• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

بواعث الغيبة


بواعث الغيبة
اعلم ان باعث الغيبة ـ غالباً ـ إما الغضب أو الحقد أو الحسد، فيكون من نتائجها، ومن رذائل قوة الغضب، وله بواعث أخر:
الأول ـ السخرية والاستهزاء: فان ذلك كما يجري في الحضور يجري في الغيبة أيضاً، وقد عرفت ان منشأهما ماذا؟.
الثاني ـ اللعب والهزل والمطايبة: فيذكر غيره بما يضحك الناس عليه على سبيل التعجب والمحاكاة. ويأتي ان باعث الهزل والمزاح ماذا، وانه متعلق بالقوة الشهوية.
الثالث ـ ارادة الافتخار والمباهاة: بأن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان لا يعلم شيئاً. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه وأنه أفضل منه. وظاهر أن منشأ ذلك التكبر أو الحسد، فيكون أيضاً من رذائل القوة الغضبية.
الرابع ـ أن ينسب إلى شيء من القبائح، فيريد أن يتبرأ منه بذكر الذي فعله، وكان اللازم عليه أن يبريء نفسه منه، ولا يتعرض للغير الذي فعله، وقد يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل، ليتمهد بذلك عذر نفسه في فعله، وربما كان منشأ ذلك صغر النفس وخبثها.
الخامس ـ مرافقة الاقران ومساعدتهم على الكلام، حذراً عن تنفرهم واستثقالهم إياه لولاه، فيساعدهم على اظهار عيوب المسلمين وذكر مساويهم، ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة، فيهلك معهم. وباعث ذلك أيضاً صغر النفس وضعفها.
السادس ـ أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساويه، أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل ذلك باظهار عداوته، أو تقبيح حاله، ليسقط أثر كلامه وشهادته. وربما ذكره بما هو فيه قطعاً، بحيث ثبت ذلك عند السامعين ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به ويقول: ليس الكذب من عادتي، فاني اخبرتكم قبل ذلك من أحواله كذا وكذا، فكان كما قلت، فهذا أيضاً صدق كسابقه. وهذا أيضاً منشأه الجبن وضعف النفس.
السابع ـ الرحمة، وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلى به غيره، فيقول: المسكين فلان قد غمني ما ارتكبه من القبح، أو ما حدث به من الاهانة والاستخفاف! فيكون صادقاً في اغتمامه، إلا انه لما ذكر اسمه واظهر عيبه صار مغتاباً، وقد كان له الاغتمام بدون ذكر اسمه وعيبه ممكناً فاوقعه الشيطان فيه ليبطل ثواب حزنه ورحمته.
الثامن ـ التعجب من صدور المنكر والغضب لله عليه، بأن يرى منكراً من إنسان أو سمعه، فيقول عند جماعة: ما اعجب من فلان أن يتعارف مثل هذا المنكر! أو يغضب منه، فيظهر غضبه واسمه ومنكره، فانه وإن كان صادقا في تعجبه من المنكر وغضبه عليه، لكن كان اللازم ان يتعجب منه ويغضب عليه، ولكنه لا يظهر اسمه عند من لم يطلع على ما صدر منه من المنكر، بل يظهر غضبه عليه بالنهي عن المنكر والامر بالمعروف من غير أن يظهره لغيره، فلما أوقعه الشيطان في ذكره بالسوء صار مغتابا وبطل ثواب تعجبه وغضبه، وصار آثماً من حيث لا يدري.
