة : { يُطِيقُونَهُ } بمعني أن يسعهم أي يقدرون عليه و بين : { يُطِيقُونَهُ } بمعنى يتحملون ذلك مع الشدة. و من البين أنه لا قيمة لهذا الرأي و لا قيمة للرأي السابق الذي لا حظناه، ذلك لأن اللجوء ألى أهل البيت^ يحل لنا المشكلة بوضوح حينما يرد عنهم^ إن المقصود من عبارة تطيقونه هو المعنى الثاني و هذا ما ورد عن الإمام علي× و الإمام الصادق×  بينما فسر ذلك بالشيخ الكبير و الذي يأخذ، العطاش... الخ.
المستوي الثاني في الآيات المنسوخة نقصاً
نتجّه إلى الحديث عن المستوى الثاني من الناسخ و المنسوخ حيث نجد ‌أن هذا القسم في الواقع هو على عكس الحالة السابقة ، حيث يمكننا أن نستشهد ببعض الأمثلة و في مقدمتها الآية القرآنية الكريمة القائلة : { و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجاً وصية لازواجهم متاعاً ألى الحول} .
حيث نذهب نحن تباعا لما ورد عن المعصومين^ أن هذه الآية الكريمة قد نسختها الآية الكريمة القائلة: { والّذين يُتوفّون منكم و يذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر و عشراً } ...الخ.
و لكننا نجد قبالة ذلك من يذهب إلى أن هذه الآية غير منسوخة و ذلك من خلال ذهابه إلى أن آية المتاع إلى الحول خاصة في حالة ما إذا كانت  هناك وصية‌للزوجة بممارسة ذلك، و أما في حالة العدم فإن الآية القائلة بالأربعة أشهر والعشرة أيام، هي المعينة ، و حينئذ لا نسخ بالموقف، و لكننا نرد على هذا الرأي و نقول : لا قيمة لهذا الرأي ما دام المعصومون^ أوضحوا بأن الآية منسوخة و أن العصر الجاهلي كان قبل ذلك يمنع المرأة ألى الحول و جاءت الأية المتمثلة في أربعة أشهر ناسخة لذلك السلوك الجاهلي.
المهم أن هذه المستويات من الآيات التي دار الخلاف فيها من حيث النسخ و عدمه بالنحو الذي تحدثنا عنه و نتحدث عنه، نقول: لا أهمية لأمثلة هذه المستويات التي وقعت في خلاف ما دامت إما لا ثمرة عملية لها، و إما أن النص الشرعي و نقصد به السنة الشريفة تكفلت بحل المسألة بهذا النحو أو ذاك، و لكن يبقي النمط الأخير من الآيات التي تتحدث عن الناسخ و المنسوخ، و تترتب عليه الآثار الشرعية هو بدوره قليل إلا أنه يتسم بالأهمية نظرا لكون الآثار الشرعية تترتب عليه، لكن لحسن الحظ إن الحمل على الندب أو التخيير في الايات المدعى نسخها يهون من الأمر و هذا من نحو الآية القائلة: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين و الأقربين} ...الخ.
حيث حملت هذه الآية على الندب مقابل الآية التي قيل أنها نسخت الآية المتقدمة ، و نعني بها آية المواريث.
و يمكن أن نستشهد بأمثلة اُخرى تتوافق مع هذا النمط من المستوى الذي يتحدث أو لنقل يحمل الآية على وجه الندب دون أن يرتب أثراً على نسخها، و لكن كما قلنا أن أمثلة هذه الآيات لقليل و من ثم فإن الأمر ليهون دون أدنى شك حينما يكيف الحكم فقهيا بعملية ندب و ليس بعملية وجوب، و هذا على العكس مما لو ترتبت الآثار الفقهية على ما هو محرم أو محلل، و لكن كما قررنا لحسن الحظ أن الحديث عن هذه الآيات المدعى نسخها أو المدعى عدم نسخها بالشكل الذي أو ضحناه يظل موسوماً بالشكل الذي لا تترتب عليها أية أهمية أو ترتب عليها الأهمية و لكنها في نطاق محدود جداً...
ما تقدم يتصل بالمستوى الثاني من مستويات الصلة بين المادة الفقهية ، و بين القرآن الكريم حيث كان المستوى الأول يتحدث عن صلة القرآن الكريم بالأحكام بالشكل العام، كان المستوى الثاني يتحدث عن صلة القرآن الكريم ما هو ناسخ و منسوخ من الأحكام الفقهية، و أما المستوي الثالث هو الصلة بين النص القرآني الكريم و بين المعرفة أو المادة الفقهية، فيتمثل أولاً في وجود صلة بين الأداة الاُصولية في بعض نطاقاتها، و بين النص القرآني الكريم، ثم الصلة بين بعض الأحكام و بعض الروايات المتضاربة من خلال الذهاب إلى عرضها على القرآن الكريم، العمل بما يوافق القرآن الكريم و ترك ما يخالفه.
بالنسبة للمستوى الثالث و هو الأداة المادة الاُصولية، من الممكن أن يتوكأ الاُصوليون على المادة القرآنية الكريمة لإستخلاص بعض القواعد الاُصولية أو بعض القواعد الفقهية كقاعدة (لا حرج) مثلاً أو الإستخلاص الاُصولي كالإعتماد على ( الخبر الواحد) مثلاً من خلال الاستشهاد بآية: { إن جاءكم فاسق بنبأ} ... الخ.
من الممكن أن يفيد الاُصوليون و الفقهاء من قاعدة فقهية أو اُصولية يستنبطونها من النص القرآني الكريم.
و أما المستوى الأخير فهو كما قلنا التضارب حيناً بين (الفتاوى) الواردة ، أو بين ( الأخبار) المتضاربة بحيث لا يمكن أن يؤلّف بينها من خلال ما يسمى بالجمع العرفي بقدر ما يكون التضارب محكماً على نحو التضاد أو التناقض، و من هنا أمرنا المشرع الإسلامي أن نعرض هذه الأخبار على النص القرآني الكريم و نأخذ بما يوافقه و ما يخالفه نتركه. و هذا لا يحتاج إلى التعقيب.
وبهذا ينتهي حديثنا عن المحور الأول، و نعني به محور الصلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية.



القرآن و العلوم الإنسانية
هذا الموضوع أي موضوع مادة القرآن، أو معرفة القرآن أو علوم القرآن الإنسانية يظل في الواقع من الاتساع بمكان كبير، و لكن في الآن ذاته يتعين علينا أن نتحدث باختصار عن هذا الجانب، و ذلك لجملة أسباب، منها: أن القرآن الكريم يظل كتاباً إرشادياً يتضمن مجموعة من المباديء، الواقع رسمها القرآن الكريم من جانب، و اضطلع الحديث أو السنة الكريمة بتجليتها و توضيحها من جانب آخر و بكلمة أكثر وضوحاً ، إن هذه المباديء التي رسمها الله سبحانه و تعالى ، و طلب منا أن نلتزم بها، هي في الواقع مبادىء مرسومة إما من خلال القرآن الكريم، و إما من خلال السنة الشريفة متمثلة في السّنة الواردة عن الأربعة عشر معصوماً^.
و بما أن كلاً من هذين المصدرين المشكلين لمعرفة مبادىء الله سبحانه و تعالى، يتآزران بنحو لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر مستقلاً حينئذ فإن الحديث عن أحدهما و هو القرآن الكريم ينبغي أن لا ينفصل إذاًَ عن الحديث عن السنة الشريفة.
و لكن بما أن للسنة الشريفة ميادينها المعرفية الواسعة فإن الحديث عن هذا الجانب يظل متضارباً مع ما نستهدفه من الحديث عن القرآن الكريم من حيث معرفته و من حيث تاريخه، لذلك سوف نمر بنحو عابر و سريع جداًَ في الحديث عن هذا الجانب لأن الموضوع هذا ينبغي أن يترك لمختلف أنماط المعرفة التي اضطلع بها المعنيون بالشأن الإسلامي ، حيث أن كلا من المباديء المتصلة‌ بالأحكام الشرعية ، و المبادىء المتصلة بالأحكام العقائدية، و الأحكام المتصلة بالأحكام الأخلاقية، يضطلع كل ضرب من المعرفة أو يتناول في الواقع المعنيون بشؤون هذه المعرفة أو تلك، يتناولون هذه الجوانب كلا بحسب اختصاصه عبر الحقول المتنوعة.
من هنا نكرر ثانية بأننا عندما نتحدث عن المادة القرآنية الكريمة سوف لن نتحدث عنها كمادة ينبغي التحدث عنها تفصيلاًَ بقدر ما هي التحدث عنها عبر الإشارات السريعة كما قلنا، و هنا لا بد أن نكون ملمين بشيء من الجانب المعرفي في القرآن الكريم من حيث مادته و منهجه و لغته، و مما لا شك فيه أن القرآن الكريم بصفته ظاهرة إعجازية لها تميزها و استقلاليتها، كذلك فإن هذا التميز أو هذا الاستقلال و هذه اللغة تظل بدورها منفرزة تماما عما نألفه نحن البشر من لغات و مناهج و مادة معرفية، فبالنسبة إلى اللغة سبق أن لا حظنا كيف أن القرآن الكريم يتميز لغوياً بجملة سمات:
السمة الاُولى منها هي أن اللغة التي يتوكأ عليها ليست هي لغة علمية صرفة، و لا لغة فنية صرفة بقدر ما هي لغة تجمع بين اللغة العلمية بحسب مصطلحاتنا و بين اللغة الفنية، و لكن حتي هذا النمط من الجمع له استقلاليته، و له تميزه و تفرده بحيث أوضحنا في حينه و لا حاجة إلى الإعادة بقدر ما ينبغي علينا الإشارة العابرة و السريعة جداً، نقول: أن اللغة القرآنية الكريمة كما لاحظنا تجسّد نمطاً لغوياً لا يتوكأ على العلم فحسب ولا على اللغة الأدبية فحسب، بل يتوكأ على كليهما و لكن وفق تميز و تفرد لا ينسحب على أي نمط من أنماط التعبير اللغوي الذي يألفه البشر، فهو من جانب ليس علماً و لا فناً ، ومن جانب آخر ليس نمطاً شكليا كالمسرحية أو القصة أو الخاطرة أو المقالة أو الخطبة، و من جانب ثالث ليس الشكل المزيج من هذه الأشكال جميعاً، وفق لغة خاصة تجمع بين العلم و الأدب أو بين كل من الأدب و العلم، بقدر ما هو كما قلنا لغة خاصة لا يمكن أن ننسبها إلى أي من الأشكال المألوفة البشرية.
إنما نستهدف الآن من ذلك كله أن نشير إلى هذه اللغة تتميز بكونها لغة إعجازية متفردة متميزة و مستقلة كذلك فإن كلا من اللغة القرآنية الكريمة، و المادة القرآنية الكريمة أيضاً تظل كل واحدة منهما متميزة متفردة و تحمل السمة الإعجازية، و إذا أردنا أن نستشهد بالأمثلة ما علينا إلّا أن نذكّر بالضرب المعرفي الموجود أو المألوف بشريا، حتى نستطيع من خلال المقارنة أو نتبين ما هي المعرفة القرآنية الكريمة ، و كيفية طرح هذه المعرفة ، و من ثم كيفية الإفادة منها.
كلنا يعلم أن المعرفة البشرية يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنماط: المعرفة البحتة كالرياضيات مثلاً، و المعرفة الطبيعية كالكيمياء و الفيزياء، و المعرفة الإنسانية كالتاريخ و علم النفس و علم الإجتماع و الإقتصاد و ما إلى ذلك، و يمكننا أن نضيف إلى ذلك نمطاً رابعاً هو المعرفة الفنية  متمثلة في جملة أشكال، و منها الفن الأدبي مثلاً، و هذا بدوره ينشطر إلى نمطين، الأدب الموضوعي الذي يتم إلحاقه أيضاً بالعلوم الإنسانية كنظرية الأدب و النقد الأدبي و البلاغة و ما إلى ذلك، و أما الشطر الثاني فهو الفنون الذاتية متمثلة في الشعر و ما إلى ذلك.
و من خلال ذلك يتسم البحث العلمي بتبويب خاص و بترتيب خاص من خلال الأبواب و الفصول و الملاحق و ما إلى ذلك، كل ذلك نعرفه جميعاً، و لكن هل أن القرآن الكريم عندما يطرح مادة معرفية سوف يطرحها وفق هذا المنهج؟ كلا بطبيعة الحال، إذن: للقرآن الكريم استقلاليته تفرده و تميزه، و هذا ما نود أن نؤكده أكثر من مرة لأسباب كثيرة و منها ما نريد أن نطرحه الآن و هو أننا كبشر و ظفنا الله سبحانه و تعالى لممارسة الخلافة في الأرض تبعاً لقوله تعالى: { و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون} ، حينئذ فإن الممارسة العبادية أو الخلافية تقترن دون أدنى شك بعملية اختبار واضحة كقوله تعالى: { الّذي خلق الموت و الحياة ليبلوكم}  الإبتلاء و الاختبار يظل هو الظاهرة التي تمرر التجربة البشرية من خلالها و هذا أمر من الوضوح بمكان، حينئذ فإن أحد موارد هذا الاختبار هو الاختبار العلمي أو الثقافي حيث أن الله سبحانه و تعالى كان بمقدوره مثلاً أن يرسم لنا مبادءه التي يطالب بأن نلتزم بها، كان بمقدوره تعالى أن يرسمه لنا وفق بنود واضحة كل الوضوح لا يحتاج إلى التأليف العلمي و ألى أية جهود ثقافيه.
لقد كان بمقدور القرآن الكريم مثلاً أن يطرح في نطاق ما هو عقائدي المسائل التي تردم كل خلاف. و هكذا بالنسبة إلى المسائل الأخلاقية. إلا أنه سلك طرائق متنوعة تركها لنا نحن المعنيين بالشأن الثقافي أن نتوفر على دراستها من حيث اللغة والمنهج و المادة و ما إلى ذلك، على سبيل المثال إن كل واحد منا يعرف أن الأحكام الفقهية التي رتبت حاليا كالباب المتصل مثلاً بالطهارة و الصلاة و الصوم و الحج و الزكاة و الخمس و ما إلى ذلك ، هذه الأبواب لم ترد مباشرة عن الكتاب (و السّنة) و لكن المعنيين بالشأن الثقافي إنما تلقفوا مادتها الأصلية من الكتاب والسنة ثم اضطلعوا بصياغتها بهذا النحو العلمي الذي نعرفه، و كما قلنا كان بإمكان أن يتوفر القرآن الكريم أو الحديث الشريف على صياغة هذه المباديء علمياًَ و لكنه تركها لنا نحن المعنيين بهذا الشأن ليشكل هذا النمط من التكليف واحداً‌من أشكال الاختبار الإلهي، هنا لا نجد معنىً البتة لأن نتحدث عن المادة المعرفية في القرآن الكريم، لا نجد معني لأن نتحدث عن العلم أو المنهج  و ما إلى ذلك، بقدر ما ينبغي أن نتحدث عن المبادئ فحسب، وكما قلنا إنّ المبادئ المعرفية في القرآن الكريم تصب في أنحاء مختلفة. إلا أن هناك ثلاثة محاور هي المحور الفقهي، و المحور العقائدي، و المحور الأخلاقي، و هذه المحاور كما هو واضح تجسد في الواقع أسلوب تعاملنا مع الظواهر المشار إليها، أي المبادىء التي رسمها الله سبحانه و تعالى لنا حتى نلتزم بتنفيذها، و لكن مقابل هذه المحاور الثلاثة مادة معرفية لها حيادها، بيد أن هذا الحياد العلمي ينبغي أيضاً أن يوظف عبادياً بالنحو الذي يوظف أيضاً إلى المحور الأخلاقي أو المحور الفقهي أو المحور العقائدي.
و هذه المادة العلمية المحايدة تتمثل كما أشرنا سابقاً تتمثل في ضروب من المعرفة التي اعتاد البشر أن يقسمها إلى علوم بحتة و علوم طبيعية، إذ أن هذه الأنماط من العلوم تحمل طابعاً حيادياً كعلم الفلك مثلاًَ أو علم الطب و حيئذ فإن التعامل مع هذه المادة المعرفية سظل حاملاًَ طابعه الحيادي. بيد أن الوظيفة العبادية للشخصية الإسلامية ينبغي دون أدنى شك أن توظف حتى هذا المبدأ الحيادي، توظفه من أجل المبدأ الإسلامي، أي توظف المعرفة الفلكية أو الطبية توظفها من أجل تمرير الأهداف الإسلامية المتمثلة في تقديم الخدمة البشرية من خلال الاستثمار أو الإفادة من هذه العلوم.
على أية حال في هذا النطاق و هو النطاق العلمي الصرف نجد أن القرآن الكريم طرح ظواهر متنوعة تتصل بهذا الجانب، و قد توفر كثير من المعنيين أو المختصين بشؤون هذه المعرفة توفروا على دراستها من خلال القرآن الكريم، و أثبتوا بما لا يتطرق الشك إلى الظاهرة الإعجازية، أي الظاهرة المتصلة بالإعجاز العلمي الصرف، و في هذا لانطاق يمكننا أن نقول بأن المعنيين بالبحث القرآني الكريم عندما تناولوا علوم القرآن و تاريخه أيضاً طرحوا هذه المسألة و جعلوها جزءاً من المسائل المتصلة بعلوم القرآن، بيد أن الملاحظ بأن المعنيين بهذا الشأن قد انشطروا إلى نمطين، أحد هذين النمطين يذهب إلى تخطئة هذا النحو من البحث العلمي و الضرب الآخر يقف على ضده تماماً، حيث يرى هذا الفريق الأخير أن الإعجاز العلمي من القرآن الكريم ينبغي أن نتوفر عليه حتي نثبت المشروعية التامة لرسالة الإسلام، وذلك من خلال الإشارات العلمية التي تضمنها القرآن في مختلف الميادين، و هذا ما يحقق تعميقاً لإيمان الشخصية بالإسلام و لكن مقابل هذا النفر من الباحثين وقف نمط آخر منهم يقرر بأن العلم ما زال خاضعاً للتطور و أن إثبات حقيقة علمية من الحقائق إذا تمت في جيل ما فسيأتي جيل آخر ويلاحظها، و حينئذ إذا قدر لنا أن نطبق المباديء العلمية الموجودة كونياً نطبقها في ضوء ما ورد في القرآن الكريم حينئذ فإن العلم إذا خطّأ هذه النظرية أو تلك، حينئذ فإن الطعنة تقع في القرآن دون أدنى شك ، و يستشهدون على سبيل المثال بالظاهرة الفلكية التي كانت بالسبة إلى علم الهيئة أو الفلك قديماً تختلف تماماًَ عما اكتشفه الفلك أو العلم الحديث، و هكذا بالنسبة إلى مسائل مختلفة تحقق خطؤها في الجيل المعاصر بالنسبة إلى الجيل الماضي و هكذا.
المهم أن هذين المحورين أو هذين الفريقين من الباحثين اللذين يقف كل واحد منها ضد الآخر يجعلنا نتحفظ في الإشارة إلى هذه الجوانب، ولكن مع ذلك يكفي من حيث التوكأ على الظاهرة العلمية أن يعتمد مثلاً على الظواهر التي تحققت علمياً في الأجيال جميعاً بالرغم من التطور العلمي، حيث أن التطور العلمي لا يعني أن كل ظاهرة هي خاضعة للتطور بالضرورة، إن هناك ظواهر أخذت طابع الثبات و هناك ظواهر تأخذ طابع التغير.
