• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

مسوغات الكذب


مسوغات الكذب
الكذب حرام، لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، أو لايجابه اعتقاد المخاطب خلاف الواقع، فيصير سبباً لجهله. وهذا القسم مع كونه أهون الدرجات وأقلها إثماً، محرم أيضاً، إذ إلقاء خلاف الواقع على الغير وسببية جهله غير جائز، إلا أنه إذا كان مما يتوقف عليه تحصيل مصلحة مهمة، ولم يمكن التوصل إليها بالصدق، زالت حرمته وارتفع اثمه فان كانت المصلحة مما يجب تحصيلها، كانقاد مسلم من القتل والاسر أو حفظ عرضه أو ماله المحترم، كان الكذب فيه واجباً. وان كانت راجحة غير بالغة حد الوجوب، فالكذب لتحصيلها مباح أو راجح مثلها كالاصلاح بين الناس والغلبة على العدو في الحرب، وتطييب خاطر امرأته واسترضائها وقد وردت الأخبار المتكثرة بجواز الكذب إذا توقف عليه تحصيل هذه المقاصد الثلاثة، كما روى: " ان رسول الله (ص) لم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الاصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها "، وقال (ص): " ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً ". وقال (ص): " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما ". وقال (ص): " كل الكذب مكتوب كذبا لامحالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب في الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها ". وقال (ص): " لا كذب على المصلح ". وقال الصادق (ع): " كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة: رجل كايد في حروبه، فهو موضوع عنه. أو رجل اصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الإصلاح ما بينهما. أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم ". وقال (ع): " الكلام ثلاثة: صدق وكذب، واصلاح بين الناس "، قيل له: ما الاصلاح بين الناس قال: " تسمع في الرجل كلاماً يبلغه فيخبث نفسه، فتلقاه وتقول: قد سمعت من فلان فيك من الخير كذا وكذ، خلاف ما سمعت منه "[1] وقد تقدمت أخبار آخر في هذا المعنى.
وهذه الأخبار وإن اختصت بالمقاصد الثلاثة، إلا أن غيرها من المقاصد الضرورية التي فوقها أو مثلها في المصلحة يلحقها من باب الأولوية أو اتحاد الطريق. والأخبار التي وردت في ذم هتك السر وكشف العيوب والفواحش تفيد وجوب القول بعدم الاطلاع، وإن كان مطلعاً مع كونه كذباً، فلا اثم على أحد بصدور الكذب عنه إذا كان وسيلة إلى شيء من المقاصد الصحيحة الضرورية له أو لغيره من المسلمين، فان أخذه ظالم وسأله عن ماله فله أن ينكر، وإن أخذه سلطان وسأله عن فاحشة ارتكبها بينه وبين الله فله أن ينكر، وإن سئل عما يعلمه عن عيب أخيه أو سره فله أن ينكره، ولو وقع بين اثنين فساد فله أن يكذب، توسلا إلى الإصلاح بينهما وكذا يجوز له للاصلاح بين الضرات من نسائه أن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد مالا يقدر عليه، يجوز أن يعدها في الحال تطييباً لقلبها، وإن لم يكن صادقاً في وعده. ويلحق بالنساء الصبيان، فان الصبي إذا لم يرغب فيما يؤمر به من الكتابة وغيرها إلا بوعد أو وعيد وتخويف، كان ذلك جائزاً، وإن لم يكن في نيته الوفاء به. وكذا لو تكدر منه إنسان، وكان لا يطيب قلبه إلا بالاعتذار إليه، بانكار ذنب وإظهار زيادة تودد، كان ذلك جائزاً وإن لم يكن صدقاً.
والحاصل: أن الكذب لدفع ضرر أو شر أو فساد جائز، بشرط صحة القصد. وقد ورد: ان الكذب المباح يكتب ويحاسب عليه لتصحيح قصده، فان كان قصده صحيحاً يعفى، وإلا يؤاخذ به. فينبغي ان يجتهد في تصحيح قصده، وان يحترز عنه مالم يضطر إليه، ويقتصر فيه على حد الواجب، ولا يتعدى إلى ما يستغنى عنه.
ولا ريب في أن ما يجب ويضطر إليه هو الكذب لأمور في فواتها محذور واضرار، وليس كل الكذب لزيادة المال والجاه وغير ذلك مما يستغنى عنه، فانه محرم قطعاً، إذ فواته لا يوجب ضرراً وفساداً واعداماً للموجود بل إنما يوجب فوت حظ من حظوظ النفس. وكذلك فتوى العالم بما لا يحققه وفتوى من ليس له اهلية الافتاء، اظهاراً للفضل أو طلباً للجاه والمال، بل هو اشد أنواع الكذب إثما وحرمة لأنه مع كونه كذبا لا يستغنى عنه، كذب على الله وعلى رسوله.
