تتوزع أدلة هذه المشروعية بين أدلة قرآنية ، وأخرى روائية ، إضافة إلى حكم العقل ، وتسالم الفقهاء .
أولا : الآيات القرآنية
نكتفي هنا بذكر آيتين فقط; لأنهما الأوضح دلالةً على تشريع التقية مع أسباب نزولهما ، لتتضح لنا دلالة كل آية منهما على المطلب المذكور .
* قوله تعالى : {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من اللّه في شيء إلاّ أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم اللّه نفسه وإلى اللّه المصير} (آل عمران : 28)
سبب النـزول
ذكر جمع من المفسّرين أسباباً متعددة لنزول هذه الآية ، ولكن مع تعددها اتفقت على أنّ بعض المسلمين ، كانت تربطهم بيهود المدينة علاقات حميمة تتصف بالصفاء والمودة ، بل بالولاء لهم ، وتقديمهم على المؤمنين . . .
جاء قوم من اليهود ، وكان منهم الحجاج بن عمر حليف كعب الأشرف وابن أبي الحقيق وقيس بن سعد ، قد بطنوا (سارّوا وصافّوا) نفراً من الأنصار; ليفتنوهم عن دينهم .
قال رفاعة بن المنذر ، وعبدالرحمن بن جبير ، وسعيد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم ، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطنتهم ولزومهم . فأنزل اللّه تعالى : {لا يتخذ المؤمنون الكافرين . . .} الآية .
فيما ذهب بعض المفسّرين إلى أنّها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يتولون اليهود والمشركين ، ويخبرونهم بالأخبار ، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول اللّه ، أو أنّها نزلت في عبادة بن الصامت ، وكان له حلفاء من اليهود ، ففي يوم الأحزاب قال : يا نبيّ اللّه إنّ معي خمسمائة من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي . . .(1) .
إذن فالآية ، نهت اتباع الرسول(صلى الله عليه وآله) ومريديه أن يختاروا على المؤمنين بديلاً من الكفار ، سواء كانوا أهل كتاب أو غيرهم . . . فيدلوا لهم بالمودة ، ويركنوا اليهم ، وينصروهم ، ويتولوهم . . . لما في هذا كلّه من خطورة على الساحة المؤمنة ، وشرخ للحالة الإسلامية ، وإضعاف لها ، ولما يسببه هذا التقرب من استحسان لهم ، والتأثر بهم والرضا بما هم عليه من دين . . .
ولهذا نتائج سلبية خطيرة على المجتمع المسلم ، الذي تريد السماء أن يبقى متماسكاً بتماسك أفراده وبتولي بعضهم {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} فجاءت هذه الآية ، وغيرها من آيات تحمل نهياً صريحاً ، والتي منها {لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء} ، {يا أيّها الذين آمنوا لاتتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} .
فالآية بعد أن رفضت هذا التولي ، وحذّرت منه ، وهدّدت فاعليه بالإخراج من ولاية اللّه تعالى ، وما يستتبعه من عقوبة صارمة . . .
وضعت الآية استثناءً للتولي المذكور : {إلاّ أن تتقوا منهم تقاة} فانطلقت مشروعية التقية من هذاالمقطع . فلنقف على أقوال بعض المفسّرين فيه من الفريقين.
يقول الطبرسي في تفسيره لهذه الآية
والمعنى إلاّ أن يكون الكفار غالبين ، والمؤمنون مغلوبين ، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم ، ولم يحسن العشرة معهم ، فعندئذ يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه ، ومداراتهم تقيّةً منه ، ودفعاً عن نفسه من غير أن يعتقد ذلك . . .
ثمّ واصل كلامه بقوله : وفي هذه الآية دلالة على أنّ التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس .
ثمّ أردف قائلاً : وقال أصحابنا : إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضرورة ، وربما وجبت فيها; لضرب من اللطف والاستصلاح ، وليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن ، ولا فيما يعلم أو يغلب على الظن أنّه استفساد في الدين(2) .
أما الفخر الرازي في تفسيره للآية ، فيقول ، وهو يعدّد بعض أحكامها
إنّ التقية إنّما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار ، ويخاف منهم على نفسه وماله ، فيداريهم باللسان ، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان ، بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يعرض في كلّ ما يقول ، فإنّ التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب .
ثمّ ذكر حكماً آخر : وهو أنّه لو أفصح بالإيمان والحقّ حيث يجوز له التقية ، كان ذلك أفضل ، ودليله ما قاله الحسن
أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، فقال لأحدهما : أتشهد أنّ محمداً رسول اللّه؟
قال : نعم .
فقال : أفتشهد أنّي رسول اللّه؟
قال : نعم . وكان مسيلمة يزعم أنّه رسول بني حنيفة ، ومحمّد رسول قريش .
