• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عقدة الحقارة

المحاضرة الثانية والعشرون
عقدة الحقارة

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( ... ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ) (1).
تهدف المناهج الدينية والعلمية في تربية الطفل الى الإهتمام بجسده وروحه اهتماماً بالغاً. وكما أن جسد الطفل وروحه مرتبطان ارتباطاً وثيقاً فإن الصلة وثيقة أيضاً بين تربيته البدنية والروحية. وكما أن الحالات النفسية تؤثر في الجسم، والجسد يؤثر في الروح، فإن العناية بصحة الجسم أو إهمالها تترك أثراً مماثلاً على الوضع الروحي والعكس بالعكس. وكما أن جسد الصبي يصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في المواد الغذائية أو الإفراط فيها كذلك روحه فإنها تصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في الحنان والعناية أو الإفراط في ذلك.
يجب عن الآباء والامهات الذين ياخذون على عاتقهم تربية أطفالهم أن يهتموا في جميع مراحل حياة الطفل الى المصالح الجسمية والروحية جنباً الى جنب، ويحاولوا إرضاء الغرائز التي تتعلق بها حسب منهج مستقيم.

المحاضرة الثانية والعشرون
عقدة الحقارة

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( ... ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ) (1).
تهدف المناهج الدينية والعلمية في تربية الطفل الى الإهتمام بجسده وروحه اهتماماً بالغاً. وكما أن جسد الطفل وروحه مرتبطان ارتباطاً وثيقاً فإن الصلة وثيقة أيضاً بين تربيته البدنية والروحية. وكما أن الحالات النفسية تؤثر في الجسم، والجسد يؤثر في الروح، فإن العناية بصحة الجسم أو إهمالها تترك أثراً مماثلاً على الوضع الروحي والعكس بالعكس. وكما أن جسد الصبي يصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في المواد الغذائية أو الإفراط فيها كذلك روحه فإنها تصاب بالإنحراف نتيجة النقصان في الحنان والعناية أو الإفراط في ذلك.
يجب عن الآباء والامهات الذين ياخذون على عاتقهم تربية أطفالهم أن يهتموا في جميع مراحل حياة الطفل الى المصالح الجسمية والروحية جنباً الى جنب، ويحاولوا إرضاء الغرائز التي تتعلق بها حسب منهج مستقيم.

الإحساس بالحقارة :

الإحساس بالحقارة أحد الحالات النفسية الشاذة التي قد تصيب الإنسان منذ الأدوار الأولى من حياته. فإن اشتدت هذه الحالة الروحية وأوغلت في الضمير الباطن.
ظهرت بصورة عقدة نفسية ربما جرت وراءها سلسلة من الآثار الوخيمة والنتائج المؤلمة والمآسي الكثيرة.
" عندما يستمر الصراع الروحي بين شخص ما وعقدة معينة فإن الاعصاب تفقد قدرتها بالتدريج ويصاب الإنسان بمرض خاص.
من الواضح أن هذا الضعف الحاصل في الاعصاب نتيجة للالتهابات والإثارات الروحية، وليس وليد الضعف الصحي. أي أنه رد فعل روحي قبل أن يكون رد فعل جسمي. ولذلك فإنه لا يعالج بالتنزه واستعمال الأدوية والعقاقير... فكل علاج لا يعدو أن يكون موقتاً، إلا أن يحدث تغيير جذري في أسلوب تفكير الشخص ".
" في خضم هذا الوضع، يبلغ الصراع الروحي في الإنسان درجة لا تستطيع الأعصاب معها أن تقاوم، فهي قد استنفدت قدرتها على المقاومة، وتكون النتيجة أن يصاب الإنسان بالصرع والرعشة العصبية ".
" إن العوارض الظاهرية لهذه الحالة المضطربة عبارة عن انقباض العضلات والأرق والضعف المفرط... وإذا حاولنا البحث عن رابطة العلية والمعلولية لهذه الظواهر فإن جذورها توجد في حوادث دور الطفولة أوالحوادث القريبة الوقوع. لا شك في أن اكتشاف علة ذلك أمر عسير جداً لأنه يقع بواسطة تمحيص القوى الباطنية للمريض فقط. وأحياناً نجد جذوره في الإستياء من تحقير سابق أو محالة مجابة ذلك. وفي أحيان أخر توجد جذوره في الخوف من انهيار الشخصية وفقدان السمعة " (2)

إنهيار الشخصية :

إن الحوادث المؤلمة والخواطر المرة التي تحطم شخصية الفرد، وتوجه ضربة قاصمة اإلى أنانيته وغروره الذاتي تؤدي الى إحساسه بالحقارة. قد يولد الاحساس بالحقارة على أثر الاهانة أوالضرب المبرح ولكنه يزول بعد عدة ساعات أو بضعة أيام... في حين توجد عوامل ثابتة ورصينة تتسبب أحياناً في إيجاد الشعور بالحقارة فينفذ هذا الشعور الى الأعماق، ثم يتحول إلى عقدة الحقارة ويلازم المريض بصورة مرض مزمن :
هناك عوامل وأسباب كثيرة تتسبب في إيجاد هذه العقدة النفسية. من ذلك العاهات العضوية، والنقائص التربوية.
" يرى ( آدلر ) أن عقدة الحقارة توجد في الغالب عند ثلاث طوائف من الأشخاص :
1 ـ ذووالعاهات العضوية، أي الأفراد المصابون ينقص عضوي منذ الطفولة. هذا النقص يتسبب في أن يرى الطفل نفسه دون مستوى الآخرين دائما، وهذا ما يلاحظ بوضوع عند الطفل المصاب بشلل، فإنه يحرم من اللعب مع مجموعة الأطفال ".
" 2 ـ الأفراد الذين يخضعون منذ الصغر الى رقابة مشددة من قبل الوالدين، ويمكن تقسيم هذه الطائفة بدورها الى صنفين :
أ ـ الأطفال المدللون ـ وهم الذين يقابلون بالحنان المفرط والعناية البالغة لأنفرادهم واستئثارهم بمحبة الوالدين.
ب ـ الأطفال المكبوتون. وهم الذين يلاقون ضغطاً شديداً، وكلما حاولوا إثبات وجودهم وجدوا الكبح والقمع من الكبار الذين يضطرونهم للسكوت والتزام الصمت ".
" 3 ـ الأطفال المهملون، فالاطفال الذين كان نصيبهم من العناية قليلا منذ الصغر يشعرون بأنهم أفراد تافهون في المجتمع، عديمو الفائدة " (3).