فالكذب إذا كان وسيلة إلى ما يستغنى عنه حرام مطلقاً، وإذا كان وسيلة إلى ما لا يستغنى عنه ينبغي أن يوازن[2] محذور الكذب مع محذور الصدق، فيترك أشدهما وقعاً في نظر الشرع. وبيان ذلك: أن الكذب في نفسه محذور، والصدق في المواضع المذكورة يوجب محذوراً، فينبغي أن يقابل أحد المحذورين بالآخر، ويوازنا بالميزان القسط، فان كان محذور الكذب أهون من محذور الصدق فله الكذب، وان كان محذور الصدق أهون وجب الصدق، وقد يتقابل المحذوران بحيث يتردد فيهما، وحينئذ فالميل إلى الصدق أولى، إذ الكذب أصله الحرمة، وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة، وإذا شك في كون الحاجة مهمة، لزم الرجوع إلى أصل التحريم.


التورية والمبالغة
كل موضع يجوز فيه الكذب، إن أمكن عدم التصريح به والعدول إلى التعريض والتورية، كان الأولى ذلك. وما قيل: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإن فيها ما يغني الرجل عن الكذب، ليس المراد به أنه يجوز التعريض بدون حاجة واضطرار، إذ التعريض بالكذب يقوم مقام التصريح به لأن المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في نفسه، وهذا موجود في الكذب بالمعاريض. فالمراد أن التعريض يجوز إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، ومست الحاجة إليه، واقتضته المصلحة في بعض الأحوال في تأديب النساء والصبيان ومن يجرى مجراهم وفي الحذر عن الظلمة والأشرار في قتال الأعداء. فمن اضطر إلى الكذب في شيء من ذلك فهو جائز له، لأن نطقه فيه إنما هو على مقتضى الحق والدين، فهو في الحقيقة صادق، وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه لصدق نيته وصحة قصده وارادته الخير والصلاح، فمثل هذا النطق لا يكون خارجا عن حقيقة الصدق، إذ الصدق ليس مقصوداً لذاته، بل للدلالة على الحق، فلا ينظر إلى قالبه وصورته، بل إلى معناه وحقيقته. نعم، ينبغي له في هذه المواضع أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا يصدق اللفظ حينئذ أيضاً وإن كان متشاركاً مع التصريح في تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع. وقد كان رسول الله (ص) إذا توجه إلى سفر وراه بغيره، لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصدونه.
ومما يدل على جواز التعريض مع صحة النية، ماروي في الاحتجاج " أنه سئل الصادق (ع) عن قول الله تعالى في قصة إبراهيم (ع):
" قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "[3].
قال: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إنما قال إبراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، أي إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم (ع) " وسئل عن قوله تعالى:
" أيتها العير إنكم لسارقون "[4].
قال: انهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك، انما سرقوا يوسف من أبيه ". " وسئل عن قول إبراهيم:
" فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم "[5].
قال: ما كان إبراهيم سقيما، وما كذب انما عنى سقيما في دينه، أي مرتادا ".
وطريق التعريض والتورية: أن يخبر المتكلم المخاطب بلفظ ذى احتمالين أحدهما غير مطابق للواقع واظهر في المقام، فيحمله المخاطب عليه، وثانيهما مطابق له يريده المتكلم، كما ظهر من خبر الاحتجاج. ومن أمثلته: أنه إذا طلبك ظالم وانت في دارك ولا تريد الخروج إليه، أن تقول لأحد أن يضع اصبعه في موضع ويقول: ليس ههنا. وإذا بلغ عنك شيء إلى رجل، وأردت تطييب قلبه من غير أن تكذب، تقول له: ان الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، على أن يكون لفظة (ما) عندك للابهام، وعند المستمع للنفي. وقد ظهر مما ذكر: أن كل تعريض لغرض باطل بالتصريح في عدم الجواز، لأن فيه تقريراً للغير على ظن كاذب. نعم قد تباح المعاريض لغرض حفيف، كتطييب قلب الغير بالمزاج، كقول النبي (ص): " لا تدخل الجنة عجوز " و "في عين زوجك بياض " و " نحملك على ولد بعير "... وقس عليه أمثال ذلك.
ومن الكذب الذي يجوز ولا يوجب الفسق، ما جرت به العادة في المبالغة، كقولك: قلت لك كذا مائة مرة، وطلبتك مائة مرة. وأمثال ذلك لأنه لا يراد بذلك تفهيم المرات بعددها، بل تفهيم المبالغة. فان لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا، وان طلبه مرات لايعتاد مثلها في الكثرة فلا بأثم، وان لم تبلغ مائة.
