المندوحة لغةً : من ندح يندح ندحاً الشيء : وسّعه ، والمندوحة : السعة والفسحة ، يقال : لك عن هذا الأمر مندوحةٌ أو منتدحٌ ، أي يمكنك تركه والميل عنه . . .(1) .
والمندوحة اصطلاحاً : هو تمكّن المكلّف من الإتيان بالواجب التام الشرائط والأجزاء ، وذلك بأن يأتي به في وقت آخر أو مكان آخر . . .(2) .
وبعبارة أخرى : المندوحة : تعني إمكان تخلّص المكلّف من الحالة التي هو فيها ، بأي طريقة يراها مناسبة كالتورية ، أو الانتقال إلى مكان آخر ، أو تأجيل العمل . . .
وعدم المندوحة : أي لا يمكنه التخلّص ممّا هو فيه .
وللفقهاء أقوال ثلاثة في هذا ، خلاصتها
قول : يشترط عدم المندوحة;
لأنّ تحقق الضرر أُخذ موضوعاً للتقية ، فإذا كان بمقدور المكلّف التخلّص من هذا الضرر ، فينتفي الضرر مع وجود هذه القدرة عند المكلف ، وبالتالي فلايجوز العمل بالتقية; لانتفاء موضوعها .
وعلى هذا فيشترط أصحاب هذا القول للعمل بالتقية : عدم وجود مثل هذه القدرة للتخلّص عند المكلّف أي عدم المندوحة .
ومنهم الشيخ الأنصاري حيث قال : وهل يشترط في الصلاة معهم عدم المندوحة أم لا؟
قولان ، والأول أقوى(3) .
ثمّ يقول في رسالته : ويؤيده العمومات الدالة على أنّ التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم ، فإنّ ظاهرها حصر التقية في حال الاضطرار ، ولا يصدق الاضطرار مع التمكن من تبديل موضوع التقية بالذهاب إلى موضع الأمن مع التمكن وعدم الحرج .
نعم ، لو لزم من التزام ذلك حرج أو ضيق ، من تفقد المخالفين وظهور حاله في مخالفتهم سرّاً ، فهذا أيضاً داخل في الاضطرار .
ويخلص أخيراً إلى القول : وبالجملة فمراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان ، الذي يوقع فيه الفعل أقوى مع أنّه أحوط(4) .
وقال السيّد الخوئي : يعتبر عدم المندوحة في مكان التقيّة على الأقوى ، فلو أمكنه ترك التقيّة وإراءة المخالف عدم المخالفة ، لم تشرع التقيّة(5) .
قول : لا يشترط عدم المندوحة;
أي لا يشترط إمكان التخلّص ، فبإمكان المكلف العمل بالتقية حتى مع وجود المندوحة ، وليس بناء هذا الفريق ـ كما يبدو ـ هو عدم أخذ الضرر موضوعاً للتقية ، بل التوسع في أمر التقية المذكور في الأخبار ، فهي لم تشترط عدم المندوحة .
فقد ذهب كلّ من الشهيد الأول في البيان ، والشهيد الثاني في روض الجنان والمحقق الكركي في جامع المقاصد إلى عدم اشتراط عدم المندوحة في العمل بالتقية.
حيث قال الأوّل منهم
ولو عدل إلى المسح في موضع التقيّة ، فالأقرب البطلان ، ولا تبطل الوضوء بزوالها على الأصحّ ، ولا يشرط فيها عدم المندوحة(6) .
فيما قال الثاني
ولا يبطل الوضوء بزوال التقيّة والضرورة ، ما لم يحدث على الأصحّ; لأنّها طهارة شرعيّة ولم يثبت كون ذلك ناقضاً ، ويحتمله لزوال المشروط بزوال شرطه ، وقربه المصنّف في التذكرة ، وتوقّف في غيرها ، ولا يشترط في جواز ذلك ونحوه للتقيّة عدم المندوحة ، وهو يؤيّد بقاء الطهارة مع زوال سبب التقيّة(7) .
وقال في موضع آخر
فلا يصحّ السجود على الصوف والشعر والجلد وغيرها مع الاختيار ، أما مع الضرورة فيجوز ومنها التقيّة ، ولا يشترط عدم المندوحة خصوصاً مع إفادة تأكيد السلامة والاستناد بالسجود عليها(8) .
وأما الثالث فقد قال في مقاصده : . . . ولا يشترط في الصحة عدم المندوحة لإطلاق النصّ(9) .
