• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

تعريف الإمامة ومعرفة الإمام

إن سأل سائل، فقال: أخبروني عن الإمامة، ما هي في التحقيق على موضوع الدين واللسان؟
قيل له: هي التقدم فيما يقتضي طاعة(1) صاحبه، والاقتداء به فيما تقدم فيه على البيان.
فإن قال: فحدثوني عن هذا التقدم، بماذا حصل لصاحبه:
أبفعل نفسه، أم بنص مثله في الإمامة عليه، أم باختياره؟
قيل له: بل بإيثار سبق ظهور حاله أوجب له ذلك عند الله تعالى ليزكي أعماله، فأوجب على الداعي إليه بما يكشف عن مستحقه النص عليه، دون ما سوى ذلك مما عددت في الأقسام.
فإن قال: فخبروني عن المعرفة بهذا الإمام، أمفترضة على الأنام، أم مندوب إليها كسائر التطوع الذي يؤجر فاعله، ولا يكتسب تاركه الآثام؟
قيل له: بل فرض لازم كأوكد فرائض الإسلام.
فإن قال: فما الدليل على ذلك، وما الحجة فيه والبرهان؟
قيل له: الدليل على ذلك من أربعة أوجه:
أحدها: القرآن، وثانيها: الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله، وثالثها:
الاجماع، ورابعها: النظر القياسي والاعتبار.
فأما القرآن: فقول الله سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }(2) فأوجب معرفة الأئمة من حيث أوجب طاعتهم، كما أوجب(3) معرفة نفسه، ومعرفة نبيه - عليه وآله السلام - بما ألزم من طاعتهما(4) على ما ذكرناه.
وقول الله تعالى: { يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا }(5) وليس يصح أن يدعى أحد بما لم يفترض عليه علمه والمعرفة به.
وأما الخبر: فهو المتواتر(6) عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: " من مات وهو لا يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية "(7) وهذا صريح بأن الجهل بالإمام يخرج صاحبه عن الإسلام.
وأما الاجماع: فإنه لا خلاف بين أهل الإسلام أن معرفة إمام(8) المسلمين واجبة على العموم، كوجوب معظم الفرائض في الدين.
وأما النظر والاعتبار: فإنا وجدنا الخلق منوطين بالأئمة في الشرع، إناطة يجب بها عليهم معرفتهم على التحقيق، وإلا كان ما كلفوه من التسليم لهم في أخذ الحقوق منهم، والمطالبة لهم في أخذ مالهم، والارتفاع إليهم في الفصل عند الاختلاف، والرجوع إليهم في حال الاضطرار، والفقر إلى حضورهم لإقامة الفرائض من صلوات وزكوات وحج وجهاد، تكليف ما لا يطاق، ولما استحال ذلك على الحكيم الرحيم سبحانه، ثبت أنه فرض معرفة الأئمة، ودل على أعيانهم بلا ارتياب.
فإن قال: فخبروني الآن من كان الإمام بعد الرسول صلى الله عليه وآله، والقائم في رئاسة الدين مقامه، لأعرفه فأؤدي بمعرفته ما افترض له علي من الولاء؟
قيل له: من أجمع المسلمون على اختلافهم في الآراء والأهواء على إمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله(9)، ولم يختلفوا من بعد وفاته فيما أوجب له ذلك من اجتماع خصال الفضل له والأقوال فيه والأفعال: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.
فإن قال: أبينوا لي عن صحة هذا المقال، فإني أراكم مدعين الاجماع فيما ظاهره الاختلاف، ولست أقنع منكم فيه إلا بالشرح لوجهه والبيان(10).