وهذه الثلاثة الاخيرة مما يغمض دركها، لأن اكثر الناس يظنون أن الرحمة والتعجب والغضب إذا كان لله كان عذراً في ذكر الاسم، وهو خطأ محض، إذ المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم دون غيرها، وقد روى: " أن رجلا مر على قوم في عصر النبي (ص)، فلما جاوزهم، قال رجل منهم: إني أبغض هذا الرجل لله، فقال القوم: والله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فاخبروه به، فأتى الرجل رسول الله (ص) وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه. فدعاه، وسأله عما قال في حقه فقال: نعم! قد قلت ذلك. فقال رسول الله (ص): ولم تبغضه؟ فقال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة! فقال: يا رسول الله، فاسأله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله، فقال: لا فقال: والله ما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر! قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني افطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً؟ فسأله، فقال: لا! فقال: والله ما رأيته يعطى سائلا قط ولا مسكيناً، ولا رأيته ينفق من ماله شيئاَ في سبيل الخير إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر! قال: فاسأله هل رآني نقصت منها شيئاً أو ما كست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا! فقال رسول الله (ص) للرجل: قم، فلعله خير منك ". ولا ريب في أن انكار القوم عليه بعد قوله أبغضه لله يفيد عدم جواز اظهار المنكر الصادر من شخص لغيره، وإن كان في مقام الغضب والبغض لله.


بواعث الغيبة
اعلم ان باعث الغيبة ـ غالباً ـ إما الغضب أو الحقد أو الحسد، فيكون من نتائجها، ومن رذائل قوة الغضب، وله بواعث أخر:
الأول ـ السخرية والاستهزاء: فان ذلك كما يجري في الحضور يجري في الغيبة أيضاً، وقد عرفت ان منشأهما ماذا؟.
الثاني ـ اللعب والهزل والمطايبة: فيذكر غيره بما يضحك الناس عليه على سبيل التعجب والمحاكاة. ويأتي ان باعث الهزل والمزاح ماذا، وانه متعلق بالقوة الشهوية.
الثالث ـ ارادة الافتخار والمباهاة: بأن يرفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان لا يعلم شيئاً. وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه وأنه أفضل منه. وظاهر أن منشأ ذلك التكبر أو الحسد، فيكون أيضاً من رذائل القوة الغضبية.
الرابع ـ أن ينسب إلى شيء من القبائح، فيريد أن يتبرأ منه بذكر الذي فعله، وكان اللازم عليه أن يبريء نفسه منه، ولا يتعرض للغير الذي فعله، وقد يذكر غيره بأنه كان مشاركا له في الفعل، ليتمهد بذلك عذر نفسه في فعله، وربما كان منشأ ذلك صغر النفس وخبثها.
الخامس ـ مرافقة الاقران ومساعدتهم على الكلام، حذراً عن تنفرهم واستثقالهم إياه لولاه، فيساعدهم على اظهار عيوب المسلمين وذكر مساويهم، ظناً منه أنه مجاملة في الصحبة، فيهلك معهم. وباعث ذلك أيضاً صغر النفس وضعفها.
السادس ـ أن يستشعر من رجل أنه سيذكر مساويه، أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة، فيبادره قبل ذلك باظهار عداوته، أو تقبيح حاله، ليسقط أثر كلامه وشهادته. وربما ذكره بما هو فيه قطعاً، بحيث ثبت ذلك عند السامعين ليكذب عليه بعده، فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به ويقول: ليس الكذب من عادتي، فاني اخبرتكم قبل ذلك من أحواله كذا وكذا، فكان كما قلت، فهذا أيضاً صدق كسابقه. وهذا أيضاً منشأه الجبن وضعف النفس.
السابع ـ الرحمة، وهو أن يحزن ويغتم بسبب ما ابتلى به غيره، فيقول: المسكين فلان قد غمني ما ارتكبه من القبح، أو ما حدث به من الاهانة والاستخفاف! فيكون صادقاً في اغتمامه، إلا انه لما ذكر اسمه واظهر عيبه صار مغتاباً، وقد كان له الاغتمام بدون ذكر اسمه وعيبه ممكناً فاوقعه الشيطان فيه ليبطل ثواب حزنه ورحمته.