العاهات العضوية :

إن من أعظم النعم الإلهية سلامة ولادة الطفل. فالطفل الذي يتولد سالماً طبيعياً، ذا روح مستوية وهندام منسجم يكون قد نال 50% من سعادته حين ولادته. وإنسان كهذا يملك من ناحية البناء الطبيعي، واعتدال اخلقة، روحاً هادئة وفكراً مطمئناً. أما الطفل الذي يتولد أعمى، أو أصم، أو أشلّ، وبصورة عامة يكون ذا عاهة عضوية عند ولادته، أو تصادفه حوادث تفقد بعض أعضائه أو تقف في سبيل نموه الطبيعي، فإنه يكون شقياً ومتذمراً، يحس بالحقارة والضعفة في نفسه، وأخيراً يصاب بعقدة الحقارة. وبعبارة أخرى فإنه كما تتسبب العيوب والعاهات العضوية حين الولادة في نشوء عقدة الحقارة عند الإنسان، كذلك العمى والصمم والبكم الحاصل للإنسان بعد أعوام من البصر والسمع والتكلم.
قال علي (عليه السلام) : " اللهم اجعل نفسي أول كريمة تنتزعها من كرائمي، وأوّل وديعة ترجعها من ودائع نعمك عندي " (4) ويعني هذا أن يبقى سالماً عن العوارض والعاهات حتى الموت .
وللإمام الحسين (عليه السلام) من دعائه في عرفات : " ومتعني بجوارحي واجعل سمعي وبصري الوارثين مني " (5) أي تحفظني من العمى والصمم والعاهات العضوية الى آخر يوم من عمري.
" هناك أطفال يعيشون في ألم مستمر لضعف أو نقص في أجسامهم. هذا النقص يشمل مختلف الحالات كظهور خال أو بعقة صغيرة في وجه فتاة حسناء، أو تقوس الساقين، أو انحناء العمود الفقري وغير ذلك ".
" كل هذه النواقص وما يشبهها يمكن أن تؤذي الإنسان طيلة عمره وتجعله تحت ضغط ( عقدة الحقارة ) وقد تؤدي به الى الجنون والانتحار ".
" لا مناص للطفل الضعيف أو المصاب بنقص في بدنه من تحمل سخرية أقرانه وتحقيرهم إياه، فهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه للنقص الموجود فيه إلا بعدم الاعتناء بسخريتهم. ولكن هذا بحد ذاته مدعاة للذلة له، وكبت لغرائزه وجرح لمشاعره، ويسبب الشقاء والقلق له فيما بعد. لأن مشاعره المتألمة التي لم تجبر بشيء وغرائزه المكبوتة لا بد أن تؤدي في النتيجة الى القلق واضطراب الفكر ".
" يشير التحليل الذي أجري على استاذ جامعي الى أن عقدة الحقارة التي كان يكابدها قد نشأت منذ دراسته الابتدائية، وذلك أنه كان أطول التلاميذ قامة في الصف وكان يلوح دائماً ـ عند اللعب والاستراحة ـ لأعين المعلمين قبل غيره، ولذلك فإنه كان يخرج من الصف عند وقوع حادثة ليعتبر به الآخرون. وبالرغم من أن ذلك كان يحدث في احيان قليلة جداً فإنه ظل يحس بأنه قد ظلم كثيراً، وليس إلا لطول قامته فحسب " (6).

التحقير والسخرية :

