بما أن فريضة الحج و زيارة المراقد المقدسة في مكة والمدينة تعدّ مساحة واسعة لتلاقي أتباع المذاهب الاسلامية المتعددة ، ولتماسّ واحتكاك أبنائها بشكل واضح و جليّ ، ونظراً لمايسببه أي تصرف قولاً أو فعلاً مما يستغربه الآخرون ، بل مما قد يستنكرونه و يعيبونه و ينهون عنه ، وبالتالي قد يقع سبباً للاختلاف والنزاع و الفتن بين أبناء الأمة الواحدة . . . إضافة الى مابنيت عليه هذه القاعدة أساساً من دفع الضرر ، وما يؤدّي إلى الفساد والنزاع ، وهو مايتضح لنا من خلال الحديث عنها وعن أدلتها ، وأنّ العقل و الشرع أقرّ هذه القاعدة ، فهي إذن قاعدة عقلية شرعية هدفها حفظ النظام بين الناس والتآلف بينهم . . .
فقد جاءت هذه القاعدة لدرء أي خلاف أو فتنة أو نزاع . . . و لتضييق الفجوة بين أبناء الأمة الواحدة ، إن لم يكن الغاؤها ، تمهيداً لإرساء دعائم الوحدة الاسلامية وجعلها فوق كلّ خلاف ، سواء أكان على مستوى الفروع و الأحكام أم الموضوعات و المواقف . . ، فقاعدة التقية التي طالما أكدها أئمة أهل البيت و بيّنوا دورها الواسع ، فيما راحوا من جهة أخرى يؤكّدون على أتباعهم و مريديهم من شيعتهم الالتزام بها في تلك المواقع و الأماكن ، بل جعلوا مخالفتها في بعض الأمور مبطلة لأصل العمل ، إضافة الى ما يترتب على ذلك من إثم . . . حفظاً للوحدة بين المسلمين . وأنّ الوحدة أهم بكثير من إظهار فرع من الفروع ، أو معتقد من المعتقدات; حتى وإن كان حقاً لا ريب فيه .
ولا يعني هذا عدم السماح بأن يظهر الانسان الشيعي معتقده وآراءه للآخرين ، ويدعو لها ، بل له أن يدعو لآرائه و أفكاره بشرط الحكمة والموعظة الحسنة ، وبعيداً عن الإثارة والتعصب ، وكلّ ما من شأنه خلق الانفعالات و الاختلافات وما يسيئ الى وحدة الصف ، التي هي أهم من كلّ شيء .
لقد وجدت أنّ هذه القاعدة ، المعروفة من بين كثير من القواعد الفقهية ، التي يعتمدها الفقهاء في أحكامهم و فتاواهم ، وجدت هذه القاعدة تتجلّى فيما يخصّ فريضة الحج ، بل و التواجد المستمر في البقاع المقدسة ، سواء لأداء الحج فرضاً أو استحباباً ، أو العمرة وزيارة النبي(صلى الله عليه وآله) و البقاع المقدسة الأخرى للأئمة(عليهم السلام) . . .
ولهذه القاعدة دور مهم في كلّ مايصدر من الفقهاء سواءً أكان أحكاماً وفتاوى ، أم في تحديد مواقف الشيعة و آرائهم . . . التي لابد من أن تنبثق من هذه القاعدة ، وتصدر على ضوئها; لما يترتب على ذلك كله من أهداف كبرى و غايات نبيلة تصب في صالح الاسلام و المسلمين . . .
فهذا الذي جعلني أفرد لهذه القاعدة بحثاً خاصاً يتصف بالاختصار ، بحثاً يتناول معناها وأدلتهاو مصاديقها الخاصة ، وبعض الأمور التي تتعلق بها . . .
فمصاديق هذه القاعدة ، يمكن أن تقع في نواح أخرى وأماكن غير الحجاز ، إلاّ أنّ مصاديقها كثرت في هذه الأمكنة ، لخصوصياتها الكثيرة ولأنها الملتقى العام لأبناء المذاهب الاسلامية ، ومحل ابتلاء أبناء الطائفة الشيعية بالخصوص ، ولأنّ الحج هوالمحك الذي يطّلع من خلاله اتباع كلّ مذهب على ما عند المذهب الآخر من أعمال يتفرد بها ، وأمور يختص بها و آراء يدافع عنها ومواقف يتمسك بها . . . قد لا تروق للطرف الآخر أو لأكثرية المسلمين . . .ممّا قد يخلق الإعلان عنها والتجاهر بها حالة من التنفر والفرقة ، بل قد تؤدي الى أمور أخرى عواقبها غير محمودة أبداً .
إنّ من يزعم أنّه لم يجد أسسها في قرارة نفسه ، ولم يعثر عليها في مطاوي كيانه ، فإنه يجدها بمعالمها في حياته اليومية .
