• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

العصمة والغلو

الشبهة :
عصمة أهل البيت من أبرز مظاهر الغلو .

الجواب :
لكي تتضح عصمة أهل البيت (عليهم السلام) بشكل واضح ، ينبغي أن نقف قليلاً لنفهم معنى وحقيقة العصمة ، فنقول :
العصمة لغةً :
العصمة : هي المنع والوقاية ، قال في القاموس : ( أعصم ، يعصم : اكتسب ومنع ، ووقى ... والعصمة بالكسر المنع ... )(1) .
وجاء في كتاب العين : ( أن يعصمك الله من الشر ، أي : يدفع عنك . واعتصمت بالله ، أي : امتنعت به من الشر . واستعصمت ، أي : أبيت . وأعصمت ، أي : لجأت إلى شيء اعتصمت به ) (2) .
وقال في لسان العرب : ( العصمة في كلام العرب : المنع . وعصمة الله عبده : أن يعصمه ممّا يوبقه . عصمه يعصمه عصماً : منعه ووقاه ، وفي التنزيل : لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم ، أي لا معصوم إلاّ المرحوم ) (3) .
وجاء في مختار الصحاح : ( ع ص م العصمة المنع ، يقال عصمه الطعام ،  أي منعه من الجوع ، والعصمة أيضاً الحفظ ، وقد عصمه يعصمه بالكسر عصمة فانعصم ، واعتصم بالله أي امتنع بلطفه من المعصية ) (4)  .
العصمة اصطلاحاً :
لا يختلف معنى العصمة اصطلاحاً عن المعنى اللغوي إلاّ في خصوصيات مصداق العصمة الشرعية من أجزاء وشرائط مرتبطة بالأفراد المعصومين ، فالعصمة لدى الأنبياء والرسل والأولياء والأئمّة (عليهم السلام) تعني المنع من ارتكاب المعصية والوقاية من كل رجس ، فلابد أن نعرف أسباب هذا المنع وموجبات هذه الوقاية .