و في ضوء هذا من الممكن أن يتوفر المختص بهذا الضرب من المعرفة على الإشارة فحسب على ما هو يمثل ثابتاً ما مقابل ما يمثل المتغير. واذا تركنا هذا الجانب العلمي و اتجهنا إلى الجوانب الاُخرى نجد أن من بين الظواهر التي يتوفر الباحثون على دراستها هو الجانب الإنساني، أي العلوم الإنسانية المتمثلة في علم التاريخ و الاجتماع و النفس و الاقتصاد و السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك.
و نحن نعتقد أن الحديث عن هذه الجوانب سوف يكتسب أهمية خاصة على عكس ما لا حظناه بالنسبة للجوانب العلمية البحتة و ذلك بسبب ارتباط هذه العلوم ارتباطاًَ وثيقاً بما يطرحه الإسلام من مبادىء تتصل بالمحاور الثلاثة التي أشرنا إليها، بصفة أن كلا من علم النفس مثلاً يتناول التركيبة البشرية و طريقة استجابتها للظواهر و أن علم الاجتماع يتناول المجتمع الإنساني، و هكذا بالنسبة إلى علم السياسة و الإدارة و ما إلى ذلك كل هذه الضروب من المعرفة تظل متصلة اتصالآً وثيقاً بالمحاور الثلاثة التي وظفنا بالالتزام لها.
من هنا يكتسب هذا الحديث طابعاً له أهميته، لذلك نجد أن المعنيين بهذا الشأن قد توفروا بدورهم على دراسة القرآن الكريم من خلال هذه الضروب من المعرفة الإنسانية، من هنا إذاً اُتيح لنا أن نتحدث عن المعرفة القرآنية الكريمة، أو المادة المعرفية في القرآن الكريم يحسن بنا أن نتناولها من خلال هذه المحاور الثلاثة أي المحور الفقهي و العقائدي و الاخلاقي على أن نصل بينها و بين ضروب المعرفة الإنسانية، التي أشرنا إليها متمثلة في علوم النفس و الاجتماع و التاريخ و .. الخ، حيث أن الباحثين الذين تناولوا موضوعات القرآن الكريم  إنما تناولوها من خلال هذه المحاور، إما مباشرة من خلال البحث المختص بالفقه أو العقائد أو الأخلاق أو يتناولها المعنيون بالمعرفة الإنسانية في العلوم المشار إليها بحيث يتعرضون للنصوص القرآنية الكريمة، التي تتناول جانب النفس أو الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد و ما إلى ذلك، من هنا سوف نمر عابراً أيضاً و لا نفصل الحديث عن هذه الجوانب لأن الحديث عن كل جانب من هذه الضروب من المعرفة من الممكن أن يتناول من خلال عشرات المؤلفات كما هو واضح، على سبيل المثال في ميدان علم النفس نجد إن علم النفس عندما يتناوله باحث في القرآن الكريم يمكنه أن يتناول الخطوط العامة التي تعرض لها النص القرآني الكريم في التركيبة البشرية، ولكن الباحث في هذا المجال لا يكتفي بالإشارة العابرة التي ورد القرآن الكريم عبرها بقدر ما ينبغي عليه أن يفصل كل ما يرتبط بهذا الموضع من تفصيلات متنوعة يتناولها عشرات المؤلفات و ليس مجرد سطور أو صفحات تتناول هذا الشكل أو ذاك، و الأمر نفسه بالنسبة إلى ما يرد في سياق علم الاجتماع و علم السياسة و علم الإدارة و علم الاقتصاد ... الخ.
المهم يمكننا أن نتحدث عن هذه المحاور الثلاثة و أن نربطها بما توفر عليها الباحثون من طرح خاص على أن يتم العرض سريعاً لهذه الجوانب و نبدأ ذلك بالحديث عن الجانب الفقهي و هذا ما ندرجه ضمن عنوان:
القرآن و المحور الفقهي
يمكن الذهاب إلى أن القرآن الكريم يحتوي من حيث المادة الفقهية على ما قدره المعنيون بشؤون البحث الفقهي حوالي الخمسمائة آية ترتبط بمختلف الأحكام الفقهية، و من البين أن النص القرآني الكريم حينما يطرح مادة فقهية فإن هذا الطرح يظل بالشكل الذي أوضحناه سابقاً، من أن النص القرآني الكريم لا يطرح المادة وفق الترتيب الذي يطرحه المعنيون بالبحث الفقهي بقدر ما يطرح المادة ضمن سياق خاص و يترك لنا نحن المعنيين بالبحث الفقهي أن نمارس عملية خاصة لا ستخلاص الحكم الفقهي سواء أكان ذلك من خلال النص القرآني الكريم و نذكّر بأن القرآن الكريم عندما يطرح المادة الفقهية لا يطرحها بجميع مستوياتها من جانب و لا يدخل في التفصيلات من جانب ثان، لذلك فإن المادة الموجودة في القرآن الكريم فقهياً ينبغي أن تعرض في ضوء السنة الشريفة متمثلة في ما يرد عن الأربعة عشر معصوماً^ بالإضافة إلى أدلة اُخرى رئيسة أو ثانوية لا نريد أن نتحدث عنها الآن.
إنما نستهدف الإشارة فحسب إلى أن ثمة صلة مهمة جداًَ بين المادة الفقهية في القرآن الكريم و بين المادة الحديثية الشريفة و أن هذه الصلة بينهما من الوثاقة بمكان حيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. و بما أن الدخول في تفصيلات هذا الجانب ، يندرج ضمن البحث الاُصولي مما لا نعنى به الآن، حينئذ ندع هذا الجانب لنكتفي بالإشارة فحسب لوجود هذه الصلة. هذا من جانب، و من جانب آخر ثمة صلة أيضاً بين النص القرآني الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الناسخ و المنسوخ، وصلة هذين الموضوعين بتكييف الحكم الشرعي وسواهما من علوم القرآن.
و من جانب ثالث هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من حيث الأداة الاُصولية التي تتوكأ عليها حيناً من حيث استخلاصها من مادة القرآن الكريم ذاته، و أخيراً هناك صلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية من خلال عرض الأخبار المتضاربة على القرآن الكريم و الأخذ بما يوافق النصوص القرآنية الكريمة.
و بالنسبة إلى المحور الأول و نقصد به علاقة النص القرآني الكريم بالمادة الفقهية نقول أن هذا المحور يتمثل كما أشرنا إلى وجود مئات الآيات التي تتناول حكماً فرعياً ما، بيد ‌أن هذه الآيات الكريمة إما أن نتناول بشكل عابر و مجمل جداً مثل الآيات المتصلة بالصلاة و بالخمس و ما إلى ذلك، أو التي تتناول ذلك بشيء من التفصيل كآية المواريث مثلاً، و خلال ذلك يظل الحديث عن صلة المادة الفقهية للقرآن الكريم مرتبطاً كما قلنا بالسنة الشريفة حيث تتكفل السنة الشريفة بتوضيح ما هو مجمل و بتخصيص ما هو عام أو بتقييد ما هو مطلق... الخ.
و أما بالنسبة إلى المحور الثاني من العلاقة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية، و هي المادة المتصلة بما هو ناسخ و منسوخ، فقد سبق أن أشرنا إلى أن المعنيين بشؤون التفسير و بشؤون الفقه عندما يعرضون لآيات النسخ حينئذ ثمة اختلاف نجده بين هؤلاء الباحثين أي من حيث ذهاب بعضهم إلى أن النسخ هو متمثل في الكثير من الآيات القرآنية الكريمة قبالة من يذهب إلى أن ثمة آيات معدودة جداً هي المنسوخة و بين من يذهب إلى الوسطية.
المهم يمكننا بنحو سريع أن نتحدث عن هذا الجانب فنقول: إن الحديث عن الناسخ و المنسوخ يظل مطبوعاً بجملة سمات، منها أن بعضا من الآيات التي يتحدث الباحثون عن كونها منسوخة أو غير منسوخة، لا تترتب عليها أحكام مهمة، و منها أن بعضا منها يحمل على التخيير أو الندب أو مطلق الجمع العرفي، و منها أن الكثير بخاصة الآيات التي تحدث الأقدمون عنها ترتبط بعملية التخصيص بحيث خلط أولئك بين مفهوم التخصيص و بين مفهوم النسخ، و لذلك نجد أن الباحثين المعاصرين لم يدرجوا العنصر المتقدم ضمن بحوثهم.
لكن في سياق ما نحن في صدده يمكننا الذهاب كما قلنا إلى أن قسماً من الآيات المنسوخة لا ثمرة عملية للبحث عنها و منها مثلاً آية: { اتّقوا الله حقّ تقاته}  المنسوخة كما يقال بقوله تعالى: { فاتّقوا الله ما استطعتم}  فسواء أقلنا بنسخها أو بعدم ذلك، فإن النص الشرعي و العقلي يحكمان بأن الشخص إنّما يمارس التقوى بقدر ما يطيق ذلك و لا يمكن أن يتجاوزه لما هو حق التقاة إلا من اصطفاهم الله، بل يمكننا أن نذهب إلى ما ورد عن الأئمة المعصومين أنفسهم حينما قالوا إن الله لا يعبد حق عبادته لأن الطاقة البشرية محدودة قبال لا محدودية النعم العظيمة التي يتسم بها الله سبحانه و تعالى.
و من الآيات الخاصة لهذا الجانب قوله تعالى: { و للّه المشرق و المغرب فأينما تولّوا فثمّ وجه الله إنّ الله واسع عليم} حيث نسخت كما يقال بقوله تعالى: { فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} ، و قد أشار المعنيون بشؤون التفسير إلي أنّ النبي‎’كان في أول مبعثه يصلي إلى بيت المقدّس، و عندما هاجر إلى المدينة عيرته اليهود حيث تحجّجوا بأن ذلك قبلتهم فاستاء النبي’ فأنزل الله عليه تعالى: { قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم} .
فهنا نجد أن الباحثين يتفاوتون في ذهابهم إلى كون هذه الآية منسوخة حيث ذهب البعض كما قلنا إلى نسخها، و ذهب البعض الآخر إلى أنها غير منسوخة ذاهبا إلى أن الله سبحانه و تعالى أراد أن يوضح للمجتمع الرسالي آنئذ بأن الآفاق جميعاً لله سبحانه و تعالى ، لا يفترق غربها عن شرقها و أن الله سبحانه و تعالى أمر أولاً بالتوجه إلى البيت المقدس و له أن يأمر ثانياَ بالتوجه إلى‌البيت الحرام و هكذا.
و ذهب نمط ثالث إلى أن آية (لله المشرق و المغرب) تحمل على النافلة. لا الفريضة، لنلاحظ هنا أن البحث عن هذه المسألة يظل في الواقع يقترن باللاجدوى، ما دمنا جميعاً نعرف بأن الفريضة في الحالات جميعاً ينبغي أن تكون متجهة إلى البيت الحرام، إلا في حالات خاصة و يكفينا أن النصوص الواردة عن المعصومين^ سمحوا لنا بأن نصلي النافلة كيف شئنا، و من ثم فأن السماح بالنافلة بهذا النحو مقابل الفريضة التي ينبغي أن يكون التوجه فيها إلى البيت الحرام، نقول: إن هذا المستوى من التوجه في سياق ما هو فريضة و ما هو نافلة يظل محكماً من خلال النصوص الواردة عن أهل البيت^ و حينئذ فإن الحديث عن النسخ و عدمه لا يحمل أهمية كبيرة كما قلنا.
و الآن: إذا تجاوزنا هذا الجانب الذي قلنا عنه أنه لا يترتب عليه آثار ذات أهمية، إذا تجاوزنا هذا الجانب أو هذا القسم من البحوث المتصلة بالناسخ و المنسوخ، و اتجهنا إلى قسم آخر و هو ضئيل بدوره، و لكنه في الواقع غير خاضع لعملية النسخ دون أدنى شك، و هذا من نحو الآية التي تتحدث عن كفارة الصوم لمن يلاقي الشدة كالشيوخ و سواهم ممن يعاني من العطش الشديد، حيث تقول الآية الكريمة: {و على الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين} ، حيث ذهب قسم من الباحثين إلى نسخها من خلال آية : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه}، معللين ذلك بظاهرة التخيير بين الفدية في حالة عدم الصيام و بين الصيام، و هذا بالإضافة إلى من يحاول أن يلجإ إلى اللغة ليفرق بين عبارة : { يُطِيقُونَهُ } بمعني أن يسعهم أي يقدرون عليه و بين : { يُطِيقُونَهُ } بمعنى يتحملون ذلك مع الشدة. و من البين أنه لا قيمة لهذا الرأي و لا قيمة للرأي السابق الذي لا حظناه، ذلك لأن اللجوء ألى أهل البيت^ يحل لنا المشكلة بوضوح حينما يرد عنهم^ إن المقصود من عبارة تطيقونه هو المعنى الثاني و هذا ما ورد عن الإمام علي× و الإمام الصادق×  بينما فسر ذلك بالشيخ الكبير و الذي يأخذ، العطاش... الخ.
المستوي الثاني في الآيات المنسوخة نقصاً
نتجّه إلى الحديث عن المستوى الثاني من الناسخ و المنسوخ حيث نجد ‌أن هذا القسم في الواقع هو على عكس الحالة السابقة ، حيث يمكننا أن نستشهد ببعض الأمثلة و في مقدمتها الآية القرآنية الكريمة القائلة : { و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجاً وصية لازواجهم متاعاً ألى الحول} .
حيث نذهب نحن تباعا لما ورد عن المعصومين^ أن هذه الآية الكريمة قد نسختها الآية الكريمة القائلة: { والّذين يُتوفّون منكم و يذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر و عشراً } ...الخ.
و لكننا نجد قبالة ذلك من يذهب إلى أن هذه الآية غير منسوخة و ذلك من خلال ذهابه إلى أن آية المتاع إلى الحول خاصة في حالة ما إذا كانت  هناك وصية‌للزوجة بممارسة ذلك، و أما في حالة العدم فإن الآية القائلة بالأربعة أشهر والعشرة أيام، هي المعينة ، و حينئذ لا نسخ بالموقف، و لكننا نرد على هذا الرأي و نقول : لا قيمة لهذا الرأي ما دام المعصومون^ أوضحوا بأن الآية منسوخة و أن العصر الجاهلي كان قبل ذلك يمنع المرأة ألى الحول و جاءت الأية المتمثلة في أربعة أشهر ناسخة لذلك السلوك الجاهلي.
المهم أن هذه المستويات من الآيات التي دار الخلاف فيها من حيث النسخ و عدمه بالنحو الذي تحدثنا عنه و نتحدث عنه، نقول: لا أهمية لأمثلة هذه المستويات التي وقعت في خلاف ما دامت إما لا ثمرة عملية لها، و إما أن النص الشرعي و نقصد به السنة الشريفة تكفلت بحل المسألة بهذا النحو أو ذاك، و لكن يبقي النمط الأخير من الآيات التي تتحدث عن الناسخ و المنسوخ، و تترتب عليه الآثار الشرعية هو بدوره قليل إلا أنه يتسم بالأهمية نظرا لكون الآثار الشرعية تترتب عليه، لكن لحسن الحظ إن الحمل على الندب أو التخيير في الايات المدعى نسخها يهون من الأمر و هذا من نحو الآية القائلة: { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين و الأقربين} ...الخ.
حيث حملت هذه الآية على الندب مقابل الآية التي قيل أنها نسخت الآية المتقدمة ، و نعني بها آية المواريث.
و يمكن أن نستشهد بأمثلة اُخرى تتوافق مع هذا النمط من المستوى الذي يتحدث أو لنقل يحمل الآية على وجه الندب دون أن يرتب أثراً على نسخها، و لكن كما قلنا أن أمثلة هذه الآيات لقليل و من ثم فإن الأمر ليهون دون أدنى شك حينما يكيف الحكم فقهيا بعملية ندب و ليس بعملية وجوب، و هذا على العكس مما لو ترتبت الآثار الفقهية على ما هو محرم أو محلل، و لكن كما قررنا لحسن الحظ أن الحديث عن هذه الآيات المدعى نسخها أو المدعى عدم نسخها بالشكل الذي أو ضحناه يظل موسوماً بالشكل الذي لا تترتب عليها أية أهمية أو ترتب عليها الأهمية و لكنها في نطاق محدود جداً...
ما تقدم يتصل بالمستوى الثاني من مستويات الصلة بين المادة الفقهية ، و بين القرآن الكريم حيث كان المستوى الأول يتحدث عن صلة القرآن الكريم بالأحكام بالشكل العام، كان المستوى الثاني يتحدث عن صلة القرآن الكريم ما هو ناسخ و منسوخ من الأحكام الفقهية، و أما المستوي الثالث هو الصلة بين النص القرآني الكريم و بين المعرفة أو المادة الفقهية، فيتمثل أولاً في وجود صلة بين الأداة الاُصولية في بعض نطاقاتها، و بين النص القرآني الكريم، ثم الصلة بين بعض الأحكام و بعض الروايات المتضاربة من خلال الذهاب إلى عرضها على القرآن الكريم، العمل بما يوافق القرآن الكريم و ترك ما يخالفه.
بالنسبة للمستوى الثالث و هو الأداة المادة الاُصولية، من الممكن أن يتوكأ الاُصوليون على المادة القرآنية الكريمة لإستخلاص بعض القواعد الاُصولية أو بعض القواعد الفقهية كقاعدة (لا حرج) مثلاً أو الإستخلاص الاُصولي كالإعتماد على ( الخبر الواحد) مثلاً من خلال الاستشهاد بآية: { إن جاءكم فاسق بنبأ} ... الخ.
من الممكن أن يفيد الاُصوليون و الفقهاء من قاعدة فقهية أو اُصولية يستنبطونها من النص القرآني الكريم.
و أما المستوى الأخير فهو كما قلنا التضارب حيناً بين (الفتاوى) الواردة ، أو بين ( الأخبار) المتضاربة بحيث لا يمكن أن يؤلّف بينها من خلال ما يسمى بالجمع العرفي بقدر ما يكون التضارب محكماً على نحو التضاد أو التناقض، و من هنا أمرنا المشرع الإسلامي أن نعرض هذه الأخبار على النص القرآني الكريم و نأخذ بما يوافقه و ما يخالفه نتركه. و هذا لا يحتاج إلى التعقيب.
وبهذا ينتهي حديثنا عن المحور الأول، و نعني به محور الصلة بين القرآن الكريم و بين المادة الفقهية.