الثامن ـ التعجب من صدور المنكر والغضب لله عليه، بأن يرى منكراً من إنسان أو سمعه، فيقول عند جماعة: ما اعجب من فلان أن يتعارف مثل هذا المنكر! أو يغضب منه، فيظهر غضبه واسمه ومنكره، فانه وإن كان صادقا في تعجبه من المنكر وغضبه عليه، لكن كان اللازم ان يتعجب منه ويغضب عليه، ولكنه لا يظهر اسمه عند من لم يطلع على ما صدر منه من المنكر، بل يظهر غضبه عليه بالنهي عن المنكر والامر بالمعروف من غير أن يظهره لغيره، فلما أوقعه الشيطان في ذكره بالسوء صار مغتابا وبطل ثواب تعجبه وغضبه، وصار آثماً من حيث لا يدري.
وهذه الثلاثة الاخيرة مما يغمض دركها، لأن اكثر الناس يظنون أن الرحمة والتعجب والغضب إذا كان لله كان عذراً في ذكر الاسم، وهو خطأ محض، إذ المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم دون غيرها، وقد روى: " أن رجلا مر على قوم في عصر النبي (ص)، فلما جاوزهم، قال رجل منهم: إني أبغض هذا الرجل لله، فقال القوم: والله لبئس ما قلت! وإنا نخبره بذلك، فاخبروه به، فأتى الرجل رسول الله (ص) وحكى له ما قال، وسأله أن يدعوه. فدعاه، وسأله عما قال في حقه فقال: نعم! قد قلت ذلك. فقال رسول الله (ص): ولم تبغضه؟ فقال: أنا جاره وأنا به خبير، والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة! فقال: يا رسول الله، فاسأله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها والركوع والسجود؟ فسأله، فقال: لا فقال: والله ما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه كل بر وفاجر! قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني افطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً؟ فسأله، فقال: لا! فقال: والله ما رأيته يعطى سائلا قط ولا مسكيناً، ولا رأيته ينفق من ماله شيئاَ في سبيل الخير إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر! قال: فاسأله هل رآني نقصت منها شيئاً أو ما كست فيها طالبها الذي يسألها؟ فسأله فقال: لا! فقال رسول الله (ص) للرجل: قم، فلعله خير منك ". ولا ريب في أن انكار القوم عليه بعد قوله أبغضه لله يفيد عدم جواز اظهار المنكر الصادر من شخص لغيره، وإن كان في مقام الغضب والبغض لله.

ذم الغيبة

ذم الغيبة
لما علمت حقيقة الغيبة وبواعثها، فأعلم أنها أعظم المهلكات وأشد المعاصي، وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه، وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال:
" ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه "[1]. وقال: " لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً "[2]. وقال: " ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيب عتيد "[3].
وقال رسول الله (ص): " المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ".
