طباعة

سورة نوح : قصَّة نُوح(عليه السلام) مع قومه

أشرنا إلى أنّ بعض السور القرآنية الكريمة تتمحّض للسرديات ، بحيث توظّف السورة بأكملها للعنصر القصصي ، و لعلّ سورة نوح تجسّد هذا النمط من السور ، حيث لا تسبقها و لا تلحقها أيّة نصوص غير قصصية أو ممهّدة .

المهم أن نبدأ فنتحدّث عن القصة المذكورة .

تبدأ قصة نوح على النحو الآتي:

﴿إِنّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

هذه المقدّمة القصصيّة تكشف لنا أنّ مواقفها و أحداثَها تحوم على عمليّة إنذارمُباشر ، و على عقاب متوقع في حالة عدم جدوى الإنذار .

و فعلا ، لو تابعنَا القصة بأكملِها لوجدناها تستغرق السورة التي خُصّصت لهذه القصة و كُلُّها مواقفٌ حافلةٌ بالإثارة ، قد خُتِمت بنزول العقاب الذي اكتسح القومَ و استأصلهم أساساً .

غير أنّ القارئ من وجهة النظر الفنّية يظلّ مُتردّداً في استخلاص نتيجة حاسمة لهذا الموقف ، قبل أن ينتهي من قراءة القصة .

و هذا التردّد تفرضه لُغة الفنّ القصصي دون أدنى شك . فالقصةُ لم تبدأ إلاّ من وسط الأحداث الغامضة التي لايعرف القارئ شيئاً عن تفصيلاتها . أي أنّها تبدأ من إنذار لابدّ أن تسبقه وقائع خاصة تفرض مثل هذا الإنذار ، . . . و لابدّ أن تكون هذه الوقائع ذات خطورة كبيرة ، بحيث تستدعي عذاباً أليماً تـتوعّد السماءُ به على هذا النحو اللافت للانتباه .

إذن هذه البداية القصصية ﴿أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ ، ثمّ إتباعها بالعقاب ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تـتضمّن من حيث الشكل الهندسي للقصة أحداثاً تسبق عملية الانذار ، و تـتضمّن إنذاراً فعليّاً سيقوم به نوح (عليه السلام) ، كما تـتضمّن توقّعاً لعقاب يكتسح القوم في حالة ركوب القوم رؤوسهم .

* * *

و الآن لِنتابع سلوكَ نوح تجاه قومه في عملية الإنذار الذي كلّفته السماءُ به ، لقد أنذرهم نوحٌ على النحو الآتي:

﴿قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ

لقد كشف هذا الإنذارُ عن بعض الأحداث السابقة عليه ، مُرتدّاً بالقارئ إلى بداية الحَدَث .

و لكن ما هو نمط الحَادِثَة التي حدّدها الإنذار ؟

إنّها عبادة اللّه و إطاعة نوح في دعوته إلى عبادة اللّه:

﴿أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ

من هذا ، نستخلص أنّ القوم كانوا عاكفين على عبادة غير اللّه . . . كما أنّهم كانوا متمرّدين على الإطاعة ، و لابدّ أن نستخلص أيضاً أنّ تمرّدهم قد اكتسب صفة خاصة ، بحيث تطلّب مثل هذا الإنذار .

لكنّ السماء و هي حانيةٌ على عبادها ، . . . إنّما تضع أمامهم فُرَصاً متنوّعة ، بغية أن يعودوا إلى صوابهم . فهي أوّلا تعِدهم: بأنّها ستعفو عنهم و تـتجاوز عن خطيئاتهم السابقة ، . . . و تعِدهم ثانياً: بأنّها ستؤجّل أيّ عقاب يستحقّونه إلى أجل مسمّى . و تُحسّسهم ثالثاً: بأنّ العقابَ المؤجّل ـ في حالة عدم المُبالاة به ـ سيكون حاسماً لا رجعة عنه . . .

كلّ هذا يضطلع الحوارُ الآتي بتوضيحه فيما قال لهم نوح:

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَل مُسَمًّى

﴿إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

و السؤال هو: إنّ نوحاً (عليه السلام) قد بدأ بتطبيق أوامر السماء فعلا ، . . . حيث قال لهم بوضوح :

﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ

و لوّح لهم بمغفرة السماء :

﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ

و لوّح لهم بتأخير العقاب :

﴿وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَل مُسَمًّى

و لوّح لهم بأنّ العقاب لا رجعة عنه :

﴿إِنَّ أَجَلَ اللّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ . . .

و لكن ، ما هي فاعليّة هذا الإنذار ؟

هل إنّ القوم استجابوا لنوح (عليه السلام) و اتّجهوا إلى عبادة اللّه ؟

الجزء الثاني من القصة يجيبنا مفصّلا على السؤال المتقدّم .

* * *

يبدو أنّ نوحاً (عليه السلام) عندما التزم بأوامر السماء و أنذر قومه لم يواجه من القوم إلاّ صدوداً ، و يبدو أيضاً أ نّه واجه ألواناً من الشدائد ، بحيث توجّه نحو السماء شاكياً لها ردود الفعل التي أحدثتها دعوته إليهم لعبادة اللّه .

لقد هتف نوحٌ بمرارة ، مخاطباً اللّه سبحانه و تعالى:

﴿قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً

هذا الحوار الانفرادي مع السماء يكشف عن المرارة التي كابدها نوحٌ في دعوته إلى رسالة السماء . . . لقد أجهد نفسه في نشر الرسالة ليلَ نهارَ ، لا أنّه اقتطع شريحةً معيّنة من الزمن لأداء الرسالة ، بل وظّف الزمَنَ كلَّه للهدف المذكور .

لكن القوم كانوا من الانغلاق إلى الدرجة التي لم يزدهم دعاؤه إلى اللّه ، إلاّ فراراً من ذلك .

من هنا يمكننا أن نفهم معنى الإنذار و معنى العذاب الأليم الذي توعّد الإنذارُ به ، . . . لأنّنا حيال قوم لم تُزدهم الدعوةُ إلى اللّه إلاّ فراراً .

لقد وصل الأمر بهؤلاء القوم الذين ركبَ الشيطانُ رؤوسَهم ، . . . وصل الأمرُ بهم إلى الحدّ الذي قال عنهم نوحٌ في حواره المتّجه نحو السماء ، قائلا عنهم:

﴿وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ

﴿جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ

﴿وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً

إنّ هذه الصورة الفنّية جعل الأصابع في الآذان .

ثمّ الصورة الفنّية تغطية وجوههم بالثياب . . .

مضافاً إلى الإصرار .

ثمّ استكبارُهم استكباراً .

هذه المستويات الأربعة من السلوك ، أو ردود الفعل الأربعة من القوم حيال نوح (عليه السلام) في طلب المغفرة لهم ، تدلّنا بوضوح على أنّ المستكبرين قد بلغ بهم الاستكبارُ إلى الدرجة التي لم نتوقّع البتة أن يعودوا إلى صوابهم .

* * *

و الآن يحسن بنا أن نقف عند الصورتين الفنّيتين:

﴿جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ

﴿اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ

لنرى مدى ما تنطوي عليه الصورتان من دلالات بالغة الأثر في الكشف عن هوية المستكبرين .

فلو اقتصر الأمرُ مثلا على مجرّد رفضهم لرسالة نوح (عليه السلام) ، لقلنا: إنّ رفضهم مستندٌ إلى الانغلاق الذهني لديهم فحسب ، لكنّ الأمر تجاوز مجرّد الرفض الاعتيادي إلى ممارسة سلوك صبياني يستدر الإشفاق ، ألا و هو وضع أصابعهم في آذانهم .

فهذه الصورة توضّح لنا أنّ المستكبرين رفضوا حتّى مجرّد الاستماع إلى صوت نوح (عليه السلام) ، رفضوا حتّى مجرّد الاستماع إلى طلب المغفرة . لقد بلغ بهم المرضُ إلى الدرجة التي كشفت عن أنّهم يحملون في أعماقهم كراهية شديدة للأصوات الخيّرة .

إنّ المرضى ، أو العصابيّين ، أو المنحرفين يتفاوتون في درجة المرض الذي يُعانون منه ، فقد يكون المريض كارهاً لِذاتِه و للآخرين و للقيم الخيّرة ، لكنه يختزن هذه الكراهية ، دون أن يترجمها إلى سلوك خارجي لفظي مثلا أو حركيّ ، بل يحتفظ بها في أعماقه ، مكتوياً بلهيبها .