القرآن و المحور العقائدي

القرآن و المحور العقائدي
و نتجه إلى المحور الثاني ألا و هو المحور الذي يندرجه ضمن عنوان القرآن والمادة العقائدية:
بالنسبة إلى المادة العقائدية وصلة ذلك بالقرآن الكريم نعتقد أن هذه المادة تحتل مساحة كبيرة جدّقٍّن من القرآن الكريم و ذلك لسبب واضح هو أن القرآن الكريم نزل في مجتمع مطبوع بسمة الشرك و الإلحاد و اللإنتماء فضلاً عن غلبة‌طابع الجهل، و من ثم فضلاً عن وجود مجتمع من السعة بمساحة كبيرة، ولكنه من حيث التأثير له أهميته، و نعني مجتمع الكتابيين و ما واكب هؤلاء من تحريف في كتبهم و انسحاب ذلك على أفكارهم، و من ثم انسحاب ذلك على مخاصماتهم و مناقشاتهم ضمن هذا المجتمع الذي نزلت فيه الرسالة الإسلامية.
المهم أن وجود أمثلة هذا المجتمع المنحرف بمستوياته المتقدمة يتطلب و لا شك مادة عقائدية مكثفة تتناسب مع ما ينبغي أن يجابه به مثل هذا المجتمع، من هنا فإن الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن البعد العقائدي تظل من الأهمية بمكان كبير من جانب ، و تظل محتلة للمساحة الكبيرة أيضاً من جانب آخر ، سواء أكان ذلك يتصل في الواقع بظاهرة التوحيد لله سبحانه و تعالى أو يتصل بظاهرة النبوّة، أو بظاهرة الإمامة... الخ.
كل هذه المستويات طرحها القرآن الكريم و لكن طبق ما لا حظناه أيضاً بالمستوى الفقهي أي يطرح موضوعات عامة فيها إجمال حيناً و فيها تفصيل حيناً آخر، و لكن التفصيل موكول كما هو بالفقه موكول إلى السنة الشريفة.
لى آية حال يحسن بنا أن نتحدث و لو عابراً جداً عن بعض المظاهر المتصلة بالبعد العقائدي من خلال توفرها في القرآن الكريم ، و يحسن بنا أن نبدأ أولاً بالحديث عن ظاهرة التوحيد بصفتها أهم الأبعاد العقائدية من حيث الموقف الفلسفي الذي يظهره الإنسان حيال الانسان و حيال الكون و المجتمع.
المهم إذا أردنا أن نتحدث عن هذا الجانب نجد أن النص القرآني الكريم سلك مستويات متنوعة لبلورة هذا المفهوم، مفهوم التوحيد. و لعل أهم ما طرحه القرآن الكريم في هذا المجال هو ظاهرة الفطرة التي أشار النص القرآني الكريم إليها من خلال التصريح بأن الله سبلحانه و تعالى فطر عباده على توحده، و هو جانب له أهميته العظمى دون أدنى شك، عندما أكد القرآن الكريم بأن المسألة تتصل بالفطرة قبل كل شيء وليس من خلال البعد الفكري فحسب، و من البين جداً أن الفطرة عندما تنسحب على سلوك الإنسان حينئذ تأخذ مشروعيتها و مصداقيتها بنحو أشد بكثير من الأنحاء الفكرية الاُخرى المستدلة أو المرتكنة إلى الاستدلال و ما إلى ذلك.
و مسألة الفطرة أو مسألة أن الله سبحانه و تعالى فطرنا جميعاً على توحيده هذه المسألة تظل في الواقع ليست متصلة بالجانب الفكري من الشخصية، بل لها صلتها العظمى بالهامية الخير و الشر على نحو ما نفصل الحديث في الجانب النفسي أي بطبيعة التركيبة البشرية التي تصدر الشخصية عنها خلال استجابتها لهذه الظاهرة أو تلك، تصدر عن النزعة الإيجابية متمثلة في قوله تعالى: { وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّببَ إلَيكُمُ الإيمانَ و زيَّنَهُ في قلوبِكُم و كَرَّهَ إليْكُمُ الكُفرَ والفُسوُقَ وَ العِصيانَ } .
لنلا حظ جيداً كيف أن هذه الآية الكريمة توضح بأن الإيمان في التركيبة البشرية يقترن بالنزوع و نعني به الحب إلى هذا الإيمان و بالمقابل الكراهية لكل من الكفر و الفسوق و العصيان. إذن: الإيمان و ما يقابله من الكفر يقترن أوله فطرياً بالمحبة و الثاني يقترن فطرياً بالكراهة. و هذا مما يعزز مفهوم الفطرة التي أشارت إليها الآية الأولى و نعني بها الآية التي تتحدّث عن أنّ الله فطر عباده على التوحيد، كما نجد في سياق ثالث أنّ الآيتين الكريمتين: { و نفس و ما سوّاها فألهمها فجورها و تقواها‍{  مع أن هذا الجانب يتصل بالتركيبة النفسية الصرفة، و لكن أيضاً تظل ملقية بإنارتها على الجانب الذي نتحدث عنه و هو الفطرة التي فطر الله عباده عليها، و نعنى بها التوحيد و اقترانه بوعي فطري هو : أن كل شخصية تلهم إلهاماً معنى الفجور و معنى التقوى ، و في مقدمة التقوى كما هو واضح: (الإيمان)، و في مقدمة الفجور: (الكفر)، إذن: التركيبة البشرية التي عرض لها لقرآن الكريم هي تركيبة تقوم على فطرة (التوحيد) و على معرفة ذلك و تمييز ما هو توحيد أو إيمان مقابل ما هو كفر و فسوق و معصية .. الخ.
نستنتج من هذا كله بالإضافة‌ إلى نمط رابع من المستويات التي سلكها النص القرآني الكريم ليدلل بها على أن الإنسان مفطور على التوحيد هو ما تعرضه بعض الآيات الكريمة التي تتحدث عن القوم الكافرين و تقر أن هؤلاء هم قد استيقنوا هذه الظاهرة، ولكنهم جحدوها عنادا و جحدوا ذلك لأسباب نفسية تظل مرتبطة بالالتواء الداخلي أو الانحراف الذي يطبع هذه الشخصية إو تلك، حيث نلفت النظر إلى جانب مهم، و هذا الجانب قد فصلنا الحديث عنه في مادة اُخرى ترتبط بظاهرة التربية الإسلامية أو بعلم النفس الإسلامي حيث ذكرنا هناك . كيف أن البعد النفسي و الفكري يلتقيان في التصور الإسلامي للسلوك، حيث أوضحنا الارتباط الواضح بين السلوكين الفكري و النفسي فيما لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
بمعنى أن الشخصية المؤمنة تكون هي الشخصية السوية حسب مصطلح علماء النفس، أي تخلو من الأمراض النفسية بكل أشكالها و مستوياتها و بالمقابل فإن الشخصية الكافرة أو المنحرفة تتحرف أيضاًَ نفسياً و حينئذ تعاني جملة من الأمراض المعروفة في قائمة السلوك العصابي. و هذا يعني أن السلوك المرضي من زاويته النفسية يلتقي مع سلوك الكفر و أن السلوك السوي من زاوية التصور الإسلامي بطبيعة النفس البشرية تلتقي تماماً مع النفس المؤمنة بمعنى أن تكون النفس السوية هي بالضرورة مؤمنة و من ثم فإن هذا الالتحام بين السلوكين و عدم انفصال أحدهما عن الآخر يفسّر لنا في الواقع كيفية إخفاق البحوث الأرضية التي تتحدث عن السوية، و عن الأمراض مقابل الحالة السوية في السلوك لتبرهن لنا بشكل واضح كيف أن هذه البحوث قد أخفقت في تحديدها لمعاني السلوك السوي، و افتراق ذلك عن السلوك العصابي، حيث فقدت هذه الرابطة الموجودة بين كل من الإيمان و السلوك السوي و بين الكفر و السلوك العصابي، هو أمر أيضاً تحدثنا عنه مفصلاً.
على أية حال لا نطيل الحديث عن هذا الجانب بقدر ما وددنا الإشارة إلى أن القرآن الكريم في مجال التوحيد طرح لنا مفهوم (الفطرة) و ما يواكبها من المستويات التي لا حظناها، كما رتب على ذلك مصاديق متنوعة من جانب، و من جانب آخر قدم براهين متنوعة أيضاً تبدأ من الإشارة إلى خلق السماوات و الأرض و ما فيهما من عشرات الظواهر الإبداعية، ثم خلق الإنسان نفسه إلى عشرات أو مئات الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن إبداع الله سبحانه و تعالى للظاهرة الكونية في شتى مستوياتها و أنماطها.
لذلك لا نجد أننا بحاجة للإستشهاد بهذه الآيات الكريمة و تحديدها لتن ذلك لأنّ يخص مسألتنا الخاصة بصلة القرآن الكريم بطرحه للظاهرة الإعتقادية ‌أو المادة العقائدية، و لذلك سوف ننتقل من الحديث عن هذه الظاهرة إلى الظاهرة الثانية من ظواهر العقائد و هذا ما ندرجه ضمن عنوان (القرآن الكريم و مفهوم النبوة).
من البين أن الصلة بين القرآن الكريم و بين النبوة تفرض وثاقتها دون أدنى شك، و إذا كانت الصلة بين القرآن الكريم و ظاهرة التوحيد تحتل مسافة أو مساحة أولى فإن الصلة بين القرآن والنبوة سوف تحتل الدرجة الثانية من الأهمية، إلا أنهما جميعاً أي كلا من التوحيد و النبوة لا ينفصل أحدهما عن الآخر نظرا لأن النبوة تضطلع بتحديد المباديء التوحيدية و توصيلها إلى المجتمع البشري، أي أن الإنسان إذا كان كما لا حظنا في حديثنا عن التوحيد مفطوراً على التوحيد فحينئذ يحتاج إلى من يعرفه المباديء التوحيدية، و ذلك بسبب أن الفطرة تظل مجرد أرضية عامة أو مجملة، و تحتاج إلى من يفصلها دون أدنى شك، هذا من جانب و من جانب آخر، بما أن الله تعالى ألهم البشرية بالإضافة إلى فطرة التوحيد ألهمها فطرة الخير و الشر تبعاً‌ لقوله تعالى: { فألهمها فجورها و تقواها} ، حينئذ فإن مباديم التقوى و الفجور أي الخير و الشر مطلقاً و هي مباديء تتصل بجميع شؤون الحياة ، حينئذ تشتمل على مطلق السلوك البشري و ليس التوحيد وحده.
من هنا فإن الإلهام للخير و الشر يتكفل بهذه الوظيفة. و لكن المباديء التفصيلية أيضاً لما هو خير و ما هو شر، و تحديد مفردات ذلك، يحتاج بدوره إلى مفهوم النبوة لتضطلع بتوضيحه و توصيله إلى البشرية.
إذن: فطرة التوحيد من جهة و إلهامية الخير و الشر من جهة اُخرى، بما أنهما مجملان و يشكلان مجرد خلفية أو أرضية حينئذ فإن النبوة ستضطلع بالتوفر على التفصيلات و إيصال مباديء الله تعالى إلى البشر جميعاً. من هنا اكتسبت النبوة طابعاً له أهميته الكبيرة، ونحن في الواقع إذا نظرنا من الزاوية الثالثة إلى أن الله تعالى قد أمرنا بممارسة الخلافة أو العبادة على الأرض، و خلق البشرية من أجل ممارستها تبعاً لقوله تعالى: { و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون} ، حينئذ فإن المباديء العبادية تتمثل في المباديء نفسها التي أشرنا قبل قليل إليها أي التفصيلات التي تضطلع النبوة بتوصيلها إلى البشر، يترتب على ذلك جميعاً أن نصل إلى نتيجة و هي ما دامت النبوة هي المضطلعة بحمل رسالة السماء إلى الأرض، حينئذ فإن الإيمان بها أي من خلال الشخصية التي تضطلع بهذه المهمة، يفرض ضرورته دون أدنى شك، يستوي في ذلك أن يكون الإيمان بالشخصيات النبوية منسحبة على الأنبياء السابقين حيث يضطلع كل نبي بدءاً من آدم×  و انتهاء إلى ما قبل نبوة محمد’ لإيصال مباديء الله تعالى إلى مجتمعاته المحلية أو العالمية، أو يكون الإيمان خاصاً بمجتمع الاُمة الإسلامية التي ختمت النبوات السابقة بها من خلال رسالة محمد’ بصفتها الرسالة التي اكتسبت طابعاً بشرياً عاماً من جانب، و اكتسبت الرسالة الخاتمة الممتدة إلى قيام الساعة من جانب آخر.
وما يعنينا مِمّا تقدّم هو أنّ النبوّة السابقة بنحو عام، والنبوّة الخاصة بشكل خاص هي ما تعنينا بطبيعة الحال، و لكن بما أننا مطالبون بأن نؤمن بمشروعية الرسالات السابقة من جانب و نسخ هذه الرسالات بالشريعة الإسلامية من جانب آخر، فإن الحديث عن النبوة بنحو عام من جهة و بنحو خاص من جهة ثانية يفرض مشروعيته.
و المهم الآن هو أن نتحدث عن موضوعنا الذي نعني به الآن هوالمادة القرآنية الكريمة في نطاق النبوة و مفهوماتها و حينئذ فإن الأجدر بنا أن نعرض لهذا الجانب فنقول:
إن الصلة القرآنية أو بالأحرى أن الصلة بين القرآن الكريم و بين النبوة هذه الصلة تتمثل في الواقع في جملة نقاط لابد من ملاحظتها، النقطة الاُولى هي بما أن هدف النبوّة كما قلنا هو إيصال مباديء الله تعالى من خلال تجسدهالمفهوم العبادة التي خلقنا من أجلها لذلك فإن الممارسة العبادية و لفت النظر إليها تظل واحداً من أهم الموضوعات التي توفر القرآن الكريم عليها، أي أن المفهوم المتمثل في مصطلح العبادة تظل موضوع ملاحظة القرآن الكريم. و يمكننا على نحو الاجمال أن نشير إلى هذا الجانب و نستشهد بما ورد على سبيل المثال في سورة الأعراف. حيث طرحت هذه السورة من خلال القصص التي عرضت فيها طرحت المفهوم (العبادي) الذي خلقنا من أجله، طرحت ذلك من خلال مخاطبة مجتمعاته التي قالت مثلاً بالنسبة إلى نوح×:{ و لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا اله ما لكم مّن إله غيره أفلا تتّقون} ، أيضاً بعد ذلك تتحدث السورة الكريمة عن النبي صالح×  حيث تقول: { و إلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم مّن إله غيره} ، و هكذا بالنسبة إلى النبي شعيب× تقول: { و إلى مدين أخاهم شعبياً قال يا قوم اعبدوا اللله ما لكم مّن إله غيره} ، لنلاحظ كيف أن هؤلاء الأنبياء الثلاثة طالبوا مجتمعاتهم بهذه الصياغة الموحدة التي صاغها القرآن الكريم متمثلاً بالمطالبة بالعبادة أي المفهوم العبادي الذي يتمثل في حقيقته بمطلق السلوك الذي يوظفنا بممارسته أو طولبنا بممارسته في نطاق العقائد و الأحكام و الأخلاق و مطلق السلوك و مطلق المباديء التي رسمها الإسلام له .
بطبيعة الحال ما قدمناه مجرد نموذج واحد من مادةالنبوةالتي سلكها القرآن الكريم في توصيل الرسالة إلى المجتمعات البشرية و نعني بذلك مفهوم (العبادة) كما قلنا، و هذا ما ننتهي إليه بالعبارة الآتية:
أن العبادة بنحو عام و هي جميع الممارسات التي كلفنا بها، تظل هي المحور الأول الذي يطرحه القرآن الكريم من خلال رسالة الأنبياء^. و هذا هو المفهوم الأول و النقطة الأولى.
و أما المفهوم الثاني فيمكن ملاحظته من خلال طرح آخر هو الطرح بخطوط إجمالية للمفهوم العبادي، أي في الطرح الأول كانت الإشارة فحسب إلى العبادي الذي نطالب به بشكل عام، المستوى الثاني هو المطالبة بالمفهوم العبادي و لكن من خلال خطوط إجمالية، و سنرى أن الخطوة الثالثة تشمل التعرض للمفهوم العبادي أيضاً و لكن من خلال عشرات أو مئات المصاديق التي تشمل جميع المحاور العقائدية و الفقهية و الاخلاقية و ما إلى ذلك، فبالنسبة إلى المحور الثاني، نقول: أن في هذه المحور نجد خطوطاً إجمالية تتمثل في الإشارة إلى‌كل من الكتاب و الحكمة و التزكية، فقد ورد الحديث عن الأنبياء^ بالنسبة إلى‌كل من يعلم الكتاب و الحكمة و لكن ورد بالنسبة إلى النبي محمد’ مفهوم (التزكية) أيضاً و هذا كقوله تعالى: في سورة البقرة على لسان إبراهيم× الذي طلب من الله تعالى أن يبعث في ذريته رسول منهم يتلو عليهم آياته و يعلمهم الكتاب و الحكمة ويزكيهم، و كذلك ورد هذا الموضوع في سورة آل عمران من خلال قوله تعالى : {لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً مّن أنفسهم يتلو عليهم آياته و يزكّيهم ويعلّمهم الكتاب و الحكمة} ، كذلك ورد هذا المفهوم في سورة الجمعة حيث قال الله تعالى: {هو الّذي بعث في الامّيّين رسولاً مّنهم يتلو عليهم آياته و يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة} ، لنلاحظ أن تكرار التزكية بالإضافة إلى المحورين اللذين طبعاً سائر الأنبياء خصّ للنبي’ و مجتمعه الإسلامي من حيث التزكية التي تحدد قمة نقاء النفس كما هو واضح.
و المهم أن كلا من الكتاب و الحكمة طابع مشترك تطرق القرآن الكريم إليهما بالنسبة إلى سائر الأنبياء^ و السؤال الآن هو أولاً ما المقصود من (الكتاب و الحكمة)؟ و ثانياً ما المقصود من (التزكية) التي خص بها النبي’‌و المجتمع الإسلامي.
و بالنسبة إلى الموضوعين المتقدمين، فإن المفسرين لم ينتهوا إلى رأي يحسم هذا الموقف بقدر ما يظل هذا الموضوع محفوفاً بالإجمال حيث ذهب مثلاً بعضهم إلى أن المقصود من الكتاب هو الكتاب الخاص بهذه الرسالة أو تلك، فالكتاب الخاص برسالة موسى أو الكتاب الخاص برسالة عيسى أو الكتاب الخاص برسالة النبي محمد’ و لكن لا حظنا إننا استشهدنا بآية قرآنية كريمة تتحدث عن عيسى× و تشير إلى تعليمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، حيث أن التوراة و الإنجيل هما من الكتب، فإذا كان الكتاب المنزل على النبي هو ما يقصد به الرسالة التي جاء بها حينئذ فما معنى أن يجيء الكتاب هنا و يجيء معه كل من الإنجيل و التوراة؟ و هذا يعني أن التفسير لمفهوم الكتاب يضاد ما نجده في القرآن الكريم نفسه، و الأمر نفسه بالنسبة إلى مفهوم الحكمة حيث تتردد التفسيرات في تحديد ما هو المقصود من مفهوم الحكمة هل هو الفقه و الأحكام مثلاً أم مطلق المباديء التي رسمها الله للبشرية؟ أم غير ذلك؟ هنا أيضاً نجد أقوالاً مختلفة لا ترسو على شاطيء معين.
من هنا ينبغي أن نقف أو نتوقف في الواقع أو نتحفظ عن تقديم التفسير النهائي لهذا الجانب. و لكن إذا أخضعنا هذه الظاهرة لمجرد الاحتمال الصائب أو المخطيء أيضاً، و لكنه يظل مجرد احتمال و نعني به أنه من الممكن أن نستخلص من مصطلحي الكتاب و الحكمة التشريع العام، و هذا ما ينسحب على مفهوم (الحكمة) أي أن كلا من الكتاب و الحكمة سواء أكانت هذه الكتب نازلة على الأنبياء السابقين أو كان الكتاب نازلاً بالنسبة إلى مجتمع محمد’ ، في الحالتين تظل هناك معرفة أو بعد معرفي عام يتمثل في الكتاب الذي هو يجسد نزول الرسالات على المجتمع البشري ثم ما تتضمنه هذه الرسالات من حكمة خاصة من حيث التشريع للمباديء المختلفة و التي نطالب بممارستها عبادياً، و هذا يعني أن (الكتاب) هو مطلق التنزيل و أن (الحكمة) هي المصالح التي رسمها الله تعالى من وراء تشريعه لهذه المباديء أو تلك، و كما قلنا فإن هذا الاستخلاص قد يكون خاطئاً و لكن حتى لا نقع في التناقض، حينئذ سوف نلجأ إلى هذا الاحتمال الصرف و إلا فمن الممكن أيضاً أن نقول: حتى مع ملاحظة وجود تضاد بين الأخبار، أن المقصود من الكتاب هو كتاب لكل نبي’ و أن المقصود من الحكمة هي المادة المعرفية المتمثلة في مطلق الأحكام أو المباديء و بالنسبة إلى ما نلاحظه مثلاً من ورود التوراة و الإنجيل في سياق مصطلح الكتاب حينئذ نقول: من الممكن أن يكون الكتاب ورد أولاً في سياق عام، ثم ينص على كل من التوراة والإنجيل كما يوضحه المفسرون لمجرد التوكيد لا أكثر.
على أية حال بغض النظر على ما تقدم يظل هذا النمط من الطرح القرآن الكريم لوظيفة النبوة متمثلاً في ما لا حظناه. و يبقى النمط الثالث، و هو النمط ا لخاص بطرح المباديء التي رسمها الله تعالى ليس من خلال المفهوم الإجمالي العام و هو العمل العبادي و ليس من خلال الخطوط الإجمالية التي تلي ذلك و نعني بها خطوط الحكمة و الكتاب والتزكية، بل المقصود بذلك التفصيلات أو المفردات التي تتناول مباديء الله سبحانه و تعالى سواء أكانت هذه المباديء تتصل بالأحكام الفقهية كالصلاة و الصوم و غير ذلك، أو كانت تتصل بالأحكام و الظواهر العقائدية كالتوحيد و النبوة و الإمامة أو كانت تتصل بالسمة الأخلاقية في العشرات من الموضوعات أو الظواهر أو السمات الأخلاقية التي طرحها النص بالقرآن الكريم في مختلف مواقع النص المشار إليه.
و الآن قبل أن نختتم الحديث عن هذا الجانب نود أن نشير إلى ملاحظة وردت عابرة و هي أن الإشارة إلى أن كلا من الكتاب و الحكمة و الإشارة إلى التزكية عبر قوله تعالى (و يزكيهم) حيث وردت هذه العبارة بأكثر من موقع، نقول: أن هذا الجانب يظل مختصاً كما كررنا برسالة النبي محمد’ ، بصفة أن التزكية هي أعلى النقاء في الطبيعة البشرية التي يستهدفها النص القرآني الكريم أي يستهدف وصولنا إليها من خلال الإشارة إلى أن النبي’ قد اضطلع بتحمل أعباء الرسالة و منها أن يزكينا نحن البشر من خلال الالتزام بالمباديء التي رسمها الله تعالى إسلامياً. و هذا إن دل على شيء إنما يدل بوضوحس على أن الرسالة الإسلامية التي ختمت بها النبوات تظل أنصع الرسالات النازلة من السماء ، ثم يتعين علينا أن نثمن و نقدر ذلك. فلنحاول تدريب ذواتنا على التعليم بممارسة مباديء الله سبحانه و تعالى.
أخيراً ثمة محور رابع أو نقطة رابعة ينبغي أيضاً أن نشير إليها قبل أن نختتم حديثنا عن النبوة وصلة ذلك بالقرآن الكريم أي المادة المعرفية المتمثلة في ظاهرة النبوة، من حيث الطرح الذي استخدمه القرآن الكريم، في التعامل مع مفهوم النبوة حيث ذكرنا أولاً أن المفهوم الأول هو اضطلاع الرسل جميعاً بتوصيل مباديء الله سبحانه و تعالى من خلال الطلب بعبادة الله سبحانه و تعالى تجسيداً لقوله تعالى : {و ما خلقت الجنّ و الإنس إلّا ليعبدون}  و كان المحور الثاني بيان الخطوط العامة لعملية العبادة متمثلة في الكتاب و الحكمة من حيث تعليمها و من حيث التزكية أخيراً بالنسبة إلى المجتمع الإسلامي، ثم الأسلوب الثالث أو النمط الثالث من الاضطلاع بالرسالة، و هو ما يتمثل بتوصيل هذه المباديء من خلال المفردات التي ذكرت بالقرآن الكريم على جميع المستويات العقائدية و الفقهية و الأخلاقية و ما إلى ذلك.
رابعاً يتعين علينا ولو عابراً أن نشير إلى الاُسلوب الذي طرحه القرآن الكريم من خلال ممارسة العمل العبادي ، و هذا الاُسلوب يتمثل في لغة الرسل و الأنبياء التي تزدوج بين اُسلوب الترغيب و الترهيب متمثلاً في قوله تعالى: على سبيل المثال: { كان النّاس اُمّةً واحدة فبعث الله النّبيّين مبشّرين و منذرين} ، و هكذا يمكننا أن نجد أمثلة هذا التعبير من قوله تعالى : { بشيراً و نذيراً فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون}  فالبشارة من جانب و الإنذار من جانب آخر يظلان اُسلوبين يتبعها النص القرآني الكريم من خلال الرسل الذين يضطلعون بتوصيل مبادئه تعالى ، و التفسير النفسي الواضح لهذا الاُسلوب المزدوج و نعني البشارة و الإنذار لا نعتقد إنه يحتاج إلى مزيد من التوضيح ما دمنا نعرف أن الترغيب و الترهيب هما الوسيلتان اللتان تتبعان في سبيل تحقيق الضبط الاجتماعي أو تحقيق الهدف الذي ينشده الرسل و الأنبياء، من وراء كل من هذين الاُسلوبين، سواء كان ذلك مفضيا إلى تحقيق القناعة أي الإيمان أو التمرد أي المعصية و الكفر.. الخ.
