• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

في رحاب : التقيّة

التقيّة في الشريعة الإسلامية
تعتبر التقية من جملة المبادئ العملية التي طرحها القرآن الكريم، وقد نصّ على جوازها في قوله تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء* إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [1].
وقوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)[2].
لقد نصّت هذه الآية على التقية وحددت معناه، ذلك أن للإيمان ثلاثة أركان هي : اعتقاد في القلب ، واظهار في اللسان ، وعمل بالجوارح. هذا هو مقتضى الإيمان في الظروف الطبيعية.
وحيث إن الإسلام شريعة عملية تنظر إلى الواقع وتعالج كل ملابساته فمن الطبيعي أن توضح للمكلفين كيفية التعامل مع الأحداث في الظروف الطبيعية وغير الطبيعية، كما إذا أصبح الإنسان مخيراً بين الموت أو الحرج الشديد وبين التنازل عن بعض مستلزمات الإيمان أو بعض مظاهره، فجاءت هذه الآية الكريمة لتوضح أن الركن الأول وهو الاعتقاد بالقلب لا يمكن التنازل عنه بحال من الأحوال لأنه قوام الإيمان وجوهره، وهو ركن خفي بطبعه ، أما الركن الثاني والثالث فأجازت الآية للمؤمنين عدم التظاهر بالإسلام بشكل مؤقت إذا توقف على ذلك دفع الموت أو الحرج الشديد عنهم ولم يلزم منه هدم الدين وإضعافه، حيث وردت الآية في قضية عمار بن ياسر عندما أمره المشركون بسبّ الرسول(صلى الله عليه وآله) وامتداح الأصنام ففعل ذلك تحت وطأة التعذيب الشديد، فلما أتى الرسول، قال له : «ما وراءك »؟ قال : شرّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال: «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئن بالإيمان، قال:(صلى الله عليه وآله) «إن عادوا فعد»[3].
وقد استدلّ علماء المسلمين على مشروعية مبدأ التقية بالآيتين المذكورتين آنفاً وجعل المراغي في تفسيره من جملة موارد التقية: مداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، وأخرج الطبراني، قوله(صلى الله عليه وآله) : «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة»[4].
ولا يعتبر هذا من النفاق الذي أدانه القرآن الكريم واعتبره أشد من الكفر، فإن النفاق هو كتمان الكفر أو العداوة، وإظهار الإيمان أو المحبة، بينما التقية هي كتمان الإيمان وإظهار ما يخالفه ، ولو كانت التقية من جملة مصاديق النفاق فلماذا أباحها الله سبحانه وتعالى نصّاً، ثم امتدح عليها مؤمن آل فرعون وذكره بذكر حسن: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)[5]، وامتدح امرأة فرعون وجعلها مثلاً للذين آمنوا ـ وقد عاشت مع فرعون بالتقية ـ في آيتين من كتابه؟
كما تختلف التقية أيضاً عن الاستسلام والمهادنة في أمر الدين اختلافاً جوهرياً، فإن الاستسلام والمهادنة إذعان للطرف المقابل والتنازل له عن المبادئ المعتقد بها، بينما تعني التقية الاحتفاظ بالرفض، وعدم التظاهر به بشكل مؤقت، وإظهار موافقة العدو حتى انقضاء فترة الضعف ريثما تحين فرصة إعداد القوة، فالتقية تدبير عقلائي لغرض الحيلولة دون سقوط المؤمن في هوّة الاستسلام والمهادنة، وتعبئته بدلاً عن ذلك بمقوّمات الصمود الروحي والمعنوي لكي لا ينهار أمام الضغوط المعادية، ولكي يحتفظ بالحد الأدنى من الإيمان، وهو ينظر بعين الأمل للمستقبل منتظراً حلول الفرصة المناسبة للتغيير. بينما يخلو الاستسلام من خصائص الصمود والأمل وفكرة التغيير في أوّل فرصة ممكنة.
وبكلمة اُخرى ، إن التقية تعني مغالبة الاستسلام واليأس والقنوط والمهادنة، وغير ذلك من معاني الضعف والانهيار التي يحاول العدوّ أن يفرضها على المؤمن، وأن الردّ بالتقية على العدو يعني إلقاء هذه المعاني في نفسه، فحينما يدرك العدو بأن المؤمن يتمسك في مواجهته بالتقية وأنّ هذه التقية تجعله إنساناً عنيداً لا يعرف المساومة والانهيار ، سوف يقع في هوّة اليأس من هدفه هذا.
عمل الصحابة والتابعين بالتقية
وإذا انتقلنا من الكتاب والسنّة النبويّة الى عمل الصحابة والتابعين والفقهاء من الرعيل الأوّل، وجدنا التاريخ يدلّنا على أنّهم كانوا يعملون بالتقية كلّما لزم الأمر منهم ذلك، ولهم في ذلك قصص معروفة، مثل عبدالله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ورجاء بن حَيْوَة، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد المعتزلي، وأبو حنيفة.
فقد روي عن الحارث بن سويد، قال: سمعت عبدالله بن مسعود، يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به.
أخرجه ابن حزم في المحلّى، وقال: ولا يعرف له من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مخالف[6].
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء، أنّه كان يقول: إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم[7].
ونسب هذا القول الى أبي موسى الأشعري أيضاً[8]. والى أمير المؤمنين[9].
وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال: حفظت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعاءين: فأما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم[10].