لكنّه حين يترجمها إلى سلوك خارجي ، فإنّ هذا يظلّ مؤشّراً إلى بلوغ المريض درجة خطيرَة من المرض . فإذا ترجم كراهية أعماقة إلى سلوك لفظي مثلا ، كان مؤشّراً إلى درجة معيّنة من حجم المرض الذي يعاني منه . أمّا إذا ترجم أعماقه المريضة إلى سلوك حركي مثلا: وضع الأصابع في الآذان ، فإنّ المرض يبلغ قمّته التي تستدرّ الإشفاق .

لقد كشف المستكبرون من قوم نوح (عليه السلام) عن ذروة المرض الداخلي الذين يعانون منه ، حينما ترجموا أعماقهم الكريهة إلى سلوك حركي هو وضع أصابعهم في آذانهم ، تعبيراً عن رفضهم الطفولي للرسالة الخيّرة التي دعاهم نوحٌ إليها .

و من الحقائق الثابتة في لغة علم النفس المَرَضي ، أنّ النكوص إلى اُسلوب الطفولة يُعدّ تعبيراً واضحاً عن درجة المرض الذي يطبع صاحب الحالة . فهو بعجزه عن التكيّف ، و حدّة التأزّم الداخلي لديه ، و فقدانِه لأ يّة وسيلة يُخفضُ بها توتّراتِه نجده يلتجئ إلى أساليبَ من السلوك تعوّد عليها في الطفولة حينما كان يحتج على عدم إشباع حاجاته بأنماط شتّى من السلوك يستدرّ بها عطف الكبار و كلّ ذلك بسبب من عدم نضجه .

و يبدو أنّ المستكبرين الذين وضعوا أصابعَهم في آذانهم ، حينما دعاهم نوح إلى رسالة السماء ، و طلب المغفرة ، يبدو أنّهم قد ارتدّوا و نكصوا إلى أساليب الطفولة ، يُخفّفون بها حدّة توتّراتهم و تمزّقاتهم الداخلية التي يُعانون منها ، معبّرين بذلك عن عجزهم التامّ عن التكيّف مع الموقف و معالجته بالنحو السليم .

* * *

على أنّ الأمر لم يقف عند نمط واحد من أساليب النكوص ، بل تعدّاه إلى نمط آخر أشدّ ارتداداً إلى الطفولة ، و أشدّ تعبيراً عن المرض ، ألا و هو النكوص إلى اُسلوب تغطية الوجه بالثوب ، حتّى لا يُشاهدوا صورة البَطل الذي يدعوهم إلى رسالة السماء و طَلَب المغفرة .

إنّنا ندعو القارئ أو السامع إلى أن يُدقّق في هيئة مريض قد نوقِشَ معه في مسألة فكريّة معيّنة ، و إذا به يضع ثيابه على وجهه و يُغطّي وجهه الكريه حتّى لا يُشاهد الشخصية التي تـتعامل معه فكريّاً . . .

إنّ هذا لا يمكن أن يحدث إلاّ عند الأطفال الصغار الذين فقدوا أبسط مقوّمات التنشئة الاجتماعية ، و بلغوا من الانحراف إلى الدرجة التي تؤشّر إلى ضرورة فرزهم في مكان خاص مع الأحداث الجانحين .

و حينما ننقل القضية إلى الأفراد الراشدين ، . . . إلى الكبار ، فهذا يعني أنّ المستكبرين قد بلغوا من نكوصهم إلى الطفولة درجةً ما بعدها من درجة . . . درجة لم يستطيعوا من خلالها أن يواجهوا حتّى مجرّد الرؤية لشخصية تُطالبهم برفق ، و تدعو لهم بطلب المغفرة .

ولو اقتصر الأمر على مجرّد إشاحتهم بوجوههم عن نوح (عليه السلام) لَهان الخطب . غير أنّهم حينما غطّوا وجوهَهُم بثيابهم ، أصبحوا حينئذ مؤشّراً بالغَ الدلالة إلى أنّهم قد ارتدّوا إلى الطفولة بنحو لا تضاهيه أيّةُ درجة من المرض مهما تفاقمت .

إذن المستكبرون بعامّة يُشكّلون حفنةً من المرضى كشف النصُّ القصصيّ جانباً من أساليبهم النكوصية عبر صورتين هما:

وضع الأصابع في الآذان و تغطية الوجوه بالثياب .

و مع ذلك فإنّ القصة لم تكتف بتقديم الصورتين المذكورتين ، بل شفعتهما بحركات داخلية للمرضى المستكبرين ، هي أنّهم:

﴿وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً

و واضحٌ أنّ الإصرار أو العناد يمثّل وجهاً صارخاً عن توتّرات المريض و تمزّقاته .

