• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

علاج الرياء


علاج الرياء
لما كانت الأسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح والفرار من ألم الذم والطمع بما في أيدي الناس، فالطريق في علاجه أن يقطع هذه الأسباب وقد تقدم طريق العلاج في قطع الاولين، ويأتي طريق إزالة الثالث. وما نذكره هنا من العلاج العلمي للرياء، هو أن يعلم أن الشيء إنما يرغب فيه لكونه نافعاً، وإذا علم أنه ضار ليعرض عنه البتة، وحينئذ فينبغي لكل مؤمن أن يتذكر مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من المقت والعذاب ومتى تذكر ذلك وقابل ما يحصل له في الدنيا من الناس الذين راءى لأجلهم بما يفوته في الآخرة من ثواب الاعمال، لترك الرياء لا محالة، مع ان العمل الواحد ربما تترجح به كفة حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات، فتترجح به ويهوي إلى النار. هذا مع أن المرائي في الدنيا متشتت الهم متفرق البال بسبب ملاحظة قلوب الناس، فان رضاهم غاية لا تدرك، وكلما يرضى به فريق يسخط به فريق ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً. ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل مدحهم ولا يزيده مدحهم رزقا ولا اجلالا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة؟! ومن كان رياؤه لأجل الطمع بما في ايدي الناس، ينبغي أن يعلم ان الله هو المسخر للقلوب بالمنع والاعطاء، وان الخلق مضطرون فيه، ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل عن الذل والخسة، وان وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، وإذا قرر ذلك في نفسه ولم يكن منكراً لأمسه، زالت غفلته وفترت عن الرياء رغبته وأقبل على الله بقلبه، وانقطع بشراشره إلى جناب ربه. ويكفيه أن يعلم أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إليهم ولو أخلص لله لكشف الله لهم اخلاصه وحببه اليهم وسخرهم له، وأطلق ألسنتهم بمدحه وثنائه، مع أنه لا يحصل له كمال بمدحهم ولا نقصان بذمهم.
ثم من تنور قلبه بنور الإيمان وانشرح صدره باليقين والعرفان، وعرف معنى الواجب وحقيقة الممكن، وتيقن بأن الواجب ـ أي الحقيقة التي تقتضي بنفس ذاته التحقق والبقاء، وهو صرف الوجود ـ يجب أن يكون تاماً فوق التمام، ولا يتصور حقيقة أتم كمالا منه، والحقيقة التي هذا شأنها يجب أن يكون ما سواها باسره مستنداً إليها وصادراً عنها على أشرف انحاء الصدور وأقواها. وهذا النحو الأشرف الأقوى الذي لا يتصور نحوه أقوى منه في الاختراع وأدل منه على كمال عظمة الموجد وقدرته، وهو كون ما سواه سبحانه من الموجودات، إما اعتبارات وشؤنات لدرجات ذاته واشراقات لتجليات صفاته، كما ذهب إليه قوم، أو كونها ماهيات امكانية اختراعية علماً وعيناً، صادرة عن سبحانه بوجودات خاصة متعددة ارتباطية بمحض ارادته ومشيته، كما ذهب إليه آخرون[1] ولو لم يكن غيره من الموجودات مستنداً إليه على أقوى أنحاء الاستناد، لم يكن تاماً فوق التمام، إذ تكون الذات التي يستند الكل إليها باحد النحوين اكمل منه واشرف. وإذا عرف أنه سبحانه كذلك، يعرف أنه ليس في الوجود حقيقة أحد سواه وغيره حقيقته العدم وما له من الوجود والظهور منه سبحانه، وبعد هذه المعرفة لا يختار غيره تعالى عليه، ويعلم أن العباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة، فلا يتغير قلبه بمشاهدة الخلق، ولا يلتفت إليهم إلا بخطرات ضعيفة لايشق عليه ازالتها، فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله.
وأما العلاج العملي، فهو أن يعود نفسه على اخفاء العبادات واغلاق الابواب دونها، كما تغلق الابواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عبادته، ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به. وذلك وإن شق في بداية المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل الطاف الله وما يمده به عبادة من حسن التوفيق والتأييد:
" إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم "[2].
فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية:
" إن الله لا يضيع أجر المحسنين "[3].
القالع مغارس الرياء من قلبه بقطع الطمع واستحقار مدح الناس وذمهم ربما لا يتركه الشيطان، (لا) سيما في أثناء العبادة، فعارضه بخطرات الرياء ونزعاته، حتى احدث في قلبه ميلا خفياً إلى الرياء وحباً له. والحق أن ذلك ليس من الرياء المحرم، ولا تفسد به العبادة، مع كونه كارهاً لهذا الميل والحب وقاهراً على نفسه ماقتاً لها في تأثرها وتغيرها عن نزعات الشيطان ومنازعا للشيطان ومجاهداً إياه لدفع خطراته، لأن الله لم يكلف عباده إلا ما يطيقون، وليس في وسعهم منع الشيطان عن نزعاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى شهواته، وغاية ما يقدرون عليه أن يقابلوا نزعاته وميل الطبع بالكراهة والقهر على النفس في هذا الميل، مع المجاهدة في دفع ذلك بتذكر المعالجات المقررة لدفع الرياء والوساوس، وإذا فعلوا ذلك أدوا ما يجب عليهم. ويدل على ذلك أيضاً ما تقدم من الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة بمجرد الوسوسة، وقول النبي (ص): " الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة ". فوسوسة الشيطان وميل النفس لا يضران مع ردهما بالكراهة والإباء، إذ الوساوس والخواطر والتذكرات والتخيلات المهيجة للرياء من الشيطان، والميل والرغبة بعد تلك الخواطر من النفس، والإباء والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل فلا يضر ما من النفس والشيطان إذا قوبل بما من العقل والإيمان. ولذا قال بعض الأكابر " ما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه ".