ومن الكذب الذي لا اثم عليه ما يكون في أنواع المجاز والاستعارات والتشبيهات، إذ الغرض تفهيم نوع من المناسبة والمبالغة، لا دعوى الحقيقة والمساواة من جميع الجهات.
ومن الكذب الذي جرت العادة به، ويتساهل فيه، قول الرجل إذا قيل له: كل الطعام: (لا اشتهيه)، مع كونه مشتهياً له. وهذا منهى عنه كما تدل عليه بعض الأخبار، إلا إذا كان فيه غرض صحيح، وما جرت العادة به قول الرجل: (الله يعلم) فيما لا يعلمه، وهو اشد أنواع الكذب، قال عيسى (ع): " إن من أعظم الذنوب عند الله ان يقول العبد: ان الله يعلم لما لا يعلم ". ومن الكذب الذي عظم ذنبه ويتساهل فيه، الكذب في حكاية المنام، قال رسول الله (ص): " إن من اعظم الفرية ان يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه في المنام مالم ير، أو يقول على مالم أقل ". وقال (ص): " من كذب في حلم، كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعرتين ".


مسوغات الكذب
الكذب حرام، لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، أو لايجابه اعتقاد المخاطب خلاف الواقع، فيصير سبباً لجهله. وهذا القسم مع كونه أهون الدرجات وأقلها إثماً، محرم أيضاً، إذ إلقاء خلاف الواقع على الغير وسببية جهله غير جائز، إلا أنه إذا كان مما يتوقف عليه تحصيل مصلحة مهمة، ولم يمكن التوصل إليها بالصدق، زالت حرمته وارتفع اثمه فان كانت المصلحة مما يجب تحصيلها، كانقاد مسلم من القتل والاسر أو حفظ عرضه أو ماله المحترم، كان الكذب فيه واجباً. وان كانت راجحة غير بالغة حد الوجوب، فالكذب لتحصيلها مباح أو راجح مثلها كالاصلاح بين الناس والغلبة على العدو في الحرب، وتطييب خاطر امرأته واسترضائها وقد وردت الأخبار المتكثرة بجواز الكذب إذا توقف عليه تحصيل هذه المقاصد الثلاثة، كما روى: " ان رسول الله (ص) لم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الاصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها "، وقال (ص): " ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً ". وقال (ص): " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما ". وقال (ص): " كل الكذب مكتوب كذبا لامحالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب في الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها ". وقال (ص): " لا كذب على المصلح ". وقال الصادق (ع): " كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة: رجل كايد في حروبه، فهو موضوع عنه. أو رجل اصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الإصلاح ما بينهما. أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم ". وقال (ع): " الكلام ثلاثة: صدق وكذب، واصلاح بين الناس "، قيل له: ما الاصلاح بين الناس قال: " تسمع في الرجل كلاماً يبلغه فيخبث نفسه، فتلقاه وتقول: قد سمعت من فلان فيك من الخير كذا وكذ، خلاف ما سمعت منه "[1] وقد تقدمت أخبار آخر في هذا المعنى.
وهذه الأخبار وإن اختصت بالمقاصد الثلاثة، إلا أن غيرها من المقاصد الضرورية التي فوقها أو مثلها في المصلحة يلحقها من باب الأولوية أو اتحاد الطريق. والأخبار التي وردت في ذم هتك السر وكشف العيوب والفواحش تفيد وجوب القول بعدم الاطلاع، وإن كان مطلعاً مع كونه كذباً، فلا اثم على أحد بصدور الكذب عنه إذا كان وسيلة إلى شيء من المقاصد الصحيحة الضرورية له أو لغيره من المسلمين، فان أخذه ظالم وسأله عن ماله فله أن ينكر، وإن أخذه سلطان وسأله عن فاحشة ارتكبها بينه وبين الله فله أن ينكر، وإن سئل عما يعلمه عن عيب أخيه أو سره فله أن ينكره، ولو وقع بين اثنين فساد فله أن يكذب، توسلا إلى الإصلاح بينهما وكذا يجوز له للاصلاح بين الضرات من نسائه أن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد مالا يقدر عليه، يجوز أن يعدها في الحال تطييباً لقلبها، وإن لم يكن صادقاً في وعده. ويلحق بالنساء الصبيان، فان الصبي إذا لم يرغب فيما يؤمر به من الكتابة وغيرها إلا بوعد أو وعيد وتخويف، كان ذلك جائزاً، وإن لم يكن في نيته الوفاء به. وكذا لو تكدر منه إنسان، وكان لا يطيب قلبه إلا بالاعتذار إليه، بانكار ذنب وإظهار زيادة تودد، كان ذلك جائزاً وإن لم يكن صدقاً.
