(حضور القلب)
اعلم ان كون الأمور المذكورة روح الصلاة وحقيقتها، والمقصود الاصلي منها، أمر ظاهر. إذ الغرض الاصلي من العبادات والطاعات هي تصفية النفس وتصقيلها، فكل عمل يكون اشد تأثيراً فيهما يكون افضل. ولا ريب في ان المقتضى لصفاء النفس وتجردها وتصقيلها عن الكدورات من الصلاة ليس إلا الأمور المذكورة، وليس لنفس الحركات الظاهرة كثير مدخلية فيها، وكيف لا يكون حضور القلب والخشوع روح الصلاة ولا يتوقف كمال الصلاة عليه، مع ان المصلى في صلاته ودعائه مناج ربه؟ ولا شك أن الكلام مع الغفلة ليس بمناجاة، وايضا الكلام إعراب عما في الضمير، ولا يتأتى الاعراب عما في الضمير إلا بحضور القلب، فأي سؤال في قوله: " اهدنا الصراط المستقيم " إذا كان القلب غافلا؟ ولا شك أيضاً أن المقصود من القراءة والأذكار الثناء والحمد والتضرع والدعاء، والمخاطب هو الله ـ تعالى ـ، فإذا كان قلب العبد محجوباً عنه بحجاب الغفلة، ولا يراه ولا يشاهده، بل كان غافلا عن المخاطب، ويحرك لسانه بحكم العادة، فما ابعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب، وتجديد ذكر الله، ورسوخ عقد الإيمان بها. هذا حكم القراءة والذكر. واما الركوع والسجود، فالمقصود منهما التعظيم قطعاً، والتعظيم كيف يجتمع مع الغفلة، وإذا خرج عن كونه تعظيما، لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس، وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به، كما في افعال الحج، واعطاء المال في الزكاة، وامساك النفس عن الشهوات في الصوم. فكيف يجعل مجرد هذه الحركة مع خفتها وسهولتها عماد الدين، والفاصل بين الكفر والاسلام، وتقدم على سائر العبادات، ويجب القتل بسبب تركها على الخصوص؟ ولكون الحضور والخشوع والخشية عمدة ما يقصد به من الصلاة، تظاهرت الآيات والأخبار على الترغيب عليها وفضيلتها ومدح اهلها، وعلى ذم الغفلة والتفكر في أمور الدنيا والوساوس الباطلة عند الاشتغال بالصلاة، وقد تظاهرت الأخبار أيضاً بأن الأنبياء والأوصياء واكابر الاولياء كانوا عند اشتغالهم في الصلاة في غاية الاقبال والخشوع والخوف. قال الله ـ سبحانه ـ:
" الذين هم في صلاتهم خاشعون "[1]. وقال: " وأقم الصلاة لذكري "[2]. والغفلة تضاد الذكر، فمن كان غافلا في صلاته لا يكون مقيماً للصلاة لذكره وقال: ولا تكن من الغافلين "[3]. وقال: " فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون "[4]. ذمهم على الغفلة عنها مع كونهم مصلين، لا لأنهم سهوا عنها وتركوها. وقال: " لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون "[5].
قيل: المراد: سكارى من كثرة الهم، وقيل: من حب الدنيا. ولو حمل على ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا، إذ بين فيه العلة. وقال: " حتى تعلموا ما تقولون ". وكم من مصل لم يشرب الخمرة وهو لا يعلم ما يقول في صلاته. وقال رسول الله (ص): " من صلى ركعتين، لم يحدث فيهما نفسه بشيء من الدنيا، غفر له ما تقدم من ذنبه ". وقال (ص): " إذا صليت صلاة فريضة، فصل لوقتها صلاة مودع يخاف ألا يعود فيها ". وقال (ص): " لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه ". وقال (ص): " انما فرضت الصلاة، وأمر بالحج والطواف، واشعرت المناسك، لاقامة ذكر الله، فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى عظمة ولا هيبة، فما قيمة ذكرك؟! ".