منشأ العصمة :
إنّ الأساس الذي تعتمد عليه العصمة هو العلم ، وهذا الضرب من العلم ليس من سنخ العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر على السواء ، والذي يسمّى في الاصطلاح العلمي بالعلم الحصولي ، وهو الذي أشارت إليه الآية المباركة بقوله تعالى : ( وَاللهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ )(5) وهذا النوع من العلم موجود عند كل إنسان سواء كان فاسقاً فاجراً أم مؤمناً عادلاً .
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة العلم الذي يكون منشأ للعصمة في موارد متعددة :
1 ـ قوله تعالى في حكايته عن النبي يوسف (عليه السلام) : ( وَإِلاّ تَصْرِفْ عَنّي كَيْدَهُنّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ )  (6)   .
فالآية تؤكّد بكل صراحة أنّ الذي يصبو إلى المعصية هو الجاهل الذي يقوده هوى النفس إلى ارتكاب ما حرّمه الله تعالى .
فإذا كان الجهل هو الذي يقود إلى المعصية فالعلم هو المانع والحائل عن المعصية ؛ ولذلك قال (عليه السلام) ( وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ ) ولم يقل : ( وأكن من الظالمين ) كما قال لامرأة العزيز : إنّه لا يفلح الظالمون أو أكن من الخائنين ، وكما قال للملك : ( وَأَنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ) .
فالنبي يوسف (عليه السلام) فرّق في الخطاب بينه وبين امرأة العزيز والملك من جهة ، وبينه وبين ربّه من جهة أخرى ، فخاطب امرأة العزيز والملك ( بالظلم ، والخيانة ) ، وأنّ الظالم لا يفلح ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، وخاطب ربّه تعالى بخطاب آخر وهو أنّ الصبوة إليهن من الجهل .
فيتضح من هذه الآية أن منشأ العصمة هو العلم .
2 ـ قوله تعالى : ( وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْ‏ءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) (7) .
وهذه الآية واضحة الدلالة على أنّ المنشأ الرئيس للعصمة هو العلم الذي أنعم الله به على الأنبياء (عليهم السلام) ، فالآية أشارت إلى أنّ المنافقين لا يتمكّنون من إضلال النبي (صلّى الله عليه وآله) أو التأثير عليه وذلك لما منحه الله تعالى من قدرات علمية خاصة جعلته في حصانة تامة من الضلال ؛ ولذا يقول الفخر الرازي في صدر تفسيره للآية : ( وهذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب )  (8) .
وهذا بدوره يكشف عن سر تركيز القرآن الكريم وتأكيده على أهمية العلم الذي يحمله الأنبياء (عليهم السلام) ، وهو العلم الذي يحمل في طيّاته خصائص ومميّزات عديدة تؤهّل الإنسان لأن يكون نبيّاً مرسلاً من الله تبارك وتعالى .
قال تعالى حكاية عن النبي يوسف (عليه السلام) : ( وَلَمّا بَلَغَ أَشُدّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (9) ، وقال تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً ) (10) .
أمّا حقيقة هذا العلم ـ كما ستأتي الإشارة إليه في مبحث علم الإمام ـ هو سنخ علم ليس كالعلوم التي يتعلّمها الناس ، وإنّما هو علم يلقيه الله تعالى على قلب مَن يشاء ، وهو من سنخ العلم الذي كان وصي سليمان ( آصف بن برخيا ) يتصرف في التكوين بواسطته ، مع أنّه كان عنده بعض هذا العلم لا كلّه ، كما في قوله تعالى : ( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (11) .