والحاصل: أن الكذب لدفع ضرر أو شر أو فساد جائز، بشرط صحة القصد. وقد ورد: ان الكذب المباح يكتب ويحاسب عليه لتصحيح قصده، فان كان قصده صحيحاً يعفى، وإلا يؤاخذ به. فينبغي ان يجتهد في تصحيح قصده، وان يحترز عنه مالم يضطر إليه، ويقتصر فيه على حد الواجب، ولا يتعدى إلى ما يستغنى عنه.
ولا ريب في أن ما يجب ويضطر إليه هو الكذب لأمور في فواتها محذور واضرار، وليس كل الكذب لزيادة المال والجاه وغير ذلك مما يستغنى عنه، فانه محرم قطعاً، إذ فواته لا يوجب ضرراً وفساداً واعداماً للموجود بل إنما يوجب فوت حظ من حظوظ النفس. وكذلك فتوى العالم بما لا يحققه وفتوى من ليس له اهلية الافتاء، اظهاراً للفضل أو طلباً للجاه والمال، بل هو اشد أنواع الكذب إثما وحرمة لأنه مع كونه كذبا لا يستغنى عنه، كذب على الله وعلى رسوله.
فالكذب إذا كان وسيلة إلى ما يستغنى عنه حرام مطلقاً، وإذا كان وسيلة إلى ما لا يستغنى عنه ينبغي أن يوازن[2] محذور الكذب مع محذور الصدق، فيترك أشدهما وقعاً في نظر الشرع. وبيان ذلك: أن الكذب في نفسه محذور، والصدق في المواضع المذكورة يوجب محذوراً، فينبغي أن يقابل أحد المحذورين بالآخر، ويوازنا بالميزان القسط، فان كان محذور الكذب أهون من محذور الصدق فله الكذب، وان كان محذور الصدق أهون وجب الصدق، وقد يتقابل المحذوران بحيث يتردد فيهما، وحينئذ فالميل إلى الصدق أولى، إذ الكذب أصله الحرمة، وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة، وإذا شك في كون الحاجة مهمة، لزم الرجوع إلى أصل التحريم.


التورية والمبالغة
كل موضع يجوز فيه الكذب، إن أمكن عدم التصريح به والعدول إلى التعريض والتورية، كان الأولى ذلك. وما قيل: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإن فيها ما يغني الرجل عن الكذب، ليس المراد به أنه يجوز التعريض بدون حاجة واضطرار، إذ التعريض بالكذب يقوم مقام التصريح به لأن المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في نفسه، وهذا موجود في الكذب بالمعاريض. فالمراد أن التعريض يجوز إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، ومست الحاجة إليه، واقتضته المصلحة في بعض الأحوال في تأديب النساء والصبيان ومن يجرى مجراهم وفي الحذر عن الظلمة والأشرار في قتال الأعداء. فمن اضطر إلى الكذب في شيء من ذلك فهو جائز له، لأن نطقه فيه إنما هو على مقتضى الحق والدين، فهو في الحقيقة صادق، وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه لصدق نيته وصحة قصده وارادته الخير والصلاح، فمثل هذا النطق لا يكون خارجا عن حقيقة الصدق، إذ الصدق ليس مقصوداً لذاته، بل للدلالة على الحق، فلا ينظر إلى قالبه وصورته، بل إلى معناه وحقيقته. نعم، ينبغي له في هذه المواضع أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا يصدق اللفظ حينئذ أيضاً وإن كان متشاركاً مع التصريح في تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع. وقد كان رسول الله (ص) إذا توجه إلى سفر وراه بغيره، لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصدونه.
ومما يدل على جواز التعريض مع صحة النية، ماروي في الاحتجاج " أنه سئل الصادق (ع) عن قول الله تعالى في قصة إبراهيم (ع):
" قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "[3].
قال: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إنما قال إبراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، أي إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم (ع) " وسئل عن قوله تعالى:
" أيتها العير إنكم لسارقون "[4].
قال: انهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك، انما سرقوا يوسف من أبيه ". " وسئل عن قول إبراهيم:
" فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم "[5].
قال: ما كان إبراهيم سقيما، وما كذب انما عنى سقيما في دينه، أي مرتادا ".
