من الواضح ، أنّ قصص كثير من الأنبياء تتكرّر ـ كما أشرنا ـ بيد أنّ التكرار يتضمّن حيناً وقائع ومواقف بعينها ، وحيناً ثانياً يتضمّن وقائع ومواقف جديدة ، وحيناً ثالثاً ما يتضمّن الحالتين . . . وهذا ما يمكن ملاحظته في الحكايات الّتي نعتزم تناولها ، حيث أنّها تتضمّن من جانب ، مواقف وأحداثاً وشخصيات جديدة وتتضمّن من جانب آخر موضوعات سبق طرحها ، كالتسخير للجنّ مثلاً ولكن في سياق يختلف عن القصص السابقة .
المهمّ: أنّ الحكايات التي نعتزم لفت النظر إليها هي حكايات سليمان(عليه السلام) مع مواقف ووقائع جديدة ، نبدأ الحديث عنها الآن ، فنقول:
حكايات سليمان (عليه السلام) ـ في سورة النمل ـ حكايات مُثيرة حافلة بأشدّ الإثارات الفنّية ممّا هو معجزٌ و مدهشٌ و مُمتعٌ و طريف .
فمن حيث الأبطال أو الشخوص ، تظلّ هذه الأقاصيص حافلةٌ بأصناف متنوّعة ، و ليس مقتصرة على الجنس البشري . إنّهم ـ كما يقول النصُّ القصصي نفسه ـ مجموعة من الجنّ و الإنس و الطير يتعامل بعضُها مع الآخر في أنماط مثيرة من السلوك ، كما سنرى .
و من حيث الأحداث و المواقف ، تظلّ هذه الأقاصيص حافلةً بالمعجز من السلوك ، و ليس بما هو عاديٌّ أو نادرٌ إلاّ في نطاق محدود .
و من حيث البيئات فإنّها محكومةٌ بالطابع المعجز نفسه ، فضلا عمّا يكتنفها من المرائي أو المشاهد التي تفيض بما هو ممتعٌ و طريفٌ و مُدهش .
و أمّا من حيث الأفكار فإنّ الاُقصوصة تطرح أمام المتلقّي عطاء اللّه الذي لا تحدّه حدود ، عندما يُخلص الكائن الآدمي للّه ، بحيث تُسخّر السماء لهُ كلّ القوى من بشر و جنّ و طير ، و بحيث تفتح له آفاقاً جديدة من اللغة: لغة التفاهم مع النمل و الطير و نحوهما ممّا هو غير مألوف عادةً ، إلاّ أ نّه ممكنٌ مادامت القوى غير البشرية تملك بدورها لغةً خاصّة بها ، لكننا لا نفقهها في نطاق ما هو عاديٌّ من سلوكنا ، و يمكننا أن نفقهه في النطاق غير العادي ، عندما يتصاعد الكائن الآدمي بسلوكه نحو الذُرى .
* * *
هذا كلّه من حيث عناصر الأقاصيص أبطالا و أحداثاً و مواقفَ و بيئات و أفكاراً .
و أمّا من حيث الشكل الفنّي الأقاصيص ، فإنّها تتخذ هيكلا خاصاً ، يمكننا أن نُعدّ النص من خلاله اُقصوصةً واحدة ، مثلما يمكننا أن نعدّه اُقصوصتين متداخلتين ، بل يمكننا لأوّل وهله أن نعدّه اُقصوصتين تبدوان و كأنّهما منفصلتان:
إحداهما تتصل بقضية سليمان مع النمل .
و الاُخرى مع الهُدهُد .
إلاّ أنّ الرابطة الفنّية بينهما من الوضوح بمكان كبير ـ كما سنرى ـ وهو أمرٌ يضيف إلى جمالية النص القصصي ، جماليةً جديدةً لا نألفها في القصص الأرضي ، أي النتاج البشري .
و أمّا من حيث لغة القصّ ، فإنّ كلاّ من السرد و الحوار ينهضان بأداء جمالي له فعاليّتُه الكبيرة في تطوير الأحداث و المواقف ، و في إلقاء الضوء على تفصيلاتها ، و في الكشف عن خفايا النفس و أعماقها ، كلّ اُولئك من خلال لغة مصطفاة ، مقتصدة ، مركّزة .