والغيبة تتناول العرض. وقال (ص): " إياكم والغيبة، فان الغيبة أشد من الزنا، فان الرجل قد يزنى ويتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه". وقال (ص): " مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم باظافيرهم، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال الذين يغتابون الناس، ويقعون في اعراضهم ". وخطبت يوماً حتى أسمع العواتق في بيوتها، فقال: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فان من تتبع عورة اخيه يتتبع الله عورته حتى يفضحه في جوف بيته ". وخطب (ص) يوماً فذكر الربا وعظم شأنه، فقال: " إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثين زنية يزنيها الرجل، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم ". ومر (ص) على قبرين يعذب صاحباهما، فقال: " إنهما ليعذبان في كبيرة، أما أحدهما فكان يغتاب الناس،واما الآخر فكان لا يستبرى من بوله " ودعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما، ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبره، وقال: " أما إنه يهون من عذابهما ما كانتا رطبتين " وروى " أنه (ص) أمر الناس بصوم يوم، وقال: لا يفطرن أحد حتى آذن له. فصام الناس، حتى إذا أمسوا، جعل الرجل يجىء فيقول: يا رسول الله، ظللت صائماً فاذن لي لأفطر،فيأذن له، والرجل والرجل، حتى جاء رجل، فقال: يا رسول الله، فتاتان من أهلى ظلتا صائمتين، وانهما تستحيان أن تأتياك، فأذن لهما لتفطرا. فاعرض عنه ثم عاوده فاعرض عنه. ثم عاوده، فقال: انهما لم تصوما، وكيف صام من ظل هذا اليوم يأكل لحوم الناس، أذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستقيئا. فرجع إليهما، فاخبرهما، فاستقاءتا، فقاءت كل واحدة منهما حلقة من دم. فرجع إلى النبي (ص) فاخبره، فقال: والذي نفس محمد بيده! لو بقيتا في بطنيهما لا كلتهما النار ". وأوحى الله تعالى إلى موسى (ع): " من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو اول من يدخل النار ". وقال (ص): " من مشى في غيبة اخيه وكشف عورته كانت أول خطوة خطاها وضعها في جهنم، فكشف الله عورته على رؤس الخلائق. ومن اغتاب مسلماً، بطل صومه ونقض وضوءه، فان مات هو كذلك مات وهو مستحل لما حرم الله ". وقال (ص): " الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الاكلة في جوفه "[4]. وقال (ص): " الجلوس في المسجد انتظاراً للصلاة عبادة، مالم يحدث "، فقيل: يا رسول الله، وما الحدث؟ قال: " الاغتياب ". وقال (ص): " من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه ". وقال (ص): " من اغتاب مسلما في شهر رمضان لم يؤجر على صيامه " وقال (ص): " من اغتاب مؤمناً بما فيه، لم يجمع الله بينهما في الجنة أبداً، ومن اغتاب مؤمناً بما ليس فيه، انقطعت العصمة بينهما، وكان المغتاب في النار خالداً فيها وبئس المصير ". وقال (ص): " كذب من زعم أنه ولد من حلال وهو يأكل لحوم الناس بالغيبة. فاجتنب الغيبة فانها إدام كلاب النار ". وقال (ص): " ما عمر مجلس بالغيبة إلا خرب بالدين، فنزهوا أسماعكم من استماع الغيبة، فان القائل والمستمع لها شريكان في الاثم". وقال (ص): " ما النار في التبن بأسرع من الغيبة في حسنة العبد "[5] وقال الصادق (ع): " من قال في مؤمن ما رأته عيناه وسمعته اذناه، فهو من الذين قال الله عز وجل: (إن الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم). وقال (ع): " من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروته ليسقط من أعين الناس، اخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله الشيطان ". قال (ع): " من اغتاب أخاه المؤمن من غير ترة بينهما فهو شرك شيطان "[6]. وقال (ع): " الغيبة حرام على كل مسلم، وانها لتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ".
والأخبار الواردة في ذم الغيبة مما لا يكاد يمكن حصرها، وما ذكرناه كاف لايقاظ الطالبين. والعقل أيضاً حاكم بأنها أخبث الرذائل، وقد كان السلف لا يرون العبادة في الصوم والصلاة، بل في الكف عن اعراض الناس، لأنه كان عندهم أفضل الاعمال، ويرون خلافه صفة المنافقين، ويعتقدون أن الوصول إلى المراتب العالية في الجنة يتوقف على ترك الغيبة، لما ورد عن رسول الله (ص) أنه قال: " من حسنت صلاته وكثرت عياله، وقل ماله، ولم يغتب المسلمين، كان معي في الجنة كهاتين " وما أقبح بالرجل المسلم أن يغفل عن عيوب نفسه، ويتجسس على عيوب إخوانه، ويظهرها بين الناس، فما باله يبصر القذى في عين أخيه، ولا يبصر الجذع في عين نفسه.