ثم الطرق المتصورة في دفع خطرات الرياء في اثناء العبادة مع كراهتها أربع:
الأولى ـ أن يشتغل بمجادلة الشيطان في رد نزعاته، ويطيل معه الجدال.
الثانية ـ أن يقتصر على تكذيب الشيطان ودفعه من غير اشتغال بمجادلته.
الثالثة ـ ألا يشتغل بتكذيبه أيضاً، بل يكتفي بما قرر في عقد ضميره من كراهة الرياء وكذب الشيطان، فيستمر على ما كان عليه مستصحباً له غير مشتغل بالمخاصمة والتكذيب.
الرابعة ـ أن يزيد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله، أو ما يؤدى إليهما، كإخفاء العبادة والصدقة غيظا للشيطان، لأن ذلك يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، ومهما عرف من العبد هذه العادة، كف عنه خوفاً من أن يزيد في حسناته.
ولا ريب في أن الاشتغال بالمجادلة والتكذيب وأطالتهما يمنع الحضور ويصد عن التوجه إلى الله، وهو نقصان لأهل السلوك، فالصواب لكل مؤمن ان يقرر دائما في عقد ضميره كراهية الرياء وتكذيب الشيطان ويعزم أبداً على أنه إذا تهجم عليه الشيطان وعارضه بنزعات الرياء زاد ما هو فيه مما يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، فإذا حدثت خطرات الشيطان في الأثناء اكتفى بما عقد عليه أولا مستصحباً له، وزاد في الإخلاص وما يؤدى إليه فان ذلك يوجب قنوط الشيطان. وإذا عرف العبد بهذه الصفة لا يتعرض له لئلا يزيد فيما يغيظه. وينبغي لكل مؤمن أن يكون هذا ديدنه في جميع الصفات والملكات، مثلا إذا حصل اليقين والعقيدة الجازمة بالمبدأ وصفاته الكمالية، وقرر ذلك في نفسه، وأثبت في قلبه كراهية الشك وخطور الوساوس، فإذا حدث بعض الوساوس في أثناء عبادة أو غيرها، ينبغي ألا يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان، ويكفي بما تقرر في قلبه من اليقين وكراهية الشك والوسوسة، معتقداً بأن هذه الوساوس لا أصل لها ولا عبرة بها. وكذا إذا قرر في نفسه النصيحة للمسلمين وكراهية الحسد، فإذا أوقع الشيطان نزغات الحسد في قلبه، ينبغي ألا يلتفت إليها، ويستصعب ما كان عليه من النصيحة والكراهة، وقس عليها سائر الصفات والأخلاق.
ثم مثل من يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان مثل من قصد مجلساً من مجالس العلم والوعظ لينال فائدة وهداية فعارضه ضال فاسق ودعاه إلى مجلس فسق فأبى وانكر عليه، فإذا عرف الضال إياه، اشتغل بالمجادلة معه، وهو أيضاً يساعده على ذلك ليرد ضلاله، ظاناً أن ذلك مصلحته مع أنه غرض الضال إذ قصده من المجادلة أن يؤخره عن نيل مقصوده. ومثل من يشتغل بالتكذيب مثل من لا يشتغل بالقتال مع الضال بعد دعوته إلى مجلس الضلال، بل وقف بقدر أن يدفع في منحره، وذهب مستعجلا ففرح الضال بقدر توقفه للدفع. ومثل من يكتفي بعقد الضمير مثل من لم يلتفت إلى الضال بعد دعوته أصلا، واستمر على ما كان عليه من المشي ومثل من يزيد فيما كان له من الإخلاص أو ما يؤدى إليه مثل من يزيد في عجلته بعد دعوته ليغيظه. ولا ريب في أن الضال يمكن أن يعاود الجميع في الدعوة إلى الضلالة إذا مروا عليه مرة أخرى إلا الأخير، مخافة أن يزداد فائدة باستعجاله.