وطريق التعريض والتورية: أن يخبر المتكلم المخاطب بلفظ ذى احتمالين أحدهما غير مطابق للواقع واظهر في المقام، فيحمله المخاطب عليه، وثانيهما مطابق له يريده المتكلم، كما ظهر من خبر الاحتجاج. ومن أمثلته: أنه إذا طلبك ظالم وانت في دارك ولا تريد الخروج إليه، أن تقول لأحد أن يضع اصبعه في موضع ويقول: ليس ههنا. وإذا بلغ عنك شيء إلى رجل، وأردت تطييب قلبه من غير أن تكذب، تقول له: ان الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، على أن يكون لفظة (ما) عندك للابهام، وعند المستمع للنفي. وقد ظهر مما ذكر: أن كل تعريض لغرض باطل بالتصريح في عدم الجواز، لأن فيه تقريراً للغير على ظن كاذب. نعم قد تباح المعاريض لغرض حفيف، كتطييب قلب الغير بالمزاج، كقول النبي (ص): " لا تدخل الجنة عجوز " و "في عين زوجك بياض " و " نحملك على ولد بعير "... وقس عليه أمثال ذلك.
ومن الكذب الذي يجوز ولا يوجب الفسق، ما جرت به العادة في المبالغة، كقولك: قلت لك كذا مائة مرة، وطلبتك مائة مرة. وأمثال ذلك لأنه لا يراد بذلك تفهيم المرات بعددها، بل تفهيم المبالغة. فان لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا، وان طلبه مرات لايعتاد مثلها في الكثرة فلا بأثم، وان لم تبلغ مائة.
ومن الكذب الذي لا اثم عليه ما يكون في أنواع المجاز والاستعارات والتشبيهات، إذ الغرض تفهيم نوع من المناسبة والمبالغة، لا دعوى الحقيقة والمساواة من جميع الجهات.
ومن الكذب الذي جرت العادة به، ويتساهل فيه، قول الرجل إذا قيل له: كل الطعام: (لا اشتهيه)، مع كونه مشتهياً له. وهذا منهى عنه كما تدل عليه بعض الأخبار، إلا إذا كان فيه غرض صحيح، وما جرت العادة به قول الرجل: (الله يعلم) فيما لا يعلمه، وهو اشد أنواع الكذب، قال عيسى (ع): " إن من أعظم الذنوب عند الله ان يقول العبد: ان الله يعلم لما لا يعلم ". ومن الكذب الذي عظم ذنبه ويتساهل فيه، الكذب في حكاية المنام، قال رسول الله (ص): " إن من اعظم الفرية ان يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه في المنام مالم ير، أو يقول على مالم أقل ". وقال (ص): " من كذب في حلم، كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعرتين ".

شهادة الزور واليمين الكاذب وخلف الوعد

شهادة الزور،اليمين الكاذب،خلف الوعد
من أنواع الكذب وافحشها: شهادة الزور،واليمين الكاذب، وخلف الوعد.
ويدل على ذم الأول قوله تعالى في صفة المؤمنين:
" والذين لا يشهدون الزور وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً "[6].
وقول النبي (ص): " شاهد الزور كعابد الوثن ".
وعلى ذم الثاني قول النبي (ص): " التجار هم الفجار! " فقيل: يا رسول الله، أليس الله قد أحل البيع؟ فقال: " نعم! ولكنهم يحلفون فيأثمون، ويحدثون فيكذبون " وقوله (ص): " ثلاث نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم: المنان بعطيته، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر،والمسبل إزاره " وقوله (ص): " ما حلف حالف بالله فادخل فيها جناح بعوضة، إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة ". وقوله (ص): " ثلاث يشنأهم الله: التاجر أو البايع الحلاف، والفقير المحتال، والبخيل المنان ".
وعلى ذم الثالث قول النبي (ص): " من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فليف إذا وعد ". وقول الصادق (ع): " عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن اخلف فبخلف الله تعالى بدأ ولمقته تعرض، وذلك قوله تعالى:
يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون "[7].
وقال رسول الله (ص): " أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد اخلف، وإذا عاهد عذر وإذا خاصم فجر ". فمن وعد وكان عند الوعد عازما على ألا يفي، أو كان عازما على الوفاء وتركه بدون عذر، فهو منافق. وأما إن عن له عذر من الوفاء لم يكن منافقاً وآثماً. وان جرى عليه ما هو صورة النفاق، فالأولى أن يحترز عن صورة النفاق أيضاً كما يحترز عن حقيقته، وذلك بألا يجزم في الوعد، بل يعلقه على المشية ومثلها.

