لو سألت عن السبب الحقيقي وراء كون عرفات مظهراً وتجلياً كاملاً للرحمة الالهية، لأجبتك وبكل صراحة: بأنني عاجز عن فلسفة ذلك، ولا يسعني سوى القول بأنّ الله سبحانه وتعالى، الذي جعل الشمس محوراً ومركزاً لمنظومتنا الشمسية ولهذا النور العظيم، هو الذي جعل رحمته العظمى هنا في عرفات، وفي لحظات معينة من السنة برمّتها.
ومن تجليات الرحمة الالهية أن ربّ العزة يخاطب عبيده التائبين من دون واسطة: عبدي؛ قد غفر لك، وطهُرت من الدنس فاستقبل واستأنف العمل ([24]). وهو نفسه الذي يأمر الملائكة بالترحيب بوفده. هذه الرحمة التي لو عرف الانسان قيمة أبعادها، لتأكّد له بأن لو أعطي كل شيء لكان بذاك حريّاً.
فما أحلى هذه العشية، وما أروع الاجتماع تحت ظل الرحمة الالهية.
خلاصة العمر :
العمر كلّه فرصة كما هو معلوم، وخلاصة العمر كله تتجسد في لحظات عرفات القصيرة. فعرفات يقف خلقها التقدير الالهي للإنسان، والتقدير هذا لا يكون إلاّ بعد أن يقرر الانسان مصيره. اذاً فالتقدير الالهي ما هو إلا انعكاس لقرار الإنسان، وما أروع أن يكون القرار قراراً تتجلى فيه صور التوبة والعودة الى خط الاسلام الصحيح، لاسيّما وأن الحاج في عرفات يجهل مدى استمرار العمر به، حيث لا يدري كم سوف يعيش، وهل سيكون من نصيبه أن يحجّ في السنة القابلة. فما أحراه أن يغلق على نفسه كتاب الذنوب والعصيان، ويفتح في مقابل ذلك كتاب اليمين والاحسان والاستغفار.
فلحظات عرفات هي لحظات الدعاء والمسألة الى الله سبحانه وتعالى، ففي خلالها يكون كلام العبد مسموعـاً من قبل الرب العظيم، وذلك بعد أن يثبت العبد حسن نيّته وصفاء سريرته وسلامة قلبه.
وحينما نوفق ان نكون ضيوفاً على الرحمن في عرفات، فلنتأكد بأن اللـه هو الارحم وهو الاكرم، وفي مقابل ذلك لنختزل في أذهاننا اسوداد وجوهنا وفراغ ايدينا، وأننا لم نأت بعمل صالح، واننا لا نفتخر بمجيتنا الى هنا أو بأداء مناسكنا، وانما المسألة اننا دعينا من قبل الرب العظيم ووفقنا الى التلبية والحضور، والله السميع العليم الذي يشهد على وقوفنا في هذا الوادي المقدس أهل للمنّ، وأهل لأن ينظر إلينا نظرة واحدة تحول حالنا الى أحسن الحال. فالله هو القائل لعباده: « ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » (غافر/60). وهو القائل أيضاً: « وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ» (البقرة/186)
وقد روي ان .. أحد الاعراب سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: يا رسول الله اقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ ([25]) . فالله قريب الى عباده . ولقد جاء في المأثور من الدعاء: يا من يسمع أنين الواهنين ([26]) بمعنى أن الخالق العظيم ذا الكبرياء والجبروت أقرب الى ذلك الإنسان الواهن الذي يغفل عنه الجميع. فالله هو الأقرب الى الانسان من حبل الوريد، وهو صاحب الضيافة الكبرى على مر العمر والتاريخ.
فلندعو الله تبارك وتعالى بالأدعية الصالحة والمناسبة لمقام الحج - وعرفات على وجه الخصوص- لاسيّما دعاء عرفة للامام الحسين سيد الشهداء عليه السلام، ولتتذكر وقوفه وباقي أئمة أهل البيت عليهم السلام في هذه الارض ودموعهم تجري تضرعاً الى الله تعالى. نستذكر تلكم اللحظات متأكدين بأنهم يؤمنون على دعوات شيعتهم، وهذا بحق هو النعمة الكبرى والفوز العظيم.
فرصة التغيير
- الزيارات: 1967