قيل له: ليس فيما حكيناه من الاجماع(11) اختلاف ظاهر ولا باطن، فإن ظننت ذلك لبعدك عن الصواب، أفلا ترى أن الشيعة من فرق الأمة تقطع بإمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل، وتقضي له بذلك إلى وقت وفاته، وتخطئ من شك في هذا المقال على كل حال؟
والحشوية(12) والمرجئة(13) والمعتزلة متفقون على إمامته عليه السلام بعد عثمان، وأنه لم يخرج عنها حتى توفاه الله تعالى راضيا عنه، سليما من الضلال؟
والخوارج - وهم أخبث أعدائه وأشدهم(14) عنادا - يعترفون له بالإمامة، كاعتراف الفرق الثلاث، وإن فارقوهم بالشبهة في انتهاء الحال؟
ولا سادس في الأمة لمن ذكرناه يخرج بمذهبه عما شرحناه، فيعلم بذلك وضوح ما حكمنا به من الاجماع على إمامته(15) بعد النبي صلى الله عليه وآله كما وصفناه.
فأما الاجماع على ما يوجب له الإمامة من الخلال: فهو إجماعهم على مشاركته عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ومساهمته له في كريم الحسب، واتصاله به في وكيد السبب(16)، وسبقه كافة الأمة إلى الاقرار، وفضله على جماعتهم في جهاد الكفار، وتبريزه عليهم في المعرفة والعلم بالأحكام، وشجاعته وظاهر زهده اللذين لم يختلف فيهما(17) اثنان، وحكمته في التدبير وسياسة الأنام، وغناه بكماله في التأديب المحوج إليه المنقص(18) عن الكمال، وببعض هذه الخصال يستحق الإمامة فضلا عن جميعها على ما قدمناه.
وأما الاجماع على الأفعال الدالة على وجوب الإمامة والأقوال:
فإن الأمة متفقة على أن رسول الله صلى الله عليه وآله قدمه في حياته، وأمره على جماعة من وجوه أصحابه، واستخلفه في أهله واستكفاه أمرهم عند خروجه إلى تبوك قبل وفاته، واختصه لإيداع أسراره، وكتب عهوده، وقيامه مقامه في نبذها إلى أعدائه، وقد كان ندب ليعرض ذلك من تقدم عليه، فعلم الله سبحانه أنه لا يصلح له، فعزله بالوحي من سمائه.
ولم يزل(19) يصلح به إفساد من كان على الظاهر من خلصائه، ويسد به خلل أفعالهم المتفاوتة بحكمه وقضائه، وليس يمكن أحد ادعاء هذه الأفعال من الرسول صلى الله عليه وآله لغير أمير المؤمنين عليه السلام، على اجتماع ولا اختلاف، فيقدح بذلك في أس(20) ما أصلناه وبيناه.
وأما الأقوال المضارعة لهذه الأفعال في الدلالة: فهي أكثر من أن تحصى على ما شرطناه(21) في الاختصار، وإن كنا سنورد منها ما فيه كفاية، إن شاء الله تعالى:
فمنها: ما سلم لروايته الجميع من قول الرسول صلى الله عليه وآله بغدير خم(22)، بعد أن قرر أمته على المفترض له من الولاء الموجب لإمامته عليهم، والتقدم لسائرهم في الأمر والنهي والتدبير، فلم ينكره أحد منهم، وأذعنوا بالإقرار له طائعين: " من كنت مولاه فعلي مولاه(23) فأعطاه بذلك حقيقة الولاية، وكشف به عن مماثلته له في فرض الطاعة والأمر لهم، والنهي والتدبير والسياسة(24) والرئاسة، وهذا نص - لا يرتاب بمعناه من فهم اللغة - بالإمامة.