علاج الكذب

علاج الكذب
طريق معالجة الكذب: أولا: أن يتأمل في ما ورد في ذمه من الآيات والأخبار، ليعلم أنه لو لم يتركه لا دركه الهلاك الأبدي. ثم يتذكر أن كل كاذب ساقط عن القلوب في الدنيا ولا يعتني أحد بقوله، وكثيراً ما يفتضح عند الناس بظهور كذبه. ومن أسباب افتضاحه أن الله سبحانه يسلط عليه النسيان، حتى أنه لو قال شيئاً ينسى أنه قاله، فيقول خلاف ما قاله، فيفتضح. والى ذلك اشار الصادق (ع) بقوله: " إن مما أعان الله به على الكذابين النسيان ". ثم يتأمل في الآيات والأخبار الواردة في مدح ضده، أعني الصدق كما يأتي، وبعد ذلك ان لم يكن عدواً لنفسه، فليقدم التروي في كل كلام يريد أن يتكلم به، فان كان كذبا يتركه وليجتنب مجالسة الفساق وأهل الكذب، ويجالس الصلحاء وأهل الصدق.

الصدق ومدحه

الصدق ومدحه
ضد الكذب الصدق. وهو أشرف الصفات المرضية، ورئيس الفضائل النفسية، وما ورد في مدحه وعظم فائدته من الآيات والأخبار مما لا يمكن إحصاؤه، قال الله سبحانه:
" رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه "[8]. وقال: " إتقوا الله وكونوا مع الصادقين "[9]. وقال: " الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار "[10]. وقال سبحانه: " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ـ إلى قوله ـ أولئك هم الصادقون "[11]. وقال عز وجل: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر " ثم قال: الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا "[12].
وقال رسول الله (ص): " تقبلوا الي بست أتقبل لكم بالجنة: إذا حدث احدكم فلا يكذب، وإذا وعد فلا يخلف، وإذا ائتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم" وعن الصادقين ـ عليهما السلام ـ: " ان الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صديقاً ". وعن الصادق (ع) قال: " كونوا دعاة الناس بالخير بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع ". وعنه (ع) " من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن بره بأهل بيته مد له في عمره ". وعنه (ع) قال: " لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، فان ذلك شيء اعتاده، ولو تركه لاستوحش لذلك، ولكن انظروا إلى صدق حديثه واداء أمانته ". وقال (ع) لبعض اصحابه: " انظروا إلى ما بلغ به علي (ع) عند رسول الله (ص) فالزمه، فان علياً (ع) انما بلغ ما بلغ به عند رسول الله بصدق الحديث وأداء الامانة ". وعنه (ع) قال: " إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث واداء الامانة إلى البر والفاجر "[13]. وقال (ع): " أربع من كن فيه كمل ايمانه ولو كان ما بين قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصه ذلك ـ قال ـ هي الصدق، واداء الامانة، والحياء، وحسن الخلق ". وقد وردت بهذه المضامين أخبار كثيرة أخر. ومن أنواع الصدق في الشهادة، وهو ضد شهادة الزور والصدق في اليمين، وهو ضد الكذب فيه، والوفاء بالعهد وهو ضد خلف الوعد، وهذا القسم من الصدق، اعني الوفاء بالعهد، أفضل أنواع الصدق القولي وأحبها، ولذا اثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل به، وقال:
" إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً "[14].
قيل: انه واعد إنساناً في موضع فلم يرجع إليه، فبقى اثنين وعشرين يوماً في انتظاره. وروى: " أنه بايع رجل رسول الله (ص) ووعده أن يأتيه في مكانه ذلك، فنسى وعده في يومه وغده، واتاه في اليوم الثالث وهو في مكانه " وقال رسول الله: " العدة دين " وقال (ص): الوأى ـ أي الوعد ـ مثل الدين أو أفضل ".

أقسام الصدق

أقسام الصدق
الصدق كالكذب له أنواع ستة:
الأول ـ الصدق في القول، وهو الإخبار عن الأشياء على ما هي عليه، وكمال هذا النوع بترك المعاريض من دون ضرورة، حذراً من تفهيم الخلاف وكسب القلب صورة كاذبة، ورعاية معناه في الفاظه التي يناجي بها الله سبحانه، فمن قال: " وجهت وجهي للذي فطر السماوات والارض " وفي قلبه سواه، أو قال: " اياك نعبد " وهو يعبد الدنيا بتقيد قلبه بها، إذ كل من تقيد قلبه بشيء فهو عبد له، كما دلت عليه الأخبار، فهو كاذب.
الثاني ـ الصدق في النية والارادة، ويرجع ذلك إلى الإخلاص، وهو تمحيض النية وتخليصها لله، بألا يكون له باعث في طاعاته، بل في جميع حركاته وسكناته، إلا الله. فالشوب يبطله ويكذب صاحبه.
