للوالدينِ الدور الأساسي في بناء الأُسرة ، والحفاظ على كيانها ابتداءً وإدامةً ، وهما مسؤولان عن تنشئة الجيل ، طبقاً لموازين المنهج الإسلامي ؛ لذا حدّد الإسلام أُسس العلاقة بين الوالدينِ والأبناء ، طبقاً للحقوق والواجبات المترتّبة على أفراد الأُسرة تجاه بعضهم البعض ، فقد قرن الله تعالى في كتابه الكريم وجوب برّ الوالدين والإحسان إليهما بوجوب عبادته ، وحرّم جميع ألوان الإساءة إليهما صغيرها وكبيرها ، فقال تعالى : ( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ) (1) .
وأمر بالإحسان إليهما ، والرحمة بهما ، والاستسلام لهما ، فقال تعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) (2) .
وقرن الله تعالى الشكر لهما بالشكر له ، فقال : ( ... أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ) (3) .
وأمر تعالى بصحبة الوالدينِ بالمعروف ، فقال : ( وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ... ) (4) .
وتجب طاعة الأبناء للوالدينِ ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( ... ووالديك فأطعهما ، وبرهما حيّين كانا أو ميتين ، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل ، فإنّ ذلك من الإيمان ) (5) .
وقرن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) بر الوالدين بالصلاة والجهاد ، عن منصور بن حازم ، عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) ، قال : قلت : أي الأعمال أفضل ؟ قال : ( الصلاة لوقتها ، وبرّ الوالدين ، والجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ ) (6) .
ومن حقوق الوالد على وَلده ، كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لا يسمّيه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسبّ له ) (7) .
ومعنى ( لا يستسبّ له ) أي لا يفعل ما يصير سبباً لسبّ الناس له .
وقدّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برّ الوالدة على برّ الوالد ؛ لأنّها أكثر منه في تحمّل العناء من أجل الأولاد ، في الحمل ، والولادة ، والرضاع ، عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) ، قال : ( جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول الله ، مَن أبرُّ ؟ قال : أُمّك ، قال : ثمّ مَن ؟ قال : أُمّك ، قال : ثمّ مَن ؟ قال : أُمّك ، قال ثمّ مَن ؟ قال : أباك ) (8) .
وكانت سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قائمةً على تكريم مَن يبرّ والديه ، فقد أتته أُخته من الرضاعة ، فلمّا نظر إليها سرَّ بها ، وبسط ملحفته لها فأجلسها عليها ، ثمّ أقبل يحدّثها ويضحك في وجهها ، ثمّ قامت وذهبت وجاء أخوها ، فلم يصنع به ما صنع بها ، فقيل له : يا رسول الله ، صنعت بأخته ما لم تصنع به وهو رجل ؟! فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( لأنّها كانت أبرَّ بوالديها منه ) (9) .
وقدّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) طاعة الوالدين على الجهاد ، ففي رواية جاءه رجل وقال : يا رسول الله ، إنّ لي والدَينِ كبيرينِ ، يزعمان أنّهما يأنسان بي ويكرهان خروجي ؟ فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( فقرّ مع والديك ، فوالذي نفسي بيده لأُنسهما بك يوماً وليلة خير من جهاد سَنة ) (10) .
وورد في الحديث أنّه يجب برّ الوالدين وإن كانا فاجرين ، قال الإمام محمد الباقر ( عليه السلام ) : ( ثلاث لم يجعل الله عزَّ وجلَّ لأحد فيهنَّ رخصة : أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر ، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر ، وبرّ الوالدينِ برّين كانا أو فاجرين ) (11) .
وفي الآية المتقدمة ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورقّة ، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما ، ولا يدك فوق أيديهما ، ولا تقدَّم قدّامهما ) (12) .