فيا حبيبي، إذا أردت أن تذكر عيوب غيرك فاذكر عيوبك وتيقن بأنك لن تصيب حقيقة الإيمان، حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب. وإذا كان شغلك إصلاح عيوب نفسك، كان شغلك في خاصة نفسك، ولم تكن لك فرصة للاشتغال بغيرك، وحينئذ كنت من أحب العباد إلى الله، لقول النبي (ص): " طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس! ". واعلم أن عجز غيرك في الاجتناب عن ذلك العيب وصعوبة ازالته عليه كعجزك عن الاجتناب عنه إن كان ذلك العيب فعلا اختيارياً، وإن كان أمراً خلقياً، فالذم له ذم للخالق تعالى. فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قيل لبعض الحكماء: يا قبيح الوجه! فقال: " ما كان خلق وجهي إلي فاحسنه ". ولو فرض براءتك عن جميع العيوب، فلتشكر الله، ولا تلوث نفسك بأعظم العيوب. إذا أكل لحوم الميتات أشد العيوب وأقبحها، مع إنك لو ظننت خلوك عن جميع العيوب لكنت أجهل الناس، ولا عيب أعظم من مثل هذا الجهل.
ثم ينبغي أن يعلم المغتاب ان الغيبة تحبط حسناته وتزيد في سيئاته. لما ثبت من الأخبار الكثيرة: ان الغيبة تنقل حسنات المغتاب يوم القيامة إلى من اغتابه، وان لم تكن له حسنة نقل إليه من سيئاته. قال رسول الله (ص): " يؤتى أحدكم يوم القيامة، فيوقف بين يدي الله تعالى ويدفع إليه كتابه، فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي، فإني لا ارى فيه طاعتي، فيقول له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس. ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي، فإني ما عملت هذه الطاعات، فيقول له: إن فلاناً إغتابك فدفعت حسناته إليك ". هذه معناه أخبار اخر. ولا ريب في أن العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته، وربما تنقل إليه سيئة واحدة مما اغتاب به مسلماً، فيحصل به الرجحان ويدخل لأجله النار. وأقل ما في الباب أن ينقص من ثواب صالحات أعماله، وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والمناقشة في الحساب. وروي عن بعضهم: " أن رجلاً قيل له: فلاناً قد اغتابك، فبعث إليه طبقاً من الرطب، وقال: بلغني أنك قد أهديت الي من حسناتك، فأردت أن أكافيك عليها فاعذرني، فاني لا أقدر أن أكافيك على التمام ".
والحاصل: أن العاقل ينبغي أن يتأمل في أن من يغتابه ان كان صديقاً ومحباً له، فاظهار عيوبه وعثراته بعيد عن المروة والانصاف، وان كان عدواً له، فتحمل خطاياه ومعاصيه ونقل حسناته إلى ديوانه غاية الحماقة والجهل.

علاج الغيبة

(علاج الغيبة)
الطريق في علاج الغيبة وتركها، أن يتذكر أولا ما تقدم من مفاسدها الأخروية، ثم يتذكر مفاسدها في الدنيا، فإنه قد تصل الغيبة إلى من اغتيب، فتصير منشأ لعداوته أو لزيادة عداوته، فيتعرض لإيذاء المغتاب وأهانته، وبما انجر الأمر بينهما إلى مالا يمكن تداركه من الضرب والقتل وأمثال ذلك. ثم يتذكر فوائد أضدادها ـ كما نشير إليها ـ، وبعد ذلك فليراقب لسانه، ويقدم التروي في كلام يريد أن يتكلم به، فان تضمن غيبة سكت عنه، وكلف نفسه ذلك على الاستمرار، حتى يرتفع عن نفسه الميل الجلي والخفي إلى الغيبة.
