(طريق تحصيل الشكر)
الطريق إلى تحصيل الشكر أمور:
الأول ـ المعرفة والتفكر في صنائعه ـ تعالى ـ، وضروب نعمه الظاهرة والباطنة والعامة والخاصة.
الثاني ـ النظر إلى الادنى في الدنيا وإلى الاعلى في الدين.
الثالث ـ أن يحضر المقابر، ويتذكر أن أحب الاشياء إلى الموتى وأهم سؤالهم ودعواهم من الله أن يردوا إلى الدنيا، ويتحملوا ضروب الرياضات ومشاق العبادات في الدنيا، ليتخلصوا في الآخرة من العذاب، او يزيد ثوابهم وترتفع درجاتهم. فليقدر نفسه منهم مع اجابة دعوته ورده إلى الدنيا، فليصرف بقية عمره فيما يشتهي أهل القبور العود لأجله.
الرابع ـ أن يتذكر بعض ما ورد عليه في بعض أيام عمره من المصائب العظيمة والأمراض الصعبة التي ظن هلاك نفسه بها، فليتصور أنه هلك بها، ويغتنم الآن حياته وماله من النعم، فليشكر الله على ذلك، ولا يتألم ولا يحزن من بعض ما يرد عليه مما ينافي طبعه.
الخامس ـ ان يشكر في كل مصيبة وبلية من مصائب الدنيا من حيث إنه لم تصبه مصيبة اكبر منها، وإنه لم تصبه مصيبة في الدين. ولذلك قال عيسى (ع) في دعائه: " اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني! ". وقال رجل لبعض العرفاء: " دخل اللص في بيتي وأخذ متاعي " فقال له: " اشكر الله لو كان الشيطان يدخل بدله في قلبك ويفسد توحيدك، ماذا كنت تصنع؟ ". ومن حيث إن كل مصيبة إنما هي عقوبة لذنب صدر منه، فإذا حلت به هذه العقوبة حصلت له النجاة من عقوبة الآخرة، كما قال رسول الله (ص): " إن العبد إذا أذنب ذنباً فاصابته شدة أو بلاء في الدنيا، فالله اكرم من ان يعذبه ثانياً ". وقد ورد هذا المعنى بطرق متعددة من أئمتنا ـ عليهم السلام ـ أيضا، فليشكر الله على تعجيل عقوبته وعدم تأخيرها إلى الآخرة. ومن حيث ان هذه المصيبة كانت مكتوبة آتية إليه ألبته، فقد أتيت وفرغ منها. ومن حيث ان ثوابها اكثر منها وخير له، لما يأتي في باب الصبر من عظم مثوبات الابتلاء بالمصائب في الدنيا. ومن حيث انها تنقص في القلب حب الدنيا والركون إليها، وتشوق إلى الآخرة وإلى لقاء الله سبحانه. إذ لا ريب في أن من اتاه النعم في الدنيا على وفق المراد، من غير امتزاج ببلاء ومصيبة، يورث طمأنينة للقلب إلى الدنيا وأنساً بها، حتى تصير كالجنة في حقه، فيعظم بلاؤه عند الموت بسبب مفارقته، وإذا كثرت عليه المصائب انزعج قلبه عن الدنيا ولم يأنس بها، وصارت الدنيا سجناً عليه، وكانت نجاته منها كالخلاص من السجن. ولذلك قال رسول الله (ص): " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ". فمحن الدنيا ومصائبها ورياضاتها توجب انزعاج النفس عنها، والتفاتها إلى عالمها الاصلي، وتشوقها إلى الخروج عنها إليه ورغبتها إلى لقاء الله وما أعد في الدار الآخرة لأهلها.