يتألم الأطفال او الكهول الذين يكابدون من نقص عضو أو عيب في بناء أجسامهم من جهتين : الأولى ـ النقص والحرمان الذي يلاحظونه في أنفسهم والثانية ـ استهزاء الآخرين بهم وسخريتهم منهم.
فمثلا يرى الابكم أن الآخرين يتكلمون ويلتذون من محاوراتهم فيما بينهم لكنه بسبب العيب الموجود في لسانه عاجز عن النطق، فشعوره بهذا العجز يجعله تحت ضغط روحي فيحس بالضعة والحقارة، ويتألم من حرمانه هذا وتألمه الآخر ناتج من تحقير الأفراد السالمين إياه واستهزاءهم منه... ذاكرين عجزه ذاك بصورة إهانة وتحقير. ولعل هذا الألم الناشيء من استهزاء الناس منه اكثر من أمله الناجم من شعوره بالنقص والحرمان.
عاش الجاحظ (7) في القرن الثالث الهجري، وله كتب وآثار كثيرة. ولقد كان قبيح المنظر جداً، مقرباً عند الخلفاء العباسيين لعدواته لعلي بن أبي طالب (عليه السلام). وقد قال يوماً لتلاميذه : إنه لم يخجلني طيلة عمري أحد كما فعلت امرأة ثرية، فقد لقيت امرأة في بعض الطرق وسألتني في أن أصحبها ففعلت. حتى أتت بي الى محل صائغ للتماثيل، وقالت له مشيرة إلي : كهذا الشيطان... فبقيت حائراً من أمرها، ولما انصرفت سألت الصائغ عن القصة، فقال : لقد استعملتني هذه المرأة لأصوغ لها تمثال شيطان. فقلت لها : إني لم أر الشيطان كي أصوغ تمثاله، فطلبت مني أن انتظر حتى تجيء لي بتمثاله... واليوم جاءت بك إليّ وأمرتني أن أصوغه طبق منظرك " (8).
القاضي الدميم :
ونموذج آخر ي السخرية بالاشخاص المصابين ببعض العيوب الظاهرية نجده في قصة القاضي المصري رشيد بن الزبير. فقد كان من القضاة الماهرين والكتّاب العظام في عصره، وكان ذا خبرة كافية في علوم الفقه والمنطق والنحو والتأريخ... عاش في القرن السادس الهجري. لقد كان ذا قامة قصيرة، أسود اللون، ذا شفتين غليظتين، وأنف كبير، ومنظر قبيح جداً. كان يعيش في شبابه في القاهرة، ويسكن مع عبد العزيز الأدريسي وسليمان الديلمي في بيت واحد.
فخرج يوماً وتأخر في العودة الى منزله، وعندما عاد سأله زملاؤه عن سبب تأخره فأبى يجيبهم حتى الحوا عليه فقال : كنت أعبر من المحل الفلاني فصادفت امرأة ذكية جميلة، كانت تنظر إلى بعين الرأفة والعطف، فذهلت من شدة الفرح، وبت أرقب سيرها فأشارت إليّ بطرف عينها فتبعتها في السكك الواحدة بعد الاخرى، حتى انتهينا الى دار، ففتحت الباب ودخلت، وأشارت إلي بالدخول دخلت، فكشفت النقاب عن وجهها وإذا به قطعة من القمر... لم تمض فترة طويلة حتى صفقت بيدها ونادت باسم فتاة، فإذا بطفلة في غاية الجمال نزلت من الطابق العلوي، فخاطبتها المرأة قائله : لو تبولت في فراشك هذه المرة فسأعطيك الى هذا القاضي ليأكلك، فبلغ الخوف والهلع من الطفلة مبلغة وبلغ الارتباك والاضطراب مني مبلغه أيضاً. ثم إلتفتت إلي قائلة : لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه... فخرجت من الدار مطأطئاً برأسي خجلاً، ولفرط ما أصابني من خجل وذهول، ولشدة تأثري تهت الطريق الى البيت، وبقيت أجوب الأزقة... ولهذا تأخرت في العودة " (9).
لقد تمكن العلم الحديث في تقدمه وإزدهاره من اصلاح بعض العاهات العضوية كإرجاع العيون التي بها حول الى وضعها الطبيعي، وردّ الأنوف القبيحة جميلة، وتقويم السيقان المتقوسة، وترميم شقوق الشفاه. والخلاصة : ان الجراحين يجرون عمليات جراحية على بعض الأعضاء بحيث تأخذ شكلاً طبيعياً جميلاً، ويرتاح المصاب ببعض العيوب الظاهرية من الشعور بالحقارة والتعاسة. في حين توجد عيوب ونقائص لم يتوصل العلم الحديث الى علاجها وإصلاحها.
تدارك النقص :
على الأفراد الذين يكابدون نقصاً لا يقبل العلاج ويبعث فيهم الشعور بالألم والإحساس بالحقارة أن يستفيدوا من سائر أعضائهم السليمة اكبر حد ممكن، ويسعوا وراء تحصيل علم من العلوم المهمة أو فنٍ يحتاجه المجتمع بحيث يتمكنون من إحرازه ونيل مقام شامخ فيه، وعندئذ لا شك في أن الكمال الذي يحصلون عليه بواسطة العلم يكون سببا لجمالهم الاجتماعي، ويخفي نقصهم العضوي، ويمنع من انتباه الناس الى عيوبهم.
فكم من أفراد حرموا نعمة البصر أو السمع أو النطق، أو كانت فيهم نقائص أخرى لم يلتفتوا الى ذلك وراحوا يجدّون بكل رغبةٍ وشوق وراء الثقافة حتى أحرزوا مكانة سامية في المجتمع وعاشوا حياتهم بكل عز وفخر. فلقد تمكن هؤلاء بفضل مثابرتهم من إنقاذ أرواحهم من الشعور بالحقارة، أو الحد من هذا الشعور نسبياً.
إن المصيبة العظمى لذي النقائص والعاهات إنما هي تحقير الناس واستهزاءهم، فان السخرية والاهانة والتقريع والكلمات البذئية تعتبر سهاماً مسمومة تصيب قلوب هؤلاء من الإحساس بالحقارة فيهم، وبالتالي تجعل العيش عليهم مراً وجحيماً لايطاق.
... والحل الوحيد للتخلص من ذلك كله تهذيب اخلاق المجتمع وإيجاد السجايا الفاضلة فيه.
في البلاد التي يتحلى شعبها بالصفات الفاضلة، والشعوب التي يقوم الأفراد فيها بواجباتهم الخلقية خير قيام لا يحتقر الأعمى أو الابكم او الأشل أو غيرهم من أصحاب الأمراض والآفات، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم، فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرهم على قلوب المصابين الجريحة فإنهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم أكثر. بواجباتهم الخلقية خير قيام لا يحتقر الأعمى أو الابكم أو الأشل أو غيرهم من أصحاب الأمراض والآفات، ولا يصدر من الأفراد ما يزيد من آلامهم، فالرجال المحسنون هم الذين إن لم يتمكنوا من وضع مرهم على قلوب المصابين الجريحة فإنّهم لا يشمتون بهم ولا يزيدون مصيبتهم عليهم اكثر.

النظرة المؤلمة :

لقد منعت التعاليم الخلقية في الإسلام الاستهزاء والاهانة واللوم والشماتة مطلقاً وحذّر علماء المسلمين الناس من هذه الصفات الذميمة. ولقد وردت أخبار في خصوص المصابين وذوي العيوب والنقائص الجسمية، وفي أسلوب المعاشرة معهم، بحيث لو طبقت وروعيت لما تأثر المصابون في المجتمع، ولما شعروا بالحقارة.
1 ـ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : " لا تُديموا النظر الى أهل البلاء والمجذومين، فإن ذلك يحزنهم " (10).
2 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) : " لا تنظروا إلى أهل البلاء فإن ذلك يحزنهم " (11).
3 ـ وعنه (عليه السلام) : " إسماع الأصم من غير تضجر صدقة هنيئة " (12).
4 ـ وعنه (عليه السلام) أيضاً : " من نظر الى ذي عاهة، أو من قد مُثّل به، أو صاحب بلاء فليقل سراً في نفسه من غير أن يسمعه : الحمد لله الذي عافاني " (13).
إن الأعور أو المجذوم يتألم في باطنه ويحس بالحقارة، فلو أن أحداً أطال النظر إلى عضوه الناقص كان ذلك سبباً في زيادة حزنه وشعوره بالضعة. وكذا الأصم أو ضعيف السمع فإنه يتألم في نفسه ويحس بنقص كبير، فلو كلمه المتكلم بلهجة شديدة زاد تألمه أما لو كلمه بطلاقة وجه وابتسام، رافعاً صوته لإسماعه من غير أن يزجره، فذلك يترك أثراً طيباً في نفسه، أو يقلل من تأثره الشديد.
... وقد عرّف الإمام الصادق (عليه السلام) هذا الفعل بالصدقة الهنيئة.
5 ـ عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال : " كفى بالمرء عيباً أن يبصر من الناس ما يعمى عنه من نفسه، أو يعيّر الناس بما لا يستطيع تركه، أو يؤذي خليله بما لا يعنيه " (14).
إن النظر الدقيق المؤذي الى نقائص الناس لا نفع فيه، لكنه يسبب في ذي البلاء تضجراً وضغطاً روحياً وألماً. ومن عامل جليسه بهذه الصورة أظهر له بذلك سوء خلقه.
لقد ظهرت بقع بيضاء في وجه ( يونس بن عمار ) أحد أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وآلمه ذلك، إلا أنه كان يضيق ذرعاً بالكلمات المسمومة الصادبة من الناس تجاهه، فقد كانوا يقولون له : لو كنت أهلا لفضل الله وكان الدين الحق بحاجة اليك لما ابتليت بهذا الداء. فتألم يونس من ابتلائه بالمرض وكذلك من تحقير الناس وإهانتهم إياه تألماً شديداً وجاء الى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال : ان هذا الذي ظهر بوجهي يزعم الناس أن الله لم يبتل به عبداً له فيه حاجة، قال : فقال لي : لقد كان مؤمن آل فرعون مكنّع الأصابع فكان يقول هكذا ويمدّ يديه ويقول : يا قوم اتبعوا المرسلين " (15).
في هذا الحديث نجد الإمام الصادق (عليه السلام) يردّ على كلام الناس الركيك بجملة قصيرة، ويفهم يونس بن عمار ضمناً أنه يتمكن ـ كمؤمن آل فرعون ـ أن يخدم شريعة الله، وأن يكون داعية خير وصلاح بين الناس على ما هو عليه من النقص... وطبيعي أن يخفف هذا الكلام من ألم الشعور بالحقارة فيه من جهة، ويبعث فيه رجاء خدمة دين الله من جهة أخرى.
والنتيجة : ان العاهات والنقائص التي لا تقبل العلاج عامل كبير للشعور بالحقارة في الأطفال والكبار. فلو كان المجتمع الذي يعيش فيه أفراد مصابون منحطاً خلقياً، وفاقداً للتربية السليمة بحيث يحتقر أولئك الأفراد فإن شعورهم بالحقارة سيتحول الى عقدة نفسية موغلة في التعقد، ويقعون فريسة لمشاكل كثيرة.