ومن الواضح أنّه تعالى قال : ( عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ ) فإنّ ( من ) تفيد التبعيض ، وبهذا البعض من العلم استطاع نقل عرش بلقيس من مملكتها إلى مقام سليمان في لحظة واحدة .
وعلى هذا الأساس ، فإنّ هذا السنخ من العلم كلّه موجود عند أهل البيت وسنشير إلى جملة من الشواهد الروائية التي تثبت ذلك في مبحث (علم الإمام) ، ونكتفي هنا بالإشارة لروايتين فقط .
الرواية الأولى : أخرج القندوزي الحنفي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : ( علم الكتاب والله عندنا وما أعطي وزير سليمان بن داود ، إنّما عنده حرف واحد من الاسم الأعظم ، وعلم بعض الكتاب كان عنده ... وقال في علي (عليه السلام) ومن عنده علم الكتاب وعلم بعض الكتاب سمّاه عنده الكتاب ) (12) .
وعنه (عليه السلام) أيضاً عن آبائه (عليهم السلام) أنّه قال : ( ألا وإنّا أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ) (13) .
الرواية الثانية : ما أخرجه ابن المغازلي عن علي (عليه السلام) قال : قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( أعطينا أهل البيت سبعةً لم يُعطَها أحدٌ قبلنا ، ولا يعطاها أحد بعدنا : الصباحة والفصاحة والسماحة والشجاعة والحلم والعلم والمحبّة من النساء ) (14) .
إذن هذا العلم الخاص إفاضة منه تعالى لأهل البيت (عليهم السلام) وهو منشأ عصمتهم ، مضافاً إلى جملة وافرة من الأدلة العقلية والنقلية الدالة على عصمتهم (عليهم السلام) .
صلّى الله عليه وآله) في بيانه لأحكام الدين والعمل لهداية الناس إلى مصالحهم الواقعية وتزكية الناس وتربيتهم على الكمال اللائق بهم وحفظ التشريع عن التحريف والزيادة والنقصان .
وعلى هذا يعود الدليل الدال على عصمة النبي (صلّى الله عليه وآله) بعينه ليكون دليلاً على وجوب عصمة الإمام .
فالدليل العقلي القائم على عصمة النبي ، من أنّه لو جاز على النبي (صلّى الله عليه وآله) الخطأ والمعصية ، مع أنّ الله تعالى أمر باتباعه والاقتداء به والانصياع والطاعة لإوامره ، فإنّ هذا يعني أنّ الله تعالى جوّز لنا ارتكاب المعصية والخطأ الذي يصدر من النبي ، وهذا محال لأنّ الله تعالى لا يأمر بالمعصية والانحراف عن المسار الصحيح الذي رسمه للبشرية .
إذن بالنظر إلى موقعية الإمام من الدين وكونه حافظاً للشريعة وقيّماً عليها لابد من القول بعصمته ، كما هو الحال بالنسبة للنبي (صلّى الله عليه وآله) ، فحيث لا يخامرنا الشك بعصمة النبي (صلّى الله عليه وآله) وأنّها أمر واضح ، وخلافها لا ينسجم مع الحكمة الإلهية ، فكذلك الإمام بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) للسبب ذاته .
وبذلك يتضح ضرورة عصمة الأئمّة (عليهم السلام) بعد النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وأنّها واجبة كعصمة النبي (صلّى الله عليه وآله).
مضافاً إلى أنّه لو افترضنا إمكان صدور الخطأ أو الوقوع في الذنب من النبي أو الإمام فإنّ هذا بدوره يؤدّي إلى إنكار الآخرين عليه ونفورهم منه ، وهو أمر ينافي ويضادد ما أمر الله تعالى به من طاعته ، وبالتالي يؤدّي الإنكار عليه إلى تفويت غرض الله تعالى من وصول الناس إلى كمالهم المرسوم ، الناتج عن طاعتهم للنبي أو الإمام .