ومنها أيضا: قوله صلى الله عليه وآله بلا اختلاف بين الأمة: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي "(25) فحكم له بالفضل على الجماعة، والنصرة والوزارة والخلافة، في حياته وبعد وفاته، والإمامة له، بدلالة أن هذه المنازل كلها كانت لهارون من موسى عليه السلام في حياته، وإيجاب جميعها لأمير المؤمنين عليه السلام إلا ما أخرجه الاستثناء منها ظاهرا، وأوجبه بلفظ يعدله من بعد وفاته، وبتقدير ما كان يجب لهارون من موسى لو بقي بعد أخيه، فلم يستثنه النبي صلى الله عليه وآله، فبقي لأمير المؤمنين عليه السلام عموم ما حكم له من المنازل، وهذا نص على إمامته، لا خفاء به على من تأمله، وعرف وجوه القول فيه، وتبينه.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله على الاتفاق: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك، يأكل معي من هذا الطائر "(26) فجاءه بأمير المؤمنين عليه السلام، فأكل معه، وقد ثبت أن أحب الخلق إلى الله تعالى أفضلهم عنده، إذ كانت محبته منبئة عن الثواب دون الهوى وميل الطباع، وإذا صح أنه أفضل خلق الله تعالى ثبت أنه كان الإمام، لفساد تقدم المفضول على الفاضل في النبوة وخلافتها العامة في الأنام.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله يوم خيبر: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه "(27) فأعطاها من بين أمته جميعا عليا عليه السلام، ثم بين له من الفضيلة بما بان به من الكافة، ولولا ذلك لاقتضى الكلام خروج الجماعة من هذه الصفات على كل حال، وذلك محال، أو كان التخصيص بها ضربا من الهذيان، وذلك أيضا فاسد محال، وإذا وجب أنه أفضل الخلق بما شرحناه، ثبت أنه كان الإمام دون من سواه، على ما رتبناه.
وأمثال ما ذكرناه مما يطول به(28) التقصاص من تفضيله له عليه السلام على كافة أصحابه وأهل بيته، بأفعاله به وظواهر الأقوال فيه ومعانيها المعقولة، لمن فهم الخطاب والشهادة له بالصواب، ومقتضى العصمة من الذنوب والآفات، مما يدل على غناه عن الأمة، ويكشف بذلك عن كونه إماما بالتنزيل الذي رسمناه، وقد استقصينا القول في أعيان هذه المسائل على التفصيل والشرح والبيان في غير هذا المكان(29)، فلا حاجة بنا إلى ذكره هاهنا مع الغرض الذي أخبرنا به عنه ووصفناه.
واعلم - أرشدك الله تعالى - أن فيما رسمناه من هذه الأصول أربع مسائل، يجب ذكرها والجواب عنها، لتزول به شبهة أهل الخلاف:
أولها: السؤال عن وجه الدلالة من الاجماع الذي ذكرناه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله على إمامته من بعده على الفور، دون من قام ذلك المقام ممن يعتقد الجمهور في فعله الصواب.
ثانيها: عن الدلالة على أن أمير المؤمنين عليه السلام الأفضل عند الله تعالى من الجميع، وإن كان أفضل منهم في ظاهر الحال.
ثالثها: عن الدليل على فساد إمامة المفضول على الفاضل بحسب ما ذكرناه.
رابعها: عن حجة دعوى الاجماع في سائر ما عددناه، مع ما يظن فيه من خلاف البكرية والعثمانية والخوارج، وما يعتقدونه من الدفع لفضائل أمير المؤمنين عليه السلام الجواب عن السؤال الأول: أنه إذا ثبت بالحجة القاهرة من الاجماع وجود إمام بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل: وثبوت إمامته على الفور، ولم يكن على من ادعي ذلك له سوى أمير المؤمنين عليه السلام إجماع على حال فتنتهم بعد النبي صلى الله عليه وآله بالاختبار، وتمييزهم بالأعمال.
وقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه }(30) إلى آخر الآية، دليل على ما ذكرناه.
وقوله تعالى: { أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم }(31) يزيد ما شرحناه.
ولو ذهبنا إلى استقصاء ما في هذا الباب من آيات القرآن، والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لانتشر القول فيه، وطال به الكتاب.
وفي قول أنس بن مالك -: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة، فأضاء منها كل شئ، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شئ، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وآله الأيدي ونحن في دفنه حتى أنكرنا قلوبنا(32) - شاهد عدل على القوم بما بيناه.