البحث عن عيوب الناس :

لقد حذر الإسلام في تعاليمه الاخلاقية الناس من اللمز. وقد ورد ذلك بصورة صريحة في القرآن الكريم : ( ولا تلمزوا أنفسكم ).
وعلاوة على ذلك فإنه أكد على مراعاة الآداب العامة والاخلاق الفاضلة مع ذوي العاهات والنقائص. فالمسلم الواقعي لا يحتقر ولا يهين بلسانه وحركاته أحداً، ولا يؤلم قلب شخص أصلا. فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : " إن المؤمن ليسكن الى المؤمن كما يسكن الظمآن الى الماء البارد " (16).
الاسم القبيح :
والعلة الأخرى من علل الشعور بالحقارة التي تبدأ من دور الطفولة ومن الممكن أن تكون سبباً لنشوء عقدة الحقارة والتعاسة : الاسم القبيح، واللقب الكريه. إن الاسم الذي يضعه الوالدان للطفل يبقى معه إلى آخر لحظة من حياته، فلو كان قبيحاً ومنكراً كان سبباً لإيذائه في كل آن، ومعرضاً إياه لسخرية الأطفال والكبار واستهزائهم به.
يحب كل فرد أن يكون جميل الوجه، حسن الهندام، متزن الملامح، نظيف الملابس، حتى لو التقط مصور صورة جميلة له طبع منها ماءة نسخة أو تزيد، ووزعها على جميع أصدقائه للتذكار... وبالعكس لو أخذت له صورة مشوشة لم يسمح بطبعها وليس ذلك فحسب، بل انه يسعى لتحطيم الزجاجة السوداء، كي يمحو هذا الأثر السيء تماماً...
وكذلك عندما يريد أن يطبع بطاقة شخصية فإنه يصرف مبلغاً من النقود في سبيل أن يكون الخط جميلاً، والكليشة واضحة، والورق صقيلاً الى غير ذلك من المحسنات... ثم يطبع على ذلك آلاف النسخ.
كل هذا يدلنا على أن الجمال من أهم عوامل المحبة، وهو رمز السعادة والنجاح.

الإسم الجميل :