وعن أبي عبدالله (ع) قال: " قال الله ـ تبارك وتعالى ـ: انما اقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، ويكف نفسه عن الشهوات من اجلي، ويقطع نهاره بذكري، ولا يتعاظم على خلقي، ويطعم الجائع، ويكسو العاري، ويرحم المصاب، ويؤوي الغريب، فذلك يشرق نوره مثل الشمس، اجعل له في الظلمات نوراً، وفي الجهالة علماً، أكلأه بعزتي، واستحفظه بملائكتي، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه. فمثل ذلك عندي كمثل جنات الفردوس، ولا تيبس ثمارها، ولا تتغير عن حالها "[6]. وفي أخبار موسى: " يا موسى، إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تبغض اعضاءك وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً. وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك. وإذا قمت بين يدي فقم قيام العبد الذليل، وناجني بقلب وجل، ولسان صادق ". واوحى إليه (ع): " قل لعصاة امتك: لا تذكروني، فاني آليت على نفسي ان من ذكرني ذكرته،، وإذا ذكروني ذكرتهم باللعنة ". وفي بعض الأحاديث القدسية: " ليس كل مصل أتقبل صلاته، انما اقبل صلاة من تواضع لعظمتي، ولم يتكبر على عبادي، واطعم الفقير الجائع لوجهي ". وقال أمير المؤمنين (ع): " طوبى لمن أخلص لله العبادة والدعاء، ولم يشتغل قلبه بما تراه عيناه، ولم ينس ذكر الله بما تسمع اذناه، ولم يحزن صدره بما اعطى غيره ". وقال الصادق (ع): " لا تجتمع الرغبة والرهبة في قلب إلا وجبت له الجنة، فإذا صليت، فاقبل بقلبك على الله ـ عز وجل ـ، فانه ليس من عبد مؤمن يقبل بقلبه على الله ـ عز وجل ـ في صلاته ودعائه، إلا أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين، وايده مع مودتهم اياه بالجنة ". وقال الباقر (ع): " ان العبد ليرفع له من صلاته نصفها وثلثها وربعها وخمسها، فما يرفع له إلا ما أقبل عليه بقلبه، وانما امروا بالنوافل ليتم لهم ما نقصوا من الفريضة ". وروي: " أن إبراهيم الخليل كان يسمع تأوهه على حد ميل، وكان يسمع له في صلاته أزيز كأزيز المرجل[7] ". وكذلك كان سمع من صدر سيدنا رسول الله (ص) مثل ذلك. وقال بعض ازواجه: " كان النبي (ص) يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة، فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه ". وكان أمير المؤمنين (ع) إذا أخذ في الوضوء، يتغير وجهه من خيفة الله. وكان (ع) إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: " جاء وقت أمانة عرضها الله على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها، وحملها الإنسان ". وروي: " أنه وقع نصل في رجله (ع)، فلم يمكن أحداً من اخراجه. فقالت فاطمة ـ عليها السلام ـ: اخرجوه في حال صلاته، فانه لا يحس حينئذ بما يجري عليه. فاخرج وهو في صلاته، فلم يحس به اصلا ". وكانت الصديقة فاطمة ـ عليها السلام ـ تنهج[8] في الصلاة من خيفة الله. وكان الحسن بن علي ـ عيهما السلام ـ إذا فرغ من وضوئه، تغير لونه، فقيل له في ذلك، قال: " حق على من أراد أن يدخل على ذي العرش أن يتغير لونه ". وكان الإمام علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ إذا توضأ اصفر لونه، فيقال له: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: " إني أريد الوقوف بين يدي ملك عظيم ". وقال أبو حمزة الثمالي: رأيته يصلي، فسقط رداؤه عن منكبه، فتركه حتى فرغ من صلاته، فسألته عن ذلك، فقال : ويحك! أتدري بين يدي من كنت؟ شغلني والله ذلك عن هذا! أتعلم أنه لا يقبل من صلاة العبد إلا ما أقبل عليه؟. فقلت له: يا بن رسول الله، هلكنا اذاً. قال: كلا! ان الله يتم ذلك بالنوافل ". وروي: " أنه (ع) إذا قام إلى الصلاة تغير لونه، وإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً ". وروي: " أنه (ع) كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة، لا يتحرك منه إلا ما حركت الريح منه ". وسئل مولانا الصادق (ع) عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فقال: " ما زلت اكرر آيات القرآن، حتى بلغت إلى حال كأنني سمعتها مشافهة ممن أنزلها "[9]. قيل. وكان لسان الإمام (ع) في تلك الحال كشجرة طور حين قالت " اني أنا الله ". وسئل بعض الأكابر عن صلاته، فقال: " إذا جاءت الصلاة، اسبغت الوضوء، وأتيت الموضع الذي اريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم اقوم إلى الصلاة، فأجعل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف، واكبر تكبيراً بتحنن، وأقرأ القرآن بترتيل، واركع ركوعاً بتواضع، واسجد سجوداً بتخشع، واقعد على الورك اليسرى، وأفرش ظهر قدمها، وانصب القدم اليمنى على الابهام واتبعها الاخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا! ".
ثم، على ما عرفت من كيفية صلاة الأنبياء والأولياء، مع مشاهدة كيفية صلاتك وصلاة الناس، تعلم: ان الناس ينقسمون في صلاتهم: إلى غافل يتم صلاته ولا يحضر قلبه في لحظة، وإلى من يغفل في بعض صلاته ويحضر قلبه في بعض منها، وهذا تختلف حاله بحسب قلة كل من الحضور والغفلة وكثرتهما، وزيادة أحدهما على الآخر، فله مراتب غير متناهية. وإلى من يتم صلاته ولا يغيب قلبه لحظة، بل يكون حاضر القلب في جميع صلاته، وربما كان مستوعب الهم بها، بحيث لا يحس بما يجري بين يديه، كما لم يحس مولانا أمير المؤمنين (ع) بإخراج النصل من رجله الشريفة. وبعضهم حضر الجماعة مدة، ولم يعرف قط من على يمينه ويساره. وكان وجيب الخليل يسمع على ميلين. وكان جماعة تصفر وجوههم وترتعد فرائصهم عند الصلاة. وكل ذلك غير مستبعد، فان اضعافه مشاهدة في هم الدنيا وخوف ملوك الدنيا، مع ضعفهم وعجزهم، وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم. حتى يدخل الرجل على ملك أو وزير، ويحدثه بمهم ويخرج، ولو سئل عمن كان على حواليه، وعن ثوب الملك، لكان غير قادر على الاخبار عنه، لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حوله:
" ولكلٍ درجات مما عملوا "[10].
فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه. فان موضع نظر الله القلوب، دون ظاهر الحركات. ولذا قال بعض الصحابة: " يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة، من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعم واللذة والبهجة بها "، فالملحوظ حال القلب لا حال الشخص. ولذا قيل: " من صفات القلوب تصاغ الصور في دار الآخرة، ولا ينجو:
" إلا من أتى الله بقلبٍ سليم "[11].
حضور القلب
- الزيارات: 5338