بواعث الغيبة
اعلم ان باعث الغيبة ـ غالباً ـ إما الغضب أو الحقد أو الحسد، فيكون من نتائجها، ومن رذائل قوة الغضب، وله بواعث أخر:
الأول ـ السخرية والاستهزاء: فان ذلك كما يجري في الحضور يجري في الغيبة أيضاً، وقد عرفت ان منشأهما ماذا؟.
الثاني ـ اللعب والهزل والمطايبة: فيذكر غيره بما يضحك الناس عليه على سبيل التعجب والمحاكاة. ويأتي ان باعث الهزل والمزاح ماذا، وانه متعلق بالقوة الشهوية.
الثالث ـ ارادة الافتخار والمباهاة: بأن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان لا يعلم شيئاً. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه وأنه أفضل منه. وظاهر أن منشأ ذلك التكبر أو الحسد، فيكون أيضاً من رذائل القوة الغضبية.
الرابع ـ أن ينسب إلى شيء من القبائح، فيريد أن يتبرأ منه بذكر الذي فعله، وكان اللازم عليه أن يبريء نفسه منه، ولا يتعرض للغير الذي فعله، وقد يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل، ليتمهد بذلك عذر نفسه في فعله، وربما كان منشأ ذلك صغر النفس وخبثها.
الخامس ـ مرافقة الاقران ومساعدتهم على الكلام، حذراً عن تنفرهم واستثقالهم إياه لولاه، فيساعدهم على اظهار عيوب المسلمين وذكر مساويهم، ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة، فيهلك معهم. وباعث ذلك أيضاً صغر النفس وضعفها.
السادس ـ أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساويه، أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل ذلك باظهار عداوته، أو تقبيح حاله، ليسقط أثر كلامه وشهادته. وربما ذكره بما هو فيه قطعاً، بحيث ثبت ذلك عند السامعين ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به ويقول: ليس الكذب من عادتي، فاني اخبرتكم قبل ذلك من أحواله كذا وكذا، فكان كما قلت، فهذا أيضاً صدق كسابقه. وهذا أيضاً منشأه الجبن وضعف النفس.
السابع ـ الرحمة، وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلى به غيره، فيقول: المسكين فلان قد غمني ما ارتكبه من القبح، أو ما حدث به من الاهانة والاستخفاف! فيكون صادقاً في اغتمامه، إلا انه لما ذكر اسمه واظهر عيبه صار مغتاباً، وقد كان له الاغتمام بدون ذكر اسمه وعيبه ممكناً فاوقعه الشيطان فيه ليبطل ثواب حزنه ورحمته.
الثامن ـ التعجب من صدور المنكر والغضب لله عليه، بأن يرى منكراً من إنسان أو سمعه، فيقول عند جماعة: ما اعجب من فلان أن يتعارف مثل هذا المنكر! أو يغضب منه، فيظهر غضبه واسمه ومنكره، فانه وإن كان صادقا في تعجبه من المنكر وغضبه عليه، لكن كان اللازم ان يتعجب منه ويغضب عليه، ولكنه لا يظهر اسمه عند من لم يطلع على ما صدر منه من المنكر، بل يظهر غضبه عليه بالنهي عن المنكر والامر بالمعروف من غير أن يظهره لغيره، فلما أوقعه الشيطان في ذكره بالسوء صار مغتابا وبطل ثواب تعجبه وغضبه، وصار آثماً من حيث لا يدري.
وهذه الثلاثة الاخيرة مما يغمض دركها، لأن اكثر الناس يظنون أن الرحمة والتعجب والغضب إذا كان لله كان عذراً في ذكر الاسم، وهو خطأ محض، إذ المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم دون غيرها، وقد روى: " أن رجلا مر على قوم في عصر النبي (ص)، فلما جاوزهم، قال رجل منهم: إني أبغض هذا الرجل لله، فقال القوم: والله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فاخبروه به، فأتى الرجل رسول الله (ص) وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه. فدعاه، وسأله عما قال في حقه فقال: نعم! قد قلت ذلك. فقال رسول الله (ص): ولم تبغضه؟ فقال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة! فقال: يا رسول الله، فاسأله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله، فقال: لا فقال: والله ما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر! قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني افطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً؟ فسأله، فقال: لا! فقال: والله ما رأيته يعطى سائلا قط ولا مسكيناً، ولا رأيته ينفق من ماله شيئاَ في سبيل الخير إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر! قال: فاسأله هل رآني نقصت منها شيئاً أو ما كست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا! فقال رسول الله (ص) للرجل: قم، فلعله خير منك ". ولا ريب في أن انكار القوم عليه بعد قوله أبغضه لله يفيد عدم جواز اظهار المنكر الصادر من شخص لغيره، وإن كان في مقام الغضب والبغض لله.
بواعث الغيبة
- الزيارات: 3038