بهذا ننتهي من الحديث عن المادة المرتبطة بالنبوة وصلة هذه المادة بنمط الطرح القرآني الكريم لها. و يبقى في الواقع عند حديثنا عن المحور النبوي في القرآن الكريم يبقى الحديث منصباً على ظاهرة واحدة يجدر بنا أيضاً أن نلاحظها قبل أن ننتقل إلى‌موضوع جديد و نعني بها ما يطرحه المفسرون من جانب و ما يطرحه علماء البحث القرآني من جانب آخر، و نعني به العصمة المرتبطة بالأنبياء^ حيث نجد أن موضوع العصمة يحتل مجالآً كبيراً من البحوث، قديما و حديثا.
و لذلك يجدر بنا أيضاً أن نتحدث عن هذا الجانب. و لكننا سنتحدث عنه عابراً ، لأن الموضوع في الواقع يظل غير منسحب على ثمرات عملية ذات أهمية كبيرة، لأن المسألة تتصل بسمات الرسل و الأنبياء^ و بالاصطفاء الذي طبعهم من قبل الله سبحانه و تعالى، حيث لا ينسحبان و لا ينعكسان على سلوكنا نحن البشر العادي، و لذلك فإن الحديث عن العصمة قد لا ينطوي على أهمية كبيرة إلا من خلال كونه بحثاً له إمتاعه الفكري فحسب، أو في أفضل المستويات يمكن أن نقول إنه من الممكن في ظل البحث عن مفهوم العصمة أن تتعمق قناعة الشخصية الإسلامية مثلاً بمباديء الله سبحانه و تعالى من خلال قناعتها بمفهوم العصمة.
إن الطرح القرآني الكريم لهذه السمة بالنسبة إلى الأنبياء^ ينبغي أن نشطره إلى أحد هذين النمطين يرتبط بمطلق الانبياء^، و أما النمط الآخر فيرتبط بنبينا محمد’.
بالنسبة للأنبياء بشكل عام ينبغي إن نقرر فنقول : إن الله قد اصطفى الأنبياء اصطفاءاً خاصاً بحيث ينتخبهم و يمثلون النخبة البشرية التي لا يمكن أن تتحقق إلا لدى‌شخصيات نادرة الوجود من بين الملايين من البشر الذين يمارسون العمل العبادي في الحياة، لذلك نجد أن مجرد اصطفاء الله سبحانه و تعالى للرسل كافٍ للتدليل على عصمة هؤلاء الأنبياء، إن الله سبحانه وتعالى عندما يقول على سبيل المثال: { إنّ الله اصطفى آدم و نوحاً  و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين} .
هذا يعني أن تفضيل هذه الشخصيات على الآخرين يعني أنهم يمتلكون سمات لا تتوفر لدى الغالبية من البشر، و لذلك فإن الاصطفاء كما قلنا يجسم أو يجسد مفهوماً واحداً لعصمة الأنبياء، و أما ما نلاحظه من مصطلحات ترد عبر عبارات كالذنب أو الخطيئة أو المغاضبة أو الخوف و نحو ذلك مما يرسم من خلال شخوص الأنبياء^ عبر شخصيات آدم أو يونس أو موسى× و غيرهم من الأنبياء، نقول أن بعض السمات التي ترسم بالنسبة إلى ملامح هؤلاء و الأنبياء و الرسل، في الواقع تظل سمات عابرة جداً لا تقاس بالخط العام أو السمات العامة التي تطبع الشخصيات العامة لشخصياتهم^ أو بكلمة اُخرى كما يعبر الباحثون عن ذلك بأن هذه السمات البسيطة التي قد يستخلص من خلالها الطابع السلبي عند بعض المتلقين لهذه النصوص يقول عندما يخيل إليهم أن الطابع السلبي في الواقع لا ينسحب عليه مفهوم المعصية أو الخطأ بالمعنيين اللذين نفهمهما لغوياً، إن المعصية هي ممارسة سلوك لا يرتضيه الله سبحانه و تعالى، و الخطأ هو ممارسة سلوك يتنافي مع مباديء العقل البشري. و من المؤكد أن الأنبياء^ لا يصدرون في ممارساتهم اليومية سواء أكانت ذات طابع تبليغي، أو كانت ممارسات شخصية يظلون في الحالات جميعاً صادرين عن سلوك (معصوم) من الذنب من جانب، و معصوم من الخطأ من جانب آخر بمعناهما اللغويين و الشرعيين و الذين يتحدث عنهما الفقهاء أو يتحدث عنهما اللغويون.
من هنا ذهب كثير من الباحثين إلى أن هذه الأنماط من السلوك لا تترتب عليها طوابع سلبية بالقياس إلى ما نلاحظه من الطوابع التي تسم البشر العاديين، و ذلك إن هذه الممارسات ما يعبر عنها بترك الأولى، أي أن بعض الأنبياء^ حينما يصدرون عن هذا السلوك أو ذاك كان الأجدر مثلاً أن لا يمارسوه دون أن تترتب على الممارسة آثار العصيان أو الآثار التي تتسبب في غضب الله سبحانه و تعالى.
من هنا فإن مفهوم (ترك الأولى) يظل في تصورنا مفهوماً جيداً لتفسير الخطأ أو الذنب الذي يرد كتعبير في النص القرآني الكريم مع تأكيدنا للمرة الجديدة أن كلاً من الخطأ و الذنب لا يحملان دلالتهما التي نألفهما ذهنياً بقدر ما يحملان دلالة اُخرى لا تنتسب إلى ما لا يرضي الله سبحانه و تعالى، و تتأكد هذه الحقيقة بنحو أشد وضوحاً بالنسبة إلى النبي’‌و الثلاثة عشر معصوماً الآخرين، أي أن الأربعة عشر معصوماً يظل في الواقع سلوكهم معصوماً من كل خطأ من جانب، و كل خطيئة من جانب آخر، وكل ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى الذنب و سواه، نجد من النصوص الواردة عن أهل البيت^ يفسرونها تفسيراً خاصاً كالتفسير الذاهب إلى أنه إلى أن المقصود به هو الآخر و ليس المعصوم ذاته أي: التفسير الذاهب إلى أن المقصود من ذلك هو الاُمة أو الجمهور و ليس شخصية النبي بالذات.
و يكفي التدليل على ذلك جميعاً ما نلاحظه على سبيل المثال من آية التطهير التي أشارت إلى أن الله سبحانه و تعالى أذهب الرجس عن أهل البيت و طهرهم تطهيراً. إن عملية التطهير خصوصاً و قد جاء المفعول به طهرهم تطهيراً‌تظل مفصحة بوضوح عن أن هذه الشخصيات نقية كل النقاء، طاهرة كل الطهر، و من المستحيل أن يصدر عنها أي سلوك يتنافي مع السلوك، و كفى بهذا دليلاً على عصمة أهل البيت^ بدءاً من محمد’ و علي ، و فاطمة، و الحسن و الحسين، و سائر الأئمة انتهاء إلى‌الإمام المهدي^.
إذن : العصمة تظل فارضة وجودها على الأنبياء بشكل عام و تظل منسحبه على الأربعة عشر معصوماً بشكل أشد تأكيداً بالنحو الذي تحدثنا عنه و لا نجدنا بحاجة إلى البحث أو إلقاء الإنارات الاُخرى على هذا البحث و إلا فإن من يريد أن يدخل في هذه التفصيلات عليه أن يطالع عشرات الكتب و المجلدات الضخمة التي تحدثت عن صفات الأنبياء^ وعن الأربعة عشر معصوماً و عن مفهوم العصمة و مستوياتها و التفسيرات المتفاوتة التي تفسر معنى الذنب و الخطأ، و ليس بمعناهما الشرعيين أو الذهنين بمعنى خاص لا يتنافي مع مفهوم العصمة و هذا مالا مجال للحديث عنه الآن،فقد قلنا بقدر ما استهدفنا الإشارة إلى ذلك و من يريد أن يطلع على المزيد من هذه البحوث يمكنه الرجوع إلى المصادر المختلفة، و لكنا كما قلنا علينا أن نكتفي بهذا القدر من المعرفة لأن الأربعة عشر معصوماً^ بالإضافة إلى الأنبياء تظل هذه الشخصيات المصطفاة من قبل الله سبحانه و تعالى شخصيات منتقاة و مصطفاة من البشر ، بل يمكن الذهاب بالنسبة إلى المعصومين^ من خلال رجوعنا إلى مختلف الروايات الواردة في تحديد شخصياتهم بحيث أن الله سبحانه و تعالى كما روي في كثير من الأخبار إنما خلق الحياة أساساً من أجل أمثلة هذه الشخصيات المصطفاة، و حينئذ عندما يهب الله تعالى هذه الشخصيات هذا المستوى من الخطورة ليس من المعقول البتة أن ننسب لهذه الشخصيات الذنب أو الخطأ بمعنييهما المشار إليهما، و الحق أن تأكيدنا على هذا الجانب ينصب لأن نفراً من المنحرفين عن خط أهل البيت^ و الذين لا ينهلون من هذا المصدر الضخم بقدر ما ينهلون من مصادر محدودة جداً، حينئذ فإن هذا الموقف يستاقهم إلى أن يقفو من أهل البيت^ موقفاً عدائياً حتى إن هذا الموقف العدائي ينسحب على الأحكام التي تطال رسول الله’ من قبل هؤلاء النفر المنحرفين عن خط أهل البيت و الذين يقفون بمنأى عن هذه المصادر التسي تدلهم على الطريق الصائب.
و يمكننا أن نضرب بمثال واحداً على هذا الميدان حتى يتبين للقاريء كيف أن من يعادي أهل البيت^ ينأى به الموقف ليصل إلى درجة أن يتهم رسول الله’ بالخطأ، و ذلك من خلال عدة مواقف يقفها هؤلاء و من جملة هذه المواقف ما سنتلوه الآن: حيث ورد في أحد الكتب الحديثة، نرى في هذا الكتاب و هو يتحدث عن الإعجاز القرآني الكريم و يريد أن يستشهد بأن القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه و تعالى ، و ليس كلام الرسول حينئذ نجده يقع في مفارقة ضخمة هي أنه ينسب الخطأ إلى الرسول’ إلى درجة أن الأشخاص العاديين كعمر مثلاً استطاع أن يصحح أخطاء رسول الله’ ، انظروا إلى هذا النص القائل «ورد أن كبير المنافقين عبد الله بن اُبي لما توفي قام إليه النبي’ فكفنه في ثوبه و أراد أن يستغفر له، فقال له عمر: أتستغفر له و تصلي عليه و قد نهاك ربك، قال’ : إنما خيرني ربي فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر اله  له و سأزيده على السبعين ثم اُصلي عليه » فأنزل اله تعالى: {ولا تصلّ على أحد مّنهم مّات أبداً و لا تقم على قبره}  فترك الصلاة عليه.
اقرأ الرواية بتمامها في الصحيحين ثم نبأني هل يعقل أن يكون القرآن متعارضاً مع كلام محمد و أنه’ فهم في الآية غير ما فهم عمر، ثم جاءت لتكون مخطئة للرسول عن فهمه و مؤيدةلغمر، فما كان الأجدر لو كان القرآن كلامه لكان هو أدرى الناس لمراده منه و أعرفهم بحقية المقصود بكلامه و أن يجيء مؤيداً لكلامه ما فهمه هو لا لما فهمه غيره، لكن الواقع غير ذلك لقد سبق إلى فهمه’ الكملة أو الآية الأولى للتخيير، و فهمها عمر أنها للمساواة، و فهم الرسول أن المراد بكلمة سبعين حقيقة العدد المعروف بالعشرات بين الستين و الثمانين، و فهم عمر أنها للمبالغة لا للتحديد، فلا مفهوم لها. و لما كان ما فهمه الرسول جارياً على أصل أو بمعنى سبعين مرة تمسك برأيه خصوصاً أن فيه يحمد رجل من الناس و ان كان منافقاً و كان مضطلعاُ على الرحمة (و ما أرسناك إلا رحمة للعالمين).
لنلاحظ كيف أن هذا الكاتب و هو ينأى‌عن مصادر أهل البيت^ كيف يجترىء على رسول الله إلي درجة أنه يتهم رسول الله’ أنه لم يفهم من كلمة (أو) إلا معناها اللغوي، و لم يفهم كلمة (سبعين) إلا معناها اللغوي أيضاً ، بينما أرشده عمر إلى ما هو صائب حيث أفهمه بأن كلمة (أو) هي للمساواة وليست للتخيير، و أفهمه بأن كلمة سبعين هي للمبالغة و ليست للتحديد كما فهم’ ، لننظر جيداً إلى أمثلة هذه التهمة الخطيرة الموجهة إلى رسول الله’ ، بحيث أن الرسول يقع في الخطأ و لكن أحد الصحابة لا يقع في الخطأ و هو ينبهه على الخطأ.
نقول: أن أمثلة هذه المواقف و هي تزخر في الكتب المعادية لأهل البيت^ قديماً و حديثاً ، تقول: من المؤسف جداً أن أمثلة هذه المفارقات الضخمة التي تسيء إلى الرسول’‌أيضاً ، و ليس إلى أهل البيت فحسب كل ذلك ينجم من ابتعاد هؤلاء عن المصدر الذي ينبغي أن يرجعوا إليه كما ورد عن النبي’ نفسه حينما قال أو حينما قرر أن كلا من كتاب الله و سنة نبيه’ ‌هو و عترته ينبغي أن يتمسك بهما لمن أراد الرشاد و إلا فإن الفصل بين هذين المصدرين يقتاد الآخرين إلى الضلال كما لا حظنا وقوع هذه الشخصية و سواها ممن لم يتمسك بأهل البيت^.
على أية حال نكتفي بالحديث عن هذا الجانب بما قدمناه من الإشارات السريعة جداً عن مفهوم النبوة وصلة هذا المفهوم بالقرآن الكريم من حيث مفهوم النبوة و انتهينا من ذلك إلى ‌الحديث عن العصمة بالشكل الذي تقدمت الإشارة إليه الآن. و بهذا نختم حديثنا عن هذا الجانب، لنتجه إلى‌جانب آخر هو المادة المعرفية المتصلة بالإمامة وما طرحه القرآن الكريم حيال هذا الجانب ، و في هذا الميدان نقول: الإمامة في القرآن الكريم
إن من الواضح جداً أن المئات من الظواهر المطروحة في القرآن الكريم تطرح بنحو إجمالي و تتكفل أو تضطلع السنة الشريفة بتبيان ذلك و هو أمر لا يختلف فيه اثنان، لأن غالبية مبادىء الرسالة الإسلامية التي نخبرها جميعاً و نعمل بها بحسب ما وصلت إلينا كل ذلك يظل صدىً للسنة الشريفة من حيث كونها هي التي تضطلع بتبيين أو بتفصيل ما أجمله القرآن أو ببيان ما لم يذكره القرآن الكريم، كل ذلك يظل من الوضوح بمكان كبير.
و لعل المفهوم المتصل بالإمامة يظل واحداًَ من المفهومات التي واكبها النص القرآني الكريم، و لكن من خلال الإجمال تماماً‌ و عدم الإشارة الصريحة إلى ذلك، بقدر ما ترك الأمر إلى السنة الشريفة كما قلنا، و السبب في ذلك كما احتملناه هو أن القرآن الكريم و هو يتحدث عن الاختبارالإلهي و عملية الامتحان، سمح لنا بممارسة البعد الثقافي لنختبر و لنمتحن. و لنبتلى من خلاله أيضاً أي: ترك الساحة الثقافية مفتوحة لعملية الاختبار الإلهي ليرى كيف نتعامل مع هذا البعد الثقافي، و من ذلك ما يرتبط بالسنة الشريفة التي اضطلعت بتوضيح ما في الكتاب.
فعلى سبيل المثال يمكننا أن نقرأ منذ البداية أو بالأحرى‌منذ أن نزلت الآيات المتنوعة التي ترهص بالحديث عن مفهوم الاءمامة بدءاً من الآية القرآنية الكريمة التي تتحدث عن المباهلة حيث أن المباهلة بإجماع المفسرين كانت من حيث الطرف النبوي متمثلة بالنبي’ ‌و في علي و فاطمة و الحسنين عليهم               ‌السّلام، و انتهاءً إلى نهاية حياته’ حيث نزلت الآية الكريمة (إكمال الدين ) قبل أشهر قليلة من وفاته’ ، متمثلة في حادثة الغدير التي نقلها العشرات من الرواة، نقول إن هاتين الحادثتين بالإضافة إلى ما ورد من آية التطهير لأهل البيت^ هذه الإشارات المتنوعة في القرآن الكريم تمثل ارهاصات عامة للحديث عن الإمامة و ذلك من خلال الإشارة إلى‌مفهوم الوصية المتمثلة في حادثة الغدير حيث نصب النبي’ الإمام علياً× نصبه وصياً له بالشكل الذي تذكره عشرات المصادر فيما لا حاجة إلى‌الحديث عنه الآن، نقول : بدءاً‌ من الإشارة إلى ذلك حينئذ فإن الإشارات الاُخرى التي واكبت هذه الجوانب أي الإشارات المتمثلة ليس في شخصية الإمام علي×، فحسب و أنما في الإشارة إلى شخصيات الأطهار الذين ضمتهم كل من المباهلة و آية التطهير، من جانب آخر نجد أن آيات قرآنية‌كريمة متفرقة تشير إلى الأئمة^ من خلال التفسير الوارد و المجمع عليه من قبل غالبية المفسرين، نذكر هذا من نحو ما ورد على سبيل المثال من الآية المعروفة أو الآمرة بإطاعة الله و الرسول و اُولىالأمر، أو من خلال الآية المشيرة إلى أهل الذكر و نحو ذلك من الآيات التي تبلغ العشرات من حيث الإشارة الصريحة الواردة في أسباب النزول أي مثلاً، أو في الآيات التي تتحدث عن ظاهرة الجري أو المصداق، أي الآية التي يرد فيها شأن خاص بالنزول و لكنها في الآن ذاته تنسحب على هذا المورد أو ذاك بالشكل الذي المحنا إليه سابقاً لا حاجة أيضاً إلى‌التكرار أو إلى تكرار ذلك في هذا الميدان.
المهم حسبنا أن نشير إلى النص القرآني الكريم ذكر إجمالاً في جملة موارد هذا الجانب و ترك السنة الشريفة تضطلع بتبيان هذا الجانب من خلال عشرات أو مئات الروايات التي تحدد هذه الموضوعات، فمثلاً بالنسبة إلى‌الآية القرآنية الكريمة القائلة: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرّسول و اولي الأمر منكم}  نجد الرواية التفسيرية القائلة:بأن المقصود من أولي الأمر منكم هم الأئمة من أهل البيت^ و الأمر نفسه بالنسبة إلى الآية الاُخرى التي تشير قائلة: {فاسألوا أهل الذّكر إن كنتم لا تعلمون}  حيث سئل رسول’ عن هذه الآية فقال : « الذكر أنا و الأئمة أهل الذكر» إلى آخر ما ورد من روايات أخرى جميعاً تصب في هذه الدلالة.
الذي نستهدفه الآن الإشارة إلى هذا الجانب نقول: أن القرآن الكريم و هو يطرح جملة مفاهيم أو جملة موارد معرفية، ومن جملة ذلك المادة المعرفية المتصلة بمفهوم الإمامة و ذلك من خلال الآيات التي أشرنا إليها الآن و من خلال الآية المتصلة بالخطورة الأكثر من ذلك هي (إكمال الدين ) التي نزلت في علي× من حيث الوصية إليه أي من حيث الخلافة و ما يترتب على هذه الخلافة من الأئمة الاثني عشر^. 
المهم لا نريد أن ندخل في تفصيلات هذا الميدان لأن هناك عشرات الكتب التي ألفت في ميدان الأئمة^ و كونهم خلفاء للرسول’ بعددهم المشار إليه الذي ينتهي بالإمام المهدي(عج) و هو الإمام الحي الذي ننتظر بإذن الله سبحانه و تعالى قيامه بمهمته التي أوكله الله و هي إنقاذ البشرية في آخر المطاف للحياة الدنيا، و المهم لا نريد الآن أن ندخل في تفصيلات هذه الجوانب بقدر ما استهدفنا الإشارة فحسب إلى أن القرآن الكريم و هو يطرح مواد معرفية متنوعة من جملتها المادة المتصلة بالإمامة و منها المادة المتصلة باليوم الآخر و هو ما نتحدث عنه الآن:
طبيعياً أن طرح هذه المادة لا يختلف عن المواد الاُخرى الّتي تحدثنا عنها سابقاً و قلنا أن الطرح القرآني الكريم لهذه المواد المعرفية يظل من جانب طرحاً إجماليا، و يظل من الجانب الآخر طرحاً من الجوانب المعينة دون سواها، و أن الجميع من حيث التفصيل، و من حيث الشمولية فانّ السنة الشريفة تضطلع بذلك.
و حتى في هذا الميدان و نقصد الميدان الذي تطرح فيه الظاهرة من خلال الإجمال من جانب، و من خلال طرح مفردات منها دون الاُخرى من جانب ثان، نقول حتى في هذا الميدان نجد أن النص القرآني الكريم في الواقع يشطر الحديث عن اليوم الآخر شطرين، أحدهما يتصل بالمؤمنين أو بالإسلاميين الذين يؤمنون باليوم الآخر و ما تواكب هذا اليوم من مختلف المستويات المعروضة في النص القرآني الكريم من حيث البيئة الاُخروية أو بالأحرى منذ قيام الساعة فالانبعاث فالحساب فالاستقرار النهائي، أو الخلود للبشر نعيماً أو جحيماً أعاذنا سبحانه و تعالى من الجحيم.
نقول: هذا النمط من التناول سوف لا نتحدث عنه لأنه يمثل الشريحة المؤمنة فيما لا حاجة بنا إلى الآن للحديث عنه، ولكن الحديث سوف ينصب عن الفئة الثانية المتمثلة في الطوائف المنحرفة و هي طوائف كما نعرف ذلك جميعاً من الممكن أن نشطرها إلى طوائف نافية أساساً، أو منكرة أساساً لليوم الآخر أو الطوائف المشككة بذلك، و نحن إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الطوائف المتفاوتة التي تنتسب إلى الانحراف قد يكون بعضها مؤمناً بالله و لكنه يضيف إليه شريكاً، كما هو واضح، و قد يكون هذا النمط من الموحد أي المقر بوجود مبدع الكون يقر بهذا الجانب و لكنه يشكك أو ينفي إمكانية إعادة الإنسان بعد موته .. الخ. ما يمكن ملاحظته في هذه الفئات المتنوعة من المنحرفين.
و القرآن الكريم عبر طرحه لهذه المادة يتناول في الواقع أساليب ثلاثة للتدليل على مشروعية و يقينية اليوم الآخر، الاُسلوب الأول الذي يتبعه القرآن الكريم هو الاستشهاد بالإنسان نفسه من حيث بداية خلقه، حيث يشير حيناً إلى أنه مخلوق من التراب و حيناً آخر يشير إلى أنه وجد من نطفة ثم أصبح بهذا الشكل. و الاستدلال من خلال هذا الجانب و إن الله سبحانه و تعالى كما كان قادراً على أن ينشيء الإنسان من التراب أو من نطفة حينئذ بمقدوره أن يحييه بعد الممات، و يمكننا أن نستشهد في هذا السياق بالآيات القرآنية الكريمة التي ختمت بها سورة القيامة حيث ورد فيها {ألم يك نطفةً مّن مّنيّ يمني * ثمّ كان علقة فخلق فسوّى * فجعل منه الزوجين الذّكر و الانثى * اليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى} و هكذا يستدل النص القرآني الكريم بقدرته على أن يحيي الموتى بنفس القدرة التي استطاع من خلالها أن يخلق الإنسان من نطفة من مني يمنى ثم كان علقة.. الخ.
و يمكننا أيضاً أن نستشهد بالآيات التي ختمت بها سورة يس حيث ورد فيها: { أولم ير الإنسان أنّا خلقناه من نّطفة فإذا هو خصيم مّبين * و ضرب لنا مثلاً و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم * قل يحييها الّذي تأشأها أوّل مرّة و هو بكلّ خلق عليم}
هذا بالنسبة إلى الأسلوب الاستدلالي الذي يسلكه النص القرآني الكريم للربط بين إمكانية الانبعاث من جديد، و أما الأسلوب الآخر الذي يتبعه القرآن الكريم به يربطه من خلاله بين عملية النبات و الزرع و ربط ذلك بعملية إحياء البشر أيضاً، و يمكننا أن نستشهد على سبيل المثال في هذا السياق بالآيات القرآنية الكريمة الواردة في سورة ق حيث يقول تعالى: {و نزّلنا من السّماء ماء مّباركاً فأنبتنا به جنّات و حبّ الحصيد * و النّخل باسقات لّها طلع نّضيد * رزقاً لّلعباد و أحيينا به بلدةً مّيتاً كذلك الخروج} ، و هكذا نجد هذا الاستدلال يربط بين إحياء النبات و بين إحياء الإنسان بعد موته، و أما الاُسلوب الثالث الذي يتبعه القرآن الكريم ، و هو ما يمكن تسميته بالاُسلوب التجريبي إذا صح التعبير عن هذا الجانب أي الاستشهاد بنماذج تجريبية تجري في الحياة الدنيا ذاتها حتى يمكن من خلالها أن يستشّف المنكر أو المشكك إمكانية و يقينية الإحياء في اليوم الآخر، و لعلنا عندما نتحدث عن العنصر البنائي في القرآن الكريم و عن العنصر الإعجازي بالقرآن الكريم من حيث البناء القصصي، نجد ان سورة البقرة من حيث كونها تعتمد على محورين، كبيرين أحد هذه المحاور هو عملية الإماتة و الإحياء، حيث أن النص القرآني الكريم تعرض إلى هذا الجانب من خلال اُسلوب نثري غير قصصي و من خلال الاُسلوب القصصي حيث نلاحظ جملة قصص تتناول هذا الجانب ، منها قصة البقرة التي ضرب الميت بذيلها فأحيي الميت و أخبر جماعة موسي× بالقاتل، و كالقصة التي وردت بالنسبة إلى إبراهيم× من حيث تقطيعه للطيور الأربعة و إحياء هذه الطيو، ثم من خلال القصة التي تناولت الشخصية التي قالت و هي تمر على قرية خاوية على‌ عروشها: {أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مئة عام} . و هكذا بالنسبة إلى المناقشة التي جرت بين إبراهيم× و بين نمرود حيث كانت تدور حول الإحياء و حول الإماتة. و هكذا بالنسبة إلى الآية القرآنية الكريمة التي أشارت قائلة: {ألم تر إلى‌الّذين خرجوا من ديارهم و هم الوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم} ، و هكذا نجد أن الاستشهاد بهذه المجموعة من القصص و الآيات القرآنية الكريمة يجسد نمطاً ثالثا من التدليل على يقينية اليوم الآخر من خلال انيعاث الموتى ما دام هذا الانبعاث تجريبيا قد تم في الحياة الدنيا على النحو الذي أوضحناه الآن.