مع أنا نقول لهذا السائل المتعلق بالأخبار الشواذ المتناقضة ما قدمنا حكايته، وأثبتنا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله الذين توهمت أنهم لا يقارفون الذنوب، ولا يكتسبون السيئات، هم الذين حصروا عثمان ابن عفان، وشهدوا عليه بالردة عن الإسلام، وخلعوه عن إمامة الأنام، وسفكوا دمه على استحلال، وهم الذين نكثوا بيعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد العهود والإيمان، وحاربوه بالبصرة، وسفكوا دماء أهل الإسلام، وهم القاسطون بالشام، ومنهم رؤساء المارقة عن الدين والإيمان، ومن قبل منع جمهورهم الزكاة حتى غزاهم إمام عدل عندكم(33)، وسبي ذراريهم، وحكم عليهم بالردة والكفر والضلال.
فإن زعمت أنهم(34) فيما قصصناه من أمرهم(35) على الصواب، فكفاك خزيا بهذا المقال، وإن حكمت عليهم أو على بعضهم(36) بالخطأ وارتكاب الآثام بطلت أحاديثك، ونقضت ما بينته(37) من الاعتلال(38).
ويقال له أيضا: وهؤلاء الصحابة الذين رويت ما رويت فيهم من الأخبار، وغرك منهم التسمية لهم بصحبة النبي صلى الله عليه وآله، وكان أكابرهم وأفاضلهم أهل بدر، الذين زعمت أن الله قطع لهم المغفرة والرضوان، هم الذي نطق القرآن بكراهتهم للجهاد، ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله في تركه، وضنهم بأنفسهم من نصره، ورغبتهم في الدنيا، وزهدهم في الثواب، فقال جل اسمه: { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون * يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون * وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين * ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون }(39).
ثم زجرهم الله تعالى عن شقاق نبيهم صلى الله عليه وآله، لما علم من خبث نياتهم وأمرهم بالطاعة والاخلاص، وضرب لهم فيما أنبأ به من بواطن(40) أخبارهم وسرائرهم الأمثال، وحذرهم من الفتنة بارتكابهم قبائح الأعمال، وعدد عليهم نعمه ليشكروه ويطيعوه فيما دعاهم إليه من الأعمال، وأنذرهم العقاب من الخيانة لله جلت عظمته، ولرسوله صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون * إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون * ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون * يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون * واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب * واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون * يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون * واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم }(41).
ومن قبيل هذا ما أكده عليهم من فرض الصبر في الجهاد، وتوعدهم بالغضب على الهزيمة، لما علم من ضعف بصائرهم، فلم يلتفتوا إلى وعيده، وأسلموا نبيه صلى الله عليه وآله إلى عدوه في مقام بعد مقام.
فقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون }(42).
{ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير }(43).
هذا وقد أخبر جل اسمه عن عامة من حضر بدرا من القوم، ومحبتهم للحياة، وخوفهم من الممات، وحضورهم ذلك المكان طمعا في الغنائم والأموال، وأنهم لم يكن لهم نية في نصرة الإسلام. فقال تعالى:
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم * إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور }(44).
وقال في القوم بأعيانهم، وقد أمرهم نبيهم صلى الله عليه وآله بالخروج إلى بدر، فتثاقلوا عنه، واحتجوا عليه، ودافعوه عن الخروج معه:
{ ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة }(45) الآية.
وقال تعالى فيهم وقد كان لهم في الأسرى من الرأي:
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم }(46).
فأخبر سبحانه بالنص الذي لا يحتمل التأويل أنهم أرادوا الدنيا دون الآخرة، وآثروا العاجلة على الآجلة، وتعمدوا من العصيان ما لولا سابق علم الله وكتابه، لعجل لهم العقاب.
وقال تعالى فيما قص(47) من نبأهم في يوم أحد، وهزيمتهم من المشركين، وتسليم النبي صلى الله عليه وآله:
{ إذ تصعدون ولا تلون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون }(48).
