• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تلاوة القرآن


(تلاوة القرآن)
اعلم انه لا حد لثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة في عظم اجره ووفور ثوابه لا تحصى كثرة، وكيف لا يعظم اجره وهو كلام الله، حامله روح الامين إلى سيد المرسلين، فتأمل ان الكلام الصادر من الله بلا واسطة، إذا كان من حيث اللفظ معجزة لغاية فصاحته، ومن حيث المعنى متضمناً لاصول حقائق المعارف والمواعظ والاحكام، ومخبراً عن دقائق صنع الله، وعن مغيبات الأحوال والقصص الواقعة في سوالف القرون والاعوام، كيف يكون تأثيره للقلوب وتصفيته للنفوس؟. وبالجملة: العقل والنقل والتجربة شواهد متظاهرة على عظم ثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة فيه مشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها، فلنشر إلى بعض ما يتعلق بالتلاوة من الآداب الظاهرة والباطنة:أما الآداب الظاهرة، فالوضوء، والوقوف على هيئة الادب، والطمأنينة، إما قائما أو جالسا، مستقبل القبلة، مطرقا رأسه، غير متربع ولا متكئ، والترتيل والبكاء، والجهر المتوسط لو أمن من الرياء، والا فالسر افضل، وتحسين القراءة وتنزيهها، ومراعاة حق الآيات، فإذا مر بآية السجود سجد، وإذا مر بآية العذاب استعاذ منه بالله، وإذا مر بآية الرحمة ونعيم الجنة سأل الله تعالى ان يرزقه، وإذا مر بآية تسبيح أو تكبير سبح وكبر، وإذا مر بآية دعاء أو استغفار دعا واستغفر، وافتتاح القراءة بقوله: (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)، وأن يقول عند الفراغ من كل سورة: (صدق الله العلي العظيم وبلغ رسوله الكريم، اللهم انفعنا به وبارك لنا فيه، والحمد لله رب العالمين).
واما الآداب والأعمال الباطنة:
فمنها ـ فهم عظمة الكلام وعلوه، وفضل الله تعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة افهام خلقه: فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قائمة بذاته إلى افهام خلقه، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف واصوات هي صفات البشر، إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله إلا بوسيلة صفات نفسه، ولو لا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف، لما ثبت لسماعه عرش ولا ثرى، ولا شيء ما بينهما، من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولو لا تثبيت الله موسى (ع) لما اطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق، ولهذا عبر عنه بعض العارفين، فقال: " إن كل حرف من كلام الله في اللوح اعظم من جبل قاف، وان الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد ان ينقلوه ما اطاقوه، حتى يأتي اسرافيل، وهو ملك اللوح، فيرفعه. فنقله باذن الله ورحمته، لا بقوته وطاقته ". وايصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان مع قصور رتبته، تشابه من درجة تصويت الإنسان البهائم والطيور. فان الإنسان لما أراد تفهيم بعض الدواب والطيور ما يريد من اقبالها وادبارها وتقديمها وتأخيرها، وكان تمييزها قاصراً عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه، فينزل إلى درجة تمييز البهائم، ويوصل مقاصده إليها بأصوات لائقة بها، من النفير والصفير والاصوات القريبة من أصواتها، يطيقون حملها. وكذلك الناس، لما كانوا عاجزين عن حمل كلام الله بكنهه وكمال صفاته، فتنزل من عرش العظمة والجلال إلى درجة أفهامهم، فتجلى في مظاهر الاصوات والحروف، وقد يشرف الصوت لأجل الحكمة المحبوة فيه. فكما ان بدن البشر يكرم ويعزز لمكان الروح، فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها. والكلام عالي المنزلة،، رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق والباطل، وهو القاضي العادل، يأمر وينهى، ولا طاقة للباطل ان يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل ان يقوم قدام شعاع الشمس، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور الحكمة، كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون منها ما تقدر به ابصارهم ويستدلون به على حوائجهم. فالكلام كالملك المحجوب، الغائب وجهه، المشاهد أمره، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الاسقام الذي من سقى منه لم يسقم.
ومنها ـ تعظيم المتكلم: فينبغي للقارئ عند الابتداء بالتلاوة، أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق الشمس والقمر، وفي تلاوة كلامه غاية الخطر، إذ كما لا ينبغي أن تمس جلده وورقه وحروفه البشرة المستقذرة بخبث أو حدث، فكذلك لا ينبغي أن تقرؤه الالسنة المستخبثة بقبائح الكلمات، والا تحوم حول معناه القلوب المكدرة برذائل الأخلاق والصفات، فكما أنه لا يصلح لمس ظاهر خطه كل يد، بل هو محروس عن ظاهر بشرة اللامس، إلا إذا كان متطهراً، فكذلك لا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب، بل باطن معناه لعلوه وجلاله محجوب عن باطن القلوب، إلا إذا كانت منقطعة عن كل رجس، مستنيرة بنور التعظيم والتوقير. وبالجملة: ينبغي ألا يترك عند التلاوة تعظيم المتكلم له، ليتحقق تعظيم الكلام أيضا، إذ تعظيم الكلام بتعظيم المتكلم، ولو لم تحضره عظمة المتكلم لغفلة قلبه، فليرجع إلى التفكر في صفاته وافعاله، ويستحضر ان المتكلم هو الذي اوجد واظهر بمجرد ارادته كل ما يشاهده ويسمعه، من العرش والكرسي والسماوات والارضين، وما فيها وما تحتها وما فوقها، وانه الخالق والرازق للجميع، والكل في قبضة قدرته مسخر أسير، ومردد بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، وجميع ذلك لا نسبة له إلى عوالم المجردات. فالتفكر في امثال ذلك يوجب استشعار القلب لعظمة المتكلم والكلام. ولمثل هذا التعظيم كان بعضهم إذا نشر المصحف للتلاوة غشى عليه، ويقول: (هو كلام ربي، هو كلام ربي!).
ومنها ـ الخضوع والرقة: قال الصادق (ع): " من قرأ القرآن، ولم يخضع ولم يرق قلبه، ولا ينشئ حزناً ووجلا في سره، فقد استهان تعظيم شأن الله تعالى، وخسر خسراناً مبيناً. فقارئ القرآن محتاج إلى ثلاثة اشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال. فإذا خشع لله قلبه فر منه الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:
" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم "[1].
فإذا تفرغ نفسه من الأسباب، تجرد قلبه للقراءة، فلا يعرضه عارض فيحرمه بركة نور القرآن وفوائده. فإذا اتخذ مجلساً خالياً، واعتزل عن الخلق بعد ان اتى بالخصلتين: خضوع القلب وفراغ البدن، استأنس روحه وسره بالله عز وجل، ووجد حلاوة مخاطبات الله عز وجل عباده الصالحين، وعلم لطفه بهم ومقام اختصاصه لهم، بفنون كراماته، وبدائع اشاراته، فان شرب كأساً من هذا المشرب حينئذ، لا يختار على ذلك الحال حالا، ولا على ذلك الوقت وقتاً، بل يؤثره على كل طاعة وعبادة، لان فيه المناجاة مع الرب بلا واسطة. فانظر كيف تقرأ كتاب ربك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب اوامره ونواهيه، وكيف تمتثل حدوده:
" وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميدٍ "[2].
فرتله ترتيلا، وقف عند وعده ووعيده، وتفكر في امثاله ومواعظه، واحذر أن تقع من اقامتك حروفه في اضاعة حدوده "[3].
ومنها ـ حضور القلب، وترك حديث النفس: وهو يترتب على التعظيم، فان من يعظم شيئاً، كلاما كان أو غيره، يستبشر ويستأنس به، ولا يغفل عنه. ولا ريب في ان القرآن يشتمل على ما يستانس به القلب وتفرح به النفس، ان كان التالي اهلا له.
ومنها ـ التدبر: وهو زائد على حضور القلب، إذ التالي ربما لم يتفكر في غير القرآن، ولكنه اقتصر على سماعه من نفسه، من دون تدبر فيه. والمقصود من تلاوة القرآن التدبر فيه في الباطن، قال الله سبحانه:
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها "[4].
وقال أمير المؤمنين (ع): " لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها ". وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بالترديد فليردد. ولذلك كان الأكابر كثيرا ما يكررون بعض الآيات مرات كثيرة للتدبر فيها، وربما يقفون عند آية مدة مديدة، وقال بعضهم: " لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين ما فرغت منها بعد! "، وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه.
ومنها ـ التفهم: وهو ان يستوضح من كل آية ما يليق بها. إذ القرآن يشتمل على ذكر صفاته تعالى، وذكر افعاله، وذكر الجنة والنار، واحوال النشأة الآخرة، وذكر أحوال انبيائه، واحوال المكذبين، وأنهم كيف اهلكوا، وذكر احكامه واوامره ونواهيه وغير ذلك. فان مر بآيات صفاته تعالى، كقوله:
" ليس كمثلهِ شيء وهو السميع البصير "[5].
وكقوله تعالى: " الملك القدوس السلام..." إلى آخر الآية[6]، وغير ذلك.
فليتأمل في معاني هذه الاسماء والصفات، لتنكشف له اسرارها المكنونة تحتها، ولا تنكشف هذه الأسرار إلا للمؤيدين في فهم كتاب الله. قال أمير المؤمنين (ع): " ما اسر الي رسول الله (ص) شيئاً كتمه عن الناس، إلا ان يؤتى الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه ". وإن مر بآيات الأفعال، أي الآيات الحاكية عن خلقه السماوات والارض، وما فيهما من الملائكة والكواكب والجبال والحيوان والنبات، وما بينهما من السحب والغيوم والرياح والامطار وغير ذلك، فليفهم التالي منها عظمة الله وجلاله. إذ الفعل يدل على الفاعل، فعظمته تدل على عظمته. وينبغي ان يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، إذ من عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء منه وبه واليه وله، فهو الكل في وحده، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف ان كل شيء ما خلا الله باطل، وان كل شيء هالك إلا وجهه، وان اعتبر من حيث هو، إذ مع قطع النظر عن الواجب وايجاده، لا ذات ولا وجود، بل محض العدم وعدم المحض. فذات كل شيء ووجوده وثباته وبقاؤه بالله العلي العظيم. فإذا قرأ التالي آية تدل على شيء من عجائب صنعه وغرائب فعله، فليتأمل في تلك العجائب، ثم يترقى منها إلى اعجب العجائب، وهي الصفة التي صدرت منها هذه الاعاجيب. وإذا سمع وصف الجنة والنار وسائر أحوال الآخرة، فليتذكر ان ما في هذا العالم من النعم والنقم لا نسبة له إلى ما في عالم الآخرة، فلينتقل من ذلك إلى عظمة الله تعالى، وينقطع إليه باطناً، ليخلصه من عقوبات تلك النشأة، ويوصله إلى نعيمها ولذاتها. وإذا سمع أحوال الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، من تكذيبهم وضربهم وقتلهم، فليفهم منه صفة الاستغناء لله تعالى من الرسل والمرسل إليهم، وانه لو اهلك جميعهم لا يؤثر في ملكه، وإذا سمع نصرتهم في الأمر، فليفهم قدرة الله وارادته لنصرة الحق، واما أحوال المكذبين، وما جرى عليهم من العقوبات وضروب النكال، فليستشعر الخوف من سطوته ونقمته، ويعتبر في نفسه، ويعلم انه غفل واساء الادب، واغتر بما امهل، فربما تدركه النقمة. وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد والأمر والتهديد. فلا يمكن استقصاء ما يفهم من القرآن، لانه لا نهاية له، إذ (لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي "[7].
ولكل عبد منه بقدر استعداده ومقدار فهمه وصفاء نفسه.
ومنها ـ التخلي عن موانع الفهم: وهي التقليد والتعصب لمذهب، فان ذلك بمنزلة حجاب لمرآة النفس يمنعها عن انعكاس غير معتقدها فيها، والجمود على تفسير ظاهر، ظاناً ان غيره تفسير بالرأي لا يجوز ارتكابه، وصرف الهمة والفهم إلى تحقيق الحروف وما يتعلق بها من الأمور المتداولة بين القراء، فان قصر التأمل على ذلك مانع من انكشاف المعاني، والاصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة، ومتابعة الشهوات المظلمة للقلب الموجبة للحرمان عن انكشاف الاسرار والحقائق فيه، واشراق المعارف الحقة عليه. قال رسول الله (ص): " إذا عظمت امتي الدينار والدرهم، تنزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي ". وقد شرط الله تعالى الانابة في الفهم والتذكر، قال الله تعالى:
تبصرة وذكرى لكل عبدٍ منيبٍ "[8]. وقال تعالى: " وما يتذكر إلا من ينيب "[9]. وقال تعالى: " إنما يتذكر أولوا الألباب "[10].
ومنها ـ التخصيص: وهو ان يقدر انه المقصود بكل خطاب في القرآن، من الأمر والنهي والوعد والوعيد، حتى انه لو سمع قصص الاولين، يجزم بأن المقصود الاعتبار دون مجرد الحكاية والتشمر. فما من قصة في القرآن، إلا وسياقها الفائدة في حق النبي وامته، ولذلك قال سبحانه:
" ما نثبت به فؤادك "[11]
فان القرآن جميعه هدى وشفاء ورحمة، ونور وموعظة وبصائر للعالمين. فكل أحد إذا قرأه ينبغي ان تكون قراءته كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتب إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه. قال بعض الأكابر: " هذا القرآن رسائل اتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، فنتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات بالسنن المتبعات ".
ومنها ـ التأثر: وهو ان يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال: من الخوف، والحزن، والوجل، والوجد، والفرح، والارتياح، والرجاء، والقبض، والانبساط. فإذا سمع الوعيد، فليضطرب قلبه، ويتضاءل من الخوف كأنه يموت، وان سمع وسعة الرحمة ووعد المغفرة، فليفرح ويستبشر كأنه يطير من الابتهاج، وإذا سمع وصف الجنة، فلينبعث باطنه شوقاً إليها، وإذا سمع وصف النار، فلترتعد فرائصه خوفاً منها، وإذا سمع صفات الله واسماءه ونعوت جلاله، فليتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعاراً لعظمته وكبريائه، وإذا سمع ذكر الكفار ما يستحل على الله من اتخاذ الولد وامثاله، فليغض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم... وقس على ذلك غيره من الآيات المختلفة. ومهما تمت المعرفة، كانت الخشية اغلب الأحوال على القلب، إذ التضيق غالب على آيات القرآن، إذ لا ترى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط يقصر الاكثرون عن نيلها، ولذلك كان في الخائفين من يصير مغشياً عليه عند استماع آيات الوعيد، ومنهم من مات بمجرد استماعها. وبالجملة: المقصود الاصلي من القرآن، استجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به، والا فالمؤنة بتحريك اللسان بحروفه خفيفة. وحق تلاوة القرآن ان يشترك فيها اللسان والعقل والقلب. فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل إدراك المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالحالات المذكورة. فاللسان واعظ القلب، والعقل مترجم، والقلب متعظ.
ومنها ـ الترقي: وهو ان يترقى إلى ان يسمع الكلام من الله تعالى، لا من نفسه. فدرجات القراءة ثلاث: الأولى: وهي ادناها، ان يقدر العبد أنه يقرؤه على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فتكون حاله ـ على هذا التقدير ـ التملق والسؤال والتضرع والابتهال. الثانية: ان يشهد بقلبه، كأن ربه يخاطبه بألطافه، ويناجيه باحسانه وإنعامه، فمقامه الهيبة والحياء والتعظيم والاصغاء. الثالثة: ان يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه وإلى تلاوته، ولا إلى تعلق الانعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على التكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم من غيره. وهذه درجة المقربين والصديقين، وما قبله من درجات أصحاب اليمين، وما خرج عن ذلك فهو درجات الغافلين. وقد اخبر عن الدرجة العليا سيد الشهداء ـ ارواحنا فداه ـ حيث قال (ع): " الذي تجلى لعباده في كتابه، بل في كل شيء، وأراهم نفسه في خطابه، بل في كل نور ". وأشار إليها الإمام أبو عبدالله الصادق (ع) حيث قال: " والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه! ولكن لا يبصرون ". وروي: " أنه لحقته حالة في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما سرى عنه، قيل له في ذلك، فقال (ع): ما زلت أردد الآية على قلبي، حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ". وفي مثل هذه الدرجة تشتد البهجة، وتعظم الحلاوة واللذة. ولذلك قال بعض الحكماء: " كنت اقرأ القرآن، فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه عن رسول الله (ص) يتلوه على اصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت اتلوه كأني اسمعه من جبرئيل يلقيه على رسول الله (ص)، فعندها وجدت لذة ونعيماً لا اصبر عنه ". وقال حذيفة: " لو طهرت القلوب، لم تشبع من قراءة القرآن ". وذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام، بل التوحيد الخالص للعبد ألا يرى في كل شيء إلا الله، إذ لو رأى غيره، لا من حيث إنه منه وله وبه واليه، كان مشركا بالشرك الخفي.
ومنها ـ التبري: وهو ان يتبرى من حوله وقوته، ولا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية. فإذا قرأ آيات الوعد ومدح الأخيار، فلا يشهد نفسه ولا يدخلها في زمرتهم، بل يشهد أهل الصدق واليقين، ويتشوق إلى ان يلحقه الله بهم. وإذا قرأ آيات المقت والوعيد، وذم العصاة والمقصرين، شهد نفسه هناك، وقدر انه المخاطب خوفا واشفاقاً. وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين (ع)، حيث قال في وصف المتقين: " وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا ان زفير جهنم في آذانهم ". فإذا رأى القارئ نفسه بصورة التقصير في القراءة، كانت رؤيته سبب قربه. فان من شهد البعد في القرب، لطف له بالخوف، حتى يسوقه إلى درجة اخرى في القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد، مكر به بالأمن الذي يفضيه إلى درجة اخرى في البعد اسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهداً نفسه بعين الرضا، صار محجوباً بنفسه. فإذا جاوز حد الالتفات إلى نفسه، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته، كشف له سر الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرحمة والرجاء، يغلب على حاله الاستبشار، وتنكشف له صورة الجنة، فيشاهدها كأنه يراها عياناً، وان غلب عليه الخوف، كوشف بالنار، حتى يرى أنواع عذابها، وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف، والشديد العسوف، والمرجو والمخوف، وذلك بحسب اوصافه، إذ منها الرحمة واللطف.
ومنها ـ القهر والبطش والانتقام: فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات ينقلب القلب في اختلاف الحالات، وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة، إذ يمتنع أن يكون حال المستمع واحداً والمسموع مختلفاً، إذ فيه كلام راض، وكلام غضبان، وكلام منعم، وكلام منتقم، وكلام جبار متكبر لا يبالي، وكلام منان متعطف لا يهمل.


