الملل والنحل : الخلاف الثاني في مرضه ، أنّه قال : جهّزوا جيش أسامة ، لعن الله من تخلّف عنها . فقال قوم : يجب علينا امتثال أمره ، وأسامة قد برز من المدينة ، وقال قوم : قد اشتدّ مرض النبيّ عليه السلام فلا تسع قلوبنا لمفارقته والحالة هذه ، فنصبر حتى نبصر أيّ شيء يكون من أمره . (1)
أقول : قال الله تعالى : ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) . وقال تعالى : ( قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ) . فمخالفته قولاً أو عملاً تكشف عن ضعف الإيمان ، بل عن النفاق ، ولا سيّما مع هذا التأكيد الأكيد واللعن الصريح على المخالفة . ولا يبعد أن يكون هذا التجهيز المأمور به من جانب الله تعالى في هذا الموقع المخصوص لأميرين أو لأمور مهمّة .
منها : أن يتوجّه المهاجرون والأنصار في آخر ساعة من حياة النبيّ (ص) إلاّ أنّ الخلافة والإمارة الإلهية لا ربط لها بالعناوين الظاهرية ، من المال والمقام والكهولة ، وقد أمّر أسامة بن زيد وهو ابن عشرين سنة على جميع المهاجرين والأنصار ، ومنهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة .
ومنها : أن يخرج رؤوس المهاجرين والأنصار من المدينة حين وفاة النبيّ (ص) ، حتى يمكن إجراء نظره وأعمال وصيّته في علي أمير المؤمنين ، حبيب الله وحبيب رسوله ، ولكن تدبير المخالفين في هذه المرتبة الثانية أيضاً قد منع عمّا يريده رسول الله (ص) من إجراء نيّته .
تهذيب ابن عساكر : فقال رجال من المهاجرين ، وكان أشدّهم في ذلك قولاً عيّاش بن أبي ربيعة : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين ، فكثرت القالة في ذلك ، فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول فردّه على من تكلّم به ، وجاء إلى رسول الله (ص) فأخبره بقول مَن قال ، فغضب رسول الله (ص) غضباً شديداً فخرج وقد عصب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ، أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ، فوالله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله ، وايم الله إن كان للإمارة لخليق وأنّ ابنه من بعده لخليق بالإمارة ، وإن كان لأحبّ الناس إليّ ، وإنّ هذا لمِن أحبّ الناس إليّ ، وإنّهما لمُخيلان لكلّ خير ، فاستوصوا به خيراً فإنّه من خياركم .
ثمّ نزل رسول الله (ص) ، فدخل بيته وذلك يوم السبت ... وجاء المسلمون الذين سيخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله (ص) وفيهم عمر بن الخطاب ، ورسول الله (ص) يقول : أنفذوا بعث أسامة . (2)
أقول : اللّهم العن من تخلّف عن جيش أسامة كما لعنهم رسول الله (ص) ، اللّهم إنّا نتبرّأ ممّن اعترضوا على رسول الله (ص) وأغضبوه ، وطعنوا في تأميره وخالفوا أمره ، ولم يطيعوه ولم يسلموا إليه ولم يتجهّزوا ولم يسرعوا السير في حياته .
البخاري ومسلم : بإسناده عن ابن عمر : بعث رسول الله (ص) بعثا وأمّر عليهم أسامة بن زيد ، فطعن الناس في إمرته فقام رسول الله (ص) فقال : إن تطعنوا في إمرته فقد كنتم تطعنون في إمرة أبيه من قبل ، وايم الله إن كان لخليقاً للإمرة ، وإن كان لمِن أحبّ الناس إليّ ، وإنّ هذا لمِن أحبّ الناس إليّ بعده . (3)
ويروي مسلم أيضاً : قريبا منها بسند آخر ، وفيها : فأوصيكم به ، فإنّه من صالحيكم .