من المظاهر المهمة لدى كل انسان اسمه واسم عشيرته. فكما أن صورة كل شخص سبب لاستحضاره في اذهان الناس، كذلك اسمه فإنه يحكي عن صاحبه ويعطي صورة عنه. وكما أن الإنسان يلتذ من صورته الجميلة، ويتألم ن كانت قبيحة، كذلك يستر من الاسم الجميل ويتأذى من الأسم القبيح له أو لعشيرته. في حين أن الصورة القبيحة يمكن تمزيقها ومحوها بكل سهولة أما تغيير الأسم واللقب فهو صعب جداً.
إن الذين يمتازون بأسماء جميلة أو ينتمون الى عشيرة ذات اسم جميل يفتخرون بذلك ويذكرونه بكل ارتياح وطلاقة دون شعور بالحقارة، ولربما تفأل السامع وذكر بالمناسبة كلاماً يليق ويتلاءم مع جمال الأسم. ومثل ذلك نجده في القصة التالية :
فقد النبي محمّد صلّى الله عليه وآله أمه في ايام رضاعه، ولم يقبل ثدي مرضعة قط، وكان هذا مبعث حزن وألم في البيت الهاشمي... إلى أن جاءت حليمة السعدية فعرضت ثديها عليه فقبله وتكفلت برضاعه، عندئذ عم البيت السرور والفرح الى اقصى حد فقال عبد المطلب مخاطباً إياها.
ـ من أين أنتِ ؟
قالت : امرأة من بني سعد.
قال : ما اسمك ؟
قالت : حليمة.
قال : بخ بخ، خُلقان حسنتان... سعدٌ وحلم (17) .
أما الذين يحملون أسماء مستهجنة أو ينتمون الى عشيرة ذات نسبة قبيحة فطالما يأبون عن ذكر ذلك، وإن التجأوا الى ذكره في مناسبة ما شعروا بالخجل والضعة. إنهم يسرّون كثيراً عندما يبدل اسمهم الى اسم حسن.
عندما نلقي نظره عابرة على الأسماء المتداولة في المجتمع بين المتجددين والمتحضرين ممن يعيش في القرى والمدن نجد فيها أسماء وألقاب قبيحة قد يؤدي ذكرها والتصريح بها في هذا المجلس المزدحم الي السأم والضجر بالنسبة الى البعض، ولكني أذكر على سبيل التمثيل نموذجاً من أهل القرى والأرياف.
هناك بعض العوائل في الأرياف تسمى المولود الجديد باسم اليوم الذي ولد فيه كالجمعة والسبت. فإن بقي هذا الطفل الى آخر عمره في القرية يشتغل بالرعي فلا شيء عليه، أما لو دخل المدرسة وهاجر الى المدينة، ثم مارس الحياة الجامعية وحصل على شهادة علمية ونال مقاماً فإن ذلك الاسم القبيح يلازمه ويولد فيه عقدة الحقارة، وكلما نادوه باسم ( جمعة ) او ( سبت ) تألم لذلك بلا شك.
اختيار الاسم :
من الحقوق الدينية للأولاد على الآباء أن يختاروا لهم أسماء جميلة غير مستهجنة. وقد ورد الحث على هذا في الروايات كثيراً :
1 ـ قال النبي صلّى الله عليه وآله : " من حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه " (18).
2 ـ قال رجلٌ : يا رسول الله ما حق ابني هذا ؟ قال : " تحسن اسمه وأدبه، وتضعه موضعاً حسناً " (19).
3 ـ في حديث آخر عن النبي صلّى الله عليه وآله : " من حق الولد على والده ثلاثة : يحسن اسمه، ويعلمه الكتابة، ويزوجه إذا بلغ " (20).
4 ـ عن أبي الحسن (عليه السلام)، قال : " أول ما يبرّ الرجل ولده، أن يسميه باسم حسن. فليحسن أحدكم اسم ولده " (21).
5 ـ في وصية النبي (صلى الله عليه واله وسلم) لعلي (عليه السلام) : " يا علي، حق الولد على والده أن يحسن اسمه وأدبه " (22).
6 ـ وفي حديث آخر : " إن أول ما ينحِل أحدكم ولده : الاسم الحسن " (23).
تبديل الأسماء القبيحة :
إن الشقاء المتسبب من عقدة الحقارة لا يزول إلا بانحلال تلك العقدة حتى يتحرر الضمير الباطن من الضغط الذي يلاقيه. فالذي يحمل اسماً قبيحاً يشعر بالضعة بلا شك، والعلاج الوحيد له تغيير ذلك الاسم. فإذا وفق لذلك زال الضغط النفسي لوحده.
لقد كان الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله يغير الأسماء المستهجنة للأفراد، وكذا الاسم القبيح للبلد الذي طالما تألم المنتسب له، وبهذه الطريقة كان يتحرر الأشخاص من العقدة التي يكابدون منها الأمرّين، ويعيشون حياة ملؤها الارتياح والسكينة.
1 ـ عن الإمام الصادق عن أبيه عليهما السلام : " إن رسول الله كان يغير الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان " (24).
2 ـ عن ابن عمر : " أن إبنةً لعمر كان يقال لها عاصية، فسماها رسول الله صلّى الله عليه وآله : جميلة " (25).
3 ـ عن أبي رافع : " إن زينب بنت أم سلمة كان اسمها برّة، فقيل : تزكي نفسها فسماها رسول الله صلّى الله عليه وآله : زينب " (26).
ولقد كانت العادة جارية في القبائل العربية قبل ظهور الإسلام بتسمية اولادهم بأسماء الوحوش والجوارح، وقد كانت هذه العادة البذيئة باقية بعد الإسلام أيضاً عند بعض القبائل. وفي حديث يسأل أحمد بن هيثم من الإمام الرضا (عليه السلام) عن سبب ذلك قائلاً : " قلت له : لِمَ تسمى العرب أولادهم بكلب وفهد ونمر وما أشبه ! ذلك ؟ قال : كانت العرب أصحاب حرب وكانت تهول على العدو بأسماء أولادهم " (27).
وبالرغم من أن تلك الأسماء المستهجنة كانت شايعة ومتداولة بينهم، فإنها كانت في بعض الأحيان ذريعة قوية للطعن والتحقير في أصحابها، فكان الواحد يلوم الآخر بسببها. من ذلك القضيتان الآتيتان : ـ
بين معاوية وجارية :
كان أحد رؤساء عشاير الشام يسمى بـ ( جارية ) (28) وكان رجلا قوياً صريح اللهجة، وكان يبطن لمعاوية حقداً وعداءً، وسمع معاوية بذلك فأراد أن يحتقره أمام ملأ من الناس ويتخذ اسمه وسيلة للاستهزاء به والسخرية منه، وصادف ان التقيا في بعض المجالس فقال له معاوية :
ـ ما كان أهونك على قومك أن سموك جارية ؟
فقل له جارية : وما كان أهونك على قومك إذ سموك معاوية، وهي الانثى من الكلاب.
قال : اسكت لا ام لك !
قال : لي أم ولدتني. أما والله إن القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا، وإنك لم تهلكنا قسوة، ولم تملكنا عنوة... ولكنه أعطيتنا عهداً وميثاقاً، وأعطيناك سمعاً وطاعة، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن نزعت الى غير ذلك فإنا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وأسنة حداداً.
فقال معاوية : لا اكثر الله في الناس مثلك يا جارية (29).
قبح الاسم والمنظر :
وكان شريك بن الأعور سيداً في قومه وكبيراً عليهم، عاصر معاوية... وفي أحد الأيام دخل مجلس معاوية فأراد هذا أن يحتقره ويسخر به لقبح اسمه واسم أبيه وللنقص الذي فيه فقال له :
ـ والله إنك لشريك وليس لله من شريك، وأنك ابن الأعور والصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم والوسيم خير من الدميم، فبِمَ سوّدك قومك ؟ !
فقال له شريك : والله إنك لمعاوية وليست معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت فسميت معاوية، وإنك ابن حرب السلم خير من الحرب، وإنك ابن صخر والسهل خير من الصخر، وإنك ابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فسميت أمية، فكيف صرت أمير المؤمنين ؟
فقال له معاوية : أقسمت عليك إلا ما خرجت عني (30).
ولهاتين القضيتين نظائر وقعت في الماضي والحاضر. فكما أن الهندام غير المتزن، والاعضاء الناقصة، والمنظر الكريه سبب للشعور بالحقارة، ويؤدي ذلك غالباً الى نشوء عقدة نفسية، كذلك الاسم القبيح واللقب الكريه، والنسبة المستهجنة فإن ذلك كله يدعو الى نشوء عقدة الحقارة. ولو فرضنا أن 99% من أفراد المجتمع كانوا خليقين متزنين لا يجرحون عواطف هؤلاء ولا يحتقرونهم، فإن الـ 1% الباقية لم تربّ تربية حسنة تكفي في إيذائهم بالاستهزاء والاهانة.