فتركه ودعا الآخر فقال
أتشهد أنّ محمداً رسول اللّه؟
قال : نعم .
قال : أفتشهد أنّي رسول اللّه؟
فقال : إنّي أصمّ! قالها ثلاثاً .
فقدمه ، فقتله .
فبلغ ذلك رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) ، فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه ، فهنيئاً له .
وأما الآخر فقبل رخصة اللّه ، فلا تبعة عليه .
ثمّ قال : إنما تجوز فيما يتعلّق بإظهار الموالاة والمعاداة ، وقد تجوز أيضاً فيما يتعلّق بإظهار الدين ، فأما ما يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، واطلاع الكفار على عورات المسلمين ، فذلك غير جائز البتة .
وبعد هذا ذكر رأي الشافعي ، بعد أن قال : ظاهر الآية يدلّ على أنّ التقية إنما تحلّ مع الكفار الغالبين ، إلاّ أنّ مذهب الشافعي (توسّع في دائرتها) : إنّ الحالة بين المسلمين ، إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين ، حلّت التقية محاماةً على النفس .
ثمّ راح يبيّن أنّ التقية لا تأتي فقط لحفظ النفس بل لحفظ المال أيضاً مستدلاًّ بأقوال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» و «من قتل دون ماله فهو شهيد» .
وأخيراً رجّح قول الحسن على قول مجاهد : «هذا الحكم كان ثابتاً أول الإسلام; لأجل ضعف المؤمنين ، فأما بعد قوة دولة لإسلام فلا» .
فيما قال الحسن : «التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامة»
يقول الرازي : وهذا القول أولى : لأنّ دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان(3) .
* قوله تعالى : {من كفر بالله من بعد إيمانه إلاّ من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من اللّه ولهم عذاب عظيم} النحل : 106 .
سبب النـزول
نزلت هذه الآية في جماعة من المعذَّبين بمكة وهم : عمّار ، وياسر أبوه ، وأمّه سمية ، وصهيب ، وبلال ، وخباب ، عذّبوا عذاباً شديداً ، فأما سمية فقيل : ربطت بين بعيرين ، ووخزت في قبلها بحربة ، وقالوا : إنّك أسلمت من أجـل الرجال وقتلت ، وقتل ياسر ، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام ، وأول شهيدين .
وأما عمّار فقد أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .
فقيل : يا رسول اللّه ، إنّ عماراً كفر .
فقال : كلا إنّ عماراً ملئ إيماناً من فرقه إلى قدمه ، أو من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه .
فأتى عمار رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) وهو يبكي ، فقال(صلى الله عليه وآله) : ما وراءك؟
فقال : شرّ يا رسول اللّه ، ما تُركتُ حتى نلتُ منك ، وذكرتُ آلهتهم بخير .
فجعل رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) يمسح عينيه ، ويقول : «مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت» وعلى رواية : قال(صلى الله عليه وآله) له : كيف كان قلبك؟
قال : كان مطمئناً بالايمان . . . فأنزل اللّه فيه الآية(4) .
فاستثنت الآية من صبّ عليه الإكراه ، وكان قلبه ينبض بالإيمان ، فنطق كلمة الكفر اتقاءً لشرّهم ، وتخلّصاً من عذابهم ، لا لشيء غير هذا .
وراح عمار يواصل جهاده المرير حتى قتلته الفئة الباغية ، معاوية وجنده ، وهو ما أمّله به رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) بقوله : «تقتلك الفئة الباغية» ، وقد تجاوز التسعين من عمره .
ولا ريب في أنّ ظاهر الآيتين المذكورتين ، بل صريحهما يدلّ دلالة واضحة على مشروعية التقية وجوازها عند الخوف والاضطرار ، وليس حكمها منحصراً بمورد نزولها أو بعصر دون آخر ، وإنما حكمها مستمر طالما هناك ضرورة للاستعانة بها ، واضطرار لا يدفع إلاّ بها .
وهناك من الآيات ما فيه دلالة على التقية إجمالاً ، وهو; ما ورد في قصّة مؤمن آل فرعون(5) ، وما فعله أصحاب الكهف(6) . . .
___________________
(1) اُنظر : تفسير البحر المحيط 2 : 440 ، التفسير الكبير للرازي 8 : 11 .
(2) مجمع البيان للطبرسي في تفسير الآية .
(3) التفسير الكبير للرازي : 8 ـ 13 .
(4) اُنظر : مجمع البيان للطبرسي ، والتفسير الكبير للرازي في تفسير الآية المذكورة .
(5) اُنظر سورة غافر : 13 .
(6) اُنظر سورة الكهف : 19 ـ 20 .
أدلة مشروعية التقية
- الزيارات: 1894