وقال جل اسمه في قصتهم بحنين، وقد ولوا الأدبار ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله أحد غير أمير المؤمنين عليه السلام، والعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وسبعة من بني هاشم ليس معهم غيرهم من الناس(49):
{ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين.. }(50) يعني أمير المؤمنين عليه السلام، والصابرين معه من بني هاشم دون سائر المنهزمين.
وقال سبحانه في نكثهم عهود النبي صلى الله عليه وآله وهو حي بين أظهرهم موجود:
{ ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وكان عهد الله مسؤولا }(51).
وقد سمع كل من سمع من الأخبار، ما كان يصنعه كثير منهم، والنبي صلى الله عليه وآله حي بين أظهرهم، والوحي ينزل عليه بالتوبيخ لهم والتعنيف والإيعاد، ولا يزجرهم ذلك عن أمثال ما ارتكبوه من الآثام:
فمن ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله كان يخطب على المنبر في يوم الجمعة، إذ جاءت عير لقريش قد أقبلت(52) من الشام، ومعها من يضرب بالدف ويصفر(53)، ويستعمل ما حظره الإسلام، فتركوا النبي صلى الله عليه وآله قائما على المنبر، وانفضوا عنه إلى اللهو واللعب، رغبة فيه، وزهدا في سماع موعظة النبي صلى الله وآله، وما يتلوه عليهم من القرآن.
فأنزل الله عز وجل فيهم: { وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين }(54).
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم(55) يصلي بهم، إذ أقبل رجل ببصره سوء يريد المسجد للصلاة، فوقع في بئر كانت هناك فضحكوا منه واستهزؤوا به، وقطعوا الصلاة، ولم يوقروا الدين، ولا هابوا النبي صلى الله عليه وآله، فلما سلم النبي صلى الله عليه وآله، قال: " من ضحك فليعد وضوءه والصلاة "(56).
ولما تأخرت عائشة وصفوان بن المعطل(57) في غزوة بني المصطلق، أسرعوا إلى رميها بصفوان، وقذفوها بالفجور، وارتكبوا في ذلك البهتان.
وكان منهم في ليلة العقبة من التنفير لناقته صلى الله عليه وآله، والاجتهاد في رميه عنها وقتله بذلك ما كان.
ثم لم يزالوا يكذبون عليه صلى الله عليه وآله في الأخبار حتى بلغه ذلك، فقال: " كثرت الكذابة علي فما أتاكم عني من حديث فاعرضوه على القرآن "(58).
فلو لم يدل على تهاونهم بالدين، واستخفافهم بشرع نبيهم صلى الله عليه وآله، إلا أنهم كانوا قد تلقوا عنه أحكام الإسلام على الاتفاق، فلما مضى صلى الله عليه وآله من بينهم جاؤوا بجميعها على غاية الاختلاف، لكفى في ظهور حالهم ووضح به أمرهم وبان، فكيف وقد ذكرنا من ذلك طرفا يستبصر به أهل الاعتبار، وإن عدلنا عن ذكر الأكثر إيثارا للاختصار.
فأما من كان منهم يظاهر النبي صلى الله عليه وآله بالإيمان(59)، ممن يقيم معه الصلاة، ويؤتي الزكاة، وينفق في سبيل الله، ويحضر الجهاد، ويباطنه بالكفر والعدوان(60)، فقد نطق بذكره القرآن كما نطق بذكر من ظهر منه النفاق:
قال الله تعالى { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا }(61).
وقال جل اسمه فيهم: { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون }(62).
وقال تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم }(63).
وقال سبحانه: { ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم }(64).
وقال عز وجل: { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فأحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون }(65).
وقال فيهم وقد أحاطوا بالنبي صلى الله عليه وآله، وجعلوا مجالسهم منه عن يمينه وشماله، ليلبسوا بذلك على المؤمنين:
{ فمال الذين كفروا قبلك مهطعين * عن اليمين وعن الشمال عزين * أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم * كلا إنا خلقناهم مما يعلمون }(66).