علاج الرياء
لما كانت الأسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح والفرار من ألم الذم والطمع بما في أيدي الناس، فالطريق في علاجه أن يقطع هذه الأسباب وقد تقدم طريق العلاج في قطع الاولين، ويأتي طريق إزالة الثالث. وما نذكره هنا من العلاج العلمي للرياء، هو أن يعلم أن الشيء إنما يرغب فيه لكونه نافعاً، وإذا علم أنه ضار ليعرض عنه البتة، وحينئذ فينبغي لكل مؤمن أن يتذكر مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من المقت والعذاب ومتى تذكر ذلك وقابل ما يحصل له في الدنيا من الناس الذين راءى لأجلهم بما يفوته في الآخرة من ثواب الاعمال، لترك الرياء لا محالة، مع ان العمل الواحد ربما تترجح به كفة حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات، فتترجح به ويهوي إلى النار. هذا مع أن المرائي في الدنيا متشتت الهم متفرق البال بسبب ملاحظة قلوب الناس، فان رضاهم غاية لا تدرك، وكلما يرضى به فريق يسخط به فريق ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً. ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل مدحهم ولا يزيده مدحهم رزقا ولا اجلالا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة؟! ومن كان رياؤه لأجل الطمع بما في ايدي الناس، ينبغي أن يعلم ان الله هو المسخر للقلوب بالمنع والاعطاء، وان الخلق مضطرون فيه، ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل عن الذل والخسة، وان وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، وإذا قرر ذلك في نفسه ولم يكن منكراً لأمسه، زالت غفلته وفترت عن الرياء رغبته وأقبل على الله بقلبه، وانقطع بشراشره إلى جناب ربه. ويكفيه أن يعلم أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إليهم ولو أخلص لله لكشف الله لهم اخلاصه وحببه اليهم وسخرهم له، وأطلق ألسنتهم بمدحه وثنائه، مع أنه لا يحصل له كمال بمدحهم ولا نقصان بذمهم.
ثم من تنور قلبه بنور الإيمان وانشرح صدره باليقين والعرفان، وعرف معنى الواجب وحقيقة الممكن، وتيقن بأن الواجب ـ أي الحقيقة التي تقتضي بنفس ذاته التحقق والبقاء، وهو صرف الوجود ـ يجب أن يكون تاماً فوق التمام، ولا يتصور حقيقة أتم كمالا منه، والحقيقة التي هذا شأنها يجب أن يكون ما سواها باسره مستنداً إليها وصادراً عنها على أشرف انحاء الصدور وأقواها. وهذا النحو الأشرف الأقوى الذي لا يتصور نحوه أقوى منه في الاختراع وأدل منه على كمال عظمة الموجد وقدرته، وهو كون ما سواه سبحانه من الموجودات، إما اعتبارات وشؤنات لدرجات ذاته واشراقات لتجليات صفاته، كما ذهب إليه قوم، أو كونها ماهيات امكانية اختراعية علماً وعيناً، صادرة عن سبحانه بوجودات خاصة متعددة ارتباطية بمحض ارادته ومشيته، كما ذهب إليه آخرون[1] ولو لم يكن غيره من الموجودات مستنداً إليه على أقوى أنحاء الاستناد، لم يكن تاماً فوق التمام، إذ تكون الذات التي يستند الكل إليها باحد النحوين اكمل منه واشرف. وإذا عرف أنه سبحانه كذلك، يعرف أنه ليس في الوجود حقيقة أحد سواه وغيره حقيقته العدم وما له من الوجود والظهور منه سبحانه، وبعد هذه المعرفة لا يختار غيره تعالى عليه، ويعلم أن العباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة، فلا يتغير قلبه بمشاهدة الخلق، ولا يلتفت إليهم إلا بخطرات ضعيفة لايشق عليه ازالتها، فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله.
وأما العلاج العملي، فهو أن يعود نفسه على اخفاء العبادات واغلاق الابواب دونها، كما تغلق الابواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عبادته، ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به. وذلك وإن شق في بداية المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل الطاف الله وما يمده به عبادة من حسن التوفيق والتأييد:
" إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم "[2].
فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية:
" إن الله لا يضيع أجر المحسنين "[3].
القالع مغارس الرياء من قلبه بقطع الطمع واستحقار مدح الناس وذمهم ربما لا يتركه الشيطان، (لا) سيما في أثناء العبادة، فعارضه بخطرات الرياء ونزعاته، حتى احدث في قلبه ميلا خفياً إلى الرياء وحباً له. والحق أن ذلك ليس من الرياء المحرم، ولا تفسد به العبادة، مع كونه كارهاً لهذا الميل والحب وقاهراً على نفسه ماقتاً لها في تأثرها وتغيرها عن نزعات الشيطان ومنازعا للشيطان ومجاهداً إياه لدفع خطراته، لأن الله لم يكلف عباده إلا ما يطيقون، وليس في وسعهم منع الشيطان عن نزعاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى شهواته، وغاية ما يقدرون عليه أن يقابلوا نزعاته وميل الطبع بالكراهة والقهر على النفس في هذا الميل، مع المجاهدة في دفع ذلك بتذكر المعالجات المقررة لدفع الرياء والوساوس، وإذا فعلوا ذلك أدوا ما يجب عليهم. ويدل على ذلك أيضاً ما تقدم من الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة بمجرد الوسوسة، وقول النبي (ص): " الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة ". فوسوسة الشيطان وميل النفس لا يضران مع ردهما بالكراهة والإباء، إذ الوساوس والخواطر والتذكرات والتخيلات المهيجة للرياء من الشيطان، والميل والرغبة بعد تلك الخواطر من النفس، والإباء والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل فلا يضر ما من النفس والشيطان إذا قوبل بما من العقل والإيمان. ولذا قال بعض الأكابر " ما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه ".
ثم الطرق المتصورة في دفع خطرات الرياء في اثناء العبادة مع كراهتها أربع:
الأولى ـ أن يشتغل بمجادلة الشيطان في رد نزعاته، ويطيل معه الجدال.
الثانية ـ أن يقتصر على تكذيب الشيطان ودفعه من غير اشتغال بمجادلته.
