براءة وأمان من الرضا (ع)
المحب الصادق لأهل بيت النبي (ص) ((حيدر آقا الطهراني)) نقل لي فقال: قبل عدة أعوام وفي أحد الأيام كنت في الرواق المطهر للامام علي بن موسى الرضا (ع) لفت انتباهي حضور قلب وخشوع رجل عجوز مبيض اللحية والرأس وقد غطىٰ حاجباه عينيه من كبر سنّه فانشغلت بالنظر إليه حتى أراد ان يتحرك فإذا هو عاجز عن الحركة، فاعنته على القيام وسألته: أين منزلك لأوصلك إليه؟ فقال: في غرفة من ((مدرسة خيرات خان)).
فأوصلته إلى محل إقامته وتعلقت به قلبياً بحيث أصبحت أذهب كل يوم إليه لإعانته في أعماله وسألته عن إسمه وحاله فقال لي: إسمي إبراهيم ومن إهل العراق. وكان يعرف اللغة الفارسية ومما حدثني به قوله:
منذ شبابي وأنا آتي كل عام لزيارة القبر المطهر للرضا (ع) وأمكث هنا مدة ثم أعود إلى العراق، وفي شبابي عندما لم تكن هناك سيارات أتيت مرتين مشياً، في المرة الأولى كان معي ثلاثة شبان في سني ومن زملائي وأصدقائي في الإيمان وكنا نحب بعضنا البعض كثيراً فشيعوني مسافة فرسخ عن المدينة واغتموا لفراقي ولعدم تمكنمهم من مرافقتي في السفر فبكوا عند وداعي وقالوا لي: أنت شاب وهذا سفرك الأول وتتحمل المشقة بالسفر سيراً فسيكون دعاؤك مستجاباً نطلب منك ابلاغ الإمام سلامنا نحن الثلاثة وان تذكرنا في ذلك المحل الشريف، فودعتهم وتحركت باتجاه مشهد.
وعندما بلغت مشهد المقدسة توجهت إلى الحرم المطهر وأنا في حالة من التعب والإرهاق، فزرت وسقطت في زاوية من الحرم مغمياً علي، وأنا في تلك الحال رأيتُ الإمام الرضا (ع) وبيده رقع لا تعد يعطي كل زائر رجلاً كان أُم إمرأة أم طفلاً رقعة، ولما وصل إلي أعطاني أربع رقع فسألته: لم أعطيتني أربع رقع؟
فقال: واحدة لك وثلاثة لرفاقك الثلاثة.
فقلت له: هذا العمل لا يناسبك من الأفضل أن تأمر به غيرك ليقسّم الرقع.
فقال (ع): كل هذه المجموع أتت مؤملة بي وعليّ ان أصلهم بنفسي.
فتحت واحدة من تلك الرقع فوجدت فيها أربع جمل:
((براءة من النار، وأمان من الحساب، ودخول في الجنة، وأنا ابن رسول الله صلى الله عليه وآله)).
***
من هذه القصة نحصل على نتيجتين:
الأولى: كثرة رأفة وعناية وترحم الإمام علي بن موسىٰ الرضا (ع) بزوار قبره بحيث ان كل من لجأ إليه مؤملاً النجاة فإنه يشفع له ولن يحرم أحداً من باب بيته ذلك الرجل العظيم.
الثانية: كل من كان يرجو زيارته صادقاً ولا تتيسّر له زيارته فيسأل غيره أن ينوب عنه فهو كمن يزوره عليه الصلاة والسلام. وهذا الأمر لا يختص بزيارة الرضا (ع) وانما يجري في جميع الاُمور الخيرية، أي انه أي شخص يحب الخير ويتمنىٰ بلوغه قلبياً ولا يتيسّر له بلوغه ويحب من يبلغه فإنه حتماً سيكون كمن بلغه وينال مثل ثوابه، والشواهد على ذلك كثيرة في الروايات ومن جملة ذلك:
1- ((جابر بن عبدالله الأنصاري)) عندما زار قبر سيّد الشهداء (ع) في كربلاء وبعد زيارته (ع) وزيارة قبور الشهداء خاطبهم فقال: أقسم بالله اننا شركاؤكم فيما دخلتم فيه.