ويروي مسند أحمد : قريباً منها . (4)
الطبقات : فلمّا أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواءً بيده ، ثمّ قال : اُغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتِل من كَفَر بالله ! فخرج بلوائه معقودا فدفعه الى بُريدة أبن الحُصيب الأسلمي وعسكر بالجُرف ، فلم يبقَ أحدٌ من وجوه المهاجرين الأوّلين والأنصار إلاّ انتُدِب في تلك الغزوة ، فيهم أبو بكر الصديق ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعد بن أبي وقّاص ... فتكلّم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأوّلين ، فغضب رسول الله (ص) غضباً شديداً فخرج وقد عصب على رأسه عصابة وعليه قطيفة ، فصعد المنبر ... ثمّ نزل فدخل بيته ، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأوّل ، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله (ص) ويمضون إلى العسكر بالجُرف ، وثقل رسول الله (ص) فجعل يقول : أنفذوا بعث أسامة .
فلمّا كان يوم الأحد اشتدّ برسول الله (ص) وجعه ، فدخل أسامة من معسكره والنبيّ مغمور ، وهو اليوم الذي لدّوه فيه ، فطأطأ أسامة فقبّله ورسول الله (ص) لا يتكلّم ، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثمّ يضعهما على أسامة ، قال : فعرفت أنّه يدعو لي ، ورجع أسامة إلى معسكره ، ثمّ دخل يوم الإثنين وأصبح رسول الله (ص) مفيقاً صلوات الله عليه وبركاته ، فقال له : اغد على بركة الله فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل ، فبينا هو يريد الركوب إذا رسول أمّه ـ أمّ أيمن ـ قد جاءه يقول : إنّ رسول الله (ص) يموت ! فأقبل واقبل معه أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله (ص) وهو يموت فتوفّى (ص) حين زاغت الشمس يوم الإثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأوّل ، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجُرف إلى المدينة ... إلخ . (5)
ويروي أيضاً : أنّ النبيّ (ص) بعث سرية فيهم أبو بكر وعمر واستعمل عليهم أسامة بن زيد ، فكان الناس طعنوا فيه أي في صغره ... إلخ . (6)
ويروي أيضاً : ثمّ قال : أيّها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري إن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه مِن قبله ، وإنّه لخليق للإمارة وان كان أبوه لخليقاً لها . قال : فخرج جيش أسامة حتى عسكروا بالجُرف وتتام الناس إليه ، فخرجوا ... إلخ . (7)
أقول : الجُرف ـ بالضم ـ على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام . ولدَّ الدواءَ : صبّه في أحد شقّي الفم .
ويروي أيضاً : فخطب أبو بكر أناس فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : والله لأن تخطّفني الطير أحبّ إليّ مِن أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله (ص) ، قال : فبعثه أبو بكر إلى آبل واستأذن لعمر أن يتركه عنده ، قال : فأذن أسامة لعمر ... إلخ . (8)
أنساب الأشراف : وكان رسول الله (ص) قد رأى توجيه أسامة بن زيد في سرية إلى الذين حاربهم أبوه يوم مؤتة وأمره أن يوطئهم الخيل ، وعقد له لواء وضم إليه أبا بكر وعمر فيمن ضم ، فمرض (ص) قبل أن ينفذ الجيش ، فأوصى بإنفاذه فقال : أنفذوا جيش أسامة . فلمّا استخلف أبو بكر أنفذه ، وكلّمه في عمر لحاجته إليه . (9)
أقول : إن كان مراده من قوله ( فأوصى بإنفاذه ) الوصية بالإنفاذ بعد رحلته وموته : فهذا خلاف ما ثبت ونقل في الكتب المعتبرة ، بل وغير المعتبرة أيضاً ، وقد مرّ في الطبقات قوله : وأصبح رسول الله (ص) مفيقاً فقال له : أُغدُ على بركة الله . فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره فأمر الناس بالرحيل . وان كان مراده من الوصية : الأمر بالإنفاذ وحركة الجيش بالفور ومن غير تأخير ، وهو الصريح من التاريخ والرواية : فكيف يجوز للجيش التهاون والتراخي والتسامح ومخالفة أمر الرسول ، مع أنه لا ينطق عن الهوى ولا يجوز مخالفته وعصيانه .