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي تبيّن أسامي اُمراء السوء وأحوالهم، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله: (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير الى حكم يزيد بن معاوية; لأنّها كانت سنة ستين من الهجرة[11].
وأخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال: قال رجل لابن عباس: هل لك في معاوية أوتر بواحدة؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس: أصاب معاوية.
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدلّ على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية، فقد أخرج بسنده عن عكرمة، قال: «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين ترى أخذها الحمار؟».
قال الطحاوي بعد ذلك: وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس: (أصاب معاوية) على التقية له، ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث[12].
وأخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسّان بن أبي يحيى الكندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها الى ولاة الأمر. قال: فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنّك أمرتني أن أدفعها الى ولاة الأمر، وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا؟! فقال: ضعها حيث أمرك الله، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاُخبرك[13].
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه.
هذا، وقد أورد العلاّمة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد ابن أبي وقاص في سؤاله إيّاه عن حديث الغدير، فراجع[14].
وقال القرطبي المالكي: «وقال ادريس بن يحيى: كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق، ويأتون بالأخبار، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.
فقال: يا رجاء! اُذكر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلاّ هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ هو.
فأمر الوليد بالجاسوس، فضرب سبعين سوطاً، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم[15].
وقد حصل نظير هذه التقية لسعد بن أشرس ـ صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان، ولما اُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً[16].
وقال ابن الجوزي الحنبلي: خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل: لا ينطقن أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا، فقال: كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شيء جئنا؟ فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله. قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين! فقال: هذا واجب، سيروا. قال: فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ، حتى قربنا الى بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا[17].
وفي خضمّ ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكيّة على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمّداً بن عبدالله بن الحسن كتب إليك كتاباً؟ قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال: فبم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا، أنّي لا أراه؟!
قال المنصور: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي! قال عمرو: لئن كذبتك تقية، لأحلفنّ لك تقية، قال المنصور: والله، والله! أنت الصادق البر[18].
وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع، قال: جاء عمر بن حمّاد ابن أبي حنيفة فجلس إلينا، فقال: سمعت أبي حمّاد يقول: بعث ابن أبي ليلى الى أبي حنيفة فسأله عن القرآن؟ فقال مخلوق، فقال: تتوب وإلاّ أقدمت عليك؟ قال: فتابعه، فقال: القرآن كلام الله .
قال: فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب، من قوله القرآن مخلوق.
فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت الى هذا وتابعته؟
قال: يا بني، خفت أن يقدم عليّ فأعطيته التقية[19].
هذه جملة من الشواهد التطبيقية لمسألة التقية في حياة أعلام بارزين من الصحابة والتابعين والفقهاء; وهناك شواهد تطبيقية اُخرى كثيرة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، وقد روتها مصادر الجمهور، وقد بلغ الأمر شهرة وذيوعاً في سلوك العاملين بشريعة سيد المرسلين، كلّما ألجأتهم الظروف الى التقية ، حتى أصبح ظاهرة في تاريخ الإسلام، تلفت نظر كل باحث فيه عن حق وحقيقة، ممّا جعل جمال الدين القاسمي، يشير الى ما ذكره الشيخ مرتضى اليماني في عوامل خفاء الحق، وغموض الحقيقة في كثير من الأحيان، حيث نقل عنه قوله، وزاد الحق غموضاً وخفاءاً أمران:
أحدهما: «خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء، وسلاطين الجور وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنصّ القرآن واجماع أهل الإسلام ومازال الخوف مانعاً من اظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر الخلق»[20].
ولأجل ما للتقية من دور لا يسع المؤمن تجاهله، وجدنا الفقه الإسلامي في مختلف أبوابه زاخراً بمواردها، بحيث يجد المكلف للمسألة الفقهية الواردة في عبادة معينة أو معاملة معينة حكماً عندما يكون المكلف في حالة طبيعية، وحكماً آخر عندما يكون في موقف اضطراري يُكره فيه على اختيار معيّن ظلماً وعدواناً، وهذا باب واسع يتسع لكل أبواب الفقه وكتبه من العبادات والمعاملات، وليس هناك من ينكر توفّر فقه مذاهب الجمهور على أحكام اضطرارية خاصة بمن يُكره على عمل معين ظلماً وجوراً، وما هذه الأحكام إلاّ من جملة مصاديق التقية ومواردها[21]
مبدأ مشروعية التقية عند الإمامية
أما علماء الإمامية فقد استدلوا على جواز التقية، بل وجوبها أحياناً ـ إضافة الى الآيتين المذكورتين ـ بروايات عديدة بلغت حد الاستفاضة، ولها باب روائي خاص في وسائل الشيعة ضمن كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإليك بعضاً منها:
1 ـ عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن[22].
2 ـ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه، قال للمفضّل: «إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقباً»[23].
3 ـ عن عليّ أمير المؤمنين(عليه السلام): التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين[24].
4 ـ وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي[25].
5 ـ وعن الإمام الصادق(عليه السلام): اتّقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية...[26].

التقيّة في الشريعة الإسلامية
تعتبر التقية من جملة المبادئ العملية التي طرحها القرآن الكريم، وقد نصّ على جوازها في قوله تعالى : (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء* إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ، ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) [1].
وقوله تعالى: (من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من اُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم)[2].
