• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عبد القادر الجيلاني وموسى الكاظم

ذهبنا بعد الفطور إلى باب الشيخ ورأيت المقام الذي طالما تمنيت زيارته ، وهرولت كأني مشتاق لرؤيته ودخلت أتلهف كأني سوف أرتمي في أحضانه وصديقي يتبعني أينما رحت ، واختلطت بالزوار الذين يتراكمون على المقام تراكم الحجاج على بيت الله الحرام ومنهم من يلقي قبضات من الحلوى والزوار يتسابقون لالتقاطها وأسرعت لاخذ اثنتين منها أكلت إحداها على الفور للبركة وخبأت الاخرى في جيبي للذكرى ، صليت هناك ودعوت بما تيسر لي وشربت الماء وكأني أشرب من ماء زمزم ، ورجوت صديقي أن ينتظرني ريثما أكتب إلى أصدقائي في تونس بعض البطاقات البريدية التي اشتريتها من هناك وتمثل كلها صورة مقام الشيخ عبد القادر بالقبة الخضراء ، وأردت بذلك أن أبرهن لاصدقائي وأقاربي في تونس عن علو همتي التي أوصلتني لذلك المقام الذي لم يصلوا إليه .
بعد ذلك تناولنا طعام الغداء في مطعم شعبي وسط العاصمة ، ثم أخذني صديقي في سيارة أجرة إلى الكاظمية ، عرفت هذا الاسم من خلال ما ذكره صديقي لسائق السيارة وصلنا اليها وما أن نزلنا من السيارة نتمشى حتى اختلطنا بمجموعات كبيرة من الناس يمشون في نفس الاتجاه نساء ورجالا وأطفالا ويحملون بعض الامتعة ، ذكرني ذلك بموسم الحج ولم أكن بعد أعرف وجهة المكان المقصود حتى تراءت لي قباب ومآذن ذهبية ياخذ اشعاعها بالابصار ، وفهمت أنه مسجد من مساجد الشيعة لسابق علمي بانهم يزخرفون مساجدهم بالذهب والفضة التي حرمها الاسلام ، وشعرت بحرج في الدخول إليها ، غير أنني - مراعاة لعواطف صديقي - اتبعته من غير اختيار .
دخلنا من الباب الاول وبدأت ألاحظ تمسح الشيوخ بالابواب وتقبيلها ، وسليت نفسي بقراءة لوحة كبيرة كتب عليها « ممنوع دخول النساء السافرات » مع حديث للامام علي يقول فيه : « يأتي على الناس زمان يخرج فيه النساء كاسيات عاريات . . إلى آخره » ، وصلنا إلى المقام وبينما كان صديقي يقرأ إذن الدخول كنت أنظر إلى الباب وأعجب من هذا الذهب والنقوش التي تملا صفحاته وكلها آيات قرآنية .
دخل صديقي ودخلت خلفه وأنا على حذر تجول بخاطري عدة أساطير قرأتها في بعض الكتب التي تكفر الشيعة ورأيت داخل المقام نقوشا وزخرفة لم تخطر على بالي ودهشت لما رأيت وتصورت نفسي في عالم غير مألوف ولا معروف ، ومن حين إلى آخر أنظر بإشمئزاز إلى هؤلاء الذين يطوفون حول الضريح باكين مقبلين أركانه وقضبانه بينما يصلي البعض الآخر قرب الضريح ، واستحضرت في خاطري حديث الرسول صلى الله عليه وآله وهو يقول : « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أوليائهم مساجد » .
وابتعدت عن صديقي الذي ما أن دخل حتى أجهش بالبكاء ثم تركته يصلي واقتربت من اللوحة المكتوبة للزيارة وهي معلقة على الضريح .
وقرأتها ولم أفهم الكثير منها بما حوته من أسماء غريبة عني أجهلها ، ابتعدت في زاوية وقرأت الفاتحة ترحما على صاحب الضريح قائلا : « اللهم إن كان هذا الميت من المسلمين فأرحمه فأنت أعلم به مني » .
واقترب مني صديقي وهمس في أذني قائلا : إن كانت لديك حاجة فاسأل الله في هذا المكان لاننا نسمية باب الحوائج وما أعطيت أهمية لقوله سامحني الله ، بل كنت أنظر إلى الشيوخ الطاعنين في السن وعلى رؤوسهم عمائم بيض وسود وفي جباههم آثار السجود ، وزاد في هيبتهم تلك اللحى التي أعفوها وتنطلق منها روائح طيبة ولهم نظرات حادة مهيبة .
وما أن يدخل الواحد منهم حتى يجهش بالبكاء ، وتساءلت في داخلي أيمكن أن تكون هذه الدموع كاذبة ؟ ؟ أيمكن أن يكون هؤلاء الطاعنون في السن مخطئين ؟
خرجت متحيرا مندهشا مما شاهدته بينما كان صديقي يرجع أدراجه احتراما لئلا يعطي المقام ظهره .
