وتكريم آخر للإنسان في أصل الدعوة. فإنّ الدعوة عادة من صاحب الحاجة، والتلبية ممن يملك هذه الحاجة، والله تعالى هو الغني، وعباده الفقراء إليه: {يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد}4.
وشاء الله أن يكرم عباده بأن دعاهم إلى عبادته، وهو الغني عن عبادة عباده له، وشاء الله أن تكون التلبية من عباده الفقراء إليه.
وحقّ عليهم أن يطلبوا من الله ـ تعالى ـ أن يأذن لهم بالعبودية والعبادة، ولكن الله ـ تعالى ـ بدأهم بهذه الدعوة، وأكرمهم بالتلبية والاستجابة، وهو غاية ما يمكن أن يبلغه الكرم، وإذا كانت هذه الدعوة من الله غاية الجود والكرم من الله، فإنّ الإعراض والصدود عنها غاية اللؤم من الإنسان، وإذا كانت الاستجابة لهذه الدعوة من سعادة الإنسان، فإنّ من بؤس الإنسان وشقائه الإعراض والصدود عن الاستجابة لهذه الدعوة.
ولهذا السبب قلت: إنّ الاستجابة لدعوة الله ـ تعالى ـ عروج إلى الله، والصدود والإعراض عنها سقوط وهلاك للإنسان.
وكيف انعكس الأمر ـ في هذه الدعوة الإلهية ـ وانقلب العبد في فقره وحاجته من موقع الطالب والداعي والسائل إلى موقع «التلبية». وكان الله تعالى هو صاحب الدعوة والطلب، وهو غني بذاته عن خلقه وعباده.
إنّ لهذا الانقلاب في المواقع سرّاً. وهو خصلة الكرم والجود الذاتية والأصيلة في الذات الإلهية، فهو سبحانه وتعالى يُحبُّ أن يجود على عباده ويُحبُّ أن يكرمهم وأن يحسن إليهم، كما نحتاج نحن إلى جوده وكرمه وإحسانه.
وحبّ الجود والكرم والإحسان والعطاء صفة من صفات ذاته عزّ شأنه، وليس على الإنسان إلاّ أن يضع نفسه في مواضع جوده وكرمه وإحسانه وعطائه تبارك وتعالى، وهذه حقيقة من حقائق العلاقة بين الله تعالى وعباده، وهذه الحقيقة تفتح على الإنسان أبواباً من المعرفة. فكما نحتاج نحن إلى رحمة الله تعالى وفضله يحبّ الله تعالى أن يجود برحمته وفضله على عباده. وهذه العلاقة قائمة بين كلّ غني وفقير. ولا تقلّ حاجة الغني إلى العطاء والكرم عن حاجة الفقير إلى الغني.
والله تعالى غني عن عباده، وغناه في ذاته، فلا يحتاج عبادَه وخلقه في شيء، ولكنّه يحبّ أن يجود عليهم، ويكرمهم، ويعطيهم من فضله ورحمته، كما نحتاج نحن إلى رحمته وفضله وجوده.
وهذا هو سرّ دعوة الله لعباده بالإقبال عليه، والدخول في رحاب ضيافته، والوقوف على أبواب رحمته في شهر ذي الحجة في عرفات عند بيته المحرّم وفي شهر الصيام، فيدعو الله تعالى عباده لدعائه; ليستجيب لهم برحمته وفضله.
وهذه من ألطاف سنن الكرم الإلهي. يقول تعالى: {أُدعوني أستجب لكم}فتحل دعوة العبد، في هذه الآية الكريمة بين دعوة الله تعالى واستجابته.
فالله عزّ شأنه يدعو عباده لدعائه ليستجيب لهم { أُدعوني أستجب لكم}، فيقع دعاء العبد بين «دعوته» تعالى له بالدعاء، و «استجابته» سبحانه لدعائه.
والله عزّ شأنه يحبّ دعاء عباده، ويشتاق إلى مناجاتهم، ويحب الاستجابة لدعائهم.
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الله أحبّ شيئاً لنفسه، وأبغضه لخلقه، أبغض لخلقه المسألة، وأحبّ لنفسه أن يُسأل، وليس شيء أحبّ إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ من أن يُسأل. فلا يستحي أحدكم من أن يسأل الله من فضله، ولو شسع نعل5.
وعن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): «أكثروا من أن تدعو الله، فإنّ الله يحبّ من عباده المؤمنين أن يدعوه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة»6.
وفي الدعاء الذي علّمه أمير المؤمنين (عليه السلام) لكميل بن زياد النخعي (رحمه الله): «وأمرتهم بدعائك، وضمنت لهم الإجابة» ودعاء العبد يقع بين تلك الدعوة وهذه الإجابة.
الدعوة من الله والتلبية من العباد
- الزيارات: 1592