لقد نصّت هذه الآية على التقية وحددت معناه، ذلك أن للإيمان ثلاثة أركان هي : اعتقاد في القلب ، واظهار في اللسان ، وعمل بالجوارح. هذا هو مقتضى الإيمان في الظروف الطبيعية.
وحيث إن الإسلام شريعة عملية تنظر إلى الواقع وتعالج كل ملابساته فمن الطبيعي أن توضح للمكلفين كيفية التعامل مع الأحداث في الظروف الطبيعية وغير الطبيعية، كما إذا أصبح الإنسان مخيراً بين الموت أو الحرج الشديد وبين التنازل عن بعض مستلزمات الإيمان أو بعض مظاهره، فجاءت هذه الآية الكريمة لتوضح أن الركن الأول وهو الاعتقاد بالقلب لا يمكن التنازل عنه بحال من الأحوال لأنه قوام الإيمان وجوهره، وهو ركن خفي بطبعه ، أما الركن الثاني والثالث فأجازت الآية للمؤمنين عدم التظاهر بالإسلام بشكل مؤقت إذا توقف على ذلك دفع الموت أو الحرج الشديد عنهم ولم يلزم منه هدم الدين وإضعافه، حيث وردت الآية في قضية عمار بن ياسر عندما أمره المشركون بسبّ الرسول(صلى الله عليه وآله) وامتداح الأصنام ففعل ذلك تحت وطأة التعذيب الشديد، فلما أتى الرسول، قال له : «ما وراءك »؟ قال : شرّ يا رسول الله، ما تُركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فقال: «كيف تجد قلبك؟» قال : مطمئن بالإيمان، قال:(صلى الله عليه وآله) «إن عادوا فعد»[3].
وقد استدلّ علماء المسلمين على مشروعية مبدأ التقية بالآيتين المذكورتين آنفاً وجعل المراغي في تفسيره من جملة موارد التقية: مداراة الكفرة، والظلمة، والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم ، وبذل المال لهم لكفّ أذاهم وصيانة العرض منهم، وأخرج الطبراني، قوله(صلى الله عليه وآله) : «ما وقى به المؤمن عرضه فهو صدقة»[4].
ولا يعتبر هذا من النفاق الذي أدانه القرآن الكريم واعتبره أشد من الكفر، فإن النفاق هو كتمان الكفر أو العداوة، وإظهار الإيمان أو المحبة، بينما التقية هي كتمان الإيمان وإظهار ما يخالفه ، ولو كانت التقية من جملة مصاديق النفاق فلماذا أباحها الله سبحانه وتعالى نصّاً، ثم امتدح عليها مؤمن آل فرعون وذكره بذكر حسن: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)[5]، وامتدح امرأة فرعون وجعلها مثلاً للذين آمنوا ـ وقد عاشت مع فرعون بالتقية ـ في آيتين من كتابه؟
كما تختلف التقية أيضاً عن الاستسلام والمهادنة في أمر الدين اختلافاً جوهرياً، فإن الاستسلام والمهادنة إذعان للطرف المقابل والتنازل له عن المبادئ المعتقد بها، بينما تعني التقية الاحتفاظ بالرفض، وعدم التظاهر به بشكل مؤقت، وإظهار موافقة العدو حتى انقضاء فترة الضعف ريثما تحين فرصة إعداد القوة، فالتقية تدبير عقلائي لغرض الحيلولة دون سقوط المؤمن في هوّة الاستسلام والمهادنة، وتعبئته بدلاً عن ذلك بمقوّمات الصمود الروحي والمعنوي لكي لا ينهار أمام الضغوط المعادية، ولكي يحتفظ بالحد الأدنى من الإيمان، وهو ينظر بعين الأمل للمستقبل منتظراً حلول الفرصة المناسبة للتغيير. بينما يخلو الاستسلام من خصائص الصمود والأمل وفكرة التغيير في أوّل فرصة ممكنة.
وبكلمة اُخرى ، إن التقية تعني مغالبة الاستسلام واليأس والقنوط والمهادنة، وغير ذلك من معاني الضعف والانهيار التي يحاول العدوّ أن يفرضها على المؤمن، وأن الردّ بالتقية على العدو يعني إلقاء هذه المعاني في نفسه، فحينما يدرك العدو بأن المؤمن يتمسك في مواجهته بالتقية وأنّ هذه التقية تجعله إنساناً عنيداً لا يعرف المساومة والانهيار ، سوف يقع في هوّة اليأس من هدفه هذا.
عمل الصحابة والتابعين بالتقية
وإذا انتقلنا من الكتاب والسنّة النبويّة الى عمل الصحابة والتابعين والفقهاء من الرعيل الأوّل، وجدنا التاريخ يدلّنا على أنّهم كانوا يعملون بالتقية كلّما لزم الأمر منهم ذلك، ولهم في ذلك قصص معروفة، مثل عبدالله بن مسعود، وأبي الدرداء، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، ورجاء بن حَيْوَة، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد المعتزلي، وأبو حنيفة.
فقد روي عن الحارث بن سويد، قال: سمعت عبدالله بن مسعود، يقول: ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت متكلماً به.
أخرجه ابن حزم في المحلّى، وقال: ولا يعرف له من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مخالف[6].
وأخرج البخاري في صحيحه بسنده عن أبي الدرداء، أنّه كان يقول: إنّا لنكشّر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم[7].
ونسب هذا القول الى أبي موسى الأشعري أيضاً[8]. والى أمير المؤمنين[9].
وأخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه قال: حفظت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعاءين: فأما أحدهما: فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم[10].
وقد صرّح ابن حجر في فتح الباري بأن العلماء حملوا الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي تبيّن أسامي اُمراء السوء وأحوالهم، وأنّه كان يكني عن بعضه ولا يصرّح به خوفاً على نفسه منهم، كقوله: (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) يشير الى حكم يزيد بن معاوية; لأنّها كانت سنة ستين من الهجرة[11].
وأخرج الطحاوي بسنده عن عطاء أنّه قال: قال رجل لابن عباس: هل لك في معاوية أوتر بواحدة؟ ـ وهو يريد أن يعيب معاوية ـ فقال ابن عباس: أصاب معاوية.
هذا في الوقت الذي بيّن فيه الطحاوي ما يدلّ على انكار ابن عباس صحة صلاة معاوية، فقد أخرج بسنده عن عكرمة، قال: «كنت مع ابن عباس عند معاوية نتحدث حتى ذهب هزيع من الليل، فقام معاوية فركع ركعة واحدة، فقال ابن عباس: من أين ترى أخذها الحمار؟».
قال الطحاوي بعد ذلك: وقد يجوز أن يكون قول ابن عباس: (أصاب معاوية) على التقية له، ثم أخرج عن ابن عباس في الوتر أنه ثلاث[12].
وأخرج أبو عبيدة القاسم بن سلام عن حسّان بن أبي يحيى الكندي، قال: سألت سعيد بن جبير عن الزكاة؟ فقال: ادفعها الى ولاة الأمر. قال: فلما قام سعيد تبعته، فقلت: إنّك أمرتني أن أدفعها الى ولاة الأمر، وهم يصنعون بها كذا، ويصنعون بها كذا؟! فقال: ضعها حيث أمرك الله، سألتني على رؤوس الناس فلم أكن لاُخبرك[13].
وأخرج أيضاً عن قتادة أنّه سأل سعيد بن المسيب السؤال نفسه؟ فسكت ابن المسيب ولم يجبه.
هذا، وقد أورد العلاّمة الأميني تقية سعيد بن المسيب من سعد ابن أبي وقاص في سؤاله إيّاه عن حديث الغدير، فراجع[14].
وقال القرطبي المالكي: «وقال ادريس بن يحيى: كان الوليد بن عبدالملك يأمر جواسيس يتجسسون الخلق، ويأتون بالأخبار، فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد، فرفع ذلك إليه.
فقال: يا رجاء! اُذكر بالسوء في مجلسك ولم تغيّر؟!
فقال: ما كان ذلك يا أمير المؤمنين.
فقال له الوليد: قل الله الذي لا إله إلاّ هو.
قال: الله الذي لا إله إلاّ هو.
فأمر الوليد بالجاسوس، فضرب سبعين سوطاً، فكان يلقى رجاء فيقول: يا رجاء! بك يُستسقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري!
فيقول رجاء: سبعون سوطاً في ظهرك خيرٌ لك من أن يُقتل رجل مسلم[15].
وقد حصل نظير هذه التقية لسعد بن أشرس ـ صاحب مالك بن أنس ـ مع سلطان تونس، إذ كان قد آوى رجلاً يطلبه السلطان، ولما اُحضر أنكر ذلك وحلف بأنّه ما آواه ولا يعلم له مكاناً[16].
وقال ابن الجوزي الحنبلي: خرج واصل بن عطاء يريد سفراً في رهط، فاعترضهم جيش من الخوارج فقال واصل: لا ينطقن أحد ودعوني معهم، فقصدهم واصل، فلمّا قربوا بدأ الخوارج ليُوقِعوا، فقال: كيف تستحلّون هذا وما تدرون من نحن، ولا لأي شيء جئنا؟ فقالوا: نعم، من أنتم؟ قال: قوم من المشركين جئناكم لنسمع كلام الله. قال: فكفوا عنهم، وبدأ رجل منهم يقرأ القرآن، فلما أمسك، قال واصل: قد سمعت كلام الله، فأبلغنا مأمننا حتى ننظر فيه وكيف ندخل في الدين! فقال: هذا واجب، سيروا. قال: فسرنا والخوارج ـ والله ـ معنا يحموننا فراسخ، حتى قربنا الى بلد لا سلطان لهم عليه، فانصرفوا[17].
وفي خضمّ ثورة إبراهيم بن عبدالله وأخيه محمد ذي النفس الزكيّة على المنصور العباسي التي انتهت بقتلهما، قال المنصور ـ يوماً ـ لعمرو بن عبيد: بلغني أن محمّداً بن عبدالله بن الحسن كتب إليك كتاباً؟ قال عمرو: قد جاءني كتاب يشبه أن يكون كتابه.
قال: فبم أجبته؟ قال: أوليس قد عرفت رأيي في السيف أيام كنت تختلف إلينا، أنّي لا أراه؟!
قال المنصور: أجل، ولكن تحلف لي ليطمئن قلبي! قال عمرو: لئن كذبتك تقية، لأحلفنّ لك تقية، قال المنصور: والله، والله! أنت الصادق البر[18].
وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه بسنده عن سفيان بن وكيع، قال: جاء عمر بن حمّاد ابن أبي حنيفة فجلس إلينا، فقال: سمعت أبي حمّاد يقول: بعث ابن أبي ليلى الى أبي حنيفة فسأله عن القرآن؟ فقال مخلوق، فقال: تتوب وإلاّ أقدمت عليك؟ قال: فتابعه، فقال: القرآن كلام الله .
