المتتبع لفقه الشيعة الإمامية يجدهم ينقطعون في كل الأحكام الفقهية ـ إلا المستحدثة ـ (1) إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طريق الأئمة الاثني عشر من أهل البيت (عليهم السلام ) .
وهؤلاء عندهم مصادر التشريع اثنان لا ثالث لهما :
الكتاب والسنة ، أعني المصدر الأول هو القرآن الكريم ، والمصدر الثاني هي السنة النبوية الشريفة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام .
وهذه هي أقوال الشيعة قديماً وحديثاً ، بل هي أقوال الأئمة من أهل البيت الذين لم يدع واحد منهم أنه اجتهد برأيه أو حكم حكماً من عنده .
فهذا الإمام الأول علي بن أبي طالب عندما اختاروه للخلافة واشترطوا عليه أن يحكم فيهم بسنة الشيخين أبي بكر وعمر ، قال : لا أحكم إلا بكتاب الله وسنة رسوله (2) .
وسنوضح في أبحاث لاحقة بأنه ( عليه السلام ) كان دائماً يتقيد بسنة النبي ولا يحيد عنها أبداً ، ويحاول بكل جهوده إرجاع الناس إليها حتى سبب له ذلك غضب الخلفاء ، ونفور الناس منه لشدته في ذات الله وتشبثه بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
كما أن الإمام الباقر ( عليه السلام ) كان يقول دائماً :
لو حدثناكم برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا ، ولكنا نحدثكم ببينة من ربنا بينها لنبيه فينها نبيه لنا .
وقال مرة أخرى : يا جابر ، إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين ، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم .
وهذا الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) يقول :
والله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ، ولا نقول إلا ما قال ربنا ، فمهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله لسنا نقول برأينا من شيء .
وأهل العلم والمحققون يعرفون ذلك من أئمة أهل البيت فلم يسجلوا عن أحدهم القول بالرأي ولا بالقياس ولا بالاستحسان أو بشيء غير القرآن والسنة (3) .
وحتى إذا رجعنا للمرجع الكبير المعاصر الشهيد آية الله محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه ) تجده يقول في رسالته العملية لفقه العبادات والمعاملات ـ في الفتاوى الواضحة ـ يقول حرفياً : « ونرى من الضروري أن نشير أخيراً بصورة موجزة إلى المصادر التي اعتمدناها بصورة رئيسية في استنباط هذه الفتاوى الواضحة وهي كما ذكرنا في مستهل الحديث عبارة عن الكتاب الكريم والسنة الشريفة المنقولة عن طريق الثقات المتورعين في النقل مهما كان مذهبهم (*) . أما القياس والاستحسان ونحوهما فلا نرى مسوغاً شرعياً للاعتماد عليها .
وأما ما يسمى بالدليل العقلي الذي اختلف المجتهدون والمحدثون في أنه هل يسوغ العمل به أولا ، فنحن وإن كنا نؤمن بأنه يسوغ العمل به ، ولكنا لم نجد حكماً واحداً يتوقف إثباته على الدليل العقلي بهذا المعنى ، بل كل ما يثبت بالدليل العقلي فهو ثابت في نفس الوقت بكتاب أو سنة .
وأما ما يسمى بالأجماع فهو ليس مصدراً إلى جانب الكتاب والسنة ، وإنما لا يعتمد عليه إلا من أجل كونه وسيلة إثبات في بعض الحالات .
وهكذا كان المصدران الوحيدان هما الكتاب والسنة ونبتهل إلى الله أن يجعلنا من المتمسكين بهما . « ومن استمسك بهما فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم » (1) .
نعم ، ونجد هذه الظاهرة هي السائدة عند الشيعة قديماً وحديثاً ولا يعتمد عندهم إلا على الكتاب والسنة ولا تجد لأحدهم فتوى واحدة ناتجة عن القياس أو الاستحسان ، وقصة الإمام الصادق مع أبي حنيفة معروفة ، وكيف أنه نهاه عن القياس وقال له فيما قال : لا تقس في دين الله فإن الشريعة إذا قيست محقت ، وإن أول من قاس إبليس عندما قال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين » .
هذه هي مصادر التشريع عند الشيعة من عهد علي بن أبي طالب وإلى يومنا هذا . فما هي مصادر التشريع عند « أهل السنة والجماعة » ؟
________________________
(1) ونقصد بها اجتهاد العلماء في ما لا نص فيه والذي حدث بعد غيبة الإمام الثاني عشر .
(2) وفي بعض الروايات قال : « وما عداهما فأجتهد رأيي » وهي زيادة مكذوبة من أصحاب الاجتهاد وانصاره ، لأن الإمام علياً لم يدع يوماً بأنه اجتهد برأيه ، بل كان دائماً يستنبط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله أو كان يقول : عندنا الجامعة وفيها كل ما يحتاجه الناس حتى أرش الخدش ، وهذه الصحيفة هي من إملاء رسول الله وخط علي ، وقد مر الكلام عن الصحيفة الجامعة في فصل « أهل السنة ومحق السنة » من هذا الكتاب .
(3) أنظر إلى علماء الشيعة كيف يأخذون عن الثقات المتورّعين مهما كان مذهبهم، وهو ردّ على القائلين بأنّ الشيعة لا يثقون في الصّحابة، وإنّما يرفض الشيعة حديث الصحاب] إذا تعارض مع ما يرويه أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
(4) الفتاوى الواضحة للشهيد باقر الصدر ص 98 .
مصادر التشريع عند الشيعة
- الزيارات: 6924