القرآن و المحور الأخلاقي

المهم نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن البعد المتصل باليوم الآخر و نتجه إلى المستوى الثالث أو المحور الاخلاقي و هذا ما نبدء به الحديث الآن ضمن العنوان المشار إليه، ألا و هو (القرآن و المحور الأخلاقي):
القرآن و المحور الأخلاقي
و نقصد بالمحور الأخلاقي ما يطلق عليه في مصطلح علم النفس و التربية و الاجتماع، مصطلح السلوك البشري، و بطبيعة الحال يظل السلوك البشري متنوعاً دون أدنى شك . بيد أن الزاوية التي يتناول من خلالها هذا السلوك يظل في الواقع منصباً على جانب هو الطرائق التي يستجيب لها الإنسان حيال المنبهات الداخلية و الخارجية التي يواجهها و من ثم كيفية الاستجابة لهذد الطرائق من حيث كونها الاستجابة الطبيعية أو استجابة شاذّة و إلى ذلك من تحديدات تتصل بهذا الجانب، و لكنها تصب في نهاية المطاف في ظاهرة خاصة هي ما يطلق عليها الظاهرة الأخلاقية التي تعنى بالسلوك السوي أو السلوك الصائب أو السلوك الصحيح، أو السلوك القويم أو السلوك المطلوب من الشخصية البشرية أو تختّطه في تعلمها لمختلف أنماط السلوك. لذلك سيكون الحديث في الواقع عن الظاهرة الأخلاقية هي ظاهرة تمزج بين علوم الأخلاق و بين علوم النفس و التربية و حتى بين علوم الاجتماع و نحوها مما ترتبط جميعاً بتناول ظاهرة السلوك البشري من الزاوية‌التي أشرنا إليها. و مع أن المادة المعرفية التي نحاول أن نتناولها عابراً‌سوف نتجه إليها أيضاً من خلال بعد معرفي آخر هو البعد المتصل بالعلوم الإنسانية جميعاً ، و لكن مع ذلك إن الحديث الآن عن هذا الجانب يفرض ضرورته بغض النظر عن الجوانب المرتبطة بالعلوم الإنسانية كعلم النفس و التربية و الاجتماع و الاقتصاد و السياسة و ما إلى ذلك.
من هنا إذا تحدثنا عن هذا الجانب و تطرقنا خلال ذلك إلى بحوث نفسية و تربوية و إجتماعية، يجب أن لا نستغرب أن هذا النمط من العرض للمادة المعرفية للقرآن الكريم إذا كان هذا الجانب يمتزج مع جوانب اُخرى كما قلنا بيد أن المهم هو أن نتبين المادة المعرفية التي تتناول السلوك البشري المطلوب من خلال وجهة النظر القرآنية الكريمة ، من هنا سوف يتم تداخل تام في الواقع بين المادة المعرفية المرتبطة بالأخلاق في القرآن الكريم، و بين ما نطلق عليه المواد المعرفية المتمثلة في ضروب المعرفة التي ذكرناها و نعني بها العلوم المرتبطة بالتاريخ و التربية و النفس و الاجتماع و السياسة و الاقتصاد و ما إلى ذلك . فما دام الطابع الأخلاقي يتمثل في السلوك السوي أو السلوك المستقيم أو السلوك المطلوب عبادياً، فإن انسحاب هذا السلوك في صفته الإيجابية على سائر أنماط التعامل مع مظاهر الحياة المختلفة سوف يكسبها طابعاً أخلاقياً دون أدنى شك. و من ثم فإن حديثنا الآن عن الأخلاق في القرآن الكريم سوف يتداخل كما قلنا مع كل أنماط المعرفة الإسلامية و انسحاب ذلك على مطلق السلوك الإنساني يظل موضع حديثنا الآن و لعله أيضاً ان شاء الله سبحانه و تعالى لاحقاً.
المهم نبدأ الآن فنتحدث أولاً عن الأخلاق كسمة وردت في القرآن الكريم، ولعل أول ما يمكن ملاحظته في هذا الميدان هو إشارة القرآن الكريم إلى النبي’ حيث قال عنه: {و إنّك لعلى خلق عظيم} ، الواقع أن هذه الآية القرآنية الكريمة التي تشير إلى النبي’ و إلى أنه على خلق عظيم يظل مفتاحاًَ كبيراً للحديث عن مختلف شؤون السلوك البشري دون أدنى‌ شك ، فأولاً‌القضية ترتبط بمحمد’‌و هو الرسول الذي اُنزل إليه الكتاب أو اُنزل بواسطته الكتاب لتوصيل المباديء القرآنية أو الإسلامية إلى البشرية جميعاً ، و ما دام الرسول هو المضطلع لتوصيل هذه المباديء حينئذ فإن وسمه بأنه ذو خلق عظيم يعني ارتباط هذه الرسالة بمن يحمل سمات تتفق و ما تتطلبه الرسالة من مباديء أخلاقية.
و لو تتبعنا هذا الجانب في القرآن الكريم حينئذ سنجد أن العرض الأخلاقي في الواقع سيظل مثل سائر الجوانب التي تحدثنا عنها سابقاً و نعني بها أن القرآن الكريم يمر على كثير من الظواهر إما مروراً إجمالياً أو مروراً عابراً أو حتى في حال تركيزه على ظاهرة ما بشكل مكثف فإن هذا التكثيف في الواقع يستهدف طرح مفردات متنوعة لهذه الظاهرة أو لتلك بالنحو الذي لا حظناه سابقاً.
لذلك فإن القاريء ينبغي أن لا يتوقع بأن يقدم له القرآن الكريم قائمة بأنماط السلوك الأخلاقي الذي ينبغي أن نختطه لأنفسنا بقدر ما تتناثر المباديء الأخلاقية هنا و هناك، على‌أن تستكمل ذلك من خلال التوفر على السنّة الشريفة، و قبل أن نواصل حديثنا عن هذا الجانب الأخلاقي نود أن نشير إلى‌ أن التعامل الأخلاقي يتم من خلال أربعة محاور في طبيعة الحال.
المحور الأول: هو التعامل مع الذات، و الثاني: التعامل مع الله سبحانه و تعالى ، و الثالث: التعامل مع الآخرين، و الرابع: التعامل مع الظواهر الكونية الاُخرى. و سنضرب أولا أمثلة على هذه الأنماط الأربع ومن ثم نتناول ما تناوله القرآن الكريم في هذا الميدان على أن نتجه بعد ذلك كما قلنا إلى الربط بين الظاهرة الأخلاقية و بين الضروب المعرفية التي تشكل مادة قرآنية كريمة تتصل بالاقتصاد و بالاجتماع و بالسياسة و التربية و علم النفس حيث يظل الطابع الأخلاقي كما قلنا هو المنسحب على نمط الظواهر المشار إليها.
هذه المحاور الأربعة التي نحاول أن نعرضها الآن سريعاً كما قلنا أولها: هو التعامل مع الذات، و لعل من أوضح الأمثلة على تعاملنا مع الذات، هو تعاملنا مثلاً‌من حيث التناول للمادة‌الغذائية فنحن قد نتناول المادة الغذائية و نحن نشتهي الطعام، و قد نتناولها و نحن لا نشتهي الطعام، و قد نكف أيدينا عن الطعام و نحن نشتهي، و قد لا نكف ذلك، و قد نتناول الطعام بنهم و بلذة ، و قد لا نفعل ذلكه و قد نملأ بطوننا، و قد لا نفعل ذلك.
أولئك جميعاً تمثل في الواقع تعاملا مع الذات، و من الممكن أيضاً‌ أن نجعلها النمط الرابع الذي تمثل في الواقع تعاملاً مع الظاهرة الكونية، أو لنقل الظاهرة الطبيعية أو المادية أو أية ظاهرة لا ترتبط بالجنس البشري، أو لا ترتبط بالتعامل مع الله سبحانه وتعالى ، أولا ترتبط مع النفس الفردية لهذا الشخص أو ذاك، المهم أنالحديث الذي يشير إلى أن البطن تطغي في حالة الشبع حينئذ فهذه الظاهرة تمثل بعداً‌ أخلاقياً واضحاً لأن الطغيان هو سمة نفسية تعني أن الشخصية البشرية تمارس سلوكاً غير مقبول، إنه السلوك المتمثل في الإحساس باللامبالاة، و في الإحساس بالفوقية، وفي الإحساس بعدم الانفتاح على الآخرين، و بالإحساس بالأنانية و ما إلى ذلك من أشكال الحومان على الذات.
و إذا انتقلنا إلى الظاهرة الثانية و نعني بها التعامل الأخلاقي مع الآخرين فإن الأمثلة على ذلك من الكثرة بمكان كبير، إنّ أية صلة بيننا و بين الشخص الآخر يمكن أن تجسد نمطاً من أنماط التعامل مع الآخرين كالسلام أو التحية. و هذا ما ورد في النص القرآني الكريم مثلاً عندما يطالبنا بأننا إذا حيينا بتحية فيتعين علينا أن نردها بأحسن منها أو نكتفي بالرد بمثلها مثلاً، هذا هو واحد من أنماط التعامل مع الآخرين.
و أما التعامل مع الله سبحانه و تعالى فيتمثل أيضاً في كثير من المظاهر الشعائرية كالصلاة و الصوم و الحج و .. الخ. حيث نتعامل مع الله سبحانه و تعالى‌على سبيل المثال إما من خلال التقرب الخالص لله سبحانه و تعالى دون أن نشرك مع رضا الله رضا الآخرين و هذا على سبيل المثال كالتعامل مع المال. فنحن قد نتعامل مع المال منخلال النظر إليه هدفاً بذاته و ليس مجرد وسيلة و قد نجمع المال و نعدده كما ورد ذلك في الآية القرآنية الكريمة القائلة: {ويل لّكلّ همزة لّمزة * الّذي جمع مالاً و عدّده}  و قد نتعامل مع المال بمجرد كونه وسيلة ثم نستثمره بما أمرنا الله تعالى، و هذا ما ورد في الحث عليه كثيراً في القرآن الكريم من حيث الصدقة ، و من حيث الزكاة و من حيث الخمس، و من حيث الإنفاق بشكل عام بحيث نوظف المال من أجل هدف آخر هو مساعدة الآخرين أو تعظيم شعائر الله سبحانه و تعالى .. الخ.
إذن :‌ هذه الأمثلة السريعة التي قدمناها في التعامل الأخلاقي مع الظواهر حيث أن هذه الظاهرة تمثل البعد الأخلاقي الذي نود الآن أن نتحدث عنه من خلال هذه المحاور الأربعة.
و لكنها محاور تتداخل من جانب مع ما ورد في القرآن الكريم خاصة بالتعامل الأخلاقي أو ما ورد من مواد معرفية و تتصل بضروب العلوم الإنسانية التي أشرنا إليها و حينئذ فإن الحديث عن أي من هذه الجوانب سوف يلقي بنثارته على‌نمط البعد المعرفي المتصل بالمادة الأخلاقية المطروحة في القرآنم الكريم .
لقد طرح القرآن الكريم مفردات متنوعة من التعامل الأخلاقي بعد أن لا حظنا أنه يصف القرآن الكريم النبي محمداً’ ‌بأنه على خلق عظيم، نجد أنه يقدم لنا مفردات متناثرة هنا و هناك في هذا الموقع من السورة القرآنية الكريمة أو تلك يشير إليها عابراً‌أو بعض الأحيان أو مفصلاً‌في هذا السياق أو ذاك، و من ذلك على سبيل المثال مما يجسد مفردة من مفردات الأخلاق المطلوبة أو الأخلاق السوية ما يشير إليه القرآن الكريم مثلاً في تعامل النبي’‌ مع المجتمع الذي أنزلت الرسالة إليه ليؤمن بمبادئها و نعني بذلك الاُسلوب التبليغي الذي يختطه الرسول’ بهذا الميدان حيث يسمه الله سبحانه و تعالى بقوله بأن النبي لو كان غليظ القلب لا نفضّوا من حوله، إن فظاظة القلب على‌سبيل المثال تعني السلوك الخشن سواء أكان هذا التعامل لفظياً أو حركياً و من ثم فإن التعامل القاسي و الخشن الشديد و الحاد و ما إلى‌ ذلك من أنماط السلوك اللفظي الذي يستشف منه ما هو عدواني أو ما هو تعال و ما إلى ذلك، هذا النمط من الأسلوب الفظ دون أدنى شك يجعل الشخصية الاُخرى تنفر تماما من المباديء التي تدعو إليها هذا الشخص أو ذاك. إذن: القلب الفظ أو الغليظ يمثل نمطا من السلوك غير المطلوب و بالمقابل فإن القلب إذا اتسم بالرحمة أو الرقة أو الشفقة و بالانعكاسات التي تنعكس من خلال هذا القلب لفظياً من خلال الكلام الناعم و الكلام الحسن، و ما إلى‌ ذلك مما يشير إليه القرآن الكريم في مادته المتصلة بالظاهرة الأخلاقية كإشارته سبحانه و تعالى‌إلى المجادلة بالتي هي أحسن و كإشارته إلى‌أن العدو يتحول إلى صديق حميم في حالة ما إذا سلكنا و إياه مسلكاً لفظيا يتمثل في انتخاب ما هو رقيق و مهذب من الألفاظ، أو يتمثل في ما هو مهذب من الأساليب المتبعة في الجدال، و من ذلك مثلاً ما يشير إلى القول الحسن حيث ورد في أكثر من موقع في قوله تعالى على سبيل المثال: {و قولوا للنّاس حسناً}  إلى آخر ما نلحظه من الإشارات المتصلة بضرورة التعبير عن السلوك من خلال اللفظ، أي من خلال الظاهرة اللفظية يظل واحداً‌من أشد الأنماط الأخلاقية بروزاً في التعامل مع الآخرين من حيث انعكاساته على‌الآخرين و تحديد الاستجابات الإيجابية من قبل الآخرين ، حيال هذا الشخص الذي يسلك سلوكاً أخلاقياً قائماً على‌التعامل اللفظي الرقيق دون التعامل الفظ.
و إذا تركنا هذا الجانب المتصل بالتعامل اللفظي نجد أن هناك أنماطاًَ‌ اُخرى من التعامل اللفظي و الحركي أيضاً و هذا ما يتمثل في عملية السلام على الآخرين أو ما أطلق عليه القرآن الكريم نفسه مصطلح التحية عبر قوله تعالى: {و إذا حيّيتم بتحيّة} .. الخ. فالملاحظ في هذه التوصية القرآنية الكريمة أن الله سبحانه و تعالى يتحدث و يرسم لنا السلوك المتصل بالسلام و الرد عليه ، حيث أن السلوك و هذا ما تتكفل به النصوص الحديثية الشريفة المشيرة إلى أن السلام هو من أهم المظاهر التي يحرص عليه الإسلام كل الحرص حيث وردت التوصيات المتنوعة التي تشير إلى أن من سمات الشخصية المؤمنة أن تبدأ بالسلام و ما إلى ذلك من سمات اُخرى تتحدث عن التوصيات الإسلامية .
المهم إذا تجاوزنا ظاهرة السلام و إلى ما يترتب عليها من نتائج لا حظنا أن الآية القرآنية الكريمة تتحدث عن التحية و السلام تطالبنا بأن نرد السلام بمثله أو بأحسن منه.
ترى ما هي المعطيات النفسية التي تترتب على أمثلة هذه التوصية؟ إنه من الوضوح بمكان كبير أن الباديء بالسلام إنما يعني أنه يجسد سلوكاً منفتحاً نحو الآخر، أي تجسد عملية تصدير حب من أعماق هذا الشخص إلى الشخص الآخر من خلال عملية السلام، وحينئذ إذا قدر لأحدنا أن يتلقى‌ محبة من شخص آخر من خلال السلام عليه، فإن النزعة الإنسانية تفرض علينا أن نرده بمثل ما تفضل علينا من السلام، و هذا ما يجسد العبارة القائلة (فحيوه)، و لكن بما أن الباديء بالسلام هو الباديء بالفضل فحينئذ ينبغي أن نبادله لا بالمكافأة المساوية بين نمطي سلوك، بل يجب أن نبادل فنضيف الإحسان إلى إحسان سابق و هذا ما يتمثل في رد التحية بأحسن منها فإذا قال على‌ سبيل المثال: السلام عليكم، ينبغي أن نقول له: و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته، و بهذه العبارة (رحمة الله و بركاته) نكون قد رددنا التحية بأحسن منها، وبذلك نجسد سلوكا يفضي دون أدنى شك إلى‌ تعميق المحبة بين الطرفين ، فالمسلم و هو يبادر من خلال نزعة إنسانية لديه حينما يجدنا أننا نبادله هذه النزعة الإنسانية بل بأكثر نزوعاً‌إنسانياً و هو الرد الأفضل حينئذ ستتعمق أواصر المحبة فيما بيننا كما هو واضح، و هكذا إذا تبعنا سائر أنماط السمات الأخلاقية التي يطرحها القرآن الكريم حيث تجسد معطيات نفسية بنحو المعطى الذي تحدثنا عنه الآن بالنسبة إلى اتحية و الرد عليها.
و لعل ظاهرة الانفتاح على الآخر التي تبدء من عملية‌السلام عليه هذه الظاهرة الانفتاحية‌على‌الآخرين يتناولها القرآن الكريم من زوايا متنوعة و في مقدمتها على سبيل المثال مساعدة‌الآخرين أي البدأ بتصدير النزعة الإنسانية قبل أن يسبقنا الآخرون إليها.
و في مقدمة هذه الظواهر المتمثلة في النزعة أو الانفتاح نحو الآخرين: ظاهرة الإنفاق على سبيل المثال و إذا قدر لنا أن نطالع النصوص القرآنية الكريمة التي تتحدث عن هذا الجانب للاحظنا مثلاًَ أن الحديث عن الصلاة يرتبط في كثير من الحالات بالحديث عن الزكاة أيضاً ، و الزكاة هي واحدة من أنماط التعامل و من أنماط التجسيد للإنفاق لأن الزكاة قد يقصد منها الضريبة المالية المعروفة و قد يقصد منها ما هو أوسع دلالة . ولكن سنجد في النصوص القرآنية الكريمة ما يشير إلى هذا الجانب، و ما يشير إلى الجوانب الاُخرى كالإشارة إلى الخمس مثلاً و كذلك الإشارة إلى الإنفاق بنحوه المطلق أي الإنفاق بنمطه الواجب و بنمطه المندوب، و سنتحدث عن هذا الجانب إن شاء الله سبحانه و تعالى عندما نتحدث عن الجانب الاقتصادي أي المادة المعرفية المتمثلة في ظاهرة الاقتصاد و الطرح القرآني الكريم له ، إذا أننا ما دمنا قد تحدثنا الآن عابراً عن الظاهرة الأخلاقية من خلال الانفتاح اللفظي حيث لا حظنا كيف أن مسألة التحية قد طرحت بهذا النحو الذي يجسد معطيات متنوعة لتعميق الحب بين الآخرين، أقول إذا واصلنا الحديث عن هذا الجانب اللفظي حينئذ نجد إشارات متنوعة ترد هنا و هناك في النصوص القرآنية الكريمة لتفصح لنا عن مستويات التعامل اللفظي مع الآخرين و منها على سبيل ألا و هو الحديث عن الغيبة مثلاً .
فالغيبة تعني سلوكاً لفظيا يقوم على ليس تصدير الحب نحو الآخر بل على العكس من ذلك يكون على تصدير الحقد نحو الآخر و هو قمة الانتكاس الأخلاقي دون أدنى شك و هذا ما عبر عنه القرآن الكريم من خلال صورة‌فنية مذهلة و هي قوله تعالى: {أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً} .. الخ.
أن الاستشهاد بهذا النموذج أو بهذا المثل الذي شبه الاغتياب بأكل اللحم الميت و هو كما الأكل بالنسبة إلى لحم الميت يقترن بظواهر كريهة من حيث المنظر المشوه للميت و من حيث الرائحة الكريهة للحم الميت من حيث الطعم الكريه للحم الميت .. الخ. نقول إن هذه الأنماط من المستويات التي تجسد النفور و الكراهية الشديدة ربط بينهما و بين الغيبة التي تعني سلوكاً لفظياً يقوم على تجريح الآخرين من خلال غيبتهم و ليس من خلال حضورهم. طبيعياً أن تجريح الآخرين من خلال حضورهم يجسد بدوره نمطاً عدوانياً على الآخرين و لكن الاغتياب يمثل اُسلوباً عدوانياً من نمط آخر هو أشد لأنه تعبير بالإضافة إلى كونه تعبيراً عدوانياً فإنّه تعبير عن النزع لخائنة في أعماق الشخصية، و ذلك لسبب واضح هو أن تجريح الآخر و هو غائب يعني طعناً له من الخلف و الطعنة من الخلف تمثل الخيانة و الغدر و نحو ذلك من الممارسات غير الإيجابية.
إذن: الاغتياب بالنحو الذي لا حظناه يظل ممارسة بلغت من الإنكار إلى حد لا حظنا كيف أن النص القرآني الكريم قد توكأ على تشبيه بالغ المدى و تقريب دلالة هذا المفهوم إلى‌الأذهان.
على أية حال بغض النظر عن كل ما تقدم لا نريد مواصلة الحديث عن هذه الجوانب، حيث قلنا أن السنة الشريفة تتكفل بها و من ثم فإن الحديث عن الجانب الأخلاقي في نمطه الآخر و نعني به النمط العام الذي ينسحب على سائر الممارسات أو سائر ضروب المعرفة المتصلة بالاجتماع و الاقتصاد و السياسة و نحو ذلك كل أولئك أيضاً يفسح المجال أمامنا الحديث عن السمة الأخلاقية من وجهة نظر القرآن الكريم و هو أمر سنبدأ للحديث عنه إن شاء الله لا حقاً حيث سنبدأ أولاً بالحديث عن التصور القرآني الكريم للظاهرة النفسية و ذلك من خلال الأسلوب الذي كررنا الإشارة إليه و نعني به الأسلوب الذي يتسم بالإجمال من جانب و يتصل بطرح ظاهرة دون اُخرى من جانب ثان على نحو ما سنتحدث عنه لا حقاً إن شاء الله تعالى.
حينما نواصل حديثنا عن المادة المعرفية المرتبطة بالبعد الأخلاقي للقرآن الكريم نجد أنه بإمكاننا أن نتمثله في نمطين، أحد هذين النمطين هو البعد الأخلاقي الخاص، و البعد الأخلاقي العام. أما البعد الأخلاقي الخاص، فنعنى به من زاوية السمات التي يتسم بها هذا الشخص أو ذاك و هي سمات تعرف من خلال التعامل مع الذات و التعامل مع الآخرين و التعامل مع الله سبحانه و تعالى و التعامل مع سائر الظواهر التي يواجهها الإنسان، و هذا التعامل هو في الواقع يجسد نمطاً من التوافق الذاتي للشخصية و يجسد تقبلاً أو مقبولية من الأطراف الاُخرى و هذا على سبيل المثال كحسن التعامل مع الآخرين من خلال مبادرة إلى السلام عليهم و من خلال رد السلام عليهم، و من خلال الكلمة المادحة أو التي تثني على الآخرين و من خلال عشرات الظواهر الاُخرى سواء أكانت لفظية كالأمثلة المتقدمة أو كانت حركية أو عملية كالتواضع مثلاً و قضاء حوائج الآخرين و ما إلى ذلك من عشرات أو مئات من المفردات السلوكية التي تتصل بحسن الأخلاق.
و قد استشهدنا بجملة نماذج قرآنية كريمة كالإشارة القرآنية الكريمة إلى النبي محمد’‌ من أنه يتميز بخلق عظيم ، و كالإشارة إلى التعبيرات اللفظية التي رآها القرآن الكريم في ممارستها كما أشرنا قبل قليل بالإشارة إلى السلام و الرد على السلام و الكلمة المادحة و ما إلى ذلك، و بالمقابل استشهدنا سابقاً أيضاً بما يضاد هذا النمط من التعبير اللفظي الأخلاقي و استشهدنا من خلال ذلك بالنصوص المشيرة إلى الغيبة على سبيل المثال باعتبارها واحدة من أشكال التعامل اللفظي المجرح الآخرين حيث يتنافي تماماً مع ما تهدف إليه الموعظة القرآنية الكريمة بالكلمة المادحة حيال الآخرين و ليس الكلمة الجارحة متمثلة في أشكال متنوعة و لكن الغيبة تجيء في مقدمتها بصفة أنها تجريح الآخر من خلال غيابه، و لا نريد الآن أن نطيل ما تحدثنا عنه سابقاً بقدر ما استهدفنا الإشارة إلى أن القرآن الكريم يطرح مفردات معينة في سياق النص القرآني و يعرض عشرات و مئات السمات الأخلاقية الاُخرى يعرضها جميعاً من خلال السنة الشريفة.
و لعل القارىء اُتيح له أن يقف على عشرات بل أحياناً مئات المفردات التي حدثناه عنها عندما تناولنا مادة (التربية الإسلامية) أو (علم النفس الإسلامي) في كتاب خاص و تعرضنا خلال ذلك إلى ممارسة المشرع الإسلامي من الظواهر المتنوعة المتصلة بسمات الشخصية بالنحو الذي يستطيع القارىء أن يراجع تلكم المادة في الوقع المناسب، المهم لا نريد الآن أن نطيل الحديث عن هذا الجانب بل نود أن نلفت النظر إلى أن الجانب الأخلاقي المتمثل بسمات الشخصية سواء أكانت هذه السمات تتصل في نطاق ما هو تعبيري للأمثلة المتقدمة أو في نطاق ما هو حركي كعشرات الممارسات التي يطالبنا الإسلام بها في العفو و الصفح و التسامح و المحبة و الشفقة و الحنان و الرفق و قضاء حوائج الآخرين و ... الخ.
كل ذلك يستطيع القارىء أن يقف عليه في الكتاب المذكور، و لكن بالنسبة إلى القرآن الكريم فإن القرآن الكريم كما قلنا يطرح جملة من هذه الموضوعات ترد في سياق خاص كالأمثلة التي قدمناها، و هناك الأمثلة الكثيرة لا نريد أن نتحدث عنها لأنها سوف تاخذ مجالاً لا يسمح بها الوقت. و الآن إذا تركنا هذا الجانب الأخلاقي الخاص من حيث كونه يمثل مادة معرفية للقرآن الكريم واتجهنا إلى‌الجانب الأخلاقي العام أو الشطر الثاني من العنصر الأخلاقي حيث قلنا قبل قليل إن العنصر الأخلاقي للقرآن الكريم من الممكن أن ينشطر إلى نمطين نمط خاص بالسمات الأخلاقية الفردية التي تحدثنا عنها، و أما النمط الآخر فأسميناه بالسمة الأخلاقية العامة التي تتمثل في نمط التعامل الذي نمارسه أفراداً أو مجتمعات أو جماعة أو .. الخ. و نمارسه في مختلف ميادين الحياة المتصلة بميدان السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و نحو ذلك، أي أن لكل محور من هذه المحاور الموضوعية أو الفكرية، أو لكل محور من هذه المحاور المتصلة بضرورة المعرفة الإنسانية كعلم التاريخ و علم النفس و علم الاقتصاد و علم السياسي.. الخ.
إن المادة المعرفية التي تنتسب إلى هذه الضروب من المعرفة يمكننا أيضاً‌أن نتناولها من خلال البعد الأخلاقي لها لأن الإسلام أساساً أو لأن التعليمات القرآنية هي في الواقع مؤشر إلى دالة أخلاقية واضحة من حيث التعامل مع مطلق ما نواجه من منبهات الحياة التي نحياها، و لعل أهم ما ينبغي لفت الانتباه إليه الآن هو أن نبدأ و نشير إشارة عابرة أيضاً إلى هذا الجانب المتصل بالأخلاق العامة .
و نستهل ذلك بالحديث عن المادة النفسية أو التربوية في القرآن الكريم، حيث تمثل هذه المادة من جانب أهم المواد المعرفية، و من جانب ثان تمثل المادة الأكثر مساحة بالنسبة إلى‌سواها من المواد الاُخرى، و سرّ ذلك كما نعرف هذا جميعاًَ هو أن المسألة التربوية و المسألة النفسية تظل في الواقع هي المحور أو المادة التي نعنى بها و نتحرك من خلالها و نفسر من خلالها نمط سلوكنا و نعني به ظاهرة النفس و كيفية صدورنا عن هذه النفس من حيث السلوك الذي نمارسه، و لذلك سوف نبدء حديثنا عن هذا الجانب و ندرج هذا ضمن عنوان جديد هو: القرآن و المادة النفسية و التربوية.