قال: فدار به في الخلق يخبرهم أنّه قد تاب، من قوله القرآن مخلوق.
فقال أبي: فقلت لأبي حنيفة: كيف صرت الى هذا وتابعته؟
قال: يا بني، خفت أن يقدم عليّ فأعطيته التقية[19].
هذه جملة من الشواهد التطبيقية لمسألة التقية في حياة أعلام بارزين من الصحابة والتابعين والفقهاء; وهناك شواهد تطبيقية اُخرى كثيرة أعرضنا عن ذكرها خشية الإطالة، وقد روتها مصادر الجمهور، وقد بلغ الأمر شهرة وذيوعاً في سلوك العاملين بشريعة سيد المرسلين، كلّما ألجأتهم الظروف الى التقية ، حتى أصبح ظاهرة في تاريخ الإسلام، تلفت نظر كل باحث فيه عن حق وحقيقة، ممّا جعل جمال الدين القاسمي، يشير الى ما ذكره الشيخ مرتضى اليماني في عوامل خفاء الحق، وغموض الحقيقة في كثير من الأحيان، حيث نقل عنه قوله، وزاد الحق غموضاً وخفاءاً أمران:
أحدهما: «خوف العارفين مع قلّتهم من علماء السوء، وسلاطين الجور وشياطين الخلق، مع جواز التقية عند ذلك بنصّ القرآن واجماع أهل الإسلام ومازال الخوف مانعاً من اظهار الحق ولا برح المحق عدواً لأكثر الخلق»[20].
ولأجل ما للتقية من دور لا يسع المؤمن تجاهله، وجدنا الفقه الإسلامي في مختلف أبوابه زاخراً بمواردها، بحيث يجد المكلف للمسألة الفقهية الواردة في عبادة معينة أو معاملة معينة حكماً عندما يكون المكلف في حالة طبيعية، وحكماً آخر عندما يكون في موقف اضطراري يُكره فيه على اختيار معيّن ظلماً وعدواناً، وهذا باب واسع يتسع لكل أبواب الفقه وكتبه من العبادات والمعاملات، وليس هناك من ينكر توفّر فقه مذاهب الجمهور على أحكام اضطرارية خاصة بمن يُكره على عمل معين ظلماً وجوراً، وما هذه الأحكام إلاّ من جملة مصاديق التقية ومواردها[21]
مبدأ مشروعية التقية عند الإمامية
أما علماء الإمامية فقد استدلوا على جواز التقية، بل وجوبها أحياناً ـ إضافة الى الآيتين المذكورتين ـ بروايات عديدة بلغت حد الاستفاضة، ولها باب روائي خاص في وسائل الشيعة ضمن كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإليك بعضاً منها:
1 ـ عن ابن أبي يعفور، عن أبي عبدالله(عليه السلام)، قال: التقية ترس المؤمن، والتقية حرز المؤمن[22].
2 ـ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه، قال للمفضّل: «إذا عملت بالتقية لم يقدروا في ذلك على حيلة وهو الحصن الحصين، وصار بينك وبين أعداء الله سدّاً لا يستطيعون له نقباً»[23].
3 ـ عن عليّ أمير المؤمنين(عليه السلام): التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين[24].
4 ـ وقال أبو جعفر الباقر(عليه السلام): التقية من ديني ودين آبائي[25].
5 ـ وعن الإمام الصادق(عليه السلام): اتّقوا على دينكم فاحجبوه بالتقية...[26].

لماذا اشتهر الشيعة بالتقية دون سائر المسلمين

لا يخفى أن الشيعة قد عاشوا واقعاً سياسياً صعباً ، على امتداد الحكم الاُموي والدولة العباسية ، التي امتدت الى ما بعد غياب الإمام الثاني عشر(عليه السلام).
فقد مرت خلال هذه القرون أدوار كان أن يقال للرجل: «زنديق» أهون عليه من أن يقال له: «شيعي»، لما تعرض له الشيعة من اضطهاد وحرمان من الحقوق الطبيعية ومطاردة، ناهيك عن التكذيب والاتّهام بالانحراف والابتداع، الذي قد يكون أشدّ من التقتيل الذي تعرضوا له دون رحمة. ولابد لمثل هذه الظروف التي طال أمدها أن تفرض نمطاً خاصاً من الحياة يتخذ من التقية شعاراً لابد منه لحفظ الأنفس والأبناء والأموال، وإن حالاً كهذه ستساعد كثيراً على شيوع الأحاديث الخاصة بالتقية بين أبناء هذه الطائفة، حتى تصبح التقية ظاهرة مميزة لهم عن غيرهم ممّن تمتع بالأمن ولو الى حدٍّ ما...
ثم جاءت بعد ذلك دواعي الخصومة لدى البعض لتحوّل مبدأ التقية، منطلقاً للتهريج والتشنيع على أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ، متناسين أن أصل مبدأ التقية من مسلّمات الكتاب وضرورات الشريعة، التي أجمع عليها المسلمون قديماً وحديثاً.