(تلاوة القرآن)
اعلم انه لا حد لثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة في عظم اجره ووفور ثوابه لا تحصى كثرة، وكيف لا يعظم اجره وهو كلام الله، حامله روح الامين إلى سيد المرسلين، فتأمل ان الكلام الصادر من الله بلا واسطة، إذا كان من حيث اللفظ معجزة لغاية فصاحته، ومن حيث المعنى متضمناً لاصول حقائق المعارف والمواعظ والاحكام، ومخبراً عن دقائق صنع الله، وعن مغيبات الأحوال والقصص الواقعة في سوالف القرون والاعوام، كيف يكون تأثيره للقلوب وتصفيته للنفوس؟. وبالجملة: العقل والنقل والتجربة شواهد متظاهرة على عظم ثواب تلاوة القرآن، والأخبار الواردة فيه مشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها، فلنشر إلى بعض ما يتعلق بالتلاوة من الآداب الظاهرة والباطنة:أما الآداب الظاهرة، فالوضوء، والوقوف على هيئة الادب، والطمأنينة، إما قائما أو جالسا، مستقبل القبلة، مطرقا رأسه، غير متربع ولا متكئ، والترتيل والبكاء، والجهر المتوسط لو أمن من الرياء، والا فالسر افضل، وتحسين القراءة وتنزيهها، ومراعاة حق الآيات، فإذا مر بآية السجود سجد، وإذا مر بآية العذاب استعاذ منه بالله، وإذا مر بآية الرحمة ونعيم الجنة سأل الله تعالى ان يرزقه، وإذا مر بآية تسبيح أو تكبير سبح وكبر، وإذا مر بآية دعاء أو استغفار دعا واستغفر، وافتتاح القراءة بقوله: (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)، وأن يقول عند الفراغ من كل سورة: (صدق الله العلي العظيم وبلغ رسوله الكريم، اللهم انفعنا به وبارك لنا فيه، والحمد لله رب العالمين).
واما الآداب والأعمال الباطنة:
فمنها ـ فهم عظمة الكلام وعلوه، وفضل الله تعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة افهام خلقه: فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قائمة بذاته إلى افهام خلقه، وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف واصوات هي صفات البشر، إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله إلا بوسيلة صفات نفسه، ولو لا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف، لما ثبت لسماعه عرش ولا ثرى، ولا شيء ما بينهما، من عظمة سلطانه وسبحات نوره، ولو لا تثبيت الله موسى (ع) لما اطاق سماع كلامه، كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكا ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق، ولهذا عبر عنه بعض العارفين، فقال: " إن كل حرف من كلام الله في اللوح اعظم من جبل قاف، وان الملائكة لو اجتمعت على الحرف الواحد ان ينقلوه ما اطاقوه، حتى يأتي اسرافيل، وهو ملك اللوح، فيرفعه. فنقله باذن الله ورحمته، لا بقوته وطاقته ". وايصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان مع قصور رتبته، تشابه من درجة تصويت الإنسان البهائم والطيور. فان الإنسان لما أراد تفهيم بعض الدواب والطيور ما يريد من اقبالها وادبارها وتقديمها وتأخيرها، وكان تمييزها قاصراً عن فهم كلامه الصادر عن عقله مع حسنه وترتيبه وبديع نظمه، فينزل إلى درجة تمييز البهائم، ويوصل مقاصده إليها بأصوات لائقة بها، من النفير والصفير والاصوات القريبة من أصواتها، يطيقون حملها. وكذلك الناس، لما كانوا عاجزين عن حمل كلام الله بكنهه وكمال صفاته، فتنزل من عرش العظمة والجلال إلى درجة أفهامهم، فتجلى في مظاهر الاصوات والحروف، وقد يشرف الصوت لأجل الحكمة المحبوة فيه. فكما ان بدن البشر يكرم ويعزز لمكان الروح، فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها. والكلام عالي المنزلة،، رفيع الدرجة، قاهر السلطان، نافذ الحكم في الحق والباطل، وهو القاضي العادل، يأمر وينهى، ولا طاقة للباطل ان يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل ان يقوم قدام شعاع الشمس، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور الحكمة، كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون منها ما تقدر به ابصارهم ويستدلون به على حوائجهم. فالكلام كالملك المحجوب، الغائب وجهه، المشاهد أمره، فهو مفتاح الخزائن النفيسة، وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت، ودواء الاسقام الذي من سقى منه لم يسقم.
ومنها ـ تعظيم المتكلم: فينبغي للقارئ عند الابتداء بالتلاوة، أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم، ويعلم أنه ليس من كلام البشر، بل هو كلام خالق الشمس والقمر، وفي تلاوة كلامه غاية الخطر، إذ كما لا ينبغي أن تمس جلده وورقه وحروفه البشرة المستقذرة بخبث أو حدث، فكذلك لا ينبغي أن تقرؤه الالسنة المستخبثة بقبائح الكلمات، والا تحوم حول معناه القلوب المكدرة برذائل الأخلاق والصفات، فكما أنه لا يصلح لمس ظاهر خطه كل يد، بل هو محروس عن ظاهر بشرة اللامس، إلا إذا كان متطهراً، فكذلك لا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان، ولا لنيل معانيه كل قلب، بل باطن معناه لعلوه وجلاله محجوب عن باطن القلوب، إلا إذا كانت منقطعة عن كل رجس، مستنيرة بنور التعظيم والتوقير. وبالجملة: ينبغي ألا يترك عند التلاوة تعظيم المتكلم له، ليتحقق تعظيم الكلام أيضا، إذ تعظيم الكلام بتعظيم المتكلم، ولو لم تحضره عظمة المتكلم لغفلة قلبه، فليرجع إلى التفكر في صفاته وافعاله، ويستحضر ان المتكلم هو الذي اوجد واظهر بمجرد ارادته كل ما يشاهده ويسمعه، من العرش والكرسي والسماوات والارضين، وما فيها وما تحتها وما فوقها، وانه الخالق والرازق للجميع، والكل في قبضة قدرته مسخر أسير، ومردد بين فضله ورحمته، وبين نقمته وسطوته، وجميع ذلك لا نسبة له إلى عوالم المجردات. فالتفكر في امثال ذلك يوجب استشعار القلب لعظمة المتكلم والكلام. ولمثل هذا التعظيم كان بعضهم إذا نشر المصحف للتلاوة غشى عليه، ويقول: (هو كلام ربي، هو كلام ربي!).
ومنها ـ الخضوع والرقة: قال الصادق (ع): " من قرأ القرآن، ولم يخضع ولم يرق قلبه، ولا ينشئ حزناً ووجلا في سره، فقد استهان تعظيم شأن الله تعالى، وخسر خسراناً مبيناً. فقارئ القرآن محتاج إلى ثلاثة اشياء: قلب خاشع، وبدن فارغ، وموضع خال. فإذا خشع لله قلبه فر منه الشيطان الرجيم، قال الله تعالى:
" فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم "[1].
فإذا تفرغ نفسه من الأسباب، تجرد قلبه للقراءة، فلا يعرضه عارض فيحرمه بركة نور القرآن وفوائده. فإذا اتخذ مجلساً خالياً، واعتزل عن الخلق بعد ان اتى بالخصلتين: خضوع القلب وفراغ البدن، استأنس روحه وسره بالله عز وجل، ووجد حلاوة مخاطبات الله عز وجل عباده الصالحين، وعلم لطفه بهم ومقام اختصاصه لهم، بفنون كراماته، وبدائع اشاراته، فان شرب كأساً من هذا المشرب حينئذ، لا يختار على ذلك الحال حالا، ولا على ذلك الوقت وقتاً، بل يؤثره على كل طاعة وعبادة، لان فيه المناجاة مع الرب بلا واسطة. فانظر كيف تقرأ كتاب ربك ومنشور ولايتك، وكيف تجيب اوامره ونواهيه، وكيف تمتثل حدوده:
" وإنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميدٍ "[2].
فرتله ترتيلا، وقف عند وعده ووعيده، وتفكر في امثاله ومواعظه، واحذر أن تقع من اقامتك حروفه في اضاعة حدوده "[3].
ومنها ـ حضور القلب، وترك حديث النفس: وهو يترتب على التعظيم، فان من يعظم شيئاً، كلاما كان أو غيره، يستبشر ويستأنس به، ولا يغفل عنه. ولا ريب في ان القرآن يشتمل على ما يستانس به القلب وتفرح به النفس، ان كان التالي اهلا له.
ومنها ـ التدبر: وهو زائد على حضور القلب، إذ التالي ربما لم يتفكر في غير القرآن، ولكنه اقتصر على سماعه من نفسه، من دون تدبر فيه. والمقصود من تلاوة القرآن التدبر فيه في الباطن، قال الله سبحانه:
" أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها "[4].
وقال أمير المؤمنين (ع): " لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا في قراءة لا تدبر فيها ". وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بالترديد فليردد. ولذلك كان الأكابر كثيرا ما يكررون بعض الآيات مرات كثيرة للتدبر فيها، وربما يقفون عند آية مدة مديدة، وقال بعضهم: " لي في كل جمعة ختمة، وفي كل شهر ختمة، وفي كل سنة ختمة، ولي ختمة منذ ثلاثين ما فرغت منها بعد! "، وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه.
ومنها ـ التفهم: وهو ان يستوضح من كل آية ما يليق بها. إذ القرآن يشتمل على ذكر صفاته تعالى، وذكر افعاله، وذكر الجنة والنار، واحوال النشأة الآخرة، وذكر أحوال انبيائه، واحوال المكذبين، وأنهم كيف اهلكوا، وذكر احكامه واوامره ونواهيه وغير ذلك. فان مر بآيات صفاته تعالى، كقوله:
" ليس كمثلهِ شيء وهو السميع البصير "[5].
وكقوله تعالى: " الملك القدوس السلام..." إلى آخر الآية[6]، وغير ذلك.
فليتأمل في معاني هذه الاسماء والصفات، لتنكشف له اسرارها المكنونة تحتها، ولا تنكشف هذه الأسرار إلا للمؤيدين في فهم كتاب الله. قال أمير المؤمنين (ع): " ما اسر الي رسول الله (ص) شيئاً كتمه عن الناس، إلا ان يؤتى الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه ". وإن مر بآيات الأفعال، أي الآيات الحاكية عن خلقه السماوات والارض، وما فيهما من الملائكة والكواكب والجبال والحيوان والنبات، وما بينهما من السحب والغيوم والرياح والامطار وغير ذلك، فليفهم التالي منها عظمة الله وجلاله. إذ الفعل يدل على الفاعل، فعظمته تدل على عظمته. وينبغي ان يشهد في الفعل الفاعل دون الفعل، إذ من عرف الحق رآه في كل شيء، إذ كل شيء منه وبه واليه وله، فهو الكل في وحده، ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه، ومن عرفه عرف ان كل شيء ما خلا الله باطل، وان كل شيء هالك إلا وجهه، وان اعتبر من حيث هو، إذ مع قطع النظر عن الواجب وايجاده، لا ذات ولا وجود، بل محض العدم وعدم المحض. فذات كل شيء ووجوده وثباته وبقاؤه بالله العلي العظيم. فإذا قرأ التالي آية تدل على شيء من عجائب صنعه وغرائب فعله، فليتأمل في تلك العجائب، ثم يترقى منها إلى اعجب العجائب، وهي الصفة التي صدرت منها هذه الاعاجيب. وإذا سمع وصف الجنة والنار وسائر أحوال الآخرة، فليتذكر ان ما في هذا العالم من النعم والنقم لا نسبة له إلى ما في عالم الآخرة، فلينتقل من ذلك إلى عظمة الله تعالى، وينقطع إليه باطناً، ليخلصه من عقوبات تلك النشأة، ويوصله إلى نعيمها ولذاتها. وإذا سمع أحوال الأنبياء ـ عليهم السلام ـ، من تكذيبهم وضربهم وقتلهم، فليفهم منه صفة الاستغناء لله تعالى من الرسل والمرسل إليهم، وانه لو اهلك جميعهم لا يؤثر في ملكه، وإذا سمع نصرتهم في الأمر، فليفهم قدرة الله وارادته لنصرة الحق، واما أحوال المكذبين، وما جرى عليهم من العقوبات وضروب النكال، فليستشعر الخوف من سطوته ونقمته، ويعتبر في نفسه، ويعلم انه غفل واساء الادب، واغتر بما امهل، فربما تدركه النقمة. وكذلك إذا سمع الوعد والوعيد والأمر والتهديد. فلا يمكن استقصاء ما يفهم من القرآن، لانه لا نهاية له، إذ (لا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).
" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي "[7].
ولكل عبد منه بقدر استعداده ومقدار فهمه وصفاء نفسه.
ومنها ـ التخلي عن موانع الفهم: وهي التقليد والتعصب لمذهب، فان ذلك بمنزلة حجاب لمرآة النفس يمنعها عن انعكاس غير معتقدها فيها، والجمود على تفسير ظاهر، ظاناً ان غيره تفسير بالرأي لا يجوز ارتكابه، وصرف الهمة والفهم إلى تحقيق الحروف وما يتعلق بها من الأمور المتداولة بين القراء، فان قصر التأمل على ذلك مانع من انكشاف المعاني، والاصرار على الذنوب الظاهرة والباطنة، ومتابعة الشهوات المظلمة للقلب الموجبة للحرمان عن انكشاف الاسرار والحقائق فيه، واشراق المعارف الحقة عليه. قال رسول الله (ص): " إذا عظمت امتي الدينار والدرهم، تنزع منها هيبة الإسلام، وإذا تركوا الأمر بالمعروف حرموا بركة الوحي ". وقد شرط الله تعالى الانابة في الفهم والتذكر، قال الله تعالى:
تبصرة وذكرى لكل عبدٍ منيبٍ "[8]. وقال تعالى: " وما يتذكر إلا من ينيب "[9]. وقال تعالى: " إنما يتذكر أولوا الألباب "[10].
ومنها ـ التخصيص: وهو ان يقدر انه المقصود بكل خطاب في القرآن، من الأمر والنهي والوعد والوعيد، حتى انه لو سمع قصص الاولين، يجزم بأن المقصود الاعتبار دون مجرد الحكاية والتشمر. فما من قصة في القرآن، إلا وسياقها الفائدة في حق النبي وامته، ولذلك قال سبحانه:
" ما نثبت به فؤادك "[11]