الثالث ـ الصدق في العزم، أي الجزم على الخير: فان الإنسان قد يقدم العزم على العمل، ويقول في نفسه: إن رزقني الله كذا تصدقت منه كذا، وإن خلصني الله من تلك البلية فعلت كذا. فان كان في باطنه جازماً على هذا العزم، مصمما على العمل بمقتضاه، فعزمه صادق، وإن كان في عزمه نوع ميل وضعف وتردد، كان عزمه كاذباً، إذ التردد في العزيمة يضاد الصدق فيها، وكان الصدق هنا بمعنى القوة والتمامية، كما يقال: لفلان شهوة صادقة، أي قوة تامة، أو شهوة كاذبة، أي ناقصة ضعيفة.
الرابع ـ الصدق في الوفاء بالعزم: فان النفس قد تسخو بالعزم في الحال، إذ لا مشقة في الوعد، فإذا حان حين العمل بمقتضاه هاجت الشهوات وتعارضت مع باعث الدين، وربما غلبته بحيث انحلت العزيمة ولم يتفق الوفاء بمتعلق الوعد، وهذا يضاد الصدق فيه، ولذلك قال الله سبحانه:
" رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه "[15].
الخامس ـ الصدق في الاعمال: وهو تطابق الباطن والظاهر واستواء السريرة والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، بألا تدل اعماله الظاهرة على أمر في باطنه لا يتصف هو به، لا بأن يترك الاعمال، بل بأن يستجر الباطن إلى تصديق الظاهر. وهذا اعلى مراتب الإخلاص، لإمكان تحقق نوع من الإخلاص بما دون ذلك، وهو أن يخالف الباطن الظاهر من دون قصد، فان ذلك ليس رياء فلا يمتنع صدق اسم الإخلاص عليه.
وتوضيح ذلك: أن الرياء هو أن تقصد غير الله سبحانه في الاعمال وقد تصدر عن إنسان اعمال ظاهرة تدل على أنه صاحب فضيلة باطنة، من التوجه إلى الله والإنس به، أو السكينة والوقار، أو التسليم والرضا وغير ذلك، مع أنه فاقد لها، لحصول الغلبة المانعة عن تحققها، أو اتفاق صدور الاعمال الظاهرة بهذه الهيئة من دون أن يقصد بها مشاهدة غيره سبحانه، فهذا غير صادق في عمله، كاذب في دلالة الظاهر على الباطن وإن لم يكن مرائياً ولا ملتفتاً إلى الخلق، فاذن مخالفة الظاهر للباطن ان كانت من قصد سميت رياء، ويفوت بها الإخلاص، وان كانت من غير قصد سميت كذبا ويفوت بها الصدق، وربما لم يفت بها بعض مراتب الإخلاص. وهذا النوع من الصدق ـ اعني مساواة السر والعلانية أو كونه خيراً منها ـ أعز من الانواع السابقة عليه، ولذلك كرر طلبه من الله سيد الرسل (ص) في دعواته بقوله: " اللهم اجعل سريرتي خيراً من علانيتي، واجعل علانيتي صالحة " وورد: " أنه إذا ساوت سريرة المؤمن علانيته، باهى الله به الملائكة، يقول: هذا عبدي حقاً! ". وكان بعض الأكابر يقول: " من يدلني على بكاء بالليل بسام بالنهار؟ ". ولنعم ما قيل:  
فقد عز في الدارين واستوجب الثنا
على سعيه فضل سوى الكد والعنا
ومغشوشه المردود لا يقتضي المنى        
إذا السر والاعلان في المؤمن استوى
وان خالف الاعلان سراً فما له
كما خالص الدينار في السوق نافق
ومن جملة هذا الصدق: موافقة القول والفعل، فلا يقول ما لا يفعل ولا يأمر بما لا يعمل. فمن وعظ ولم يتعظ في نفسه كان كاذباً. ومن هنا قال أمير المؤمنين (ع): " انى والله ما احثكم على طاعة إلا واسبقكم إليها، ولا انهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها ".
السادس ـ الصدق في مقامات الدين: من الصبر، والشكر، والتوكل والحب، والرجاء، والخوف، والزهد، والتعظيم، والرضا، والتسليم، وغير ذلك. وهو اعلى درجات الصدق وأعزها، فمن اتصف بحقائق هذه المقامات ولوازمها وآثارها وغاياتها فهو الصديق الحق، ومن كان له فيها مجرد ما يطلق عليه الاسم دون اتصافه بحقائقها وآثارها وغاياتها فهو كاذب فيها. أما ترى أن من خاف سلطاناً أو غيره كيف يصفر لونه ويتعذر عليه أكله ونومه ويتنغص عليه عيشه ويتفرق عليه فكره وترتعد فرائصه وتتزلزل اركانه وجوانبه؟ وقد ينزح عن وطنه ويفترق عن أهله وولده، فيستبدل بالإنس الوحشة، وبالراحة التعب والمشقة، فيعترض للاخطار ويختار مشقة الاسفار، كل ذلك من درك المحذور. فمثل هذا الخوف هو الخوف الصادق المحقق. ثم ان من يدعي الخوف من الله أو من النار ولا يظهر عليه شيء من ذلك عند ارادة المعصية وصدورها عنه، فخوفه خوف كاذب. قال النبي (ص): " لم أر مثل النار نام هاربها، ولم ار مثل الجنة نام طالبها ".