غافلين أيضاً عن مسؤوليتهم المتبقية في إدانة الظلم والاضطهاد الذي أرغم فئة كبيرة من المسلمين على أن بقيت التقية ما يقارب ثلاثة قرون متواصلة. فبدلاً من أن تدين الظلم والجور والاستهتار بحقوق الناس ودمائهم، راحت تدين المظلوم المضطهد حين إلتجأ الى اُسلوب سياسي لحماية نفسه ودينه وعرضه، وهو الاُسلوب الذي أقرّته الشريعة لأتباعها في أحوال كهذه، كما تقدّم، بلا خلاف بين المسلمين.
إن هذا التشنج والانفعال الذي يُقابل به أتباع مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ، يصور لنا تلك الظروف التاريخية العصيبة التي كان يعيشها هؤلاء، في أيام الحكم الاُموي والعباسي والعثماني ، فإنه من بقايا تلك الظروف الحرجة، ومن تراث ذلك العهد الغابر الذي عاش فيه اُناس من شيعة علي(عليه السلام) ،وهم يخفون تشيعهم حتى عن أزواجهم، يوم كان الاتهام بالتشيع أسوأ عقوبة من كل اتهام!!
وقد روى ابن أبي الحديد عن المدائني، ونفطويه، والإمام محمد الباقر(عليه السلام)، ما خلاصته: أن معاوية بن أبي سفيان كتب الى عمّاله يوماً أن برئت الذمة ممن روى شيئاً في فضل أبي تراب وأهل بيته، فقام الخطباء من كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً، ويبرأون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاءً حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي(عليه السلام) ، فاستعمل عليها زياد بن سمية وضمّ إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي(عليه السلام)فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق فيه معروف منهم، كما كتب معاوية الى عمّاله في جميع الآفاق ألاّ يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. وكتب كتاباً آخر يقول فيه: انظروا من قامت عليه البيّنة انّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطاءه ورزقه، وفي كتاب آخر كتب يقول: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكّلوا به واهدموا داره...
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي(عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة فلم يبق أحد من هذا القبيل إلاّ وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض، ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين، وولي عبدالملك بن مروان فاشتد على الشيعة وولّى عليهم الحجاج بن يوسف فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضاً أعداؤه ... وأكثروا من التنقيص من علي(عليه السلام) وعيبه والطعن فيه والشنآن له، حتى أن إنساناً وقف للحجاج ـ يقال: إنّه جد الأصمعي عبدالملك بن قريب ـ فصاح به أيها الأمير، إن أهلي عقّوني فسموني علياً! وإني فقير بائس، وأنا الى صلة الأمير محتاج. فتضاحك له الحجاج وقال: للطف ما توسلت به قد ولّيتك موضع كذا[27].
وما جرى على الشيعة في زمن العباسيين لم يكن بأقل من هذا، فهذا ابن السكّيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، اختاره الخليفة معلماً لولديه فسأله يوماً أيهما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟
قال ابن السكيت : والله إنّ قنبراً خادم علي(عليه السلام) خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلّوا لسانه من قفاه ففعلوا ذلك به فمات.
إنّ جماعة تواجه هذا النحو من الاضطهاد والاستضعاف قروناً عديدة، من الطبيعي أن تختار طريقاً وسطاً بين محذوري الانهيار والاستسلام أمام العدو، وبين الاستئصال والفناء ، فتبقى رافضة للظلم والانحراف من جهة، غير معرّضة نفسها الى الزوال والفناء والاستئصال من جهة ثانية، هذا هو مبدأ التقية.
فما قاله ابن تيمية: «من أنّ التقية هو الكذب والنفاق»[28] غير وجيه ولا يقبله العقل، كما لا يؤيده النقل الصريح من الكتاب والسنّة معاً. فقد جاء بها القرآن كما قدمناه، وأقرّتها السنّة ومارسها السلف من كبار الصحابة والتابعين، وامتلأت بها موسوعات الفقه السنّي، وفي شتى الأبواب كما سلفت الإشارة الى بعضه.
على أن التقية لم تكن هي اللون الوحيد الذي طغى على حياة الشيعة طيلة هذه القرون، فلقد عاشوا الروح الثورية التي احتفل التاريخ بأروع صورها، دفعاً للظلم والفساد السياسي والاداري والاقتصادي، والانحراف الديني عند حكام الجور المتعاقبين على الحكم.
نعم، لقد آمنت الشيعة بالإسلام ديناً مهيمناً على الحياة ولا يجوز الانحراف عنه أو التعبّد بغيره، قد قدمت من أجله كل غال ونفيس. ولقد اُهرقت في سبيله أغلى الأنفس وأعزّها في الوجود، وما كانت ثورة الحسين بن علي(عليهما السلام) إلاّ في سبيل هذا الدين وحفظاً له من العبث والاندراس، بعد أن لعبت به الأيدي الاُموية وكادت أن تأتي عليه وتدكّ المعالم الشامخة منه، ثم توالت بعد الثورة الحسينية ثورات إسلامية كلها تنشد المحافظة على هذا الدين وصيانته، وإن الشيعة قد سارت في ضمن ذلك الموكب الجهادي العظيم تبذل كل ما لديها وما تملك في سبيل الإسلام، ولو كان للنفاق أن يتسرّب الى قلوب الشيعة لم تكن تلك المجازر في حق شيعة علي(عليه السلام)، ولو كان الشيعي يداهن في دينه أو ينافق، لم تكن سياط الحكام وسيوفهم تنال منه شعرة واحدة، ولكن لصراحتهم فيما يعتقدون، وإجهارهم فيما يؤمنون، كان طعم السيف أشهى لديهم من المراوغة، أو الرياء الذي استعمله غيرهم موافقةً لحكّام الجور وأئمة الضلال .