الثالثة ـ ألا يشتغل بتكذيبه أيضاً، بل يكتفي بما قرر في عقد ضميره من كراهة الرياء وكذب الشيطان، فيستمر على ما كان عليه مستصحباً له غير مشتغل بالمخاصمة والتكذيب.
الرابعة ـ أن يزيد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله، أو ما يؤدى إليهما، كإخفاء العبادة والصدقة غيظا للشيطان، لأن ذلك يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، ومهما عرف من العبد هذه العادة، كف عنه خوفاً من أن يزيد في حسناته.
ولا ريب في أن الاشتغال بالمجادلة والتكذيب وأطالتهما يمنع الحضور ويصد عن التوجه إلى الله، وهو نقصان لأهل السلوك، فالصواب لكل مؤمن ان يقرر دائما في عقد ضميره كراهية الرياء وتكذيب الشيطان ويعزم أبداً على أنه إذا تهجم عليه الشيطان وعارضه بنزعات الرياء زاد ما هو فيه مما يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، فإذا حدثت خطرات الشيطان في الأثناء اكتفى بما عقد عليه أولا مستصحباً له، وزاد في الإخلاص وما يؤدى إليه فان ذلك يوجب قنوط الشيطان. وإذا عرف العبد بهذه الصفة لا يتعرض له لئلا يزيد فيما يغيظه. وينبغي لكل مؤمن أن يكون هذا ديدنه في جميع الصفات والملكات، مثلا إذا حصل اليقين والعقيدة الجازمة بالمبدأ وصفاته الكمالية، وقرر ذلك في نفسه، وأثبت في قلبه كراهية الشك وخطور الوساوس، فإذا حدث بعض الوساوس في أثناء عبادة أو غيرها، ينبغي ألا يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان، ويكفي بما تقرر في قلبه من اليقين وكراهية الشك والوسوسة، معتقداً بأن هذه الوساوس لا أصل لها ولا عبرة بها. وكذا إذا قرر في نفسه النصيحة للمسلمين وكراهية الحسد، فإذا أوقع الشيطان نزغات الحسد في قلبه، ينبغي ألا يلتفت إليها، ويستصعب ما كان عليه من النصيحة والكراهة، وقس عليها سائر الصفات والأخلاق.
ثم مثل من يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان مثل من قصد مجلساً من مجالس العلم والوعظ لينال فائدة وهداية فعارضه ضال فاسق ودعاه إلى مجلس فسق فأبى وانكر عليه، فإذا عرف الضال إياه، اشتغل بالمجادلة معه، وهو أيضاً يساعده على ذلك ليرد ضلاله، ظاناً أن ذلك مصلحته مع أنه غرض الضال إذ قصده من المجادلة أن يؤخره عن نيل مقصوده. ومثل من يشتغل بالتكذيب مثل من لا يشتغل بالقتال مع الضال بعد دعوته إلى مجلس الضلال، بل وقف بقدر أن يدفع في منحره، وذهب مستعجلا ففرح الضال بقدر توقفه للدفع. ومثل من يكتفي بعقد الضمير مثل من لم يلتفت إلى الضال بعد دعوته أصلا، واستمر على ما كان عليه من المشي ومثل من يزيد فيما كان له من الإخلاص أو ما يؤدى إليه مثل من يزيد في عجلته بعد دعوته ليغيظه. ولا ريب في أن الضال يمكن أن يعاود الجميع في الدعوة إلى الضلالة إذا مروا عليه مرة أخرى إلا الأخير، مخافة أن يزداد فائدة باستعجاله.

الاخلاص وحقيقته

الإخلاص وحقيقته
ضد الرياء: الإخلاص، وهو تجريد القصد عن الشوائب كلها. فمن عمل طاعة رياء فهو مراء مطلق، ومن عملها وانضم إلى قصد القربة قصد غرض دنيوي انضماما غير مستقل فعمله مشوب غير خالص، كقصد الانتفاع بالحمية من الصوم، وقصد التخلص من مؤنة العبد أو سوء خلقه من عتقه، وقصد صحة المزاج أو التخلص من بعض الشرور والأحزان من الحج، وقصد العزة بين الناس أو سهولة طلب المال من تعلم العلم، وقصد النظافة والتبرد وطيب الرائحة من الوضوء والغسل، والتخلص عن إبرام السائل من التصدق عليه، وهكذا. فمتى كان باعث الطاعة هو التقرب ولكن إنضافت إليه خطرة من هذه الخطرات، خرج عمله من الإخلاص فالإخلاص تخليص العمل عن هذه الشوائب كلها، كثيرها وقليلها والمخلص من يكون عمله لمحض التقرب إلى الله سبحانه، من دون قصد شيء آخر أصلا.