القول الثالث: التفصيل
حيث بني هذا القول على متعلّق التقية ، وكونه مأذوناً فيه من قبل الشرع ، وغير مأذونٍ فيه .
قال جمع منهم المحقّق الكركي بالتفصيل بين ما إذا كان مورد التقيّة ، مأذوناً بالخصوص كالصلاة معهم ، فقال : بعدم الاعتبار ، وبين مالم يأذن الشارع فيه بالخصوص فقال : بالاعتبار .
وإليك كلامه : فاعلم أن التقيّة قد تكون في العبادات ، وقد تكون في غيرها من المعاملات ، وربما كان متعلّقها مأذوناً فيه بخصوصه ، كغسل الرجلين في الوضوء ، والتكتف في الصلاة . وقد لا يكون مأذوناً فيه بخصوصه; بل جواز التقيّة فيه مستفاد من العمومات السالفة ونحوها .
فما ورد فيه نصّ بخصوصه ، إذا فعل على الوجه المأذون فيه ، كان صحيحاً مجزياً سواء كان للمكلّف مندوحة عن فعله كذلك ، أم لم يكن; التفاتاً إلى أنّ الشارع أقام ذلك الفعل مقام المأمور به حين التقيّة ، فكان الإتيان به امتثالاً فيقتضي الإجزاء .
وعلى هذا ، فلا تجب الإعادة ، ولو تمكّن منها على غير وجه التقيّة قبل خروج الوقت ، ولا أعلم في ذلك خلافاً بين الأصحاب .
وما لم يرد فيه نصّ بخصوصه كفعل الصلاة إلى غير القبلة ، والوضوء بالنبيذ ، ومع الإخلال بالموالاة بحيث يجفّ البلل ، كما يراه بعض العامّة ، . . . فإنّ المكلّف يجب عليه إذا اقتضت الضرورة موافقة أهل الخلاف فيه إظهار الموافقة لهم .
ومع التعذر : فإن كان له مندوحة عن ذلك الفعل لم يجب الإتيان به ، وإلاّ أتى به مجزياً ، ثمّ إن أمكن الإعادة في الوقت بعد الإتيان به لوفق التقيّة وجب ، ولو خرج الوقت نظر في دليل يدل على وجوب القضاء ، فإن حصل الظفر به أوجبناه ، وإلاّ فلا; لأنّ القضاء إنّما يجب بأمر جديد . هذا في العبادات .
وأمّا في المعاملات فلا يحلّ له باطناً وطي المنكوحة للتقيّة على خلاف مذهب أهل الحقّ ، ولا التصرّف في المال المأخوذ من المضمون عنه ، لو اقتضت التقيّة أخذه ، ولا تزوّج الخامسة لو طلّق الرابعة على مقتضى مذهب أهل الخلاف ، دون المذهب الحق ، وفي الباب وجود نصّ بخصوصه في فعل مخصوص ، فحيث وجد ثبت الحكم الأول ، وحيث انتفى انتفى(10) .
بيان أخيـر
يبدو أنّ الظاهر المستفاد من إطلاق الروايات الدالّة على الأمر بمخالطة العامّة ، ومعاشرتهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم59 ، هو صحّة ما أوجبته التقيّة مطلقاً; لأنّ المفهوم من تلك الأحاديث أنّ المراد هو تأليف القلوب واجتماعها; لدفع الضرر والطعن على المذهب وأهله كما في قول الصادق (عليه السلام)
«إن استطعتم أن تكونوا الأئمّة والمؤذّنين فافعلوا; فإنّكم إذا فعلتم ذلك قالوا : هؤلاء الجعفريّة رحم الله جعفراً ، ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه ، وإذا تركتم ذلك قالوا : فعل الله بجعفر ، ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه» .
_________________
(1) اُنظر المنجد في اللغة : 798 ، والصحاح للجوهري : 552 و . . .
(2) أصول الفقه للمظفر 2 :320 .
(3) كتاب الصلاة 2 :375 .
(4) رسالة في التقية : 53 ـ 54 .
(5) منهاج الصالحين 1 : 29 .
(6) البيان : 10 .
(7) المصدر نفسه .
(8) روض الجنان : 222 .
(9) جامع المقاصد : 1/222 .
(10) رسائل الكركي المحقّق الكركي 2 : 51 .
اشتراط المندوحة في التقية وعدمها
- الزيارات: 3362