الأدلة القرآنية على عصمة الأئمّة (عليهم السلام)
يطالعنا القرآن الكريم بعدّة من الآيات الصريحة الدالة على عصمة الأئمّة (عليهم السلام) :
الآية الأُولى : قوله تعالى ( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمّهُنّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (15) .

بيان الاستدلال :
لا ريب أنّ الظالم في منطق الشريعة هو كل مَن يعصي الله تعالى ؛ لأّنه ظالم لنفسه على أقل تقدير ، أمّا العهد في الآية المباركة فالمراد منه الإمامة ، بقرينه قوله تعالى في نفس الآية : ( إِنّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً ) ، فالظالم المرتكب للمعصية في أي فترة من فترات حياته لا يمكن أن يكون إماماً .
وربّما يُعترض على ذلك بالقول : إنّ الإنسان قد يرتكب في شوط من أشواط حياته معصية ما ، وقد يكون ظالماً لنفسه في مرتبة من مراتب عمره ثم يتوب ، فما المانع من أن يشمله اللطف الإلهي بالإمامة ؟

والجواب عن ذلك بالبيان التالي :
يمكننا تصنيف الناس إلى أربعة أصناف لا خامس لها :
الصنف  الأول : مَن كان ظالماً من أوّل عمره إلى آخره .
الصنف الثاني : مَن كان ظالماً في بداية عمره فحسب ، وكان تائباً مؤمناً في أواخر حياته .
الصنف الثالث : مَن كان مؤمناً أوّل عمره ، ظالماً في آخره .
الصنف الرابع : مَن كان في كل مراحل حياته مؤمناً من أوّلها إلى آخرها.
وبالعودة إلى إبراهيم ودعائه وطلبه الإمامة لذرّيته نجد أنّه من غير المعقول أن يطلب الإمامة لمَن كان ظالماً في جميع عمره أو ظالماً آخر عمره وإن كان في أوّله مؤمناً ، وهذا واضح .
إذن يبقى الصنف الثاني والثالث هما اللذان طلب إبراهيم (عليه السلام) لهما الإمامة ، وقد نصّ الله تعالى في الآية المباركة على أنّ العهد والإمامة لا ينالها الظالم ، وينحصر المقصود بالظالم لا محالة بالصنف الثاني ، وهو مَن يكون ظالماً في بداية عمره فحسب ، وتائباً في آخر حياته .
وحينئذٍ يبقى الصنف الرابع وهو مَن كان مؤمناً في طول حياته ، وهو المعصوم عن الخطأ .
لا سيّما مع الالتفات إلى أنّ النبي إبراهيم من أنبياء أُولي العزم ، وقد تحدّث القرآن الكريم عن خلقه وأدبه مع الله تعالى في الطلب والمسألة .
كما في قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاّ عَن مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَدُوّ للهِ‏ِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيمٌ ) (16) .
فالنبي إبراهيم (عليه السلام) تبرأ من عمّه آزر بعد اطلاعه وعلمه بأنّه عدو لله .
إذن إبراهيم (عليه السلام) يتبرأ من كل عدو وعاص لله تعالى ؛ لأنّ العاصي هو عدو لله بمرتبة من المراتب ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل ظالم لنفسه ولو مرة واحدة في حياته يخرج عن محوطة دعاء إبراهيم (عليه السلام) له ، بعد أن أعلمه الله تعالى بأنّ هذا الصنف غير مستحق لعهد الإمامة ، وبذلك يخرج كل مَن كان ظالماً لنفسه في أي مقطع من مقاطع حياته ، فيبقى القسم الرابع وهو مَن كان غير ظالم من أوّل عمره إلى آخره .
إذن الآية الشريفة تدل بكل وضوح على عصمة كل مَن ينال ويستحق مقام الإمامة منذ اليوم الأول ، فلابد أن يكون الإمام معصوماً قبل الإمامة وبعدها .
وبذلك تدل الآية المباركة على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) ، بعد ثبوت إمامتهم للأُمّة بالأدلة القرآنية والروائية المذكورة في محلّها .
الآية الثانية : قوله تعالى : ( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (17) وهذه الآية المباركة تبيّن كيفية تعلّق إرادة الله تعالى بإذهاب الرجس عن أهل البيت (عليهم السلام) وأن يكونوا مطهّرين معصومين ، ولمّا كانت إرادة الله تعالى لا تنفك عن مراده سبحانه فإنّ الذي أراده الله تعالى وهو تطهير أهل البيت (عليهم السلام) واقع لا محالة .
وقد نوقش الاستدلال بالآية في قوله تعالى ( إنّما يريد ... ) فإنّه إما يقصد الإرادة التشريعية وهي تتخلّف عن المراد ، مضافاً لعدم اختصاصها بأهل البيت (عليهم السلام) ، حيث إنّ الله تعالى أراد من الناس كافة أن يطّهروا بأن يكونوا طائعين مهتدين سائرين في طريق الكمال ، ونهاهم عن الرجس وارتكاب المحرمات كشرب الخمر والفسق والفجور وغيرها ، فهذه الإرادة التشريعية تعلقت بكل البشرية ولا خصوصية لها بأهل البيت (عليهم السلام) .