وبرّ الوالدين لا يقتصر على حال حياتهما ، بل يشملهما حال الحياة وحال الممات ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( ما يمنع الرجل منكم أن يبرَّ والديه حيّين وميّتين ، يصلي عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويحجّ عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما ، وله مثل ذلك ، فيزيده الله عزَّ وجلَّ ببرّه وصلته خيراً كثيراً ) (13) .
ويجب على الولد الأكبر أن يقضي عن والده ما فاته من صلاة وصوم (14) ، أمّا بقية الأولاد فلا يجب عليهما القضاء عن والدهم ، بل يستحب للرواية المتقدمة .
وحرّم الإسلام عقوق الوالدين بجميع ألوانه ومراتبه ، قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( مَن أحزن والديه فقد عقّهما ) (15) .
وعن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) قال : ( أدنى العقوق أُفّ ، ولو علم الله عزَّ وجلَّ شيئاً أهون منه لنهى عنه ) (16) .
وقال ( عليه السلام ) : ( ... ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما ) (17) .
وقال ( عليه السلام ) : ( مَن نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له ، لم يقبل الله له صلاة ) (18) .
وعقوق الوالدينِ من الكبائر التي تستلزم دخول النار ، قال الإمام الصادق ( عليه السلام ) : ( عقوق الوالدينِ من الكبائر ؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ جعل العاقّ عصياً شقياً ) (19) .
ولا يقتصر وجوب البرّ وحرمة العقوق ، على الجوانب المعنوية والروحية ، بل يتعداها إلى الجوانب المادية ، فتجب النفقة عليهما إن كانا معسرين (20) .
وتجب رعاية الوالدين رعايةً صحية ، عن إبراهيم بن شعيب قال : قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) : إنّ أبي قد كبُر جداً وضعُف ، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة ؟ فقال : ( إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل ، ولقّمه بيدك ، فإنّه جُنّة لك غداً ) (21) .
وخلاصة القول :
يجب طاعة الوالدينِ في جميع ما يأمران به ، إلاّ المعصية أو ما يترتب عليه مفسدة فلا تجب طاعتهما .
ومع جميع الظروف يجب على الأبناء إحراز رضا الوالدينِ بأيّ أُسلوب شرعي إن أمكن ؛ لأنّ رضاهما مقروناً برضا الله تعالى ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( رضا الله مع رضا الوالدينِ ، وسخط الله مع سخط الوالدينِ ) (22) .
وبرّ الوالدين بطاعتهما والإحسان إليهما ، كفيل بإشاعة الودّ والحبّ والوِئام في أجواء الأُسرة ، وبالتالي إلى تحكيم بنائها ، وإنهاء جميع عوامل الاضطراب والتخلخل الطارئ عليها ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالالتزام بالحقوق والواجبات المترتبة على أفرادها .
____________________
(1) سورة الإسراء : 17 / 23 .
(2) سورة الإسراء : 17 / 24 .
(3) سورة لقمان : 31 / 14 .
(4) سورة لقمان : 31 / 15 .
(5) الكافي 2 : 158 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب البر بالوالدينِ .
(6) الكافي 2 : 158 / 4 .
(7) الكافي 2 : 159 / 5 .
(8) الكافي 2 : 159 ـ 160 / 9 .
(9) الكافي 2 : 161 / 12 .
(10) الكافي 2 : 160 / 10 .
(11) الكافي 2 : 162 / 15 .
(12) الكافي 2 : 158 / 1 .
(13) الكافي 2 : 159 / 7 .
(14) منهاج الصالحين / السيد السيستاني ، العبادات : 248 ، 338 .
(15) بحار الأنوار 74 : 72 ، كتاب العشرة ، باب برّ الوالدين / 53 .
(16) الكافي 2 : 348 كتاب الإيمان والكفر ، باب العقوق .
(17) الكافي 2 : 349 .
(18) الكافي 2 : 349 .
(19) بحار الأنوار 74 : 74 .
(20) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : 286 .
(21) الكافي 2 : 162 .
(22) بحار الأنوار 74 : 80 .
حقوق الوالدَينِ
- الزيارات: 1988