القرآن و المادة النفسية

القرآن و المادة النفسية
ضمن هذا العنوان يمكننا أن نلاحظ لا أقل في عصرنا الحديث أو في حياتنا المعاصرة من وجود المؤلفات التي تتحدث عن هذا الجانب كالكتب التي تحمل على سبيل المثال عنوان (القرآن و علم النفس) و ما إلى ذلك من عشرات العناوين التي ظهرت خلال الخمسين عاماً‌ الأخيرة، حيث استثمر الكتاب الإسلاميون هذا الجانب و ذلك من خلال توفرهم على دراسة ظاهرة نفسية للقرآن الكريم بعد أن وقفوا على المادة النفسية التي تلقفوها من الخارج، و اخذوا يعنون بدراسة القرآن الكريم من حيث تناوله للمادة النفسية و من حيث قيامه بالمقارنة بين تلك المواد التي اطلعوا عليها، و بين المادة القرآنية الكريمة و طرح القرآن الكريم حيث أن المادة القرآنية الكريمة تظل كما هو واضح، المادة التي تحسم كل شيء بالنسبة إلى ما يمكن ملاحظته من الاتجاهات المتنوعة التي تطبع علماء النفس والتربية الأرضيين.
على أية حال أن وجود عشرات الكتب التي تتحدث عن المادة النفسية في القرآن الكريم تدلنا بوضوح على‌ أن القرآن الكريم قد عني بهذا الجانب عناية كبيرة و لكن مع ذلك ينبغي لفت الانتباه إلى نقطة مهمة جداً، و هي نقطة كررناها و نكررها، إن الطرح القرآني الكريم حتى لهذه المادة المهمة و المتشعبة و المتنوعة حتى‌في طرحه لهذه المادة يظل في الواقع متناولاً لما هو مجمل من جانب و لما هو مهم من جانب ثان، و لما هو وارد في سياقات خاصة تتناول مختلف جوانب المعرفة. حيث أن الأمر يظل متروكاً في الحالات جميعاً إلى السنّة الشريفة التي تضطلع بتوضيح هذه الجوانب، و كما أوردنا الأمثلة بالنسبة للبعد المعرفي الفقهي و البعد المعرفي العقائدي نضرب مثالاً آخر حتى‌ يتبين كيفية الطرح القرآن الكريم للمادة النفسية ، و من ثم كيفية تركه للسنة الشريفة بأن تضطلع بتبيين الجوانب الشمولية التي تتناول هذه الظاهرة النفسية أو تلك، على سبيل المثال: التركيبة البشرية.
إن التركيبة البشرية تظل من الموضوعات المتسمة بأهمية كبيرة دون أدنى‌شك لأن سلوكنا الذي نصدر عنه في الواقع يرتبط بنمط معرفتنا لهذه التركيبة البشرية التي أودعها الله سبحانه و تعالى فينا، و ركبها بهذا النحو الخاص يتناولها المشرع الإسلامي متمثلاً‌ في السنة الشريفة و هذا من نحو ما ورد عن الإمام علي× و هو أمر تحدثنا عنه في حقل التربية و علم النفس، يقول الإمام علي× : «أن الله سبحانه وتعالى ركب في الملائكة عقلاً بلا شهوة و ركب في البهائم شهوة بلا عقل و ركب في بني آدم كلتيهما فمن غلب عقله شهوته فهو خير من المائكة، و من غلب شهوته عقله فهو شر من البهائم» إن هذا النص يوضح بجلاء تام طبيعة التركيبة البشرية القائمة على‌التجاذب بين نمطين هما النمط الشهواني و النمط العقلي حيث صور الإمام علي× هذا التجاذب عبر نصوص اُخرى فيقول مثلاً بما مؤداه: «التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها و أعطوا أزمتها».
و يقول عن الجانب الآخر أي الجانب التجاذبي الآخر و يصطلح عليه بمصطلع الخطايا أي الشهوة يقول: «الخطايا هي خيل شمس حمل عليها أهلها و خلعت لجمها » لنلاحظ كيف يصور الإمام علي× طبيعة التجاذب البشري بين قوتي الخير و الشر فيشبه قوة الخير بالمطايا الذلل، أي الدواب الذليلة في السير بحيث يستطيع الراكب عليها أن يوجه هذه المطايا حيث يشاء من خلال عقله، و أما الجانب التجاذبي الآخر و هو الشهوة ، و يقدم له تشبيهاً آخر يقول: أي أن الشهوة هي تمائل الدواب أو الخيول الجامحة التي لا يستطيع الراكب أن يسيطر عليها لأن اللجام ليس بيده فلذلك لا يستطيع أن يتحكم في سيرها بل هي اتي تسيره إلى ما تشاء، لأنها تمثل الجموح بعدم الانقياد إلى الراكب، بل تجنح إلى ذاتها هي و حينئذ لا يستطيع الراكب أن يسيطر عليها.
و هذا من الوضوح بمكان كبير من حيث كونه يجسد الصراع البشري بين ما هو خير و بين ما هو شر ، فالشخصية التي تمتلك يقيناً معرفياً تستطيع من خلال هذا اليقين أن تسيطر على شهواتها و بالعكس مقابل ذلك نجد الشخصية الشريرة التي تنصاع إلى شهواتها منخلال المثال المتقدم لا تحكم عقلها و لا تستطيع أن تسيطر على نفسها بل تترك لشهواتها في مختلف الميادين تترك لشهواتها التحرك و تنصاع إلى‌ ذاك، المهم إن هذا التفصيل بطبيعة التجاذب البشري الذي لا حظناه من خلال سلوك ثلاثة نصوص ورادة عن الإمام علي× و نستطيع أن نضيف إليها نصاً رابعاً وراداً عن النبي’ حيث يقول: بأن تدريب النفس الإنسانية على الطاعة يستتبع في نهاية المطاف النفور من المعصية ، هذا الكلام الذي نقلنا مؤداه ورد عن النبي’‌في نص حديثي مطول قسم فيه السلوك إلى عشرة مظاهر، و قسم كل ظاهرة إلى‌عشرة مفردات متفرعة منها، و من ذلك ما قلناه الآن و هو إشارة النبي’ إلى أنه تتشعب من المدوامة على عمل الخير كراهية الشر، أي أن الشخصية إذا دربت على ممارسة ما هو خير من الأعمال حينئذ فإن هذه الممارسة سوف تجعلها بالضرورة كارهة لما هو شر من الأعمال، فمثلاً إذا دربت الشخصية على سبيل المثال على أن لا تمارس اغتياب الآخرين، حينئذ فمن خلال هذا التدريب خلال مدة نجد أن هذه الشخصية تنفر و تكره أي ممارسة للغيبة ، و هذا على العكس مما لو سبح للشخصية بأن تمارس شهوتها دون أن تدرب على مقاومتها.
و المهم أن هذه التفصيلات التي ذكرناها الآن لم تطرح في القرآن الكريم و لكنها طرحت بنحو إجمالي على نحو ما سنتحدث عنه الآن فنقول:
لقد وردت أكثر من آية قرآنية كريمة تشير إلى‌التركيبة البشرية بنحو عام فمثلاً نطالع الآيات القرآنية‌ الكريمة الواردة في سورة الحجرات فتقول: {و لكنّ الله حبّب إليكم الإيمان و زيّنه في قلوبكم و كرّه إليكم الكفر و الفسوق و العصيان} لنلاحظ هذا النص القرآني الكريم و هو يمثل أصلاً عاماً بالتركيبة البشرية و تستطيع السنة الشريفة أن تلقي إنارات المتنوعة على هذا الجانب بالشكل الذي تحدثنا عنه قبل قليل، طبيعياً أن التركيبة البشرية القائمة على التجاذب كما لا حظنا من خلال إشارة النبي’‌من خلال أنّ الشخصية إذا دربت ذاتها على الطاعة حينئذ فسوف تكره الشر لكن هذه الآية القرآنية الكريمة توضح لنا منحى آخر من التركيبة البشرية و هو منحى توفر عليه علماء النفس و التربية و الاجتماع حاولوا من خلال ذلك أن يتوفروا على دراسة طبيعة التركيبة البشرية من حيث كل كونها محايدة بالأصل أم تركيبة شريرة، أم تركيبة خيرة، فهناك من يذهب من علماء النفس إلى أن التركيبة البشرية أساساً قائمة على عنصر شرير، و هناك من يذهب إلى عكس ذلك هو أن التركيبة البشرية قائمة على عنصر خير، و هناك من يذهب إلى أن التركيبة البشرية محايدة و أن التنشئة هي التي تستطيع أن تصوغ الشخصية شريرة أو خيرة، من خلال التدريب البيئي المعروف.
هنا نجد أن القرآن الكريم يحسم هذا الموقف ليقول أن الله سبحانه و تعالى حبب الإيمان إلى النفس البشرية من جانب، و زينه بطبيعة الحال مقابل الكفر و الفسوق و العصيان و هو الجانب الشرير من الشخصية، يقول النص أن سبحانه وتعالى كره النفس البشرية هذا النمط من السلوك، و إذا تركنا الآن هذه الآية القرآنية الكريمة إلى آيتين قرآنيتين كريمتين سبق أن استشهدنا بهما: {و نفس و ما سوّاها * فألهمها فجورها و تقواها}  نجد أنهما تشيران إلى البعد المعرفي الفطري للشخصية البشرية بحيث تستطيع من خلال فطرتها أن تدرك ما هو خير و ما هو شر.
إذن: من خلال الجمع بين هذين الموقعين الكريمين من واقع القرآن الكريم يمكننا أن نقول بأن الله سبحانه وتعالى ركّب في البشرية طبيعة تتمثل على النحو الآتي: من حيث الجانب الفكري العام، فقد فطر الله سبحانه وتعالى البشرية على التوحيد أي على أن يوحّدوه دونما حاجة إلى‌ أن يتعلموا ذلك أي يدركون بأن لهذا الكون مبدعا هو الله سبحانه و تعالى ، هذا من حيث الزاوية الفكرية، و من حيث الزاوية النفسية العامة و هي زاوية تتناول البعد الفكري والوجداني نجد أن الآية التي قرأناها في سورة الحجرات و هي الآية المشيرة إلى أن الله حبب إلينا الإيمان و كره الفسوق و العصيان، هذه الآية تجسد الجانب الفكري النفسي في آن واحد بصفة أن الفسوق و العصيان تمثل سلوكاً ملتوياً دون أدنى شك، و هو سلوك نفسي كما تحدثنا عن هذا الجانب في التربية و علم النفس و كما تحدثنا عنه عابراً أيضاً سابقاً حين قلنا أن الإسلام لا يفصل بين ما هو نفسي و بين ما هو فكري، أي لا يفصل بين ما هو سلوك إسلامي و بين ما هو سلوك نفسي صرف، فالسلوك الإسلامي المتمثل في الإيمان بالله سبحانه و تعالى مثلاً لا ينفصل عن السلوك الإسلامي المتمثل في أن الشخصية المستوية لا التواء فيها: أي: لا تعاني عصاباً أو أمراضاً نفسية، إذن: عندما يقول النص القرآني الكريم بأن الله سبحانه وتعالى كره الفسوق و العصيان و الكفر إنما جمع بين ما هو نفسي و بين ما هو فكري و أيديولوجي و جعلهما بمثابة مؤشر واحد إلى‌ سمة إيجابية أو سلبية في تركيبة الشخصية‌. إذن: من حيث البعد الفكري و البعد النفسي لا حظنا كيف أن الآيات المتقدمة تحدثت عن الطبيعة البشرية من خلال الذهاب إلى أن الله سبحانه و تعالى جعل التركيبة البشرية خيرة فطريا. و بهذا حسم الموقف من الاتجاهات المرددة هل الإنسان تركيبة خيرة و شريرة أو محايدة . و من الجانب الآخر أي الجانب المعرفي الصرف أيضاً ركب الله الطبيعة البشرية تلكم التركيبة التي تميز بين ما هو خير و بين ما هو شر. إلى هنا نعرف أن مسألة الفطرة هي المحور الذي أكد القرآن الكريم عليه و رسمه لنا حتى نركز في أذهاننا بأن المسألة الإيمانية هي مسألة فطرية أي بمعنى أن الله سبحانه و تعالى فطرنا على أن نؤمن به و على أن نسلك السلوك الإيجانبي من خلال الإشارة إلى أننا ألهمنا الفجور و التقوى، و أننا نستطيع أن نميز بينهما حتى لو لم نخضع إلى تربية خاصة، بمعنى أن الإنسان حتّي لو كان متوحشاً حتّى لو كان بمعزل عن أية بيئة يدرك بفطرته أن العدوان على الآخرين، مثلاً (سرقة أموالهم) هو عمل شرير سواء أكانت التربية التي تعرض لها قد اتجهت إلى توضيح هذا الجانب أولا، و كذلك بالمقابل يعرف أن عمل الخير كالعدالة مثلاً أو كمساعدة الآخرين يدرك في فطرته أن مساعدة الآخر هو عمل إيجابي و يدرك بفطرته أن التساوي بين شخصين هو عمل إيجابي و هكذا، إذن: في هذا النطاق كلنا مفطورون على‌التوحيد من جانب، وعلى‌معرفة الخير و الشر من جانب آخر، و هذا النمط من الطرح القرآني الكريم له أهمية كبيرة جداً بحيث يشكل حجة على‌ البشرية جميعاً‌أي: لا يستطيع أي واحد من البشر جميعاً أن يحتج قائلاً بأنه عمل هذا العمل جهلاً ما دام الله سبحانه و تعالى قد الفت نظره إلى معرفة هذا الجانب فطرياً‌ و ليس بيئياً، نعم هناك نقطة مهمة جداً أيضاً‌و هي أن هناك وجود فوارق بين المعرفة البديهية الفطرية بنحو إجمالي كالأمثلة التي قدمناها و بين التفصيلات التي تفضي إلى مئات من المفردات السلوكية التي نحياها يومياً، هذه المفردات في الواقع تحتاج إلى‌جنبة تفصيلية و هذا ما تضطلع به الرسل و الأنبياء كما تحدثنا عن ذلك سابقاً عبر حديثنا عن المحور العقائدي، حيث قلنا انّ وظيفة الأنبياء تضطلع بتفصيل ما هو مجمل، أي توضيح المبادىء التي طلب من الله سبحانه و تعالى أن نمارسها في هذه الحياة التي خلقنا من أجل ممارسة الخلافة أو العبادة فيها.
إذن: الطرح القرآني الكريم لهذا الجانب دون الدخول إلى التفصيلات التي لاحظناها عند مقولات النبي’ و الإمام علي× : إن هذا الطرح من جانب و التفصيل الذي قدمه النبي’‌و الإمام علي× يفرز لنا ما سبق أن كررناه من أن النص القرآني الكريم يطرح ما هو مجمل و يدع للسنة الشريفة أن تضطلع بتفصيل ذلك و لكن من زاوية اُخرى نود أن نؤكد و هذا ما نقره هو أن ما يطرحه القرآن الكريم من قضايا مجملة أو ما ينتخبه من طرح مفردات معينة دون سواها معنى ذلك أن طرح هذه الظاهرة المعينة تحمل خطورتها دون أدنى‌ شك و هذا ما لا حظناه الآن بالنسبة إلى تركيبة الطبيعة البشرية وجدانياً، حيث عرفنا كيف أن البشر فطرياً من الزاوية الوجدانية ألهمهم الله خصلة التوحيد والإيمان و من الناحية الفكرية معرفة ما هو خير و ما هو شر، حتى يترتب على سلوكه أو بالأحرى حتى لا يحتج الإنسان ذات يوم على أنه لم تصل إليه المعرفة التي تحسم له الموقف في الحياة.
الآن إذا تركنا هذا الجانب المتصل بطبيعة التركيبة البشرية بصفته يمثل مادة من المواد المعرفية للقرآن الكريم بهذا النحو الذي قلناه الآن من جانب آخر، من هنا إذا أردنا الآن أن نتابع رصد المادة المعرفية القرآنية التي تتحدث عن الظاهرة النفسية سواء أكانت هذه الظاهرة تتحدث عن طبيعة التركيبة البشرية أو (الدوافع) و هو أحد محاور مادة علم النفس، أو تتحدث عن (الشخصية) و هو المحور الثاني لمادة علم النفس، أو تتحدث عن عملية (الإدراك) و هو المحور أو المادة الرابعة من مواد علم النفس التي تتناول من خلال المعرفة المشار إليها، نقول: إن القرآن الكريم يطرح ما هومجمل ويترك التفصيلات للسنة الشريفة و بما أننا تحدثنا عن هذا الجانب في مادة علم النفس و التربية الإسلامية حينئذ لا نتعرض إلى هذا الجانب و ندع القارىء و هو يتناول هذه المادة و هي مادة علم النفس و التربية يستطيع أن يواجه هذه المادة في مصادرها التي تحدثنا عنها.
المهم لو تابعنا الآن سائر الموارد أو سائر المواد المعرفية التي طرحها القرآن الكريم لا نجد ضرورة لتناول هذه المادة بقدر ما نجد ضرورة تشير إلى‌ أن المعنيين بشؤون الظاهرة النفسية و هم قد طرحوا عشرات الكتب التي تتحدث عن مادة علم النفس، نقول: في الواقع أن كثيراً‌ من هذه الداراسات تظل مشيرة في الواقع إلى مجرد الإيماءات الواردة في القرآن الكريم و من ثم فإنها تحمل عنوان القرآن و المادة النفسية لكنها تظل متكئة كما قلنا على السنة الشريفة في توضيح كثير من المفردات، و نكتفي بإيراد مثل واحد طرحه علماء النفس في دراساتهم حول المادة النفسية لندلّل من خلاله على‌ أن القرآن الكريم ينبغي أن نستوحي منه مادته الإجمالية من جانب و تركيزه على هذه المادة و تلك من جانب ثان نتوكأ على السنة الشريفة بتجلية هذين الجانبين بوضوح و المفروض بالنسبة السنة الشريفة (و هذا ما نود أن نؤكده)، ينبغي أن يتم من خلال الوقوف على المصادر التي أمرنا الله سبحانه و تعالى‌بالرجوع إليها، إن الله أمرنا بالرجوع إلى الكتاب و إلى العترة حيث أمرنا أن نتمسك بهما (الكتاب و العترة) دون سواها، و لكن غالبية الدراسات التي تناولت هذه المادة و غيرها أيضاً تظل في الواقع متّسمة بنقص كبير هي أنها تجيء إلى النص القرآني الكريم، و لما لم تجد تفصيلات ما يطرحه إجمالاً، و لا تجد في مصادرها المحدودة جداً، أي المصادر التي لا تتجه إلى‌العترة الطاهرة نجد أنها تظل متسمة بالشحوب بحيث لا تستطيع أن يؤلف مادة قرآنية كريمة في هذا المجال ، بينما نجد أن الرجوع إلى أهل البيت^ سوف يحل هذه المشكلة حيث سيعثر على عشرات النصوص التي تتحدث عن التركيبة البشرية بالشكل الذي لا حظناه في دراساتنا الخاصة بعلم النفس الأسلامي، و عشرات النصوص التي تتحدث عن سمات الشخصيةو عن سائر المواد التي عرضنا لها الآن، هذا من جانب، و من جانب آخر نجد أن الدراسات القرآنية تتعسف في الواقع في استخلاصها لهذه الظاهرة النفسية من القرآن الكريم حتى أنها لتحمل القرآن الكريم ما لا يمكن أن يتحمله في هذا الميدان.
و نسوق مثالاً‌واضحاً بسيطاً ، هو أنّ هؤلاء الكتاب يتناولون مثلاً ثلاثة مصطلحات وردت في القرآن الكريم بالنسبةإلى التركيبة البشرية و هي المواد القائلة بالنفس (اللوامة) و النفس (الأمارة) و النفس (المطمئنة) ، فالمعروف أن النفس المطمئنة يقصد بها أن الشخصية التي مارست عملها العبادي بالنحو المطلوب فدخلت إلى الجنة و هي مطمئنة إلى سلوكها الصريح المشار إليه، و المعروف أن علم النفس يتحدث عن النفس، بمعني الأمارة بالسوء، أن الإنسان ينصاع لشهواته فيأمر بالسوء وفقاً للمثال الذي قدمناه قبل لحظات، و أما النفس اللوامة فتعني أن النفس تلوم ذاتها حينما تمارس عملاً خاطئاً فما دامت هي أساساً مفطورة على عمل الخير حينئذ لابد أن تلوم ذاتها، نجد أن هؤلاء الباحثين في الواقع حاولوا أن يطلقوا هذه الأنماط الثلاثة من النفس على نظرية في علم النفس التحليلي يقول صاحبها أن النفس تتركب من ثلاث قوى هي (الأنا) و (الأنا الأعلى )(و الهو)، (الهو) يقصد به مطلق الشهوات التي تركب في الإنسان، و (الانا) يقصد به الجانب العقلي الذي يحاول أن يكبح غرائز (الهو) و مطالب(الواقع) لأنه يمثل جهازاً خاصاً يمكن تسميته (بالضمير) الذي نشأت الشخصية عليه من خلال ميراث فطري اُسطوري يشير إليه الباحث، أو من خلال نمط التربية اللاشعورية التي تعرض لها خلال حياته.
المهم يحاول هؤلاء الباحثون أن يربطوا بين هذه الأنماط الثلاثة من القوى التي أشار إليها الباحث المشار إليه و بين الأنماط الثلاثة أي النفس الأمارة اللوامة و الأمارة بالسوء حاولوا أن يماثلوا بينها و بين هذا التقسيم الذي لاحظناه و هو خطأ محض دون أدنى شك، و المجال في الواقع لا يتسع إلى مناقشته الآن و لكننا طرحنا ذلك مفصلاً في كتابنا (الإسلام و علم النفس) و يستطيع القارىء أن يعود إليه لمعرفة هذه الجوانب جميعاً.
نكتفي الآن بهذا المقدار من الحديث عن المادة النفسية للقرآن الكريم و نتجّه إلى الحديث عن صلة المادة القرآنية الكريمة بالظاهرة الاقتصادية.