وإمّا أن تكون تلك الإرادة تكوينية وقد تعلقت بطهارة أهل البيت (عليهم السلام) فهذا يعني أنّهم مطهّرون جزماً ، إذ يستحيل أن تتخلّف إرادة الله التكوينية عن المراد ، لكن الملاحظة التي تقف بوجه هذا التقريب من الاستدلال ، هي أنّ هذا هو الجبر بعينه ، وأنّ أهل البيت (عليهم السلام) مجبورون عن الابتعاد عن الرجس بإرادة الله التكوينية التي لا تتخلف عن المراد ، وهذا يعني أنّ عصمة أهل البيت (عليهم السلام) ليست شرفاً أو مدحاً لهم ؛ لأنّ العصمة لم تكن باختيارهم .
والجواب على ذلك سيأتي مفصّلاً في مبحث علم الإمام بالغيب ، إلاّ أنّه يمكننا أن نكتفي بالإشارة المفهمة للجواب ، فنقول : حيث إنّ الله تعالى عالم بكل شيء لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض ولا في السماء ، فهو يعلم بأفعال عبيده قبل خلقهم ويعلم ما يصدر من الإنسان قبل أن يخلقه ، ومحيط بما هو صائر إليه .
وعلى هذا الأساس : فإنّ الله تعالى لمّا علم من هؤلاء النفر وهم أهل البيت (عليهم السلام) بأنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة المطلقة لله سبحانه أعانهم على ذلك ، وأراد لهم من الطهارة ما يتناسب مع ما علمه من إرادتهم ؛ لأنّه علم منهم أنّهم لا يريدون لأنفسهم إلاّ الطاعة ، فلم تتعلّق إرادته التكوينية بعصمتهم إلاّ بعد العلم بأنّهم سوف لا يكون لهم همّ إلاّ الطاعة والعبودية .
وقد ركّزت الآيات القرآنية على هذه الحقيقة ، كما في قوله تعالى :
( كُلّاً نمدّ هؤُلاَءِ وَهؤُلاَءِ ) (18) وقوله عزّ وجلّ : ( وَإِن من شَيْ‏ءٍ إِلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (19) وقوله تعالى : ( أَنزَلَ مِنَ السّماءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةُ بِقَدَرِهَا ) (20) ، وهكذا قوله تبارك وتعالى : ( إِنّا هَدَيْنَاهُ السّبِيلَ إِمّا شَاكِراً وَإِمّا كَفُوراً ) (21) .
إذن فالمسألة لا ترجع إلى اختيار جزافي بل تتحرّك في إطار هادف ، وعلمه تعالى بهم صار منشأ لهذه الإرادة التكوينية ؛ وبذلك يتبين عدم التنافي بين كون الله تعالى علم منهم أنّهم يريدون طاعة الله باختيارهم ، وبين تعلّق إرادته عزّ وجلّ التكوينية بتطهيرهم وإذهاب الرجس عنهم ، النابع عن ذلك الاختيار بعد علم الله تعالى به ، ويمكن استظهار ما ذكرناه من الآية ذاتها ، حيث إنّها عبرت بـ ( إنّما يريد ) ومن الواضح أنّ الفعل المضارع دالّ على الاستمرارية ، أي أنّ النفر والأشخاص الذين أخبرت الآية عن عصمتهم متصفون بهذه الصفة على الدوام والاستمرار ، وهذا لا ينطبق إلاّ على العترة خاصة دون سواهم ، مع مطابقة ذلك التسديد الإلهي لما يريدونه من الطهارة حيناً فحيناً .
فالآية المباركة تدل على عصمة أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد تقدّم (22) ما يدل على عدم مشاركة غير أهل البيت في الآية الشريفة ، وهنالك قرائن قطعية وشواهد روائية صريحة تؤكّد على انحصار هذه الآية الشريفة بأهل البيت (عليهم السلام) .
ومنها مثلاً اهتمام وحرص الرسول (صلّى الله عليه وآله) على تشخيص عنوان أهل البيت (عليهم السلام) بالعترة الطاهرة والمنع من استعمال هذه الكلمة في غير عترته (عليهم السلام) وإدخال المسيء فيهم ، وقد جاء ذلك في روايات كثيرة ، منها :
ما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال : ( ادعوا لي ، ادعوا لي ، فقالت صفية : مَن ؟ قال (صلّى الله عليه وآله) : أهل بيتي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ، فجيء بهم فألقى عليهم النبي (صلّى الله عليه وآله) كساءه ، ثم رفع يديه ، ثم قال : اللّهمّ هؤلاء آلي فصلّي على محمد وعلى آله محمّد ، وأنزل الله عز وجلّ ، ( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (23) ، ثم يؤكّد (صلّى الله عليه وآله) هذا الحصر والتشخيص بقوله: ( اللّهمّ هؤلاء آلي فصل على محمّد وآل محمّد ) ، فنزّل الله تعالى فيهم قرآناً محكماً ، وهو قوله تعالى: ( إِنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ولا يخفى ما في هذه الكلمة : ( اللّهمّ هؤلاء آلي ) من الدلالة على حصر أهل البيت .