أقسام التّقية
من المناسب بعد هذه الجولة أن نبيّن أقسام التقية، وخلاصة أقوال الفقهاء في كل قسم منها، وقد قسمت التقية بحسب موارد التقسيم الى تقسيمات متعددة:
إذ يمكن تقسيم التقية بحسب من يُتقى منه إلى التقية من الكافر، والتقية من المسلم.
وبحسب العمل الى تقية في العبادة ، وتقية في الفتوى، وتقية في السياسة.
وبحسب الأحكام الخمسة الى تقية جائزة ، واُخرى واجبة، وثالثة محرّمة.
1 ـ التقية من الكافر: وقد اتّفق المسلمون عليها، وهي المورد الذي نطق به القرآن الكريم في موضعين منه كما مضى.
2 ـ التقية من المسلم: وقد وقع البحث فيها بين علماء المسلمين بين الجواز وعدمه، والذين رأوا عدم جوازها استدلوا بأن القرآن الكريم قد صرّح بتقية المسلم من المشرك، ولم يصرح بغيرها.
وذهب علماء الإمامية وبعض فقهاء الجمهور الى جواز هذه التقية، وأن الدليل على ذلك هو القرآن الكريم بآيتيه المذكورتين آنفاً; فإن الآيتين وإن وردتا في التقية من المشرك، إلاّ أنّ المقرر لدى علماء الاُصول أنّ خصوص المورد لا يخصص الوارد، والمقرر لدى علماء التفسير أيضاً، أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
فينبغي أن يتّضح أولاً: أن القرآن في هاتين الآيتين هل يراعي حال المسلم أم أنه يراعي حال المشرك ؟ فإن كانت التقية ناظرة الى المشرك كانت التقية الجائزة هي التقية منه دون التقية من المسلم. وإن كان القرآن يراعي حال المسلم وقد جاءت التقية بداعي الحفاظ عليه ثبت لدينا جواز التقية من كلّ ظالم وإن كان مسلماً.
والمعنى الثاني هو الظاهر من القرآن الكريم، فإنّ التقية جاءت لصيانة المسلم من الخطر والحفاظ عليه من الأعداء ، وهذا السبب موجود في التقية من المسلم كوجوده في التقية من المشرك.
وإلى هذا أشار أحد كبار علماء أهل السنة حيث، قال: الحكم الرابع، ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين إلاّ أن مذهب الشافعي(رضي الله عنه) أنّ الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس[29].
على أنّ التقية سلوك عقلائي عام، ولا معنى لتخصيصه بظالم دون آخر، ولعل السرّ في معارضة المعارضين لتقية المسلم من المسلم يعود الى أمر عاطفي; فإن مدرسة الخلفاء لمّا كانت ترى شرعية الحكم الاُموي والعباسي، وتحكم بوجوب طاعة الأمير برّاً كان أو فاجراً ، فكان من الطبيعي أن تعتبر الحركات المعارضة لهذين الحكمين حركات غير شرعية، وبالتالي فإنّ التقية التي عمل بها الشيعي كانت تعني سلوكاً غير شرعي من هذه الجهة، لا من جهة أن أصل تقية المسلم من المسلم تقية غير شرعية، وحينئذ يخرج البحث من نطاق التقية وأدلتها وأقسامها.
وإلاّ فإن التقية أمر عقلائي ، وقد عمل به العديد من أعلام مدرسة الخلفاء ، كما عرفت فهذا أبو هريرة يقول: «حفظت من رسول الله(صلى الله عليه وآله) وعاءين أما أحدهما فبثثته في الناس، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم»[30] أليست هذه تقية المسلم من المسلم؟! وعشرات الأمثلة التي تقدم بعضها هي من هذا الصنف.
3 ـ التقية في العبادة: وتعني الإتيان بالعبادة بالنحو المخالف للصواب، الذي يعتقد به المسلم طبقاً لمذهبه، دفعاً لخطر الظلم عليه أو مداراة لسائر المذاهب الاسلامية.
وفي ذلك يقول الإمام الخميني(رضي الله عنه): إن التقية قد تأتي لأجل دفع خطر متوقع: «على حوزة الإسلام، بأن يخاف شتات كلمة المسلمين بتركها، أو يخاف وقوع ضرر على حوزة الإسلام من خلال تفريق كلمتهم الى غير ذلك، والمراد بالتقية مداراةً أن يكون المطلوب فيها نفس جمع شمل الكلمة ووحدتها بتحبيب المخالفين وجرّ مودّتهم من غير خوف [31]».
وقد ورد عن الإمام الصادق(عليه السلام)، أنه قال لهشام بن الحكم: «صلّوا في عشائرهم ، وعودوا مرضاهم ، واشهدوا جنائزهم ... والله ما عبد الله بشيء أحب إليه من الخباء، قلت: وما الخباء؟ قال: التقية»[32].