و أمّا الاستكبار فلا تعقيب عليه ، لوضوح درجته من المرض .

و المهم أنّ القصة حينما عقّبت على الصورتين الخارجيتين بوصف داخلي لمشاعر المستكبرين ، و بخاصة أنّها استخدمت المفعول المطلق استكبروا استكباراً موضحة بهذا التأكيد تساوُقَ الوصفِ الداخلي لقوم نوح ، مع الوصف الخارجي لسلوكهم: تساوقَ العناد و الاستكبار ، مع وضع الأصابع في الآذان و تغطية الوجوه بالثياب .

* * *

مع الوصف الواقعي الذي قدّمته القصة لقوم نوح نتوقّع أن يتمّ كلُ شيء و أن يجيء دور العقاب الذي توعّد به نوحٌ (عليه السلام) ، مادام الأمر قد وصلَ إلى أنّهم:

﴿جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً

بيد أنّ القصة لم تُختـتم بعدُ . . .

فها هو نوحٌ يواصل شكواه إلى اللّه من هؤلاء المستكبرين ، قائلا بمرارة:

﴿ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً

﴿ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً

﴿فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً

في هذه الشكوى أكثر من دلالة .

فالمُلاحظ أنّ نوحاً (عليه السلام) قد استخدم المفعول المطلق: مرتين «أسررتُ لهم إسراراً» و «استكبروا استكباراً» . . .

إنّ استخدام مثل هذه الصيغة يفصح عن أنّ دعوة نوح قد أخذت طابعاً من الجهد و المثابرة و التأكيد إلى درجة لا يُتصوّر معها إمكان الافادة من ذلك .

و بالمقابل فإنّ القوم قد اكتسب عنادهم نفس الدرجة من الرفض ، أي هناك تقابل هندسي بين إصرار نوح على طلب المغفرة لهم ، و إصرار المستكبرين على رفض الطلب الخيّر .

و يمكننا ملاحظة إصرار نوح (عليه السلام) في قوله:

﴿دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً

و قوله:

﴿أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً

فهو لم يترك وسيلةً إلاّ و مارَسَها بأقصى ما تـتطلّبه من جهد . كان يدعوهم إلى طلب المغفرة نهاراً ، كما كان يدعوهم إلى ذلك حتّى ليلا . . . كان يدعوهم إلى طلب المغفرة علانيةً ، . . . كما كان يدعوهم إلى ذلك حتّى سرّاً ، بل إنّه بذل أقصى الجهد في أن ينصحهم سرّاً بدليل قوله: ﴿أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ، لعلّ ذلك يدفعهم إلى قبول النصيحة بعيداً عن أضواء المحاكاة و التقليد و التوجّس من الآخرين .

فمن الممكن مثلا تحت تأثير المحاكاة و فاعلية الايحاء الجمعي أن يرفض بعضُ المستكبرين قبولَ الطلب الخيّر ، لكنهم بعيداً عن الايحاء المذكور ، من الممكن أن يستخدموا عقولهم و يفكّروا بموضوعية وحياد بحقيقة الأمر . . .

المهم أنّ نوحاً (عليه السلام) لا يزال يواصل شكواه إلى اللّه ، مبيّناً أنّه قد استخدم مع القوم شتى الوسائل ، بما في ذلك دعوته إليهم جهاراً و إعلاناً و إسراراً . . .

ثمّ أنّ نوحاً لم يكتفِ بذلك ، بل بدأ يُذكّرهم بِنِعَمِ اللّه تعالى ، موضحاً لهم أنّهم لو يستغفرون اللّه لَغفَر لهم . مضافاً إلى ذلك:

﴿يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوال وَ بَنِينَ

﴿وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنّات وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً

و هكذا يواصل نوحٌ شكواه من المستكبرين ، مبيّناً أنّه قد سلك طريقة الثواب أوّلا في حَملِهم على الإيمان باللّه . فقد كرّر طلب المغفرة لهم من نحو:

﴿كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ

و مِن نحو:

﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً

كما لوّح لهم بالثواب العاجل من: أمطار ، و أموال ، و بنين ، و جنّات ، و أنهار . . .