العيوب غير القابلة للعلاج :

عندما يتولد الطفل على أساس قوانين الخلقة ذا عاهة غير قابلة للعلاج فإن مصيبة الحقارة قطعية بالنسبة اليه ولا يمكن التخلص منها. هذا الطفل لا بدّ له من تحمل الألم الداخلي مدى العمر، وليس للآباء والأمهات في هذه الحالات الصبر والتحمل. إذ أن رفع هذه العاهات والنقائص الطبيعية ليس بيدهم، في حين أن انتخاب الاسم الحسن في مقدورهم، وهو من حقوق الأولاد الواجبة على الأباء. إنهم يتمكنون من القيام بواجبهم على خير وجه في تسمية أطفالهم، وباستطاعتهم إجتباء إءًّ لأطفالهم لا تصير سبباً للحقارة والضعة مدى العمر.
إن الطفل الذي يستهزأ به من قبل سائر الأطفال لاسمه المستهجن أو لانتسابه الى عشيرة ذات اسم قبيح يخسر نشاطه ويسير دوماً الى اضمحلال وانهيار، فيتجنب من الألعاب الجماعية للأطفال، ويخاف من معاشرتهم، ويخفي نفسه قدر المستطاع في ساحة المدرسة، ويقف في صف التلاميذ وقفة لا يراه معها مدير المدرسة أو المشرف حذراً من أن ينادى باسمه من بين الأطفال وتتجدد عليه الكارثة.
" تشمل عقدة الحقارة جميع المظاهر التي ظهر بها عدم الاعتماد على النفس، والشعور بضعف الشخصية، وعدم الكفاءة، وفقدان الارادة. إن الطفل الذي يبتلى بالشعور بالحقارة عندما يشب يلزم سيرة الوحدة والانزواء أو لا أقل من أن يوجد عنده الشعور بالغربة والابتعاد عن أقرانه، لأن الوقائع والحوادث في دور الطفولة أفهمته أن الألفة والاجتماع مع الغير هو الذي جلب له السخرية والانتفاد. إن الذي يتجنب أقاربه وأترابه يقودنا الى أنه معذّب من الشعور بحقارة وجدت فيه من تجاربه في الطفولة. ولهذا ـ وبناء على قواعد علم النفس ـ فإن كل حادثة تضعف أو تعدم عزة النفس عند الإنسان، وتقلّل من طموحه عامل مهم لتوسعة ( عقدة الحقارة ) وتقويتها ووسيلة لجعله بين الأعضاء المختلين وضعاف النفوس في المجتمع " (31).
تخليد الاسماء العظماء :
من الأسماء المحبذة والمرغوبة في الشرق أسماء وألقاب الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام. إن أذواق الملايين من المسلمين وطباعهم تستلطف الأسماء التالية : محمد، أحمد، محمود، مصطفى، علي، مرتضى، حسن، حسين، كاظم، رضا... وأمثالها، ومن كان قد سمي باسم من هذه الأسماء لم يشعر في نفسه بالحقارة والتعاسة، ولم يأب من أن يعرّف نفسه به.
لقد اوصى أئمة الإسلام أتباعهم بتسمية أولادهم بأسماء القادة الإلهيين العظماء ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) : " إن النبي صلّى الله عليه وآله قال : من ولُد له أربعة أولاد ولم يسمّ أحدهم باسمي فقد جفاني ".
إن إيحاء أسماء الرجال العظماء أمر يهتم به الشرق والغرب، وتحاول الحكومات استخدام جميع الوسائل لذلك، فتسمى الاكتشافات والاختراعات العلمية والفنية باسم المكتشف والمخترع كي يبقى هذا الاسم خالداً على مر الأجيال، يتلفظ الأساتذة والطلبة والمهندسون والعمال الفنويون آلاف المرات يومياً بأسمائهم في الجامعات والمختبرات والمؤسسات الصناعية في العالم.
لقد سميت بعض المدن الكبيرة باسم الرجال العظماء في قسم من الدول كما سميت الساحات والشوارع باسم الشخصيات البارزة في تلك البلدة. وفي إيران سميّت ساحات وشوارع عديدة باسم : حافظ، سعدي، خيام، فردوسي، أبو علي، أبو ريحان، وغيرهم، وبهذه الطريقة خلّدوا اسماءهم.
ومن وسائل تخليد اسم النبي العظيم والأئمة عليهم السلام تسمية المسلمين أولادهم بأسمائهم. فالآباء والأمهات الذين يهتمون بهذا الأمر ويسمّون أطالهم بأسماء القادة الإلهيين قد أدّوا حق أولادهم في انتخاب الاسم الحسن لهم، وحفظهم بذلك من الاحساس بالحقارة... هذا من جانب ومن الجانب الآخر يكونون قد أظهروا بذلك ولاءهم لقادتهم، ويستحقون الأجر بذلك من الله بلا ريب. وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) يسأل الراوي فيه : " إنا نسمي بأسمائكم وأسماء أبائكم، فينفعنا ذلك ؟ فقال : إي والله " (32) .

الكنية :