فقال له ((عطية بن سعد الكوفي)) وقد كان معه: وكيف نحن شركاء لشهداء ولم نشاركهم في صعود ولا هبوط ولم نضرب بسيف وقد فصل بين رؤسهم وأجسادهم ويتم أبناؤهم وسبيت نساؤهم؟
فقال جابر: يا عطية سمعت حبيبي رسول الله (ص) يقول ((من أحب قوماً حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أُشركَ في عملهم)) والذي بعث محمداً (ص) بالحق نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين وأصحابه[1].
2- قال الرضا (ع) لريان بن شبيب: ((يا ابن شبيب إن سّرك أن يكون لك ثواب من استشهد مع الحسين؟ فقل متى ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً))[2].
لا يخفىٰ أن بلوغ مثل ثواب الشهداء انما يتحقق عندما يكون هذا التمني صادقاً أي أن يكون لك في القتل في سبيل الله ميل ورغبة قلبية بحيث اذا تهيّأت أرضيته وظروفه لا منعه عن بلوغه حبه لنفسه ولأولاده ولماله ولمقامه. أما من ملأ قلبه بحب ذاته وشهواته وتعلقه بالدنيا واحاط جميع ذلك بقلبه بحيث أنه لو كان في واقعة كربلاء فعلاً لما تركه حبه لتلك جميعاً من ان يكون في جملة الشهداء فهو كاذب في قوله لتلك الجملة.
***
رجل من أهل العلم قال: مرت علي أعوام وأنا في خطأ وغرور اعتقد أني شريك في ثواب شهداء كربلاء إلى أن رأيت في منامي من احدىٰ الليالي واقعة كربلاء بالتفصيل الذي ذكرته كتب المقاتل، ورأيت نفسي بجانب الحسين (ع) ورأيت القاسم بن الحسن (ع) قد ذهب إلى ساحة الحرب وقتل، فخطر ببالي بما انه لم يبق للحسين (ع) من ناصر فسيأمرني بالجهاد الآن، فعدت إلى الخلف لشدة خوفي ثم اختبأت ورأيت فرساً فركبته وفررت بسرعة، ومن شدة هولي استيقظت من نومي وعلمت اني كنت في خطأ وان تمني القتل في سبيل الله الذي كان ورد لساني كان كذباً بعيداً عن الحقيقة.
الهدف من نقل هذه القصة هو لفت انتباه القارىء العزيز لئلا يأخذه الغرور وليعلم أن بلوغ ثواب الشهداء لا يتم إلا إذا كان ذلك تمنياً حقيقياً عليه بذل عمره وتحمل المشاق والتعب في مجاهدة نفسه ومحاربة هواه وهوسه، وإذا كان الشهيد يختبر مرة واحدة في ساحة الحرب ويقتل ويرتاح فإن الشخص المجاهد لنفسه يقضي عمره في ساحة الحرب مع نفسه والشيطان، لذلك فإن الحديث الشريف سماه بالجهاد الأكبر.
ثم انه في حال تمنيه هذا صادقاً فإنه يعطى مثل ثواب الشهيد وليس عين الثواب لأن الدرجة والمقام الذي أعده الله لشهداء كربلاء جزاءً لفدائهم العجيب ومنّ به عليهم لم ولن يعطه لأي شهيد من الأولين والأخرين فكيف بمن ليس عنده سوىٰ الأمنية، نعم في مقابل تمنيه الحقيقي يعطي ثواباً يشبه ما أعطي للشهداء تفضلاً وترحماً منه تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - نفس المهموم ص 300
[2] - نفس المهموم ص 17