ثمّ إن هذه الفورية وهذا التراخي ، وكون الفعل يدلّ على أي منهما أو لا يدل . . وقع النزاع فيه بين الأصوليين من الفريقين قديماً وحديثاً على مذاهب يمكن حصرها في ثلاثة ، وكلُّ فريق أو مذهب جاء بأدلته على مختاره ، نأتي على ذكر ما تيسّر لنا منها بشكل مختصر; لنصل إلى أحد منا شئ أو آثار هذه النزاع ، وهو أداء فريضة الحج ، يقول الدكتور الزحيلي : ومنشأ الخلاف كلامهم في الحج ، هل هو على الفور أو التراخي؟ وكذا غيره . .(1)
وقبل التعرض لذلك لابدّ لنا من أن نحرّرمحلّ النزاع أولا بمقدمات، فنقول
إن الأوامر أربعة أقسام
1 ـ الأمر المطلق : وهو الخالي من أي قرينة أو قيد . .
2 ـ الأمر المؤقت : أي المقيد بوقت ثابت محدّد ومعين ، له أول وله آخر; كالصيام الذي يمسك فيه المكلّف طيلة الوقت ويستغرق جميع أجزائه .
3 ـ الأمر المعلّق على شرط : مثل { وإن كنتم جنباً فاطهروا}(2) . وغالباً ما يأتي مستعملا مع أدوات الشرط .
4 ـ الأمر المعلّق على صفة : مثل : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما . .}(3) ، { الزانية والزاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مئة جلدة}(4) .
وقد اتفقت كلمتهم على أن الأمر المطلق أي الأول ـ دون الأوامر الثلاثة الأخرى ـ هو محلُّ النزاع . كما أن هذا النزاع يتمّ عند مَن يذهب إلى أن مطلق الأمر لا يقتضي التكرار كالشيخ المفيد وتبعه الشيخ الطوسي . . وغيرهما الكثير من العامة والخاصة . أما على مذهب القائلين باقتضائه للتكرار ، فإن الفورية تعدّ من ضروريات الأمر ، ولأنه يستغرق الأوقات كلّها بالفعل المأمور به(5) .
بعد هذا نقول : إن أقوال الفرق الإسلامية يمكن درجها تحت النقاط التالية
1 ـ المالكية والحنابلة في ظاهر المذهب والكرخي من الحنفية وبعض الشافعية قالوا : إن مطلق الأمر أي المجرد عن قرينة الفور أو التراخي هو للفور ـ ومعنى الفور . . : الشروع في الامتثال عقب الأمر من غير تأخير ولا فصل ، وقد نسب الشيرازي للكرخي أن مذهبه عدم الفورية .
2 ـ الحنفية على الصحيح من المذهب : إن مطلق الأمر على التراخي ، فلا يثبت حكم وجوب الأداء على الفور بمطلق الأمر .
ومعنى التراخي . . تأخير الامتثال عن وقت الأمر زمناً يمكن إيقاع الفعل فيه فصاعداً . وهو مختار أعيان المعتزلة كالقاضي عبد الجبار ، وابن حزم الأندلسي ، وقد ذكر هذا القول البيضاوي ونسبه لقوم ، واختاره السرخسي في أصوله .
وقد استدل هؤلاء بأن هناك فرقاً بين الأمر المقيد والأمر المطلق ، فإن قول القائل لخادمه : «افعل كذا الساعة» يوجب الائتمار على الفور ، وهذا أمر مقيد ، وقول القائل : «اِفعل» مطلق ، وبين المطلق والمقيد مغايرة ومنافاة ، فلا يجوز أن يكون حكم المطلق ما هو حكم المقيد ، فيما يثبت التقييد به; لأن في ذلك إلغاء صفة الإطلاق ، وإثبات التقييد من غير دليل ، وليس في الصيغة الآمرة المطلقة ما يدل على التقييد ، في وقت الأداء ، فيكون على التراخي كالأمر بالكفارات وقضاء الصوم والصلاة .
3 ـ الشافعية على الراجح : إن الأمر المطلق لا يفيد الفور ولا التراخي .