ثم دل الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله على جماعة منهم وأمره بتألفهم، والاغضاء عمن ظاهره بالنفاق منهم، فقال: { سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون }(67).
وقال: { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين }(68).
وقال تعالى: { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم * وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم }(69).
وجعل لهم في الصدقة سهما منصوصا، وفي الغنائم جزءا مفروضا، وكان من عددناه، وتلونا فيه القرآن، وروينا في أحواله(70) الأخبار، قد كانوا من جملة الصحابة(71)، وممن شملهم اسم الصحبة، ويتحقق إلى الاعتزاء إلى النبي صلى الله عليه وآله على طبقاتهم في الخطأ والعمد والضلال والنفاق بحسب ما شرحناه، فهل يتعلق عاقل بعد هذا بذكر الصحبة، ومشاهدة النبي صلى الله عليه وآله في القطع على فعل الصواب، وهل يوجب بذلك(72) العصمة والتأييد، إلا بأنه مخذول مصدود(73) عن البيان؟!

____________
(1) (طاعة) ليس في ب، م.
(2) سورة النساء 4: 59.
(3) (معرفة الأئمة.. كما أوجب) ليس في أ.
(4) في أ: طاعتها.
(5) سورة الإسراء 17: 71.
(6) في أ: التواتر.
(7) كمال الدين 2: 412 / 10، الكافي 1: 308 / 3، غيبة النعماني: 330 / 5، حلية الأولياء 3: 224، مسند أحمد بن حنبل 4: 96، مجمع الزوائد 5: 218.
(8) في أ، ح، م: أئمة.
(9) في أ، ح زيادة: على حال.
(10) في ب، م: والمقال.
(11) (من الاجماع) ليس في ب، م.
(12) سميت الحشوية بهذا الاسم، لأنهم يحشون الأحاديث التي لا أصل لها في الأحاديث المروية عن الرسول صلى الله عليه وآله، أي يدخلونها فيها وليست منها، وهم من فرق المرجئة يقولون بالجبر والتشبيه، وإن الله تعالى موصوف عندهم بالنفس واليد والسمع والبصر، وقالوا: كل ثقة من العلماء يأتي بخبر مسند عن النبي فهو حجة. " المقالات والفرق: 6، 136 ". وأراد المصنف بالحشوية هنا أهل السنة عموما، أنظر ص 91 و 216.
(13) المرجئة: اختلف فيهم على أقوال: فقيل هم فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضير مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، سموا مرجئة لاعتقادهم أن الله تعالى أرجأ تعذيبهم عن المعاصي، أي أخره عنهم.
وقيل: هم الذين يقولون الإيمان قول بلا عمل، لأنهم يقدمون القول ويؤخرون العمل.
وقيل: ما عدا الشيعة من العامة، وسموا مرجئة لأنهم زعموا أن الله تعالى أخر نصب الإمام ليكون نصبه باختيار الأمة بعد النبي صلى الله عليه وآله. " المقالات والفرق: 5، 131، مجمع البحرين - رجا - 1: 177 ".
(14) في أ، ح زيادة: له.
(15) في أ: بإمامته.
(16) في أ: النسب.
(17) في أ: الذي لم يختلف فيه.
(18) في ب، ح، م: النقص.
(19) (يزل) ليس في أ.
(20) الأس: الأصل. " الصحاح - أسس - 3: 903 ".
(21) في أ، ب، ح: على شرطنا.
(22) خم: بئر حفرها مرة بن كعب، ونسب إلى ذلك غدير خم، وهو بين مكة والمدينة. " معجم البلدان 2: 388 ".
(23) الكافي 1: 227 / 1، علل الشرائع: 144، أمالي الصدوق: 291، حلية الأولياء 4: 23، مسند أحمد 1: 331، المستدرك للحاكم 3: 134.
(24) (والسياسة) ليس في أ.
(25) علل الشرائع: 222، أمالي الصدوق: 146 / 7، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 10 / 23، سنن الترمذي 5: 641 / 3731، مسند أحمد 6: 438، مجمع الزوائد 9: 108.