الأدلة الروائيّة
أوّلاً : حديث الثقلين
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال : ( إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... ) (24) ، وأوّل سؤال يطالعنا في هذا المجال : هل صدر هذا الحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أم لا ؟
والجواب : إنّ هذا الحديث ما لا شك في صدوره عن النبي (صلّى الله عليه وآله) ، وقد نقله أهل السنّة ، وروه في كتبهم أكثر من نقل الشيعة له .
وهذا الحديث وإن قيل إنّه صدر بصيغة ( وسنّتي بدل وعترتي ) إلاّ أنّه لا تنافي بينهما ؛ لأنّ العترة هي في موقع بيان السنّة ، فالعترة هي المبيّن الواقعي للسنّة ، وإنّ السنّة بتمامها لدى العترة ، وفحوى ( كتاب الله وعترتي ) يتمثّل بوجوب تلقيّنا السنّة عن العترة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى أنّه إذا كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد صرّح بعبارة ( وسنّتي ) في موطن واحد فإنّه قد نطق بصيغة ( كتاب الله وعترتي ) في مواطن متعددة ومتواترة (25) .

دلالة الحديث على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)
فمن الملاحظ أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد حثّ أُمّته على الالتزام والتمسّك بالثقلين ، وأخذ دينهم من هذين المصدرين : ( الكتاب والعترة ) ، فكما أنّ القرآن معصوم عن الزيغ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ بلا خلاف في ذلك ـ كذلك يكون العدل الآخر له معصوماً أيضاً ؛ لأنّه من المحال أن يدعو النبي (صلّى الله عليه وآله) إلى أخذ الدين من مرجع بشكل حاسم ، ثم يتخلّل الخطأ والسهو والزيغ بعض كلام ذلك المرجع .
فالعترة مرجع إلهي عيّنه الله تعالى لهذا الموقع إلى جوار القرآن الكريم بالنحو الذي لا يمكن الأخذ بأحدهما دون الآخر ، وإلاّ سوف ينتهي الأخذ بأحدهما دون الآخر إلى الضلال .
وعليه فإنّه من المحال أن يدعو الله تعالى ورسوله إلى مصدر ومرجع في حال يمكن فيه المعصية والخطأ والاشتباه ؛ لأنّ ذلك يعني تجويز الله سبحانه وتعالى المعصية والخطأ ، وهو أمر مستحيل ، وعلى هذا الأساس يتعيّن القول بعصمة أهل البيت (عليهم السلام) .

ثانياً : النص على العصمة والطهارة

كما في قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : ( أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون ) (26) .
وهو صريح الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيت (عليهم السلام) .

ثالثاً : طاعتهم طاعة لله ولرسوله (صلّى الله عليه وآله)
قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) : ( مَن أطاعني فقد أطاع الله ومَن عصاني فقد عصا الله ، ومَن أطاع عليّاً فقد أطاعني ، ومَن عصا عليّاً فقد عصاني ) (27) .
ومن مميّزات هذا الحديث أنّ الذهبي الذي هو إمام النقد والتجريح عند السنّة ، والذي عمل كل ما يستطيع لإسقاط عمدة أحاديث فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ، قد صحّح هذا الحديث ، ففي هذا الحديث النبوي الكريم أصل وفرع ، وشجرة وثمرة فالأصل والشجرة هو النبي (صلّى الله عليه وآله) والفرع هو علي (عليه السلام) ، وهذا الحديث واضح الدلالة في عصمة الإمام علي (عليه السلام) ؛ لأنّه يدل على أنّ إرادة علي (عليه السلام) لا يمكن أن تتخلّف عن إرادة الله تعالى ، ولا تتخلّف كراهته عن كراهته الله تعالى ، ولو أمكن أن تتخلّف لكان قوله : ( ومَن أطاعه فقد أطاع الله ) خطأ واشتباهاً ، والعياذ بالله .
وحيث تثبت عصمة الإمام علي (عليه السلام) تثبت عصمة بقيّة أهل البيت (عليهم السلام) ؛ لأنّهم نور واحد وورثة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخلفاؤه كما هو واضح .
ثم إنّه بعد ثبوت العصمة لأهل البيت (عليهم السلام) في العقل والقرآن والسنّة ، لا يبقى مجال لدعوى الغلو في مبدأ العصمة لأهل البيت (عليهم السلام) .

الخلاصة
إنّ عصمة أهل البيت (عليهم السلام) أمر لا يمكن التردد فيه بعد الوقوف على حقيقة العصمة والأدلة القرآنية والروائية .
فالعصمة لغةً : المنع والوقاية أي إنّ العصمة مَلَكة تمنع صاحبها من ارتكاب المعصية ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي للعصمة .

منشأ العصمة
إنّ منشأ العصمة هو العلم ، إلاّ أنّه ليس العلم العادي الموجود عند جميع أفراد البشر المسمّى بالعلم الحصولي ، بل هو سنخ علم خاص يفيضه الله تعالى على قلب من يشاء من عباده ، وقد أشارت إلى هذا النمط من العلم عدة من الآيات القرآنية ، كما هو الحال في قضية وصي سليمان آصف بأقل من طرفة عين ، كما في قوله تعالى : ( قَالَ الّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذَا مِن فَضْلِ رَبّي ) (28) .
ولا ريب أنّ هذا السنخ من العلم ، هو في صدور أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد تقدّمت عدّة شواهد وأدلة على ذلك .
إذن منشأ وسبب العصمة إنّما هو العلم الخاص الذي عند أهل البيت (عليهم السلام) .