و هكذا سلك نوحٌ طرائق الثواب بأشكالها المتنوعة ، بما في ذلك إشباع الحاجات الأساسية و الثانوية ، لعل ذلك يحملهم على اتّباع سبيل الرشاد ، . . .
فالآدميون قد يُشكّل الثواب مُنبّهاً لهم في الاستجابة الخيّرة ، و قد يشكّل العقاب منبّهاً لهم على ذلك ، و قد تُشكّل الحقيقة الموضوعية غير المقترنة بالثواب و العقاب مُنبّهاً لهم .

أمّا أنّ نوحاً قد سَلَك لحد الآن واحداً من الأساليب الثلاثة!!

ترى!! هل سلك أيضاً الاُسلوبين الآخرين في حملهم على الهداية ؟

لقد سَلَكَ نوحٌ (عليه السلام) مع قومه المستكبرين اُسلوب الثواب دنيوياً و اُخروياً ، كما أ نّه سَلَك اُسلوب العقاب قبل ذلك .

لكن القوم ظلّوا على إصرارهم و استكبارهم .

و الآن يتّجه نوحٌ إلى الاُسلوب الأخير ، و هو تبيان الحقائق بشكلها الموضوعي ، . . . فلعلّ بمقدور هذا الاُسلوب مادام متصلا بوقائع عملية تقع تحت سمع الإنسان و بصره و تجربته ، . . . لعلّ بمقدوره أن يحمل القومَ على الإيمان بالرسالة .

لقد خاطبهم ، قائلا:

﴿ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً

لقد طالبهم بتعظيم اللّه من خلال تذكيرهم بحقائق تجريبية يحيونها و في مقدّمتها: إبداع الإنسان نفسه ، حيث خلقه اللّه أطواراً: بدءً من النطفة ، فالعلقة ، فالمضغة ، فالعظام ، فاللحم ، . . . و انتهاءً بشكله السويّ .

و بعد أن ذكّرهم بأقرب الحقائق المألوفة إلى أذهانهم و ألصقها بخبراتهم و هو الإنسان نفسه ، . . . انتقل إلى إبداع السماء و هي ظاهرة يواجهونها مدّ البَصر ، و بضمنها القمر و الشمس ، فخاطبهم بمرارة:

﴿أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللّهُ سَبْعَ سَماوات طِباقاً

﴿وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً

ثمّ ذكّرهم بما يضايفُ السماء و هي الأرض ، ملفتاً انتباهَهم إلى خبرات يألفونها يومياً ، لكنه قبل ذلك ذكّرهم بالميلاد البشري ، و انبثاقه من الأرض ذاتها ، قائلا:

﴿وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الاَْرْضِ نَباتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً

و بعد هذا التذكير الذي سنوضّح بعد قليل موقعه الفنّي من القصة ، ذكّرهم بمعطيات الأرض ذاتها:

﴿وَ اللّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً

و بهذا التذكير بإبداع السماء و معطياتها المتصلة بالإنسان و بالسموات السبع و بالأرض ، . . . ينتهي نوحٌ من عَرضِ الاُسلوب الثالث الذي انتهجه في محاولاته لإصلاح القوم و هو الاُسلوب القائم على عرض الحقائق الموضوعية التي يألفها الإنسان في خبراته اليومية التي يحياها ، . . . بعد أن يكون نوحٌ (عليه السلام) قد استخدم اُسلوب العقاب و اُسلوب الثواب في عمليته الإصلاحية العظيمة .

لكنّ القوم ـ فيما يبدو ـ لا يزالون يصرّون و يستكبرون استكباراً .

* * *

و الآن قبل أن نتّجه لمتابعة القصة ينبغي أن نقف عند بعض السمات الفنّية في بنائها .

فالمُلاحَظ أنّ نوحاً (عليه السلام) في سياق سردِه لإبداع السماءِ و الأرض و الإنسان ، توقّف عند ظاهرة الميلاد البشري:

﴿وَ اللّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الاَْرْضِ نَباتاً

ثمّ أتبعها بالموت البشري:

﴿ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها

و بعدئذ أنهاها بيوم الانبعاث:

﴿وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً

لقد عَرَضَ النصُّ القصصي هذه الحقيقة المتصلة بمولد الإنسان و بموته و بانبعاثه . . . عَرَضَها في سياق تجارب مألوفة خبرَها الإنسان ، مثل: رؤيته لواقع أطواره التي قطعها من نطفة و انتهت به إلى خلق سويّ ، و مثل: رؤيته السماء و القمر و الشمس . . . كلّ هذه الظواهر تُشكّل خبرات يحياها الإنسان كما هو واضح .