لم تكن قيمة الكنية الجميلة فيما مضى ـ والاسم الجميل للعشيرة في عصرنا ـ أقل من قيمة الاسم الجميل، فكم من أفراد يحملون أسماء حسنة ولكنهم انتخبوا اللقب العائلي غريباً، نراهم غير مرتاحين. تقد اتخذ بعض الأشخاص لقباً سيئاً لنفسه من دون روية، فجاء أولاده بعد سنين طويلة متأثرين لسوء اختيار والدهم، شاعرين الحقارة عند ذكر تلك الكلمة. لقد أردف في بعض الروايات ضرورة تحسين اسم الطفل. بضرورة تحسين كنيته أيضاً. فعن فقه الرضا (عليه السلام) : " سمّه بأحسن الأسماء، وكنّه بأحسن الكنى " (33).
وعند استعراضنا لبعض النصوص نجد قادة الإسلام يتأثرون من سماع الكنى القبيحة التي يتخذها بعض الأشخاص لأنفسهم، وينبهون في بعض الأحيان على ذلك حفظاً لكانة أصحابها.
" عن زرارة قال : سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول : إن رجلاً كان يغشى علي بن الحسين (عليه السلام) وكان يكنى : أبا مرّة. فكان إذا جئت إلى بابنا فلا تقولن أبا مرة (34). لأن ( ابا مرة ) كنية الشيطان، فمن اختار لنفسه هذه الكنية عرف نفسه بأنه متصف بصفة الشيطان، ونيّته كنيته، ولسوء اختياره هذا جعل نفسه معرضاً لتحقير الآخرين وإهانتهم.
الأثر النفسي للاسم واللقب :
واللقب أيضاً مثل الاسم والعائلي، يعرّف صاحبه. وهو ذو أثر نفسي فعال، فإن كان قبيحاً صار سبباً للشعور بالحقارة وطالما حمل صاحبه ـ كالاسم واسم العائلة القبيحين ـ على الضجر والسأم.
لقد كان المواطنون فيما سبق يهتمون باللقب. وكانت الألقاب عندهم معروفة للمكانة والمنزلة الاجتماعية للأفراد، فكان لكل من الرجال العظماء في العلم أو السياسة، والشخصيات العسكرية أو المدنية لقب مخصوص يتناسب ومنصبه ومنزلته.
وعلى رغم الاختلاف الكبير بين مجتمعنا الحالي والأوضاع السابقة في موضوع الألقاب وفقدان كثير منها قيمتها السابقة، فإنه توجد القاب في مجتمعنا يسبب بعضها الفخر والعظمة لصاحبه، ويورث بعضها الألم الروحي والشعور بالحقارة له. ثم إن لبعض الألقاب جهة عمومية فإنه يتبع الشغل أو الرتبة أو المقام، ومن كان حائزاً على الشروط المطلوبة نودي بذلك اللقب... كما أن بعض الألقاب يختارها الشخص لنفسه ولأولاده كما يختار الاسم، ثم بشهرته شيئاً فشيئاً في المجتمع.
وربما تقع قضايا وحوادث طيبة أو سيئة للأشخاص في أيام عمرهم فتترك أثراً حسناً أو قبيحاً في الأذهان، ثم يلخص الناس ذلك الأثر في كلمة أو جملة ويجعلونها لقباً لصاحبه. ومن هذا القبيل ما نلاحظه في قصة عبيد الله بن الزبير، حيث كان والياً على المدينة من قبل أخيه عبدالله، وقد شغل المنصب المعهود به اليه بكل سيطرة وكفاءة... وفي يوم من الأيام اخطأ في كلامه أمام جمع غفير من الناس وهو على المنبر، فبينما كان يعظ الناس تطرق لقصة ناقة صالح وظلم قومه لها، فقال لهم : قد ترون ما صنع الله بقوم في ناقة قيمتها خمسة دراهم، فسميّ ( مقوم الناقة ) (35).
لقد كانت الموعظة بذاتها صحيحة إلا أن تقويمه للناقة كان خطأ، فلقبه الناس بـ ( مقوم الناقة )، وشاع هذا اللقب، ولهج به الناس، وأورد نقصاً عظيماً في شخصيته، فخلعه عبدالله بن الزبير، ووليّ مكانه مصعباً.
في هذا المثال نجد أن والي المدينة يسقط عن أنظار الناس على أثر سبق لسان بسيط، ولقبه الناس بمقوّم الناقة مستهزئين به وذاكرين ذلك في كل منتدى ومجلس.
إن الوالي الذي يتعرض لتحقير الناس وإهانتهم، ويشعر في نفسه بالحقارة لا يتمكن من ممارسة السلطة والحكم مهما كان ذا سطوة وقوة.
الألقاب المحتقرة :
في المجتمعات المختلفة أناس كثيرون اتخذوا لأنفسهم القاباً قبيحة بسوء اختيارهم، أو أن سلوكهم المنحرف طيلة الحياة هو الذي أوحى للناس بتلقيبهم بلقب قبيح... وتكون النتيجة أن يعيش هؤلاء حياة ملؤها التعاسة والشقاء والحقارة.
وفي مجتمعنا الحاضر توجد بين الطبقات المختلفة القاب كثيرة من هذا القبيل. وها أنذا أتكلم اليكم وببالي أمثله منها بحيث لو نطقت بكلمة واحدة انتقلت أذهان المستمعين فوراً الى شخص معين، لكن القوانين الإسلامية لا تسمح لي بذكر شيء منها وإن كان ذلك على سبيل الشاهد...

الحذرعن تحقير الناس :