وقد استدل هؤلاء; بأن ورود الأمر مع الفور ، ومع عدمه ، ويصح تقييده بالفور وبالتراخي ، فيجعل حقيقة في القدر المشترك ، وهو طلب الإتيان بالمأمور به ، منعاً من الاشتراك والمجاز .
وقد رجح بعضٌ أن الأمر لا يدل بذاته على الفور أو التراخي ، بل يستفاد ذلك من القرائن ، فمن قال لغيره : «اسقني» كان المراد به الفور بقرينة أن طلب الشرب عادة يكون عند الحاجة إلى الماء ، وإذا كان المأمور به مطلقاً عن الوقت كالزكاة والحج وقضاء الصوم والصلاة ، وأداء الكفارات ، فيجوز فيه التأخير ، ولكن المبادرة إلى الفعل أولى وأحوط ، قبل مباغتة الموت ، وانتهاء الأجل قبل الأداء لقوله تعالى : { فاستبقوا الخيرات}(6) .
__________________
(1) اُصول الفقه الإسلامي للدكتور الزحيلي 1 : 230 .
(2) المائدة : 6 .
(3) المائدة : 38 .
(4) النور : 2 .
(5) وتتميماً للفائدة نقول : إن الجميع متفقون على أنه لا ريب في أن الخطاب لو كان مقيداً بقرينة تقتضي التكرار ، وجب فيه التكرار كما لو قال : (صلِّ أبداً) وكذلك لو كان الخطاب مقيداً بقرينة تفيد المرة الواحدة ، حمل على الفعل مرّة واحدة ، وإنما الخلاف فيما إذا ورد الخطاب مطلقاً فإنه يمكن أن نقسّم آراء الفقهاء والمتكلمين في هذه الصورة إلى أربعة وهي
1 ـ الأمر بالشيء لا يقتضي الفعل إلاّ مرة واحدة ولا يحمل على ما زاد إلاّ بدليل .
2 ـ الأمر بظاهره يقتضي تكرار الشيء أبداً ، أي لو توجّه الأمر بشيء ، فإن على المكلّف أن يكرّره مدّة حياته بشرط الإمكان . .
(نأمل أن نتناول في المقالة القادمة «المرّة والتكرار» وهو موضوع اصولي وعلاقته بفريضه الحج .)
3 ـ الوقف : وقد اختلفوا في معنى الوقف ومفهومه ، فذهب جماعة إلى أنهم توقفوا في الصيغة المطلقة في مقدار الفعل حتى يقوم الدليل على المرة أو الكلي أو على مقدار معلوم . وقال الشريف المرتضى (الذريعة 1 : 100) : «أراد المرّة بلا شك ، وما زاد عليها لستُ أعلم هل أراده أو لم يرده . فأنا واقف فيما زاد على المرّة لا فيها نفسها» .
4 ـ الأمر بالشيء لا يقتضي التكرار ، حيث يعتقدون أن الأمر إنما يفيد طلب الماهيّة من دون دلالة على الوحدة أو الكثرة ، ولكن بما أن الطبيعة لا تحصل في الخارج إلاّ بإحضارها مرّة واحدة ، صارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به ، وإلاّ فإن الأمر لا يدل بذاته على المرة أو التكرار .
فإن مختار الشيخ المفيد(قدس سره) (التذكرة : 30) وتبعه على ذلك الشيخ الطوسي ، هو أنه «لا يجب ذلك أكثر من مرّة واحدة ، ما لم يشهد بوجوب التكرار الدليلُ» أما الشريف المرتضى ، فقد ذكرنا رأيه (انظر في هذا الهامش كله مع أصحاب الأقوال : العدة في أصول الفقه للشيخ الطوسي ـ الهامش : 199 ـ 200 .
(6) انظر في هذا كله : الموسوعة الفقهية ـ مصطلح أمر ، واُصول الفقه الإسلامي للزحيلي ، الأمر ، والآية البقرة : 148 .
تحرير محلّ النزاع
- الزيارات: 2188