فان القرآن جميعه هدى وشفاء ورحمة، ونور وموعظة وبصائر للعالمين. فكل أحد إذا قرأه ينبغي ان تكون قراءته كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتب إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه. قال بعض الأكابر: " هذا القرآن رسائل اتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده، فنتدبرها في الصلوات، ونقف عليها في الخلوات، وننفذها في الطاعات بالسنن المتبعات ".
ومنها ـ التأثر: وهو ان يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات، فيكون له بحسب كل فهم حال: من الخوف، والحزن، والوجل، والوجد، والفرح، والارتياح، والرجاء، والقبض، والانبساط. فإذا سمع الوعيد، فليضطرب قلبه، ويتضاءل من الخوف كأنه يموت، وان سمع وسعة الرحمة ووعد المغفرة، فليفرح ويستبشر كأنه يطير من الابتهاج، وإذا سمع وصف الجنة، فلينبعث باطنه شوقاً إليها، وإذا سمع وصف النار، فلترتعد فرائصه خوفاً منها، وإذا سمع صفات الله واسماءه ونعوت جلاله، فليتطأطأ خضوعا لجلاله واستشعاراً لعظمته وكبريائه، وإذا سمع ذكر الكفار ما يستحل على الله من اتخاذ الولد وامثاله، فليغض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح مقالتهم... وقس على ذلك غيره من الآيات المختلفة. ومهما تمت المعرفة، كانت الخشية اغلب الأحوال على القلب، إذ التضيق غالب على آيات القرآن، إذ لا ترى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط يقصر الاكثرون عن نيلها، ولذلك كان في الخائفين من يصير مغشياً عليه عند استماع آيات الوعيد، ومنهم من مات بمجرد استماعها. وبالجملة: المقصود الاصلي من القرآن، استجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به، والا فالمؤنة بتحريك اللسان بحروفه خفيفة. وحق تلاوة القرآن ان يشترك فيها اللسان والعقل والقلب. فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل، وحظ العقل إدراك المعاني، وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالحالات المذكورة. فاللسان واعظ القلب، والعقل مترجم، والقلب متعظ.
ومنها ـ الترقي: وهو ان يترقى إلى ان يسمع الكلام من الله تعالى، لا من نفسه. فدرجات القراءة ثلاث: الأولى: وهي ادناها، ان يقدر العبد أنه يقرؤه على الله تعالى واقفاً بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه، فتكون حاله ـ على هذا التقدير ـ التملق والسؤال والتضرع والابتهال. الثانية: ان يشهد بقلبه، كأن ربه يخاطبه بألطافه، ويناجيه باحسانه وإنعامه، فمقامه الهيبة والحياء والتعظيم والاصغاء. الثالثة: ان يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى نفسه وإلى تلاوته، ولا إلى تعلق الانعام به من حيث إنه منعم عليه، بل يكون مقصور الهم على التكلم، موقوف الفكر عليه، كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم من غيره. وهذه درجة المقربين والصديقين، وما قبله من درجات أصحاب اليمين، وما خرج عن ذلك فهو درجات الغافلين. وقد اخبر عن الدرجة العليا سيد الشهداء ـ ارواحنا فداه ـ حيث قال (ع): " الذي تجلى لعباده في كتابه، بل في كل شيء، وأراهم نفسه في خطابه، بل في كل نور ". وأشار إليها الإمام أبو عبدالله الصادق (ع) حيث قال: " والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه! ولكن لا يبصرون ". وروي: " أنه لحقته حالة في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما سرى عنه، قيل له في ذلك، فقال (ع): ما زلت أردد الآية على قلبي، حتى سمعتها من المتكلم بها، فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ". وفي مثل هذه الدرجة تشتد البهجة، وتعظم الحلاوة واللذة. ولذلك قال بعض الحكماء: " كنت اقرأ القرآن، فلا أجد له حلاوة، حتى تلوته كأني أسمعه عن رسول الله (ص) يتلوه على اصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه، فكنت اتلوه كأني اسمعه من جبرئيل يلقيه على رسول الله (ص)، فعندها وجدت لذة ونعيماً لا اصبر عنه ". وقال حذيفة: " لو طهرت القلوب، لم تشبع من قراءة القرآن ". وذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام، بل التوحيد الخالص للعبد ألا يرى في كل شيء إلا الله، إذ لو رأى غيره، لا من حيث إنه منه وله وبه واليه، كان مشركا بالشرك الخفي.
ومنها ـ التبري: وهو ان يتبرى من حوله وقوته، ولا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية. فإذا قرأ آيات الوعد ومدح الأخيار، فلا يشهد نفسه ولا يدخلها في زمرتهم، بل يشهد أهل الصدق واليقين، ويتشوق إلى ان يلحقه الله بهم. وإذا قرأ آيات المقت والوعيد، وذم العصاة والمقصرين، شهد نفسه هناك، وقدر انه المخاطب خوفا واشفاقاً. وإلى هذا أشار مولانا أمير المؤمنين (ع)، حيث قال في وصف المتقين: " وإذا مروا بآية فيها تخويف، أصغوا إليها مسامع قلوبهم، وظنوا ان زفير جهنم في آذانهم ". فإذا رأى القارئ نفسه بصورة التقصير في القراءة، كانت رؤيته سبب قربه. فان من شهد البعد في القرب، لطف له بالخوف، حتى يسوقه إلى درجة اخرى في القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد، مكر به بالأمن الذي يفضيه إلى درجة اخرى في البعد اسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهداً نفسه بعين الرضا، صار محجوباً بنفسه. فإذا جاوز حد الالتفات إلى نفسه، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته، كشف له سر الملكوت بحسب أحواله، فحيث يتلو آيات الرحمة والرجاء، يغلب على حاله الاستبشار، وتنكشف له صورة الجنة، فيشاهدها كأنه يراها عياناً، وان غلب عليه الخوف، كوشف بالنار، حتى يرى أنواع عذابها، وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف، والشديد العسوف، والمرجو والمخوف، وذلك بحسب اوصافه، إذ منها الرحمة واللطف.
ومنها ـ القهر والبطش والانتقام: فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات ينقلب القلب في اختلاف الحالات، وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة، إذ يمتنع أن يكون حال المستمع واحداً والمسموع مختلفاً، إذ فيه كلام راض، وكلام غضبان، وكلام منعم، وكلام منتقم، وكلام جبار متكبر لا يبالي، وكلام منان متعطف لا يهمل.