فان قلت: غاية ما يتصور في البلاء أن يصبر عليه، وأما الشكر عليه فغير متصور، إذ الشكر إنما يستدعي نعمة وفرحا، والبلاء مصيبة وألم، فكيف يشكر عليه؟ وعلى هذا ينبغي ألا يجتمع الصبر والشكر على شيء واحد، إذ الصبر يستدعي بلاء وألماً، والشكر يستدعي نعمة وفرحاً، فهما متضادان غير مجتمعين، فكيف حكمتم باجتماعهما في المصائب والبلايا الدنيوية؟
قلنا: كل واحد من النعمة والبلاء ينقسم إلى مطلق ومقيد. فالنعمة المطلقة كسعادة الآخرة والعلم والإيمان والأخلاق الحسنة في الدنيا، والنعمة المقيدة في الدنيا ـ أي ما هو نعمة وصلاح من وجه وبلاء وفساد من وجه ـ كالمال الذي يصلح الدين من وجه ويفسده من وجه. والبلاء المطلق، كشقاوة الآخرة والكفر والجهل والأخلاق السيئة والمعاصي في الدنيا، والبلاء المقيد، كمصائب الدنيا، من الفقر والخوف والمرض وسائر أقسام المحن والمصائب، فانها وإن كانت بلاء في الدنيا، ولكنها نعم في الآخرة. وعند التحقيق لا تخلو عن تكفير الخطيئة، أو رياضة النفس، أو زيادة التجرد، أو رفع الدرجة. فالنعمة المطلقة بازائها الشكر المطلق، ولا معنى لاجتماع الصبر معه، والصبر الذي يجتمع معه لا ينافيه، كما يأتي. والبلاء المطلق لم يؤمر بالصبر عليه، إذ لا معنى للصبر على الكفر والمعصية، بل يجب عدم الصبر عليه والسعي في تركه. واما البلاء المقيد، فهو الذي يجتمع فيه الصبر والشكر، وليس اجتماعهما من جهة واحدة حتى يلزم اجتماع الضدين، بل الصبر من حيث ايجابه الاغتمام والألم في الدنيا، والشكر من حيث ادائه إلى سعادة الآخرة وغيرها مما ذكر.
ثم لو لم يصبر على جهة شريفة، ولم يشكر على جهة خيريته، صار بلاء مطلقاً لزم تركه بالرجوع إلى الصبر والشكر. واما النعمة المقيدة، كالمال والثروة، فإن ادت إلى اصلاح الدين كانت نعمة مطلقة يجب عليها الشكر ولم يكن محلا للصبر، وإن ادت إلى فساده كانت بلاء مطلقاً واجب الترك، وان ادت إلى بلاء الدنيا، كأن يصير ماله سببا لهلاك اولاده وفساد مزاجه، ويصير فوته باعثا لابتلائه ببعض المصائب الدنيوية، كان حكمه حكم البلاء المقيد. ثم يأتى في باب الصبر: ان الصبر قد يكون على الطاعة وعلى المعصية، وفيهما يتحقق الشكر والصبر، إذ الشكر ـ كما عرفت ـ هو عرفان النعمة من الله والفرح به، وصرف النعمة إلى ما هو المقصود منها بالحكمة، والصبر ـ كما يأتي وثبات باعث الدين، اعني العقل النظري، في مقابلة باعث الهوى، اعني القوة الشهوية. ولا ريب في انه في اداء الطاعة وترك المعصية يتحقق الثبات المذكور، إذ هو صرف النعمة إلى ما هو المقصود، إذ باعث الدين انما خلق لحكمة دفع باعث الهوى، وقد صرفه إلى مقصود الحكمة. وانت خبير بأنه وان تحقق الشكر والصبر في هذه الطاعة وترك هذه المعصية، إلا ان ما تصبر عليه هو هذه الطاعة وترك هذه المعصية، إذ الصبر انما هو عليهما، واما الشكر فعلى باعث الدين، اعني العقل الباعث لهذه الطاعة وترك هذه المعصية، فالمشكور عليه هو باعث الدين دون نفس الطاعة وترك المعصية، فاختلف فيهما الصبر والشكر في المتعلق، أي ما يصبر عليه وما يشكر عليه، واتحدا في فعل الصبر والشكر، إذ فعل الصبر هو الثبات والمقاومة، وهو عين الطاعة وترك المعصية، وفعل الشكر هو صرف النعمة في مقصود الحكمة، وهو أيضاً عين الطاعة وترك المعصية. ويمكن ان يقال: ان من فعل هذه الطاعة، وترك هذه المعصية، عرف كونهما من الله وفرح به، ويعمل طاعة اخرى شكراً له. وعلى هذا فيتحد متعلقا الشكر والصبر في هذه الطاعة وترك هذه المعصية، اعني المشكور عليه وما يصبر عليه، إذ هما نفس هذه الطاعة وترك هذه المعصية بعينها ويختلف فعلاهما. إذ فعل الصبر هو هذه الطاعة وترك هذه المعصية وفعل الشكر تحميد أو طاعة اخرى.
طريق تحصيل الشكر
- الزيارات: 3221