ثم أعلى مراتب الإخلاص ـ وهو الإخلاص المطلق وإخلاص الصديقين ـ إرادة محض وجه الله سبحانه من العمل، دون توقع غرض في الدارين ولا يتحقق إلا لمحب لله تعالى مستهتراً به، مستغرق الهم بعظمته وجلاله بحيث لم يكن ملتفتاً إلى الدنيا مطلقاً. وأدناها ـ وهو الإخلاص الإضافي قصد الثواب والاستخلاص من العذاب، وقد أشار سيد الرسل (ص) إلى حقيقة الإخلاص بقوله: " هو أن تقول ربي الله ثم تستقيم كما أمرت[4] تعمل لله، لا تحب أن تحمد عليه! أي لا تعبد هواك ونفسك، ولا تعبد إلا ربك، وتستقيم في عبادتك كما أمرت ". وهذا إشارة إلى قطع ما سوى الله سبحانه عن مجرى النظر، وهو الإخلاص حقاً. ويتوقف تحصيله على كسر حظوظ النفس وقطع الطمع عن الدنيا والتجرد في الآخرة، بحيث ما يغلب ذلك على القلب والتفكر في صفات الله تعالى وافعاله والاشتغال بمناجاته حتى يغلب على قلبه نور جلاله وعظمته ويستولي عليه حبه وأنسه، وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها ويظن انها خالصة لوجه الله تعالى، ويكون فيها مغروراً لعدم عثوره على وجه الآفة فيها، كما حكى عن بعضهم أنه قال: " قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت صليتها في المسجد جماعة في الصف الأول، لأني تأخرت يوماً لعذر وصليت في الصف الثاني، فاعترتني خجلة من الناس حيث رأوني في الصف الثاني فعرفت أن نظر الناس إلي في الصف الأول كان يسرني، وكان سبب استراحة قلبي من ذلك من حيث لا اشعر ". وهذا دقيق غامض، وقلما تسلم الأعمال من أمثاله، وقل من يتنبه له، والغافلون عنه يرون حسناتهم في الآخرة كلها سيئات، وهم المرادون بقوله تعالى:
" وبدا لهم سيئات ما عملوا "[5]. " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون "[6]. وبقوله: " قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا.ً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً "[7].

مدح الاخلاص

مدح الإخلاص
الإخلاص منزل من منازل الدين، ومقام من مقامات الموقنين. وهو الكبريت الأحمر، وتوفيق الوصول إليه من الله الاكبر، ولذا ورد في فضيلته ما ورد من الآيات والأخبار، قال الله تعالى:
" وما أمروا ألا ليعبدوا الله مخلصين له الدين "[8]. قال: " ألا لله الدين الخالص "[9]. وقال " إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله "[10]. وقال: " فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً "[11].
نزل فيمن يعمل لله يوجب أن يحمد عليه.
وفي الخبر القدسي: " الإخلاص سر من أسراري، استودعته قلب من أحببت من عبادي ". وقال رسول الله (ص): " اخلص العمل يجزك منه القليل ". وقال (ص): " ما من عبد يخلص العمل لله تعالى أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه ". وقال (ص): " ثلاث لا يغل عليهن ". وعد منها قلب رجل مسلم أخلص العمل لله عز وجل. وقال أمير المؤمنين (ع): " لا تهتموا لقلة العمل، واهتموا للقبول ". وقال أمير المؤمنين (ع): " طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع اذناه، ولم يحزن صدره بما اعطى غيره! ". وقال الباقر (ع): ما اخلص عبد الإيمان بالله أربعين يوماً ـ أو قال: ما أجمل عبد ذكر الله أربعين يوماً ـ إلا زهده الله تعالى في الدنيا وبصره داءها ودواءها، وأثبت الحكمة في قلبه وانطق بها لسانه ". وقال الصادق (ع) في قول الله عز وجل.
" ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ":
" ليس يعني اكثركم عملا، ولكن اصوبكم عملا. وانما الاصابة خشية الله والنية الصادقة "... ثم قال: " الايفاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عز وجل، والنية أفضل من العمل، ألا وان النية هي العمل "... ثم تلا قوله عز وجل " قل كل يعمل على شاكلته ": يعني على نيته ".
وقال الصادق (ع): " الإخلاص[12] يجمع فواضل الاعمال وهو معنى مفتاحه القبول وتوفيقه الرضا، فمن تقبل الله منه ورضى عنه فهو المخلص وان قل عمله، ومن لا يتقبل الله منه فليس بمخلص وان كثر عمله، اعتباراً بآدم (ع) وابليس. وعلامة القبول وجود الاستقامة ببذل كل المحاب مع اصابة علم كل حركة وسكون، والمخلص ذائب روحه باذل مهجته في تقويم ما به العلم والاعمال والعامل والمعمول بالعمل، لأنه إذا ادرك ذلك فقد أدرك ذلك الكل، وإذا فاته ذلك فاته الكل، وهو تصفية معاني التنزيه في التوحيد كما قال الأول: هلك العاملون إلا العابدون، وهلك العابدون إلا العالمون وهلك العالمون إلا الصادقون، وهلك الصادقون إلا المخلصون، وهلك المخلصون، إلا المتقون وهلك المتقون إلا الموقنون، وأن الموقنين لعلى خطر عظيم! قال الله لنبيه (ص): واعبد ربك حتى يأتيك اليقين. وأدنى حد الإخلاص بذل العبد طاقته، ثم لا يجعل لعمله عند الله قدراً فيوجب به على ربه مكافاة بعمله، لعلمه أنه لو طالبه بوفاء حق العبودية لعجز، وادنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من جميع الآثام، وفي الآخرة النجاة من النار والفوز بالجنة "[13].
ومن تأمل في هذه الأخبار وفي غيرها مما لم يذكر، يعلم أن الإخلاص رأس الفضائل ورئيسها، وهو المناط في قبول الاعمال وصحتها، ولا عبرة بعمل لا اخلاص معه، ولا خلاص من الشيطان إلا بالإخلاص، لقوله:
" إلا عبادك منهم المخلصين "[14].
