مسوغات الكذب
الكذب حرام، لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، أو لايجابه اعتقاد المخاطب خلاف الواقع، فيصير سبباً لجهله. وهذا القسم مع كونه أهون الدرجات وأقلها إثماً، محرم أيضاً، إذ إلقاء خلاف الواقع على الغير وسببية جهله غير جائز، إلا أنه إذا كان مما يتوقف عليه تحصيل مصلحة مهمة، ولم يمكن التوصل إليها بالصدق، زالت حرمته وارتفع اثمه فان كانت المصلحة مما يجب تحصيلها، كانقاد مسلم من القتل والاسر أو حفظ عرضه أو ماله المحترم، كان الكذب فيه واجباً. وان كانت راجحة غير بالغة حد الوجوب، فالكذب لتحصيلها مباح أو راجح مثلها كالاصلاح بين الناس والغلبة على العدو في الحرب، وتطييب خاطر امرأته واسترضائها وقد وردت الأخبار المتكثرة بجواز الكذب إذا توقف عليه تحصيل هذه المقاصد الثلاثة، كما روى: " ان رسول الله (ص) لم يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الاصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها "، وقال (ص): " ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً ". وقال (ص): " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين رجلين يصلح بينهما ". وقال (ص): " كل الكذب مكتوب كذبا لامحالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب في الحرب خدعة، أو يكون بين رجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها ". وقال (ص): " لا كذب على المصلح ". وقال الصادق (ع): " كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً، إلا كذباً في ثلاثة: رجل كايد في حروبه، فهو موضوع عنه. أو رجل اصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى به هذا، يريد بذلك الإصلاح ما بينهما. أو رجل وعد أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتم لهم ". وقال (ع): " الكلام ثلاثة: صدق وكذب، واصلاح بين الناس "، قيل له: ما الاصلاح بين الناس قال: " تسمع في الرجل كلاماً يبلغه فيخبث نفسه، فتلقاه وتقول: قد سمعت من فلان فيك من الخير كذا وكذ، خلاف ما سمعت منه "[1] وقد تقدمت أخبار آخر في هذا المعنى.
وهذه الأخبار وإن اختصت بالمقاصد الثلاثة، إلا أن غيرها من المقاصد الضرورية التي فوقها أو مثلها في المصلحة يلحقها من باب الأولوية أو اتحاد الطريق. والأخبار التي وردت في ذم هتك السر وكشف العيوب والفواحش تفيد وجوب القول بعدم الاطلاع، وإن كان مطلعاً مع كونه كذباً، فلا اثم على أحد بصدور الكذب عنه إذا كان وسيلة إلى شيء من المقاصد الصحيحة الضرورية له أو لغيره من المسلمين، فان أخذه ظالم وسأله عن ماله فله أن ينكر، وإن أخذه سلطان وسأله عن فاحشة ارتكبها بينه وبين الله فله أن ينكر، وإن سئل عما يعلمه عن عيب أخيه أو سره فله أن ينكره، ولو وقع بين اثنين فساد فله أن يكذب، توسلا إلى الإصلاح بينهما وكذا يجوز له للاصلاح بين الضرات من نسائه أن يظهر لكل واحدة أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد مالا يقدر عليه، يجوز أن يعدها في الحال تطييباً لقلبها، وإن لم يكن صادقاً في وعده. ويلحق بالنساء الصبيان، فان الصبي إذا لم يرغب فيما يؤمر به من الكتابة وغيرها إلا بوعد أو وعيد وتخويف، كان ذلك جائزاً، وإن لم يكن في نيته الوفاء به. وكذا لو تكدر منه إنسان، وكان لا يطيب قلبه إلا بالاعتذار إليه، بانكار ذنب وإظهار زيادة تودد، كان ذلك جائزاً وإن لم يكن صدقاً.
والحاصل: أن الكذب لدفع ضرر أو شر أو فساد جائز، بشرط صحة القصد. وقد ورد: ان الكذب المباح يكتب ويحاسب عليه لتصحيح قصده، فان كان قصده صحيحاً يعفى، وإلا يؤاخذ به. فينبغي ان يجتهد في تصحيح قصده، وان يحترز عنه مالم يضطر إليه، ويقتصر فيه على حد الواجب، ولا يتعدى إلى ما يستغنى عنه.
ولا ريب في أن ما يجب ويضطر إليه هو الكذب لأمور في فواتها محذور واضرار، وليس كل الكذب لزيادة المال والجاه وغير ذلك مما يستغنى عنه، فانه محرم قطعاً، إذ فواته لا يوجب ضرراً وفساداً واعداماً للموجود بل إنما يوجب فوت حظ من حظوظ النفس. وكذلك فتوى العالم بما لا يحققه وفتوى من ليس له اهلية الافتاء، اظهاراً للفضل أو طلباً للجاه والمال، بل هو اشد أنواع الكذب إثما وحرمة لأنه مع كونه كذبا لا يستغنى عنه، كذب على الله وعلى رسوله.
فالكذب إذا كان وسيلة إلى ما يستغنى عنه حرام مطلقاً، وإذا كان وسيلة إلى ما لا يستغنى عنه ينبغي أن يوازن[2] محذور الكذب مع محذور الصدق، فيترك أشدهما وقعاً في نظر الشرع. وبيان ذلك: أن الكذب في نفسه محذور، والصدق في المواضع المذكورة يوجب محذوراً، فينبغي أن يقابل أحد المحذورين بالآخر، ويوازنا بالميزان القسط، فان كان محذور الكذب أهون من محذور الصدق فله الكذب، وان كان محذور الصدق أهون وجب الصدق، وقد يتقابل المحذوران بحيث يتردد فيهما، وحينئذ فالميل إلى الصدق أولى، إذ الكذب أصله الحرمة، وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة، وإذا شك في كون الحاجة مهمة، لزم الرجوع إلى أصل التحريم.