ثم لا غاية لهذه المقدمات حتى يمكن لأحد أن ينال غايتها، بل لكل عبد منها حظ بحسب حاله ومرتبته، فمعرفة الله وتعظيمه والخوف منه غير متناهية، فلذلك لما رأى (ص) جبرئيل على صورته الاصلية، خر مغشياً عليه، وقال ـ بعد عودته إلى صورته الأولى وافاقته ـ " ما ظننت أحداً من خلق الله هكذا! قال: فكيف لو رأيت اسرافيل إن العرش على كاهله، وان رجليه قد مرقتا تخوم الارضين السفلى، وأنه ليتصاغر من عظمة الله حتى يصير كالوصع! ": كالعصفور الصغير وقال (ص): " مررت ليلة أسرى بي ـ أنا وجبرئيل ـ بالملا الاعلى كالحلس البالي من خشية الله ": أي كالكساء الذي يلقى على ظهر البعير.
فانظر إلى اعاظم الملائكة والنبيين، كيف تصير حالهم من شدة الخشية والتعظيم، وهذا انما هو لقوة معرفتهم بعظمة الله وجلاله، وفوق ما لم يدركوه من عظمته وقدرته مراتب غير متناهية. فاختلاف الناس في مراتب الخوف والتعظيم والحب والإنس إنما هو بحسب اختلافهم في معرفة الله، وليس يمكن ان يوجد من بلغ غايتها، فاختلاف الناس إنما هو في القدر الذي يمكن أن يبلغ إليه، والبلوغ إليه في الجميع أيضاً نادر، فالصادق في جميع المقامات عزيز جداً.
ومن علامات هذا الصدق: كتمان المصائب والطاعات جميعاً، وكراهة اطلاع الخلق عليها. وقد روى: " ان الله تعالى اوحى إلى موسى (ع): إني إذا أحببت عبداً ابتليته ببلايا لا تقوى لها الجبال، لأنظر كيف صدقه، فان وجدته صابراً اتخذته ولياً وحبيباً، وان وجدته جزوعاً يشكوني إلى خلقي خذلته ولم ابال ". وقال الصادق (ع): " إذا أردت أن تعلم أصادق أنت أم كاذب، فانظر في صدق معناك وعقد دعواك، وعيرهما بقسطاس من الله عز وجل كأنك في القيامة، قال عز وجل:
" والوزن يومئذٍ الحق "[16].
فإذا اعتدل معناك بغور دعواك ثبت لك الصدق. وادنى حد الصدق ألا يخالف اللسان القلب ولا القلب اللسان، ومثل الصادق الموصوف بما ذكرنا كمثل النازع لروحه، إن لم ينزع فماذا يصنع "[17].
[1] صححنا هذه الأخبار على (أصول الكافي): باب الكذب. و(الوسائل): كتاب الحج، الباب 141 من أبواب العشرة، و(كنز العمال): 2/128. و(إحياء العلوم): 3/119.
[2] لم يثبت لهذه الموازنة على عمومها دليل من الشرع، وكل ما ثبت منه تلك المواضع المذكورة آنفاً، التي جاز فيها الكذب، وهي: الاصلاح والحرب والزوجة، وفي الحصر بالمواضع الثلاثة في الروايات المتقدمة دليل على عدم جواز الكذب في غيرها، لاسيما مثل قوله (ع): " كل كذب مسؤل عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة... " ولكن ثبت استثناء بعض المواضع، كدفع الظلم، فلا يتعداها.
[3] الأنبياء، الآية: 63.
[4] يوسف، الآية: 70.
[5] الصافات، الآية: 88، 89.
[6] الفرقان، الآية: 72.
[7] الصف، الآية: 2ـ 3.
[8] الاحزاب، الآية: 23.
[9] التوبة، الآية: 120.
[10] آل عمران، الآية: 17.
[11] الحجرات، الآية: 15.
[12] البقرة، الآية: 177.
[13] صححنا اغلب الأحاديث على (أصول الكافي): باب الصدق واداء الأمانة. وعلى (الوسائل): كتاب الحج، باب وجوب الصدق وعلى (المستدرك) 2/84 ـ 89.
[14] مريم، الآية: 54.
[15] الاحزاب، الآية: 23.
[16] الأعراف، الآية: 7.
[17] هذا الحديث في (مصباح الشريعة): الباب 75 فصححناه عليه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page