وما ورد في الإسرائيليات من حكاية العابد والشيطان والشجرة مشهور وفي الكتب مسطور[15].

آفات الاخلاص

آفات الإخلاص
الآفات التي تكدر الإخلاص وتشوشه لها درجات في الظهور والخفاء اجلاها الرياء الظاهر، وهو ظاهر. ثم تحسين العبادة والسعي في الخشوع فيها في الملأ دون الخلوة ليتأسى به الناس، ولو كان عمله هذا خالصاً لله لم يتركه في الخلوة، إذ من يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فكيف يرتضي ذلك لنفسه في الخلوة، ثم تحسينها في الخلوة أيضاً بقصد التسوية بين الخلوة والملأ، وهذا من الرياء الغامض، لأنه حسن عبادته في الخلوة ليحسنها في الملأ، فلا يكون فرق بينهما في التفاته فيهما إلى الخلق، إذ الإخلاص الواقعي أن تكون مشاهدة الخلق لعبادته كمشاهدة البهائم لها، من دون تفاوت اصلا، فكأن نفسه لا تسمح باساءة العبادة بين اظهر الناس، ثم يستحي من نفسه أن يكون في صورة المرائين ويظن أن ذلك يزول باستواء عبادته في الخلوة والملأ، وليس كما ظنه، إذ زوال ذلك موقوف على عدم التفاته إلى الخلق في الملأ والخلوة كما لا يلتفت إلى الجمادات فيهما مع أن مشغول الهم بالخلق فيهما جميعاً. واخفاها أن يقول له الشيطان ـ وهو في العبادة في الملأ بعد يأسه عن المكائد السابقة
" أنت واقف بين يدي الله سبحانه، فتفكر في جلاله وعظمته، واستحي من أن ينظر إلى قلبك وهو غافل عنه! فيحضر بذلك قلبه وتخشع جوارحه " وهذا أخفى مكائد الشيطان وخداعه، ولو كانت هذه الخطرة ناشئة عن الإخلاص لما انفكت عنا في الخلوة ولم يخص خطورها بحالة حضور غيره وعلامة الأمن من هذه الآفة: أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ، ولا يكون حضور الغير سببا لحضوره كما لا يكون حضور بهيمة سبباً له، فما دام العبد يفرق في أحواله وأعماله بين مشاهدة إنسان ومشاهدة بهيمة، فهو بعد خارج عن صفو الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء، وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء، كما ورد به الخبر ولا يسلم منه إلا من عصمه الله بخفي لطفه، إذ الشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله، لا يغفل عنهم لحظة ليحملهم على الرياء في كل واحد من أفعالهم وأعمالهم.
الحق ـ كما أشير إليه ـ أن الشوب الممزوج بالإخلاص إن كان من المقاصد الصحيحة الراجحة شرعا لم يبطل العمل والإخلاص ولم ينقص الأجر والثواب. إذ نية الخيرات المتعددة توجب تضاعف الثواب بحسبها وإن كان من الأغراض الدنيوية الراجعة إلى حب جاه أو طمع مال فهو مبطل للعمل والثواب، سواء كان الباعث الديني أضعف من الباعث النفسي أو مساويا له أو أقوى منه، لظاهر الأخبار المتقدمة. ومع إبطاله العمل يترتب عليه عقاب على حدة أيضاً، إذ الرياء في العبادة في نفسه منهي عنه محرم، سواء كان هو الباعث وحده أو انضم إلى نية التقرب انضماماً مستقلا أو غير مستقل، فمن ارتكبه كان آثماً لأجل الرياء في نفسه وتاركا للعبادة من حيث دخول الرياء فيها، فان كانت واجبة ترتب إثم آخر على تركها إلا أن يسقطه بقضائها، وان كانت مستحبة لم يلزم قضاؤها ولم يترتب إثم على تركها، بل كان إثمها منحصراً بما يترتب على الرياء في نفسه. ثم الإثم المترتب على الرياء المحض اشد واغلظ من المترتب على الرياء الممزوج بالقربة، ويتزايد إثم الممزوج بحسب ازدياد قوة باعث الرياء بالنظر إلى باعث الإخلاص، وينقص بحسب نقصان ذلك.
وعلى ما ذكرناه، فما العقد عليه إجماع الأمة من أن من خرج حاجا ومعه تجارة صح حجه أثيب عليه، مع أن سفره ليس خالصاً للحج، فالوجه فيه أن التجارة تعرض للرزق، وهو أيضاً عبادة. وقد تقدم أن نية الخيرات المتعددة موجبة لتضاعف الثواب بحسبها، فلا حاجة إلى ما قبل " إن التاجر إنما يثاب على أعمال الحج عند انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو خالص، وإنما المشترك طول المسافة، ولا ثواب فيه مهما قصد تجارة "، ولا إلى ما قيل: " مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وكان غرض التجارة كالمعين والتابع، فلا ينفك نفس السفر عن الثواب " نعم، إذا كانت التجارة للجمع والادخار من غير حاجة، فلا يبعد أن يقال ذلك، وكذا إذا انضم إلى قصد الحج قصد التفرج ودفع التوحش عن الأهل انضماما غير مستقل، ومثله إذا انضم إلى نية الوضوء التبرد، والى نية الصوم قصد الحمية، والى نية العتق الخلاص من المؤنة وسوء الخلق، إلى غير ذلك، إذا لم تكن المنضمات مستقلة.
