هذه الرواية التي يرويها ابن قتيبة المؤرخ الكبير في كتابه تاريخ الخلفاء منقولة عن مالك نفسه ، فبلابد من هذه الملاحظة وأخذها بعين الاعتبار .
قال مالك : لما صرت بمنى أتيت السرادقات ، فأذنت بنفسي ، فأذن لي ، ثم خرج إلي الآذن من عنده فأدخلني ، فقلت للأذن : إذا انتهيت بي إلى القبة التي يكون فيها أمير المؤمنين فأعلمني ، فمر بي من سرادق إلى سرادق ، ومن قبة إلى أخرى ، في كلها أصناف من الرجال بأيديهم السيوف المشهورة والأجزرة المرفوعة ، حتى قال لي الآذن : هو في تلك القبة ، ثم تركني الأذن وتأخر عني .
فمشيت حتى انتهيت إلى القبة التي هو فيها ، فإذا هو قد نزل عن مجلسه الذي يكون فيه إلى البساط الذي دونه ، وإذا هو قد لبس ثياباً قصدة لا تشبه ثياب مثله تواضعاً لدخولي عليه ، وليس معه في القبة إلا قائم على رأسه بسيف صليت .
فلما دنوت منه ، رحب بي وقرب ، ثم قال : ها هنا إلي فأوميت للجلوس فقال : ها هنا ، فلم يزل يدنيني حتى أجلسني إليه ولصقت ركبتي بركبتيه .
ثم كان أول ما تكلم به أن قال : والله الذي لا إله إلا هو يا أبا عبد الله ما أمرت بالذي كان ولا علمته قبل أن يكون ، ولا رضيته إذ بلغني ( يعني الضرب ) .
قال مالك : فحمدت الله تعالى على كل حال وصليت على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم نزهته عن الأمر بذلك والرضا به ، ثم قال : يا أبا عبد الله ، لا يزال أهل الحرمين بخير ما كنت بين أظهرهم ، وإني أخالك أمانا لهم من عذاب الله وسطوته ولقد دفع الله بك عنهم وقعة عظيمة ، فإنهم ما علمت أسرع الناس إلى الفتن وأضعفهم عنها ، قاتلهم الله أنى يؤفكون .
وقد أمرت أن يؤتى بعدو الله (1) من المدينة على قتب ، وأمرت بضيق مجلسه والمبالغة في امتهانه ، ولابد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالك منه .
فقلت له : عافى الله أمير المؤمنين ، وأكرم مثواه ، قد عفوت عنه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم منك .
قال أبو جعفر : وأنت فعفى الله عنك ووصلك .
قال مالك : ثم فاتحني فيمن مضى من السلف والعلماء ، فوجدته أعلم الناس بالناس ، ثم فاتحني في العلم والفقه ، فوجدته أعلم الناس بما اجتمعوا عليه ، وأعرفهم بما اختلفوا فيه ، حافظاً لما روي واعياً لما سمع .
ثم قال لي : يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه ، ودون منه كتبا ، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس ، وشواذ عبد الله بن مسعود ، واقصد إلى أواسط الأمور ، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة (رضي الله عنهم ) ، لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا سواها .
فقلت له : أصلح الله الأمير ، إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا .
فقال أبو جعفر : يحملون عليه ونضرب عليه هاماتهم بالسيف ونقطع طي ظهورهم بالسياط ، فتعجل بذلك وضعها فسيأتيك محمد المهدي ابني العام القابل إن شاء الله إلى المدينة ليسمعها منك ، فيجدك وقد فرغت من ذلك إن شاء الله .
قال مالك : فبينما نحن قعود إذ طلع بني له صغير من قبة بظهر القبة التي كنا فيها ، فلما نظر إلي الصبي فزع ثم تقهقر فلم يتقدم ، فقال له أبو جعفر : تقدم يا حبيبي إنما هو أبو عبد الله فقيه أهل الحجاز ، ثم التفت إلي فقال : يا أبا عبد الله أتدري لم فزع الصبي ولم يتقدم ؟ فقلت : لا !
فقال : والله استنكر قرب مجلسك مني إذ لم ير به أحداً غيرك قط ، فلذلك تقهقر .
قال مالك : ثم أمر لي بألف دينار عيناً ذهباً ، وكسوة عظيمة ، وأمر لابني بألف دينار ، ثم استأذنته فأذن لي ، فقمت فودعني ودعا لي ، ثم مشيت منطلقاً ، فلحقني الخصي بالكسوة فوضعها على منكي وكذلك يفعلون بمن كسوه وإن عظم قدره ، فيخرج بالكسوة على الناس فيحملها ثم يسلمها إلى غلامه .
فلما وضع الخصي الكسوة على منكبي انحنيت عنها بمنكبي كراهة احتمالها ، تبرؤا من ذلك .
فناداه أبو جعفر : بلغها رحل أبي عبد الله … إنتهي (*) .
_____________________
(1) يقصد ابن عمه جعفر بن سليمان بن العباس واليه على المدينة .
لقاء مالك مع أبي جعفر المنصور
- الزيارات: 1678