طباعة

سورة مريم : اُقصوصة إبراهيم (عليه السلام)

 قالَ اللّه تعالى:

﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً

﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً

﴿يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدُ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً

﴿قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لاََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً

﴿قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ

﴿وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ

﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَ كُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً

﴿وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً

هذه هي الاُقصوصة الخامسة من قصص سورة مريم.

إنّ القصص الأربع المذكورة كانت بمثابة وحدة قصصية تتناول موضوعاً متجانساً هو الإنجاب بنحوه المعجز ، و تتحرّك شخصياتها وفق وحدة البطل من حيث تجانس الأبطال زمانياً و نسَبيّاً ...

أمّا اُقصوصة إبراهيم فتتجه وجهة موضوعية اُخرى ، إلاّ أنّها من حيث البناء الهندسي للسورة تصبّ في رافد فكريٍّ مشترك بين مجموعة القصص ... و من الواضح أنّ الموضوع المطروح في القصة شيءٌ و الفكرة التي يحوم الموضوعُ عليها شيءٌ آخر ... فموضوع القصص الأربع هو الإنجاب و موضوع قصة إبراهيم هو مناقشة إبراهيم لأبيه في قضيّة عبادة الأصنام ، و أمّا الأفكار المستهدفة في كلٍّ من القصص الأربع ثمّ في قصة إبراهيم تحوم على جملة من الدلالات تشكّل عنصراً مشتركاً بين القصص الخمس:

الدلالة الاُولى: هي قول إبراهيم لأبيه:

﴿سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً

إنّ حفاوة اللّه تعالى بإبراهيم تذكّرنا بحفاوته تعالى بالأبطال الأربعة: بدءٌ من رحمته تعالى عبده زكريا ، مروراً بيحيى حيث سكب عليه «حناناً من لَدُنه» إلى مريم التي «أقرَّ عينها» ، و انتهاءً بعيسى الذي جعله «مباركاً».

الدلالة الثانية: هي قول إبراهيم لأبيه:

﴿وَ أَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً

و هي نفس العبارة التي قالها زكريّا:

﴿وَ لَمْ أَكُن بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيّاً

الدلالة الثالثة: هي قول إبراهيم لأبيه:

﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ

و هي تماثل العزلة التي غلّفت زكريا في محرابه و صومه ، و مريم في انتباذها مكاناً شرقياً .

الدلالة الرابعة: تتمثّل في عملية الإنجاب أيضاً إلاّ أنّه إنجابٌ لم يقترن بالإعجاز ، بل الإنجاب المقترن بما طلبه زكريا من اللّه بأن يهبه ذرّية طيبة ، و ها هو إبراهيم (عليه السلام)يهبه اللّه ذرّيّة طيبة. يقول تعالى عنه:

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ

﴿وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاّ جَعَلْنَا نَبِيّاً

الدلالة الخامسة: هي أنّ ذرّيّة زكريا و مريم ينتسبون إلى الأنبياء ، كذلك ذريّة إبراهيم: إسحاق و يعقوب.

الدلالة السادسة: أنّ الذرّيّة ترتّبت ـ في أبطال القصص الثلاثة ـ على العزلة الاجتماعية أو العبادية ، حيث وصل النص بين عزلة إبراهيم و بين الذرّيّة:

﴿فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ

الدلالة السابعة: أنّ مفهوم الرحمة التي استُهلَّت بها سورة مريم:

﴿ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا

من حيث انعكاساتها على كلّ الأبطال ، تنعكس الآن على إبراهيم و أيضاً ذرّيّة إبراهيم ، حيث عقّب النص على إبراهيم و ذرّيّته بقوله تعالى:

﴿وَ وَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَ جَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً

حيث شملت الرحمة إبراهيم.

الدلالة الثامنة: هي أنّ ذرّيّة إبراهيم قد شملتهم الرحمة أيضاً ، وفقاً للعبارة القصصية السابقة.

الدلالة التاسعة: هي أنّ دعاء زكريا ربّه بأن يجعله و ذريته مرضيّين قد انسحب على إبراهيم و ذرّيّته حيث جعل اللّه لهم:

﴿لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً

الدلالة العاشرة: قال إبراهيم لأبيه:

﴿يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِـي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ ...

و هو مجانس لما آتاه اللّه الأبطال السابقين مثل يحيى:

﴿وَ آتَيْنَاهُ الْحُكْمَ

إذاً نحن الآن أمام عشرة خطوط فكرية تنتظم القصص الخمس بالرغم من انشطارها إلى قصص متماثلة القصص الأربع و قصة مستقلة قصة إبراهيم و قصة موسى التي تليها كما سنرى ...

أمّا الدلالات الخاصة التي تميّزت بها قصة إبراهيم فتتمثّل في الموقف الفكري الذي وقفه إبراهيم حيال أبيه ، المجسّد للموقف الوثني ، حيث ناقشه وفق لغة منطقية تقول له:

﴿لِمَ تَعبُدُ مَا لاَ يَسمَعُ وَ لاَ يُبصِرُ

إلاّ أنّ أباه بدلا من الانصياع للغة المنطق هدّده بالعبارة الآتية:

﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ

هذا الموقف سنرى منعكساته في الأجزاء اللاحقة من السورة ، لكن خارجاً عن ذلك نلحظ أيضاً أنّ إبراهيم ذكّر أباه بالجزاء الاُخروي ، و هو نفس التذكير الذي صدر النبيّ (صلى الله عليه وآله) عنه حيال معاصريه ، حيث لحظنا أنّ النص وَصَل بين قصة عيسى و بين البيئة الإسلامية من خلال التذكير بالجزاءات الاُخروية التي تنتظر المنحرفين عن مبادئ اللّه تعالى ، و هو بُعدٌ آخر من أبعاد التجانس أو التلاحم العضوي بين أجزاء السورة الكريمة.