(26) عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 187 / 2، أمالي الصدوق: 521 / 3، الخصال: 555، صحيح الترمذي 5: 636 / 3721، المستدرك 3: 130، مجمع الزوائد 7: 138.
(27) أمالي الطوسي 1: 313، إرشاد المفيد: 36، إعلام الورى: 99، مسند أحمد 1: 185، صحيح مسلم 4: 1871 / 32، صحيح الترمذي 5: 639، المناقب لابن المغازلي: 177.
مناقب الخوارزمي: 105، ذخائر العقبى: 72، الرياض النضرة 3: 148 و 151.
(28) في أ: بذكره. والتقصاص: التتبع. أنظر المعجم الوسيط 2: 739.
(29) أنظر رسالته " تفضيل أمير المؤمنين على سائر الصحابة " والفصول المختارة من العيون والمحاسن 1: 64.
(30) سورة المائدة 5: 54.
(31) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 29.
(32) الجامع الصحيح للترمذي 5: 588 / 3618، مسند أحمد بن حنبل 3: 221 / 268، سنن ابن ماجة 1: 522 / 1631.
(33) (عندكم) ليس في ب، م.
(34) في أ، ح: أن جميعهم.
(35) في أ: أمورهم.
(36) (أو على بعضهم) ليس في ب، م.
(37) في أ: بنيته.
(38) في أ: الاعتدال.
(39) سورة الأنفال 8: 5 - 8، وفي م زيادة: نفاقهم.
(40) في أ: مواطن.
(41) سورة الأنفال 8: 20 - 28.
(42) سورة الأنفال 8: 45.
(43) سورة الأنفال 8: 15، 16.
(44) سورة الأنفال 8: 42، 43.
(45) سورة النساء 4: 77، 78.
(46) سورة الأنفال 8: 67، 68.
(47) في أ: فيما نص به.
(48) سورة آل عمران 3: 153.
(49) إرشاد المفيد: 74، مجمع البيان 5: 28، السيرة الحلبية 3: 67، تاريخ اليعقوبي 2: 62، مع اختلاف.
(50) سورة التوبة 9: 25، 26.
(51) سورة الأحزاب 33: 15.
(52) في أ: أفلت.
(53) (ويصفر) ليس في ب، م.
(54) تأويل الآيات 2: 693 / 3، تفسير القمي 2: 367، مجمع البيان 10: 433، مسند أحمد 3: 313 و 370، صحيح البخاري 6: 267 / 393، الجامع الصحيح للترمذي 5:
414 / 3311، جامع البيان للطبري 28: 67، الدر المنثور 8: 165، والآية من سورة الجمعة 62: 11.
(55) (ذات يوم) ليس في أ.
(56) سنن الدارقطني 1: 161 - 172 بعدة طرق، تاريخ بغداد 9: 379، وكنز العمال 9:
331 / 26281.
(57) أنظر ترجمته في أسد الغابة 3: 26، الجرح والتعديل 4: 420 / 1844، سير أعلام النبلاء 2: 545 / 115، الإصابة 3: 250 / 8084.
(58) الاحتجاج 2: 447.
(59) في ب، م: فأما من كان منهم زمن حياة النبي صلى الله عليه وآله بظاهر الإيمان.
(60) في ب، م: وبباطنه الكفر والعدوان.
(61) سورة النساء 4: 142.
(62) سورة التوبة 9: 54.
(63) سورة التوبة 9: 101.
(64) سورة محمد صلى الله عليه وآله 47: 30
(65) سورة المنافقون 63: 4.
(66) سورة المعارج 70: 36 - 39.
(67) سورة التوبة 9: 95.
(68) سورة الأعراف 7: 199.
(69) سورة فصلت 41: 34، 35.
(70) في ب: أحوالهم.
(71) في أ، ح: العصابة.
(72) في ب، م زيادة: بدون.
(73) في ب،: الإمامة حاشا فإنه غني.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page