و ممّا لا شك فيه ، أنّ عَرض الحقائق الغيبية المتصلة بميلاد الإنسان و انبعاثه ، عندما تُقرن مع حقائق مرئية ، حينئذ تُساهم في إحداث التأثير المطلوب من وراء عَرضِها بهذا الشكل الذي أوضحناه .

السمة الفنّية الاُخرى التي نعتزم لفتَ الانتباه إليها ، هي أنّ القصة لم تعرض هذه الحقائق من خلال السرد ، أي من خلال لغة السماء ، بل عَرَضتها من خلال الحوار ، و هو محاورة نوح مع قومه .

و حتّى حوار نوح مع قومه لم تنقله القصةُ مباشرة ، بل نقَلته من خلال شكوى قدّمها نوحٌ إلى السماء ، من قومه ، وهو ما نطلق عليه مصطلح الحوار المنقول ، فهو يخاطب اللّه بأ نّه تحدّث مع قومه بهذا الاُسلوب أو ذاك .

و بكلمة جديدة: أنّ نوحاً نفسه كان ينقل قصته مع قومه إلى اللّه . و القصةُ القرآنية تنقلُ لنا قصة نوح التي قدّمها بدوره إلى السماء .

و القارئ أو السامع مدعوٌّ إلى مُلاحظة هذا الاُسلوب من الصياغة القصصية و ما ينطوي عليه من إمتاع فنّي ، و من استجابة خاصة في عملية التوصيل .

فنوحٌ (عليه السلام) هو قاصٌّ يحكي للسماء قصتَه مع قومه:

﴿قالَ: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً

﴿فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً

و النص القرآني الكريم بدوره قاصٌّ يحكي لنا قصة نوح التي قصّها للسماء . . .
و هكذا . . .

إذن نحن حيال هيكل قصصي له سمته الفنّية بالغة الجمال ، حيث يدعنا ـ نحن المُتلقّين ـ نقف على طريقة نوح (عليه السلام) في أداء الرسالة من خلال وقوفنا مباشرة على جزئيات سلوكه و بلسانِه هو ، حيث يتحدّث مباشرة عن ذلك ، لا أنّنا وقفنا على ذلك من خلال النقل عنه . وهذا النمط له تأثيره على استجابة القارئ أو السامع حيث يشيع حيويّةً خاصةً ، ممتعةً ، جميلة ذات إثارة حقّاً .

* * *

و الآن لِنتابع تفصيلات القصة في مرحلة جديدة من الأحداث و المواقف:

لقد استمر نوحٌ في شكواه إلى السماء من قومه المستكبرين . فبعد أن أوضح أنّه سلك ثلاثة أساليب في تعامله مع المستكبرين: اُسلوب العقاب ، الثواب ، الحقيقة الموضوعية . . . اتّجه إلى السماء شاكياً إليها تمرّد القوم ، و جهالتَهم ، و مكرَهم ، و إصرارَهم على عبادة الأوثان .

فلنسمع إليه:

﴿قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّ خَساراً

﴿وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً

﴿وَ قالُوا: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ

﴿وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً

﴿وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً

إلى هنا تنتهي حكايةُ نوح عن تعامله مع القوم ، عبْر شكواه التي قدّمها إلى السماء .

بعد ذلك تأخذ القصةُ منعطفاً آخر يتصل بحسم الموقف ، و بمطالبتهِ بإبادة المستكبرين على نحو ما سنفصّل الحديث عنه لاحقاً .

لكننا قبل ذلك يحسن بنا أن نقف على تفصيلات الشكوى الأخيرة المتصلة بتمرّدِ القوم ، و جهالتِهم ، و مكرِهم ، و إصرارهم على عبادة الأوثان .

فبعد أن عرضَ نوحٌ للسماء من أنّه انتهج مع القوم اُسلوب العقاب و الثواب و الحقيقة الموضوعية ، أضاف قائلا:

﴿رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي

و هذا يعني أنّ الأساليب الثلاثة المذكورة لم تُجد نفعاً مع المستكبرين .

و هنا يحرص نوحٌ (عليه السلام) على عَرض ردود فعل اُخرى صدرت من القوم حيال دعوته الخيّرة .

و هذه الردودُ من الفعل متنوّعةٌ:

منها: أنّهم:

﴿وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّ خَساراً

و منها: أنّهم:

﴿مَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً

و منها: أنّ منهم مَن قال لآخرين:

﴿لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