ومن العلماء من قال: " إن الباعثين إن تساويا تساقطا، وصار العمل لا له ولا عليه، وان كان باعث الرياء أقوى لم يكن العمل نافعاً، بل كان مضراً وموجباً للعقاب، وإن كان عقابه أخف من عقاب الذي تجرد للرياء وان كان باعث التقرب أقوى فله ثواب بقدر ما فضل من قوته، لقوله تعالى:
" فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره "[16]. وقوله تعالى: " إن الله لا يظلم مثقال ذرةٍ "[17].
فلا ينبغي أن يضيع قصد الخير، بل إن كان قصد التقرب غالباً على الرياء حبط منه القدر الذي يساويه وبقيت زيادة، وإن كان مغلوباً سقط بسببه شئ من عقوبة القصد الفاسد. والسر: أن الأعمال تأثيرها في القلوب بتأكيد صفاتها، فداعية الرياء من المهلكات، وقوة هذا المهلك بالعمل على وفقه، وداعية الخير من المنجيات، وقوته بالعمل على وفقه، فإذا اجتمعت الصفات في القلب فهما متضادتان، فإذا عمل على وفق مقتضى الرياء قويت تلك الصفة، وان عمل على وفق داعية الخير قويت أيضاً تلك الصفة، واحدهما مهلك والآخر منج. فان كانت تقويته لهذا بقدر تقويته للآخر فقد تقاوما، وان كان أحدهما غالباً زاد تأثيره بقدر الفاضل من قوته، كما في تأثير الأدوية والأغذية المتضادة " انتهى[18].
وفيه: أن اطلاق الظواهر يفيد كون شوب الرياء محبطاً للعمل والثواب وقد تقدم بعضها. ومنها ما روى: " أن رجلا سأل النبي (ص): عمن يصطنع المعروف ـ أو قال يتصدق ـ فيحب أن يحمد ويؤجر، فلم يدر ما يقول له، حتى انزل قوله تعالى:
" فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً "[19].
ولا ريب في أنه قصد الحمد والأجر جميعاً، ومع ذلك نزلت في حقه هذه الآية.
ومنها ما روى: " أن اعرابياً أتاه (ص) وقال: يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه في سبيل الله! فقال (ص) من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ". وحملها على صورة تساوي القصدين أو غلبة قصد الرياء خلاف الظاهر. وما ذكره من أن لكل قصد وفعل تأثيراً خاصاً على حدة، ففيه أن ذلك إذا لم يبطله ضده. ونحن نقول: إن مقتضى الأخبار كصريح العقل يدل على أن قصد الرياء يبطل قصد القربة إذا تواردا على فعل واحد، فلا يبقى لقصد التقرب تأثير حتى يتصف بالزيادة على تأثير قصد الرياء.

النفاق

النفاق
وهو مخالفة السر والعلن، سواء كان في الإيمان أو في الطاعات أو في المعاشرات مع الناس، وسواء قصد به طلب الجاه والمال أم لا. وعلى هذا فهو أعم من الرياء مطلقاً، وان خص بمخالفة القلب واللسان أو بمخالفة الظاهر والباطن في معاملة الناس ومصاحبتهم، فبينهما عموم وخصوص من وجه. وعلى التقادير، إن كان باعثه الجبن فهو من رذائل قوة الغضب من جانب التفريط، وان كان باعثه طلب الجاه فهو من رذائلها من جانب الإفراط وإن كان منشأه تحصيل مال أو منكح فهو من رداءة قوة الشهوة ولا ريب في أنه من المهلكات العظيمة، وقد تعاضدت الآيات والأخبار على ذمه. وأشد أنواع النفاق ـ بعد كفر النفاق ـ كون الرجل ذا وجهين ولسانين، بأن يمدح أخاه المسلم في حضوره ويظهر له المحبة والنصيحة، ويذمه في غيبته ويؤذيه بالسب والسعاية إلى الظالمين وهتك عرضه واتلاف ماله وغير ذلك، وبأن يتردد بين متعاديين ويتكلم لكل واحد بكلام يوافقه ويحسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه ويمدحه[20]على ذلك، أو يعد كل منهما أنه ينصره، أو ينقل كلام كل واحد إلى الآخر. وهذا شر من النميمة التي هي النقل من أحد الجانبين. وبالجملة هو بجميع أقسامه مذموم محرم، قال رسول الله (ص): " من كان له وجهان في الدنيا، كان له لسانان من نار يوم القيامة ". وقال (ص): " تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين: الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ". وقال (ص): " يجيء يوم القيامة ذو الوجهين دالعاً لسان في قفاه وآخر من قدامه يلتهبان ناراً حتى يلتهبان خده. ثم يقال: هذا الذي كان في الدنيا ذا وجهين وذا لسانين، يعرف بذلك يوم القيامة ". وورد في التوراة " بطلت الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين، يهلك الله يوم القيامة كل شفتين مختلفتين ". وعن علي بن اسباط، عن عبد الرحمن بن حماد، رفعه قال: قال الله تبارك وتعالى لعيسى: " يا عيسى، ليكن لسانك في السر والعلانية لساناً واحد، وكذلك قلبك، إني أحذرك نفسك، وكفى بي خبيرا! لا يصلح لسانان في فم واحد، ولا سيفان في غمد واحد، ولا قلبان في صدر واحد، وكذلك الأذهان! ". وقال الباقر (ع): " لبئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطرى أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إن أعطى حسده وان ابتلي خذله ".