والعمدة في العلاج أن يقطع أسبابها المذكورة، وقد تقدم علاج الغضب والحقد والحسد والاستهزاء والسخرية، ويأتي طريق العلاج في الهزل والمطايبة والافتخار والمباهاة. وأما تنزيه النفس بنسبة ما نسب إليه من الجناية إلى الغير، فمعالجته أن يعلم أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوق، ومن اغتاب تعرض لمقت الله وسخطه قطعاً، ولا يدري أنه يتخلص من سخط الناس أم لا، فيحصل بعمله ذم الله وسخطه تقديراً، وينتظر دفع ذم الناس نسيئة، وهذا غاية الجهل والخذلان. وأما تعرضه لمشاركة الغير في الفعل تمهيداً لعذر نفسه، كأن يقول إني أكلت الحرام، لأن فلاناً أيضاً أكل، وقبلت مال السلطان، لأن فلاناً أيضاً قبل، مع أنه أعلم مني، فلا ريب في أنه جهل وسفه، لأنه اعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به. فان من خالف الله لا يقتدى به كائناً من كان، فلو دخل غيره النار وهو يقدر على عدم الدخول فهل يقتدى به في الدخول، ولو دخل عد سفيهاً أحمق، ففعله معصية، وعذره غيبة وغباوة، فجمع بين المعصيتين والحماقة، ومثله كمثل الشاة، إذا نظرت إلى العنز تردى نفسها من الجبل فهي أيضاً تردي نفسها، ولو كان لها لسان ناطق واعتذرت عن فعلها بأن العنز اكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك فعلت أنا، لكان هذا المغتاب المعتذر يضحك عليها، مع أن حاله مثل حالها ولا يضحك على نفسه.
والعجب أن بعض الأشقياء من العوام، لما صارت قلوبهم عش الشيطان وصرفوا أعمارهم في المعاصي، واشتغلت ذممهم بمظالم الناس بحيث لايرجى لهم الخلاص، مالت نفوسهم الخبيثة إلى ألا يكون معاد وحساب وحشر وعقاب، ولما وجد ذلك الميل منهم اللعين، خرج من الكمين، ووسوس في صدورهم بأنواع الشكوك والشبهات، حتى ضعف بها عقائدهم أو افسدها، ودعاهم في مقام الاعتذار عن أعمالهم الخبيثة ألا يصرحوا لما ارتكز في قلوبهم ويشتهونه، خوفاً من القتل واجراء أحكام الكفار عليهم ولم يدعهم أيضاً تلبيسهم وتزويرهم وغلبة الشيطنة عليهم أن يعترفوا بالنقص وسوء الحال فحملهم الشيطان باغوائه على أن يعتذروا من سوء فعالهم بأن بعض العلماء يفعلون ما نفعل ولا يجتنبون عن مثل أعمالنا، من طلب الرئاسة وأخذ الأموال المحرمة، ولم يدروا أن هذا القول ناش من جهلهم وخباثتهم.
إذ نقول لهم: إن فعل هذا البعض إن صار منشأ لزوال إيمانكم بالمعاد والحساب، فأنتم كافرون، وباعث أعمالكم الخبيثة هو الكفر وعدم الإذعان بأحوال النشأة الآخرة. وإن لم يصر منشأ له، بل إيمانكم ثابت، فاللازم عليكم العمل بمقتضاه، من غير تزلزل بعمل الغير كائناً من كان فما الحجة في عمل هذا البعض، مع اعتقادكم بأنه على باطل؟!.
وأيضاً لو كان باعث أعمالكم الخبيثة فعل العلماء، فلم اقتديتم بهذا البعض مع عدم كونه من علماء الآخرة وعدم اطلاعه على حقيقة العلم؟ ولو كنتم صادقين فيما تنسبون إليه، فهو المتأكل بعلمه، وأنما حصل نبذا من علوم الدنيا ليتوسل بها إلى حطامها، ولا يعد مثله عند أولي الألباب عالماً، بل هو متشبه بالعلماء. ولم ما اقتديتم بعلماء الآخرة المتخلفين بشراشرهم عن الدنيا وحطامها؟ وإنكار وجود مثلهم، والقدح في الكل مع كثرتهم في أقطار الأرض غاية اللجاج والعناد. ولو سلمنا منكم ذلك، فلم ما اقتديتم بطوائف الأنبياء والأوصياء، مع أنهم أعلم الناس باتفاق الكل، وحقيقة العلم ليس إلا عندهم؟ فان أنكروا أعلميتهم وعصمتهم من المعاصي، واحتملوا كونهم أمثالا لهم، ظهر ما في بواطنهم من الكفر الخفي.