لقد نهى الإسلام عن ذكر الناس باسم أو لقب يشينهم ويكون سبباً لاهانتهم وتحقيرهم وقد حذرت التعاليم الإسلامية الناس عن هذا العمل المنكر الذي يبعث البغضاء والحقد في المجتمع. قال الله تعالى : " ولا تَنابَزوا بالألقاب ".
لقد ذكر في مجلس الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) شاعر، فذكره أحد الحاضرين بكنيته، فقال له الإمام (عليه السلام) : " هات اسمه ودَعْ عنك هذا. إن الله عز وجل يقول : لا تنابزوا بالألقاب، ولعل الرجل يكره هذا " (36).
وفي الحديث : " حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب اسمائه " (37).
يجب على عامة المسلمين أن يجتنبوا عن ذكر اسماء وألقاب تسبب انزعاجاً وإيلاماً لأصحابها، وألا يدعوهم بتلك الأسماء والألقاب كيلا يوجب ذلك التأثر والتألم فيهم. ولكن كثيراً من الناس لا يراعون هذا الواجب المقدس. فبعضهم لسوء خلقه وعدم العناية بواجباته، وبعضهم لعدم فهمه وقصور إدراكه يذكر الناس بأسماء والقاب قبيحة، فيحتقرهم بعمله السيء هذا.
كان في أوائل القرن الثالث الهجري رجل في العراق يكنى بـ ( أبي حفص )، ولبعض أعماله لقبه الناس بـ ( اللوطي ) فكانا يحقّرونه بهذا اللقب في غيابه. ولقد أدّت شهرته هذه بين الناس الى تأثره الشديد، وأوردت على شخصيته نقصاً غير قابل للتدارك فتمرض جار له، فعاده أبو حفص والمريض في غاية الضعف. فسأله أبو حفص عن صحته، وقال له : أعرفني ؟ فأجاب المريض بصوت خافت جداً : ولم لا أعرفك ؟ أنت أبو حفص اللوطي، فدهش أبو حفص من هذا اللقب ومصارحة المريض به، فقال له : لقد جاوزت حد المعرفة، أرجو أن لا تقوم من مرضك هذا أبداً... ثم قام من عنده وخرج (38).
السمعة السيئة والحرمان :
ما أكثر الرجال العلماء والمثقفين الذين كانت لهم الكفاءة لتسنّم مناصب عالية في الدولة، والحصول على مقامات شامخة في المجتمع لكنهم فقدوا جميع قيمهم الاجتماعية على أثر لقب قبيح أو شهرة سيئة، وأخذ الناس ينظرون اليهم بنظر الانتقاص والاحتقار... وبالتالي لم يستفيدوا من المواهب التي كانت تميزهم، بل لم يستطيعوا الاستمرار في الحياة كأفراد اعتياديين فهؤلاء يكابدون الضغط الروحي دائماً ويقضون حياتهم في حرمان وشعور بالحقارة والدناءة.
وكمثل على ذلك نذكر ما جرى لابن النديم بهذا الصدد. فقد كان اسحاق بن ابراهيم المعروف بابن النديم من العلماء الذين قلّ نظراؤهم في عصره، وكان قد اجهد نفسه في علوم كثيرة كالكلام والفقه والنحو والتاريخ واللغة والشعر، وبرع في جميع ذلك براعة تامة. وكان عملاقاً عظيماً في المناظرات العلمية، وكثيراً ما كان يتغلب على فضلاء عصره. وله في مختلف العلوم ما يقرب من أربعين مجلداً، وآثاره المهمة باقية حتى اليوم.
كان ابن النديم ذا صوت جميل، ورغبة شديدة في الغناء. وكثيراً ما كان يشترك في مجالس طرب الخلفاء ورجال الدولة، ويؤنس الحاضرين بغنائه المطرب، ويجذب قلوبهم نحوه... ولاستمراره في هذا العمل ضؤلت قيمة ثقافته العلمية شيئاً فشيئاً بالنسبة الى غنائه حتى عرف في المجتمع بهذه الصفة ولقبه الناس بـ ( المغنّي ) و( المطرب ).
لقد أوردت هذه الشهرة ضربة قاصمة على شخصيته، ولم يتمكن فيما بعد أن يعدّ نفسه في المجمع كرجل عالم مطلع، وأن يظهر كفاءته العلمية... وبالرغم من قربه لدى الخلفاء والشخصيات فإنهم لم يعهدوا اليه بمهمة أو عمل خطير في الدولة، وذلك حذراً من اضطراب الرأي العام، وبهذا الصدد كان المأمون العباسي يقول : لو لم يكن يشتهر ابن النديم بالطرب والغناء لولّيته القضاء، لأنه يفوق جميع قضاة الدولة الموجودين من حيث الفضل والعلم، واكثرهم استحقاقاً لهذا المنصب (39) .
نستنتج مما تقدم أن الاسم المستهجن، أو اسم العائلة القبيح أو اللقب الشنيع، أو الشهرة السيئة تسبب الشعور بالحقارة، وتأزم عقدة الحقارة، مما يؤدي الى تنغص الحياة على الانسان.
إن الشعور بالحقارة المنبعث من الاسم القبيح يلازم الطفل من أولى أدوار حياته. ومن الحقوق الدينية للأولاد على أوليائهم انتخاب الاسم واللقب الحسنين للطفل. على الآباء والأمهات المسلمين الإهتمام بهذا الواجب بأن يؤدوا حقوق الأولاد على أحسن ما يرام، ويختاروا لأولادهم الأسماء والألقاب المناسبة الجميلة، والا يكونوا سبباً ـ من غير ضرورة ـ لشعورهم بالحقارة والخسة والضعة طيلة ايام عمرهم.

الهوامش

(1) سورة الحجرات : 11.
(2) عقدة حقارت ص 31.
(3) روح بشر ص 240.
(4) نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 670.
(5) بلاغة الحسين ـ دعاؤه في عرفات.
(6) عقدة حقارت ص 12.
(7) سمي بذلك لجحظ في عينيه.
(8) تتمة المنتهى ص 370.
(9) قاموس دهخدا الفارسي ص 1224.
(10) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16|122.
(11) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج16|123.
(12) المصدر السابق ج16|111.
(13) وسائل الشيعة للحر العاملي ج3|209.
(14) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|459.
(15) المصدر السابق ج2|259.
(16) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2|247.
(17) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج6|91.
(18) مستدرك الوسائل للمحدث النوري.
(19) مكارم الاخلاق للطبرسي ص 114.
(20) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|115.
(21) الكافي لثقة الإسلام الكليني ج6|18.
(22) بحار الأنوار للعلامة المجلسي.
(23) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5 ك115.
(24) قرب الاسناد 45.
(25) صحيح مسلم ج6|173.
(26) نفس المصدر.
(27) وسائل الشيعة للحر العاملي ج5|115.
(28) من معاني ( جارية ) : الحية من جنس الأفعى كما في ( اقرب الموارد ).
(29) المستطرف في كل فن مستظرف للابشيهي ج1|58.
(30) ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج1|59.
(31) عقده حقارت ص 6.
(32) بحار الانوار للعلامة المجلسي ج23|122.
(33) مستدرك المسائل للمحدث النوري ج2|618.
(34) الكافي لثقة الاسلام الكليني ج6|21.
(35) الكامل لابن الأثير ج4|87.
(36) وسائل الشيعة الحر العاملي ج5|116.
(37) مجمع البحرين ـ مادة نبز.
(38) قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.
(39) قاموس دهخدا الفارسي ص 2225.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
رمضان
الأدعية
المحاضرات
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

30 رمضان

وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله

المزید...

23 رمضان

نزول القرآن الكريم

المزید...

21 رمضان

1-  شهيد المحراب(عليه السلام). 2- بيعة الامام الحسن(عليه السلام). ...

المزید...

20 رمضان

فتح مكّة

المزید...

19 رمضان

جرح أميرالمؤمنين (عليه السلام)

المزید...

17 رمضان

1 -  الاسراء و المعراج . 2 - غزوة بدر الكبرى. 3 - وفاة عائشة. 4 - بناء مسجد جمكران بأمر الامام المهد...

المزید...

15 رمضان

1 - ولادة الامام الثاني الامام الحسن المجتبى (ع) 2 - بعث مسلم بن عقيل الى الكوفة . 3 - شهادة ذوالنفس الزكية ...

المزید...

14 رمضان

شهادة المختار ابن ابي عبيدة الثقفي

المزید...

13 رمضان

هلاك الحجّاج بن يوسف الثقفي

المزید...

12 رمضان

المؤاخاة بين المهاجرين و الانصار

المزید...

10 رمضان

1- وفاة السيدة خديجة الكبرى سلام الله عليها. 2- رسائل أهل الكوفة إلى الامام الحسين عليه السلام . ...

المزید...

6 رمضان

ولاية العهد للامام الرضا (ع)

المزید...

4 رمضان

موت زياد بن ابيه والي البصرة

المزید...

1 رمضان

موت مروان بن الحكم

المزید...
012345678910111213
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page