ثم لا يخفى أن الدخول على المتعاديين والمجاملة مع كل منهما قولا وفعلا لا يوجب كونه منافقاً ولا ذا لسانين إذا كان صادقاً، إذ الواحد قد يصادق متعاديين، ولكن صداقة ضعيفة، إذ الصداقة التامة تقتضي معاداة الأعداء وكذا من ابتلى بذي شر يخاف شره، يجوز أن يجامله ويتقيه ويظهر له في حضوره من المدح والمحبة ما لم يعتقد به قلبه، وهو معنى المداراة، وهو وان كان نفاقا إلا أنه جائز شرعا للعذر، قال الله سبحانه:
" ادفع بالتي هي أحسن السيئة "[21].
وروى: " أنه استأذن رجل على رسول الله (ص) فقال: ائذنوا له فبئس رجل العشيرة. فلما دخل ألان له القول، حتى ظن أن له عنده منزلة. فلما خرج، قيل له: لما دخل قلت الذي قلت ثم ألنت له القول؟! فقال: إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من أكرمه الناس اتقاء لشره ". ويدل على جواز ذلك جميع أخبار التقية وأخبار المداراة. وفي خبر: " ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة ". وقال بعض الصحابة: " كنا نبشر في وجوه أقوام نلعنهم بقلوبنا ". ثم جواز ذلك إنما إذا اضطر إلى الدخول على ذي الشر ومدحه مظنة الضرر أما لو كان مستغنياً عن الدخول والثناء أو عن أحدهما، ومع ذلك أبدى بلسانه ما ليس في قلبه من المدح، فهو نفاق محرم.
ثم ضد النفاق استواء السر والعلانية، أو كون الباطن خيراً من الظاهر، وهو من شرائف الصفات، وكان الاتصاف به والاجتناب من النفاق أهم مقاصد المؤمنين من الصدر الأول. ومن تأمل في ما ورد في ذم النفاق وفي مدح موافقة الباطن مع الظاهر، وتقدم الروية في كل قول وفعل لم يصعب عليه أن يحافظ نفسه من رذيلة النفاق.
ويليه الجزء الثالث، وأوله (ومنها: الغرور)
[1] القول الأول مبني على أصالة الوجود، والثاني على أصالة الماهية. وهذا البحث الذي ذكره المؤلف من دقائق الفلسفة الإلهية وأعلاها ولقد أحسن فيه البيان جداً. فانه مبني على فهم معنى واجب الوجود لذاته، وهو الذي يكون ذاته بذاته، مع قطع النظر عن كل ما عداه، ومن حيث هوهو منشأ لانتزاع انه موجود، فلذلك يجب ان يكون صرف الوجود انه لا شيء له الوجود إلا لكان ممكناً، ويجب أن يكون متصفاً بجميع الكمالات بل اكمل الكمالات ومن جملتها ان تكون الموجودات مستندة إليه على أقوى أنحاء الاستناد. وإذا لم يتصف بجميع الكمالات لاتصف بإعدامها، فيدخل في حقيقته العدم، فلم يكن صرف الوجود، فلم يكن واجب الوجود لذاته، وهذا خلاف الفرض، أو بهذه الطريقة يستدل على اتصافه بجميع صفات الجمال والجلال.
[2] الرعد، الآية: 11.
[3] التوبة، الآية 120.
[4] اشارة إلى قوله تعالى، مخاطباً لنبيه (ص): " فاستقم كما امرت ".
[5] الجاثية، الآية: 33.
[6] الزمر، الآية: 47.
[7] الكهف، الآية: 103، 104.
[8] البينة، الآية: 5.
[9] الزمر، الآية: 3.
[10] النساء، الآية: 146.
[11] الكهف، الآية: 110.
[12] صححنا الأخبار المروية عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ على (الكافي): باب الإخلاص. وعلى (الوافي): 3/328، 329 باب الإخلاص.
[13] صححنا الرواية على (مصباح الشريعة): الباب 77 وعلى (البحار): مج15:2/86 باب الإخلاص عن (مصباح الشريعة).
[14] الحجر، الآية: 40.
[15] راجع (إحياء العلوم) 4/322.
[16] الزلزال، الآية: 7، 8.
[17] النساء، الآية: 40.
[18] أبو حامد الغزالي: (إحياء العلوم): 4/328. ونقله المؤلف باختصار وتصرف قليلين.
[19] هذه مروية في (البحار) مج15: 3/59، باب ذم السمعة والاغترار بمدح الناس، عن عدة الداعي بمضمون يقارب ما هنا ونصه عن سعيد بن جبير قال: " جاء رجل إلى النبي (ص) فقال:أني أتصدق واصل الرحم ولا اصنع ذلك إلا لله فيذكر عني واحمد عليه، فأسر في ذلك واعجب به. فسكت رسول الله (ص) ولم يقل شيئاً، فنزل قوله تعالى: إنما أنا بشر.. الآية ".
[20] وفي النسخ (اثناه) بدل (يمدحه)، ولم نر لها وجهاً.
[21] المؤمنون، الآية: 96.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page