القرآن و الاقتصاد أو المادة الاقتصادية

القرآن و الاقتصاد أو المادة الاقتصادية
يظل التناول للظاهرة الاقتصادية مطبوعاً بنفس السمة التي ذكرناها سابقاً، أي يتناولها حينا من خلال الطرح المجمل أو من خلال طرح ما هو أصل و ترك ما هو فرعه و ترك ما هو مفصل، كل ذلك يدعه النص القرآني لتضطلع السنة الشريفة به . هذا من جانب، و من جانب آخر يظل الطرح القرآني الكريم للظاهرة الاقتصادية مركزاً على جوانب محددة دون سواها نظراً إلى اقتضاء السياق ذلك.
و من هنا يمكننا أن نقول أن الطرح للظاهرة الاقتصادية يتخذ محورين يركز النص القرآني عليهما الأول هو المحور العام المتمثل في ميادين الإنتاج أو التداول أو التوزيع أو الاستهلاك، و أما الطرح الثاني يتناول الظاهرة التوزيعية المتمثلة في الإنفاق حتى أنه ليمكن القول بأنّ النصوص القرآنية الكريمة التي تتناول البعد الاقتصادي يظل شطر منها متناولا الزوايا الاقتصادية المتنوعة التي أشرنا إليها، و يظل النمط أو الشطر الآخر منها خاصا بالإنفاق، و هو أمر يدعو إلى التساؤل حينما يقال مثلاً : ما هو السر الكامن وراء الطرح القرآني الكريم لظاهرة الإنفاق بهذا النحو من التأكيد بحيث يظل الحديث عن ظاهرة الإنفاق مستغرقاً مساحة كبيرة من القرآن الكريم لدرجة أن كل واحد منا من الممكن أن يلاحظ كيف أن القرآن الكريم مثلاً قرن الصلاة بظاهرة الزكاة و جعلهما و كأنهما لا ينفصل أحدهما عن الآخر . و الزكاة كما نعرف ذلك جميعاًَ هي واحدة من ظواهر الإنفاق المتعددة كالخمس و الصدقة و الإنفاق بمستوياته الواجبة و مستوياته المندوبة و ما إلى ذلك؟ كل هذا يدعنا نتساءل من جديد ما هو السر الكامن وراء الحثّ القرآني الكريم على ظاهرة الإنفاق و جعل ذلك المادة العظمى بالنسبة إلى البعد الاقتصادي و ما يقابله من الحديث عن الظواهر أو الأبعاد الاقتصادية ‌الاُخرى المتصلة بمسائل الإنتاج و التبادل و الاستهلاك؟ و للإجابة عن الشطر الأول من هذا السؤال نقول:
بما أن الحديث يظل بنحو عام هو حديث السمة الأخلاقية التي ينبغي أن تمرر على جميع الأنماط من السلوك حينئذ فإن التفسير لهذه الظاهرة الأخيرة الأخلاقية يأخذ مسوغاته حينما نقول بوضوح بما أن الإنفاق يشكّل سلوكا منفتحا للشخصية حيال الآخر حينئذ فإن تركيز القرآن الكريم و السنة الشريفة على ظاهرة الانفتاح على الآخرين و سحق الذات ووادها، نقول: هذا الطابع الأخلاقي الذي يسم جميع الأنماط من السلوك اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً.. الخ. كل ذلك يفسر لنا سبب التركيز أو التشدد في ظاهرة الإنفاق بهذا النحو الذي تتناوله مختلف السور القرآنية الكريمة.
و يمكننا على سبيل المثال أن نقرأ ما ورد في سورة البقرة من تشديد لهذا الجانب و من تقديم أمثلة متنوعة أو بالأحرى تقديم صور فنية متنوعة لبلورة مفهوم الإنفاق لنقرأ مثلاً: { مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة و الله يضاعف لمن يشاء و الله واسع عليم، الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا منّا و لا أذى لهم أجرهم عند ربهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، قول معروف و مغفرة خير من صدقة يتبعها أذى و الله غني حليم، يا أيّها الّذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى كالّذي ينفق ماله رئاء الناس و لا يؤمن بالله و اليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا و الله لا يهدي القوم الكافرين. و مثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله و تثبيتاً من أنفسهم كمثل جنّة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطلّ و الله بما تعملون بصير، أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات و أصابه الكبر و له ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون، يا أيها الّذين آمنوا انفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه و اعلموا أن الله غني حميد. الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلاً و الله واسع عليم} إلى أن يقول : {و ما أنفقتم مّن نّفقةٍ أو نذرتم مّن فإنّ الله يعلمه و ما للظّالمين من أنصار * إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لّكم و يكفّر عنكم مّن سيّئاتكم و الله بما تعملون خبير} .
ثم يقول: {و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم و ما تنفقون إلّا ابتغاء وجه الله و ما تنفقوا من خير يوفّ إليكم و أنتم لا تظلمون *  للفقراء الّذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف تعرفهم بسيماهم لا يسألون النّاس إلحافاً و ما تنفقوا من خير فإنّ الله به عليم *  الّذين ينفقون أموالهم باللّيل و النّهار سرّاً و علانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم و لا خوف عليهم و لا هم يحزنون} لنلاحظ كيف أن هذا الموقع من مواقع سورة البقرة قد خصص للحديث عن ظاهرة الإنفاق بهذه المستويات من التفصيلات التي و بهذا المستوى من التكرار لظاهرة الإنفاق.
أولئك جميعاً يفصح بلا ترديد فيه من أن الإنفاق يظل ظاهرة اقتصادية لها أهميتها العظمى كما قلنا بالنسبة إلى سلوك الشخصية الإسلامية و هو أمر يدعونا إلى التأمل و التدبير في هذا الجانب ما دمنا قد لاحظنا كيف أن ظاهرة الإنفاق يؤكد عليها بهذا الشكل و هو يتناول موقعاً واحداًَ من مواقع النص القرآني الكريم .
و كيف بنا إذا تابعنا سائر الموارد التي تنتظمها سور القرآن الكريم بالنسبة إلى هذه الظاهرة؟ و كما قلنا فإن التفسير النفسي لهذه الظاهرة يتمثل في حرص المشرع الإسلامي على تدريب ذواتنا على الانفتاح نحو الآخرين و قضاء حوائجهم بدلاً من الانغلاق حول الذات و التمحور حيالها حيث أن السمة السوية في السلوك تتمثل في أبرز مستوياتها في الانفتاح نحو الآخرين و قضاء حوائجهم و في مقدمة ذلك القضاء للحاجات الاقتصادية ، و إذا كان الانفتاح نحو الآخر و تعميق أواصر المحبة بين الأطراف الاجتماعية في المجتمع الإسلامي يظل هو الهدف من وراء الإنفاق المشار إليه حينئذٍ فثقة محور مهم جدّاً يدور عليه موضوع الإنفاق ألا و هو كما لاحظنا في الآيات المتقدمة كيف أن النص القرآني الكريم يقرر بأن الإنفاق ينبغي أن يقترن بلغة أخلاقية عالية و لذلك قال: {قول مّعروف و مغفرة خير مّن صدقة يتبعهآ أذيً}، لنلاحظ كيف أن القرآن الكريم يؤكد ظاهرة العز للشخصية التي تتسم بالإنفاق من الآخرين حيث أن ظاهرة العز بدورها تظل موضع تشدد بالغ المدى حيث يقر المشرع الإسلامي بأن المؤمن قد يمارس كل شيء و لكن لا يسمح له بأن يذل نفسه، و حينئذ فإن الإنفاق المصحوب بالمن سوف يذل الشخصية.
و من هنا وردت عدة آيات و هي تؤكد هذا الجانب و تقدم لنا تشبيهات و استعارات لتوضيح الدلالة المشار إليها. و لعل التأكيد على هذا الجانب يتمثل في سلوك أهل البيت^ عندما كانوا يقدمون صدقة للآخرين كانوا يخفون وجوههم عن السائل حتى لا يرى أثر الذل على وجهه، و حينئذ مع هذا الحرص البالغ المدى نجد أن الشخصية الإنفاقية قد قرنها القرآن الكريم بهذا الجانب تأكيداً لعز الشخصية الإنفاقية قد قرنها القرآن الكريم بهذا الجانب تأكيداً لعز الشخصية من جانب، حتى أنه أشار في النص القرآني الكريم عبر و قوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التّعفّف} أي أن الشخصية بلغت من العز لديها أن الملاحظ يتصور و كأنها شخصية غنية و لكنها فقيرة في الواقع. بيد أن التعفف و هو العز يحتجزها من أن تظهر بمظهر الفقير، و هذا يعني أن البحث عن العز أو الحرص على العز يظل طابعاً له أهميته في التصور القرآني الكريم للشخصية.
و هذا بما يتصل بجانب المنفق عليه، أما المنفق نفسه فمن الواضح جداً أن النص القرآني الكريم يستهدف تدريب الشخصية على أن تنفق في سبيل الله و أن لا تتمحور حول ذاتها بصفة أن المن و الأذي يظل إفرازاً للذات كما هو واضح.
اخيراً: فإن التصور للإنفاق الإسلامي من خلال الطرح القرآني الكريم قد رسمه من خلال نمطين هم الوجوب و الندب و مجرد كون هذا الطرح يتخذ نمطين نستكشف منه بعداً آخر من أبعاد الأهمية التي يخلعها النص القرآني الكريم على ظاهرة بذل المال، فمن جانب نجده كما قلنا يؤكد هذه الظاهرة من خلال ما هو واجب كالزكاة و الخمس و كالصدقة و كالكفارات المتنوعة ألتي شرعها الإسلام أيضاً من أجل توفير أو من أجل تحقيق عنصر الإنفاق بالشكل الذي تحدثنا عنه.
و لعل هذا أيضاً بدوره يجسد واحدا من الطرائق المهمة التي تفصح عن خطورة الانفاق أي بذل المال، أو الطعام للآخرين حيث أن مجرد تشريع الكفارات و هذا ما طرحه القرآن الكريم أيضاً كالكفارة المتصلة بالإفطار أو الكفارة المتصلة بالحلف و ما إلى ذلك، أولئك جميعاً تمثل نمطا آخر من الأنماط التي شرعت من أجل تمرير ظاهرة بذل المال و الطعام و نحو ذلك نظراً‌ لما تتسم به هذه المستويات من الإنفاق من الأهمية، و إذا تجاوزنا هذا الجانب المرتبط بما هو واجب حينئذ نتجه إلى الجانب الآخر و نعني به المندوب، حيث أن الندب إلى الظاهرة الانفاقية أيضاً يأخذ تأكيداً عبر النص القرآني الكريم كالإشارة مثلاً إلى الآية التي تقول: {والّذين في أموالهم حقّ مّعلوم *  لّلسّائل و المحروم} .
و الآية التي، تقول: {و يمنعون الماعون} حيث أن الآية‌ الاُولى تشير في الواقع إلى ما ذكره المعصومون^ من خلال قولهم إن الحق المعلوم ليس من الزكاة، هذه العبارة لأن الزكاة واجبة كما هو واضح (و هو الشيء الذي تخرجه من مالك إن شئت كل جمعة أو كل يوم و لكل فضل فضله).
و روي أيضاً عنه كما ورد في التفسير (أن تصل القرابة و تعطي من حرمك و تتصدق حتى على من عاداك) و أما الآية الاُخرى و نعني بها الآية المشيرة عبر قوله تعالى : {ويمنعون الماعون} نجد أن هذه الآية يفسرها النص الوارد عن أهل البيت^ (هو القرض تقرضه و المعروف تصنعه و متاع البيت تعيره) و منه الزكاة بطبيعة الحال. لنلاحظ كيف أن هذا النمط من الإنفاق المندوب ندب إليه المعصوم× من خلال النصّ القرآني الكريم بحيث سحبه حتى على من نعادي أو يعادينا، أي الإنفاق حتى‌على‌من يعادي يظل فارضاً أهميته نظراً لما قلناه من جانب تدريب على تطهير الذات و الانفتاح نحو الآخر، و من جانب ثان هو إشباع لحاجات الآخرين.
إلى هنا نكون قد تحدثنا عن الشطر الأول من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم متمثلاً في ظاهرة الإنفاق حيث كان هدفنا من صب الحديث عن هذه الظاهرة هو أهميتها التي تجسدت في حرص القرآن الكريم ذاته على إبراز هذا الجانب في مختلف السور القرآنية الكريمة و في مقدمة ذلك ما لا حظناه من الإسهاب في طرح هذه الظاهرة عبر سورة البقرة بالنحو الذي قرأناه.
المهم نتجه الآن إلى الحديث عن الشطر الآخر من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم حيث نجد أن النص القرآني الكريم يتناول هذه الظاهرة كما كررنا، يتناولها إجمالا و لكن من زواياها المتنوعة، و من جانب آخر يركز على جانب دون آخر أيضاً نظرا لما يتطلبه السياق الذي ينتظم هذه السورة أو تلك، نقول: إن الطرح الإجمالي للظاهرة الاقتصادية من خلال القرآن الكريم يتناول كلا من الانتاج و الاستهلاك ، ففي ميدان الإنتاج مثلاً و مصادر الطاقة كذلك تشير إلى أن الله سبحانه و تعالى سخر لنا الوجود و ما فيه من طاقات جوية و برية و بحرية كما أشار إلى مصادر الثروة النباتية و الحيوانية و الجمادية، و يمكننا أيضاً كما استشهدنا بنص من سورة البقرة يتناول ظاهرة الإنفاق يمكننا أن نستشهد بنص من سورة النحل يتناول هذه الظواهر التي أشرنا إليها و لنقرأ الآيات المرتبطة بهذا الجانب، لقد أشار النص القرآني الكريم في سورة النحل إلى ظاهرة الثروة الحيوانية، فقال: { و الأنعام خلقها لكم فيها دفء و منافع و منها تأكلون} .
و أشار إلى الثروة الجوية و النباتية، فقال: {هو الّذي أنزل من السّماء ماء لّكم مّنه شراب و منه شجر فيه تسيمون * ينبت لكم به الزّرع و و الزّيتون و النّخيل و الأعناب و من كلّ الثّمرات إنّ في ذلك لآية لّقوم يتفكّرون} .
ثم أشار إلى تسخير الليل و النهار و الشمس و لا نجوم، فقال: {و سخّر لكم الّيل و النّهار و الشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات بأمره} . و أشار إلى الثروة الأرضية: {و ما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إنّ في ذلك لآية لّقوم يذّكّرون}.
و أشار إلى الثروة البحرية: {و هو الّذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طريّاً و تستخرجوا منه حلية تلبسونها و ترى الفلك مواخر فيه و لتبتغوا من فضله و لعلكم تشكرون.} .
و أشار أيضاً إلى الأرض فقال: {و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم و أنهاراً و سبلاً لّعلّكم تهتدون..} و أشار إلى السماء:{ و علامات‌ و بالنّجم هم يهتدون}.
و أشار من جديد إلى الثروات الثلاث و هي الثروة الحيوانية والبرية والمائية فقال: {و الله أنزل من السّماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيةً لّّقوم يسمعون * و إنّ لكم في الأنعام لعبرةً نّسقيكم مّمّا في بطونه من بين فرث و دم لّبناً خالصاً سآئغاً للشّاربين * و من ثمرات النّخيل و الأعناب تتّخذون منه سكراً و رزقاً حسناً إنّ في ذلك لآيةً لّقوم يعقلون * و أوحى‌ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتاً و من الشّجر و ممّا يعرشون * ثمّ كلي من كلّ الثّمرات فاسلكي سبل ربّك ذللاً‌يخرج من بطونها شراب مّختلف ألوانه فيه شفاء للنّاس إنّ في ذلك لآيةً لّقوم يتفكّرون} و أشار من جديد إلى الأرض و معطياتها و إلى الثروة الحيوانية و معطياتها فقال: { و الله جعل لكم مّن بيوتكم سكناً و جعل لكم مّن جلود الأنعام بيوتاً تستخفّونها يوم ظعنكم و يوم إقامتكم و من أصوافها و أوبارها و أشعارها أثاثاً و متاعاً إلى حين * و الله جعل لكم مّمّا خلق ظلالاً و جعل لكم مّن الجبال أكناناًَ و جعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ و سرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتمّ نعمته عليكم لعلّكم تسلمون} . طبيعياً لو تابعنا سائر السور القرآنية الكريمة للاحظنا أمثلة هذه الإشارات إلى البعد الاقتصادي متناثرة هنا و هناك، و لكن نكتفي بهذا لنشير أيضاً إلى أن نتفكر و نتعقل و نتدبر و ما إلى ذلك حيث أن البعد الاقتصادي قد يقترن في تصورات الأرضيين المنعزلين عن السماء يقترن بأهمية كبيرة بمجرد كونه بعداً اقتصادياً إلا أن القرآن الكريم حينا يطرح كل آية تتحدث عن البعد الاقتصادي و ما سخره الله لنا في الأرض يختتم كل آية تتحدث عن هذا المعطى أو ذاك يختتم بالإشارة إلى أن نتدبر و نتعقل و نتبين حتى لا يصبح البعد الاقتصادي مسيطرا علينا، و كأنه الهدف بذاته أو يظل و كأنه يكتسب أهمية كبيرة بالقياس إلى ما هو أهم منه ألا و هو ممارسة العمل العبادي في الأرض و هو العمل الذي خلقنا من أجله كما هو واضح.
و الآن إذا تابعناسائر ما طرح في القرآن الكريم من بعد اقتصادي نجد دعوته إلى العمل تظل من الوضوح بمكان حينما يشير عبر قوله تعالى: {فامشوا في مناكبها و كلوا من رّزقه..} ، و كذلك بالنسبة إلى‌عملية (التداول) متمثلة في عملية البيع و الشراء حيث ركز عليها. و بالمقابل حرم ظاهرة الربا حيث نستخلص أيضاً من هذا الطرح تحليل البيع و الشراء و تحريم الربا نستخلص بعداً أخلاقيا له أهميته الكبيرة ألا و هو عدم الاستغلال كما هو واضح.
و أخيراً فإن البعد الاقتصادي في عملية الاستهلاك تظل حاملة أهميتها الكبيرة حيث تشير الآية الكريمة القائلة: {كلوا و اشربوا و لا تسرفوا..} .
تشير هذه الآية إلى مبدأ استهلاك مهم ألا و هو الاقتصاد و نعني بالاقتصاد ليس مصطلحه الأرضي إنما هنا يعني التوسط في الاستهلاك، و بتعبير آخر الاستهلاك بقدر الحاجة و حسب أو مبدأ الكفاف، حيث يظل في الواقع مبدءاً استهلاكياً له أهميته في ميدان التعديل لسلوك الشخصية حيث يجعلها من خلال عنصر القناعة متوازنة لا تحيي التمزق أو التوتر أو الصراع بل تقتنع بما يسد حاجتها و من ثم نتجه بنشاطها إلى ممارسة عملها العبادي المطلوب.
المهم إن هذين المستويين من الطرح الاقتصادي في القرآن الكريم و نعني بهما الطرح المتمثل في الإنفاق من جانب، و الطرح المتمثل في الإشارة إلى‌ الاستهلاك و ما إلى ذلك من جانب ثان، تظل هذه الجوانب أو يظل هذان الجانبان من الأهمية بمكان كبير بالنحو الذي أوضحناه. على أية حال نكتفي الآن بهذا المقدار الذي تحدثنا عنه من خلال طرح القرآن الكريم للبعد الاقتصادي متمثلاً في شطريه الشطر المتمثل مطلق الإنفاق و الشطر المتصل بممارسة العمليات الاقتصادية كالإنتاج و التداول و التوزيع و الاستهلاك بالنحو الذي قدمنا الحديث عنه.
بهذا ينتهي حديثنا عن البعد الاقتصادي أو المادة المعرفية المرتبطة بالبعد الاقتصادي و نتجه بعد ذلك إلى حديث عابر أيضاً عن سرائر الضروب المعرفية و فيها ما يتصل بالبعد الاجتماعي ، ضمن عنوان هو:

القرآن و المعرفة الاجتماعية

القرآن و المعرفة الاجتماعية
إن النص القرآني الكريم تناول البعد الاجتماعي من خلال زواياه المتنوعة بدءاً من الاُسرة التي تعد أهم مركب اجتماعي و انتهاءاًَ إلى الاُمة الإسلامية أي بدءاً من أصغر وحدة إجتماعية كالعائلة و من ثم القرابة والجوار و الصداقة و نحو ذلك من الوحدات الاجتماعية التي يطلق عليها مصطلح (الجماعة المحلية) و انتهاءاً كما قلنا بأوسع المركّبات الاجتماعية متمثلة في الدولة أو الاُمة التي هي أوسع المركبات الاجتماعية . ففي نطاق الاُسرة مثلاً لا نجدنا بحاجة إلى عرض لما طرحه النص القرآني الكريم . و يكفينا مثلاً أن سورة البقرة تتناول عشرات الآيات منها مسائل الاُسرة من زواج و طلاق و تعامل بين طرفي العائلة الزوج والزوجه و كذلك بالنسبة إلى الذريّة و ما يلحق بهذه المستويات من الطرح من مفهومات أو مما يرسم من خطوط لعلاج المشاكل الاُسرية و نحو ذلك، مما لا نريد أن نتحدث عنها نظراً لأن قسماً منها يتصل في الواقع بالأحكام الشرعية و القسم الآخر يطرح من خلال الإجمال و تترك التفصيلات إلى السنة الشريفة كما كررنا الإشارة إلى ذلك.
فمثلاً بالنسبة إلى البعد الاجتماعي نجد أن العائلة على سبيل المثال و هي التي تحظى بطرح كبير كما قلنا نجد أن الإشارة إلى أن الاتحاد بين كائنين هو (سكن) لهذين الطرفين من جانب و من جانب آخر الإشارة إلى أن الله جعل بين هذين الطرفين (مودة) حينئذ فإن توفير عنصر المودة من جانب، و ما ينسحب على هذه العلاقة من سكن و هدوء و طمأنينة من جانب ثان، حينئذ يفسر لنا بوضوح معنى التوازن الداخلي الذي بحياه كل من الكائنين في حالة ما إذا التزم بطبيعة الحال بما رسمه المشرع الإسلامي من حقوق و واجبات.
و من الواضح أن توثيق الصلة بين الكائنين المشار إليهما و من ثم انسحاب ذلك على الذرية حيث تجيء التوصية القرآنية الكريمة بطاعة الوالدين حتى لو كانا مشركين عدا ما يتصل بالممارسة المنهي عنها شرعا، نقول: تجيء هذه الظاهرة الأخلاقية المرتبطة بطاعة الوالدين جانباً مهما جداً من حيث تحقيق الوئام بين أفراد الاُسرة من جانب، و من حيث التثمين و التقدير للجهود التي يبذلها الوالدان أولئك جميعاً تشكل دون أدنى شك عنصراً مهما لتحقيق التوازن الداخلي لكل الأطراف المرتبطة بالأسرة، مضافاً إلى طرح الظاهرة مهمة جداً و هي أيضاً ظاهرة قوامية الرجل و ما تترتب على هذه القوامية من استقرار اجتماعي بحيث تتولى المرأة التربية البيتية و يتولى الرجل الإنفاق الاقتصادي و حينئذ مع تآزر هذين العنصرين : البعد الاقتصادي من جانب ، و البعد البيتي من جانب ثان، من حيث التربية التي تتوفر عليها المرأة و من حيث التقديم للنفقة التي تحدد الاستقرار، نقول: إن من هذين الجانبين خلالها أو التوازن العائلي المطلوب، مع ملاحظة أن التوازن هو إرهاص للتوازن الاجتماعي كما هو واضح بصفة أن العائلة هي الوحدة‌الصغيرة، و إن الوحدات الصغيرة تشكل المجتمع أو الاُمة أو الدولة..الخ.
و هناك بالنسبة إلى ظاهرة اُخرى تتصل بتعدد الزوجات و تعدد حالات الزواج، أي الزواج بحالاته المتمثلة بالدائم و المنقطع يتحقق فيه خلالها الاستقرار، و التعدد بالنسبة إلى الزوجات وصلة ذلك بالتوزيع السكاني للبشرية حيث تشير النصوص إلى أن الله سبحانه و تعالى جعل لكل شخص أربعة نساء من حيث التوزيع السكاني للبشرية  و من ثم فإن هذا التلاحم بين نمط التركيبة السكانية و بين نمط الزواج يحقق بدوره التوازن الاجتماعي، و الجدير بالذكر أن التوازن الفردي و الاجتماعي هو المطلوب أساساً في كل المجتعات و الأفراد كما هو بين بحيث تتولى المعرفة النفسية تحقق التوازن الداخلي و النفسي و تتولى المعرفة الاجتماعية تحقيق التوازن في العالم.
هذا بالنضافة إلى المستوى الآخر من المركبات الاجتماعية المتنوعة و التي يدخل بعضها ضمن مصطلح السياسة التي سنتعرض لها بعد قليل و التي يرتبط بعضها الآخر بمطلق التركيب الاجتماعي للبشرية حيث تشير الآية القرآنية الكريمة:{و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا}  تظل هذه التأشيرة أمراً واضحاً بالنسبة إلى التعايش السلمي الذي يتحقق للبشرية من خلال التعارف المشار إليه.
أخيراً يتعين علينا أن نشير عابراً إلى ما يطلق عليه مصطلح المعرفة الاجتماعية بالقوانين أو المبادىء الاجتماعية حيث رسم القرآن الكريم عدداً‌ من المبادىء المتنوعة تصب جميعاً في طابع أخلاقي لا تسع الدراسة الآن للحديث عنها بل قد تكفلت الكتب المدونة بالحديث عن الجانب المذكور.
و منها كتاب (الإسلام و الاجتماع).
و لكن نتحدث عن البعد السياسي ضمن عنوان:

القرآن و المعرفة السياسية

القرآن و المعرفة السياسية
بالنسبة إلى الجانب المرتبط بالبعد السياسي متمثلاً في المفهوم الذي يطلق عادة على المؤسسات السياسية و في مقدمتها مؤسسة الدولة، لكن بما أن الظاهرة الإسلامية ليست مؤسسة سياسية فحسب بل هي مؤسسة عامة تتناول كل مفردات النشاط البشري أيضاً، فإن تأطيرها في هيكل محدد لا يتوفق و طبيعة المؤسسة الإسلامية ككل.
إن الدولة كمؤسسة سياسية من الممكن أن تتم كما هو ملاحظ في الفترات الخاصة من التاريخ الإسلامي، و من الممكن أن لا تتم، إلّا أن ممارسة الخلافة أو العبادة في الأرض بقدر ما تتيحه مختلف الظروف للفرد و المجتمع من نشاط إيجابي أو سلبي في هذا الميدان أو ذاك تظل واجبة كما هو واضح، لذلك نجد أن طرح القرآن الكريم للمؤسسة السياسية لا يحدّد من خلال مفهوم (الدولة) بل يحدّد من خلال ما يطلق عليه مصطلح (الاُمة) بحيث نجد مصطلح (الاُمة) يتردد في مواقع متنوعة من القرآن الكريم . مثل قوله تعالى: {كنتم خير أمّة اخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن..} .
و لعل أهم دليل على أن المؤسسة السياسية لا يشترط تحققها في مفهوم الدولة‌ الإشارة القرآنية الكريمة القائلة ما معناه أن عباد الله الصالحين إذا مكنهم الله في الأرض فإنهم سيمارسون الطاعة. و هذا يعني أن تحقيق (الدولة) ليس هو دائماً من شروط المجتمع الإسلامي بقدر ما يعني أن الظروف كما قلنا هي التي تسمح بالقيام بهذه الفترة من الزمن أو تلك.
المهم الملاحظ هنا عبر الإشارة القرآنية الكريمة: { كنتم خير أمّة اخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر} إلى‌آخر الآية الكريمة إن هذا الطابع الأخلاقي يظل هو المستهدف كما لاحظنا، فالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يمثل حصيلة المبادىء التي رسمها الله سبحانه و تعالى للبشرية و طالبنا بأن نلتزم بها عبر مفهوم الخلافة أو العبادة في الأرض.
و هذا من حيث النشاط العام للمؤسسة الإسلامية المتمثلة في الاُمة أو المجتمع أو الجماعة، و القرآن الكريم ينظرا لهذا الجانب كما قلنا ليس من الزاوية السياسية المنحصرة في موسسة الدولة بل يسحبها على مطلق التجمعات السياسية كما قلنا، و لعل علماء الاجتماع عبر تعريفهم الدولة لا يسحبون هذا التعريف على مصطلحه السياسي المعروف، بل يسحبونه على أي تجمع خاضع لنظام خاص بما فيه التجمع العشائري مثلاً، المهم أن الطرح القرآني الكريم لهذا الجانب يتمثل في افتراض قيام أية مؤسسة سياسية سواء أكانت هذه المؤسسة دولة أو مجرد اُمة إسلامية أو مرجعية أو جماعة و ما إلى‌ذلك، نقول:
يطرح النص القرآني الكريم نمط التعامل في السياسة الداخلية و الخارجية مثلاً، و بالنسبة إلى الآية القرآنية الكريمة في سورة محمد’ حيث تقول: {مّحمّد رّسول الله و الّذين معه أشدّاء على الكفّار رحماء بينهم}  إلى آخر الآية القرآنية الكريمة، إن مصطلح الرحماء فيما بينهم هي تظل تعبيراً‌ واضحاًَ عن الاُمة الإسلامية المتراصة و التي تطبعها علاقات محكمة لا تنفصل عراها و هو أمر تشير إليه أيضاًَ آيات قرآنية اُخرى كالآية الكريمة القائلة: { إنّما المؤمنون إخوة} ، كما توضح أصول التعامل قائلة: { و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا الّتي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل} بعد ذلك يقول: {إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}.
لنلاحظ هنا كيف أن الطرح القرآني الكريم للمجتمع الداخلي للمؤسسة الإسلامية يتعامل أو يطرح من النمط من التعامل المشير إلى أن المؤمنين أخوة و يشير بعد ذلك إلى مبدأ التنازع و ما يترتب عليه من ضرورة الإصلاح مشيراً إلى أنه في حالة تنازع، على المجتمع الإسلامي أو على المسؤولين في هذا المجتمع أن يصلحوا بين الطوائف المتنازعة إلا في حالة ما إذا أصر طرفاً النزاع على الانحراف. و حينئذ فإن القتال يشكل ضرورة دون أدنى‌شك، و بهذا المستوى من الطرح ندرك تماماً المفهوم الذي طرحناه، إذ إن التوازن الاجتماعي يظل هو المستهدف من وراء صياغة المبادىء التي رسمها الله سبحانه و تعالى للبشرية.
فيما يتعلق بالسياسية الخارجية للمجتمع فإن طرح القرآني الكريم يظل من الوضوح بمكان كبير، و يظل قائماً‌ كما هو ملاحظ في جميع الطروح القرآنية ، آخذاً‌ البعد الأخلاقي بعين الاعتبار، و ذلك حين يشير إلى أن الله سبحانه و تعالى لا ينهانا عن المجتمعات التي لم تعادنا و لم تخرجنا من ديارنا بل يطلب منا الله أن نتعامل و إياها وفق مبدأ القسط أو العدل تقول الآية الكريمة: { لا ينهاكم الله عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين و لم يخرجوكم مّن دياركم أن تبرّوهم و تقسطوا إليهم إنّ الله يحبّ المقسطين *  إنّما ينهاكم الله عن الّذين قاتلوكم في الدّين و أخرجوكم مّن دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم و من يتولّهم فاولئك هم الظّالمون}  إنّ هذا الطرح القرآني الكريم لسياسة المجتمع الإسلامي خارجياً يظل من الوضوح بمكان كبير من حيث الطابع الأخلاقي حيث نلاحظ جيداً كيف أن الله سبحانه و تعالى يأمرنا أن نتعامل حتى مع المجتمعات الخارجية تعاملاً قائماً على القسط ما داموا لم يحاربونا، و لكن في حالة العكس أي في حالة المحاربة فإن مهادنتهم تظل محفوظة بالخطأ و لاشك.
المهم ما دمنا قد تحدثنا عن العلاقة التي ترتبط بين الموسسة الإسلامية أو المجتمع الإسلامي و بين تعامله مع الفئات الخارجية و ما يتطلب هذا التعامل حيناً من مهادنة و حيناً‌آخر المواجهة حسب ما يتطلبه الموقف. حينئذ يجدر بنا أن ننتقل إلى موضوع آخر يرتبط بهذا الجانب ألا و هو البعد المعرفي المتصل بالتعامل العسكري في المؤسسة الإسلامية.
من البين جداً أن النص القرآني الكريم يتعامل مع ظاهرة المؤسسة السياسية داخلياً‌و خارجياً، و كما هو واضح يتطلب التعامل مع الخارج حيناً الجهاد أي يتطلب نشاطاً عسكرياً و هذا ما يقودنا إلى الحديث عن ظاهرة الجهاد أولاً و كيفية الطرح القرآني الكريم لها ثانياً.
القرآن و الجهاد
يلاحظ أن آيات الجهاد في القرآن الكريم أيضاً من الكثرة و من التنوع، و الحث على الجهاد يقترن في الواقع بعز الاُمة الإسلامية و بظاهرة أن الإسلام يعلو و لا يعلى عليه حينئذ فإن الحث على الجهاد باختصار يعدّ تعبيراً عن العزة التي تطبع الاُمة الإسلامية، و من ثم فإن الجهاد و القتال في سبيل الله سبحانه و تعالى يحقق هذا الجانب من حيث البعد المجتمعي أو السياسي للامة الإسلامية.
بيد أن الجهاد المتصف بهذا الحث الملحوظ في عشرات الآيات القرآنية الكريمة يظل محفوفاَ بالطابع الأخلاقي حيث نكرر كما كررنا سابقاً أن التعامل المعرفي للقرآن الكريم مع هذه الظاهرة أو تلك يظل مطبوعاً بالطابع الأخلاقي العام الذي ينسحب على‌كل أنماط النشاط الذي تمارسه الاُمة الإسلامية، فبالنسبة إلى الجهاد نلاحظ بوضوح أن النص القرآني الكريم يحثنا حيناً على‌ الإعداد للعدوّ كقوله تعالى: {و أعدّوا لهم مّا استطعتم مّن قوّة..} ..الخ.
و لكنه من جانب آخر يقرر بأنه إذا جنح للسلم فاجنح له. هنا، قد يتساءل القارىء عن التوفيق بين هاتين الظاهرتين اللتين يبدو في الظاهر أنهما متخالفتان ، و لكن في الواقع هاتان الظاهرتان تتآلفان تماماً و نعني بذلك أن الاُمة الإسلامية تظل من جانب مكتسبة طابع العز الإسلامي من جهة و من جانب آخر يحرص القرآن الكريم على أن يحقق الأمن للشخصية الإسلامية. و كل من هذين النمطين من النشاطين حدّده سياق خاص، فإذا افترضنا أن الموقف يتطلب عزاً فحينئذ يظل الجهاد فارضا‌ً مشروعيته ، و لكن حينا يتطلب الموقف أمناً فإن هذا الموقف يفرض على الاُمة الإسلامية تجنح إلى المسلم ، و لكن بشرط أن لا يتم ذلك من خلال الذل ، و لذلك وردت توصية قرآنية اُخرى ، تقول:{ و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون}  إذ إنّ العز من جانب و الأمن من جانب آخرهما الجناحان اللذان ينبغي أن يتوكأ عليهما من خلال الطرح القرآني لهذا الجانب.
من جانب ثالث، و هذا ما نود أن نؤكد عليه، يظل الطابع الأخلاقي هو المسيطر على المواقف جميعاً سواء أكان ذلك في ميدان الحث على القتال أو في ميدان الحث على السلم ، لنلاحظ مثلاً جملة من المبادىء الأخلاقية التي ترسم الجانب الأول و هو الجهاد أو المقاتلة، حيث تشير أكثر من آية كريمة إلى هذا الجانب من مثل قوله تعالى: {و قاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم و لا تعتدوا} لنلاحظ كيف أن هذا النص القرآني الكريم يشير إلى عدم العدوان أي إلى عدم المبادرة بالقتال، و إنما قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، أي إذا بدؤوا بقتالكم فقاتلوهم. و أما إذ لم يبدؤوا حينئذ يكون القتال تجسيداً عدوانياً عبر قوله تعالى: {و لا تعتدوا إنّ الله لا يحبّ المعتدين}  يظل طابعاً أخلاقياً من الوضوح بمكان كبير.
و هكذا إذا تابعنا سائر الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدث عن هذا الجانب. فمثلاً في سياق القتال عند المسجد الحرام أي أن القتال في المسجد الحرام يحرم أساساً‌ لإعتبارات أخلاقية بطبيعة الحال و لذلك قال سبحانه و تعالى: {لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} و لكن لنقرأ الإضافة : {حتّي يقاتلوكم}  فيه فإذا قاتلوهم، حينئذ لا يبدأ القتال إلا في حالة ما إذا بدأت هؤلاء القتال، لنلاحظ هنا في المستوى الخاص ، المستوى العادي و هو يجسد المطالبة بعدم القتل إلا بعد أن يبدأ العدو بالقتال ، و في الموقف الثاني حيث أن القتال محرم عند المسجد الحرام، الموقف يتسم بالاستجابة السابقة نفسها أي المقاتلة عندما يبدأ العدو بالقتال، و حينئذ فإن الهدف من ذلك في الحالة الثانية كما تعلن الآية القرآنية الكريمة حيث قالت: {كذلك جزاء الكافرين} أي كذلك نتيجة العدوان هي الجزاء الذي ينبغي أن يسلك هذا الميدان، من هنا قال بعد ذلك؛{قاتلوهم حتّى لا تكون فتنة}  حينئذ نجد كيف أن مشروعية القتال ترتبط بجانب أخلاقي هو : {حتّى‌لا تكون فتنة}.
إذاً: الحديث عن القتال و عدمه مطبوع بالطابع الأخلاقي كما لاحظنا الآن.
و إذا تابعنا سائر مفردات القتال أو الجهاد نجد أن الطابع الأخلاقي هو المسيطر، فمثلاً يقول النص في إحدي الآيات القرآنية الكريمة: {و إن أحد مّن المشركين استجارك فأجره}  فيتعين على الشخصية الإسلامية أن تجيره.
الإجارة‌تتصل بجانب العدو، لكن مع ذلك أي مع كون أن الإسلاميين يقاتلون المنحرفين لكن ثمة طابع أخلاقي له أهميته ألا و هو أن المشرك أو المنحرف إذا استجار ينبغي أن يجار لقيمة أخلاقية كما هو واضح، و هكذا بالنسبة إلى‌ سائر أنماط التعامل حيث نجد أن السنة الشريفة تتكفل بتوضيحات متنوعة بهذا الجانب تتصل بنمط التعامل مع الأسير، و نمط اتعامل مع سائر القضايا المرتبطة بالجهات كالدعوة أولاً بعد البدء بالقتال ثم بعدم الإجهاز على الجريح و النساء و الأطفال و .. الخ.
و الآن نكتفي بهذا المقدار من الحديث عن المؤسسة السياسية في ضوء الطرح القرآني لها و بذلك يكون حديثنا عن الجوانب أو عن المادة المعرفية المتصلة بالجوانب السياسية والاجتماعية‌و الاقتصادية و النفسية تظل هذه الجوانب مطروحة في القرآن الكريم من خلال المستويات التي تحدثنا عنها في دراستنا الحالية و دراستنا السابقة، و بهذا نكتفي من الحديث بالمقدار المتقدم و هدفنا هو أن مجرد الإشارة إلى نمط الطرح القرآني الكريم لهذه الجوانب حيث قلنا: إن القرآن الكريم يطرح هذه الجوانب و سواها من خلال الطرح الإسلامي أولاً، و من خلال تشديد في جانب دون جوانب اُخرى لهدف يرد في سياق السورة الكريمة التي تطرح هذا الجانب أو ذاك و من ثم فإن التفصيلات من جانب و الشمولية المرسومة من جانب آخر تتكفل بها السنة الشريفة متمثلة بالنصوص الواردة عن النبي’ و المحسنين جميعاً .
و بهذا نكون قد انتهينا من القسم الثالث من موضوعات القرآن الكريم حيث بدأنا بالحديث عن القرآن الكريم من خلال الموضوع الأول أو من خلال الطرح الأول متمثلاً في الوحي و قضاياه أي الطريقة الوحي و مستويات الوحي و ما يواكب ذلك من أسباب النزول و كيفية جمع القرآن الكريم و ما إلى ذلك مما تحدثنا عنه مفصلاً في نطاق البلاغة و سواها و من ثم كان الموضوع الثالث الذي انتهينا الآن منه يتصل بالمادة المعرفية في القرآن الكريم .
و أما المستوى الرابع أو المستوى الأخير أو المادة الأخيرة التي ينبغي أن تطرح من خلال القرآن الكريم و لكننا آثرنا أن لا نتحدث عنها لأنها ذات ارتباط بعملية التفسير من جانب، و بظواهر أخرى تتصل بنمط التعامل مع القرآن الكريم من جانب آخر، و هو أمر قد يتطلب كلاماًَ خاصاً ينفصل عن هذا الجانب المتصل بعلوم القرآن الكريم و تاريخه، و لكن مع ذلك من المفيد لنا أن نتحدث ضمن الخطوط العامة لهذا الموضوع المتصل بالطرح الرابع أو لنقل: المتصل بالموضوع الرابع من الموضوعات و الذي يحتوي عنواناً هو (التعامل مع النص القرآني الكريم).

التعامل مع النص القرآني الكريم

التعامل مع النص القرآني الكريم
يمكن الذهاب إلى أن التعامل مع القرآن الكريم، ينطوي على جانبين، الجانب الأول يتصل بعملية التفسير و الجانب الثاني يتصل بعملية القراءة.
النسبة إلى الجانب التفسيري مما لا شك فيه أن كل واحد من الأفراد ليس بمقدوره أن يتوفر على معالجة هذا الجانب لأن التفسير يتطلب قدرات متنوعة ليست متوفرة لدى أي شخص بقدر ما يتطلب الموقف تخصصاً معرفياً في هذا الجانب.
و أما التعامل الآخر أي التعامل مع القراءة القرآنية الكريمة و ليس مع التفسير القرآني الكريم فإن الأمر ليختلف دون أدنى شك، حيث أننا جميعاً نطالب بقراءة القرآن الكريم و لكن هذه القراءة في الواقع ينبغي أن تسلط الأضواء عليها بنحو واضح حتى تصبح القراءة لها مسوغاتها و لها مشروعيتها و لها أيضاً معطياتها التي يدعونا القرآن الكريم نفسه إلى ملاحظتها و انسحابها على كل من يوفق لقراءة القرآن الكريم.
إن الحديث عن القراءة القرآنية الكريمة ينبغي أن يشير إلى جملة نقاط، النقطة الاُولى هي أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة خالية من الأخطاء الإعرابية لأن الوقوع في الخطأ الإعرابي يعرّض القارىء إلى دلالة تحريفية لا تتسق مع ما يحاول قراءته، و الأمثلة على ذلك كثيرة، فمثلاً عند قراءتنا الآية الكريمة: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء}، نجد أن تحريك كل من العبارات الآتية (الله) ، (عباده)، (العلماء) ، يوضح لنا فيما إذا كانت القراءة صائبة أو مخطئة. و في حالة كون القراءة مخطئة يترتب عليها في الواقع كفر بما نقرأ فمثلاً:‌إن القراءة الصائبة لهذه الآية الكريمة: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء} و لكن لو قرأت: {إنّما يخشى الله من عباده العلماء}. يضمّ لفظ الجلالة فحينئذ نقع في الكفر دون أدنى شك، و هكذا بالنسبة إلى سائر ما نقرؤه من الآيات القرآنية الكريمة التي ينبغي على كل قارىء للنص القرآني الكريم أن يتوفر على القراءة الصائبة، هنا يثار سؤال هو: أن الرسم القرآني الكريم حافل بالأخطاء الإملائية و الإعرابية بحسب ما تقرره اللغة، ولكن في دراستنا لعلوم القرآن الكريم قلنا: إن عملية جمع القرآن الكريم بالنحو الذي ذكره المؤرخون، جعل الحفاظ على ما رسم مبدءاً يكمن وراءه سرّ واضح هو أن التلاعب بأية عبارة قرآنية كريمة حينئذ سوف تعرض القرآن الكريم لتخرصات الأعداء، و هو أمر ينبغي أن يحذر منه، و لذلك وردت التوصيات الإسلامية إلى ضرورة أن نقرأ كما علمنا و كما هو مرسوم في القرآن الحالي بغض النظر عن الملابسات التي واكبت هذا الرسم القرآني الكريم، إذاً: النقطة الاُولى ضرورة معرفة اللغة حتى نستطيع من خلال ذلك أن نتوفر على القراءة الصائبة، و لعل نشوء علم النحو أساساً كما يذكر المؤرخون بدافع أو من حافز هو ملاحظة واضعي النحو لقراءة بعض الأشخاص الذين توفروا على قراءة مخطئة أفضت إلى القول بالكفر من خلال القراءة مخطئة. و لذلك بدت أبو الأسود الدؤلي بإشارة من الإمام علي× بوضع القراءة اللغوية لتلافي هذا الأمر.
المهم أن هذه النقطة و هي التوفر على دراسة اللغة حتى نتحاشى الوقوع في الأخطاء اللغوية من خلال قراءتنا للقرآن الكريم يفرض ضرورته بالنحو الذي أوضحناه.
النقطة الثانية: ضرورة الوقوف أيضاً على المواقف التي تتطلب وقوفاً في العبارة لاستكمال المعنى أو لنهاية المعنى أو لاستئناف المعنى بحسب القواعد المهمة التي تتصل بهذا الجانب، و هو أمر يتطلب أيضاً الوقوف على القواعد الموضوعة لهذا الجانب.
النقطة الثالثة: التي ينبغي أن يتوفر عليها قارىء القرآن الكريم هو التدبر في معاني ما يقرأه بحسب التوصيات الملحة على هذا الجانب و إلا فإن مجرد القرءة لا تعود بالمعطى الذي تتناقله من خلال قراءتنا للقرآن الكريم.
النقطة الرابعة: هي النظر في القرآن الكريم نفسه مع الحث على حفظ نص القرآن الكريم بمعنى أننا نطالب بأن نحفظ ما أمكننا الحفظ من القرآن الكريم و بالمقابل ثمة مطالبة بأن نقرأ القرآن نفسه حتى مع قولنا يحفظ القرآن الكريم و ذلك لأن النظر إلى الحروف القرآنية الكريمة نفسها له أهميته بالنسبة إلى المعطيات التي تفرزها القراءة من خلال النظر إلى المصحف الكريم.
و بالنسبة إلى الحفظ للقرآن الكريم نجد أن النصوص تلح على هذا الجانب حتى إنها لتشير إلى أن الشخصية في اليوم الآخر بقدر ما تحفظ من النصوص القرآنية الكريمة تؤمر بالتصاعد نحو السلالم العليا من الدرجات في جنات النعيم.
إذاً، هذه النقاط الأربع ينبغي أن نتوفر عليها و نحن نمارس علمية القراءة للقرآن الكريم، و هذا بالنسبة إلى التعامل للقرآن الكريم و هو القراءة، و أما بالنسبئة إلى النمط الآخر من التعامل الأول مع القرآن الكريم ألا و هو التفسير حينئذ فهناك مبادىء للتفسير يتطلب طرحها أيضاً وجود مجلد في هذا الجانب، و لكننا نختصر ذلك في سطور عابرة جدا‌ً على أن تتاح الفرصة بإذن الله بأن نتحدث عن التفسير و عن المفسرين في مادة مستقلة عن علوم القرآن و تاريخه، و في هذا الميدان، أي ميدان التفسير أي التعامل مع القرآن الكريم للتفسير فإن الموقف يتطلب أولاً كما قلنا المعرفة باللغة العربية، ثانياً المعرفة البلاغية، ثالثاً يتطلب التعامل مع القرآن الكريم من خلال التفسير، خطوات ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار فثمة نصوص قرآنية كريمة يعتمد أولاً على الرجوع إلى المصادر التي اضطلعت بتفسير القرآن الكريم و نعني بها المصادر التي تشير إلى أهل البيت^، حيث أن هذا المصدر يظل هو المصدر الوحيد الذي يمكن أن يركن إليه في حالات كثيرة من حيث ملاحظتنا كيف أن القرآن الكريم ينطوي على ما هو محكم و ما هو متشابه و المتشابه ينطوي على مستويات متنوعة لا يمكن الوقوف عندها إلا من خلال النص الشرعي الذي يفسر بطون القرآن و يفسر حتى ظواهراه في مناطق أو مواقع متنوعة من القرآن الكريم.
و في حالة عدم تطلب الموقف للنصوص الشرعية فبمقدور المفسر أن يعود إلى خلفيته الثقافية و يضطلع بالتفسير بحسب التخصص الذي يتوفر عليه فهناك التخصص البلاغي مثلاً بحيث يستطيع من يمتلك ناصية البلاغة أن يتوفر على التفسير البلاغي الذي يتصل بالعبارة القرآنية الكريمة و بالسورة الكريمة و بالإيقاع و البناء و ما إلى ذلك، مما تعرضنا له عند حديثنا عن الإعجاز القرآني الكريم، و أما بالنسبة إلى الأنماط المتنوعة الكثيرة التي تضطلع بالتفسير حينئذ فإن ثمة نمطين من التفسير أحدهما هو التفسير الدلالي الذي يتناول الدلالة كما هي، و لآخر التفسير التخصصي الذي يتناول الدلالة من خلال التخصص الذي يمتلكه المفسر، فهناك مفسرون مثلاً يعنون بالبعد الفلسفي، و هناك مفسرون يعنون ببعده الكلامي، و هناك مفسرون يعنون يضروب المعرفة الإنسانية التي عرضنا لها، أي يخلع الطابع النفسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي على النص الذي يدرسه.
و هناك بالإضافة الى ما تقدم: التفسير العلمي الذي لاحظنا أمثلته أيضاً من خلال الإشارة العابرة إلى ما توفر عليه المعاصرون بخاصة من وقوف عند التفسيرات العلمية للقرآن الكريم و لكننا تحفظنا حيال ذلك و قلنا مادام العلم في تطور فإن الركون إلى يقين علمي لا يتوافق و القرآن الكريم الذي يظل دوي أدنى‌شك نصاً قرآنياً‌كريماً يتعامل من خلاله مع الأجيال جميعاً.
و أخيراً تجب الإشارة المهمة إلى نمط من التعامل القرآني الكريم ظهر في سنواتنا المعاصرة و هو تناول تأثر مع الأسف الشديد بالتيارات الوافدة من الخارج أي التيارات التي تحاول أن تتعامل مع النص عبر قراءة جديدة لا تعتمد النص الشرعي و هو خطر دون أدنى شك على النص القرآني الكريم لأن النص القرآني الكريم يختلف عن سائر النصوص التي يتعامل و إ،ياها بالنص البشري. من الممكن أن تخضع لتأويلات المفسر الذي يتناول هذا النص أو ذاك و هذا على العكس تماماً من النص القرآني الكريم لأنه نص من الله سبحانه و تعالى و نحن لايحق لنا البتة أن نقول: أو نستنطق من النص ما لا يهدف إليه الله سبحانه و تعالى ، لذلك لا يجوز لنا البتة أن نتأثر بالتيارات المعاصرة التي تضطلع بتفسير النص وفق ما انتهت إليه المبادىء النقدية الحديثة التي تقول: إن القارىء هو بدوره المنشىء للنص و يستطيع أن يفسر النص من خلال قراءته الجديدة، و لكن هذا الكلام إذا كان منسحباً على القراءة الدنيوية و على النص الدنيوي و هو، خطأ كبير و لكنه يقترن بخطأ أكبر حينما نسحب هذه الظاهرة على التعامل بالنص القرآني الكريم للأسباب التي أوضحناها.
ختاماًَ نتمنى للقارىء مزيداً من التوفيق و نسأله تعالى أن يوفقه للتعامل مع القرآن الكريم و الإفادة من معطياته على شتى المستويات و ننصح القارىء في نهاية المطاف أن يلتزم بما قررناه قبل قليل من حيث التعامل مع القراءة القرآنية، و حتى من حيث التعامل مع التفسير للقرآن الكريم. إذا قدر لأحد القراء أن يتخصص في هذا الميجان فعليه أن يلتزم لما قررناه، و بهذا نختم حديثنا عن القرآن الكريم من حيث المواد الأربعة التي تمول خلالها و نعني بها القرآن الكريم من خلال الوحي و قضاياه المتنوعة، و القرآن الكريم من حيث الإعجاز، و القرآن الكريم من حيث البعد المعرفي، و أخيراً القرآن الكريم من حيث التعامل وإياه قراءة و تعاملاً و تفسيراً بالنحو الذي تقدم الحديث عنه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page