سألته : من هو صاحب هذا المقام ؟ .
قال : الامام موسى الكاظم .
قلت : ومن هو الامام موسى الكاظم ؟ .
قال : سبحان الله ! أنتم إخواننا أهل السنة والجماعة تركتم اللب وتمسكتم بالقشور .
قلت غاضبا منقبضا : كيف تمسكنا بالقشور وتركنا اللب ؟ .
فهدأني وقال : يا أخي أنت منذ دخلت العراق لا تفتأ تذكر عبد القادر الجيلاني فمن هو عبد القادر الجيلاني الذي استوجب كل اهتمامك ! ؟ .
أجبت على الفور وبكل فخر : هو من ذرية الرسول ، ولو كان نبي بعد محمد لكان عبد القادر الجيلاني رضى الله تعالى عنه ! .
قال : يا أخ السماوي هل تعرف التاريخ الاسلامي ؟ .
وأجبت في غير تردد بنعم ! وفي الحقيقة ما عرفت من التاريخ الاسلامي قليلا ولا كثيرا لان أساتذتنا ومعلمينا كانوا يمنعوننا من ذلك مدعين بأنه تاريخ أسود مظلم لا فائدة من قراءته ، وأذكر على سبيل المثال أن الاستاذ المختص في تدريسنا مادة البلاغة كان يدرسنا الخطبة الشقشقية من كتاب نهج البلاغة للامام علي ، واحترت كما احتار عدد من التلاميذ عند قراءتها ، وتجرأت وسألته إن كان هذا من كلام الامام علي حقا ، فأجاب : « قطعا ومن لمثل هذه البلاغة سواه .
ولو لم يكن كلامه كرم الله وجهه ، لم يكن علماء المسلمين أمثال الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية ليهتم بشرحه » .
عند ذلك قلت : إن الامام علي يتهم أبابكر وعمر بأنهما اغتصبا حقه في الخلافة فثارت تاثرة الاستاذ وانتهرني بشدة وهددني بالطرد إن عدت لمثل هذا السؤال ، وأضاف قائلا : نحن ندرس بلاغة ولا ندرس التاريخ وما يهمنا شيئا من أمر التاريخ الذي سودت صفحاته الفتن والحروب الدامية بين المسلمين وكما طهر الله سيوفنا من دمائهم فلنطهر ألسنتنا من شتمهم .
ولم أقنع بهذا التعليل وبقيت ناقما على ذلك الاستاذ الذي يدرسنا بلاغة بدون معان ، وحاولت مرارا عديدة دراسة التاريخ الاسلامي ولكن لم تتوفر عندي المصادر والامكانات لتوفير الكتب ، وما وجدت أحدا من شيوخنا وعلمائنا يهتم بها وكأنهم تصافقوا على طيها وعدم النظر فيها ، فلا تجد أحدا يملك كتابا تاريخيا كاملا .
فلما سألني صديقي عن معرفة التاريخ أحببت معاندته فأجبته بنعم ولسان حالي يقول : أعرف أنه تاريخ مظلم مسود لا فائدة فيه ، إلا الفتن والاحقاد والتناقضات .
قال : هل تعرف متى ولد عبد القادر الجيلاني ، في أي عصر ؟ قلت :
حسب التقريب في القرن السادس أو القرن السابع ؛ قال : فكم بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قلت ستة قرون ؛ قال : فاذا كان القرن فيه جيلان على أقل تقدير فيكون نسبة عبد القادر الجيلاني للرسول بعد إثني عشر جدا ؛ قلت نعم ! قال : فهذا موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن فاطمة الزهراء يصل نسبه إلى جده رسول الله بعد أربعة أجداد فقط .
أو بالاحرى فهو من مواليد القرن الثاني للهجرة فأيهما أقرب إلى رسول الله موسى أم عبدالقادر ؟ .
وبدون تفكير قلت : هذا أقرب طبعا ! ولكن لماذا نحن لا نعرفه ولا نسمع بذكره ؟ قال : هذا هو بيت القصيد ولذلك قلت بأنكم - واسمح لي أن أعيدها - تركتم اللب وتمسكتم بالقشور فلا تؤاخذني وأرجوك المعذرة .
كنا نتحدث ونمشي ونتوقف من حيث لآخر حتى وصلنا إلى منتدى علمي يجلس فيه الطلبة والاساتذة ويتبادلون الآراء والنظريات ، هناك جلسنا وكان يبحث بعينيه في الجالسين وكأنه على موعد مع أحدهم ؛ جاء أحد الوافدين وسلم علينا وفهمت أنه زميله في الجامعة وسأله عن شخص علمت من الاجوبة أنه دكتور وسيأتي عما قريب ، في الاثناء قال لي صديقي : أنا جئت بك لهذا المكان قاصدا أن أعرفك بالدكتور المتخصص في الابحاث التاريخية وهو أستاذ التاريخ في جامعة بغداد وقد حصل على الدكتوراه في أطروحته التي كتبها عن عبد القادر الجيلاني وسوف ينفعك بحول الله ، لانني لست مختصا في التاريخ .