ويروي أيضاً : عن ابن عبّاس : خرج رسول الله (ص) عاصباً رأسه حتى جلس على المنبر ، وكان الناس قد تكلّموا في أمره حين أراد توجيههم إلى مُؤتة ، فكان أشدّهم قولاً في ذلك عيّاش بن أبي ربيعة ، فقال : أيّها الناس أنفذوا بعث أسامة ، فلعمري لئن قلتم في إمرته لقد قلتم في إمرة أبيه من قبله ولقد كان أبوه للإمارة خليقا ، وإنّه لخليق بها . وكان في جيش أسامة أبو بكرٍ وعمر ووجوه من المهاجرين والأنصار (رض) ، وخرج فعسكر بالجُرف . فلمّا قبض رسول الله (ص) واستُخلِف أبو بكر ، أتى أسامة فقال له : قد ترى موضعي من خلافة رسول الله (ص) وأنا إلى حضور عمر ورأيه محتاج ، فأنا أسألك تخليفه ! ففعل . (10)
تهذيب ابن عساكر : فشقّ ذلك على كبار المهاجرين الأوّلين ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد ، فقالوا : يا خليفة رسول الله إنّ العرب قد انتقضت عليك من كلّ جانب وأنّك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً ، اجعلهم عدّة لأهل الردّة ترمي بهم في نحورهم ، وأخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها وفيها الذراري والنساء ، ولو تأخّرت لغزو الروم ... فقال : والذي نفسي بيده لو ظننت أنّ السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث ، ولا بدّ أن يؤوب منه ، كيف ورسول الله (ص) ينزل عليه الوحي من السماء يقول : أنفذوا جيش أسامة . ولكن خصلة أكلّم بها أسامة ، أكلمه في عمر يقيم عندنا ؛ فإنّه لا غنى بنا عنه ، والله ما أدري يفعل أسامة أم لا . (11)
أقول : والعجب من قول أبي بكر حيث يعترف بأنّ رسول الله (ص) ينزل عليه الوحي من السماء ، ومع هذا تخلّف عن الجيش في زمان حياة رسول الله (ص) ثمّ يكلّم في عمر أيضاً حتى يقوم عنده ويتخلّف عن الجيش ، وقال الله تعالى : ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) . ويقول :( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) . ويقول : ( وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) . ويقول : ( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ ) . ويقول : ( إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ) . ويقول : ( قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) .
فيا للعجب أنّ رسول الله (ص) يخاف من العذاب الشديد إذا عصى الوحي ، فكيف أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وآخرون من المهاجرين ، لم يخافوا في خلافهم وعصيانهم وتساهلهم في الوظيفة المعيّنة والعمل المتعيّن المأمور به من الله ورسوله ! وكيف رضوا بالتألّم الشديد والإيذاء لرسول الله (ص) في آخر أيامٍ من حياته !
يقول في إمتاع الأسماع : وعقد يوم الخميس لأسامة لواءً بيده وقال : يا أسامة ، اغزُ بسم الله وفي سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تعذروا ، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تمنّوا لقاء العدو ... فخرج أسامة فدفع لواءه إلى بُريدة بن الحُصيب ، فخرج به إلى بيت أسامة وعسكر بالجُرف ، وخرج الناس ولم يبقَ أحدٌ من المهاجرين الأولين إلاّ انتُدِب في تلك الغزوة ، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقّاص وأبي الأعور سعيد بن زيد ، في رجال آخرين ، ومن الأنصار عدّة مثل قتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم ، فقال رجال من المهاجرين ـ وكان أشدّهم في ذلك قولاً عيّاش بن أبي ربيعة ـ ، ... ثمّ نزل (ص) فدخل بيته ، وذلك يوم السبت ... الرواية . (12)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملل والنحل ، ج 1 ، ص 14 .
2 ـ تهذيب ابن عساكر ، ج1 ، ص 120 .
3 ـ البخاري ، ج2 ، ص 187 ومسلم ، ج7 ، ص 131 .
4 ـ مسند أحمد ، ج2 ، ص 106 .
5 ـ الطبقات ، ج2 ، ص 190 .
6 ـ الطبقات ، ج2 ، ص 249 .
7 ـ نفس المصدر ، ج4 ، ص 68 .
8 ـ نفس المصدر ، ج4 ، ص 67 .
9 ـ أنساب الأشراف ، ج1 ، ص 384 .
10 ـ نفس السابق ، ص 474 .
11 ـ تهذيب ابن عساكر ، ج1 ، ص 122 .
12 ـ إمتاع الأسماع ، ج1 ، ص 536 .
فتنة : ( بَعْث جيش أُسامة )
- الزيارات: 3022