فالتقيّة قبل أن تكون حالةً شرعيةً ، التزم بها قوم ، واستنكرها عليهم آخرون إمّا جهلاً منهم ، وإمّا بغضاً لهم ، وإما لدوافع سياسية وأخرى طائفية . . .
فهي حالة طبيعية فطرية ، يعيشها الإنسان بذاته ، في إطار علاقاته مع الآخرين أصدقاء كانوا أو أعداءً . . .
فجاءت الشريعة المقدسة غير منكرة لها بل مقرّة بها ، واضعةً لها أهدافاً عاليةً ، ومصالح كبيرةً ، على مستوى الفرد والأمّة ، وسنّت لها شروطاً وأحكاماً ، وحدّدت دائرة عملها ، حتى غدت أسلوبَ عملٍ ناجحٍ في خدمة ديننا الإسلامي والدعوة إليه والدفاع عنه ، وباب خلاصٍ يلجه المضطرون ، وطريقة لمعايشة الاخوة من أبناء الأمة والطائفة الواحدة ، ومداراتهم; لحفظ كيان الأمة من الضياع في فتنٍ لاتنفع إلاّ أعداءها ، وإبعادها عن كلّ ما يسبب إرباكاً لها وانقساماً لأبنائها طوائف مختلفة ، فتكون لقمةً سائغة للمتربصين بها . . .
فالتقية
تارةً : تأتي مشروعاً واعياً للدعوة إلى اللّه تعالى . . . ولحفظ الأمة الإسلامية ووحدتها وكيانها العام .
وأخرى : تأتي لحفظ النفوس من أن تزهق ، والدماء من أن تراق .
وثالثة : لحفظ الكرامة والأعراض والأموال .
وقد يعيشها المؤمن سنين طويلة طالما أنّ هناك أذًى يخاف وفتنةً تخشى . وقد يعيشها لحظات ، شريطة أن لا يتغير إيمانه ولا يضعف ، بل يزداد صموداً وبقاءً .
إنّها رخصة يستفيدها المؤمن من آيات قرآنية ، وأحاديث نبوية ، ومواقف جهادية . . . تفضّلت بها السماء علينا ، فما علينا إلاّ أن نحسن التعامل معها بما يكون دافعاً لنا نحو كدح متواصل للقاء اللّه تعالى ونيل رضاه .
هذا ، ولا بدًّ لنا من الإشارة إلى أنّ الطائفة الشيعية استفادت من التقيّة عبر تأريخها ، واستخدمتها أكثر من غيرها حتى كادت تختصّ بها . وهذا أمر طبيعي ، فإذا ما تتّبع باحث حياتهم; لوجدها تعرّضت إلى ما لم يتعرض له الآخرون ، فالمطاردة والتنكيل ، والسجون والتعذيب ، والتقتيل بأشكاله البشعة ، كلّها ممارسات قذرة تلطّخت بها أيدي الطغاة والظالمين ، وصبّت على أبناء هذه الفئة من المسلمين ، لا لشيء إلاّ لأنهم من الموالين للإمام عليٍّ وللعترة النبوية الطاهرة ، ولأنهم رفضوا الظلم والظالمين ، وامتنعوا من الانصياع لهم ، فكان طبيعياً أن يضطروا إلى اللجوء إلى هذا الأسلوب ، الذي هو طريقة شرعية للحفاظ على كيانهم وبقائهم ، وبالتالي مواصلة جهادهم . . .
ولا أظنّ أنّ هناك شخصاً أو جماعةً لاتلوذ بهذا الأسلوب ، ولا تلجأ إليه ، إذا ما ابتلوا ببعض ما ابتليت به الشيعة عبر مسارها الجهادي الطويل . . .
وإذا ما استطاع الإنسان أن يظهر ما يراه ويعمل به بعيداً عن الأذى والملاحقة . . . فإنه لايلجأ إلى التقية ، ولا تحبذ له الشريعة بل ولا تجيز له ذلك . .
ومع هذا كلّه فإن كلمة الحقّ والتصريح بهايبقى هوالأعظم ثواباً والأكبر أجراً...
فلنقف أولاً عند أدلة هذه القاعدة و مصاديقها
فأدلّة هذه القاعدة قد توزّعت بين آيات قرآنية ، وأخرى روائية ، وثالثة حكم العقل; وتسالم الفقهاء ، ورابعة مواقف و أهداف .
وقبل أن نلج هذه الأدلة; لنتبين دلالتها على ما نحن فيه من صحة هذه القاعدة وسلامتها ، نعرض قليلاً لمعناها اللغوي و الاصطلاحي ، وإلقاء ضوءٍ على قاعدة التقية ومرادها وأهميتها ، وسعة دائرتها كما يذهب إلى هذه السعة الإماميّة بالذات .
تـمهيد
- الزيارات: 1821