4 ـ التقية في الفتوى: وهي أن يفتي الفقيه في مورد خلافاً لما يعتقده من الصواب، وأمره يختلف باختلاف الحالات والصور، فقد تكون محرّمة وقد تكون جائزة وقد تكون واجبة. قال السيد حسن البجنوردي : «في مثل هذا يجب الفرار والتخلص عن الإفتاء بأي وجه ممكن، وكذا إذا كانت الفتوى موجبة لتلف النفوس أو هتك الأعراض ، ففي الأول لا يجوز له أن يفتي وإن كان ترك الفتوى موجباً لهلاكه وقتله، وأما الأئمة المعصومون(عليهم السلام) وإن صدر منهم الفتوى بعض الأحيان على خلاف الحكم الواقعي الأوّلي، ولكن كانوا ينبّهون الطرف بعد ذلك بأنها كانت على خلاف الواقع، إما لأجل حفظ نفسه(عليه السلام) ، أو لأجل حفظ نفس المستفتي...
والحاصل: أن الفتوى على خلاف ما أنزل الله للتقية أمره مشكل، ويختلف كثيراً من حيث المفتي ومقبولية رأيه عند العموم وعدمها...»[33].
5 ـ التقية في السياسة: وأمرها واضح، وأكثر التقية من هذا القبيل.
وقد اتّضح أن التقية ليست جائزة دائماً، وليست واجبة دائماً، بل قد تكون حراماً في بعض الظروف، قال الإمام الخميني(قدس سره)في التقية المحرّمة:
«منها بعض المحرمات والواجبات التي في نظر الشارع والمتشرعة في غاية الأهمية مثل هدم الكعبة والمشاهد المشرفة... ومثل الرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الإلحاد... ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقيةً أو تركه لبعض الواجبات مما يعد موهناً للمذهب وهاتكاً لحرمته... وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية فيه ما لو كان أصل من اُصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق...»[34].
قال العلاّمة المظفر: وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها ، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية، وليست هي بواجبة على كل حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال، كما إذا كان في اظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للإسلام وجهاد في سبيله، فانه عند ذلك يستهان بالأموال ولا تعز النفوس[35]...
نتيجة البحث:
إنّ التقية مبدأ إسلامي عام قد شرّعه الله تعالى في القرآن الكريم ودلّت عليه نصوص السنّة الشريفة. كما دلّت عليه النصوص المتظافرة عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام) وعمل به الأصحاب والأعلام وأفتى به الفقهاء من الفريقين في مجالات متعددة وهو مبدأ خالد الى يوم القيامة كما صرّح بذلك الرازي في تفسيره ، ولا مجال لإنكاره بحال من الأحوال.
________________________________________
[1] آل عمران : 28 .
[2] النحل : 106 .
[3] المستدرك للحاكم: 2 / 357 وراجع سنن ابن ماجة: 1/150 باب 11، وتفسير الماوردي: 3/ 192 ط بيروت، وتفسير الرازي: 20/121 وساير التفاسير، وغير ذلك من المصادر .
[4] تفسير المراغي : 3 / 136 ط . مصر .
[5] غافر: 28 .
[6] المحلّى، ابن حزم: 8/336، مسألة 1409، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
[7] صحيح البخاري: 8/37، كتاب الأدب، باب المداراة مع الناس.
[8] الفروق، القراضي المالكي: 4/236، الفرق الرابع والستون بعد المائتين.
[9] مستدرك الوسائل: 12/261، باب 27 من أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ح2.
[10] صحيح البخاري: 1/41، كتاب العلم، باب حفظ العلم (آخر أحاديث الباب).
[11] فتح الباري، ابن حجر العسقلاني: 1/173.
[12] شرح معاني الآثار، الطحاوي: 1/389، باب الوتر، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1407 هـ .
[13] كتاب الأموال، أبو عبيدة القاسم بن سلام: 567/1813، تحقيق الدكتور محمد خليل هراس، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1406 هـ .
[14] الغدير، العلاّمة الأميني: 1/380، ط 5، دار الكتاب العربي، بيروت، 1403 هـ .
[15] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 10/124.
[16] الجامع لأحكام القرآن، القرطبي: 10/124.
[17] كتاب الأذكياء، ابن الجوزي: 136، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1405 هـ .
[18] تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي: 12/168 ـ 169 في ترجمة عمرو بن عبيد المعتزلي.
[19] المصدر السابق : 13/379 ـ 380، في ترجمة أبو حنيفة تحت عنوان: ذكر الروايات عمّن حكى عن أبي حنيفة، القول بخلق القرآن.
[20] محاسن التأويل: 4/82، ط 2 دار الفكر.
[21] انظر موارد هذه الأحكام في فقه الجمهور في كتاب: «واقع التقية عند المذاهب الإسلامية من غير الشيعة الإمامية» للسيد ثامر العميدي، حيث توسّع في ذلك توسّعاً كافياً.
[22] اُصول الكافي: 2/ 221 باب التقية.
[23] وسائل الشيعة: 16/ 213 باب 24.
[24] تفسير الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 320.
[25] اُصول الكافي: 2/ 219 باب التقية.
[26] المصدر السابق.
[27] شرح نهج البلاغة : 11 / 44 ـ 46 .
[28] منهاج السنّة: 1/ 68 تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.
[29] راجع التفسير الكبير: 1 / 20 ، 120.
[30] صحيح البخاري: 1/41 آخر ب حفظ العلم ك العلم، وعنه في محاسن التأويل للقاسمي: 4/82 ط مصر.
[31] الرسائل : 174 .
[32] وسائل الشيعة ، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب 26 ح 2.
[33] القواعد الفقهية: 5 / 68 .
[34] الرسائل : 177 ـ 178 .
[35] عقائد الإمامية : 85.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page