الدليل العقلي على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)
إنّ الدليل القائم على عصمة النبي (صلّى الله عليه وآله) هو بعينه يكون دليلاً على عصمة خلفاء النبي وهم أهل البيت (عليهم السلام) ؛ وذلك لأنّ خطورة دور الإمام وكونه حافظاً للشريعة وقيّماً عليها يوازي خطورة الدور النبوي ، فلو كان الإمام غير معصوم ويخطأ ويعصي مع أنّ الله تعالى ورسوله أمرنا باتباعه فهذا يعني تجويز الله لنا بارتكاب المعصية ، وهو محال .
الأدلة القرآنية على عصمة الأئمّة (عليهم السلام)
هنالك عدة آيات قرآنية يستدل بها على العصمة :
منها : قوله تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلَى‏ إِبْرَاهِيمَ ... ) (29) .
فالآية المباركة تدل بكل وضوح على أنّ مَن ينال منصب الإمامة لابد أن يكون معصوماً قبل تقلّد الإمامة .
كذلك قوله تعالى : ( إنّما يريد الله ليذهب ... ) التي لا يشك في اختصاصها بأهل البيت (عليهم السلام) .
الأدلة الروائية على عصمة أهل البيت (عليهم السلام)
منها : حديث الثقلين : ( إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) .
حيث أكّد الرسول (صلّى الله عليه وآله) على لزوم التمسّك بالكتاب والعترة على هذا الأساس ، فلو لم تكن العترة معصومة ، لا يمكن أن يأمر الرسول بلزوم اتباعها ، مضافاً إلى عدة أحاديث أخرى .
ـــــــــــــــــ
(1) القاموس، الفيروزآبادي : ج 4 ص 151 .
(2) كتاب العين ، الخليل أحمد الفراهيدي : ج 1 ص 313 .
(3) لسان العرب ، ابن منظور : ج 12 ص 403 .
(4) مختار الصحاح ، محمد بن عبد القادر : ص 230 .
(5) النحل : 78 .
(6) يوسف : 33 .
(7) النساء : 113 .
(8) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : مج 6 ، ج 11 ص 40 .
(9) يوسف : 22 .
(10) النمل : 15 .
(11) النمل : 40 .
(12) ينابيع المودة ، القندوزي : ج 1 ص 306 .
(13) شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : ج 1 ص 267 ؛ جواهر المطالب في مناقب الإمام الجليل علي بن أبي طالب : أحمد بن محمد الدمشقي الشافعي : ج 1 ص 343 ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج 1 ص 80؛ ج 3 ص 408 .
(14) مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ابن المغازلي : ص 295 ، ط 2 .
(15) البقرة : 124 .
(16) التوبة : 14 .
(17) الأحزاب : 33 .
(18) الإسراء : 20 .
(19) الحجر : 21 .
(20) الرعد : 17 .
(21) الإنسان : 3 .
(22) راجع : بحث آية التطهير السابق عند ردّ شمولها لبني هاشم عامة .
(23) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج 3 ص 148 والآية 33 من سورة الأحزاب .
(24) المعجم الكبير ، الطبري : ج 5 ص 170 ص 186 ؛ تفسير ابن كثير : ج 4 ص 122 ؛ قال فيه : ( وثبت في الصحيح أنّ الرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال في خطبة بغدير ... ( الحديث ) ، ونحوه صحيح مسلم : ج 4 ص 1873 ؛ ونحوه مجمع الزوائد : ج 9 ص 162 ـ 163، وقال فيه : ( رواه أحمد وإسناده جيد ) ؛ الصواعق المحرقة : ص 341 ، ونحوه صحيح الترمذي : ج 5 ص 329 ؛ ونحوه السنن الكبرى ، النسائي : ج 5 ص 45 .
(25) المعجم الكبير ، الطبراني : ج 5 ص 170 وص 186 ؛ السنن الكبرى ، النسائي : ج 5 ص 45 وص 130 وغيرها من المصادر .
(26) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج 2 ص 316 وج 3 ص 291 وص 384 .
(27) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج 3 ص 121 ؛ وقال فيه : ( حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه )   .
(28) النمل: 40 .
(29) البقرة : 124 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page