التورية والمبالغة
كل موضع يجوز فيه الكذب، إن أمكن عدم التصريح به والعدول إلى التعريض والتورية، كان الأولى ذلك. وما قيل: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، وإن فيها ما يغني الرجل عن الكذب، ليس المراد به أنه يجوز التعريض بدون حاجة واضطرار، إذ التعريض بالكذب يقوم مقام التصريح به لأن المحذور من الكذب تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في نفسه، وهذا موجود في الكذب بالمعاريض. فالمراد أن التعريض يجوز إذا اضطر الإنسان إلى الكذب، ومست الحاجة إليه، واقتضته المصلحة في بعض الأحوال في تأديب النساء والصبيان ومن يجرى مجراهم وفي الحذر عن الظلمة والأشرار في قتال الأعداء. فمن اضطر إلى الكذب في شيء من ذلك فهو جائز له، لأن نطقه فيه إنما هو على مقتضى الحق والدين، فهو في الحقيقة صادق، وإن كان كلامه مفهما غير ما هو عليه لصدق نيته وصحة قصده وارادته الخير والصلاح، فمثل هذا النطق لا يكون خارجا عن حقيقة الصدق، إذ الصدق ليس مقصوداً لذاته، بل للدلالة على الحق، فلا ينظر إلى قالبه وصورته، بل إلى معناه وحقيقته. نعم، ينبغي له في هذه المواضع أن يعدل إلى المعاريض ما وجد إليه سبيلا يصدق اللفظ حينئذ أيضاً وإن كان متشاركاً مع التصريح في تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في الواقع. وقد كان رسول الله (ص) إذا توجه إلى سفر وراه بغيره، لئلا ينتهي الخبر إلى الأعداء فيقصدونه.
ومما يدل على جواز التعريض مع صحة النية، ماروي في الاحتجاج " أنه سئل الصادق (ع) عن قول الله تعالى في قصة إبراهيم (ع):
" قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون "[3].
قال: ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم. قيل: وكيف ذلك؟ فقال: إنما قال إبراهيم فاسألوهم إن كانوا ينطقون، أي إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم (ع) " وسئل عن قوله تعالى:
" أيتها العير إنكم لسارقون "[4].
قال: انهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى أنه قال لهم حين قالوا: ماذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك، ولم يقولوا: سرقتم صواع الملك، انما سرقوا يوسف من أبيه ". " وسئل عن قول إبراهيم:
" فنظر نظرة في النجوم. فقال إني سقيم "[5].
قال: ما كان إبراهيم سقيما، وما كذب انما عنى سقيما في دينه، أي مرتادا ".
وطريق التعريض والتورية: أن يخبر المتكلم المخاطب بلفظ ذى احتمالين أحدهما غير مطابق للواقع واظهر في المقام، فيحمله المخاطب عليه، وثانيهما مطابق له يريده المتكلم، كما ظهر من خبر الاحتجاج. ومن أمثلته: أنه إذا طلبك ظالم وانت في دارك ولا تريد الخروج إليه، أن تقول لأحد أن يضع اصبعه في موضع ويقول: ليس ههنا. وإذا بلغ عنك شيء إلى رجل، وأردت تطييب قلبه من غير أن تكذب، تقول له: ان الله ليعلم ما قلت من ذلك من شيء، على أن يكون لفظة (ما) عندك للابهام، وعند المستمع للنفي. وقد ظهر مما ذكر: أن كل تعريض لغرض باطل بالتصريح في عدم الجواز، لأن فيه تقريراً للغير على ظن كاذب. نعم قد تباح المعاريض لغرض حفيف، كتطييب قلب الغير بالمزاج، كقول النبي (ص): " لا تدخل الجنة عجوز " و "في عين زوجك بياض " و " نحملك على ولد بعير "... وقس عليه أمثال ذلك.
ومن الكذب الذي يجوز ولا يوجب الفسق، ما جرت به العادة في المبالغة، كقولك: قلت لك كذا مائة مرة، وطلبتك مائة مرة. وأمثال ذلك لأنه لا يراد بذلك تفهيم المرات بعددها، بل تفهيم المبالغة. فان لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا، وان طلبه مرات لايعتاد مثلها في الكثرة فلا بأثم، وان لم تبلغ مائة.
ومن الكذب الذي لا اثم عليه ما يكون في أنواع المجاز والاستعارات والتشبيهات، إذ الغرض تفهيم نوع من المناسبة والمبالغة، لا دعوى الحقيقة والمساواة من جميع الجهات.
ومن الكذب الذي جرت العادة به، ويتساهل فيه، قول الرجل إذا قيل له: كل الطعام: (لا اشتهيه)، مع كونه مشتهياً له. وهذا منهى عنه كما تدل عليه بعض الأخبار، إلا إذا كان فيه غرض صحيح، وما جرت العادة به قول الرجل: (الله يعلم) فيما لا يعلمه، وهو اشد أنواع الكذب، قال عيسى (ع): " إن من أعظم الذنوب عند الله ان يقول العبد: ان الله يعلم لما لا يعلم ". ومن الكذب الذي عظم ذنبه ويتساهل فيه، الكذب في حكاية المنام، قال رسول الله (ص): " إن من اعظم الفرية ان يدعى الرجل إلى غير أبيه، أو يرى عينيه في المنام مالم ير، أو يقول على مالم أقل ". وقال (ص): " من كذب في حلم، كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعرتين ".
مسوغات الكذب
- الزيارات: 4042