وأما موافقة الأقران، فعلاجه أن يتذكر ان الله يسخط عليه ويبغضه إذا اختار رضا المخلوقين على رضاه، وكيف يرضى المؤمن ان يترك رضا ربه لرضا بعض أراذل الناس؟ وهل هذا إلا كونه تعالى أهون عنده منهم؟ وهو ينافي الإيمان.
وأما استشعاره من رجل انه يقبح عند محتشم حاله أو يشهد عليه بشهادة فيبادره بالغيبة اسقاطاً لأثر كلامه، فعلاجه أن يعلم: (أولا) ان مجرد الاستشعار لا يستلزم الوقوع، فلعله لا يقبح حاله ولا يشهد عليه، فالمواخذة بمحض التوهم تنافي الديانة والإيمان. و(ثانيا) ان اقتضاء قوله سقوط أثر كلام من اغتابه في حقه مجرد توهم، والتعرض لمقت الله يقيناً بمجرد توهم ترتب فائدة دنيويه عليه محض الجهل والحماقة. و(ثالثاً) أن تأدي فعل الغير ـ أعني تقبيح حاله عند محتشم مع فرض وقوعه ـ إلى اضراره في حيز الشك، إذ ربما لم يقبله المحتشم، وربما لم تقبل شهادته شرعاً، فتقبيح حاله وتحمل معاصيه بدون الجزم بصيرورته سبباً لايذائه محض الجهل والخذلان.
وأما الرحمة له على اثمه والتعجب منه والغضب لله عليه، وان كان كل منها حسناً، إلا أنه إذا لم تكن معه غيبة، وأما إذا كانت معه غيبة أحبط أجره وبقى اثمها، فالعلاج ان يتأمل باعث الرحمة والتعجب والغضب هو الإيمان وحماية الدين، وإذا كان معها غيبة أضرت بالدين والإيمان، وليس شيء من الأمور الثلاث ملزوماً للغيبة لإمكان تحققه بدونها، فمقتضى الإيمان وحماية الدين أن يترحم ويتعجب ويغضب لله، مع ترك الغيبة وإظهار الإثم والعيب، ليكون مأجوراً غير آثم.

[1] الحجرات، الآية: 12.
[2] النساء، الآية: 147.
[3] ق، الآية: 18.
[4] الرواية مذكورة في (البحار): 4مج15/177. قال في الموضع المذكور: " بيان: الاكلة ـ كقرحة ـ داء في العضو يأتكل منه، وقد يقرأ بمد الهمزة على وزن فاعلة، أي العلة التي تأكل اللحم. والأول أوفق باللغة. وقيل الاكلة ـ بالضم ـ اللقمة، وكلاهما محتملان إلى ان ذكر الجوف يؤيد الأول واردة الاضافة والاذهاب يؤيد الثاني والأول أقرب وأصوب، وتشبيه الغيبة بأكل اللقمة أنسب، لأن الله سبحانه شبهها بأكل اللحم ".
[5] صححنا الأحاديث هنا على (الوسائل): كتاب الحج، أبواب أحكام العشرة، الباب 152. وعلى (البحار): 4مج15/177. وعلى (المستدرك): 2/106 وعلى (إحياء العلوم): 3/123.
[6] صححنا الأحاديث الثلاثة على (الوسائل) في الموضع المتقدم. وعلى (أصول الكافي) باب الغيبة والبهت. وعلى (المستدرك).  


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page