الصوم

(الصوم)
اعلم ان الصوم اجره عظيم، وثوابه جسيم، وما يدل على فضله من الآيات والأخبار اكثر من ان يحصى، وهي معروفة مشهورة، فلا حاجة إلى ذكرها، فلنشر إلى ما يتعلق به من الأمور الباطنة:

ما ينبغي للصائم

(ما ينبغي للصائم)
ينبغي للصائم ان يغض بصره عن كل ما يحرم النظر إليه، أو يكره، أو يشغل القلب ويلهيه عن ذكر الله تعالى، ويحفظ اللسان عن جميع آفاته المتقدمة، ويكف السمع عن كل ما يحرم أو يكره استماعه، ويكف بطنه عن الحرام والشبهات، ويكف سائر جوارحه عن المكاره. وقد ورد في اشتراط جميع ذلك في الصوم في ترتب كمال الثواب عليه أخبار كثيرة. وينبغي أيضاً ألا يستكثر من الحلال وقت الافطار بحيث يمتلئ، إذ ما من وعاء ابغض إلى الله عز وجل من بطن ملىء من حلال، كيف والسر في شرع الصوم قهر عدو الله، وكسر الشهوة والهوى، لتتقوى النفس على التقوى، وترتقى من حضيض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبيه بالملائكة الروحانية، وكيف يحصل ذلك إذا تدارك الصائم عند الافطار ما فاته ضحوة نهاره، لا سيما إذا زيد عليه في ألوان الطعام، كما استمرت العادات في هذه الاعصار، وربما يؤكل من الاطعمة في شهر رمضان ما لا يؤكل في عدة شهور. ولا ريب في ان المعدة إذا خليت من ضحوة النهار إلى العشاء، حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها، ثم اطعمت من اللذات، وأشبعت من ألوان المطاعم، وجمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما يأكل ليلا، وأكل الجميع في الليل مرة أو مرتين أو اكثر، زادت لذتها، وتضاعفت قوتها، وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها، فلا يحصل ما هو المقصود من الصوم، اعني تضعيف القوى الشهوية التي هي وسائل الشيطان، فلا بد من التقليل، وهو ان يأكل من مجموع الليلة أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم، من دون ضم مما يأكل في النهار إليه، حتى ينتفع بصومه. والحاصل. ان روح الصوم وسره، والغرض الأصلي منه: التخلق بخلق من أخلاق الله تعالى، اعني الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بقدر الامكان، وهذا إنما يحصل بتقليل الاكل عما يأكله في غير وقت الصوم، فلا جدوى لمجرد تأخير اكلة وجمع أكلتين عند العشاء، ثم لو جعل سر الصوم ما يظهر من بعض الظواهر، من ادراك الأغنياء ألم الجوع والانتقال منه إلى شدة حال الفقراء، فيبعثهم ذلك على مواساتهم بالاموال والاقوات، فهو أيضاً لا يتم بدون التقليل في الاكل.

ما ينبغي للصائم عند الإفطار

(ما ينبغي للصائم عند الافطار)
ينبغي لكل صائم أن يكون قلبه بعد الافطار مضطرباً، معلقا بين الخوف والرجاء، إذ ليس يدري ايقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين، وليكن الحال كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها. روى: " ان الإمام ابا محمد الحسن المجتبى (ع) مر بقوم يوم العيد وهم يضحكون، فقال (ع): إن الله تعالى جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق اقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون، وخاب فيه المبطلون، اما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن باحسانه، والمسيء عن اساءته! "، أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك.

درجات الصوم

(درجات الصوم)
للصوم ثلاث درجات:
الأولى ـ صوم العموم: وهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة، وهذا لا يفيد ازيد من سقوط القضاء والاستخلاص من العذاب.
الثانية ـ صوم الخصوص: وهو الكف المذكور، مع كف البصر والسمع واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن المعاصي، وعلى هذا الصوم تترتب المثوبات الموعودة من صاحب الشرع.
الثالثة ـ صوم خصوص الخصوص: وهو الكفان المذكوران، مع صوم القلب عن الهمم الدنية، والأخلاق الردية، والافكار الدنيوية، وكفه عما سواه بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر في ما سوى الله واليوم الآخر، وحاصل هذا الصوم اقبال بكنه الهمة على الله، وانصراف عن غير الله، وتلبس بمعنى قوله تعالى: " قل الله ثم ذرهم "، وهذا درجة الأنبياء والصديقين والمقربين، ويترتب عليه الوصول إلى المشاهد واللقاء، والفوز بما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب أحد. وإلى هذا الصوم اشار مولانا الصادق (ع) حيث قال: " قال النبي (ص): الصوم جنة، أي ستر من آفات الدنيا وحجاب من عذاب الآخرة، فإذا صمت فانو بصومك كف النفس عن الشهوات، وقطع الهمة عن خطرات الشياطين، وانزل نفسك منزلة المرضى، ولا تشتهي طعاما ولا شرابا، وتوقع في كل لحظة شفاءك من مرض الذنوب، وطهر باطنك من كل كدر وغفلة وظلمة يقطعك عن معنى الإخلاص لوجه الله. قال رسول الله (ص): قال الله تعالى: الصوم لي وانا اجزى به. والصوم يميت مراد النفس وشهوة الطبع، وفيه صفاء القلب، وطهارة الجوارح، وعمارة الظاهر والباطن، والشكر على النعم والإحسان إلى الفقراء، وزيادة التضرع والخشوع والبكاء، وحبل الالتجاء إلى الله، وسبب انكسار الهمة، وتخفيف الحساب، وتضعيف الحسنات، وفيه من الفوائد ما لا يحصى ولا يعد، وكفى بما ذكرنا لمن عقله ووفق لاستعماله "[12].
من صام شهر رمضان اخلاصا لله وتقربا إليه، وطهر باطنه من ذمائم الأخلاق، وكف ظاهره عن المعاصي والاثام، واجتنب عن الحرام، ولم يأكل إلا الحلال، ولم يفرط في الاكل، وواظب على جملة من النوافل والادعية وسائر الآداب المسنونة فيه، استحق للمغفرة والخلاص عن عذاب الآخرة، بمقتضى الأخبار المتواترة. ثم ان كان من العوام، حصل له من صفاء النفس ما يوجب استجابة دعوته، وان كان من أهل المعرفة، فعسى الشيطان لا يحوم على قلبه، فينكشف له شيء من الملكوت، لا سيما في ليلة القدر، إذ هي الليلة التي تنكشف فيها الاسرار، وتفيض على القلوب الطاهرة الأنوار، والمناط والعمدة في نيل ذلك تقليل الاكل بحيث يحس ألم الجوع، إذ من جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو محجوب عن عوالم الأنوار، ويستحيل ان ينكشف له شيء من الاسرار.