شربنا بعض العصير البارد حتى وصل الدكتور ونهض إليه صديقي مسلما عليه وقدمني إليه وطلب منه أن يقدم إلي لمحة عن تاريخ عبد القادر الجيلاني ، واستأذننا في الانصراف لبعض شؤونه .
طلب لي الدكتور مشروبا باردا وبدأ يسألني عن إسمي وبلادي ومهنتي كما طلب مني أن أحدثه عن شهرة عبد القادر الجيلاني في تونس .
ورويت له الكثير في هذا المجال حتى قلت والناس عندنا يعتقدون بأن الشيخ عبدالقادر كان يحمل رسول الله على رقبته ليلة المعراج عندما تأخر جبريل خوفا من الاحتراق وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله : قدمي على رقبتك وقدمك على رقاب كل الاولياء إلى يوم القيامة .
وضحك الدكتور كثيرا عند سماعه كلامي وما دريت أكان ضحكه على هذه الروايات أم كان على الاستاذ التونسي الذي بين يديه ! بعد مناقشة قصيرة حول الاولياء والصالحين قال أنه بحث طوال سبع سنوات سافر خلالها إلى لاهور في الباكستان وإلى تركيا وإلى مصر وبريطانيا وكل الاماكن التي بها مخطوطات تنسب إلى عبد القادر الجيلاني واطلع عليها وصورها ، وليس فيها اي إثبات بأن عبد القادر الجيلاني هو من سلالة الرسول ، وغاية ما هنالك بيت من الشعر ينسب إلى أحد أحفاده يقول فيه : « وجدي رسول الله » وقد يحمل ذلك كما قال بعض العلماء ، على تأويل حديث النبي صلى الله عليه وآله : « أنا جد كل تقي » وزادني بأن التاريخ الصحيح يثبت أن عبد القادر أصله فارسي وليس عربيا أصلا وقد ولد في بلدة بإيران تسمى جيلان وإليها ينسب عبد القادر ، وقد نزح إلى بغداد حيث تعلم هناك وجلس يدرس في وقت كان في الانحلال الخلقي فيه فاشيا . وكان الرجل زاهدا فأحبه الناس وبعد وفاته أسسوا الطريقة القادرية نسبة إليه ، كما يفعل دائما أتباع كل متصوف وأضاف قائلا : حقا أن حالة العرب مؤسفة من هذه الناحية .
وثارت في رأسي حمية الوهابية فقلت للدكتور : إذاً أنت وهابي الفكر يا حضرة الدكتور فهم يقولون كما تقول ليس هناك أولياء . فقال : لا أنا لست على رأي الوهابية .
والمؤسف عند المسلمين هو إما الافراط وأما التفريط ، فأما أن يؤمنوا ويصدقوا بكل الخرافات التي لا تستند إلى دليل ولا عقل ولا شرع ، وأما أن يكذبوا بكل شيء حتى بمعجزات نبينا محمد وأحاديثه لانها لا تتماشى وأهواءهم وعقائدهم التي يعتقدونها وقد شرقت طائفة وغربت أخرى فالصوفية يقولون بإمكانية حضور الشيخ عبد القادر الجيلاني مثلا في بغداد وفي نفس الوقت في تونس ، وقد يشفي مريضا في تونس وينقذ غريقا في نهر دجلة في نفس اللحظة فهذا إفراط ، والوهابية - كرد فعل على الصوفية - كذبوا بكل شيء حتى قالوا بشرك من توسل بالنبي ، وهذا تفريط لا يا أخي نحن كما قال الله تعالى في كتابه العزيز : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس )(1).
أعجبني كلامه كثيرا وشكرته مبدئيا ، وأبديت قناعتي بما قال .
فتح محفظته وأخرج كتابه عن عبدالقادر الجيلاني وأهدانيه ، كما دعاني للضيافة فاعتذرت وبقينا نتحدث عن تونس وعن شمال إفريقيا حتى جاء صديقي ورجعنا إلى البيت ليلا بعد أن أمضينا كامل اليوم في الزيارات والمناقشات ، وشعرت بالتعب والارهاق فاستسلمت للنوم .
استيقظت باكرا وصليت وجلست أقرأ الكتاب الذي يبحث في حياة عبد القادر ، فما أفاق صديقي حتى كنت قد أتممت نصفه ، وكان يتردد علي من حين إلى آخر داعيا إياي لتناول الفطور فلم أوافق حتى أنهيت الكتاب وقد شدني إليه وأدخل علي شكا لم يلبث طويلا حتى زال قبل خروجي من العراق .
____________
(1) سورة البقرة : آية 143 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page