و نبدأ الآن بالوقوف مفصّلا على هذه العناصر التي أشرنا إليها ، وهي: الأبطال
و الأحداث و المواقف و البيئات و الأفكار . فضلا عن بناء الاُقصوصة و لُغتها الجمالية .
و ليكن حديثُنا في البداية مع بناء الاُقصوصة .
بناء الاُقصوصة:
قلنا: إنّ حكايات سليمان ـ في سورة النمل ـ تتضمّن موقفين أو حادثتين ، تبدوان و كأنهما منفصلتان ، أو متداخلتان من حيث العنصر الرابط بينهما .
فالحكاية الاُولى تتصل بجنود سليمان من الجنّ و الإنس و الطير ، حيث يُشير النصُ القصصي إلى أ نّه:
﴿وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الإِْنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ﴾
و يُشير بعد ذلك إلى الحادثة الآتية:
﴿حَتّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ الَّنمْلِ﴾
﴿قالَتْ نَمْلَةٌ: يا أَيُّهَا الَّنمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾
﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾
﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ:﴾
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾
﴿الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ﴾
﴿وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصّالِحِينَ﴾
هذه هي الحكاية الاُولى من حكايات سليمان .
و قد مهّد لها النصُّ بفقرة تُحدّثنا عن قول سليمان (عليه السلام) على النحو الآتي:
﴿قالَ يا أَيُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْء﴾
﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ﴾
هذه الفقرة التي تُلخّص موقفاً من المواقف ، هي التي تشكّل عَصَباً فنّياً لقصّتين متداخلتين ، لكنهما تنشطران إلى واقعتين: إحداهما تبدو منفصلةً عن الاُخرى:
واقعة الجيش الزاحف على واد النمل . و واقعة الطير أو الهدهد الذي تفقّده سليمان ، و ما استتلاه من القصة المتصلة بالملكة بلقيس ، و إسلامِها في نهاية المطاف .
إنّ الترابط الفنّي القائم بين حكايتي النمل و الهدهد في قصّة سليمان يتمثّل في:
أ ـ إنّ الحكايتين تتعاملان مع أبطال ثانويين من غير الآدميين: النملو الهدهد .
ب ـ إنّ الحكايتين يجمعهما بطلٌ رئيس واحدٌ هو: سليمان (عليه السلام) .
ج ـ إنّ الحكايتين يتّم التعامل بين أبطالهما بلغة خاصة يُتقنها سليمان (عليه السلام) بحسب منطق البطل غير الآدمي الذي يتعامل معه .
د ـ إنّ الحكايتين تطرحان ـ من خلال تعقيب النصّ عليهما ـ مفهوم الشكر على عطاء السماء الذي أشرنا إلى أ نّه يمثّل أفكار القصة قصة سليمان ، ففي حكاية النمل عقّب سليمان على إدراكه لمنطق النملة ، قائلا:
﴿رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى . . .﴾
و في حكاية الهدهد عقّب سليمان على واقعة العرش الذي أحضره أحدُ الأبطال و نعني به عرش بلقيس ، قائلا:
﴿هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي: أأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾
﴿وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ . . .﴾
و أخيراً ، فإنّ التمهيد الذي تصدّر الحكايتين يشكّل وحده عنصراً رابطاً بينهما من خلال إشارة سليمان نفسه إلى أ نّه عُلِّم منطق الطير ، و إشارته ـ و هذا هو الخيط الرابط ـ إلى أ نّه اُوتيَ من كلّ شيء ، و إلى أنّ هذا هو الفضل المبين .
إذن الترابط الفنّي القائم بين حكايتي النمل و الهدهد في حكايات سليمان ، يبدو من الوضوح بمكان كبير ، مادامت الحكايتان تخضعان لقيم فكريّة متماثلة ، . . . و مادامت عناصر القصّ ، من وحدة الشخصية في الحكايتين ، و من تماثل الأبطال الثانويين في انتسابهم للجنس غير البشري ، و انبثاق لغة التفاهم بين سليمان و الأبطال الثانويين . . . كلّ ذلك يمثّل عنصراً رابطاً بين الحكايتين ، بحيث يمكن القول إلى أنّهما قصةٌ واحدة ، أو قصّتان متداخلتان ـ قصةٌ داخل قصّة ـ .
و هذا كلّه من حيث البناء أو الهيكل القصصي ، لقصة سليمان بعامّة .