الحج

(الحج)
اعلم ان الحج اعظم اركان الدين، وعمدة ما يقرب العبد إلى رب العالمين وهو اهم التكاليف الإلهية واثقلها، واصعب العبادات البدنية وافضلها، واعظم بعبادة ينعدم بفقدها الدين، ويساوى تاركها اليهود والنصارى في الخسران المبين. والأخبار التي وردت في فضيلته وفي ذم تاركه كثيرة مذكورة في كتب الأخبار، والاحكام والشرائط الظاهرة له على عهدة الفقهاء، فلنشر إلى الاسرار الخفية، والأعمال الدقيقة، والآداب الباطنة، التي يبحث عنها ارباب القلوب:

الغرض من إيجاد الإنسان

(الغرض من إيجاد الإنسان)
اعلم ان الغرض الاصلي من إيجاد الإنسان معرفة الله والوصول إلى حبه والإنس به، والوصول إليه بالحب والإنس يتوقف على صفاء النفس وتجردها. فكلما صارت النفس أصفى وأشد تجرداً، كان انسها وحبها بالله اشد وأكثر. وصفاء النفس وتجردها موقوف على التنزه عن الشهوات، والكف عن اللذات والانقطاع عن الحطام الدنيوية، وتحريك الجوارح وايقاعها لاجله في الأعمال الشاقة، والتجرد لذكره وتوجيه القلب إليه. ولذلك شرعت العبادات المشتملة على هذه الأمور، إذ بعضها انفاق المال وبذله، الموجب للانقطاع عن الحطام الدنية، كالزكاة والخمس والصدقات، وبعضها الكف عن الشهوات واللذات، كالصوم، وبعضها التجرد لذكر الله وتوجيه القلب إليه، وارتكاب تحرك الاعضاء وتعبها، كالصلاة، والحج من بينها مشتمل على جميع هذه الأمور مع الزيادة، إذ فيه هجران اوطان، واتعاب ابدان، وانفاق أموال، وانقطاع آمال، وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وحضور مشاعر، وشهود شعائر، ويتحقق في أعماله التجرد لذكر الله، والاقبال عليه بضروب الطاعات والعبادات، مع كون أعماله اموراً لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلى معانيها العقول، كرمي الجمار بالاحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار، إذ بمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية، فان سائر العبادات أعمال وافعال يظهر وجهها للعقل، فللنفس إليها ميل، وللطبع بها انس.
وأما بعض أعمال الحج، كرمي الجمار وترددات السعي، فلا حظ للنفس ولا انس للطبع فيها، ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون الاقدام عليها إلا لمجرد الأمر وقصد الامتثال له من حيث ان أمر واجب الاتباع، ففيها عزل العقل عن تصرفه، وصرف النفس والطبع عن محل انسه، فان كل ما ادرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معينا للامتثال، فلا يظهر به كمال الرق والانقياد، ولذلك قال النبي (ص) في الحج على الخصوص: " لبيك بحجة حقا وتعبداً ورقا! "، ولم يقل ذلك في غيره من العبادات. فمثل هذه العبادة ـ أي ما لم يهتد العقل إلى معناه ووجهه ـ أبلغ انواع العبادات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطبع والبغي إلى الاسترقاق، فتعجب بعض الناس من هذه الافعال العجيبة مصدره الجهل باسرار التعبدات، وهذا هو السر في وضع الحج، مع دلالة كل عمل من أعماله على بعض أحوال الآخرة، أو في بعض اسرار أخر ـ كما يأتي ـ ما فيه من اجتماع أهل العالم في موضع تكرر فيه نزول الوحي، وهبوط جبرئيل وغيره من الملائكة المقربين على رسوله المكرم، ومن قبله على خليله المعظم ـ عليهما افضل الصلاة ـ، بل لا يزال مرجعاً ومنزلا لجميع الأنبياء، من آدم إلى خاتم، ومهبطاً للوحي، ومحلا للنزول طوائف الملائكة. وقد تولد فيه سيد الرسل (ص) وتوطأت اكثر مواضعه قدمه الشريفة وأقدام سائر الأنبياء، ولذلك سمي بـ(البيت العتيق)، وقد شرفه الله تعالى بالاضافة إلى نفسه، ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حواليه حرماً لبيته، وتفخيماً لامره، وجعل عرفات كالميدان على فناء حرمه، واكد حرمة الموضع بتحريم صيده وقطع شجره، ووضعه على مثال حضرة الملوك، فقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثاء غبراء، متواضعين لرب البيت، ومستكنين له، خضوعا لجلاله، واستكانة لعزته وعظمته، مع الاعتراف بتنزهه عن ان يحومه بيت أو يكتنفه بلد.
ولا ريب في ان الاجتماع في مثل هذا الموضع، مع ما فيه من حصول المؤالفة والمصاحبة، ومجاورة الابدال والاوتاد والاخيار المجتمعين من أقطار البلاد، وتظاهر الهمم، وتعاون النفوس على التضرع والابتهال والدعاء الموجب لسرعة الاجابة، بذكر النبي (ص) واجلاله، ونزول الوحي عليه، وغاية سعيه واهتمامه في اعلاء كلمة الله ونشر أحكام دينه، فتحصل الرقة للقلب، والصفاء للنفس. ثم لكون الحج أعظم التكليفات لهذه الامة، جعل بمنزلة الرهبانية في الملل السالفة، فان الأمم الماضية إذا أرادوا العمل لا صعب التكليف واشقها على النفس، انفردوا عن الخلق، وانحازوا إلى قلل الجبال، وآثروا التوحش عن الخلق بطلب الانس بالله، والتجرد له في جميع الحركات والسكنات، فتركوا اللذات الحاضرة، وألزموا أنفسهم الرياضات الشاقة، طمعاً في الآخرة، وقد اثنى الله عليهم في كتابة، وقاك
" ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وانهم لا يستكبرون "[13]. وقال تعالى: " ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله "[14].
ولما اندرس ذلك، واقبل الخلق على اتباع الشهوات، وهجروا التجرد لعبادة الله تعالى، وفروا عنها، بعث الله تعالى من سرة البطحاء محمداً (ص)، لاحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فسأله أهل الملل من الرهبانية والسياحة في دينه، فقال (ص): " ابدلنا بالرهبانية الجهاد والتكبير على كل شرف ـ يعني الحج ـ، وابدلنا بالسياحة الصوم ". فانعم الله على هذه الامة، بأن جعل الحج رهبانية لهم، فهو بازاء اعظم التكاليف والطاعات في الملل السابقة.

[1]  النحل، الآية: 98.
[2]  فصلت، الآية: 41 ـ 42.
[3]  صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 14/142.
[4]  محمد (ص)، الآية:24.
[5]  الشورى، الآية: 11.
[6]  الحشر، الآية: 23.
[7]  الكهف، الآية: 109.
[8]  ق، الآية: 8.
[9]  المؤمن، الآية: 13.
[10]  الرعد، الآية: 21. الزمر، الآية: 9.
[11]  هود، الآية: 120.
[12]  صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب 20. وعلى  (المستدرك): 1/589 ـ 590 من كتاب الصوم.
[13]  المائدة، الآية: 85.
[14]  الحديد، الآية: 27.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page